المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشرح الممتع على زاد المستقنع   لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين غفر الله له - الشرح الممتع على زاد المستقنع - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الشرح الممتع

على

زاد المستقنع

لفضيلة الشيخ العلامة

محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

المجلد التاسع

دار ابن الجوزي

طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

الطبعة الأولى 1425 هـ

ص: -1

‌بَابُ بَيْعِ الأُصولِ والثِّمَارِ

قوله: «باب: بيع الأصول والثمار» .

أفرد المؤلف رحمه الله بيع الأصول والثمار بباب مستقل لكثرة فروعه، وإلا فهو داخل ضمن باب البيوع.

فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يتفرع منه الشيء أو يُبنى عليه الشيء، فالأب أصل للابن؛ لأن الابن متفرع منه، وأساسُ الجدار أصلٌ للجدار؛ لأن الجدارَ مبنيٌّ عليه.

أما الأصل في الاصطلاح فإنه يختلف بحسب المواضع، فإذا تكلمنا عن الأدلة فإنما نعني بالأصل الدليل، ولهذا تجد في الكتب التي تعتني بالأدلة، إذا ذكر حكم المسألة قال: والأصل في ذلك قوله تعالى أو قوله صلى الله عليه وسلم، وتارة يطلق على كل ما تفرع عنه غيره كالقواعد والضوابط وما أشبه ذلك، وفي هذا الباب الأصول هي الأشياء الثابتة من العقار، أي: الأراضي، والدور، والأشجار.

والثمار جمع ثمر، وهو ما ينتج من الأشجار، فالنخلة تعتبر أصلاً، وتمرها ثمر؛ لأنه نامٍ منها.

وسكت المؤلف عن الزروع مع أنه قد تكلَّم عليها، إما اقتصاراً، وإما اختصاراً.

وليس المقصود بهذا الباب الكلام على شروط البيع؛ لأن شروط البيع قد سبق ذكرها، ولا على موانع البيع؛ لأن موانع

ص: 5

البيع ـ أيضاً ـ سبق ذكرها، ولكن المقصود بيان ما يدخل في البيع وما لا يدخل.

‌إذَا بَاعَ دَاراً شَمِلَ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَسَقْفَهَا، وَالبَابَ المَنْصُوبَ، وَالسُّلَّمَ، وَالرَّفَّ المَسْمُورَيْنِ، وَالخَابِيَةَ المَدْفُونَةَ،

...........

قوله: «إذا باع داراً» فقال: بعت عليك هذه الدار بكذا، فلا بد أن يكون الثمن معلوماً كما هو ظاهر، ولا بد أن تكون الدار ملكاً للبائع أو له ولاية عليها أو وكالة، والمهم هنا إذا باع داراً فما الذي يدخل في الدار؟ يقول:

«شمل أرضها» إلى الأرض السابعة، ويشمل ـ أيضاً ـ هواءها إلى السماء الدنيا، أما ما وراء السماء الدنيا فلا يملك؛ لأن السماء الدنيا سقف فليست ملكاً.

قوله: «وبناءها» كذلك ـ أيضاً ـ يشمل بناءها، أي: ما بني فيها من الحجر والسور وما أشبه ذلك.

قوله: «وسقفها» ؛ لأنه تابع لما بني فيها.

قوله: «والباب المنصوب» يشمل ـ أيضاً ـ الباب المنصوب، يعني المركب، فإذا باع أحد داراً ثم أراد أن يأخذ أبوابها، قلنا: لا؛ لأن الباب داخل في الدار، هذا إذا كان منصوباً، بالتسمير أو مبنيّاً عليه، المهم إذا كان منصوباً، فإن لم يكن منصوباً، بأن كان هذا الباب على فوهة الحجرة ينقل، يأخذه بيديه إذا أراد أن يدخل، وإذا دخل الحجرة وأراد أن يغلقه رده إلى مكانه، فالباب هنا غير منصوب، فعلى قول المؤلف لا يدخل، فللبائع أن يأخذه؛ لأنه ليس منصوباً إذ لو أراد البائع أن يكون هذا تابعاً

ص: 6

للدار لنصبه، فهو كالخرقة ـ مثلاً ـ فإذا كانت الخرقة ـ أيضاً ـ غير مسمرة يأخذها البائع.

قوله: «والسلم والرف المسمُورَين» السُّلَّم الذي يصعد به إلى السّقف إذا كان مسمّراً يدخل، فإن لم يكن مسمراً فإنه لا يدخل، وكذلك الرف إن كان مسمراً دخل وإلا فلا، فإذا كانت أيدي الرف مسمَّرة والخشبة التي هي الرف موضوعة على هذه العضائد فهل يدخل في البيع؟ نقول: أما العضائد فتدخل؛ لأنها مسمرة، وأما الخشب الموضوع فإنه لا يدخل؛ لأنه غير مُسمّر.

ومثل ذلك الرَّحَى، أسفلها يدخل في البيع؛ لأنه مبني ثابت، والفوقاني لا يدخل في البيع؛ لأنه ينزع.

قوله: «والخابية المدفونة» الخابية إناء من فخار كانوا يجعلون فيه التمر وشبهه، إذا كانت مدفونة دخلت، وإن كانت موضوعة على سطح الأرض فإنها لا تدخل كسائر الأواني.

وما ذكره المؤلف رحمه الله ليس له دلالة شرعية، وإنما له دلالة عُرفية، فهذه الأمور في أعرافهم لا تدخل فلا يكون البيع شاملاً لها، لكن لو اختلف العرف، وصار الباب داخلاً في المبيع سواء كان منصوباً أو غير منصوب فهل يدخل؟

الجواب: نعم، وكذلك ـ أيضاً ـ مسألة الرف الذي مثلنا به، فعضائد الرف مسمرة ثابتة، ولكن الخشب الذي يوضع على هذه العضائد غير مسمَّر، جرت العادة والعرف أنه تبع فيدخل.

وأيضاً الرّحى، الطبقة السفلى منها مسمرة بالأرض أو مبنية عليها، والعليا غير مسمَّرة.

ص: 7

فعلى كلام المؤلف العليا لا تدخل، ولكن لا شك أن الطبقة العليا تدخل؛ لأنه لا يمكن أن تكون رحى بدون طبق أعلى، ثم إذا أخذ البائع هذه العليا لن ينتفع بها إلا بالسفلى.

فالصواب ـ أيضاً ـ في مسألة الرّحى أنها داخلة إذا كانت منصوبة في الأرض يعني مثبتة، فإنه يدخل الأعلى كما يدخل الأسفل.

‌دُونَ مَا هُوَ مُودَعٌ فيِهَا مِنْ كَنْزٍ وَحَجَرٍ وَمُنْفَصِلٍ مِنْهَا كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ وَبَكَرَةٍ وَقُفْلٍ وَفُرُشٍ ومِفْتَاحٍ.

قوله: «دون ما هو مودع فيها من كنز» الكنز مودع في الأرض فلا يدخل في البيع؛ لأنه منفصل، فإذا وجد المشتري في هذه الأرض كنزاً فإنه لا يدخل في البيع، بل يكون لصاحبه، إذا كان مكتوباً عليه، أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مكتوباً عليه فإنه لمن وجده؛ لأنه ليس داخلاً في البيع، فلو استأجرت عمالاً يحفرون لي بيارة في البيت، وأثناء الحفر وجدوا هذا الكنز يكون للعمال، إلا إذا استأجرهم لحفر الكنز فيكون له، وعلى هذا فلو وجد المشتري كنزاً مدفوناً، فليس للبائع أن يطالبه ويقول: إن الكنز لي، حتى يثبت ببينة أنه له؛ لأن الكنز لا يتبع الأرض.

قوله: «وحجر» بعض الأحجار يكون لها قيمة فتدفن في الأرض فيجدها هذا الرجل، فنقول: إن هذا الحجر لا يدخل في الدار؛ لأنه مودع فيها، فإذا كان مودعاً فيها فإنه لا يدخل، أما الحجر الذي من طبيعة الأرض فيدخل؛ لأنه من طبيعة الأرض.

قوله: «ومنفصل منها» كذلك لا يدخل فيها ما هو منفصل، ومثاله قوله:

ص: 8

«كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح» هذا لا يدخل في البيع؛ لأنه منفصل، فإذا باع داراً فيها بئر وهذا البئر فيه بكرة، وفيه حبل الرِّشا، وفيه دلو فإن البكرة لا تدخل، والبكرة هي المحالة التي يدور عليها الرِّشا، والرشا ـ أيضاً ـ لا يدخل، والدلو لا يدخل.

وظاهر كلام المؤلف أن البكرة لا تدخل ولو كانت مسمرة، وفي هذا نظر؛ لأنها إذا كانت مسمرة فقد أعدت للبقاء فهي كالرف المسمر ولا فرق.

أما الرشا والدَّلو فمنفصلان فلا يدخلان في البيع، وكذلك القفل ليس داخلاً في بيع الدار؛ لأنه منفصل، وأما القفل الذي في الأبواب نفسها فهو تبع للأبواب، إن دخلت دخل وإن لم تدخل لم يدخل.

والفرش ـ أيضاً ـ لا تدخل؛ لأنها منفصلة، وظاهر كلام المؤلف حتى وإن كانت ملصقة كما يوجد في الفرش الآن، فيوجد فرش ملصقات بالأرض، وفرش منفصلة تحمل، لكن قد يقال: إن الفرش الملصقة كالرف المسمر تدخل في البيع ولا تُنزع.

فالفرش فيها تفصيل، فما كان ملصقاً ثابتاً فهو داخل، وما كان منفصلاً ينقل فهو غير داخل.

وكذا المفتاح لا يدخل في البيع، وعلى هذا فإذا بعت عليك داراً أخذت المفتاح؛ لأنه منفصل، ولكن هذا خلاف العادة والعرف، ولا شك أن المفاتيح داخلة، كذلك لا يوجد مفتاح

ص: 9

بدون قفل والأقفال مثبتة، إذاً فهي فرع عن الأقفال فتكون تابعة للأقفال بلا شك، وعليه فإن المفاتيح إذا كانت لأقفال مثبتة فهي داخلة في البيع وإلا فلا.

‌وَإِنْ بَاعَ أرْضاً وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِحُقُوقِهَا شَمِلَ غَرْسَهَا وَبِنَاءَها. وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ كَبُرٍّ وشَعِيرٍ فَلِبَائِعٍ مُبَقَّى،.

قوله: «وإن باع أرضاً ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها» أي: إذا باع الأرض وفيها غرس فإن الغرس يتبع الأرض؛ لأن الغرس بالنسبة للأرض يعتبر فرعاً تابعاً لأصله، وكذلك البناء، فإذا باع أرضاً وفيها بناء فإنه يدخل في بيع الأرض؛ لأن البناء بالنسبة للأرض فرع فيتبع الأصل.

مسألة: إذا كانت الأرض بيضاء ليس فيها بناء ولا غرس ولا زرع، فإذا باع هذه الأرض دخل كل ما فيها، ولكن هل يدخل فيها ما ينبته الله تعالى من الكلأ؟

الجواب: لا يدخل؛ لأنه لا يملك بملك الأرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ، والنار»

(1)

، فلا يدخل في البيع، أما ما غرسه الآدمي فيدخل.

وقوله: «ولو لم يقل بحقوقها»

(2)

إشارة إلى خلاف في هذه المسألة، وأنه إذا لم يقل بحقوقها فإن البناء والغراس لا يدخلان

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 364)، وأبو داود في البيوع/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه في الرهون/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وضعفه البوصيري.

وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2473) عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً بلفظ: «ثلاث لا يمنعن

» الحديث، وصححه البوصيري في زوائده، والحافظ في التلخيص (1304) وانظر: الإرواء (1552).

(2)

وهذا هو المذهب.

ص: 10

في الأرض، وعلى هذا فيقدر لهما قيمة من جديد، وإلا فللبائع أخذهما، والصواب: أنهما داخلان في الأرض تبعاً لها.

وإن باع غرساً، نخلاً ـ مثلاً ـ فهل تدخل الأرض؟

الجواب: لا؛ لأن النخل فرع فلا يتبعه الأصل، فالأرض أصل والنخل فرع، ولا يمكن أن يتبع الأصلُ الفرعَ، ولكن في عرفنا نحن وإلى عهد قريب، إذا باع عليه نخله، أو باع عليه أثله، أو ما أشبه ذلك، فإنه يشمل الأرض ولا يعرف الناس إلا هذا، وعليه فيجب أن تنزل الألفاظ على الحقائق العرفية، ما لم ينص على أن المراد بها الحقائق اللغوية، فيتبع ما نصّ عليه، وأما عند الإطلاق فالواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف.

وهذه قاعدة مطردة: (أن الواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف)، فما اقتضاه لسان أهل العرف وجب حمل اللفظ عليه وما لا فلا.

قوله: «وإن كان فيها زرع كَبُر وشعير فلبائع مبقّى» أي: إذا كان في الأرض زرع فهو على نوعين:

الأول: أن يكون مما يؤخذ مرة واحدة كالبرّ والشعير فهذا يبقّى للبائع، أي: لا يشمله البيع، فيكون للبائع ما لم يشترطه المشتري، ويبقى ـ أيضاً ـ للبائع إلى الحصاد، فلو طلب المشتري أن يُخْلِيَ الأرض منه فليس له الحق في هذا، بل يقال: أنت اشتريتها وفيها الزرع، ومعلوم أن الزرع يبقى إلى الحصاد والجذاذ، ومؤنة سقيه على البائع؛ لأن البائع لم يملكه من قِبَلِ المشتري، بل إن ملكه استمر عليه.

ص: 11

فإذا بلغ الحصاد وبيع بعد بلوغ الحصاد فهو للبائع، قال العلماء: وعليه أن يجزه في الحال، فإن تركه حتى نما بطل البيع؛ لأن نموه يكون شيئاً فشيئاً، ولا ندري ما مقدار الزائد بعد نموه فيعود ذلك إلى جهالة الأصل، وإذا كان مجهولاً فإن البيع يبطل.

فإذا قال المشتري للبائع: احصده علفاً؛ لأن الزرع يصلح أن يكون علفاً للبهائم، وقال البائع: لا، أنا أريد أن أبقيه حتى يكون سنبلاً وحبًّا، فهنا نتبع قول البائع؛ لأن البائع يملك إبقاء هذا الزرع إلى الحصاد، فإذا جاء زمن حصاده فللمشتري أن يطالبه بحصاده، فإن لم يفعل كان عليه أجرة بقائه في الأرض؛ لأنه معتد.

النوع الثاني من الزرع ذكره بقوله:

‌وَإِنْ كَانَ يُجَزُّ أَوْ يُلْقَطُ مِرَاراً فَأَصُولُهُ لِلْمُشْتَري، وَالجَزَّةُ وَاللَّقْطَةُ الظَّاهِرتَانِ عِنْدَ البيعِ للبائِعِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ المُشْتَرِي ذَلِكَ صَحَّ.

«وإن كان يُجَزُّ أو يُلقط مراراً فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع» إذا كان هذا الزرع الذي في الأرض يجز مراراً، مثل البرسيم (القت)، فهذا يجز مراراً، يحصد اليوم ثم ينمو فيما بعد، ويحصد مرة ثانية وثالثة، ويبقى سنة أو سنتين على هذه الحال، وربما يبقى أكثر من ذلك حسب طيب الأرض ورداءتها، فهذا يقال فيه: الأصول للمشتري يعني العروق والجذوع للمشتري، والجزة الظاهرة تكون للبائع مبقاة إلى أوان جزها عادة.

واللقطة كذلك، فإذا كان هذا الزرع مما يلقط مراراً كالباذنجان، واللوبيا، والطماطم، وما أشبهها، فالأصول للمشتري تبعاً للأرض، واللقطة الموجودة تكون للبائع مبقاة إلى أوان أخذها.

ص: 12

فتبين بهذا أن الأرض إذا بيعت وفيها غراس شجر فهو تابع للأصل، وإذا بيعت وفيها زرع لا يحصد إلا مرة فإنه لا يتبع الأرض بل يكون للبائع، وإذا كان فيها زرع أو شجر صغير يلقط مراراً أو يجز مراراً، فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة تكون للبائع، هذا هو التفصيل.

وكل هذا ما لم يشترط أحدهما على الآخر شرطاً يخالف ذلك، فعلى ما شرط ولهذا قال المؤلف:

«وإن اشترط المشتري ذلك صح» المشار إليه اللقطة الظاهرة والجزة الحاضرة، فإذا قال المشتري: أنا لا أريد أن تدخل علي كل يوم تلقط الثمرة الظاهرة أو تجز الحصدة الظاهرة، أنا أشترط عليك أن يكون لي، فقبل البائع فلا بأس، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع»

(1)

أي المشتري، وقوله:«من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع»

(2)

، وكذلك نقول: من باع أرضاً وفيها زرع يجز مراراً، واشترط المشتري أن تكون الجزة الظاهرة له فله ذلك؛ لأن المسألة حق لآدميّ، وحق الآدميّ له إسقاطه إذا لم يتضمن شيئاً محرماً، فلو قال قائل: كيف تجيزون أن يشترطه المشتري وهو للبائع، والمشتري إذا اشترطه فلا بد

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب من باع نخلاً قد أبرت (2204)، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379)، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 13

أن يزيد الثمن؟ فلو بعت الأرض وفيها عشرة آلاف كيلو من البر، واشترطه المشتري لنفسه فإنه يلزم زيادة الثمن، فكيف يصح ذلك وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد

(1)

؟

الجواب: لأن هذا وقع تبعاً للأرض وفرعاً لها، كما لو بعت الشاة وفيها لبن فإنه يصح مع أن بيع اللبن وحده لا يصح، وكما لو بعت الشاة وهي حامل فإنه يصح مع أنه لو بيع الحمل لم يصح، فهذا مثله.

فصارت الأشجار والزروع التي على الأرض المبيعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الأشجار، فإذا بيعت الأرض وفيها أشجار، تكون تبعاً للأرض وتكون للمشتري.

الثاني: إذا كان فيها زرع يجز مراراً، فالجزة الموجودة تكون للبائع والأصول للمشتري، ولو اشترط المشتري أن تكون الجزة الظاهرة له صحَّ.

الثالث: إذا كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة، كالبُرِّ والشعير فهو للبائع إلى حين حصاده.

وهل يلزم البائع في هذه الحال أجرة للمشتري؟

الجواب: لا يلزم؛ لأن له حقّاً ثابتاً.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 221)، وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3367)، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1228)، وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (2217) عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4993)، والحاكم (2/ 19) على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه في الإرواء (5/ 211).

ص: 14

‌فصلٌ

‌وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً تَشَقَّقَ طَلْعُهُ فَلِبَائِعٍ مُبَقًّى إِلَى الْجَذَاذِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَشْتَرٍ. وَكَذَلِكَ شَجَرُ العِنَبِ والتُّوتِ والرُّمَّانِ وغَيْرِهِ،.

قوله: «ومن باع نخلاً تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ إلا أن يشترطه مشتر» هذا بيع النخل وليس بيع الأرض، فإذا باع نخلاً ـ أي: النخلة نفسها ـ تشقق طلعها يعني انفرج؛ وذلك لأن النخلة أول ما تظهر ثمرتها تكون مغطاة بالكُفُرَّى، وعندنا نسميه في اللغة العامية الكافور، ثم إذا نمى هذا العذق، داخله انشق وانفرج، فإذا باع نخلاً تشقق طلعه، فالطلع هنا يكون للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع، وإن لم يتشقق فهو للمشتري؛ لأنه تبع للنخلة، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع نخلاً بعد أن تؤبّر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع»

(1)

، ولننظر هل الدليل مطابق للمدلول أو لا؟

الجواب: لا؛ لأن المؤلف رحمه الله علّق الحكم بالتشقق سواء أبّره البائع أم لا.

والتأبير التلقيح، وهو أن يؤخذ من طلع الفحل شيء يوضع في طلع النخلة، فإذا وضع صلحت الثمرة وإن لم يوضع فسدت، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يؤبرون، فيرقى الفلاح إلى الفحل ويأخذ العِذْقَ ويجعل منه على ثمرة النخلة فيصعد مرة وينزل ويصعد مرة وينزل مع التعب، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا أرى ذلك يغني شيئاً» ، فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام

(1)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 15

تركوه، فلم يؤبروا النخل فصارت النتيجة أن النخل فسد، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:«أنتم أعلم بأمور دنياكم»

(1)

، وتركهم يؤبرون، ومراده أنتم أعلم بأمور دنياكم ليس بالأحكام الشرعية فيها، ولكن بتصريفها والتصرف فيها، فنحن أعلم بالدنيا من حيث الصناعة، أما من جهة الأحكام فهي إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخطأ من قال: إن الدين الإسلامي لا ينظم المعاملات، واستدل بهذا الحديث، فنقول: هذا خطأ عظيم، فالدين الإسلامي ينظم كل شيء؛ أليس الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها

(2)

؟! أليس هو الذي قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها»

(3)

؟! فهذه أحكام شرعية، لكن مسألة التأبير وعدم التأبير هذا داخل في الصناعة. وهذا يرجع إلى التجارب، والناس يعرفون إذا كانوا مجربين أكثر ممن لم يكن مجرباً، فالمؤلف علق الحكم بالتشقق، فمتى باع البائع نخلاً متشققاً طلعه، فالطلع له، سواء أبّره أم لم يُؤبّره.

لكن الحديث قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر» ، فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث على ما حكم به المؤلف رحمه الله والصواب أن الحكم معلق بالتأبير لما يلي:

(1)

أخرجه مسلم في الفضائل/ باب وجوب امتثال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم شرعاً

(2363) عن عائشة وثابت وأنس رضي الله عنهم.

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه

(1486)، ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

(1534) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(3)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 16

أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علقه به، وليس لنا أن نتجاوز ما حده الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أن البائع إذا أبّره فقد عمل فيه عملاً يصلحه وتعلقت نفسه به، بخلاف ما إذا لم يؤبره فإنه لم يصنع شيئاً فيه.

وعلى هذا فالصواب: أنه إذا باع نخلاً تشقق طلعه قبل أن يؤبره فالثمر للمشتري، وإن أبره فهو للبائع.

فإذا أبر نخلة ولم يؤبر الأخرى فلكلٍ حكمه، فتكون ثمرة النخلة المؤبرة للبائع، وثمرة النخلة غير المؤبرة للمشتري.

وإن أبر بعض النخلة ـ لأن الطلع قد لا يكون متساوياً كما هو الواقع ـ فللبائع تغليباً للتأبير؛ ولأنه من المعلوم أنه لا يمكن أن يؤبر النخل جميعاً إلا في هذه السنوات الأخيرة بالنسبة لبلادنا، فإنهم كانوا يؤبرونها جميعاً، ينتظرون قليلاً بعد أن تتشقق الأولى، ويشقون الصغار قبل أن تتشقق ليوفر عليهم الطلوع والنزول للنخلة، وفي الزمن السابق لما كان الناس نشطاء متفرغين، كان الشخص يمكن أن يصعد للنخلة عدة مرات يلقح أول الثمر ووسطه وآخره.

إذا قال قائل: لماذا عدل بعض الفقهاء رحمهم الله عن التأبير إلى التشقق؟

قالوا: لأن التشقق هو سبب التأبير، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالتأبير والمراد سببه.

فيقال: من أين الدليل على أن هذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم

ص: 17

وكلامه صريح واضح؟ فكيف يجوز لنا أن نحرفه إلى معنى آخر خلاف ظاهر اللفظ؟ ثم إن العلة في كون الثمر للبائع بعد التأبير واضحة، ولا تنطبق على ما إذا تشقق بدون تأبير، وحينئذ لا يصح القياس ولا تحريف الحديث إلى معنى آخر.

وقوله: «إلا أن يشترطه مشتر» فإن اشترطه المشتري يكون له، والدليل على ذلك:

أولاً: عموم قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والأمر بالوفاء بالعقد أمر به وبأوصافه وشروطه التي تشترط فيه.

ثانياً: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، والشرط الذي التزمه الإنسان هو عهد على نفسه.

ثالثاً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً»

(1)

، وهذا لا يحرم حلالاً ولا يحلّل حراماً.

(1)

علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجر السمسرة، ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمون على شروطهم (3594)، والحاكم (2/ 92) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.

وأخرجه الدارقطني (3/ 27 ـ 28)، والحاكم (2/ 49 ـ 50) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ:«المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» وصححه النووي في المجموع (9/ 464) والألباني في الإرواء (1303).

ص: 18

فإذا قال قائل: أيهما أولى للمشتري أن يشترط أن تكون الثمرة المؤبرة أو التي تشقق طلعها له؟ أو أن يبقيها للبائع؟

الجواب: أن يشترط أنها له؛ لأنه يسلم من تردد هذا البائع على الثمرة، ومن المعلوم أن البائع إذا باع النخلة صارت ملكاً للمشتري ليس له عليها سبيل إطلاقاً، فإذا كان فيها ثمرة مؤبرة، ولم يشترطها المشتري صار البائع يتردد على هذه الثمرة، فهذا الذي اشترط أن تكون الثمرة له بعد التأبير أعني المشتري ربما يتضرر إذا لم يشترط، أو على الأقل يتأذى بتردد البائع عليه، فنرى أن الأولى في هذه الحال أن يشترط أن تكون الثمرة له؛ إبعاداً عن النزاع والعداوات والمشكلات.

وهنا مسألة ينبغي لطالب العلم ـ أيضاً ـ أن يفهمها وهي أن الحقوق التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله أنها حق للإنسان أو ليست حقّاً هم يذكرونها على سبيل البيان، لكن ينبغي لطالب العلم تربيةً للعالَم أن يقول: الأفضل كذا إذا رأى أن هذا الشرط يبعد عن الخصومة والنزاع، فلا تكن فقيهاً كالقاضي بل كن فقيهاً مربيّاً، فإذا جاء إنسان يستشيرك ويقول: هل ترى أن الأفضل أن أشترط أن تكون الثمرة لي وقد أبرها البائع أو أن أدعها له؟

نقول: الأفضل أن تشترط، فتسلم من التردد والتأذي، وربما تكون هذه النخلة في بيت وسوف يتردد على البيت فهذه مشكلة.

قوله: «وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره» يعني: وشجر غيره.

ص: 19

‌وَمَا ظَهَرَ مِنْ نَوْرِهِ كَالمِشْمِشِ وَالتُّفَّاحِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ كَالْوَرْدِ وَالقُطْنِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَالوَرَقُ فَلِمُشْتَرٍ، وَلَا يُبَاعُ ثَمَرٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ،.

قوله: «وما ظهر من نَوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن» كل هذا يكون للبائع، إذا كان قد ظهر؛ لأنه يشبه النخل المؤبر على القول الراجح، أو النخل الذي تشقق طلعه.

قوله: «وما قبل ذلك» ما: اسم موصول مبتدأ.

قوله: «والورق» معطوف على (ما).

قوله: «فلمشتر» خبر المبتدأ، يعني والذي قبل ذلك والورق للمشتري، ولكن حَسُنَ أن يقرن الخبر بالفاء لفائدتين:

الأولى: أن (ما) الموصولة تفيد العموم فهي كالشرط، ومن المعلوم أن الشرط إذا كان جوابه جملة اسمية فإنها تقرن بالفاء، فلذلك تقترن الفاء بخبره دائماً.

الثانية: أنه أوضح في المعنى؛ لأنه لو قال: وما قبل ذلك، والورق لمشتر، ربما يظن الإنسان أن قوله:«لمشتر» متعلق بمحذوف حالاً من الورق، يعني والورق حال كونه لمشترٍ فيتطلع إلى الخبر، فإذا جاءت الفاء قطعت هذا الاحتمال.

وعلى كل حال ما كان قبل التشقق ـ على ما مشى عليه المؤلف ـ أو قبل التأبير ـ على القول الراجح ولو تشقق ـ وكذلك ما ظهر من العنب وما ظهر من نوره ـ أي: الزهر ـ وما أشبه ذلك، فإنه للمشتري.

ص: 20

قوله: «ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه» أيُّ ثمرٍ لا يباع حتى يصلح، فلنمثل بالنخل: فلا يجوز أن تبيع ثمرة النخلة حتى يبدو صلاحها، ويجوز أن تبيع النخلة قبل بدو صلاح ثمرها.

إذن كلامه الأخير في الثمر أنه لا يجوز أن يباع قبل بدو صلاحه، فما صلاحه؟

صلاحه أن يحمرّ أو يصفرّ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري

(1)

، وسئل أنس رضي الله عنه: ما بدو الصلاح؟ قال: أن تحمارّ أو تصفارّ»

(2)

، وهذا دليل أثري، وهناك دليل نظري، وهو أنها إذا بيعت قبل بدو صلاحها فإنها لا تصلح للأكل وتكون عرضة للآفات والفساد، وإذا حصل هذا صار نزاع بين البائع والمشتري، والشريعة تقطع كل شيء يكون سبباً للنزاع والبغضاء والفرقة.

فلو أن إنساناً باع ثمرة نخلة خضراء ليس فيها تلوين فالبيع فاسد؛ لأن النهي وقع على عقد البيع، وكل نهي وقع على عمل سواء كان عبادة أو معاملة فإنه يقتضي الفساد، إذن نقول في هذه الحال: البيع فاسد، والثمر للبائع، والثمن للمشتري.

مسألة: إن بدا في النخلة صلاح حبة واحدة فهل يجوز بيعها؟

(1)

سبق تخريجه ص (16).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها (2197).

ص: 21

الجواب: نعم يجوز؛ لأنه بدا الصلاح، فإن أخذ الحبة التي بدا صلاحها فهل يجوز البيع بعد أخذها؟

الجواب: يجوز، وكذلك لو أخذ الملونة بعد البيع فهذا يجوز، يعني لو أنه كان فيها حبة واحدة بدا صلاحها، ثم إنها أخذت وبيعت بعد ذلك فالظاهر الجواز؛ لأنه بدا صلاحها، فتدخل في الحديث.

مسألة: إذا بدا صلاح النخلة فبيعت. فهل تباع جارتها التي لم يبد صلاحها من نوعها؟

الجواب: إن باع هذه النخلة التي بدا صلاحها على فلان، ثم باع جارتها عليه أو على غيره بعقد آخر جديد فهذا لا يجوز؛ لأن العقد عقدان في هذه الصورة، أما لو باعهما جميعاً وهما من نوع واحد فالبيع صحيح.

وإذا كانت من نوع آخر فالبيع غير صحيح، فمثلاً عندنا نخل سكري وإلى جانبه برحي، فباع سكرية بدا صلاحها وبرحية لم يبد صلاحها فهذا لا يجوز؛ لأنهما نوعان مختلفان، فإذا باع سكرية بدا صلاحها وسكرية أخرى لم يبدُ صلاحها صفقة واحدة فهذا يجوز؛ لأنهما من نوع واحد فكأنهما نخلة واحدة.

وقال بعض أهل العلم: إذا بدا الصلاح في البستان في نخلة واحدة منه جاز بيع جميعه، سواء كان جملة أم تفريداً؛ لأن هذا النخل الآن بدا صلاحه.

وتوسَّع آخرون فقالوا: إذا بدا صلاح ثمرة القرية جاز بيع جميع النخل فيها.

ص: 22

لكن القول الأول أصحّ أننا نعتبر كل واحدة بنفسها، فإن بيع جميعاً فإننا نرجع إلى النوع، فما كان من نوع واحد فصلاح الواحدة منه صلاح للجميع، وإذا اختلفت الأنواع فلكل نوع حكمه.

وقوله: «ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه» لا نافية، والنفي هنا للتحريم وإن كان يحتمل الكراهة، لكن الاستدلال بالحديث يدل على أن الفقهاء رحمهم الله أرادوا التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري

(1)

.

‌وَلَا زَرْعٌ قَبْلَ اشْتدَادِ حَبِّه، وَلَا رَطْبَةٌ وَبَقْلٌ، وَلا قِثَّاءٌ وَنَحْوُه كَبَاذِنْجَانٍ دُونَ الأصْلِ إلاَّ بِشَرْطِ القَطْعِ فِي الحالِ،

قوله: «ولا زرع قبل اشتداد حبه» الزرع يُشترى لأجل الحبّ الذي في السنبل، والحب الذي في السنبل يكون ليناً، حتى يتم نموه وحينئذ يشتد ويقوى، ويكون جوف الحبة من السنبلة أبيض، فلا يباع الزرع قبل أن يشتد حبه؛ لما ذكرنا سابقاً من أنه ربما يحصل فيه الفساد؛ لأن المشتري سوف يبقيه حتى ينضج ويصلح للأكل، فربما يعتريه الفساد في أوان نموه، وحينئذ يقع النزاع والخصومة، وربما ـ أيضاً ـ يقصر البائع في سقيه فيحصل نزاع بينه وبين المشتري، فقطعاً لهذا النزاع نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه

(2)

، وعن بيع الحب حتى يشتد

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع (1535) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

سبق تخريجه ص (16).

(3)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 23

وقوله: «ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه» هذا ما لم يُبع للعلف، فإن بيع للعلف فإنه لا يشترط أن يشتد حبه، بل مجرد ما يبلغ الحصاد يباع ولا حرج في ذلك.

قوله: «ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوُه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال» كذلك ـ أيضاً ـ لا تباع الرطبة ـ وهي المعروفة عندنا بالبرسيم أو القَتِّ ـ دون أصله إلا بشرط القطع في الحال؛ لأنه لو بيع دون أصله بدون شرط القطع في الحال، فإنه إذا تأخر ولو يوماً واحداً سوف ينمو، وهذا النماء الذي حصل بعد بيعه يكون للبائع وهو مجهول، فيؤدي إلى أن تكون الصفقة مجهولة؛ لأننا لا ندري مقدار نموه فيما بين البيع وجذه؛ ولهذا نقول: لا تبع هذا القت إلا أن تشترط على المشتري أن يقطعه في الحال، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.

ولكن الصحيح أنه لا يشترط ذلك، إذا كان قطعه في وقت يقطع مثله؛ لأن تأخير الحصاد لمدة يوم أو يومين أو أسبوع عند الناس لا يعتبر جهالة ولا يوجب نزاعاً، والأصل في البيع الحل والصحة حتى يقوم دليل على المنع، وهذا هو الذي عليه العمل، وكان الناس فيما سبق ـ ولعلهم إلى الآن ـ إذا تم تنامي الرطبة ـ يعني القت ـ باعوها، مع أنه ربما يتأخر الحصاد إلى عشرة أيام، إذ إن هذه الأرض الواسعة التي كلها مملوءة قتّاً لا يمكن أن تُحصد في يوم أو يومين.

ص: 24

فالصواب: أنه إذا كان ذلك بعد تمام نمائها، فإنها إذا بيعت لا يشترط القطع في الحال، بل يجزها المشتري حسب ما جرت به العادة.

وقوله: «ونحوه كباذنجان» والباذنجان عندنا باللغة العامية يسمونه (بَيْدَجان) وهذا تحريف لا بأس به؛ لأنه عرفي، ويذكر أن بائع باذنجان عرضه للبيع في السوق، ولكن الناس لم يشتروا منه فقال: حدثنا فلان عن فلان إلى أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الباذنجان لما أكل له)

(1)

! وقصده بذلك ترغيب الناس فيه فتساقط الناس يشترون منه، وهذا مما مثل به العلماء في المصطلح للموضوع لغرض الدنيا؛ لأن أغراض الوضاعين كثيرة، منها إفساد الدين، والدنيا، وغير ذلك.

وهذا لا شك أنه لا يجوز للإنسان أن يرويه للناس إلا مقروناً ببيان وضعه.

وقوله: «دون الأصل» خرج به ما لو باعه مع أصله فإن البيع صحيح، ولهذا لو باع ثمرة النخلة قبل بدو

ص: 25

الصلاح لم يجز، ولو باع النخلة وعليها ثمرة جاز، فإذا باع هذه الأشياء البقول والقثاء وما أشبه ذلك مع الأصل فهو جائز، فلو أن إنساناً عنده أرض كلها بطيخ، فجاء إنسان يريد أن يشتري هذا البطيخ، واشتراه بأصله كان ذلك جائزاً، وما حدث بعد البيع فهو للمشتري، وما نما بعد البيع فهو ـ أيضاً ـ للمشتري؛ لأن الفرع يتبع الأصل ولا عكس.

وقوله: «إلا بشرط القطع في الحال» فإذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها واشترط المشتري أن يجزها في الحال، كان ذلك جائزاً؛ لأن المشتري لا يريد أن يبقيها حتى يبدو صلاحها، ولكن يشترط في هذه الحال أن تكون الثمرة مما ينتفع به إذا قطعت في الحال، فإن لم تكن مما ينتفع به فإن البيع باطل؛ لأنه سبق لنا أن من شروط البيع أن يقع على عين فيها نفع مباح.

فإذا قال: أنا أريد أن أشتري هذا الثمر الأخضر من النخلة وأقطعه الآن.

قلنا: البيع صحيح لكن بشرط أن ينتفع بهذا البلح، وكيف ينتفع به؟

الجواب: للبهائم مثلاً، أو للطيور، أو ربما يجرى عليه التجارب، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالبيع جائز بشرط أن تكون الثمرة مما ينتفع به إذا قطعت في الحال، وإلا فلا يجوز.

مثاله: باع زرعاً فيه سنبل ولكنه لم يشتد، واشترط البائع على المشتري حصاده في الحال، فالبيع جائز بشرط أن يكون منتفعاً به، والزرع إذا جز قبل أن يشتد يكون علفاً، وهذا أمر قد يكون فيه مصلحة للبائع ومصلحة للمشتري، أما مصلحة المشتري فإنه يحتاجه لعلف الدواب، وأما البائع فإنه ربما يكون محتاجاً إلى الأرض ليبني عليها أو يزرعها زرعاً آخر.

استثنى الفقهاء رحمهم الله ما إذا باع الثمرة أو الزرع لمالك الأصل فلا بأس، وكيف يبيع على مالك الأصل؟

مثاله: الفلاح زرع هذه الأرض لمالكها، ثم أراد أن يبيع

ص: 26

الزرع على صاحب الأرض قبل اشتداد حبه، فهذا يجوز على كلام الفقهاء؛ لأنه باع الفرع لمالك الأصل، وكذلك في الثمرة، الثمرة للبائع؛ لأنه باع النخلة بعد أن أبرها فالثمرة له، لكن بعد أن تمت الصفقة طلب المشتري من البائع الذي كانت الثمرة له أن يبيع عليه الثمرة، فرغب أن يبيعها عليه، فعلى كلام الفقهاء يصح؛ لأنه باع الفرع على مالك الأصل فجاز، ولهم استدلال في الحديث، قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز أن يشترط المشتري الثمرة التي يستحقها البائع؛ لأنه ملك الأصل، فكذلك ـ أيضاً ـ إذا باعها البائع عليه بعد تمام الصفقة فقد باعها على مالك الأصل.

ولو أن البائع باع النخلة وفيها ثمر مؤبر، واشترط المشتري أن يكون الثمر له أليس هذا جائزاً؟

الجواب: بلى بنص الحديث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إلا أن يشترطه المبتاع»

(1)

.

هم يقولون: إذا كان يجوز اشتراط الثمرة التي للبائع لتكون للمشتري، فكذلك إذا باع البائع الثمرة على مشتري الشجرة لتكون الثمرة له.

فنقول: هذا ليس بصحيح ولا يصح القياس؛ لأن اشتراط الثمرة التي للبائع إنما كان في صفقة واحدة فكانت الثمرة تبعاً للأصل، وأما إذا انتهت الصفقة الأولى ثم أراد المتبايعان أن يعقدا صفقة جديدة على الثمرة وهي لم يبد صلاحها، فإن ذلك لا

(1)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 27

يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها

(1)

.

إذن القول الراجح في هذه المسألة: أن الثمرة لا تباع قبل بدو صلاحها ولو على مالك الأصل، وأن الزرع لا يباع قبل اشتداد حبه ولو على مالك الأصل.

‌أَوْ جَزَّةً جَزَّةً، أوْ لَقْطَةً لَقْطَةً وَالحَصَادُ وَاللَّقَاطُ عَلَى المُشْتَرِي. وَإنْ بَاعَهُ مُطْلَقاً، أَوْ بِشَرْطِ البَقَاءِ،.

قوله: «أو جزة جزة» الرطبة ذكرنا أنها البرسيم أو القَتّ لغتان معروفتان.

مثاله: قال: أبيع عليك هذا البرسيم جزة جزة يعني تجزه الآن فقال: نعم، فيجوز؛ لأنه هنا سوف يجز قبل أن ينمو ولا جهالة فيه؛ لأنه مشاهد ومعلوم، ولكن الجزة لا بد أن تكون في الحال كما سبق.

والصحيح أنه يتبع في ذلك العرف، قد يجزها في الحال، وقد يتأخر عشرة أيام؛ لأن المساحة واسعة وهو يجزها يوماً بعد يوم.

قوله: «أو لقطة لقطة» اللقطة غير الجزة، والذي يلقط مثل الباذنجان والقثاء والكوسة والباميا واللوبيا وهكذا، هذا يباع لقطة لقطة، أي: اللقطة الحاصلة الآن الموجودة يبيعها، أما ما لم يوجد فإنه مجهول وينطبق عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر

(2)

.

قوله: «والحصاد واللقاط على المشتري» الحصاد في الزرع، واللقاط للقثاء ونحوه، والجذاذ للنخل ونحوه، هذا على

(1)

سبق تخريجه ص (16).

(2)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 28

المشتري؛ لأنه تفريغ ملكه من ملك غيره، فهو المسؤول عنه، لكن لو اشترط المشتري على البائع أن يكون ذلك عليه فصحيح، فلو قال المشتري: أنا اشتريت منك ثمر النخل، لكن ليس عندي من يجذه فأنت أيها الفلاح جُذه لي وأت به، فقال البائع: لا بأس، فالجذاذ عليه بالشرط، وهذا شرط لا يستلزم جهالة ولا غرراً ولا ظلماً ولا ربا، والأصل في الشروط الحل والصحة إلا ما قام الدليل على منعه، ولأن غاية ما فيه أنه أضاف إلى البيع ما يصح عقد الأجرة عليه، وهذا جائز ولا حرج فيه.

قوله: «وإن باعه مطلقاً» الضمير يعود على ما سبق تحريم بيعه، أي: إن باعه مطلقاً، والإطلاق يقول العلماء: يفهم معناه من شرط سابق أو لاحق، أي: باعه من غير شرط القطع، يعني باع الثمرة قبل بدو صلاحها ولم يشترط القطع ولا التبقية.

قوله: «أو بشرط البقاء» فإنه لا يصح البيع؛ وذلك لأن الأمر لا يخلو من أحوال ثلاثة:

إما أن يبيعه بشرط القطع في الحال، أو بشرط التبقية، أو يسكت ولا يشترط لا بقاء ولا قطعاً.

ففي الحال الأولى: يصح البيع بشرط أن ينتفع به، وإلا صار البيع حراماً من جهة أنه إضاعة للمال.

وفي الحال الثانية والثالثة: لا يصح.

مثال ذلك: إنسان أتى إلى فلاح وعنده نخلة فيها ثمر لم يَبْدُ صلاحه، فقال: بعني هذا الثمر، فباعه إياه، واشترط المشتري على البائع أن يبقى إلى الصلاح فهذا لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 29

نهى عن ذلك، وإن سكت كذلك لا يصح؛ لأن هذه الصورة الثالثة تدخل في عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها

(1)

، ولأن البيع مطلقاً معناه تمكين المشتري من إبقائه، وإذا أبقاه عاد إلى الجهالة كما سبق، ولهذا قال:«وإن باعه مطلقاً ـ أي: بدون شرط ـ أو بشرط البقاء» لم يصح، وكذلك يقال في الزرع قبل اشتداد حبه.

‌أَوْ اشْتَرَى ثَمَراً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِشَرْطِ القَطْعِ وَتَرَكَهُ حَتَّى بَدَا، أَوْ جَزَّةً أو لَقْطَةً فَنَمَتا أَوْ اشْتَرَى مَا بَدَا صَلَاحُهُ وَحَصَلَ آخَرُ وَاشْتَبَهَا أَوْ عَرِيَّةً فَأتْمَرَتْ بَطَلَ والكلُّ للبائِعِ،

قوله: «أو اشترى ثمراً لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا» فإنه يبطل البيع، أي: اشترى ثمراً قبل أن يبدو صلاحه بشرط القطع، لكنه تهاون وتركه حتى بدا صلاحه فإن البيع يبطل.

والبطلان هل هو لأجل ما حصل من النماء الزائد؟ أو لأنه يتخذه ذريعة إلى بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟

الجواب: الثاني؛ لأننا لو قلنا بصحة البيع في هذه الصورة لزم من هذا أن يتحيل، فيبيع الثمر بشرط القطع ثم يتركه حتى يبدو صلاحه، وحينئذ يقع فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا بطل البيع فأين يكون الثمن؟

الجواب: الثمن يرجع به المشتري على البائع إن كان قد أقبضه إياه، ويسقط عنه إن كان لم يقبضه إياه.

قوله: «أو جزة أو لقطة فنَمتا» يعني فإنه يبطل البيع، والجزة فيما يحصد ويجز، واللقطة فيما يلقط.

(1)

سبق تخريجه ص (16).

ص: 30

فالأول: كالرطبة يعني (القت)، أو ما يسمى بالبرسيم.

والثاني: مثل الباذنجان والقثاء وما أشبه ذلك.

مثاله: رجل اشترى جزة أو لقطة بشرط القطع، ولكنه تركها حتى نمت، يقول المؤلف: إن البيع يبطل؛ لأن النماء الحاصل بعد العقد مجهول فيؤدي إلى اختلاط المعلوم بالمجهول، واختلاط المجهول بالمعلوم يصيِّره مجهولاً؛ لأنه مَنْ الذي يحصي نمو هذه الباذنجانة؟ أو نمو هذه الجزة؟ فيبقى حينئذ مجهولاً.

ولكن المسألة فيها خلاف، والصواب: أنه إذا نمت الجزة أو اللقطة برضا البائع فإن البيع لا يبطل، فإذا استأذن المشتري البائع، وقال: أنا أريد أن تمهلني عشرة أيام، أو عشرين يوماً حتى أُصرِّف ما عندي مثلاً، أو حتى يرتفع السعر، فقال: لا بأس، فنمت في هذه المدة فالأصل أن النماء للبائع، لكن البائع سمح وقال: لا بأس، فالبيع حينئذ صحيح.

مثاله: إنسان اشترى لقطة حبحب (البطيخ الأحمر) ثم قال للبائع: أريد أن تمهلني عشرة أيام حتى يرتفع السعر؛ لأن السعر ناقص قال: لا بأس، وهذه الحبحبة الصغيرة نمت وأصبحت كبيرة فيما بين العقد عليها ولقطها، فالزيادة في الأصل للبائع؛ لأن المشتري اشتراها على قدر معلوم، لكن البائع قد سمح وقال: لا بأس، فما دام البائع سمح وأسقط حقه فإننا نقول له: أنت مشكور على ذلك، ولا خيار للبائع.

وأما إذا كان بغير رضاه بأن تهاون المشتري حتى كبرت ونمت فله الخيار إن شاء أمضى البيع؛ لأن الزيادة له، فإذا رضي

ص: 31

أن تكون للمشتري فلا حرج عليه، وإن شاء فسخ؛ لأن ملكه الآن اختلط بملك غيره على وجه يصعب التمييز بينهما والمفرِّط في ذلك المشتري فيقال: الخيار للبائع، وهذا القول هو الراجح؛ لأن هذا ليس كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وتترك حتى يبدو الصلاح، إذ إن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وتترك حتى يبدو الصلاح مخالف للنص، أما هذا فليس فيه مخالفة للنص.

قوله: «أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها» أي: فإن البيع يبطل، فالزرع يمكن أن يتلاحق، فيكون أول الزرع قد اشتد، وفي النخل أيضاً، في بعض النخيل تخرج في السنة مرتين، فبِيْع الطلع الأول؛ لأنه بدا صلاحه، ثم نما الثاني واشتبه الأول بالثاني، يقول المؤلف: إن البيع يبطل؛ لأنه اختلط المباح بالحرام على وجه لا يمكن التمييز بينهما، واجتناب الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم اجتناب الحرام إلا باجتناب الجميع، وعلى هذا فيبطل البيع.

ولكنك إذا تأملت هذه العلة وجدت أنها لا تقتضي البطلان؛ وذلك لأن الحق بينهما الآن، فإذا اصطلحا على شيء، أو قال من كانت له الثمرة الثانية: هي لك، لا أريدها فما المانع من الصحة؟!

ربما يقول قائل: المانع من الصحة أن هذه الثمرة الأخيرة وقع عليها العقد قبل أن توجد، أو وقع العقد عليها إن كانت قد وجدت قبل بدو صلاحها، قد يقول قائل هكذا، أي: ليست العلة الاختلاط والاشتباه، فالعلة أن هذه الثمرة الجديدة، إما أن تكون

ص: 32

مخلوقة عند بيع الأولى فيكون بيعها قبل بدو الصلاح، وإما أن تكون معدومة فيكون ذلك بيع معدوم.

لكن يمكن أن يجاب عن ذلك فيقال: إنَّ تَنازُلَ من له الثمرة الثانية ليس بيعاً ولكنه هبة وتبرع، ومعلوم أنه يجوز أن يتبرع الإنسان بثمر النخل قبل بدو صلاحه؛ لأن المنهي عنه إنما هو البيع، وأما الهبة والتبرع فإن الموهوب له والمتبرع له إما غانم وإما سالم، إما غانم إن بقي الثمر وصلح، وإلا سالم، فليس فيه غرر ولا جهالة ولا ميسر، وهذا القول الثاني أصح، أنه إذا حصلت الثمرة واشتبهت بالأولى فنقول: اصطلحا، فإن تنازل من له الثمرة الثانية فقال: الكل عندي سواء، والثمرة التي حصلت بعد البيع هي له، فحينئذ نقول: البيع يبقى ولا نزاع ولا خصومة.

لكن يبقى إذا أبيا أن يصطلحا وأبى من له الثمرة الثانية أن يهبها للأول فماذا نصنع؟

يقول الفقهاء الذين قالوا بعدم بطلان البيع: يجبرون على الصلح، فيجبر المشتري ومن له الثمرة الجديدة على الصلح؛ لأنه لا يمكن الانفكاك إلا بهذا، وكوننا نبطل البيع قد يكون فيه ضرر على البائع أو المشتري، إن كانت الثمرة قد رخصت فالضرر على البائع، وإن كانت الثمرة قد زادت قيمتها فالضرر على المشتري، فإن أبيا إلا بثالث يصلح بينهما قلنا: لا بأس، فنقيم ثالثاً يصلح بينهما وتنتهي المشكلة.

قوله: «أو عرية فأتمرت» العريَّة مأخوذة من العرو بمعنى الخلو، واختلف العلماء في تفسيرها، فقال بعض أهل العلم: إن

ص: 33

العرية هي هبة الثمرة وسميت عارية؛ لأنها خالية من العوض. ولكن الصحيح أن العرية هي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر لمن احتاج إلى الرطب وليس عنده ثمن يشتري به؛ وسميت بذلك لأنها عارية عن النقدين فإنه يخرص الرطب حتى يكون مساوياً للتمر القديم في الكيل، ثم يشتريها صاحب التمر القديم، وبشرط أن تكون خمسة أوسق أو أقل، فهذا الفقير الذي ليس عنده مال وعنده تمر قديم جاء للفلاح فقال له: أنا محتاج للرطب، بعني ثمرة هذه النخلة التي تصبح بعد يبسها خمسين صاعاً بخمسين صاعاً من التمر الذي عندي، فهذا جائز؛ لأن خمسين الصاع أقل من خمسة أوسق وهذا محتاج وليس عنده مال.

فهذا أعطاه التمر وذاك تخلى عن النخلة، فَقَبْضُ التمر بالكيل وقبض النخلة بالتخلية، فصاحب النخلة خلاها له، وذاك أعطاه التمر بالكيل ثم إن المشتري تركها حتى أتمرت.

قوله: «بطل» أي: إن البيع يبطل؛ لأن الشرع إنما أجاز بيع الرطب بالتمر ـ مع أن الأصل أنه محرم ـ من أجل دفع حاجة هذا الفقير الذي هو محتاج للرطب، والآن لما أهمل وتركها حتى أتمرت، زالت العلة التي من أجلها أجاز الشرع بيع الرطب بالتمر.

ولا يمكن أن نفتح للناس باب الخداع، نقول: لو أننا صححنا البيع وألزمنا بائع النخلة ببقاء العقد تحيل الناس على هذا، فلذلك يقول المؤلف: إذا اشترى عرية فأتمرت بطل البيع.

قوله: «والكل للبائع» أي: الكل في هذه المسائل كلها إذا بطل البيع رجع للبائع؛ لأنه ملكه، ويأخذ المشتري الثمن من البائع

ص: 34

إن كان قد أقبضه إياه، وإن كان لم يقبضه إياه سقط عن ذمته.

‌وَإِذَا بَدَا مَا لَهُ صَلاحٌ فِي الثَّمَرَةِ واشتَدَّ الحَبُّ جَازَ بَيْعُهُ مُطْلَقاً وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ

‌وللمشتَري تبقِيَتُهُ إِلى الحَصادِ والجَذَاذِ ويَلْزَمُ البائِعَ سَقْيُهُ إِن احْتاجَ إِلى ذلكَ وإنْ تَضَرَّرَ الأَصْلُ

قوله: «وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة» يعني بالثمرة ثمرة النخل، وثمرة العنب، وكل ما يسمى ثمراً، وهو ما تخرجه الأشجار؛ لأن ما يخرج من الشجر ثمر، وما يخرج من الأرض زرع.

قوله: «واشتد الحب» أي: حب الزرع

قوله: «جاز بيعه مطلقاً» يعني بدون شرط، ودليل الجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه

(1)

، وعن بيع الحب حتى يشتد

(2)

؛ وجه الدلالة أن (حتى) للغاية، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فإذا كان ما قبل بدو الصلاح واشتداد الحب محرماً كان ما بعده جائزاً.

وقوله: «جاز بيعه مطلقاً» يبين إطلاق قوله:

«وبشرط التبقية» وبشرط القطع من باب أولى، وعلى هذا فنقول في بيع الثمار بعد بدو صلاحها والحب بعد اشتداد حبه: له ثلاث حالات:

الحال الأولى: أن يبيعه بشرط القطع، فإنه يصح البيع ويقطعه.

الحال الثانية: أن يبيعه بشرط التبقية، فهذا جائز.

الحال الثالثة: أن يبيعه ويسكت، فهذا جائز، والدليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع الحب حتى يشتد.

(1)

سبق تخريجه ص (16).

(2)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 35

قوله: «وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ» للمشتري أن يبقيه إلى «الحصاد» وهذا في الزرع، «والجذاذ» وهذا في الثمر، وله أن يجذه قبل ذلك؛ لأنه ملكه، المشتري الآن ملك الثمرة فله أن يجذها قبل أن يأتي أوان جذها، وله أن يبقيها حتى يأتي أوان جذها، وكذلك في الزرع له أن يحصده قبل وقت الحصاد، وله أن يبقيه إلى وقت الحصاد؛ لأنه ملكه.

لكن هذا ليس على إطلاقه بل يقال بشرط ألا يتضرر الأصل بعد تأخيره عن وقت الحصاد والجذاذ، فإن تضرر فليس له ذلك، ويقال: إن ثمرة النخل إذا لم تجذ في أوان جذها ضرَّ النخلة، فإذا ثبت قلنا للمشتري: إذا جاء وقت الجذاذ لا بد أن تجذ ولا يمكن أن تؤخر؛ لما في ذلك من الضرر، كذلك وفي الحصاد إذا جاء وقت الحصاد وقال: ليس عندي آلة تحصد، نقول: لا بد أن تحصد؛ لأن الحق للبائع.

إذاً قول المؤلف: «تبقيته إلى الحصاد والجذاذ» يفهم منه أنه ليس له أن يبقيه إلى ما بعد ذلك إلا برضا البائع، وهو كذلك.

قوله: «ويلزم البائع سقيه» أي سقي الزرع، وسقي الثمر، والمراد سقي الشجر لكنه قيد ذلك بقوله:

«إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل» بأن يكون الوقت حارًّا وتيبس أصوله فيضمر الثمر ويتغير، فنقول: يلزم البائع أن يسقيه حتى وإن الأصل.

فإن قال قائل: كيف نقول إنه يلزمه سقيه وإن تضرر

ص: 36

الأصل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

؟ قلنا: ليس هنا مضارة، البائع باعه والعادة جرت أنه يلزمه حفظه والقيام عليه إلى الجذاذ، فهو الذي ألزم نفسه بذلك، وهو الذي رضي لنفسه بالضرر فيلزمه.

وقوله: «إن احتاج إلى ذلك» مفهومه إن لم يحتج فإنه لا يلزمه، وهذا هو الصحيح، خلافاً للمذهب في هذه المسألة، حيث قالوا: يلزمه سقيه سواء احتاج أم لم يحتج، والصواب أنه لا يلزمه إلا إذا احتاج.

‌وَإِنْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ رجَعَ عَلى البَائِعِ

قوله: «وإن تلفت بآفة سماوية» الضمير يعود على الثمرة، أي: إذا تلفت الثمرة بعد أن بيعت بعد بدو الصلاح بآفة سماوية مثل حر شديد أفسد الثمر، أو بَرَدٍ أسقط الثمر، أو جرادٍ أكلها، فالآفة السماوية أعم مما يظهر من لفظها، إذ إن المراد بها ما لا يمكن المشتري تضمينه، سواء كان بآفة سماوية لا صنع للآدمي فيه، أو بصنع آدمي لا يمكن أن يضمن، إما لسلطته أو لجهالته كما لو نزل الجند ـ الأعداء ـ فيما حول البلد وأتلفوا البساتين فهؤلاء لا يمكن تضمينهم، فيكون إتلافهم كالتلف بالآفة السماوية، وهذا قول وجيه.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 326)، وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أحمد (1/ 313)، وابن ماجه (2341) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مالك (2/ 745) مرسلاً، وللحديث طرق كثيرة يتقوى بها، ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 210) والألباني في الإرواء (896).

ص: 37

قوله: «رجع على البائع» أي: يرجع المشتري، على البائع بكل الثمن الذي دفعه له، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق»

(1)

؟ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بوضع الجوائح

(2)

، واللفظ الأول مفصل:«إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» .

فإن قال البائع: كيف أضمن وهو في ملك المشتري الآن؟

قلنا: لأن بيعك إياه التزام منك بحفظه والقيام عليه حتى يأتي وقت الجذاذ، فهي الآن في حفظك وإن كان المشتري قد ملكها وله أن يجذها، وله أن يبيعها، لكنها مضمونة عليك؛ لكونك أنت المطالب بحفظها إلى وقت الجذاذ.

يستثنى من ذلك ما إذا أخَّر المشتري جذها عن العادة فإن الضمان عليه لا على البائع، فإذا قدر أن المشتري تهاون في جذها في وقت الجذاذ حتى جاء المطر فأفسدها فهل يرجع على البائع؟ لا يرجع؛ لأنه هو الذي فرط، فإذا قال المشتري: أنا لي سيارات أجذ النخل وأحمله ولم تأت السيارات بعد، وتركها حتى فات وقت الجذاذ وتلفت بآفة سماوية، فهنا لا يرجع؛ لأن هذا التفريط من نفس المشتري فلا يرجع على البائع بشيء.

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الحوائج (1554)(17) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 38

مسألة: إذا كان الذي حصل على الثمر ليس تلفاً ولكنه نقص، بمعنى أن بعض القنوان تغير، صار حشفاً فهل يضمن البائع النقص؟ نعم يضمن النقص؛ لأنه إذا ضمن الكل ضمن البعض. فهذا التمر الذي حشف وصار لا يأكله إلا البهائم هو كالتالف في الواقع، فضمان النقص على البائع، فإن كان النقص بسبب المشتري، كأن يكون المشتري لا يعرف الجني والخراف ففسد الثمر، فهل يضمنه البائع؟ الجواب: لا؛ لأنه من فعل المشتري.

‌وإنْ أَتْلَفَهُ آدمِيٌّ خُيِّرَ مُشْتَرٍ بَيْنَ الفَسْخِ والإِمْضَاءِ ومُطَالَبَةِ المُتْلِفِ

‌وصَلاحُ بَعْضِ الشَّجَرةِ صَلَاحٌ لَها ولِسَائِرِ النَّوْعِ الَّذِي فِي البُسْتانِ

قوله: «وإن أتلفه آدمي خُيِّرَ مشتر بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف» إذا أتلف الثمر آدمي معين يمكن تضمينه، فللمشتري الخيار إن شاء فسخ البيع وحينئذ يكون الضمان على البائع، وإن شاء أمضى البيع وطالب المتلف؛ ولهذا قال:«والإمضاء ومطالبة المتلف» .

ومن المعلوم أنه إذا كان الخيار له فسوف يختار ما هو أنفع له، فإذا قدر أن ثمن الثمرة زاد والمتلف تسهل مطالبته فما الذي يختاره؟ يختار الإمضاء ومطالبة المتلِف، فمثلاً إذا قدر أنه اشترى الثمرة بمائة، ثم جاء إنسان وأتلفها وصارت تساوي مائتين، أيهما أحسن أن يفسخ البيع ويأخذ مائة من البائع، والبائع يرجع على المتلف بمائتين؟ أو أن يأخذ من المتلف مائتين؟ الثاني لا شك، والعكس بالعكس، إذا كانت الثمرة قد نقصت فسيختار الفسخ ويرجع على البائع، وكذلك لو كان المتلف مماطلاً أو فقيراً والبائع غنياً فسيختار الفسخ، والعكس بالعكس، يختار الإمضاء.

ص: 39

فإذا قال قائل: كيف تخيِّرونه بين الفسخ والإمضاء، والثمرة ملكه، وقد تلفت على ملكه فإذا تلفت فليطالب من أتلفها؟

قلنا: هذا سؤال وجيه ووارد، لكن لما كانت الثمرة في ضمان البائع فعليه حفظها وحراستها، فكأنه هو المفرط في ذلك حتى أتلفه من أتلفه من الآدميين، فصح أن نقول للمشتري: إن شئت فافسخ البيع؛ لأنها وإن كانت في ملكك أيها المشتري لكنها في ضمان البائع، فهذا وجهه.

لكن لو قيل: بأنه لا يستحق الفسخ لكان له وجه؛ لأن حقيقة الأمر أن الثمرة تلفت في ملكه، ومطالبة المتلف ممكنة فلا يرجع على البائع، نعم لو تبين أن البائع مفرط كما سبق ورأى الرجل قد صعد الشجرة ليجذ الثمرة، فحينئذ نقول: القول بأنه يخير بين الفسخ وبين الإمضاء ومطالبة المتلف قول وجيه.

قوله: «وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان» مثال ذلك: البستان فيه أنواع من التمر كالسكري والبرحي وأم حمام، بدا الصلاح في واحدة من البرحي يقول المؤلف: إن بدو الصلاح في هذه الشجرة صلاح لها ولسائر النوع، الذي هو البرحي، أما السكري وأم الحمام فلا يكون صلاح البرحية صلاحاً لهما؛ لأن النوع مختلف.

وظاهر كلام المؤلف أنه سواء بيع النوع جميعاً أو بيع تفريداً، بأن بعنا التي بدا صلاحها وانتقل ملكها إلى المشتري، ثم بعنا البقية من نوعها على آخرين، فالكل صحيح حيث ذكر

ص: 40

المؤلف أن صلاح بعض الثمرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان، وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد: أنه إذا بدا صلاح في شجرة فهو صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان.

أما المذهب فإنه إذا بِيعَ النوع جميعاً فصلاح بعض الشجرة صلاح للنوع؛ لأنه لما بيع جميعاً صار كأنه نخلة واحدة، وصلاح بعض النخلة صلاح لجميعها، فالعقد يقع عليها جميعاً، أما إذا أفرد فإنك إذا بعت ما بدا صلاحه ثم جددت عقداً لِمَا لم يبد صلاحه، صدق عليك أنك بعت ثمرة قبل بدو صلاحها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها

(1)

، والمذهب أصح مما هو ظاهر كلام المؤلف.

وقال بعض العلماء: إن صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولنوعها ولجنسها، فمثلاً إذا كان عند إنسان بستان فيه عشرة أنواع من النخل، وبدا الصلاح في نوع منها جاز بيع الجميع صفقة واحدة، الذي من نوعه والذي ليس من نوعه، لكن المذهب لا يعتبرون ذلك، يعتبرون النوع، والمذهب أحوط وإن كان هذا القول قوياً جداً؛ لأن الصفقة واحدة واختلاف الأنواع لا يخرجها عن الجنس، والتمر جنس واحد كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه «التمر بالتمر مثلاً بمثلٍ»

(2)

، فلما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً قلنا: إنه إذا بيع جميعاً وقد لوَّن منه واحدة

(1)

سبق تخريجه ص (16).

(2)

أخرجه مسلم في المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1587)(81) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ص: 41

كفى، لكن هل يجوز بيع العنب لأنه بدا صلاح ثمر النخل؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس من جنسه فلكل واحدة حكم نفسها.

‌وبُدُوُ الصَّلاحِ في ثَمَرِ النَّخْلِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وفي العِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهَ حُلْواً

‌وَفِي بَقِيَّةِ الثَّمَرِ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ ويَطِيبَ أَكْلُهُ، ومَنْ بَاعَ عَبْداً لَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِبائِعِهِ

قوله: «وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر» وذلك للحديث المتقدم

(1)

، ولأن ذلك علامة على نضجها، يعني أن تلون، ولون النخل إما أحمر وإما أصفر، ولا نعلم لوناً غير الأحمر والأصفر، ولو فرض أنه وجد بعض النخل أخضر، ثم إذا قارب النضوج صار أسود مثلاً، فالحكم يدور مع العلة، وتقييد ذلك بالاحمرار والاصفرار بناء على الغالب، وما جرى بناءً على الغالب فليس له مفهوم.

قوله: «وفي العنب أن يتموَّه حلواً» شرط شرطين: أن يتموَّه، وأن تظهر فيه الحلاوة، ومعنى يتموَّه يعني يلين، يصير ماءً؛ لأن العنب ما دام حصرماً فهو قاسٍ، فإذا لان فهذا هو التموُّه، لكن لا بُد مع ذلك أن يكون حلواً، احترازاً مما لو تموه بآفة كقلة الماء ـ مثلاً ـ فإنه لا يكون ذلك صلاحاً بل لا بد أن يتموه حلواً.

وعبر بعض العلماء بقولهم: «العنب أن يسود» قياساً على تلوين النخل، وهذا صحيح بالنسبة لما صلاحه باسوداده، لكن هناك عنب لا يسود، ولو بلغ الغاية في النضوج.

وربما يوجد ـ أيضاً ـ عنب لا يتموه، عنب قاسٍ ولو كان قد بدا صلاحه، ولهذا عبر بعض أهل العلم بعبارة جامعة قال:

(1)

سبق تخريجه ص (21).

ص: 42

«أن يطيب أكله» كما ذكره المؤلف في بقية الثمار، ولذلك يوجد الآن عنب موجود في الأسواق ليس متموهاً ولا مسوداً، بل أخضر قاس، ومع ذلك هو حلو يطيب أكله.

قوله: «وفي بقية الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله» هذا في بقية الثمر مثل البرتقال والخوخ والتفاح وغير ذلك، وكلها تدور ـ حتى ثمار النخيل وثمار العنب وغيرهما ـ على إمكان أكله واستساغته؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الحد أمكن الانتفاع به، وقبل ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا أحياناً، وهو ـ أيضاً ـ إذا وصل لهذه الحال من النضج قلّتْ فيه الآفات والعاهات.

ويستفاد من هذا النهي

(1)

أن الشارع ينهى عن كل ما يوجب الخصومة والبغضاء والعداوة؛ لأنه إذا حصل اختلاف ومنازعات صار هناك عداوة وبغضاء وخصومة، فلهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ومن باع عبداً له مال فماله لبائعه» مناسبة ذكر هذه المسألة في باب بيع الأصول والثمار؛ لأن العبد أصل والمال فرع، فماله كالثمرة وهو نفسه كالأصل، فلهذا ذكروها في هذا الباب.

وقوله: «عبداً» هنا تشمل العبيد والإماء، يعني من باع مملوكاً له مال فماله لبائعه، قد يبدو للإنسان أن هناك تناقضاً في العبارة، «له مال» ثم قال:«فماله لبائعه» ، فعلى هذا يرد على

(1)

ما سبق من نهي النبي (ص) عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ص (16).

ص: 43

المال الواحد مالكان وهذا غير ممكن، أن يرد على مال واحد مالكان من جهة واحدة، لكن قوله:«ومن باع عبداً له مال» اللام هنا ليست للملك ولكنها للاختصاص، كما تقول: للفرس لجام وللدابة مقود، وما أشبه ذلك، فاللام هنا للاختصاص.

إذاً ما هو المال الذي يكون للعبد؟ هو المال الذي اختصه سيده به، وقال له: خذ أيها العبد هذا المال اتجر به، سُكَّراً أو أرزاً أو سيارات أو غير ذلك أعطاه إياه، قال له: هذا بيدك أنت بعه واتجر به، نقول: هذا المال للسيد ملكاً وللعبد اختصاصاً.

إذاً قوله: «عبداً له مال» إضافة المال للعبد هنا إضافة اختصاص.

وقوله: «فماله لبائعه» هذه اللام في بائعه لام الملك يعني للتملك، فالمال للبائع، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع»

(1)

، وهنا نسأل هل العبد يملك بالتمليك أو لا؟ يعني لو أن إنساناً رأى عبداً عليه ثياب رثة ويحتاج إلى ثياب تقيه البرد، فملَّكه ثوبه فقال: خذ هذا ثوباً لك، هل يملك هذا الثوب؟ الجواب: عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فماله للذي باعه» يشمل ما كان بيده اختصاصاً أو تملكاً وأنه لا يملك.

وقال بعض أهل العلم: إنه يملك بالتمليك، وفصَّل آخرون فقالوا: يملك بتمليك سيده دون غيره؛ لأن تمليك سيده إياه يعني رفع ملكه عن هذا الذي ملَّكه إياه، والحق للسيد، وعلى هذا يكون ما ملكه سيده ملكاً له، ليس لسيده، فيما بعد أن يرجع فيه

(1)

سبق تخريجه ص (13).

ص: 44

على سبيل الرجوع في الهبة، وللعبد أن يتصرف فيه كما شاء بدون إذن السيد؛ لأنه ملكه.

وظاهر الحديث العموم «فماله للذي باعه» حتى لو قلنا يملك بالتملك، صار الذي ملَّكه السيد له، وإذا كان له دخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فماله للذي باعه» .

مسألة: إذا مات العبد وبيده مال أعطاه له السيد ليتجر به، وللعبد ابن حر، فمن الذي يرث هذا المال؟ إن قلنا: بأنه يملك بالتمليك فماله لابنه، وإن قلنا: لا، فماله للسيد، وقد ذكر ابن رجب في القواعد هذه المسألة وفرع عليها مسائل كثيرة، وهو اختلاف العلماء هل العبد يملك بالتمليك أو لا يملك؟

‌إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُشْتَري فإِنْ كانَ قَصْدُهُ المالَ اشتُرِطَ علمُهُ وسائِرُ شُرُوطِ البَيْعِ وإلاَّ فلا وثيابُ الجَمَالِ للبَائِعِ، والعَادَةِ للمُشْتَرِي.

قوله: «إلا أن يشترطه المشتري» «الهاء» في «يشترطه» تعود على المال، فإذا اشترط المشتري المال فهو له للحديث:«إلا أن يشترطه المبتاع» فهو نص في ذلك، وحتى لو لم يرد النص في هذا فإن عموم قول الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يشمله؛ لأن الوفاء بالعقود يشمل الوفاء بأصل العقد ووصف العقد، والشروط المشروطة في العقد أوصاف له، ولحديث:«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(1)

.

لكن هنا يشكل علينا إذا قدرنا أن هذا العبد عنده عشرة آلاف ريال نقداً، واشتراه المشتري بمائة ألف، واشترط أن المال الذي معه يتبعه فتكون هذه المسألة من مسألة (مد عجوة ودرهم)؛

(1)

سبق تخريجه ص (18).

ص: 45

لأنه فيه دراهم ومع أحد العوضين من غير الجنس، فهل يصح هذا أو لا؟ الجواب: فيه تفصيل يقول المؤلف:

«فإن كان قصده المال اشتُرط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا» يعني إذا كان قصده المال فلا بد من علمه بالمال وسائر شروط البيع، أي: كل شروط البيع الثمانية، ولا بد أن يكون خالياً من الربا وإلا فلا.

إذاً كيف نعلم أن قصده المال أو أن قصده العبد؟ نعلم ذلك بالقرائن، إذا كان هذا الرجل محتاجاً إلى خادم ـ أعني المشتري ـ ويبحث عن رقيق يملكه ويجعله خادماً له، لكنه اشترط أن يكون ماله تبعاً له؛ لأنه لا يحب أن يصرف هذا العبد عن تصرفه الذي كان عليه من قبل؛ لأن المال لو أخذه البائع الأول ربما يتأثر العبد، فاشترط أن يكون ماله تبعاً له من أجل راحة العبد فهنا: لا يشترط علمه بالمال، ولا يشترط ألاّ يكون بينه وبين عوضه ربا، ولا يشترط أي شيء من الشروط، فلو قيل للمشتري: أنت اشترطت أن يكون ماله تبعاً له، فهل تعلم ماله؟ قال: لا، ما أعلمه، لكنني لا يهمني المال، يهمني العبد، قلنا: لا يضر أن تجهل المال؛ لأن قصدك العبد، لكن لو قال المشتري: قصدي المال، حيث إني رأيت هذا العبد يتجر في محل تجارة وهو ناجح، والمحل فيه أنواع من التجارة، فنقول: إنما الأعمال بالنيات، فما دام قصدك المال لا بد أن تجرد المال كله، حتى علبة الكبريت، ولا بد أن يكون هذا المال لا يجري

ص: 46

فيه الربا بينه وبين الثمن، فليفرد المال بعقد والعبد بعقد آخر، حتى لا ترد علينا مسألة «مد عجوة» ، ولا بد أن يكون المبيع مشاهداً معلوماً، المهم أنه يشترط جميع شروط البيع.

فإذا قال قائل: ما الدليل؟ قلنا: عندنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الحديث العظيم الذي تنبني عليه كل مسائل الدين وهو: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

، فإن كان يريدهما جميعاً فلا بد من علمه وسائر شروط البيع.

قوله: «وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري» أي: ثياب الجمال للبائع؛ لأنها خارجة عن حاجة العبد، وأما ثياب العادة فهي للمشتري.

وهل تختلف الأعراف في هذا، بمعنى أن ثياب جمال في عُرف ثياب عادة في عرف آخر وبالعكس؟ الجواب: نعم لا شك أن هذا يتبع العادة في ذلك، فيقال: إن عُدَّ هذا من ثياب الجمال فهو للبائع، وإن عد من ثياب العادة فهو للمشتري.

فإن كان معه ساعة وقلم فهي للبائع؛ لأنها ليست من الثياب لكن على الأقل من المال.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ومسلم في الإمارة/ باب قوله:«إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر رضي الله عنه.

ص: 47

‌بَابُ السَّلَمِ

قوله: «باب السَّلَمِ» السَّلمُ مأخوذ من التسليم والإسلام، ويقال: السلف، فزعم بعض العلماء أن السلف لغة الحجاز، وأن السلم لغة العراق.

وقال آخرون: بل هما بمعنى واحد، ويستعمل هذا هنا وهناك، وهذا هو الصحيح، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجازيين، بعث في مكة وهاجر إلى المدينة وكلاهما من الحجاز، ومع ذلك يقول:«من أسلم في شيء فليسلم»

(1)

، فالصواب الذي عليه المحققون من أهل اللغة أنه لا فرق بينهما، وأنّ أسلف وأسلم بمعنى واحد في لغة الحجاز والعراق، فهو إذن مأخوذ من التسليم؛ وذلك لأن المسلِم يقدم الثمن إلى المسلَم إليه، وأما السلف فهو مأخوذ من التقديم.

وصورة ذلك: أن تأتي لرجل فلاح وتقول: يا فلان خذ هذه عشرة آلاف ريال بمائة كيلو من التمر تحل بعد سنة، فهذا هو السلم؛ لأن المشتري قدم الثمن، والمثمن مؤخر.

والسّلم جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح:

أما الكتاب فقوله ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ

(1)

أخرجه البخاري في السلم/ باب السلم في وزن معلوم (2240)، ومسلم في البيوع/ باب السلم (1604) عن ابن عباس رضي الله عنهما واللفظ للبخاري.

ص: 48

بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما بهذه الآية على جوازه

(1)

؛ لأن قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} يعم ما إذا كان الدين هو الثمن أو المثمن، فإن كان الدين هو المثمن فهذا هو السلم.

وأما السنَّة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» ، أو «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

(2)

.

وأما الإجماع فقد انعقد الإجماع على ذلك.

وجواز السلم هو القياس الصحيح الموافق للأصول خلافاً لمن قال: إن السلم على خلاف الأصول؛ لأنه بيع معدوم والواقع أنه ليس بيع معدوم في الحقيقة؛ لأنه بيع موصوف في الذمة، أنا لم أبع عليك شيئاً معدوماً ليس في ملكي حتى يدخل في الجهالة والغرر، هذا موصوف في الذمة، وأيضاً القاعدة أن كل ما ثبت بالشرع ليس مخالفاً للقياس، بل كل قياس يخالف ما جاء به الشرع فهو قياس باطل، لكنه قد يخفى دخول ذلك في القياس على بعض الناس فيظنه مخالفاً للقياس، فالصواب أن السلم على وفق القياس؛ لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري، أما المشتري فمصلحته أنه يحصل على أكثر، وأما البائع فمصلحته أنه يتعجل له الثمن.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (14064)؛ والطبري في تفسيره (6/ 43)؛ والحاكم (2/ 286)؛ والبيهقي (6/ 18)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(2)

سبق تخريجه ص (48).

ص: 49

ونقول فيما ادعي أنه على خلاف القياس: إنه على وفق القياس، ونبين ذلك، أو نقول: خالف القياس لمصلحة راجحة، والمحظور الشرعي إذا قابلته مصلحة راجحة أرجح منه أصبح جائزاً بمقتضى ترجح المصلحة، وإذا كان الشرع يحرم الشيء؛ لأن إثمه أكبر، فإنه يبيح الشيء إذا كانت مصلحته أكبر، ولهذا العبارة المشهورة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) هذه يجب أن تكون مقيدة بما إذا تساوت المفاسد والمصالح، أو غلب جانب المفاسد، وإلا فإنه قد يكون في بعض الأشياء مصلحة ومضرة فترجح المصلحة، فيحلل من أجل هذا الرجحان.

كذلك فإن السلم ينضبط بالصفات، ولهذا لا يصح فيما لا ينضبط بالصفات، فكيف يصح أن يكون مخالفاً للأصول وعلى خلاف القياس؟! بل هو القياس والأصول؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية واسعة سهلة ميسرة، والعقود فيها من هذه الجهة أربعة أنواع:

حالّ بحالٍّ، ومؤجّل بمؤجلٍ، ومؤجّل ثمنه معجّل مثمنه، ومعجّل ثمنه مؤجّل مثمنه.

الأول: الحال بالحال كأن تقول: اشتريت منك هذا الكتاب بعشرة ريالات، هذا حال بحال ولا إشكال فيه.

الثاني: المؤجل بمؤجل أن تقول اشتريت منك كتاباً صفته كذا وكذا تسلمنيه بعد سنة بعشرة ريالات مؤجلة إلى ستة أشهر، وهذا لا يصح؛ لأنه بيع كالئ بكالئ أي مؤخر بمؤخر.

الثالث: أن يعجل الثمن ويؤخر المثمن وهذا هو السلم.

ص: 50

الرابع: أن يعجل المثمن ويؤخر الثمن وهذا كثير في المعاملات.

ذكرنا الصورة الثانية: أن يكون كل من الثمن والمثمن مؤجلاً، وقلنا: هذا لا يصح، وهذا يقع كثيراً بين الناس اليوم، لكنهم لا يعلمون عن حكمه، فيشتري منه الشيء مؤجلاً ـ مثلاً ـ إلى سنة ثم يعطيه شيكاً مؤجلاً لمدة ستة أشهر، يعني لا يقبضه إلا بعد ستة أشهر.

فالثمن مؤجل والمثمن مؤجل، فهذا لا يصح؛ لأن كلًّا منهما مؤجل ولا بد أن يكون أحدهما أو كلاهما مقبوضاً، أما مع تأجيلهما فلا يصح.

فإن تأخر القبض بدون تأجيل، مثل أن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بمائة ريال ولم يسلمه، على أن يأتي به العصر أو الغد أو بعد غد لكن الثمن غير مؤجل هل يصح أم لا؟

المذهب: لا يصح، قالوا: لأن هذا بيع دَين بدين، إذ أنه ليس واحد منهما معيناً، لا عُيّن الثمن، ولا عُين المثمن.

ولكن الصحيح أن هذا صحيح، والمحظور أن يكون كل منهما مؤجلاً، أما إن لم يكن فيه تأجيل فإنه لا يشترط القبض، إلا شيئاً واحداً لا بد فيه من القبض، وهو بيع الربوي بجنسه.

فما السلم؟ هل هو بيع مستقل، أو نوع من البيع؟ الصحيح أنه نوع من البيع، لا يخرج عن كونه بيعاً.

ص: 51

‌وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى مَوْصوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ بِمَجْلِسِ العَقْدِ وَيَصِحُّ بِأَلفَاظِ البَيْعِ والسَّلَمِ والسَّلَفِ

قوله: «وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد» التعريف لا بد أن يكون جامعاً مانعاً وهو الحدّ، يعني يقال: تعريف، ويقال: حدّ، فهنا يصلح أن نقول: عَرَّفَ السَّلَم، ويصلح أن نقول: حَدَّ السلم، ويصلح أن نقول: تعريف السَّلَم كذا، وحدّ السلم كذا، والتعريف لا بدّ أن يكون جامعاً مانعاً، جامعاً لجميع أفراد المحدود، مانعاً لدخول غيره، فإن لم يكن مانعاً أو لم يكن جامعاً فإنه لا يصح.

فلننظر الآن إلى حد السلم:

قوله: «عقد على موصوف» احترازاً من المعين، فلا يصح السلم في المعين؛ لأنه لا حاجة إلى الإسلام فيه، ما دام حاضراً يباع بيعاً بدون أن يكون سلماً.

مثال ذلك: رجل عنده مائة صاع برٍّ في أكياس، فقال له آخر: أسلمت إليك مائة ريال بهذا البر، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس على موصوف، فهذا على معين، إذاً لا يصح، حتى وإن كانا قد اتفقا على أن البائع لا يسلم هذا البر إلا بعد سنة فإنه لا يصح ولا يكون سلماً.

وقوله: «في الذمة» احترازاً من الموصوف المعين؛ لأن هناك شيئاً موصوفاً معيناً ليس في الذمة، مثل أن يقول: أسلمت إليك أربعين ألفاً بسيارتك التي في الكراج، صفتها كذا وكذا، فهذا موصوف معين فلا يصح السلم فيه؛ لأن هذا كالمعين الحاضر، فالمؤلف اشترط أن يكون موصوفاً في الذمة.

ص: 52

أما إن قال: أسلمت إليك هذه الأربعين ألفاً بسيارة بعد سنة فهذا يصح؛ لأنه موصوف في الذمة، ولم يعينه وليست موصوفة معينة في مكان معين.

وقوله: «مؤجل» أيضاً لا بد فيه من التأجيل، فإن لم يكن مؤجلاً فإنه لا يصح سلماً.

مثال ذلك: أن يقول: أسلمت إليك مائة الريال التي بيدي الآن بمائة صاع بر، فحكم هذا العقد لا يصح سلماً؛ لأن السلم لا بد أن يكون مؤجلاً، والدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«فليسلف في شيء معلوم إلى أجل معلوم»

(1)

. فهل قوله: «إلى أجل معلوم» الشرط في الأمرين جميعاً أن يكون أجلاً وأن يكون معلوماً، أو الشرط عائد إلى المعلوم فقط؟

إن قلنا بالأول فلا بد أن يكون مؤجلاً، وإن قلنا بالثاني فلا يشترط التأجيل، ولكن إن أجلت فليكن الأجل معلوماً.

ومن ثم اختلف العلماء رحمهم الله فمنهم من قال لا بد أن يكون له أجل، ومنهم من قال: لا بأس أن يكون بدون أجل.

والذي يظهر لي أنه يصح بدون أجل، ونقول: سمّه ما شئت: سلماً أو بيعاً؛ لأن هذا ليس فيه غرر ولا ربا ولا ظلم، ومدار المعاملات المحرمة ـ أي: معاملات المعاوضة ـ على هذه الثلاثة، الرّبا والظلم والغرر، وهذا ليس فيه غرر، وليس فيه ظلم، وليس فيه ربا.

(1)

سبق تخريجه ص (48).

ص: 53

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إلى أجل معلوم» يعود إلى علم الأجل، يعني لا إلى أجل مجهول، وهو الراجح.

وقوله: «بثمن مقبوض» يعني لا بد أن يكون الثمن مقبوضاً، فإن لم يقبض بطل ولم يصح، وإن أجل فمن باب أولى أنه يبطل.

وقوله: «بمجلس العقد» يعني لا بد أن يقبض المسلم إليه الثمن بمجلس العقد، فإن قبضه بعد التفرق فلا يصح، وهل يشترط أن يكون في المجلس الذي وقع فيه العقد، أو المراد ألا يتفرقا قبل القبض؟

الجواب: الثاني، فالمراد ألا يتفرقا قبل القبض، فلو اتفقا على السلم في السوق، ثم اصطحبا إلى بيت المُسْلِم وأعطاه الثمن من بيته وهما لم يتفرقا فالسلم صحيح؛ لأنه حصل القبض قبل التفرق، فمراد المؤلف بقوله:«في مجلس العقد» أي: ما لم يتفرقا، كما قلنا في خيار المجلس يمتد إلى أن يتفرقا ولو فارقا مجلس العقد، فالمهم ألا يتفرقا.

وجواز السلم من محاسن الإسلام، ويدل على هذا أن الفلاحين فيما سبق يحتاجون إلى دراهم، فيأتي الفلاح إلى التاجر فيقول: أعطني ـ مثلاً ـ مائة ريال، فيقول: لا أعطيك، فيقول: أعطيك بعد تمام ستة أشهر أو سنة بالمائة ريال مائة صاع برّ، فينتفع هذا وهذا، المسلم إليه ـ أي: البائع ـ منتفع بالثمن الذي قدم له، والمُسْلِمُ انتفع بأنه سوف يكون الثمن أقل من بيع الحاضر، يعني إذا كانت مائة الصاع بر تساوي خمسين سيسلم إليه أربعين؛ لأنه لا بد أن ينتفع، ولو أراد أن يُسلم إليه بالثمن العادي

ص: 54

ما قبل؛ لأنه لو أسلم إليه بالثمن الحاضر صار كأنه قرض، فيقول: بدلاً من أن أعقد السلم وأتعب معك خذ قرضاً.

فصار كل من المسلِم والمسلَم إليه مستفيداً منتفعاً، أما المسلم إليه فينتفع بالدراهم التي حصل عليها، وأما المسلم فينتفع بنقص الثمن؛ لأنه سيأخذها بثمن أقل، فهو من محاسن الشريعة في الحقيقة.

قوله: «ويصح بألفاظ البيع» يصح السلم بألفاظ البيع بأن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بعد سنة بهذه الدراهم، وإذا أراد المسلَم إليه أن يعقده فقال: بعتك مائة صاع بر تحل بعد سنة بمائة ريال، فيصح بألفاظ البيع.

إذا قال قائل: كيف يصح بألفاظ البيع؟

نقول: نعم؛ لأنه نوع من البيع، فالبيع أعم منه.

قوله: «والسَّلَم والسَّلَف» أي: يصح بألفاظ السلم والسلف مع أن السلف يُطلق أحياناً على القرض، لكن لما كان العقد على هذا الوجه تعين أن يكون سلماً لا قرضاً.

والصواب أن جميع العقود تنعقد بما دل عليه اللفظ عرفاً وأنها لا تتقيد بشيء؛ لأن هذه الأمور لم يرد الشرع بتعيينها وتقييدها، وليست من أمور العبادة التي يتقيد الإنسان فيها باللفظ، ويستثنى من ذلك على المذهب عقد النكاح، فإنه لا يصح إلا بلفظ إنكاح وتزويج، أو قول السيد لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، ولكن الصواب ما ذكرناه، وأن جميع العقود تنعقد بكل ما دل عليها من قول أو فعل.

ص: 55

‌بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ: أحَدُهَا: انْضِبَاطُ صِفاتِهِ بِمَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَذْرُوعٍ وَأَمَّا المَعْدُودُ المُخْتَلِفُ كَالفَوَاكِهِ وَالبُقُولِ وَالجُلُودِ والرُّؤُوسِ والأوَانِي المُخْتَلِفَةِ الرُّؤُوسِ والأوْسَاطِ، كالقُماقِمِ والأَسْطَالِ الضَّيِّقَةِ الرُّؤُوسِ، والجَوَاهِرِ وَالحَامِلِ مِن الحَيَوَانِ، وكُلِّ مغْشُوشٍ،

.....

قوله: «بشروط سبعة» هذه الشروط قال بعض أهل العلم: إنها زائدة على الشروط التي للبيع؛ لأن هذه الشروط السبعة تشترط مع شروط البيع السابقة، فتكون زائدة على ذلك، ولكن الصحيح أن هذه الشروط بعضها داخل في شروط البيع السابقة وبعضها زائد عليها، وهي شروط للصحة ليست للزوم؛ لأن شروط اللزوم إنما هي الشروط في العقد، وأما شروط العقد فهي شروط لصحته.

قوله: «أحدها انضباط صفاته» أي: أن يكون انضباط صفاته ممكناً، وأما ما لا يمكن انضباطه فلا يصح السلم فيه لوجود الغرر والجهالة، ويحصل الانضباط بما ذكره المؤلف في قوله:

«بمكيل وموزون ومذروع» فقوله: «بمكيل» إما أن نجعل الباء بمعنى الكاف يعنى كمكيل وموزون ومذروع، وإما أن نجعل بمكيل، أي: بكيل مكيل؛ لأن انضباط صفاته بكيل ليس بمكيل، والمكيل هو الذي وقع عليه العقد، وانضباط الصفات يكون بالكيل والوزن والذرع، والظاهر أن المعنى الأول أحسن، وهو أن الباء بمعنى الكاف؛ لأنه سيأتي أن الصفات يمكن أن تنضبط بغير ذلك.

وقوله: «بمكيل» مثل البر.

وقوله: «وموزون» كاللحم، والسكر، وما أشبه ذلك.

وقوله: «ومذروع» كالأقمشة والفرش والحبال وما أشبهها.

وقد تقدم أنه يمكن الانضباط بالكيل وبالوزن وبالذرع؛ لأن

ص: 56

المكيال معروف، والصنجة التي يوزن بها معروفة، والذراع الذي يذرع به معروف.

لكن المعدود هل يصح فيه السلم؟

نقول فيه تفصيل: إذا أمكن انضباطه صح وإن لم يمكن فلا، فالبرتقال لا يمكن انضباطه؛ لأن بعضه صغير وبعضه كبير، والبطيخ لا ينضبط، وهلم جرّاً.

قوله: «وأما المعدود المختلف كالفواكه» فلا يصح السلم فيه؛ لأنه مختلف اختلافاً عظيماً، فبعض البرتقال مثل الأترج وبعضه مثل اليوسفي فتختلف اختلافاً عظيماً، فإذا قلت: أسلمت إليك مائة ريال بألف برتقالة فهذا لا يصح، إذ كيف نضبطها؟ لذلك لا يصح.

قوله: «والبقول» جمع بقل وهو الذي ليس له ساق من الزورع، مثل: البصل والكراث وما أشبه ذلك، فهذه ـ أيضاً ـ لا تصح؛ لأنها لا يمكن انضباطها، فأسلمت إليك مائة ريال بمائة حزمة من البصل، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يمكن انضباطه، لكن لو جعلتها وزناً صح؛ لأنها لا تختلف.

قوله: «والجلود» أيضاً لا يمكن انضباطها، إذا قلت: أسلمت إليك ألف ريال بمائة جلد شاة فهذا لا يصح؛ لأنها تختلف اختلافاً عظيماً بالكبر والصغر والقوة وحسن السلخ؛ لأن بعض الذين يسلخون يأتي الجلد وكأنه منخل؛ لأنه لا يعرف أن يسلخ؛ وبعضهم يكون سلخه جيداً، وبعضه يُلحِقُ اللحم بالجلد، فالمهم أنه لا يصح في الجلود، وقال بعض الفقهاء: إنه يصح في

ص: 57

الجلود، إذا قال مثلاً: جلد رَباعية أو ثنية وعين السن، فإن هذا لا بأس به؛ لأن الاختلاف فيه يسير.

قوله: «والرؤوس» أي: إذا أسلمت إليك ألف ريال بمائة رأس شاة بعد سنة، فهذا لا يصح؛ لأن الرؤوس تختلف لا شك، حتى لو قلت: مائة رأس شاة رباعية ـ مثلاً ـ فهنا لا يصح؛ لأنه يختلف، فبعض الضأن إذا رأيت رأسه تقول: هذا رأس بقرة تقريباً، وبعضه يكون صغيراً جداً، فالمذهب لا يصح، لكن لو بعتها وزناً يجوز؛ لأن الوزن يضبطها.

قوله: «والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقُماقم» القُماقم نوع من الأواني يكون أسفلها واسعاً وأعلاها ضيقاً، فالأواني قسمان: قسم مختلف الرؤوس والأوساط وهي التي تكون منتفخة في الوسط ورأسها مضموم، فهذه لا يصح السلم فيها؛ لأن الصناعة فيما سبق صناعة باليد وقل أن تنضبط الصفة، أما الآن فالصناعة بالآلات، فإذا قلت: أسلمت إليك بأوانٍ من طراز كذا وكذا فيمكن ضبطه، بل وأشد ضبطاً من المكيل والموزون، أما فيما سبق فلما كانت الأواني تصنع باليد كان ضبطها صعباً.

وفهم من قوله رحمه الله: «المختلفة الرؤوس والأوساط» أنه لو كانت رؤوسها وأوساطها سواءٌ لجاز عقد السلم عليها؛ لأنه يمكن ضبطها، فمثلاً إذا كانت مثل العمود يمكن ضبطها بالمتر، فإذا ضبطنا أعلاها انضبط أسفلها؛ لأنها لا تختلف، أما التي تختلف فلا يجوز السلم فيها لما سبق.

ص: 58

هذا فيما كان في زمانهم، وأما في زماننا فإنه يمكن ضبطها، لكن يحدد من أي شيء هي.

وقوله: «والأسطال الضيقة الرؤوس» الأسطال جمع سطل، وهو معروف، والأسطال بعضها ضيق الرأس بمعنى أن أسفلها أوسع، وبعضها بالعكس أعلاها أوسع، وبعضها متساوٍ أعلاها وأسفلها، أما التي تساوى أعلاها وأسفلها فالسلم فيها جائز وصحيح؛ لأنها تنضبط بالصفة وليس فيها غرر، وأما ضيقة الرؤوس فلا يصح السلم فيها لعدم انضباطها؛ لأنه قد يكون رأسها ضيقاً والنسبة بينه وبين أسفلها العشر ـ مثلاً ـ وقد يكون الخمس، وقد يكون أكثر فهي مختلفة، فإذا كانت الأسطال متساويةً أعلاها وأسفلها فالسلم فيها جائز، وكل هذا كما قلت فيما كانت الصناعة فيه باليد، أما إذا كانت الصناعة بالآلات كما هو الموجود الآن، فإنه يمكن انضباطها ولو كانت ضيقة الرؤوس، ولهذا فالأباريق المعروفة الآن يمكن أن تحكم عليها بالدقة إذا قلت: من نوع كذا حجم كذا فإنها سوف تنضبط تماماً.

قوله: «والجواهر» وهي ما يلقط من البحر، وهي لا يمكن أن يسلم فيها؛ لأنها لا يمكن انضباطها؛ لأن من الجواهر ما يصل إلى الآلاف، ومنها ما لا يساوي العشرات؛ ولذلك لا تباع بالصفة، فلا يمكن أن تباع الجواهر إلا بالمعاينة؛ لأن انضباطها بالصفة غير ممكن.

قوله: «والحامل من الحيوان» فلا يمكن السلم فيه؛ لأنه يندر

ص: 59

جداً أن تجد حاملاً يمكن ضبط صفاتها مع حملها، وإن أطلقت فقلت: حامل فقط فلا صفة؛ لأن الحامل إن أردت أن تصفها وتصف حملها فهذا متعذر، وإن أطلقت فهذا فيه غرر؛ لأن هناك فرقاً بين الحامل الكبير حملها والحامل الصغير حملها.

وعُلمَ من قوله: «والحامل من الحيوان» أنه يصح السلم في الحيوان؛ لأنه يمكن انضباط صفاته، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:«أن يأخذ على إبل الصدقة البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة»

(1)

، وهذا عكس السلم، لكن يدل على جواز البيع بالصفة بالنسبة للحيوان.

وهل يشمل الحاملُ من الحيوان الأنثى من بني آدم إذا كانت حاملاً؟ نعم يشمل؛ لأن الإنسان يسمى حيواناً، لكنه حيوان ناطق، إذ أن الحيوان ما فيه الروح، لكن لا بد أن تقيّده بالنسبة للآدمي بقولك ناطق، ولهذا يعتبر قول القائل: يا حيوان، لواحد من البشر سبّاً يعزر عليه؛ لأن الإنسان ليس بحيوان مطلقاً.

قوله: «وكل مغشوش» لا يصح السلم فيه، وهذا ـ أيضاً ـ يقال فيما سبق، فإنه كانت توجد فضة مغشوشة وذهب مغشوش، ولا يعلم قدر الغش، أما الآن فإن قدر الغش معلوم يحكم عليه

(1)

أخرجه الإمام أحمد 2/ 171، وأبو داود في البيوع/ باب في الرخصة في ذلك (3357)، والحاكم 2/ 56، والبيهقي (5/ 287) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه البيهقي، قال الحافظ في الدراية (2/ 159) في إسناده اختلاف، لكن أخرجه البيهقي من وجه آخر قوي، وحسنه الألباني في الإرواء (5/ 205).

ص: 60

بأدق ما يكون، فيقال: هذا الذهب من عيار كذا، وهذا من عيار كذا، وهذه الفضة فيها غش ونسبته كذا.

لكن إذا وجد مغشوشات أخرى لا يمكن انضباطها فلا يصح السلم فيها.

‌وَما يَجْمَعُ أخْلَاطاً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالغَالِيَةِ وَالمعَاجِينِ فَلَا يَصحُّ السَّلَمُ فِيهِ، وَيَصِحُّ فِي الحَيَوَانِ والثِّيَابِ المنْسُوجَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ، وَمَا خِلْطُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ كَالجُبْنِ وَخَلِّ التَّمْرِ والسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِهَا.

قوله: «وما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية» الغالية أنواع من الطيب تخلط وتجمع، وكذلك ما يجمع من الأدوية أخلاطاً غير متميزة، قالوا: لا يصح السلم فيه؛ لأن الخلط غير المتميز مجهول، فإذا كان مجهولاً فإنه لا يصح.

وعلم من كلامه أنه إذا كانت متميزة فلا بأس، مثل أن يقال: هذه الأخلاط عشرة في المائة من كذا، وعشرة في المائة من كذا، وعشرة في المائة من كذا، فهنا تكون متميزة، وكذلك لو تميزت بالرؤية لا بالنسبة، بحيث تكون أخلاطاً لكن معروفٌ أنها متميزة فتظهر حبات وما أشبه ذلك، وكل هذا يعود إلى ما سبق من إمكان انضباط الصفة، فالبيع بالصفة أضيق من البيع بالرؤية.

قوله: «والمعاجين فلا يصح السلم فيه» وهذه المعاجين يستعملها الناس للمرضى، فلا يصح السلم فيها والعلة الجهل؛ لأننا لا ندري ما قدر المخلوط في هذه المعاجين من هذا النوع ومن هذا النوع، فلا يصح السلم فيه؛ لأنه لا يمكن انضباط صفاته، والصحيح أنه يصح السلم فيها؛ لأنه وإن كانت النسبة مجهولة لكنها قليلة والغرض من ذلك منفعتها.

قوله: «ويصح في الحيوان» هذا مطلق، فيشمل أي حيوان

ص: 61

من إبل أو بقر أو غنم أو حُمُر أو ظباء أو أرانب، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بَكراً

(1)

، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على إبل الصدقة البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة

(2)

، فهذا دليل على جواز السلم في الحيوان، لكن لا بد من ضبطه، فيقال: ثني أو رباع أو جذع، سمين، ضعيف، متوسط، فلا بد أن يضبط، بكل وصف يختلف به الثمن.

وهل يستثنى من الحيوان شيء؟ نعم، الحامل كما سبق، فعليه يصح في الحيوان بشرط ألا يكون حاملاً.

قوله: «والثياب المنسوجة من نوعين» يصح السلم فيها مثل الخز منسوج من الحرير ومن القطن أو من الصوف، فيصح؛ لأن هذا معلوم وينضبط بالصفة فيصح السلم فيها.

قوله: «وما خِلطه غير مقصود كالجبن» الجبن فيه خلط وهو الإِنْفِحَّةُ، وهذه الإنفحة توضع في اللبن فيكون جبناً.

والإنفحة هي التي تكون في معدة الرضيع، الذي رضع أول مرة ثم ذبح، فهذا الذي في معدته جُبْن يجبِّن الأشياء، فلو وضعت منه شيئاً قليلاً في ماء وجدته يجمد، فهذا الجبن نقول: لا بأس به؛ لأن ما خلط فيه من الإنفحة غير مقصود.

قوله: «وخل التمر» يعني الماء الذي يوضع فيه التمر ليكون

(1)

سيأتي تخريجه ص (94).

(2)

سبق تخريجه ص (60).

ص: 62

خلاً فيصح السلم فيه، مع أن التمر غير معلوم لكنه غير مقصود، فالذي اشترى خل التمر إنما أراد الشراب (الخل) ولم يرد التمر، لكن قد يكون هناك فرق بين ما إذا كان التمر كثيراً فيزداد حلاوة، أو قليلاً فتنقص حلاوته.

قوله: «والسكنجبين» الظاهر أنه لغة غير عربية

(1)

، وهو نوع من الشراب، وعلى كل حال الضابط:(ما خلطه غير مقصود).

وكذلك ـ مثلاً ـ الخبز فيه الملح غير مقصود، فنأخذ بالضابط، وأما الأمثلة فلا عبرة بها.

قوله: «ونحوها» يعني فهذه السلم فيها صحيح؛ لأن خلطها غير مقصود.

‌الثَّانِي: ذِكْرُ الجِنْسِ والنَّوْعِ وَكُلِّ وَصْفٍ يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ ظَاهِرَاً وَحَدَاثَتِهِ وقِدَمِهِ

قوله: «الثاني» أي: من شروط السلم.

قوله: «ذكر الجنس والنوع» لا بد من معرفة الفرق بين هذه الأمور الثلاثة: الجنس والنوع والواحد بالعين.

الجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعاً.

والنوع: واحد الجنس.

والواحد بالعين: واحد النوع.

فالحب: جنس، والبر: نوع، وزنبيل من البر: واحد بالعين.

ففي السلم لا بد من أن نذكر الجنس والنوع، فإذا أسلمت

ص: 63

إليك في بر وقلت: هذه مائة ريال بمائة صاع بر توفيني إياه بعد سنة، فإن ذلك لا يكفي؛ لأنك لم تذكر الجنس، بل لا بد أن تقول: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حب بر، حَبٌّ: هذا جنس، وبر: هذا نوع، فلا بد أن تقول هكذا، فإن قلت: بمائة صاع بر لا يصح، هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو قول ضعيف.

والصواب: أنه لا يشترط ذكر الجنس؛ لأن ذكر النوع كاف، إذ أن مَنْ ذكر النوع فقد ذكر الجنس؛ لأن النوع أخص، والأخص يدخل في الأعم، فلا حاجة من ذكر الأعم، وهذا القول هو الراجح، بل هو ظاهر المذهب؛ لأن صاحب المنتهى ـ وهو العمدة في مذهب الإمام أحمد عند المتأخرين ـ لم يذكر ذكر الجنس، وعلى هذا فإذا قلت: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر فلا بأس، لكن هذا البر يحتاج إلى ذكر نوع أخص؛ لأن البر في الواقع أنواع كما أن التمر أنواع، فنذكر النوع فنقول: بر حنطة، أو بر معية، أو بر لقيمي، كما هو معروف من هذه الأنواع في القصيم، وبناء على ذلك نقول: هل لا بد من ذكر الجنس الأعلى ثم الأوسط ثم النوع؟ أو نكتفي بالجنس الأوسط؟

الجواب: الثاني، وعلى هذا فلا يحتاج أن نقول: حب؛ لأن هذا هو الجنس الأعلى، فإذا قال: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حنطة، فإنه يكفي على القول الذي رجحناه.

بهذا نعرف أن الجنس قد يكون نوعاً باعتبار ما فوقه، ففي المثال الذي ذكرناه حَبٌّ جنس أعلى، بُرٌّ جنس أدنى، حنطة نوع،

ص: 64

فالمقصود ذكر الجنس الأدنى، يعني أقرب جنس للنوع هو الواجب ذكره، وأما الأعلى فلا حاجة لذكره.

فمثلاً: أسلمت إليك في بهيمة الأنعام، وأنواعها ثلاثة: إبل، وبقر، وغنم.

بهيمة الأنعام جنس، ثم الإبل جنس أدنى، ثم كونها بخاتي ـ ذات سنامين ـ أو ذات سنام، أو ما أشبه ذلك، هذا نوع.

والغنم جنس، وكونها ضأناً أو ماعزاً نوع، قد يقال: إنه ربما ينشأ من هذه الأنواع أنواع أخرى، فقد يكون الماعز ـ أيضاً ـ أنواعاً، والمهم أنه لا بد أن تذكر الجنس الأدنى، والنوع الذي يليه وهو أخص شيء.

والصواب الذي لا شك فيه أنه يُكتفى بذكر أخص شيء. فمثلاً عندما نريد أن نسلم في تمر، فعلى كلام المؤلف لا بد أن نقول: تمر سكري، أي: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع تمر سكري.

والصحيح أنه يكفي أن نقول: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع سكري؛ لأنك إذا ذكرت النوع لزم منه ذكر الجنس.

قوله: «وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً» فمثلاً إذا كان ذا ألوان فتقول: أبيض، أو أحمر، أو أسود، وكذلك ـ أيضاً ـ إذا كان النسج في الثياب مختلفاً، يذكر الوصف الذي يختلف به الثمن اختلافاً ظاهراً، أما الاختلاف اليسير فإنه يعفى عنه؛ لأنه قل أن ينضبط الموصوف على وجه لا اختلاف فيه إطلاقاً،

ص: 65

ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: كل سلم يختلف لا بد؛ لأنه مهما كان الإنسان في دقة الوصف لا يمكن أن يدرك كل الأوصاف، فمثلاً نسلم في سيارة فنحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن الثمن يختلف به، ونذكر الموديل (الطراز)؛ لأن الثمن يختلف به، وهل هي غمارة أو غمارتان؟

ومما لا يختلف فيه الثمن ـ مثلاً ـ المسجل، فالسيارات تختلف فيه كأن يكون في بعض السيارات بالوسط، وفي البعض الآخر إلى جانب السائق، وكذلك يكون الحال في الساعة، بعضها يكون ـ مثلاً ـ فوق، وبعضها يكون أسفل، وبعضها يكون مائلاً للجانب الأيمن، وبعضها مائلاً إلى الجانب الأيسر، فهذه الأوصاف لا نذكرها؛ لأنها ليست ذات أهمية، ولا يرفع الإنسان بها رأساً، وكذلك بقية الأوصاف التي لا يختلف بها الثمن اختلافاً ظاهراً فإنه لا يجب ذكرها؛ لأن الإحاطة بها متعسرة.

قوله: «وحداثته وقدمه» يعني لا بد أن يذكر أنه جديد أو أنه قديم وهذا حق لا بد منه؛ لأن الثمن يختلف اختلافاً ظاهراً بين الجديد والقديم، فلا بد أن نقول في التمر؛ من تمر هذا العام، أو من تمر العام الماضي؛ لأنه يختلف اختلافاً ظاهراً، لكن كيف يكون من تمر العام الماضي؟!

الجواب: بأن يكون عنده مجبناً ـ يعني مكنوزاً في التنك ـ ويكون عنده قديم من العام الماضي، إذاً لا بد أن يذكر أنه جديد أو قديم.

ص: 66

ولا بد أن تذكر جودته ورداءته؛ لأن الجودة والرداءة يختلف بها الثمن اختلافاً ظاهراً.

‌وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الأرْدَأ وَالأجْوَدِ بَلْ جَيِّدٌ وَرَديءٌ، فَإنْ جَاءَ بِمَا شَرَطَ أو أجْوَدَ منه مِنْ نَوْعِهِ وَلَوْ قَبْلَ مَحِلِّهِ وَلَا ضرَرَ فِي قَبْضِهِ لَزِمَهُ أخْذُهُ.

قوله: «ولا يصح شرط الأردأ والأجود» أي: لو قال: من أجود ما يكون أو أردأ ما يكون، يقولون: إنه لا يصح.

مثاله: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حنطة أجود ما يكون، يقول المؤلف: لا يصح؛ لأنه ما من جيد إلا ويوجد أجود منه، وأجود ما يكون في هذا البلد قد يكون أردأ ما يكون في البلد الآخر، فماذا نعمل وهو يقول: أجود ما يكون؟! ثم حتى أجود ما يكون في البلد، قد يكون ما عرض في السوق أجود ما يكون في السوق، لكن في البيوت ما هو أجود منه، فاشتراط الأجود لا يصح.

والأردأ كذلك؛ لأنه ما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

القول الأول: ما قاله المؤلف أنه لا يصح شرط الأردأ ولا الأجود

(1)

؛ والعلة هي أنه ما من جيد إلا ويوجد أجود منه، والأردأ نفس الشيء فما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، إذاً فهذه الصفة لا يمكن تحقيقها، فلما لم يمكن تحقيقها صار كالذي لا يمكن انضباط صفاته كالجواهر وغيرها.

القول الثاني: يصح شرط الأردأ دون الأجود بأن يشترطه المسلم إليه، فإذا اشترط البائع الذي هو المسلم إليه أنه أردأ ما

(1)

وهو المذهب.

ص: 67

يكون ورضي المسلم، وقال: نجري العقد على أردأ ما يكون صحَّ، وهذا هو القول الصحيح؛ لأنه إذا قال: أردأ، وقال: هذا أردأ ما يكون، وقبل المسلم فالحق له، إذ أن المسلم لا يمكن أن يقول للمسلم إليه: اذهب فابحث عن أردأ من هذا، وإلا لا أقبل، وحتى لو أمكن أن يقول هكذا فقد قال الفقهاء رحمهم الله: لو جاء إليه بأجود من حقه لزمه القبول، وإذا كان كذلك فأي مانع يمنع من صحة هذا الشرط؟ مع أن هذا الشرط في نظري حسب الواقع لا يقع؛ لأن المسلم إليه لا يقول: أردأ ما يكون، بل سيقول: سأبيعك طعاماً ليس بأجود شيء.

القول الثالث: أنه يصح شرط الأردأ أو الأجود ويحمل على ما يكون في سوق البلد، أي أجود ما يكون في السوق وأردأ ما يكون في السوق، وهذا معروف عند أهل العرف، والاختلاف الذي يمكن أن يقع فيه اختلاف لا يضر؛ لأنه ما من سلم إلا ويختلف كما قال الإمام أحمد رحمه الله.

فالمسألة فيها ثلاثة أقوال أقطعها للنزاع وأقربها للصواب هو الثاني، الذي هو شرط الأردأ دون شرط الأجود؛ لأن شرط الأردأ لو أراد المسلم أن يلزم المسلم إليه بطلب ما هو أردأ فإنه لا يلزمه حتى على المذهب، وإذا كان لا يلزمه فما المانع؟!

قوله: «بل جيد ورديء» أي: يصح أن يقول: جيد أو يقول: رديء.

ولو قال قائل: إن كلمة «جيد ورديء» قد تكون أشد جهالة

ص: 68

من الأجود والأردأ؛ لأن المسلم إذا جاءه المسلم إليه بما عقدا عليه البيع، قال: هذا ليس بجيد هذا رديء، وذاك يقول: جيد فيحصل النزاع لكن مع ذلك قالوا: إن هذا يصح؛ لأن هذه الأوصاف يمكن الإحاطة بها، وإذا اختلفا في كونه جيداً أو رديئاً يرجع إلى أهل الخبرة في ذلك.

قوله: «فإن جاء بما شرط» يعني من جيد أو رديء.

«إن جاء» الفاعل يعود على المسلم إليه، وقوله:«بما شَرَط» أي: المسلم، لزمه أخذه.

قوله: «أو أجود منه من نوعه» يعني كان المشروط عليه تمراً وسطاً، فَحَلَّ الأجل وجاء المسلم إليه بتمر جيد، فقال المسلم: بيني وبينك تمر وسط والآن جئتني بجيد فأنا لا أقبل، فهنا يقول المؤلف: يلزمه القبول.

فإذا قال المسلم: كيف تجبرونني أن أقبل هبة بدون رضاي؟

قلنا: إن هذا المسلم إليه لم يأت إليك بعين زائدة، يعني ليس الذي عليه مائة صاع جاء بمائتين إنما جاء بزيادةِ وصفٍ، فالمشروط عليه وسط فجاء بجيد، فلم يأت بأكثر مما وجب عليه، وهذا عبارة عن هبة وصف فيلزمك قبوله، كما قلنا بأن المُبْرأ لا يشترط رضاه، إذاً يلزمه.

وقوله: «من نوعه» أي: بأجود منه من نوعه، فلو كان الإسلام في سكري وأتى إليه ببرحي، والبرحي أكثر قيمة من السكري فهل يلزمه قبوله؟

ص: 69

الجواب: لا يلزمه؛ لأنه ليس من نوعه، فهنا ليس الاختلاف اختلاف صفة بل اختلاف ذات؛ لأنه أتى بنوع آخر فهنا لا يلزمه، وإذا أتى بغير جنسه ـ مثلاً ـ كان الإسلام في بر، ثم أتى إليه بتمر فهذا لا يجوز.

إذن الأقسام ثلاثة:

الأول: إذا أتى بأجود منه من نوعه لزمه القبول.

الثاني: إذا أتى بأجود منه من جنسه لم يلزمه القبول، لكن يجوز له القبول.

الثالث: إذا أتى بغير جنسه حرم القبول.

الأمثلة:

الأول: أسلم إليه في سكري فجاء بسكري أجود، يلزمه القبول.

الثاني: أسلم إليه في سكري فجاء إليه ببرحي لا يلزمه القبول، ولكن يجوز له القبول.

الثالث: أسلم إليه في تمر سكري وجاء إليه ببر، فلا يجوز القبول، حتى لو رضي؛ والسبب قالوا: إنه إذا أخذ عنه بدلاً من غير الجنس صار ذلك بيعاً، وبيع المسلم فيه لا يصح قبل قبضه وهذا على قاعدة المذهب وسيأتي.

أما القسم الأول: فإننا نرى أنه لا يلزمه قبوله إذا جاء بأجود من نوعه؛ لأن ذلك قد يُفضي إلى منَّة عليه في المستقبل، فيقول: أنا لا أريد أن أتحمل قبول الطيب عن الرَديء؛ لأني أعرف هذا الرجل، غداً يقطع رقبتي في المجالس، فيقول: أنا

ص: 70

أوفيته بأحسن من حقه وهذا جزائي، فأنا أحسن إليه وأعطيه أحسن من حقه ثم هو يسيء إلي! وهذا واقع؛ لأن كثيراً من الناس الآن يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، ولذلك يقول المسلِم: أنا أريد أن يعطيني حقي ولا أريد غيره.

فنرى أنه لا يلزمه إلا إذا علم أن هذا الرجل لا يمكن أن يمن عليه في المستقبل بذلك، فربما نقول: يلزمه؛ لأن هذا من باب التيسير على أخيك؛ لأنه إذا قال: أنا لا أقبل هذا، فسيذهب يبيعه في السوق، ثم يشتري له حسب شرطه، وقد يحصل بهذا تعب، وقد تحصل فيه ـ أيضاً ـ أجور تربو على الفرق بين الجيد والوسط، فإذا لم يكن عليه ضرر بالمنة لزمه الأخذ وإلا لم يلزمه.

وأما القسم الثالث: فنرى ـ أيضاً ـ أنه إذا جاءه بشيء من غير جنسه ورضي الآخر فإنه لا بأس به، مثل أن يقول: هذه مائة صاع من البر بمائة صاع تمر سكري ورضي المسلم إليه، فنرى أنه لا بأس بهذا؛ لأن البر والتمر ليس بينهما ربا فضل، وهنا إذا أحضره هو وسلمه إياه انتفى ربا النسيئة، فأي محظور في هذا؟ فليس فيه ربا ولا ظلم ولا غرر.

فنحن نخالف الآن المؤلف في مسألتين:

الأولى: وجوب قبول الجيد عن الوسط من النوع.

الثانية: جواز أخذ غير الجنس إذا أحضره وصار القبض قبل التفرق؛ لأنه لا يتضمن رباً ولا ظلماً ولا غرراً.

ص: 71

قوله: «ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه» محِله بكسر الحاء بمعنى حلول، ومحَل بفتح الحاء بمعنى موضع أي: مكان، يعني: ولو قبل حلوله، فإذا قدرنا أنه يحل في رمضان وجاء إليه في رجب، لزمه قبوله، لكن اشترط المؤلف شرطاً وهو ألا يكون عليه ضرر في قبضه، والذي عليه الضرر هو المسلم، فإن كان عليه ضرر مثل أن يسلم إليه بتمر، أي: أعطاه دراهم على أن يأتيه بتمر في رمضان وجاءه بالتمر في رجب، فهنا جاء به قبل محله، فقال المسلم: لا أقبله، وقال المسلم إليه: تقبله؛ لأن هذا ثبت في ذمتي والتأجيل إرفاق بي، وأنا مسقط لهذا الإرفاق فلا بد أن تأخذه.

فقال المسلم: التمر الآن يملأ السوق، والتمر يكون رائجاً في رمضان، حيث يحتاج الناس إلى التمر في الإفطار، فالآن السعر نازل فعلي ضرر، ففي هذه الحال للمسلم أن يمتنع من قبضه؛ لأن عليه ضرراً.

وكذلك لو حدث خوف في البلد قبل حلول أجله، ـ مثلاً ـ حلول الأجل في رمضان، وحدث خوف في البلد في رجب، فجاء المسلم إليه بما أسلم فيه، فقال المسلم: أنا لا أقبله، البلد الآن مخوف وأخشى أن يُسطَى عليه ويؤخذ، فلا أقبله إلا في رمضان، فهل يلزم بقبضه؟

الجواب: لا؛ لأن عليه ضرراً، إذاً إذا جاء المسلم إليه بما وقع عليه العقد قبل حلوله لزم المُسلِمَ قبولُه، إلا أن يكون عليه

ص: 72

ضرر في قبضه، فلا يلزمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

.

وما هي العلة في وجوب القبول؟

الجواب: العلة: أن التأجيل إرفاق بالمسلم إليه، فإذا أسقط حقه من الإرفاق وقال: أنت جعلت الأجل إلى رمضان رفقاً بي، والآن أنا حصلت ما أسلمت إلي فيه فخذه، فهنا يلزم ذاك قبوله إذا لم يكن هناك ضرر؛ لأن في ذلك مصلحتين، مصلحة للمسلم ومصلحة للمسلم إليه، أما المسلم إليه فمصلحته تخلصه من هذا الدين وإبراء ذمته منه، وأما المسلم فلأنه عُجل له حقه، وما من أحد يعجل له حقه إلا كانت المصلحة له.

‌الثَّالِثُ: ذِكْرُ قَدْرِهِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ يُعْلَمُ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي المَكِيْلِ وَزْنَاً، أوْ فِي المَوزُونِ كَيْلاً لَمْ يَصِحَّ.

قوله: «الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعْلَم» يعني لا بد أن يذكر قدره بكيل في المكيل، ووزن في الموزون، وذرع في المذروع ولم يقل: أو عدٍّ؛ لأن العد فيه تفصيل، إن كان المعدود يختلف فإنه لا يصح الإسلام فيه، وإن كان لا يختلف صح الإسلام فيه.

قوله: «يعلم» يعني يعلم بين الناس ويكون معهوداً بينهم، لا أن يعلم بين الطرفين مثل الصاع والمد والرطل والوزنة والكيلو وما أشبه ذلك، فقوله:«يعلم» احترازاً مما لو قيد بشيء لا يعلم، مثل أن يقول: ملء هذا الإناء عشر مرات ـ مثلاً ـ لا يجوز؛ لأن هذا غير معلوم بين الناس؛ لأن هذا الإناء ربما يضيع، وحينئذ لا

(1)

سبق تخريجه ص (37).

ص: 73

يبقى لنا شيء نرجع إليه، فلو قال ـ مثلاً ـ المسلم للمسلم إليه: أسلمت إليك بمائة ملء هذا الإناء، فإنه لا يصح؛ لأنه ليس معهوداً وقد يضيع، وحينئذ يحصل النزاع، والشرع جاء بسد كل ما يوجب النزاع.

مسألة: لو عينه بصاع فلان؟ يقول الفقهاء: يجوز لكن يبطل التعيين، فما دام أن صاع فلان هو صاع الناس فلا فرق، إلا أن بعضهم قال: إذا كان صاع فلان معروفاً فإنه يلزم الأخذ بالتعيين، ولكن الصواب أنه لا يلزم التعيين؛ لأن صاع فلان هذا ربما يتلف.

قوله: «وإن أسلم في المكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً لم يصح» ؛ لأنه يجب أن يقدر بالمعيار الشرعي، فالبر ونحوه يقدر بالكيل، والسكر واللحم وما أشبه ذلك يقدر بالوزن، فلو أسلم في المكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً لم يصح، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

والصواب: أنه يصح أن يسلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً؛ لأنه معلوم، والتساوي هنا ليس بشرط، وإنما وجب في بيع الربوي بجنسه أن يقدر بالمعيار الشرعي؛ لأنه يشترط فيه المساواة، فلهذا لا يصح أن أبيع عليك وزن عشرة كيلوات من البر بعشرة كيلوات من البر؛ وذلك لأنه لا بد من التساوي في المعيار الشرعي، والمعيار الشرعي للحبوب ونحوها هو الكيل، وأما السلم فالمقصود انضباط الصفات والقدر، وهذا

ص: 74

يحصل فيما إذا أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً، فالصواب أنه يجوز، وهو أحد القولين في المذهب.

أما المعدود فإن كان لا يختلف يسلم فيه عداً، وإن كان يختلف يسلم فيه وزناً.

‌الرَّابِعُ: ذِكْرُ أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَهُ وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ فَلَا يَصِحُّ حَالًّا، وَلَا إِلَى الحَصَادِ وَالجَذَاذِ، وَلَا إِلَى يَوْمٍ إلاَّ فِي شَيْءٍ يأْخُذُه مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ كَخُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَحْوِهِمَا.

قوله: «الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن» هذه ثلاثة قيود: ذكر أجل، معلوم، له وقع في الثمن، ومعنى:«له وقع في الثمن» ، أي: له تأثير في الثمن بالزيادة أو النقص، وعلى هذا فإذا أسلم في شيء حالٍّ فإنه لا يصح السلم؛ لأنه لا بد من ذكر أجل، ولا بد ـ أيضاً ـ أن يكون الأجل معلوماً، بأن يقال: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر تحل في أول يوم من رمضان.

وقوله: «له وقع في الثمن» يعني له تأثير، فإن لم يكن له تأثير فإنه لا يصح الأجل؛ لأنه لا فائدة منه، وقد صرح المؤلف رحمه الله بمفهوم ذلك فقال:

«فلا يصح حالًّا» هذا مفهوم قوله: «إلى أجل» .

قوله: «ولا إلى الحصاد والجذاذ» هذا مفهوم من قوله: «معلوم» .

أي: لا يصح؛ لأن الحصاد والجذاذ غير معلومين، والناس منهم من يحصد مبكراً ومنهم من يتأخر، ومنهم من يجذ النخلة مبكراً ومنهم من يتأخر، وحينئذ يبقى الأجل مجهولاً.

ولكن الصحيح أنه يصح إلى الحصاد والجذاذ، وهو اختيار

ص: 75

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والمراد إلى زمن الحصاد والجذاذ وليس إلى الجذاذ نفسه أو الحصاد بل إلى زمنه، فإذا قال المسلم إليه: الآن بدأ الناس يحصدون أو يجذون فحينئذ يكون قد حل الأجل، وكأنك ترى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين إنما يوفون من النخل في الجذاذ، أو البر في الحصاد.

ولكن يمكن أن نتخلص من ذلك على المذهب بشيء بسيط، فننظر متى يكون وقت الجذاذ؟ فإذا قالوا: وقت الجذاذ في ربيع الأول، فنقول إلى ربيع الأول، وينتهي الإشكال، فنكون بذلك قد أتينا بالشرط الذي اشترطه هؤلاء بدون إخلال بالمقصود، وما دام الأمر يمكن أن يؤتى به على سبيل الاحتياط فهو أولى، إنما التحديد بالحصاد والجذاذ من حيث هو فالصحيح جوازه.

قوله: «ولا إلى يوم» لأنه ليس له وقع في الثمن، ولماذا اشترطنا أن يكون له وقع في الثمن؟ قالوا: لأن هذا هو الفائدة من السلم، أن المسلَم إليه ينتفع بالثمن المقدم، والمسلِم ينتفع بزيادة المبيع، فإذا لم يكن للأجل وقع في الثمن فاتت فائدة السلم، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«إلى أجل» ، فقيد السلف بالأجل، «ومعلوم» قيد الأجل بكونه معلوماً، وهذا الذي ذكره المؤلف هو ظاهر الحديث، وقد سبق أن الصحيح أن الحديث نص في اشتراط الأجل المعلوم، بمعنى أنه إذا كان مؤجلاً فلا بد أن يكون الأجل معلوماً، ويؤيد ذلك أن

ص: 76

الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

(1)

، فكأنه أراد أن يقول هذا الأجل الذي تجعلونه لا بد أن يكون معلوماً، فليس نصاً في اشتراط الأجل، وبناء على هذا القول قالوا يجوز السلم حالاً، وهذا قول لبعض أهل العلم.

وأما اشتراط أن يكون له وقع في الثمن، فليس في الحديث ما يدل عليه، ففي الحديث:«إلى أجل معلوم» ، وليس فيه قيد أن يكون له وقع في الثمن؛ ولذلك لم يشترطه كثير من الفقهاء، وقد تبين أن اشتراط أن يكون له وقع في الثمن مبني على تعليل، والتعليل ينظر فيه هل يكون صحيحاً فيقبل أو غير صحيح فلا يقبل؟ فمن نظر إلى ظاهر الحديث قال: هذا لا دليل عليه، ومن نظر إلى العلة التي من أجلها شرع السلم، قال: هذا الاشتراط لا بد منه؛ لأنه إذا كان من الصباح إلى المساء والأسعار لا تختلف في هذه المدة القصيرة فلا فائدة من السلم، فهو في الحقيقة كالذي ليس له أجل، وعلى كل حال فمثل هذه المسائل إذا لم يتبين فيها الدليل من الجانبين، فهل نراعي الأحوط أو نأخذ بالرخصة؟ قد يقال إن مراعاة الأحوط أحسن لا سيما إذا كان هذا الأحوط هو الذي يكون فيه الحكم إذا رفعت القضية إلى المحكمة؛ لأنك إذا صححت هذا الشيء، والحكم المشهور بين الناس خلاف ما صححت يؤدي إلى مفاسد في المستقبل، هذه

(1)

سبق تخريجه ص (48).

ص: 77

المفاسد قد تعود عليك أنت وقد تعود على غيرك، فإذا كنت لست ذا ثقة بين الناس فإنه يعود عليك أنت، يقال: هذا رجل لا يعرِف ولهذا أبطلت المحكمة ما أفتى به، وإذا كنت ذا قيمة صارت المضرة على المحكمة، واتهم القاضي بالقصور في العلم، أو بالميل إلى أحد المتخاصمين.

فلا بد من أن يكون أجل، والثاني: معلوم، والثالث: له وقع في الثمن.

مثال ذلك: أسلم إليه مائة ريال بمائة صاع بر تحل في أول يوم من رمضان، فهذا أجل معلوم له وقع في الثمن، فيصح، فإذا كان حالًّا فإنه لا يصح السلم في الحالِّ؛ وذلك لأننا نستغني ببيعه عن السلم فيه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله اختار جواز السلم الحال وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ لأنه إذا لم يصح أن يكون سلماً صار بيعاً، ومتى أمكن تصحيح العقود فإنه يجب.

قوله: «إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما» أي: إلا ما يؤخذ شيئاً فشيئاً، كما لو أسلم إليه في خبز، أو لحم يعطيه إياه تبدأ من الغد، فهذا لا بأس به؛ لأن غايته ستكون متأخرة إلى وقت يكون له وقع في الثمن.

‌الخَامِسُ: أنْ يُوجَدَ غَالباً فِي مَحِلِّه وَمَكَانِ الوَفَاءِ لَا وَقْتَ العَقْدِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ فَلَهُ الصَّبْرُ أَوْ فَسْخُ الكُلِّ أَوْ البَعْضِ، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ المَوْجُودَ أَوْ عِوَضَهُ.

قوله: «الخامس: أن يوجد غالباً» لأنه لا يمكن أن نقول يقيناً؛ لأن هذا الأمر مستقبل، والمستقبل لا يمكن لأحد أن يحكم عليه حكماً يقينياً.

قوله: «في محله ومكان الوفاء» ـ أيضاً ـ لا بد أن يكون

ص: 78

المسلم فيه مما يوجد غالباً في محله، أي: في وقت حلوله. وقوله: «ومكان الوفاء» هذا مكان الحلول، فاشترط المؤلف أن يوجد المسلم فيه في الزمن والمكان عند الحلول؛ فإن جعله إلى وقت لا يوجد فيه المسلم فيه فإنه لا يصح، مثل أن يسلم إليه في عنب يحل في الشتاء فهذا لا يصح؛ لأن العنب في الشتاء لا يوجد، لكن في وقتنا الحاضر يمكن أن يوجد بواسطة الثلاجات، فيكون كلام الفقهاء رحمهم الله مقيداً بهذا، فمتى وجد في محله ومكان الوفاء فإنه يصح.

وقوله: «ومكان الوفاء» ليس مكان العقد؛ لأنه ربما نتعاقد في عنيزة والوفاء يكون في الرياض، فلا بد أن يكون في الرياض، فالعبرة بمكان الوفاء لا مكان العقد. والدليل على هذا الشرط ما يفيده حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«كانوا يسلفون في الثمار السنة والسنتين» ، ومعلوم أن الإسلاف في الثمار إنما يكون في مكان وجودها، إذ كيف يسلف الإنسان في الثمار في مكان هي غير موجودة فيه؟! هذا من جهة، ومن جهة أخرى التعليل؛ لأنه إذا لم يوجد في مكان الوفاء، وزمن الوفاء، أدى ذلك إلى التنازع والخصومة بين المسلم والمسلم إليه.

قوله: «لا وقت العقد» يعني لا يشترط أن يكون المسلم فيه موجوداً وقت العقد؛ وذلك لأن المسلم فيه متعلق بالذمة لا بشيء معين، فإذا حدده بأجل يوجد فيه، فإنه لا يشترط أن يكون موجوداً وقت العقد وإنما نص على ذلك «لا وقت العقد» ؛ لنفي الخلاف في هذه المسألة، فإن من أهل العلم من قال يشترط أن

ص: 79

يكون المسلم فيه موجوداً في وقت العقد وفي وقت الوفاء، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ولكن لا دليل عليه.

فإن كان لا يوجد في وقت الوفاء لكن يوجد في مكان آخر، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح؛ وذلك لما يترتب عليه من المشقة في تحصيله من مكان آخر.

قوله: «فإن تعذر أو بعضه فله الصبر، أو فسخ الكل أو البعض، ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه» يعني لو أنه جعل السلم ينتهي إلى وقت يوجد فيه المسلم فيه لكن تعذر، إما أن تكون الثمار قد أصابتها جوائح ولم يتمكن من الوفاء، أو عدا عليها جند وأخذوها، ففي هذه الحال نقول للمسلم: أنت بالخيار، إن شئت فسخت العقد ورجعت بالثمن، وإن شئت أبقيت العقد حتى يقدر المسلَم إليه على تسليمه إليك، ولهذا يقول المؤلف رحمه الله:«أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود» والثمن الموجود مثل أن يكون دراهم أسلم فيها إلى المسلم إليه.

وهل يملك الفسخ في البعض؟ يقول المؤلف: نعم؛ لأن من ملك الفسخ في الكل ملك في الجزء؛ إذ أن الجزء بعض الكل، ونضرب مثلاً لذلك: أسلم إليه مائة درهم بخمسين صاعاً من البر تحل في جمادى الثانية، وجاء جمادى الثانية وإذا الثمار قد أصيبت بآفات أتلفتها، نقول للمسلم: أنت بالخيار إن شئت فسخت العقد في الكل وإن شئت فسخت في البعض، وأعطيناك ما يقابله من الثمن، فإذا قال: أنا أسلمت في خمسين وأنا

ص: 80

فسخت العقد في نصفها فنرد إليه خمسين درهماً، فإن قال: فسخت في الكل فإنه يرد المائة كاملة، فإن كان المسلم إليه قد أنفق الثمن ولم يبق عنده منه شيء، قال المؤلف: يأخذ عوضه، والعوض مثله إن كان مثلياً وقيمته إن كان متقوماً.

‌السَّادسُ: أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ تَامّاً مَعْلُوماً قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَإِنْ قَبِضَ البَعْضَ ثُمَّ افْتَرَقَا بَطَلَ فِيمَا عَدَاهُ. وَإنْ أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ عَكْسُه صَحَّ إِنْ بَيَّنَ كُلَّ جِنْسٍ وَثَمَنَهُ وَقِسْطَ كُلِّ أَجَلٍ.

قوله: «السادس: أن يقبض الثمن تامّاً» الفاعل المسلَم إليه، وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في شيء فليسلف»

(1)

، فإن هذا يقتضي أنه لا بد من أن يقبض الثمن تامّاً، ومن المعنى أنه إذا لم يقدم الثمن فقد يتأخر، وحينئذ يكون الضرر على المسلم إليه؛ لأنه سيعطي المسلم أرخص مما يعطي الناس في مقابل تقديم الثمن، فإذا تأخر الثمن خسر مرتين، المرة الأولى حين غلب فاشتري منه ما يساوي عشرة بثمانية، والمرة الثانية حينما تأخر عليه قبض الثمن فلم ينتفع به، ثم إنه يسمى سلماً وسلفاً وهو مشتق من التقديم، فإذا أخر صار منافياً لما اشتق منه، فيدل على هذا الشرط المعنى واللفظ والأثر.

قوله: «معلوماً قدره» هذا في الكمية.

قوله: «ووصفه» هذا في الكيفية، يعني لا بد أن يقبض الثمن تامّاً معلوماً قدره ومعلوماً وصفه، ولا يكفي أن يقول: أسلمت إليك هذا الشيء المعين بكذا وكذا، بينما لو قلت: بعت عليك هذا الشيء المعين، ولو لم يعلم وصفه، يجوز لكن هذا لا بد أن يكون معلوماً وصفه، أي مما يمكن ضبطه بالوصف؛ وذلك من أجل الرجوع إذا تعذر الوفاء إلى هذا الثمن المعلوم قدره ووصفه؛ لأنه إذا كان غير مضبوط بالوصف يبقى الأمر مجهولاً.

(1)

سبق تخريجه ص (48).

ص: 81

قوله: «قبل التفرق» لا بد ـ أيضاً ـ أن يكون القبض قبل التفرق من مجلس العقد، ولو قمنا عن المكان ومشينا جميعاً، مثل أسلمت إليه بمائة درهم مائة صاع من البر، ولكن ليس معي مائة الدرهم، فمشينا جميعاً إلى أحد أصدقائي وتسلفت منه مائة الدرهم وأعطيتها الرجل يجوز؛ لأننا لم نتفرق.

وعندنا قاعدة وهي: أنه يشترط في الثمن والمثمن ألا يكون بينهما ربا نسيئة، فإن كان بينهما ربا نسيئة لم يصح إسلام أحدهما في الآخر؛ لأن ما يجري فيهما ربا النسيئة يشترط فيهما التقابض، والسلم يشترط فيه التأخير، وهذا من التضاد، فلو أسلمت براً بتمر لم يجز، ولو أسلمت ذهباً في فضة لم يجز.

قوله: «وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه» البعض، أي بعض الثمن، فإذا قدر ـ مثلاً ـ أنه أسلم ألف درهم بمائة صاع بر، وسلمه خمسمائة درهم فقط، فالذي يصح خمسمائة فيقابلها خمسون، والباقي لا يصح؛ لأنه لا بد من قبض الجميع، فما لم يقبض لا يصح، وهذا مبني على ما سبق من القول الصحيح من تفريق الصفقة، وأما إذا قلنا بعدم تفريقها، لم يصح في الجميع.

قوله: «وإن أسلم في جنس إلى أجلين» مثاله: أسلم بألف ريال إلى شخص في بر، ولكنه جعل بعضه يحل في رجب، والبعض الثاني يحل في شوال، فقد أسلم في جنس إلى أجلين.

قوله: «أو عكسه» أسلم في جنسين إلى أجل واحد، بأن أسلم في بر وشعير إلى أجل واحد.

ص: 82

قوله: «صح إن بيَّن كل جنس وثمنه» كأن يقول: مائة صاع بر وشعير بألف درهم؛ فلا بد أن يبين مقدار كل جنس، فيقول مثلاً: خمسون صاعاً من البر وخمسون صاعاً من الشعير، ولا بد ـ أيضاً ـ أن يبين ثمنه، ـ مثلاً ـ خمسون صاعاً من البر يقابلها ستمائة من الألف، وخمسون صاعاً من الشعير يقابلها أربعمائة من الألف، لا بد من هذا حتى إذا تعذر البعض يعرف قسطه من الثمن، وإذا كان الأمر مجهولاً أدى إلى النزاع.

قوله: «وقِسْطَ كل أجل» هذا فيما إذا أسلم في جنس إلى أجلين، بأن يقول: أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع بر إلى أجلين، لا بد أن يبين قسط كل أجل، فمثلاً يقول: الأجل الأول خمسون، والثاني خمسون؛ وذلك أنه إذا حصل اختلاف، أو تعذر وفاء نرجع إلى ما عُين.

وعلى كلام المؤلف لا يحتاج أن يبين قسطه من الثمن؛ لأنه سيقسط عليه بالقسط؛ لأنه معروف.

‌السَّابِعُ: أَنْ يُسْلِمَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي عَيْنٍ. وَيَجبُ الوَفَاءُ مَوْضعَ العَقْدِ، وَيَصِحُّ شَرطُهُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ عُقِدَ بِبَرٍّ أَوْ بَحْرٍ شَرَطَاهُ. وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَا هِبَتُهُ وَلَا الحَوَالَةُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ وَلَا أَخْذُ عِوَضِهِ، وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ وَالكَفِيْلُ بِهِ.

قوله: «السابع: أن يُسلم في الذمة» أي: ذمة المسلم إليه.

قوله: «فلا يصح في عين» بأن يقول: أعطيتك مائة درهم بمائة كيلو بر، فإن أسلم في عين بأن قال: أسلمت إليك مائة درهم بهذه العين فإنه لا يصح؛ لأنه ما دام المسلم فيه معيناً فلا حاجة فيه إلى السلم، يعطيه الدراهم ويأخذ هذا الشيء، ولا يبقى وديعة عند البائع، لا يستفيد منه البائع ولا يستفيد منه المشتري، ولأنه قد يتلف قبل حلول الأجل.

ص: 83

وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصح سلماً في عين ولكنه يصح بيعاً، وهذا يرجع إلى قاعدة وهي: هل إذا وقع العقد على صورة تخالف ذلك العقد ولكنها تصح على وجه آخر، هل نقول بالصحة أو نقول بالبطلان؟ معلوم أني لو بعت عليك هذا الشيء المعين جاز، ولكن لو أسلمت إليك فيه فإنه لا يجوز، فهل نقول: لما تعذر تحقيق السلم في هذا المعين يتحول العقد إلى بيع؛ أو نقول لا يصح؛ لأن السلم له أحكام خاصة به، والبيع له أحكام خاصة به؟ المذهب هذا، وذكر ابن رجب في القواعد أن المسألة فيها قولان في المذهب، قول بالصحة وأنه ينزل على العقد الذي يصح عليه، وقول ثان أنه لا يصح وهو المذهب.

ولكن هذا الشرط فيه نظر، بل إنه يصح أن يسلم في عين، وتبقى هذه العين عند المسلم إليه حتى يحل أجلها؛ لأن عموم قول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، يشمل هذا، والأصل الصحة حتى يقوم دليل على الفساد.

مسألة: إذا قال: أسلمت إليك في هذا البستان فلا يصح ـ أيضاً ـ على المذهب؛ لأنه ليس في الذمة، وهذا البستان قد يثمر وقد لا يثمر، وإذا كان الشارع نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فهذا من باب أولى، ولكن يصح أن يسلم في بساتين القرية عامة، مثل أن يقول: أسلمت إليك في ثمر هذا البلد؛ لأن بعض البلدان يكون ثمره جيداً؛ وذلك لأن تخلف الثمر في البلد

ص: 84

أمر نادر بعيد، والنادر لا حكم له، بخلاف ما إذا كان في بستان معين فقد يتخلف كثيراً، ولذلك لا يصحِّحونه.

وقيل: يصح أن يسلم في بستان معين بشرط أن يكون أقل مما يثمر عادة، فإذا قدر أن هذا البستان يأتي بألف كيلو، فيكون السلم بثمانمائة ونحوه احتياطاً، ولكن لو قلت: بألفي كيلو، فهذا لا يجوز؛ لأن ما زاد على ما يثمر عادة كالمعدوم بل كالموهوم في الواقع. فصار عندنا الآن ثلاث مراتب: في شجرة معينة، في بستان معين، في البلد، أما في البلد فيصح، وأما الشجرة المعينة فلا يصح، وأما البستان المعين ففيه خلاف.

قوله: «ويجب الوفاء موضع العقد» يعني لو أسلم إلى شخص في عنيزة مائة درهم بمائة صاع بر، ولم يذكر محل الوفاء، فإن الوفاء يكون في مكان العقد، فلو قال المُسلِمُ: أنا أريد أن تعطيني إياه في بريدة، لم يلزمه؛ لأن الواجب أن يكون في موضع العقد.

قوله: «ويصح شرطه في غيره» أي: في غير موضع العقد، لو عقد السلم في عنيزة، وقال: أريد أن يكون الوفاء في بريدة ـ مثلاً ـ، فإنه يجب الوفاء بالشرط ما لم يتسامحا، فإن تسامحا فالحق لهما.

إلا إذا شرطناه في مكان لا يمكن الوصول إليه، كما لو قلت: بشرط أن توفيني إياه على سطح القمر فإنه لا يمكن، فإن لم يشترط في غير مكان العقد، فإنه في مكان العقد، حتى وإن لم يكن مكان العقد بلداً لهما، فلو تعاقدا عقد سلم في مكة وهما حجاج وحل الأجل، فالواجب أن أوفيه بمكة وإن لم تكن مكة بلداً لهما، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن المرجع في ذلك

ص: 85

إلى العرف، فيجب الوفاء في المكان الذي دل العرف على وجوب الوفاء به، ومعلوم أنه إذا عقدا السلم في مكة وهما حجاج، فإن العادة أنه يوفي في مكان المسلِم، ولكن على المذهب نتخلص من ذلك بأن نشترطه في بلد المسلِم.

قوله: «وإن عقد بِبَرٍّ أو بحر شرطاه» أي وجب أن يشترطا مكان الوفاء؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يوفي في البحر أو في البر وليس البلد الفلاني أولى من البلد الفلاني، فيجب أن يعينا مكان الوفاء، فمثلاً: لو أن شخصاً أسلم إلى آخَرَ مائة درهم بمائة صاع بر في البَرِّ وهو قادم من مكة ـ مثلاً ـ، نقول: في هذه الحال لا بد أن يذكر مكان الوفاء، وكذلك لو كانا في سفينة في البحر، وتم العقد بينهما في السفينة فإنه لا بد أن يُذكر محل الوفاء؛ وذلك لتعذر الوفاء في البر والبحر.

والقول الثاني في المسألة: أن يرجع في ذلك إلى العرف، والعرف أن يسلم في بلد المسلِم، وعلى هذا فلا حاجة إلى التعيين اعتماداً على ما جرى به العرف.

مسألة: لو عقداه في بلد ثم توافقا في بلد آخر، وأوفى المسلَمُ إليه المسلِمَ، فهل يجب القبول أم لا؟ مثلاً أسلم إليه في المدينة توافقا في مكة وأوفاه المسلَم فيه في مكة، فلا يجب عليه القبول، فإن قبل باختياره فلا بأس وإلا فلا.

ولو طلب المسلِم من المسلَم إليه أن يوفيه إياه في مكة وأبى فهل يُلزمه بذلك؟ لا يلزمه؛ لأن الواجب أن يوفي في مكان العقد، فلو قال أنا أوفيك إياه في مكة لكن أضيف إليه الأجرة، فالمذهب لا يجوز أن يوافق؛ لأن المسلم فيه لا يزاد ولا ينقص، فنقول بدون أجرة وإلا فلا.

ص: 86

قوله: «ولا يصح بيع المسلَم فيه قبل قبضه» سواء بيع على المسلم إليه أو على رجل أجنبي؛ لأنه بيع دين في ذمة الغير، والمشتري قد يتمكن من القبض وقد لا يتمكن، ولحديث:«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره»

(1)

، لكن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به.

فإن قال قائل: إذاً هل يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه؟

فالجواب: نعم يجوز بيعه على المسلم إليه، وعند شيخ الإسلام يجوز بيعه حتى على أجنبي، لكن فيه نظر؛ لأنه حقيقة إذا بعته على غير من هو عليه قد يتعذر عليه أخذه، ثم إذا بعته على غير من هو عليه بما يباع نسيئة معناه ما قبضه، فالتوسع غير ظاهر لي جداً، وشيخ الإسلام يجوز بيع الدين على غير من هو عليه، ولكنه يشترط القدرة على أخذه، لكن إن باعه على المسلم إليه فإنه يشترط ثلاثة شروط:

الأول: ألا يربح، بأن يبيعه بسعر يومه؛ لأنه لو باعه بأكثر من سعر يومه لربح فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن

(2)

، فمثلاً أسلم في مائة صاع بُر حلَّت وقيمتها عند الوفاء مائتا درهم فقط، فقال: أبيعها عليك بمائتين وخمسين درهماً، لا

(1)

أخرجه أبو داود في البيوع/ باب السلف يحول (3468)، وابن ماجه في التجارات/ باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (2283). قال الحافظ:«فيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان» . «التلخيص» (1203)، وانظر:«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (884)، و «نصب الراية» (4/ 51).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 174)، وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234)، والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/ 295)، وابن حبان (4321) والحاكم (2/ 17) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

ص: 87

يجوز؛ لأنه ربح في هذا البر قبل أن يدخل في ضمانه؛ لأنه لم يملكه ولم يقبضه، فيكون قد ربح فيما لم يضمن، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها»

(1)

، حتى لا يربح فيما لم يضمن، فإن كانت مائة الصاع تساوي مائتي درهم وباعها عليه بمائة وخمسين يجوز؛ لأنه إذا جاز بسعر يومها فبما دونه من باب أولى، ولأننا عللنا منع الزيادة بألا يربح فيما لم يضمن، وهذا لم يربح بل خسر، والمراد بقوله «بسعر يومها» ألا تزيد، فإن نقصت فقد فَعَلْتَ خيراً.

الشرط الثاني: أن يحصل التقابض قبل التفرق فيما إذا باعه بشيء يجري فيه ربا النسيئة، مثاله: أن يبيع البر بشعير، مائة صاع بر بمائتي صاع شعير، فهذا جائز بشرط التقابض قبل التفرق؛ لأن بيع البر بالشعير يشترط فيه التقابض قبل التفرق، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» لأنه يبيع دراهم بدنانير أو دنانير بدراهم، وبيع الدراهم بالدنانير يشترط فيه التقابض قبل التفرق.

الشرط الثالث: ألا يجعله ثمناً لسلم آخر؛ لأنه إذا جعله ثمناً لسلم آخر فإن الغالب أن يربح فيه، وحينئذ يكون ربح فيما لم يضمن، مثاله: حل السلم مائة صاع من البر، فقالا: سنجعلها

(1)

أخرجه الإمام أحمد 2/ 83، 139، وأبو داود في البيوع/ باب اقتضاء الذهب من الورق (3354) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الصرف (1242) والنسائي في البيوع/ باب بيع الفضة والذهب (7/ 281)، وابن ماجه في التجارات/ باب اقتضاء الذهب من الورق (2262) وصححه ابن حبان (18620) إحسان، والحاكم (2/ 44) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصوب شعبة والترمذي والبيهقي (2/ 284) أنه موقوف ورجحه الحافظ في الدراية (2/ 155).

ص: 88

سلماً في خمس من الغنم ـ لأن السلم في الحيوان يجوز كما سبق ـ خمس من الغنم صفتها كذا وكذا تحل بعد سنة، فهذا لا يجوز؛ لأن الغالب أنه لا يفعل هذا إلا بربح، وأن هذه الغنم الخمس تساوي مائة وعشرين صاعاً؛ ولأنه يؤدي إلى قلب الدين بحيث يكون كلما حل دينه جعله سلماً آخر، وهذا حيلة على قلب الدين وازدياده في ذمة المدين بهذه الطريقة، وكلما حل الدين قال: اجعله سلماً آخر، وهكذا حتى تتراكم عليه الديون، فالراجح أن بيعه جائز لكن بالشروط الثلاثة المذكورة، أما المذهب فإن بيعه لا يجوز مطلقاً ودليلهم حديث:«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره»

(1)

كما سبق، لكن هذا الحديث ضعيف كما حققه ابن القيم في تهذيب السنن، وعلى تقدير صحته فإنه يتعين أن يكون معناه من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره، أي: إلى سلم غيرِهِ، أي: لا يجعله رأس مالٍ لسلم جديد، وأما إذا قلنا: إن الحديث ليس بصحيح فإن بيعَهُ الأَصلُ فيه الحِلُّ؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولأن حديث ابن عمر رضي الله عنها يدل على جواز مثل هذه المعاملة؛ إذ لا فرق بين دين السلم وغيره، ومن ادعى فرقاً بين دين السلم وغيره فليأت به.

قوله: «ولا هبته» أي هبة المسلم فيه فلا يجوز أن تهبه، وهذه العبارة تحتها نوعان:

الأول: أن يهبه لمن هو عليه.

الثاني: أن يهبه لرجل آخر، وعموم كلام المؤلف يشمل هذا

(1)

سبق تخريجه ص (87).

ص: 89

وهذا، فلا يجوز أن تهب المسلَم فيه لمن هو عليه، ولا لرجل آخر، أما هبته لمن هو عليه فقالوا: إن هذا داخل في قوله: «فلا يصرفه إلى غيره»

(1)

، وأيضاً الهبة تقتضي عيناً مملوكة تعطيها لشخص.

والجواب: أما الحديث فقد قال: «فلا يصرفه إلى غيره» وهذا لم يصرفه إلى غيره، وأما التعليل فنقول: إنه إذا وهب المسلم فيه لمن هو عليه، وقال: وهبتك ما في ذمتك من البر، فهذه الهبة بمعنى الإبراء، وهم قد ذكروا في باب الهبة أن من أبرأ غريمه بلفظ الإبراء أو الهبة أو الإسقاط أو ما أشبه ذلك برئ، فكيف تجيزون الإبراء بلفظ الهبة في الديون ولا تجيزونه في دين السلم؟! أليس دين السلم من جملة الديون؟! فلا شك أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه جاز؛ لأن أكثر ما فيه أنه أبرأه منه، والإبراء خير وإحسان فكيف نمنعه؟!

أما إذا وهبه لغيره، مثل أن يأتي رجل فقير إلى المسلِم، فيقول: أنا محتاج إلى قوت فقال له: عند فلان لي سلم، مائة صاع بر، وهبتك إياها، فعلى رأي المؤلف لا يصح؛ لأنه لم يقبض السلم ولم يصر ملكاً له حتى يهبه، ولكن الصحيح أنه يصح؛ لأن هذه المعاملة ليس فيها ضرر إطلاقاً، فكأنه أحاله على هذا الرجل يقبض الحق منه ثم يتملكه لنفسه، وأي مانع شرعي يكون في هذا؟! وليس هناك غرر فلو كان بيعاً نعم، إذا باع المسلَم فيه لغير المسلم إليه ربما يتعذر قبضه ويصير فيه جهالة، لكن في الهبة، فالموهوبُ له إما غانم أو سالم، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه يجوز هبة المسلم فيه، سواء وهبته للمسلم إليه أو لآخر.

(1)

سبق تخريجه ص (87).

ص: 90

قوله: «ولا الحوالة به» مثل أن يقول المسلم إليه للمسلم: أحلتك بدينك على فلان؛ لأني أطلبه، فهذه حوالة به، أي: لما حل الأجل جاء المسلِم إلى المسلَم إليه وقال: أعطني السلم، قال: إن فلاناً عنده لي مائة صاع بر على قدر ما أنت تطلبني وإني أحيلك به عليه، فيقول المؤلف: إنه لا يصح؛ لأنه ربما يؤدي إلى أخذ شيء من غير جنسه ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.

قوله: «ولا عليه» أي: الحوالة عليه، وذلك بأن يكون المسلم في ذمته دين لشخص، فلما جاء يطلبه قال: أحيلك على فلان؛ لأن في ذمته لي مائة صاع بر سلماً، فيقول المؤلف: لا يصح؛ لأن هذا يقتضي صرف المسلم فيه إلى غيره وقد ورد النهي عنه؛ ويعللون بأنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً ودين السلم ليس مستقراً؛ لأنه سبق أنه إذا تعذر الوفاء فله الصبر أو الفسخ، فنقول: في الواقع إنه مستقر؛ لأن هذا المحال إذا حل الأجل ولم يجد شيئاً فله الصبر أو الفسخ ويرجع بالثمن.

وأما الحديث فلا دلالة فيه؛ لأنه إما ضعيف أو متأول كما سبق.

والصواب أنه يصح، فيصح أن يحال به وأن يحال عليه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحيل بدينه على مليء فليتبع»

(1)

.

قوله: «ولا أخذ عوضه» أليس هذا هو البيع، وقد سبق أنه لا يجوز بيعه؟ فنقول: المراد بالبيع فيما سبق إذا باعه بالنقود،

(1)

أخرجه البخاري في الحوالات/ باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟ (2287)، مسلم في البيوع/ باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة (1564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 91

أما أخذ العوض هنا إذا اعتاض عنه بغير النقود فلا يجوز؛ وذلك نظراً لأنهم جاؤوا بعبارتين فلا بد أن ننزل كل واحدة على معنى يخالف الأخرى حتى لا يكون في ذلك تكرار، فنقول: ولا أخذ عوضه فيما إذا اعتاض عنه ما ليس بنقد، فلا يجوز، أي: لو أنه لما حل الأجل قال المسلِم للمسلَم إليه: في ذمتك لي مائة صاع بر، وأريد أن تعطيني شعيراً أو أرزاً فإن هذا لا يصح؛ لأنه حوله وصرفه إلى غيره، ولحديث:«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره»

(1)

، لكن كما سبق أن هذا الحديث غير صحيح، وعليه فإذا أخذ عوضه فلا بأس لكن بالشروط الثلاثة السابقة.

قوله: «ولا يصح الرهن والكفيل به» أي: لو أن المسلم قال للمسلم إليه: أنا أريد أن ترهنني شيئاً أتوثق به، فقال: أرهنك نخلي، أو أرهنك سيارتي، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يصح؛ لأنه عند تعذر الوفاء يرجع المسلم إلى هذا الرهن، فيكون قد صرف السلم إلى غيره.

وكذلك لا يصح أخذ الكفيل به؛ لأنه إذا تعذر الوفاء من المكفول أخذ من الكفيل، وحينئذ يكون المسلم فيه قد صُرف إلى غيره، وهذا ضعيف أيضاً؛ لأنه إذا تعذر الاستيفاء من المكفول وأخذته من الكفيل لم أصرفه إلى غيره، صحيح أنه انتقل من ذمة إلى ذمة، وأما المسلم فيه فهو نفسه لم أصرفه إلى غيره.

فالصواب إذاً جواز أخذ الرهن والكفيل والضمين به، كلها جائزة؛ لأنه ليس فيها محظور ولا ربا ولا ظلم ولا غرر ولا جهالة، وهذه عقود توثقة والأصل في العقود الحل.

(1)

سبق تخريجه ص (87).

ص: 92

‌بَابُ القَرْضِ

قوله: «باب القرض» القرض من عقود التبرعات؛ لأن العقود تنقسم إلى أقسام: منها عقود معاوضات، ومنها عقود تبرعات، ومنها عقود توثيقات، فالرهن والضمان ـ مثلاً ـ عقود توثيقات، والهبة والوصية والصدقة وما أشبهها عقود تبرعات ومنها القرض، وعقود المعاوضات كالبيع والإجارة وشبهها.

والقرض في اللغة: القطع، ومنه المقراض، أي: المقص؛ لأنه يقطع الثوب.

وأما في الشرع: فهو إعطاء مال لمن ينتفع به ويرد بدله.

فقولنا: «يرد بدله» خرج بذلك العارية؛ لأن العارية لا يرد بدلها، وإنما يرد عينها.

وهذا التعريف فيه نظر، والصحيح أن يقال:«تمليك مال .. » ؛ لأنك إذا قلت: «إعطاء مال لمن ينتفع به .. » ، معناه أن المقترض لا يملك إلا الانتفاع، والحقيقة أنه يملك العين ملكاً تاماً، فهو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله.

وهو عقد إرفاق يقصد به تمليك المُقرَض للمقترض، أي: تمليك الرجل الذي أقرضتَه لِمَا تُقْرِضُه من أعيان أو منافع ـ على القول بجواز الإقراض فيها ـ فهو إذاً عقد إرفاق ولا يقصد به المعاوضة والمرابحة، وإنما هو إحسان محض، ولهذا جاز القرض مع أن صورته صورة ربا، فإنه إذا باع درهماً بدرهم ولم

ص: 93

يحصل بينهما تقابض كان ربا، وإذا أقرضه درهماً وبعد شهر أعطاه إياه لم يكن ربا، مع أن الصورة صورة ربا ولا يختلف إلا بالقصد، ولما كان المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان صار جائزاً.

وأما حكمه فيقول المؤلف:

‌وَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ صَحَّ قَرْضُهُ إلاَّ بَنِي آدَمَ وَيُمْلَكُ بِقَبْضِهِ فَلَا يَلْزَمُ رَدُّ عَيْنِهِ بَلْ يَثبتُ بِدَلُهُ فِي ذِمَّتِهِ حَالًّا وَلَوْ أجَّلَهُ فَإِنْ رَدَّهُ المُقْتَرِضُ لَزِمَ قَبُولُهُ،

«وهو مندوب» فهذا بالنسبة للمقرض، أما بالنسبة للمستقرض فهو مباح، ولا يقال: إن هذا من المسألة المذمومة، فهنا طرفان: مقرض ومستقرض، المقرض: القرض في حقه مندوب، أي: مستحب؛ وذلك لأنه من الإحسان فيدخل في عموم قول الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، ومن حيث المعنى فإن فيه دفع حاجة أخيك المسلم، وربما يكون القرض أحياناً أكثر ثواباً من الصدقة؛ لأنه لا يستقرض إلا محتاج في الغالب، والصدقة أفضل من جهة أنها لا تشغل الذمة، فإذا أعطيته لم يكن في ذمته شيء.

ويجب القرض أحياناً فيما إذا كان المقترض مضطراً لا تندفع ضرورته إلا بالقرض، ولكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه من غير ضرر عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله.

كما أنه يكون أحياناً حراماً إذا كان المقترض اقترض لعمل محرم لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوب؛ لأنه من الإحسان.

وأما بالنسبة للمستقرض فإنه مباح، ولا يقال: إنه من المسألة المذمومة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض

(1)

.

ص: 94

وظاهر كلام الفقهاء أنه مباح مطلقاً، وينبغي أن يقال: إنه مباح لمن له وفاء، وأما من ليس له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أراد أن يتزوج وقال:«ليس عندي شيء» إلى أن يقترض، بل زوجه بما معه من القرآن

(1)

، فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان ما دام عنده مندوحة عن الاقتراض أن لا يقترض، وهذا من حسن التربية؛ لأن الإنسان إذا عوَّد نفسه الاقتراض سهل الاقتراض عليه، ثم صارت أموال الناس التي في أيديهم كأنها مال عنده لا يهمه أن يقترضها، فلهذا ينبغي للإنسان أن لا يقترض إلا لأمر لا بد منه، هذا إذا كان له وفاء، أما إذا لم يكن له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة وربما نقول بالتحريم، وفي هذه الحال يجب عليه أن يبين للمقرض حاله؛ لأجل أن يكون المقرض على بصيرة.

ولكن إذا قال قائل: الولي على مال اليتيم هل يندب له أن يقرض؟

فالجواب: لا؛ لأن الله يقول: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 158]، لكن لو كان إقراضه من مصلحته

(1)

أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310)، ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

ص: 95

فهنا يكون الإقراض مستحبّاً من وجهين: من جهة الإحسان للمستقرض، ومن جهة الإحسان في حفظ مال اليتيم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله ضابط ما يصح قرضه فقال:

«وما يصح بيعه صح قرضه» (ما) هنا يجوز أن تكون اسماً موصولاً، أي: والذي يصحُّ بيعه صح قرضه، وأجيب بما يشبه جواب الشرط؛ لأن اسم الموصول يشبه الشرط في العموم، ومنه المثال المشهور الذي يأتيني فله درهم، فهذه بمنزلة قولك من يأتني فله درهم، ويحتمل أن تكون اسم شرط ويكون فعل الشرط «يصحَّ» على أنها مجزومة حركت بالفتح لالتقاء الساكنين وجوابه «صح» .

هذا هو الضابط، فكل ما صح بيعه صح قرضه، وكل ما لا يصح بيعه لا يصح قرضه.

وعلى هذا، فالكلب لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه، والميتة لا يصح قرضها حتى لمن حلت له فإنه لا يصح قرضها؛ لأنه لا يصح بيعها، والمرهون لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه، والموقوف لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه وهلم جرّاً.

وظاهر كلام المؤلف في قوله: «وما يصح بيعه» أنه يصح قرض المنافع؛ لأن المنافع يجوز بيعها مثل الممر في الدار، فأملك المنفعة في هذا الممر لكن لا أملك الممر، فبيع المنافع جائز أما إقراضها، فالمذهب لا يجوز، واختار شيخ الإسلام جواز ذلك بأن أقول: أقرضني نفسك اليوم لتساعدني على الحصاد وغداً أوفيك، أي: أحصد معك، وهذا هو الصحيح، لوجهين:

ص: 96

أولاً: أن الأصل في المعاملات الإباحة.

ثانياً: أن المنافع تجوز المعاوضة عنها، فإذا كانت تجوز المعاوضة عنها فإنه يجوز إقراضها، مثل ما أقول للعامل: اشتغل عندي بأجرة قدرها كذا وكذا، فهو عمل يصح العقد عليه ويقابل بالعوض، فتشتغل عندي يوماً وأشتغل عندك يوماً آخر، والاختلاف اليسير لا يضر، لأنه قد تختلف منافع هذا عن منافع هذا، والاختلاف الكثير لا يرضى به.

قوله: «إلا بني آدم» فإن بني آدم يصح بيعهم ولا يصح قرضهم، ويعني بذلك المماليك، فإذا كان عند الإنسان مملوك فإنه يصح بيعه لا شك لكن لا يصح قرضه؛ لأنه لم تجر العادة بذلك، ولما في هذا من الإذلال للمسلم؛ ولأنه يخشى من الفتنة والفساد، فيخشى أن يقترض الإنسان أمة ثم يجامعها لمدة أيام ثم يردها؛ لأن الإنسان إذا رد القرض، وجب قبول عينه، فيفضي إلى أن يستقرض الإنسان أمة، ثم يجامعها مدة أيام، ثم يردها إلى مالكها.

وقال بعض العلماء: يصح قرض الذكر للذكر، يعني أن يقرض الإنسان رجلاً مملوكاً لشخص؛ وذلك لأنه مأمون أن يفعل به شيئاً، ولو أقرضت أنثى لأنثى فلا بأس، ويصح أن يقرض امرأة لمحارمها، ولكن هذا فيه إشكال؛ لأنه سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب العتق أن من ملك ذا رحم محرم عليه فإنه يعتق عليه.

على كل حال استثناء المؤلف بني آدم له وجه، فيقال: بنو آدم يصح بيعهم ولا يصح قرضهم.

ص: 97

أما الحيوان غير بني آدم كالخيل والبقر والحمر والغنم وغيرها يجوز قرضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بَكراً ورد خيراً منه وقال: «خيركم أحسنكم قضاء»

(1)

، وعلى هذا يجوز للإنسان إذا نزل به ضيف فجاء إلى جاره وقال: أقرضني شاة أذبحها للضيف، فإنه يجوز.

قوله: «ويُملك بقبضه» الضمير يعود على المُقْرَض، فإذا قبضه المستقرض ملكه، وصار ملكه عليه تامّاً يجوز أن يبيعه وأن يؤجره وأن يوقفه وأن يرهنه، وأن يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم.

قوله: «فلا يلزم رد عينه» هذا مما يتفرع على قولنا: إنه يملكه فلا يلزم المقترض رد عينه، أي: عين القرض، فلو طالب المقرض المستقرض بأن يرده فله أن يقول: لا، أنا ملكته بقبضه ولك عليّ بدله، ولا يلزمني أن أرده بعينه، ولهذا قال:«لا يلزم رد عينه» ، ولكن لو رد عينه وهي لم تتغير فإنه إن كان مثليّاً لزم قبوله، وإن لم يكن مثليّاً لم يلزم قبوله، كما سيذكر المؤلف إن شاء الله.

قوله: «بل يثبت بدله» أي: بدل المُقْرَض، وهذه عبارة جامعة لم يقل: يثبت مثله، بل قال: يثبت بدله؛ لأن البدل قد يكون المثل، وقد يكون القيمة، ولذلك عبر المؤلف بكلمة صالحة للوجهين، فإن القرض إما أن يكون مثلياً أو قيمياً، ويعبر عنه الفقهاء بالمتقوم، فإن كان مثلياً فالواجب رد مثله، وإن كان قيمياً يلزم رد قيمته.

(1)

سبق تخريجه ص (94).

ص: 98

قوله: «في ذمته» أي: في ذمة المستقرض.

قوله: «حالًّا» لا مؤجلاً، حتى وإن أجله لا يتأجل؛ لأن القرض موضوعه الحلول، فإذا أجلناه فقد خرجنا به عن موضوعه فخالفنا مقتضى العقد، وكل شرط يخالف مقتضى العقد فهو باطل؛ لأنه يخرج بالعقد عن موضوعه الشرعي، فيكون مخالفاً لكتاب الله عز وجل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل؛ ولأنه ليس معاوضة فكيف نلزم هذا المحسن ألا يطالب إلا بعد الأجل؟!

فإذا قال إنسان: أقرضني صاعاً من بر، فأقرضته إياه ملكه وثبت في ذمته بدله، فبدل صاع البر صاع بر مثله؛ لأنه مثلي، فيلزمه صاع بر في ذمته، حالًّا يعني: للمقرض أن يطالب المستقرض بالوفاء حالاًّ ولو بعد نصف ساعة.

قوله: «ولو أجَّله» هذه إشارة خلاف، أي: قال المستقرض للمقرض: سأوفيك بعد سنة فإنه لا يصح هذا الشرط ويلغى ويكون القرض حالًّا؛ لأن الإمام أحمد نصّ على أن القرض حال، فقال:«كل قرض فهو حال» ، أي: لا يقبل التأجيل، وهذا من حيث الحكم الوضعي، فإذا شرط التأجيل كان شرطاً منافياً لمقتضى العقد، وكل شرط يخالف مقتضى العقد فهو شرط فاسد وكل شرط فاسد فهو حرام، وهذا من حيث الحكم التكليفي، هذا ما ذهب إليه المؤلف.

والصحيح: أنه إذا أجله ورضي المُقْرِض فإنه يثبت الأجل، ويكون لازماً، ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل.

ص: 99

وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد بل هو من تمام مقتضى العقد؛ لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان وإذا أجلته صار ذلك من تمام الإحسان، فالأرفق للمقترض التأجيل، ومن وجه آخر أن الله تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وهذا عقد شرط فيه التأجيل فيجب أن يُوفى به؛ لأن أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود يشمل الوفاء بأصلها والوفاء بوصفها، وهو الشروط التي تشترط فيها؛ وقال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، والمقرض الذي أجله قد تعهد ألا يطالب إلا بعد انتهاء الأجل فيكون هذا العهد مسؤولاً عنه عند الله؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»

(1)

، فعلم من ذلك أن الشرط الذي لا ينافي كتاب الله فليس بباطل، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً»

(2)

؛ ولأن المطالبة به وهو مؤجل إخلاف للوعد، وإخلاف الوعد من سمات المنافقين، فكل هذه الأدلة تدل على أنه إذا كان مؤجلاً وجب أن يبقى مؤجلاً؛ ولأنه ربما يكون في ذلك ضرر عظيم على المستقرض.

مثلاً: هذا الرجل أقرضني خمسين ألفاً لشراء سيارة أنتفع بها، فاشتريت السيارة على أن القرض مؤجل إلى سنة، فعلى

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155)، ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

سبق تخريجه ص (18).

ص: 100

كلام المؤلف لصاحب القرض أن يطالبني الآن ويقول: أوفني، ويلزمني بأن أبيع السيارة، وأوفيه، وفي ذلك ضرر عظيم، وكذلك لو أني استقرضت من شخص دراهم لأشتري بيتاً للسكنى، فاشتريت وسكنت، وكان هذا القرض مؤجلاً إلى سنة أو أكثر، ثم جاء يطالبني ويقول: أعطني قرضي، فهذا فيه ضرر لا شك، ويستقبحه العقل والعرف والمروءة فضلاً عن الشرع.

إذاً دلالة الكتاب والسنة والمعنى كلها متفقة على أن التأجيل في القرض جائز وأنه ملزم ولا بد منه.

ويقال: إن قول الإمام أحمد رحمه الله: «كل قرض فهو حالٌّ» ، يعني هذا هو الأصل، لكن كم من أشياء خرجت عن أصولها بالشروط التي تُدْخَل فيها.

إذن القول الراجح: أنه يتأجل بالتأجيل، ويثبت الأجل، وليس للمقرض الحق في أن يطالب؛ لأنه هو الذي رضي بتأجيله، وللأدلة التي ذكرناها من قبل.

قوله: «فإن رده المقترض لزم قَبوله» الهاء في قوله: «رده» تعود على المُقْرَضِ إن «رده المقترض» على المقرض «لزمه» ، أي: لزم المُقْرِض قبوله؛ لأنه عين ماله لكن بشرط ألا يتغير، وألا يكون متقوماً؛ لأنه لما أقرضه ثبتت القيمة في ذمته، فيقول: أنا لم يثبت لي المثل، لكن وجبت لي القيمة فأعطني القيمة.

وظاهر كلام المؤلف حتى وإن كان المستقرض انتفع به في هذه المدة، فإنه يلزم المقرض قبوله، لا سيما إن كان قد اقترضه وهو جديد، ثم استعمله ولو لمدة يسيرة، فسوف تنقص قيمته بلا شك.

ص: 101

القول الثاني: أنه لا يلزم المقرض قبوله سواء تغير أم لم يتغير، فإذا قال المقترض للمقرض: هذا مالك أنا رددته عليك، فقال له: أنت اقترضته وقبضته، فصار ملكاً لك، فلا يلزمني أن أقبله وأدخله ملكي.

وهذا القول هو الصحيح: أنه إذا رده المقترض فإنه لا يلزم المقرض قبوله، لكن لو قبله فلا بأس؛ لأن الحق له، ولا فرق بين أن يكون مثليّاً أو متقوماً، فإنه لا يلزم القبول على القول الراجح.

‌وَإِنْ كَانَتْ مُكَسَّرَةً أوْ فُلُوساً فَمَنَعَ السُّلْطَانُ المُعَامَلَةَ بِهَا فَلَهُ القِيمةُ وَقْتَ القَرْضِ، وَيَرُدُّ المِثْلَ فِي المِثْلِيَّاتِ وَالقِيمَةَ فِي غَيْرِهَا.

قوله: «وإن كانت» يعني العين المُقرَضَة.

قوله: «مكسرة» والمكسرة هي المجزأة؛ لأنهم كانوا فيما سبق يجزؤون الدراهم، فالدرهم له ربع ونصف من الفضة وأدركنا ذلك، ريال الفضة كان له نصف وله ربع، وهذا منذ زمن.

قوله: «أو فلوساً» الفلوس هي كل نقد من غير الذهب والفضة، مثل النقد المعدني الآن، ومنذ زمن ـ أيضاً ـ يسمى فلوساً جمع فَلْس.

قوله: «فمنع السلطان المعاملة بها» أي: ألغاها، وهذه الجملة عطف على قوله:«وإن كانت مكسرة أو فلوساً» .

ربما يفهم من ظاهر كلامه أن السلطان لا يحرم إلا المكسرة والفلوس، أما أصل الدراهم والدنانير فإن السلاطين لا يحرمونها، بل يبقونها نقداً يتعامل به الناس، ومع هذا قال العلماء: يحرم على السلطان أن يحرم السكة الجارية بين الناس؛ لما في ذلك من الضرر العظيم؛ لأنه إذا حرمها صارَت سلعة من

ص: 102

السلع، ولم تكن نقداً، وهذا قد يضر بالمسلمين، ولهذا يحرم على الإمام أن يفعل ذلك، لكن ربما تدعو الحاجة إلى هذا بحيث يدخلها الغش والتلفيق وما أشبه ذلك، فيرى السلطان أن من المصلحة أن يُحرم التعامل بها.

قوله: «فله القيمة وقت القرض» مثال ذلك: رجل أقرضني أربعين ربعاً، أي: عشرة دراهم، لكنها بعد التحريم لا تساوي إلاّ خمسة، إذاً له القيمة وقت القرض، وهي عشرة دراهم.

وكذلك الفلوس وهي ـ معدن غير الذهب والفضة ـ فإذا أقرضني ألف قرش قيمتها مائة درهم، ثم إن السلطان حرم هذه الفلوس، فالواجب على المقرض مائة درهم، أي: القيمة وقت القرض؛ ووجه ذلك أن هذا المستقرض ملكها من حين القرض، فخرجت بالقرض عن ملك الأول، ودخلت في ملك الثاني، فحينئذٍ يضمنها بقيمتها وقت القرض.

إذاً لو استقرض مكسرة أو فلوساً ثم حرمت المعاملة بها، فهل له القيمة وقت القرض، أو وقت الوفاء، أو وقت التحريم؟

فمثلاً كان وقت القرض سنة ثلاث عشرة، ووقت التحريم سنة خمس عشرة، ووقت الوفاء سنة ست عشرة، فنأخذ بقيمة سنة ثلاث عشرة، أي: قيمة أول سنة للقرض، وهذا هو المذهب.

القول الثاني: أن المعتبر قيمتها وقت المنع، ووجه هذا القول أن الواجب للمقرض نفس هذه الفلوس إلى أن منعت.

القول الثالث: أن له قيمتها وقت الوفاء؛ لأنها واجبة في ذمة المقترض بأعيانها إلى أن يوفي، فيكون عليه القيمة وقت الوفاء.

ص: 103

وأقرب شيء أن المعتبر القيمة وقت المنع؛ وذلك لأنه ثابت في ذمته عشرة فلوس إلى أن منعت، يعني قبل المنع بدقيقة واحدة لو طلبه لأعطى عشرة فلوس، ولكان الواجب على المقرض قبولها، فإذا كان كذلك فإننا نقدرها وقت المنع.

قوله: «ويرد المثلَ في المثليات، والقيمة في غيرها» يعني إذا أراد المستقرض الوفاء، فالواجب أن يرد المثل في المثليات، والقيمة في غير المثليات، وتسمى المتقومات.

والمثلي على كلام الأصحاب رحمهم الله (كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة).

فقولنا: (كل مكيل أو موزون) خرج به ما سواهما كالمعدود، والمذروع، والحيوان، والثياب، وهلمّ جرّاً.

وقولنا: (يصح السلم فيه) فإن كان لا يصح السلم فيه كالغالية والمعاجين وما أشبه ذلك، فإنه ليس مثليّاً بل هو متقوّم.

وقولنا: (ليس فيه صناعة مباحة) فالحديد موزون، فإذا صنع أواني خرج عن كونه موزوناً؛ لأن فيه صناعة مباحة، والذهب موزون فإذا صُنع أواني، فالصناعة هنا غير مباحة، فيبقى موزوناً، فإذا استقرضت من شخص أواني ذهب مقدارها تسعون جراماً، وهي تساوي إذا لم تكن آنية ثمانية آلاف ريال، وإذا كانت آنية تساوي عشرة آلاف ريال، فالأكثر الأواني، لكن هذه الزيادة في مقابلة صنعة محرمة فلا تعتبر، ولذلك نقول: هذه تعتبر مثلية؛ لأن الصناعة غير مباحة، وإذا كانت غير مباحة فلا قيمة لها، ونقول: عليك أن تضمن مقدار هذا الذهب وزناً؛ لأن الصناعة غير مباحة.

ص: 104

مثال آخر: الأقلام متقومة، وكذلك الساعات متقومة؛ لأن فيها صناعة مباحة، فعلى المذهب يجب أن يرد قيمتها، ولكن كيف تعرف القيمة؟

الجواب: أن نقول: ماذا يساوي هذا الشيء حين القرض؟ ويثبت في ذمة المستقرض قيمته، هذا هو القول الراجح.

مثاله: أقرضني شخص بعيراً والبعير متقوم، فنقول: كم قيمته وقت القرض؟ قال: قيمته خمسة آلاف، إذاً يثبت في ذمة المستقرض خمسة آلاف؛ لأن غير المثلي تثبت قيمته، ولهذا قال:«والقيمة في غيرها» .

لو قال قائل: لماذا لا تجعلون القيمة وقت الوفاء؟

نقول: لأنها دخلت ملك المستقرض من حين قبضها، فاعتبرت القيمة في ذلك الوقت.

وقيل: إن المعتبر وقت القرض إلا في الجواهر ونحوها مما يتغير بسرعة، ولكن الصحيح أن المعتبر القيمة وقت القرض؛ لأنه هو الوقت الذي ملكت فيه ما أقرضني.

إذاً الذي يثبت في ذمة المستقرض المثلي في المثليات، والقيمة في المتقومات.

ولكن هل نسلم أن المثلي هو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه وليس فيه صناعة مباحة؟

الصحيح لا، فالمثلي ما كان له مثيل مقارب، وليس بلازم أن يكون مطابقاً، ولهذا نعلم لو أن إنساناً أقرض بعيراً، ثم أراد

ص: 105

المستقرض أن يرد بعيراً مثله في السن واللون والسمن والكبر، فهو أقرب إلى المماثلة من القيمة؛ لأن القيمة مخالفة له في النوع ومقاربة له في التقدير، لكن المماثل من الحيوان أقرب بلا شك، ولهذا كان القول الصحيح أن المثلي ما كان له مثل أو مقارب، وعلى هذا فالحيوان مثلي، ولهذا استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بَكْراً ورد خياراً رباعيّاً

(1)

، فجعله مثليًّا، ولما جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند إحدى نسائه بطعام، ضربت المرأة ـ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ـ يد الغلام حتى سقط الطعام وانكسرت الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إناء بإناء وطعام بطعام»

(2)

، وأخذ طعام التي كان عندها وصحفتها وردهما مع الغلام، فهنا ضمن الإناء بالمثل مع أن فيه صناعة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مثليّاً، ولا شك أن هذا القول هو الأقرب، وعلى هذا فإذا استقرض بعيراً ثبت في ذمته بعير مثله، وإذا استقرض إناء ثبت في ذمته إناء مثله، وهذا أقرب من القيمة.

إذاً خالفنا المؤلف في هذه المسألة في معنى المثل، لكننا نتفق معه في أنه يرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها.

‌فَإِنْ أعْوَزَ المِثْلُ فَالقِيْمَةُ إذاً.

قوله: «فإن أعوز المثل فالقيمةُ إذاً» ويصح «فالقيمةَ» بالنصب، والتقدير فيرد القيمةَ، فقوله:«فإن أعوز المثل» ، أي:

(1)

سبق تخريجه ص (94).

(2)

أخرجه أبو داود في البيوع/ باب فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله (3568)، والنسائي في عشرة النساء/ باب الغيرة (7/ 71)، عن عائشة رضي الله عنها، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (5/ 125).

ص: 106

أعسر أو تعذر، بمعنى أنه عند الوفاء لم يجد المقترض مِثْلاً فنرجع إلى القيمة، والعلة أنه إذا تعذر الأصل رجعنا إلى البدل وهو القيمة، حتى في العبادات {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، لكن بماذا يكون الإعواز؟

الجواب: يكون بأمور:

أولاً: العدم، بأن ينقطع من السوق فلا يوجد، فهذا إعواز لا شك.

ثانياً: الغلاء الفاحش، فمثلاً هذا الشيء يساوي عشرة فارتفع في السوق حتى صار يساوي مائة، فهذا غلاء فاحش مضر بالمقترض.

ثالثاً: البعد الشاق بأن يكون موجوداً، لكن نحن الآن في عنيزة، وهو موجود في بِكِّين، وهي عاصمة الصين.

فالحاصل: أن الإعواز يكون بواحد من الأمور الثلاثة: وهي العدم، والغلاء الفاحش، والبعد الشاق، ولهذا قال المؤلف:«فإن أعوز» ليشمل التعذر والتعسر.

وقوله: «فالقيمة إذاً» أي: وقت الإعواز، فإذا أعوز فإنه يرد القيمة وقت الإعواز، أي: قبل أن يُعدم، فإذا قال المقرض: أنا أريد المثل، فقال له المقترض: والله ليس موجوداً، إلا في بلاد بعيدة، قال: اذهب واشتره، فلا يلزمه؛ لأنه إذا اشتراه سيأتي بأضعاف أضعافه، فيصل إلى بلد المقرض

ص: 107

بأضعاف أضعاف القيمة، وهذا إضرار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

.

‌وَيَحْرُمُ كُلُّ شَرْطٍ جَرَّ نَفْعاً، وَإِنْ بَدَأ بِهِ بِلَا شَرْطٍ، أَوْ أَعْطَاهُ أجْوَدَ، أَوْ هَدِيَّةً بَعْدَ الوَفَاءِ جَازَ، وَإِنْ تَبَرَّعَ لِمُقْرِضِهِ قَبْلَ وَفَائِهِ بِشَيءٍ لَم تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ، إِلاَّ أنْ يَنْوِيَ مُكَافَأتَهُ أَوِ احْتِسَابَهُ مِنْ دَيْنِهِ.

قوله: «ويحرم كل شرط جر نفعاً» «يحرم» يعني في القرض كل شرط يشترطه المقرِض يجر إليه نفعاً، أما إذا كان يجر نفعاً إلى المستقرض فهو الأصل، إذاً كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو محرم.

وقوله: «كل شرط» الشرط يقع في هذه الحال من المقرض، وهو حرام على المقترض لموافقته على المحرم، فيكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، لكن الأصل أن الشارط هو المقرض.

وقوله: «يحرم كل شرط جر نفعاً» مثال ذلك: جاء رجل إلى شخص، وقال: أريد أن تقرضني مائة ألف، قال: ليس هناك مانع، لكن أسْكُنُ بيتك لمدة شهر، فهنا القرض جر نفعاً للمقرض، فهذا حرام ولا يجوز.

ولماذا لا يجوز؟! أليس المسلمون على شروطهم؟! بلى، لكن إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً، وهذا أحل حراماً؛ وذلك أن الأصل في القرض هو الإرفاق والإحسان إلى المقترض، فإذا دخله الشرط صار من باب المعاوضة، وإذا كان من باب المعاوضة، صار مشتملاً على ربا الفضل وربا النسيئة، فاجتمع فيه الربا بنوعيه.

مثال ذلك: لما استقرض مني مائة ألف، واشترطت عليه أن أسكن داره شهراً، صار كأني بعت عليه مائة ألف بمائة ألف، بزيادة

(1)

سبق تخريجه ص (37).

ص: 108

سكنى البيت شهراً، وهذا ربا نسيئة وربا فضل، ربا فضل؛ لأن فيه زيادة، وربا نسيئة؛ لأن فيه تأخيراً في تسليم العوض، ولهذا قال العلماء: كل قرض جر منفعة بشرط فهو ربا، وقد ورد «كل قرض جر منفعة فهو ربا»

(1)

، لكنه حديث ضعيف أما معناهُ فصحيح.

وعُلِم من قول المؤلف: «كل شرط جر نفعاً» أنه لو لم يكن شرط فإنه لا يحرم، أي: لو جر منفعة للمقرض بدون شرط فإنه ليس حراماً.

مثال ذلك: رجل عنده أرض قد زارع فيها، فجاء المزارع إلى صاحب الأرض، وقال: أنا الآن ليس عندي مواشٍ أحرث عليها، فقال له: أنا أقرضك تشتري مواشي تحرث عليها، فهنا فيه منفعة للمقرض؛ لأن أرضه الآن ستعمر بالزرع، وسيأتيه سهمه الذي اشترط على العامل، لكن المسألة بدون شرط، ثم المصلحة هنا ليست متمحضة للمقرض بل هي لهما جميعاً، فالمقرض ينتفع بعمارة أرضه، والمستقرض ينتفع بما يحصل له من الزرع، فيكون هذا جائزاً:

أولاً: لأن النفع لم يتمحض للمقرض.

ثانياً: أن فيه مصلحة لهما جميعاً.

ثالثاً: أنه لم يكن بشرط.

(1)

رواه الحارث بن أسامة في مسنده عن علي رضي الله عنه كما في المطالب العالية (1453) قال الحافظ في التلخيص (1227): في إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك. وأخرجه البيهقي في الكبرى (5/ 350) موقوفاً على فضالة ابن عبيد رضي الله عنه.

ص: 109

ولو جاء شخص إلى آخر، واستقرض منه دراهم في عنيزة، وقال المقرض: أنا أريد أن أسافر إلى الرياض لأشتري بضاعة، وأشترط عليك أن توفيني في الرياض، فسيأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف في هذا، والصحيح أنه جائز؛ وذلك أن المقرض لم يأته زيادة على ما أقرض، فإنه استقرض منه ـ مثلاً ـ مائة ألف وأوفاه مائة ألف، لكن اختلف المكان فقط، ولهذا بعض العلماء يقول في هذه المسألة: يشترط ألا يكون لحمله مؤونة، والصحيح أن هذا ليس بشرط كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ تفصيله في كلام المؤلف.

قوله: «وإن بدأ به» أي بما يجر النفع.

قوله: «بلا شرط» بأن أعطاه المقترض ما ينتفع به بلا شرط.

قوله: «أو أعطاه أجود» بلا شرط.

قوله: «أو هدية بعد الوفاء جاز» يعني بلا شرط، هذه صور ثلاث.

مثال ذلك: رجل أقرض شخصاً مائة ألف ثم أوفاه، ثم أعطى المقترض سيارته للمقرض ليتمتع بها لمدة عشرة أيام، مكافأة له على إحسانه، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا من باب المكافأة، والمسألة ليست مشروطة حتى نقول إن هذا شرط جر نفعاً.

وكذلك إذا أعطاه أجود فإنه لا بأس به، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد خياراً رباعيّاً بدلاً عن بكر وقال: «خيركم

ص: 110

أحسنكم قضاء»

(1)

.

وكذلك إذا أعطاه هدية بعد الوفاء، بأن أهدى إليه هدية قليلة أو كثيرة، لكن بعد الوفاء فإن ذلك جائز؛ لأنه في هذه الحال لم يكن معاوضة، أي: القرض، بل كان باقياً على الإرفاق ولكن المقترض أراد أن يكافئ هذا المقرض بما أعطاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من صنع إليكم معروفاً فكافئوه»

(2)

.

وعُلم من قول المؤلف: «أو أعطاه أجود» أنه لو أعطاه أكثر بلا شرط فإنه على المذهب لا يجوز، والفرق أن الأجود في الصفة، والأكثر في الكمية، فلا يجوز.

والصحيح أنه جائز بشرط ألا يكون مشروطاً، بأن يقترض منه عشرة ثم عند الوفاء يعطيه أحد عشر فإنه لا بأس؛ لأنه إذا جازت الزيادة في الصفة جازت في العدد؛ إذ لا فرق، بل قد تكون الصفة أحياناً أكثر من العدد، كما لو كان جيداً جدّاً فإنه قد يكون أكثرَ من العدد فائدةً للمقرض.

لكن قد يقول قائل: إذا جوزنا هذا لزم أن نجوِّز الفوائد البنكية، لأنك تعطي البنك مائة ألف ويعطيك بعد سنة مائة وعشرة.

فالجواب على هذا أن البنك زيادته تعتبر مشروطة شرطاً عرفياً، والشرط العرفي كالشرط اللفظي؛ لأن هذا معلوم من

(1)

سبق تخريجه ص (94).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 68، 99)، وأبو داود في الزكاة/ باب عطية من سأل بالله (672)، والنسائي في الزكاة/ باب من سأل بالله عز وجل (5/ 82) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (3408)، والحاكم (1/ 412) وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

ص: 111

تعاملهم، لكن من أخذ من حروف أقوال أهل العلم قال: إنه يجوز أخذ الفوائد البنكية؛ لأن الإنسان حينما أعطاهم الدراهم لم يشترط عليهم أن يوفوه أكثر، مع أن المذهب يرون أنه لا يجوز قبول الأكثر، بل يجوز الأجود دون الأكثر، لكن على القول بالجواز لا ترد علينا مسألة البنوك؛ لأنها مشروطة شرطاً عرفياً، فموظف البنك إذا قال: ماذا تريد؟ قال: أريد حساباً بنكياً، وهذا معناه أنه يريد الفوائد.

وفُهم من قوله: «بعد الوفاء» أنه لو كان قبل الوفاء فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يهاديه المقترض كلما مضى شهران أو ثلاثة أشهر، وبهذا يزيد في تأخير الطلب، ثم يكون كالربا الزائد لكل شهر أو لكل سنة.

مسألة: لو قال أعطيك قرضاً مائة ألف على أن تزوجني ابنتك، وقال: أنا لم أشترط مالاً؟

الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن فيه منفعة وأصبح معاوضة ولم يرد به وجه الله، إنما أراد به امرأة يتزوجها.

مسألة: لو قال: أقرضك مائة ألف على أن تؤجرني بيتك لمدة سنة وأعطيك الإيجار كاملاً، وبيتك الآن متعطل وأنا محتاج إليه، فهذا على المذهب لا يجوز؛ لأنه إذا لم تكن منفعة فهي شرط عقد في آخر، ولأنه لولا أنه يريد أن يؤجره ما جعل التأجير شرطاً في القرض، فهو سيضغط على نفسه بتأجير هذا الرجل، وإن كان يكره أن يؤجره من أجل القرض.

قوله: «وإن تبرع» أي المقترض.

ص: 112

قوله: «لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز» سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً.

وعُلم من قوله: «لم تجر عادته به» أنه لو كان من عادته أن يتبرع له في مثل هذه المناسبة، فإنه لا بأس أن يقبل وإن لم يحتسبه من دينه.

مثاله: أن يكون الذي أقرضه صاحباً له، وجرت العادة أنه إذا سافر يعطيه هدية بعد رجوعه من السفر، كما هو معروف فيما سبق، فهذا المقترض سافر ورجع من سفره، وكان من عادته أن يعطي الذي أقرضه هدية السفر، فأعطاه هدية السفر بعد أن اقترض منه، فهذا لا بأس به؛ لأن الحامل له ليس هو الاقتراض، بل الحامل له هو المودة والمصاحبة بينه وبين صاحبه.

قوله: «إلا أن ينوي» أي: المقترض.

قوله: «مكافأته» أي: مكافأة المقرض.

مثال هذا: إنسان استقرض من شخص ألف ريال، ثم إن المقترض أهدى إلى هذا المقرض ساعة تساوي مائتي ريال، فله أن يقبلها بشرط أن ينوي المكافأة بمثل قيمتها أو أكثر.

فإن قال قائل: لماذا لا يردها أصلاً ما دامت المسألة حراماً؟

قلنا: إنه قد يمنعه الحياء والخجل وكسر قلب صاحبه من الرد؛ لأنه من الصعب أن يقول: لا أريدها، فأنا قد أقرضتك،

ص: 113

فنقول: خذها وانوِ المكافأة، كأن تعطيه ساعة تساوي مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، أما أقل من ذلك، مثل أن تكون الساعة بمائة فلا يجوز؛ لأنها ليست مكافأة، فالمائة لا تكافئ المائتين.

قوله: «أو احتسابه من دينه» فيقبل الهدية ولا يكافئه.

مثال هذا: أقرضه ألف ريال ثم إن المقترض أهدى إليه هدية تساوي مائتي ريال فقبلها، لكن قيدها له، فقال: وصل من فلان مائتا ريال، فهذا جائز ولا بأس به؛ لأنه الآن نوى احتسابها من دينه فسقطت عن ذمة المقترض.

مسألة: هل تحسب الضيافة من الدَّين؟

الجواب: يقول الفقهاء: تحسب الضيافة من الدين، يقال: كم أكلت من تمرة، ومن خبزة، ومن برتقالة؟ ويحسب من الدين، وهذا هو المذهب.

لكن ذكر صاحب الفروع أنه يتوجه ألا يحسب ذلك من الدين؛ لأن الضيافة ما جرت العادة أنها تعتبر هدية، إلا إذا كان الرجل المقرض تعمد ذلك، بأن كان البلد يوجد فيه فنادق ومطاعم، وقال المقرض: بدلاً من أن أخسر في الفندق، أنزل على من أحسنت عليه بالقرض، فإذا تعمد ذلك فربما نقول: هذا لا يجوز؛ لأنه جر إلى نفسه نفعاً.

مسألة: إذا حصل عند المقترض مناسبة من المناسبات، وليمة عرس، أو وليمة قدوم غائب، أو وليمة ختان، أو ما أشبه ذلك فدعا المقرض، فإن له إجابته حتى على المذهب، والعلة أنه

ص: 114

في الدعوات كغيره، ولهذا القاضي إذا دعاه أحد من أهل البلد التي هو قاض فيها فإنه يجيبه.

‌وَإنْ أقْرَضَهُ أَثْمَاناً فَطَالَبَهُ بِهَا بِبَلَدٍ آخَرَ لَزِمَتْهُ، وَفِيمَا لِحَمْلِهِ مُؤونَةٌ قِيمَتُهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِبَلَدِ القَرْضِ أَنْقَصَ.

قوله: «وإن أقرضه» أي: أقرض شخصاً.

قوله: «أثماناً» وهي: الدراهم والدنانير.

قوله: «فطالبه بها ببلد آخر لزمته» أي: لزمت المقترض.

مثاله: أقرضه دنانير في مكة وطالبه بها في المدينة، فيلزمه الوفاء إذا كان معه الدنانير؛ لأنه لا ضرر عليه، القيمة واحدة في مكة أو في المدينة؛ لأن النقد كله نقد واحد، ولا يختلف بين بلد وآخر فله الحق أن يلزمه، بخلاف ما سبق في باب السلم فيكون الوفاء في موضع العقد، والفرق بينهما أن السلم من باب المعاوضات، وهذا من باب الإحسان ولا ضرر عليه أن يعطيه الدنانير في البلد الآخر.

أما إذا كان في بلد يختلف عن البلد الذي أقرضه فيه، فهنا قد يلحقه ضرر، فقد تكون قيمته أغلى، وحينئذٍ نقول: لا يلزمه الموافقة، إن وافق فذلك المطلوب وإن لم يوافق فلا يلزمه.

فإذا قال: أقرضك ألف ريال بشرط أن توفيني إياها في المدينة ـ مع العلم بأن المقترض في مكة ـ قالوا: إذا كان لحمله مؤونة ـ وهذا لا يتصور في مسألة النقود ـ فإنه لا يجوز؛ لأنه في هذه الحال يجر إلى المقرض نفعاً، وإذا لم يكن لحمله مؤونة كالأثمان فإنه يجوز؛ لأنه ليس فيه نفع؛ لأنه لم يزد العدد ولم يزد النوع، وإنما هو يريد أن يكون وفاؤه في بلده أحب إليه، والمقرض من أهل المدينة.

ص: 115

مسألة: إذا طالبه بها ببلد آخر وليس معه شيء فهو معسر، وقد قال الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فإن قال المقرض: نعم هو الآن ليس معه إلا مقدار نفقته فقط، لكنه غني يستطيع أن يذهب إلى أي دكان ويقول: أقرضني، فلا يجوز له مطالبته؛ لأنه إذا طلبه فإنه لا يوفي إلا بعد إشغال ذمته.

قوله: «وفيما لحمله مؤونة قيمته» يعني إذا أقرضه شيئاً لحمله مؤونة فله القيمة في بلد القرض.

مثال ذلك: أقرضه مائة صاع بر في مكة وطالبه بها في المدينة، ومن المعلوم أن مائة صاع بر لحملها مؤونة، فيقول المقترض: لا يلزمني، ومكان الوفاء هو بلد القرض، وهذه لحملها مؤونة يشق علي فلا يلزمه أن يوفي.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا فرق بين أن يكون المُطَالَبُ به قيمته مساوية لبلد القرض أو مخالفة، إلا أنه استثنى فقال:

«إن لم تكن ببلد القرض أنقص» والصواب: «أكثر» ؛ لأنه إذا كانت أنقص فلا ضرر عليه، فمن باب أولى أن تجب القيمة.

مثال ذلك: أقرضه مائة صاع بر في مكة، وطالبه بها في المدينة، وقيمتها في مكة مائتا ريال، وقيمتها في المدينة ثلاثمائة ريال، فهنا يلزمه الوفاء في المدينة؛ لأنه لن يوفي برّاً، بل له القيمة في بلد القرض، ففي بلد القرض القيمة مائتان، وفي المدينة القيمة ثلاثمائة، فنقول: سلم مائتين الآن؛ لأنه ليس عليك

ص: 116

ضرر، أما إذا كانت في مكة وهي بلد القرض بثلاثمائة، وفي المدينة وهي بلد الطلب بمائتين، هنا لا يلزمه القيمة في مكة؛ لأن عليه ضرراً؛ لأنها ستزيد، فيقول: أنا أشتري لك الآن مائة صاع من المدينة بمائتي ريال، فيرد هنا المثل، حتى وإن كان لحمله مؤونة؛ لأنه الآن كسب، فثلث الثمن سينزل عنه والمؤونة ربما تكون عشرة ريالات تأتي بها من مكة إلى المدينة.

فالحاصل الآن: أنه إذا طالب المقرض المقترض بماله بغير بلد القرض، فإن كان لحمله مؤونة، فإنه لا يلزم المقترض أن يدفع المثل، وإنما يدفع القيمة، إلا إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر منها في بلد الطلب، فحينئذٍ يدفع المثل؛ لأنه لا ضرر عليه، وكُلٌّ يعرف أنه إذا اشترى مائة صاع من المدينة بمائتين أحسن مما لو اشتراها من مكة بثلاثمائة، وحينئذٍ يُلزم بدفع المثل.

ولهذا يُعتبر كلام المؤلف رحمه الله فيه سبق قلم حيث قال: «إن لم تكن ببلد القرض أنقص» ولهذا تعقبه صاحب الروض بقوله: (صوابه: أكثر)

(1)

لأنها إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر فلا ضرر عليه في هذه الحال أن يشتري المثل ويرده، وما قاله الشارح هو الصواب.

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 49).

ص: 117

‌بَابُ الرهن

قوله: «باب الرهن» الرهن: مصدر رهن يرهن رهناً.

وهو في اللغة: الحبس، ويطلق على الثبوت، فمن الأول قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *} [المدثر]، أي: محبوسة بما كسبت، وقوله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، أي: محبوس، وأما الثبوت فمنه قولهم: ماء راهن، أي: راكد ثابت.

وأما في الاصطلاح: فهو توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضِه منها أو من بعضها.

مثاله: إنسان في ذمته لي ألف ريال، فأعطاني ما قيمته ألفا ريال رهناً بالدين، فهنا يمكن استيفاء الدين من بعض الرهن.

مثال آخر: رجل في ذمته لي ألف ريال، وأعطاني رهناً يساوي خمسمائة ريال، فهذا يمكن استيفاء بعضه منها، وكله جائز يعني سواء كان الرهن أكثر من الدين أو الدين أكثر من الرهن؛ لأنه إن كان الرهن أكثر من الدين فالتوثقة ظاهرة، وإن كان أقل من الدين فالتوثقة في بعض الدين خيرٌ من عدم التوثقة.

وقولنا: «توثقة دين بعين» يفيد أنه لا بد أن يكون الرهن عيناً؛ لأن الاستيفاء الكامل لا يكون إلا بالعين، فإن كان منافع أو ديناً فإنه لا يصح على كلام الفقهاء.

ص: 118

مثال الرهن بالمنافع، أن يقول: رهنتك منافع هذا البيت، فإنه لا يصح لأنه ليس بعين، بل نقول: ارهن البيت، فإذا قال: البيت وقف لا يمكن بيعه، أنا سأرهنه المنافع، فلا يصح.

مثال الدَّين: أنا أطلب فلاناً عشرة آلاف ريال فأمسكته وقلت: أعطني عشرة آلاف ريال، فقال: ما عندي، قلت: أنت تطلب فلاناً عشرة آلاف ريال، اجعل دينه الذي لك رهناً لي، فهنا توثقة دين بدين فلا يصح؛ وذلك لأن الدين الذي في ذمة الآخر لا يجوز بيعه إلا على من هو عليه، فإذا كان كذلك فإنه لا يصح أن يكون رهناً.

وقيل: بل يصح أن يوثق الدين بالمنافع؛ لأن المقصود التوثقة، وبالدين، ويكون المدين الثاني كأنه ضامن، فيقول: نعم أنا مستعد أن أوفيك ما في ذمتي لفلان إذا لم يوفك.

وهذا هو الصحيح، فقد يكون رجائي لحصولي على الدين من ذمة فلان أقوى من رجائي لحصوله من الأصل، فمثلاً باع على فلان هذا الشيء بمائة ألف ريال، هو معسر لكن له دين على فلان الموسر فرهنه إياه، فقد استفاد من هذا الرهن أنه إذا حل الأجل ولم يوفه، يذهب إلى فلان وهو موسر فبكل سهولة يعطيه هذا الدين.

وأما المنافع فكذلك أيضاً، فإنه إذا رهنه منفعة هذا البيت فيؤجره ويأخذ الأجرة رهناً ففيه فائدة، وليس هذا من باب المعاوضة حتى نقول: إن المنفعة مجهولة، بل هو من باب التوثقة؛ لأنه إن حصل على شيء وإلا رجع على الأصل الذي رهنه هذا الشيء، ولأنه يجب أن نفهم قاعدة مفيدة جدّاً وهي:

ص: 119

(أن الأصل في المعاملات الحل والصحة ما لم يوجد دليل على التحريم والفساد)، وهذا من نعمة الله، أن الطريق الموصل إلى الله ـ أي: العبادات ـ الأصل فيها المنع، حتى يقوم دليل على أنها مشروعة، وأما المعاملات بين الناس، فمن رحمة الله وتوسعته على عباده، أن الأصل فيها الإباحة والحل، إلا ما ورد الدليل على منعه، وعلى هذا فنقول: ما المانع من أن نوثق الدين بالدين؟! ما دام ليس فيه ظلم ولا غرر ولا رباً فالأصل الصحة.

والرهن من عقود التوثقات، وعقود التوثقة ثلاثة أشياء: الشهادة والرهن والضمان ومنه الكفالة أيضاً.

وكلها في القرآن، أما الشهادة فقول الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وأما الرهن فقوله:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وأما الضمان والكفالة فقوله:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، أي كفيل وضامن، فهذه الأمور الثلاثة يكون بها توثق صاحب الحق لحقه؛ ولهذا من التفريط أن تتعامل مع شخص بدون شهادة ولا رهن ولا ضمان.

قوله: «يصح في كل عين يجوز بيعها» بيَّن المؤلف ما الذي يصح رهنه، وربما نأخذ من ذلك ـ أيضاً ـ حكم الرهن.

فالأصل في الرهن الصحة كما قلنا، ودليله من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع، والنظر الصحيح، فأدلته أربعة:

أما الكتاب: فقال الله ـ تعالى ـ {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].

وأما السُّنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الظهر يُركب بنفقته إذا كان

ص: 120

مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة»

(1)

.

وأما الفعل فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي

(2)

.

والإجماع منعقد على هذا، والنظر والقياس يقتضي ذلك؛ لأن الناس محتاجون إلى أن تمشي معاملاتهم فيستفيد الراهن والمرتهن؛ لأن المرتهن يقول: أنا لا أقرضك إلا برهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن رهناً انتفع المرتهن، والراهن ينتفع ـ أيضاً ـ حيث يجد من يقرضه ويقضي حاجته، وكل شيء يتضمن مصلحة بدون مفسدة راجحة فإن القياس يقتضي حله وجوازه؛ لأن أصل الشريعة مبني على المصالح الخالصة أو الراجحة، هذا مبنى الشريعة الإسلامية.

‌يَصِحُّ فِي كُلِّ عَيْنٍ يَجْوزُ بَيْعُهَا حَتى المُكَاتَبُ مَعَ الحقِّ وَبَعْدَهُ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ،

وقوله: «يصح في كل عين» ، أفاد حكم الرهن وأنه يجوز فليس بواجب ولا مستحب ولا حرام.

ويجوز في الحضر والسفر؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي في المدينة، وأما قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فلأن الحاجة هنا تدعو إلى الرهن أكثر مما إذا كان في الحضر ووجد كاتباً؛ لأنه إذا كان في الحضر ووجد كاتباً توثق لحقه بهذا الكاتب، فإذا

(1)

أخرجه البخاري في الرهن في الحضر/ باب من رهن درعه (2512) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب (4467) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 121

كان على سفر ولم يجد كاتباً فإنه يحتاج إلى الرهن أكثر، ولذلك الذين قالوا: إن الرهن لا يصح إلا في السفر تناقضوا، فقالوا: يصح في السفر ولو مع وجود الكاتب مع أن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} ؛ فالصحيح ـ ما أشار إليه المؤلف ـ الجواز مطلقاً.

وقوله: «يصح في كل عين يجوز بيعها» فما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا ما سيأتي من رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه، فإنه يجوز رهنه مع أن بيعه في هذه الحال غير جائز.

إذاً القاعدة: «كل عين يجوز بيعها يجوز رهنها وما لا فلا» .

المثال الأول: إنسان أراد أن يستدين، فقال له الدائن: لا أديِّنك إلا إذا رهنتني ولدك، فقال: لا بأس أرهنك ولدي، فهذا لا يصح؛ لأن الولد لا يصح بيعه.

المثال الثاني: إنسان بدوي عنده ماشية وله كلب يحرس هذه الماشية، فجاء إلى إنسان وقال: أريد أن تقرضني ألف ريال، قال: لا أقرضك إلا برهن، قال: أرهنك كلبي، فهذا لا يصح؛ لأن الكلب لا يصح بيعه، فإذا كان لا يصح بيعه فما فائدته، فلا يكون فيه توثقة، فإذا كانت العين لا يصح بيعها فلا فائدة في رهنها إطلاقاً؛ لأنه إذا حل الدين، وأراد صاحب الدين أن يبيع الرهن ليستوفي حقه، صار الرهن ممنوعاً بيعه فلا يستفيد.

المثال الثالث: إنسان عنده بيت موقوف عليه وعلى ذريته، فأراد أن يستدين من آخر، فقال: لا بد من رهن، قال: أرهنك

ص: 122

هذا البيت، فلا يجوز؛ لأنه لا يصح بيعه وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.

المثال الرابع: إنسان آخر قال: أريد منك رهناً، قال: أرهنك بيتي، وكان البيت مرهوناً لإنسان سابق فلا يصح؛ لأنه لا يصح بيعه، والمشغول لا يشغل.

وإذا قال: رهنتك ما في بطن هذه الشاة فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز بيعها، والصحيح أنه يصح رهنها؛ لأن الرهن ليس عقد معاوضة حتى نقول: لا بد من تحريره وعلمه، فهذا الحمل الذي في البطن لا يخلو من أربع حالات: إما أنه أكثر من قيمة الدين أو يكون أقل أو يكون مساوياً أو يموت، فإذا مات أو خرج معيباً بحيث لا يساوي قيمة الدين فلم يَضِع الحق، وغاية ما هنالك أن الوثيقة التي كان يؤمل عليها نقصت أو عدمت ولكن حقه باق، فإذا خرج الحمل أكثر من الحق فقد زاد على الحق، ويجوز أن أرهن عيناً أكثر من الدين، فما دامت المسألة توثقة فقط والحق باق لن يضيع، فالصحيح أنه جائز، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الغرر

(1)

، وفرق بين البيع الذي يقصد فيه التحري في مقابلة العوض بالعوض، وبين شيء لا يقصد منه إلا التوثقة، إن حصلت فهي كمال وإن لم تحصل فالحق باق.

قوله: «حتى المكاتب» وهو العبد الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر.

والكتابة مطلوبة شرعاً، بل قال بعض العلماء: إنها واجبة

(1)

سبق تخريجه ص (28).

ص: 123

إذا طلبها العبد، وعلم السيد فيه خيراً؛ لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، أي: صلاحاً في دينهم وكسباً في دنياهم.

فهذا الرجل له مكاتب، يعني له عبد اشترى نفسه منه، وأراد أن يرهنه فإنه يجوز رهنه؛ لأن المكاتب يصح بيعه، ولأن المرتهن سينتفع بهذا الرهن؛ لأن هذا المكاتب إن عجز عاد رقيقاً وأمكنه بيعه، وإن قدر فإن كسبه في هذه المدة يكون رهناً، وهذا مما يؤيد القول بجواز الرهن إذا كان منفعة، إذاً فالمكاتب يصح رهنه.

وأما المدبَّر، وهو الذي عُلِّقَ عتقه بالموت، أي: قال سيده: إذا مت فعبدي حر، فهل يجوز له أن يرهنه؟

الجواب: نعم يجوز؛ لأنه يجوز أن يبيعه فجاز أن يرهنه؛ لأن هذا المدبَّر لم يعتق حتى الآن، ويعتق إذا مات سيده.

قوله: «مع الحق» أي: يصح الرهن مع الحق، أي: مع الدين.

مثاله: قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف، على أن ترهنني بيتك الثاني فقال: قبلت، فهنا الرهن مع الحق، فيجوز؛ لأنه صادف ثبوت شيء في ذمة الراهن فصح.

قوله: «وبعده» أي: بعد الحق، مثاله: رجل أقرض شخصاً مائة ألف، ثم جاء يطلبه فقال: أعطني مائة الألف؛ لأني أقرضتك بدون تأجيل، قال: ليس عندي، قال: إذن أرهني بيتك، قال: رهنتك إياه، فهذا يصح، وهذا بعد الحق.

ويدل لذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ

ص: 124

إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282، 283]، فدل على أن الرهن يكون بعد الحق، فهل يصح قبل الحق؟ كلام المؤلف يدل على أنه لا يصح؛ لأنه قال:«مع الحق وبعده» أما قبله فلا.

مثاله: إنسان جاء يطلب مني قرضاً مائة ألف، وقلت أنا: لا بد من أن أتوثق، أترهنني بيتك؟ قال: نعم، رهنتك بيتي بالقرض الذي ستقرضني إياه، فهنا الرهن قبل الحق، قالوا: لا يصح؛ لأنه متقدم على سببه، إذ أن الرهن توثقة دَين بعين، فإذا وثقت قبل الدين فإنه لا يصح؛ لأنه قبل وجود السبب، وكل شيء يقدم على سببه فهو ملغى، ولهذا قالوا: لو أن إنساناً أراد أن يحلف يميناً، ثم قدم الكفارة قبل أن يحلف لم تجزئه؛ لأنها قبل وجود السبب.

وما ذهب إليه المؤلف هو المشهور عند فقهائنا رحمهم الله أن الرهن لا يصح قبل ثبوت الحق.

وقيل: إنه يصح قبل الحق، وكونه قبل السبب لا يضر، كما لو أن الإنسان اشترط في المبيع شرطاً قبل العقد فإنه يصح، وهذا ـ أيضاً ـ إذا اتفقا على الرهن قبل العقد فما المانع؟! فلا مانع في الحقيقة، ولو أننا فتحنا الباب، وقلنا: إنه لا يصح لتحيل المتحيلون، فجاء المستدين للدائن وقال: أريد منك مائة ألف ولكني أعرف أنك لن تقرضني إلا برهن، وأنا الآن أكتب لك رهن بيتي، فرهنتك بيتي بالمائة ألف التي تقرضني، فقال: لا مانع ما دمت رهنتني البيت هذه المائة ألف، ولما انتهى العقد قال

ص: 125

له المستدين: الرهن غير صحيح، وليس لك رهن فيكون بهذا فتح باب لأهل الحيل.

فالصواب: أن الرهن جائز مع الحق وقبل الحق وبعد الحق، وأنه لا مانع؛ لأنه عقد توثقة.

قوله: «بدين ثابت» هذا متعلق بقوله: «يصح» أي: لا بد أن يكون الرهن بدين ثابت على الراهن، فالراهن هو الذي يبذل الرهن وهو الذي عليه الدين، فلا بد أن يكون دينه ثابتاً ـ أي: الدين الذي عليه ـ فإن كان غير ثابت كدين الكتابة ـ مثلاً ـ، فإنه ليس ثابتاً على المكاتب؛ إذ في إمكان المكاتب أن يُعجز نفسه، فلا يصح الرهن به، وكذلك الدين الذي على العاقلة، فإذا جاء أحد إلى عاقلة شخص قاتل خطأً، وقال: أعطوني الدية، فقالوا: الدية مؤجلة، فقال: أعطوني بها رهناً، فإن الرهن هنا لا يصح؛ لأن الدية ليست ديناً ثابتاً، إذ أنها لا تجب على العاقلة إلا إذا كانوا أغنياء في وقت الدفع، فلا يصح الرهن بها؛ وذلك لأن الرهن عقد لازم، والدين غير الثابت ليس بلازم، ولا يمكن أن يوثق غير الثابت بالثابت، فلذلك قالوا: لا يصح أن يرهن إلا بدين ثابت.

والقول الراجح أنه يصح الرهن بالدين غير الثابت، ويكون الرهن تبعاً للدين، إن استقر الدين وثبت، ثبت الرهن واستقر، وإلا فلا؛ لأن الرهن فرع عن الدين، فإذا كان الدين غير ثابت، صار الرهن كذلك غير ثابت حتى يثبت الدين.

ص: 126

‌وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ فَقَط. وَيَصِحُّ رَهْنُ المُشَاعِ

وقوله: «بدين ثابت» ظاهره أن الرهن بالعين لا يصح، مثال ذلك: جاء رجل وقال لآخر: أعطني السيارة، فقال: نعم لكن أريد أن ترهنني شيئاً، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس ديناً ثابتاً، وكذلك لو استعار من شخص كتاباً فقال: لا أعيرك إلا إذا رهنتني شيئاً، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يثبت عليه دين حتى يرهنه.

والصحيح أنه يصح أن يؤخذ رهن بالأعيان؛ لأن ذلك عقد جائز لا يتضمن شيئاً محظوراً، وليس فيه ضرر، وليس هذا كالتأمين؛ لأن التأمين يدفع المؤمِّن الدراهم على كل حال سواء حصل النقص أم لم يحصل، أما هذا فهو رهنه هذا الشيء، فإن حصل على السيارة تَلَفٌ أخذه من الرهن، وإن لم يحصل تلف فالرهن لصاحبه وكذلك الكتاب.

قوله: «ويلزم في حق الراهن فقط» يلزم أي: يجب الوفاء به، أفادنا المؤلف رحمه الله أن الرهن عقد لازم من وجه، وجائز من وجه آخر، والمراد باللزوم والجواز هنا ليس الشرعيين، بل المراد الوضعي، فهو لازم في حق الراهن، جائز في حق المرتهن.

مثال ذلك: رجل استدان من شخص مائة ألف وأرهنه سيارته، فالسيارة الآن بيد المرتهن، فالرهن لازم في حق الراهن، لا يمكنه أن يفسخ الرهن ويقول: أعطني السيارة، والمرتهن في حقه جائز.

ووجه ذلك أن الرهن حق على الراهن للمرتهن، وحق للمرتهن على الراهن، وكل ذي حق فله أن يسقط حقه؛ لأنه

ص: 127

يملك ذلك، فإذا قال المرتهن: أنا أبرأتك من رهنك، وخذ الرهن، وأنت في حِلٍّ، بقي الدين مرسلاً لا رهن فيه.

لكن هل يُؤجَر المرتهن على ذلك أو لا؟

الجواب: ينظر، فإذا كان هناك مصلحة، بأن كان الراهن محتاجاً للرهن، وكان رجلاً عاقلاً نعرف أنه يقدر الأمور، وأنه لن يلعب بالمال، فهنا قد نقول: من المصلحة أن يتنازل عن الرهن؛ لأجل أن ينتفع به صاحبه، أما إذا علمنا أن الراهن رجل مبذر سفيه، لو أطلقنا له الرهن لباعه وتصرف، وأضاع ذمته، وأضاع حق الآخرين، فهنا نقول: الأفضل ألا يتنازل؛ لأن الله تعالى قال في العفو ـ وهو مما يحبه الله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، فأما بدون إصلاح فعدم العفو هو الخير والصلاح.

فأفادنا المؤلف بهذا أن الرهن عقد لازم من وجه، جائز من وجه آخر، وهناك قسم آخر من العقود لازم من الطرفين، مثل عقد البيع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع»

(1)

، وجب يعني لزم من الجانبين.

وهناك عقد جائز من الجانبين، كعقد الوكالة: إنسان وكّل شخصاً أن يشتري له سيارة، فلكل واحد من الوكيل أو الموكل أن يفسخ الوكالة، لكن لو فُرض أن ذلك يتضمن

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112)، ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531)(44) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 128

ضرراً على أحدهما، فإن عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

يمنع الضرر، وقياس قوله تعالى {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، مع أنها رجعية يريد إمساكها قبل أن يتم أجل العدة، يقول الله عز وجل {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} يعني لتقعوا في العدوان، فإذا قدرنا أن الوكيل قَبِلَ الوكالة في مَوْسِمٍ الناسُ فيه نشيطون على البيع والشراء، ثم لما فتر الناس فسخ الوكالة، أو لما رأى أن الوكلاء المعروفين قد انشغلوا فيما وُكلوا فيه، فسخ الوكالة؛ من أجل أن يضطر الموكل إلى البحث عن وكيل ولا يجد، ففي هذه الحال نقول: إن فسخه يتضمن ضرراً على الآخرين، فلا نجيز له ذلك إلا بعذر، كعجز أو ما أشبه ذلك، لكن بلا عذر نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المبدأ العظيم وهو قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} .

إذاً العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

لازم من الطرفين، جائز من الطرفين، لازم من طرف دون آخر، وذلك حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.

قوله: «ويصح رهن المشاع» أي: المشترك على الشيوع، فيصح أن يُرهن المشاع

(2)

.

مثال ذلك: بيت بين رجلين، لكل واحد منهما النصف،

(1)

سبق تخريجه ص (37).

(2)

وهو المذهب.

ص: 129

فرهن أحدهما نصيبه لدائنه، فإنه يصح؛ لأن هذا الجزء المشاع يجوز بيعه، فإذا حل أجل الدين ولم يوف بيع.

والدليل على جواز بيع المشاع قول جابر رضي الله عنه «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»

(1)

، فهذا يدل على جواز بيع المشاع، فإذا كان بيع المشاع جائزاً كان رهنه جائزاً؛ لأنه إذا حل أجل الدين ولم يوف بيع، وبيع المشاع جائز، إذاً يصح رهن المشاع.

‌وَيَجُوزُ رَهْنُ المَبِيعِ غَيْرِ المَكِيلِ وَالمَوْزُونِ عَلَى ثَمَنِهِ وَغَيْرِهِ

قوله: «ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره» أي: يجوز أن يرهن المبيع على ثمنه وغيره سواء قبضه أم لم يقبضه.

مثال ذلك: باعه كتاباً بعشرة دراهم لمدة ستة أشهر بشرط أن يرهنه نفس الكتاب، فهذا رهن المبيع على ثمنه، وهو رهن مع الحق.

وقوله: «وغيره» أي: كما لو كان عند المشتري له دين سابق فقال: سأبيعك هذا الشيء وأرهنه بدينك السابق، فهذا جائز وهو رهن بعد الحق.

ويجوز رهنه على ثمنه وغيره جميعاً، فمثلاً باعه كتاباً بعشرة دراهم ثمناً مؤجلاً، وعليه من قبل عشرة دراهم، فقال البائع: أرهني هذا الكتاب على ثمنه وعلى الدين السابق فهذا يجوز.

(1)

أخرجه البخاري في الشفعة/ باب الشفعة فيما لم يقسم (2257)، ومسلم في البيوع/ باب الشفعة (1608)(134)، عن جابر رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.

ص: 130

فَرَهْنُهُ على ثمنه رَهْنٌ مع الحق، وبالنسبة للدين السابق رهن بعد الحق، فكل مبيع يجوز أن يرهن على ثمنه، وعلى غيره من دين سابق.

وقوله: «غير المكيل والموزون» المكيل والموزون لا يجوز رهنه على ثمنه، ولا على غيره، وهذا إنما يستثنى فيما إذا رهنه قبل القبض؛ لأن المكيل والموزون لا يجوز بيعهما إلا بعد القبض، أي: لو بعت عليك مائة صاع بر بمائتي ريال، وقلتُ: أنا سوف أرهن المائة صاع حتى تعطيني مائتي الريال، فالمؤلف يقول لا يجوز؛ لأن ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، والمكيل قبل أن يقبض لا يجوز بيعه، فلا يجوز رهنه، هذا وجه العلة، ومثل ذلك المعدود والمذروع؛ لأنه لا يجوز التصرف في المعدود حتى يعده، فكل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.

إذاً كل مبيع يرهنه الإنسان على ثمنه، إن كان بعد القبض فلا بأس به مطلقاً بدون تفصيل، وإن كان قبل القبض نظرت فإن كان يصح بيعه قبل قبضه جاز رهنه وإلا فلا؛ لأن الرهن فرع للبيع وهذا هو المذهب.

والصحيح الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع المبيع قبل قبضه على غير بائعه؛ والحكمة من ذلك لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه، ولئلا يربح ربحاً يغار منه البائع ويحاول فسخ البيع، أما إذا رهنه على البائع وهو مكيل أو موزون، فالصحيح أنه جائز، وأنه لو قال البائع الذي باع عليه مائة صاع بمائتي ريال: أنا لا أسلمك الأصواع إلا أن تأتيني بالثمن، أريد أن

ص: 131

تكون عندي رهناً، فالقول الراجح أنه جائز؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع المكيل والموزون قبل قبضه على غير بائعه، وهذا رهن على بائعه، فإذا حلَّ الأجل، وكان الدين مؤجلاً ولم يوفِ، باعه البائع واستوفى حقه.

‌وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ إِلاَّ الثَّمرةَ والزَّرْعَ الأخْضَرَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا بِدُونِ شَرْطِ القَطْعِ ..

قوله: «وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه» كل ما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه؛ لأن رهنه حينئذٍ لا فائدة منه، ولهذا لو أنك رهنت ولدك فإنه لا يصح، إذاً القاعدة:«ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه» ؛ لأن رهن ما لا يصح بيعه لا فائدة منه، والعقود التي لا فائدة منها كلها لغوٌ، لا يعتبرها الشارع شيئاً، فأي فائدة أن أرهن شيئاً لا يصح بيعه، فإذا حل الأجل ماذا أعمل؟! ليس إلا زيادة عناء ومشقة لا فائدة منها.

قوله: «إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع» وبدو صلاح الثمرة إذا اصفرت أو احمرت، والزرع إذا اشتد حبه، فبيعهما قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع لا يصح، لكن رهنهما قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع صحيح؛ لأنه إذا حل الأجل فإن كان قد بدا صلاحهما أمكن البيع وإلا انتظر حتى يبدو الصلاح، والمرتهن إذا كان يعرف أن الصلاح قد بقي عليه شهران أو ثلاثة قد دخل على بصيرة، فليس فيه إشكال، وهذا الاستثناء واضح، فيجوز أن ترهن الثمرة قبل بدو صلاحها، وإن لم يشترط القطع؛ لأن حق المرتهن لا يضيع؛ بل إن شرط القطع قد يكون مفسداً للعقد؛ لأنه لا فائدة منه.

ص: 132

مسألة: رهن الثمرة قبل خروجها، والزرع قبل زرعه لا يصح، يؤخذ من قوله:«إلا الثمرة والزرع» ، وقبل الخروج الثمرة معدومة، والرهن توثقة دين بعين، وهنا لا عين، وعلى هذا فإذا جاء الفلاح إلى التاجر، وقال: أنا أريد أن أحرث هذه الأرض وأزرعها فأريد أن تقرضني، قال: نعم أنا أقرضك عشرة آلاف ريال، لكن بشرط أن أرهن الزرع الذي سوف تزرعه في هذه الأرض، فإنه لا يصح؛ لأن الزرع الآن ليس موجوداً، فكيف يرهن شيئاً معدوماً؟! لكن عمل الناس على خلاف ذلك فيرهنون ذلك باعتبار المآل.

فإن قال قائل: لماذا لا نعدل عن رهن الثمرة إلى رهن الشجرة، فالشجرة قائمة، وعن رهن الزرع إلى رهن الأرض، فالأرض قائمة؟

نقول: الأرض قد تكون لغير المستدين، فيكون المستدين مجرد زارع، وكذلك الشجر قد يكون لغير المستدين، فالمستدين فلاَّح ليس له إلا الثمرة، والشجر لمالك الأرض فلا يمكن، لكن لو أمكن بأن يكون المستدين هو مالك الأصل والفرع، قلنا: لا بأس ارهن الشجرة وتدخل فيها الثمرة، أو ارهن الأرض ويدخل فيها الزرع، أما ألا يكون له ملك في الأرض، ولا ملك في الشجرة فهذا لا يصح، لكن كما ذكرنا عمل الناس اليوم على خلاف ذلك، فيأتي الفلاح، ويقول للتاجر: أنا أريد أن أحرث في هذه الأرض، وأريد أن تدينني وأرهنك الزرع، فيعطيه ما يطلب.

ص: 133

وإذا تأملت وجدت أنه ليس في الشرع ما يمنع ذلك؛ لأن المعاملات الممنوعة ـ كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وقوله صحيح ـ مبناها على ثلاثة أشياء: الظلم، والغرر، والميسر، فإذا وجدت معاملة تشتمل على واحد من هذه الأمور الثلاثة فاعلم أن الشرع لا يقرها، وأما ما عدا ذلك مما ينفع الناس، وييسر أحوالهم فاستعن بالله وأفتِ بحله، حتى يتبين لك التحريم، وأنت إذا أفتيت بحل ما لم يتبين تحريمه، فأنت على حق؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويوم القيامة سوف يسألك الله عز وجل لماذا حرمت على عبادي ما لم أحرمه؟ فماذا يكون الجواب؟! ليس عندك جواب، لكن لو أحللت لهم شيئاً لا تعلم أنه حرام قلت: يا ربي مشيت على قاعدة شرعية «أن الأصل الإباحة» ، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وليس في كتاب الله بطلان هذا الشرط، والمسلمون على شروطهم، وقال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

فالإنسان في هذه المسألة بالذات ينبغي أن يغلِّب جانب الحل؛ لأن تحليل المحرَّم أهون من تحريم الحلال؛ لأن تحليل المحرم في المعاملات مبني على أصل، لكن تحريم الحلال مبني على غير أصل، وفيه تضييق على العباد بدون برهان من الله عز وجل.

وهذه القاعدة ـ إن شاء الله ـ مفيدة، تنفعنا وتنفع غيرنا، لكن عسى الناس أن يمشوا على هذا، لكن الناس الآن بدؤوا

ص: 134

يتفلتون، والحلال ما حل باليد، فهذا يسمونه تأميناً تعاونياً وغير ذلك، فبدأ الناس الآن يظهرون علينا بمعاملات تحتاج إلى تأمل كبير، هل تنطبق على الشريعة الإسلامية، أو هي لعبة من اللعب، أو ماذا؟!

‌وَلَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالقَبْضِ وَاسْتدَامَتُهُ شَرْطٌ، فَإِنْ أَخْرَجَه إِلى الرَّاهِنِ بِاخْتِيَارِهِ زَالَ لُزُومُهُ، فَإِنْ رَدَّهَ إِليْهِ عَادَ لُزُومُهُ إِليْهِ،

قوله: «ولا يلزم الرهن إلا بالقبض» «لا يلزم» أي: في حق من هو لازم في حقه وهو الراهن، إلا بالقبض من المرتهن، يعني لا بد أن يقبض المرتهن الرهن، فلا يلزم بمجرد العقد، فإن لم يقبضه فالعقد صحيح، لكنه ليس بلازم.

دليل هذا: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فوصفها بأنها مقبوضة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة»

(1)

، وهذا يدل على أن المرتهن يقبض الرهن؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رهن درعه لليهودي أقبضه إياه

(2)

، فإذا كان كذلك فإنه لو لم يقبضه لم يكن الرهن لازماً.

والتعليل أنه لا يتم الاستيثاق إلا بقبض الرهن؛ لأنه قبل القبض على وشك أن يتصرف الراهن فيه بأخذ شيء منه أو بيعه وما أشبه ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، وعلى هذا فإذا رهن شخص بيتاً بدين عليه، ولكن المرتهن لم يقبضه، فللراهن

(1)

سبق تخريجه ص (121).

(2)

سبق تخريجه ص (121).

ص: 135

أن يبيع البيت ويتصرف فيه؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، ولا قبض هنا، وهذا أحد القولين في هذه المسألة.

القول الثاني: أنه يلزم بالعقد في حق من هو لازم في حقه، بدون قبض وأن القبض من التمام؛ لأننا متفقون على أن الرهن يثبت بالعقد فإذا كان كذلك فقد قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وهذا يدخل فيه عقد الرهن سواء قبض المرهون أم لم يقبض.

وقوله ـ تعالى ـ {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، لأن جميع الناس يستقبحون هذا، أي: أن يرهنه ويعطيه ثقةً، ثم بعد ذلك يبيع ويفسخ الرهن، وأيضاً فإننا لو قلنا بعدم اللزوم، لكان في ذلك فتح باب لكل متحيِّل، يتحيل عليه بعدم القبض، ثم إذا تم العقد والرهن ذهب فباعه، وما كان ذريعة إلى الباطل فهو باطل، وهذا القول هو الراجح، للأدلة التي ذكرت.

وأما قوله ـ تعالى ـ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فليقرأ الإنسان ما بعدها، حيث قال {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فإن آخر الآية يدل على أنه إذا حصل الائتمان بيننا فإنه لا يجب رهن ولا إشهاد ولا كتابة، وأيضاً ظاهر الآية أنه لا يجوز الرهن إلا في حال السفر، وأنتم ترون جوازه في السفر والحضر وهو الحق، وإنما نص الله ـ تعالى ـ على القبض في المسألة الأولى؛ لأنه لا يمكن أن يتمكن من

ص: 136

التوثقة حق التمكن إلا إذا قبض، فهو على سفر، وليس عنده كاتب فلا يتوثق من حقه إلا بالرهن المقبوض؛ لأنه إذا لم يقبضه فإنه يجوز أن ينكر المدين الرهن، كما أن الرهن إنما كان من أجل ألا يحصل هناك تناكر بين البائع والمشتري، وعلى هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن القبض شرط، وإنما يدل على أن القبض من كمال التوثقة؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكره في صورة معينة:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، ثم أعقب ذلك بقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

أما الحديث وهو: «الظهر يركب بنفقته، ولبنُ الدَّرِّ يشرب بنفقته»

(1)

فهذا نعم، نقول بموجبه إذا قبض، وهل هذا يدل على أن القبض شرط للزوم؟

الجواب: لا، وكذلك نقول في مسألة رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند اليهودي

(2)

، فالصواب أنه يلزم بمجرد العقد وهو الذي عليه عمل الناس من قديم الزمان ـ وهو خلاف المذهب ـ فتجد الفلاح يستدين من الشخص ويرهن مزرعته وهو باقٍ في المزرعة، ويستدين صاحب السيارة من شخص ويرهن السيارة والسيارة بيد صاحبها، وكلٌ يعرف أن هذا المرهون لا يمكن أن يتصرف فيه الراهن، وأن الرهن لازم، ولا يملك الراهن أن يفسخه.

(1)

سبق تخريجه ص (121).

(2)

سبق تخريجه ص (121).

ص: 137

قوله: «واستدامته شرط» هذه زيادة على القبض، يعني استدامة القبض شرط في اللزوم، فلو قبضه المرتهن لمدة يوم أو يومين، ثم رده على الراهن زال اللزوم؛ لأنه لا بد أن يستمر القبض.

مثال ذلك: رجل رهن سيارته عند إنسان بدين عليه، وقبضها المرتهن ـ صاحب الدين ـ، وبعد مضي يومين أتى إليه الراهن، وقال: أرجو أن تعطيني السيارة؛ لأني أحتاجها وهي عندك واقفة لا تستفيد منها، قال: نعم، فردها المرتهن إلى الراهن، ففي هذه الصورة يزول لزوم الرهن، وللراهن أن يتصرف فيه، هذا على كلام المؤلف، ولهذا قال:

«فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه» وهذا كله مبني على أن القبض شرط في لزوم الرهن، وأن استدامته شرط كذلك.

وقوله «باختياره» يفهم منه أنه إن أخرجه مكرهاً فاللزوم باق، مثاله: أتى الراهن إلى المرتهن بعد أن سلمه الرهن وقال: لتعطيني رهني أو لأقتلنك، وهو قادر على تنفيذ ما هدد به، فقال المرتهن: خذ الرهن، فإن اللزوم يبقى؛ لأنه مكره.

ولو أن المرتهن قال له أبوه: أعطِ الراهن سيارته لينتفع بها وهي برهنها، فمن أجل بره بوالده أعطى الراهن سيارته، فلا يبقى اللزوم؛ لأن والده لم يكرهه وهو باختياره.

ولو فرض أن المرتهن أراد أن يسافر فرد الرهن إلى الراهن

ص: 138

على أنه وديعة عنده وأنه نائب منابه، فاللزوم على رأي المؤلف يزول لأنه رده إلى الراهن، وقد أطلق المؤلف ولم يشترط إلا شرطاً واحداً وهو «باختياره» ، وعلى رأي المؤلف لو تصرف فيه الراهن ببيع ونحوه فتصرفه حلال؛ لأن اللزوم زال، وهذا مما يدل على بطلان هذا القول؛ لأن القول إذا لزم منه شيء ينكر دل ذلك على بطلانه.

وقوله: «فإن رده إليه عاد لزومه إليه» فإن رده الراهن إلى المرتهن، فلا يحتاج لزومه مرة ثانية إلى تجديد العقد، فيعود لازماً بمجرد رده إلى المرتهن، فصار هذا الرهن يوم السبت لازماً، يوم الأحد غير لازم، ويوم الاثنين لازماً، ويوم الثلاثاء غير لازم.

وقوله: «فإن أخرجه إلى الراهن» علم منه أنه لو أخرجه إلى غير الراهن فلا يزول اللزوم، مثل أن يودعه ثقة، لكنه لا يمكن أن يودعه أحداً إلا بموافقة الراهن؛ لأن الراهن له حق الملكية والمرتهن له حق التوثقة.

وقوله: «فإن رده إليه» فلو رده الراهن إلى غير المرتهن فلا يعود اللزوم، نعم لو كان هذا الشخص وكيلاً للمرتهن فرده الراهن إليه عاد اللزوم.

وقوله: «فإن رده إليه عاد لزومه إليه» ولم يقل باختياره، فلو ذهب المرتهن إلى الراهن وقال: أعطني الرهن وإلا فعلت، وفعلت حتى رده إليه، فهنا يعود اللزوم؛ لأن هذا الإكراه بحق؛ لأن حقه ما زال موجوداً في هذا الرهن، فهو لم يكرهه على شيء ليس من حقه، هذا ظاهر كلام المؤلف، لكن قد يقال: إن المؤلف أسقط

ص: 139

قوله باختياره؛ لأن الأصل في الفعل أن يكون اختيارياً.

والصواب خلاف هذا فليس القبض شرطاً ولا استدامته شرطاً.

‌وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بغَيْرِ إِذْنِ الآخَرِ إلاَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الإِثْمِ وَتُؤْخَذُ قِيمَتُهُ رَهْنَاً مَكَانَهُ وَنَمَاءُ الرَّهْنِ وَكَسْبُهُ وَأرْشُ الجِنَايَةِ عَلَيْهِ مُلْحَقٌ بِهِ وَمُؤونَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَكَفَنُهُ وَأُجْرَةُ مَخْزَنِهِ.

قوله: «ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه» يعني لو أن أحدهما أي: الراهن أو المرتهن، تصرف فيه بأي تصرف فإنه لا ينفذ، لماذا؟

الجواب: أما كون الراهن لا ينفذ تصرفه؛ فلأن الرهن مشغول بحق غيره، وتصرفه فيه إبطال لحق الغير، وأما كون المرتهن لا يملك التصرف؛ فلأن المرتهن ليس مالكاً ولا قائماً مقام المالك، فالرهن ملك للراهن له غُنمه وعليه غُرمه، فلا يصح أن يتصرف، لا الراهن، ولا المرتهن في المرهون.

وظاهر كلام المؤلف سواء كان هذا التصرف نقلاً لملكية العين أو لمنافعها، فمعناه أن الراهن لا يبيع المرهون ولا يؤجره، وعلى هذا فيبقى الرهن معطلاً إذا امتنع كل منهما أن يأذن للآخر.

فلو أن الإنسان رهن بيتاً في دين، والدين خمسمائة ألف، والبيت تساوي أجرته خمسين ألفاً، فطلب الراهن من المرتهن أن يؤجر البيت لينتفع بالأجرة فأبى المرتهن، أو طلب المرتهن من الراهن أن يؤجر البيت فأبى الراهن، فإن البيت يبقى معطلاً لا ينتفع به أحد، وهذا القول كما ترى فيه شيء من إضاعة المال.

والصواب أنه إذا طلب أحدهما عقداً لا يُضِرُّ بحق المرتهن فإن الواجب إجابته، وأن الممتنع منهما يجبر على استغلال هذا النفع.

ص: 140

فإذا قال الراهن: أنا أريد أن أؤجر البيت وأنتفع بالأجرة، خمسون ألفاً تمثل قسطاً كبيراً من الدين الذي عليَّ، وأبى المرتهن، فإنه يجبر أن يوافق لكن بشرط أن يكون على وجه لا يضيع به حق المرتهن، فإن كان يضيع به حق المرتهن، مثل أن يطلب الراهن تأجيره على من يدمر البيت فيكسر الأبواب، ويكسر الزجاج، ويفسد الدهان، وما أشبه ذلك، فللمرتهن أن يمتنع؛ لأن ذلك يضر به، إذ أن هذا المرهون عند بيعه سوف ينقص فله أن يمتنع، أما إذا لم يكن هناك نقص فإن الممتنع منهما يجبر؛ لأن في تركه وإهماله إضاعة للمال وضرراً على الراهن.

قوله: «بغير إذن الآخر» عُلم منه أنه إذا أذن أحدهما للثاني أن يتصرف فإنه جائز، فإذا قال المرتهن للراهن؛ أجِّره من شئت، فأجره فلا حرج، ولكن أين تكون الأجرة؟

الجواب: تكون تبعاً للرهن تحفظ في أي مكان تحفظ فيه الدراهم حتى يحل الدين، وكذلك إذا أذن الراهن للمرتهن، وقال: لا بأس أجره، فإنه يؤجره، وإذا قبض الأجرة أسقط قدرها من دينه، وهذا هو المتعين، أعني أنه إذا امتنع أحدهما أجبر، ما لم يكن هناك ضرر على المرتهن.

قوله: «إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمته رهناً مكانه» يعني إلا عتق الراهن، وهذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل يعني إلا عتق الراهنِ المرهونَ، فإنه ينفذ، ويعتق العبد المرهون، لكن مع الإثم، ويُضَمَّن الراهن قيمته، وتكون رهناً مكانه.

ص: 141

مثال ذلك: رجل استدان من شخص خمسين ألفاً، وأرهنه عبده، ثم إن الراهن أعتق العبد، يقول المؤلف: إعتاقه العبد حرام، لكن العتق ينفذ

(1)

، أما كون إعتاقه حراماً؛ فلأنه تصرف يسقط به حق المرتهن فكان حراماً، وأما كونه نافذاً فلأن العتق مبني على السراية والتغليب فينفذ مع التحريم، ولأن الشارع متشوف إلى العتق ويحث عليه ويرغب فيه، ولكن ماذا عن حق المرتهن؟

يقول المؤلف: «وتؤخذ قيمته رهناً مكانه» تؤخذ القيمة من الراهن الذي أعتقه وتجعل رهناً، ولم يقل يؤخذ ثمنه؛ لأنه لم يبعه، وعلى هذا فيقوّم هذا العبد ثم تجعل القيمة رهناً مكانه، فيتعلق بعتق الراهنِ المرهونَ ثلاثةُ أحكام: النفوذ، والتحريم، وأن تؤخذ قيمته فتكون رهناً.

فإذا كان الراهن ليس عنده شيء، فماذا يصنع؟

يبطل حق المرتهن؛ لأنه ليس عنده شيء، ويبقى الدين الأصلي في ذمة الراهن.

وعُلم من قول المؤلف «إلا عتق الراهن» أن عتق المرتهن لا يصح ولا ينفذ؛ والعلة أنه ليس مالكاً له، فالمرتهن لا ينفذ عتقه مطلقاً.

أما لو باع الراهن هذا العبد ولم يعتقه، فهذا يحرم ولا يصح، وتقدم لماذا نفذ العتق مع التحريم، وأن العلة قوة سريان العتق، لكن هذا القول ضعيف جداً.

(1)

وهو المذهب.

ص: 142

والصواب أن عتقه حرام، ولا يصح، أما كونه حراماً؛ فلأن في تنفيذه إسقاطاً لحق المرتهن، وأما كونه لا ينفذ؛ فلأنه أمر ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذ هو حرام، فكيف نقول: هو حرام، ثم نقول: ينفذ؟! فهذا تناقض، بل محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ»

(1)

، وكيف يتقرب إلى الله بمعصيته؟!

وأما قولهم: إن هذا من أجل قوة سريان العتق، فنقول: قوة سريان العتق ما لم يبطل به حق الغير، وإذا بطل فلا يجوز، فالعتق عبادة، ولهذا جاء كفارة في القتل والظهار واليمين فهو من أعظم العبادات، فإذا وقع على وجه محرم كان باطلاً، فإذا أذن المرتهن للراهن أن يعتقه فهذا يجوز ولا إشكال.

قوله: «ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به» الرهن أي: المرهون، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والمصدر بمعنى اسم المفعول يأتي كثيراً في اللغة العربية، كما في قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4]، الأحمال جمع حمل بمعنى محمول، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي: مردود، فنماء الرهن، أي: ما يحصل منه من ثمر ودر ونسل، ملحق به، وكسبه ملحق به، وأرش الجناية عليه ملحق به، يعني أنه يكون رهناً.

النماء يكون متصلاً ويكون منفصلاً، فإذا رهنه شاة هزيلة،

(1)

أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 143

ثم سمنت، وزاد لحمها، وكبر جسمها، فهذه الزيادة لا شك أنها تدخل في الرهن، ولو قلنا: إنها لا تدخل لقال الراهن للمرتهن: ليس لك إلا قيمته هزيلاً، ولكن الأمر كما قال المؤلف، فالزيادة المتصلة تلحق ولا إشكال، والزيادة المنفصلة ـ أيضاً ـ تلحق.

مثاله: رهنه شاة، فحملت الشاة بعد الرهن وولدت، وأولادها ولدوا، فالأولاد منها ومن أولادها يتبعون الرهن؛ لأنها نماؤه، وكذلك يقال فيما لو رهنه نخلاً فنما النخل وكبر، فإن النماء يتبع الأصل، وكذلك لو أثمر النخل بعد أن رُهِن فإن ثمرته تكون رهناً؛ لأنها نماء له.

وقوله: «وكسبه» أي: ما اكتسبه الرهن، كعبد اتجر، يعني رهن عبداً واتجر العبد، وكسب، فَكَسْبُ العبد رهن تبعاً لأصله، وكذلك لو أذن الراهن للمرتهن أن يؤجر البيت المرهون، وأجَّره فأجرته تكون رهناً؛ لأن الفرع يتبع الأصل.

وقوله: «وأرش الجناية عليه ملحق به» ـ أيضاً ـ أرش الجناية عليه، أي: ما يؤخذ بسبب الجناية على الرهن، يتبع الرهن، مثال هذا: رهن شاة عند إنسان ثم إن أحداً من الناس اعتدى عليها، وكسر رجلها، ونقصت قيمتها، فإن الراهن صاحب الشاة سوف يأخذ النقص من المعتدي الذي جنى، فهذا النقص الذي أخذه من الجاني يكون رهناً، وهكذا ـ أيضاً ـ لو كان عبداً رهنه، ثم جنى عليه إنسان، فأتلف منه عضواً، فإن دية هذا العضو تكون رهناً.

فصار النماء والكسب وأرش الجناية يُلحق بالرهن، أي: جميع ما يتفرع من الرهن يُلحق به.

ص: 144

قوله: «ومؤونته على الراهن» مؤونته: يعني طعامه وشرابه وكسوته إن كان يحتاج إلى كسوة، على الراهن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يَغلق الرهن من صاحبه له غُنمه وعليه غرمه»

(1)

، فله غنمه وعليه غرمه.

مثال ذلك: إذا كان الرهن يحتاج إلى حراسة، واستأجرنا حارساً يحرسه، فتكون الأجرة على الراهن؛ لأنها حراسة لملكه، ولا يقول قائل: إنه بين الراهن والمرتهن؛ لأن كلاًّ منهما سوف يستفيد.

نقول: هذا خطأ؛ لأن الغرم بالغنم، فمن له غنم شيء فعليه غرمه.

قوله: «وكفنه» كذلك كفنه لو مات، يعني لو كان المرهون عبداً فمات، فإذا مات يحتاج إلى أجرة غاسل، وقيمة ماء، وقيمة كفن، فتكون هذه على الراهن؛ لأنه ملكه، له غنمه وعليه غرمه.

قوله: «وأجرة مخزنه» يعني لو كان الرهن يحتاج إلى خزن،

(1)

أخرجه الشافعي في المسند (2/ 164)، وابن ماجه في الرهون/ باب لا يغلق الرهن (2441)، وابن حبان (5943) إحسان، والدارقطني (3/ 232)، والحاكم (2/ 51)، والبيهقي (6/ 39) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، واخرجه مالك في الموطأ (2/ 728)، والشافعي (2/ 163) ومن طريقه البيهقي (6/ 39)، وعبد الرزاق (15034)، وأبو داود في المراسيل (186، 187) عن الزهري عن سعيد مرسلاً، قال البيهقي:«وهو المحفوظ» ورجحه ابن عبد الهادي في المحرر (892)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 430): وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها، وانظر: بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2334) ونصب الراية (4/ 320) والتلخيص (1232).

ص: 145

واستأجرنا مكاناً نخزنه فيه، فأجرة المخزن على الراهن، ولا يقال: إن المخزن فيه مصلحة للجميع، فينبغي أن تكون أجرة المخزن على الجميع، نقول: لا؛ لأن عين هذا المال للراهن فغنمه له وغرمه عليه.

‌وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ المُرْتَهِنِ إِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِن تَلِفَ بَعْضُهُ فَبَاقِيهِ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلَا يَنْفَكُّ بَعْضُهُ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ دَيْنِهِ وَإِنْ رَهَنَ عِندَ اثْنَيْنِ شَيْئاً فَوَفَّى أَحَدَهُمَا، أَوْ رَهَناهُ شَيْئاً فَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِ

هِما انْفَكَّ فِي نَصِيبِهِ.

قوله: «وهو» الضمير يعود على المرهون.

قوله: «أمانة في يد المرتهن» فيد المرتهن يد أمانة؛ وجه ذلك أنه حصل المال في يده بإذن من مالكه، وكل مال حصل بإذن من المالك، أو إذن من الشارع فهو بيد صاحبه أمانة، بإذن من المالك كالوكيل ـ مثلاً ـ فهو يقبض المال بإذن صاحبه فهو إذاً أمين، وإذنٍ من الشارع مثل ولي اليتيم فإنه يقبض مال اليتيم، ويتصرف فيه بالتي هي أحسن بإذن من الشارع، وضد ذلك الغاصب فإن المال بيده ليس أمانة ولهذا يضمنه مطلقاً، أما هذا فيقول المؤلف:«وهو أمانة في يد المرتهن» ؛ لأنه لم يعتد بل قبضه بحق، وإذا كان أمانة، فإنه لا يجوز له أن يتصرف فيه، إلا ما استثنى الشرع في قوله:«الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً»

(1)

، وما عدا ذلك لا يجوز التصرف فيه، وقد سبق.

ولكن يتفرع على قوله أنه أمانة قوله:

«إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه» «إن تلف»

(1)

سبق تخريجه ص (121).

ص: 146

الضمير يعود على الشيء المرهون، «من غير تعدٍ منه فلا شيء عليه» ، فإن كان منه تعد فالضمان عليه أي: على المرتهن، وكذلك لو فرط فإن ضمانه عليه، وعلى هذا ينبغي أن يزاد في كلام المؤلف:«من غير تعد ولا تفريط» ، والفرق بين التعدي والتفريط:

أن التعدي: فعل ما لا يجوز.

والتفريط: ترك ما يجب.

مثاله: لو أن شخصاً ارتهن ناقة من آخر، ثم لم يحطها بعناية فقضى عليها البرد، فإننا نقول: هذا تفريط؛ لأن الواجب عليه أن يجعلها في مكان دافئ؛ لئلاّ تموت.

مثال آخر: رجل رهن بعيراً، ثم إن المرتهن صار يحمل عليه ويكده فإننا نسمي ذلك تعدياً.

فإن تعدى أو فرط المرتهن فهو ضامن، وإن لم يتعد ولم يفرط فليس بضامن؛ والعلة في ذلك أنه قبضه من صاحبه بإذنه، فهو أمانة بيده.

قوله: «ولا يسقط بهلاكه» أي: الرهن.

قوله: «شيء من دينه» أي: من الدين الذي عليه، بل يبقى الدين على ما هو عليه.

مثال ذلك: رجل استدان من شخص وأرهنه سيارته، ثم إن السيارة احترقت، وكانت مرهونة بخمسين ألف ريال، فهل يسقط شيء من الدين في مقابل الاحتراق؟

الجواب: لا، ولهذا قال:«شيء» وهي نكرة في سياق

ص: 147

النفي، فلا يسقط من الدين لا قليل ولا كثير إذا هلك الرهن كله أو بعضه، لكن يجب أن يلاحظ أنه لا يسقط إذا لم يكن بتعدٍّ أو تفريط، فإن كان بتعدٍّ أو تفريط ألزم المرتهن بالضمان، وحينئذٍ لا بد أن يسقط من الدين بمقدار ما لزمه من ضمانه، لكن الكلام فيما إذا لم يتعد أو يفرط، فإنه لا يسقط بهلاكه شيء من الدين؛ لأن الجهة منفكة، فهذا رهن توثقة، وهذا دين ثابت في الذمة فلا يتساقطان.

مثال آخر: رجل رهن خمس شياه متقاربة الثمن بخمسائة ريال، فتلفت واحدة، هل يسقط مقابلها مائة؟

الجواب: لا؛ لانفكاك الجهة، فإذا تلفت اثنتان فإنه يثبت الخمسمائة وهلم جرًّا.

فما هلك من المرهون فإنه لا يسقط من الدين، إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً، فهنا يضمن ويُسقَط من دينه إلا إذا أوفاه.

فإن أسقطه المرتهن، يعني أن المرتهن رحم الراهن الذي تلف ماله المرهون فأسقط شيئاً من دينه فهذا يجوز؛ لأن الحق له، بل يحمد ويشكر على أن جَبَر قلب أخيه بإسقاط شيء من الدين مقابل ما تلف.

قوله: «وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين» أي: بعض المرهون، فباقيه رهن، لكن هل هو رهن فيما يقابله من الدين، أو رهن بجميع الدين؟

الجواب: بجميع الدين.

مثال ذلك: رجل رهن عشر شياه بمائة ريال، وتلف من الشياه العشر خمس، وبقي خمس، هل نقول: إن هذه الخمس

ص: 148

رهن بجميع الدين، أو رهن بما يقابلها من الدين وهو خمسون، ويبقى النصف الثاني من الدين مرسلاً ليس فيه رهن؟

الجواب: الأول؛ لأن هذا عقد توثقة، وليس عقد معاوضة حتى نقول: ما تلف فإنه يقابل بعوض، فالرهن عقد توثقة، والتزاحم فيه تزاحم استحقاق، وعلى هذا فنقول: إذا تلف بعضه فباقيه رهن بكل الدين، ولا نقول: إن الدين نصفه له رهن ونصفه ليس له رهن؛ لأن المرهون تلف بعضه أي نصفه.

قوله: «ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين» هذا ـ أيضاً ـ مهم: لا ينفك بعض الرهن مع بقاء بعض الدين، ومع بقاء كل الدين من باب أولى.

مثاله: رجل رهن خمس شياه بخمسائة درهم، ثم إنه أوفى من الدراهم الخمسمائة ثلاثمائة درهم والمرهون خمس شياه، فهل نقول: إن ما يقابل الوفاء ينفك به الرهن؟

الجواب: لا، بل نقول: يبقى الرهن بجميع الدين، ولهذا قال:«لا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين» ، بل يبقى على ما هو عليه، رهناً بباقي الدين.

قوله: «وتجوز الزيادة فيه دون دينه» تجوز الزيادة في الرهن دون دينه، أما الزيادة في الرهن فلأن فيها مصلحة وهو زيادة التوثقة، وأما الزيادة في دينه فلا يجوز؛ لأنه يريد أن يشغل هذا الرهن بالدين الثاني، مع أنه مشغول بالدين الأول، والمشغول لا يشغل.

ص: 149

مثال الزيادة في الرهن رجل استدان من شخص خمسين ألفاً وقال له الشخص: أريد رهناً، فقال: هذه سيارتي، فأخذها، وانتهى العقد على هذا، أن الرهن سيارة واحدة، ثم إن صاحب الدين وهو المرتهن شعر بأن السيارة لا تكفي في الدين، فطلب ممن رهنه السيارة أن يرهنه سيارة أخرى، فهذا يجوز، لكن هل يجبر المدين على أن يرهن الأخرى؟

الجواب: لا يجبر، لكن لو اتفقا فلا بأس؛ لأنه ليس فيه ظلم ولا ربا.

وأما الزيادة في الدين فلا.

مثاله: رجل استدان من شخص خمسين ألفاً، وقال له: لك البيت رهناً، ثم إن المدين احتاج زيادة مال فجاء إلى المرتهن وقال: أقرضني، قال: أعطني رهناً، قال: الرهن الأول، فالدين الأخير يتبع الرهن الأول، يقول المؤلف: إن هذا لا يجوز؛ لأن الرهن مشغول بالدراهم الأولى.

والصواب: الجواز، وأنه لا بأس بزيادة الدين؛ لأنه برضا الطرفين وفيه مصلحة للراهن، وهو قول لبعض العلماء؛ وذلك لأن المرتهن قد توثق لنفسه، فإذا جاء الراهن وطلب منه أن يضيف إلى الدين الأول شيئاً يدخل في الرهن صار من نصيب الراهن، وما المانع أن يكون لأحد الطرفين مصلحة، وهي مصلحة ليس فيها ربا؟!

وقولهم: إن المشغول لا يشغل، فصحيح إذا كان الشاغل

ص: 150

أجنبياً، أما إذا كان الشاغل هو الشاغل الأول ورضي بذلك فما المانع؟! ولهذا عمل الناس على جواز الزيادة في الدين، أي: خلاف المذهب، فيأتي الفلاح عندنا ويستدين من التاجر ويقول: أرهنك الفلاحة بهذا الدين، ثم يستدين منه مرة ثانية، ويقول: هذا الدين داخل في الرهن الأول، والقضاة يحكمون بصحة ذلك.

قوله: «وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما» هذا الشيء المرهون مُلكٌ لواحد، رهنه عند اثنين، فوفى أحدهما فإنه ينفك الرهن في نصيبه دون نصيب صاحبه.

مثال ذلك: استدان زيد من عمرٍو وبكر مائة ألف، فكل واحد أدانه خمسين ألفاً، ثم قال: هذا البيت رهن بدينكما، ثم أوفى عَمراً، فهل ينفك في نصيبه؟

الجواب: نعم، ويبقى هذا البيت مرهوناً نصفه فقط، وباقيه غير مرهون، هذا معنى قوله:«إن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما» .

قوله: «أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما» المرهون شركة.

مثاله: هذا بيت مشترك بين زيد وعمرو، استدان الرجلان من شخص فرهناه البيت المشترك، فاستوفى من أحدهما، فهل ينفك الرهن في نصيبه؟

يقول المؤلف: «انفك في نصيبه» وذلك لأن الصفقة اشتملت على عقدين، فإذا انفك الرهن في أحد العقدين، بقي الرهن الآخر.

ص: 151

‌وَمَتَى حَلَّ الدَّيْنُ وَامْتَنَعَ مِن وَفَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهنُ أَذِنَ للْمُرْتَهِنِ أوْ العَدْلِ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَوَفَّى الدَّيْنَ، وَإِلاَّ أجْبَرَه الحاكمُ عَلَى وَفَائِهِ أَوْ بَيْعِ الرَّهنِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَهَ الحَاكِمُ وَوَفَّى دَيْنَهَ.

قوله: «ومتى حَلَّ الدَّين» على المدين الذي هو الراهن.

قوله: «وامتنع من وفائه» أي: امتنع المدين الذي هو الراهن من وفائه.

قوله: «فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفَّى الدَّين» أي: أذن للمرتهن إذا كان الرهن بيد المرتهن، أو العدل إذا كان الرهن عند عدل، يعني عند رجل عدل اتفقا عليه، فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين.

مثاله: رهن سيارته عند شخص استدان منه مائة ألف، ثم حلَّ الدين، وكان قد أذن للمرتهن أنه إذا حل الدين ولم أوف فبع، فهنا نقول: إذا حل الدين، وقال: أوفني، فقال: ليس عندي شيء، فهنا يبيعه ولا يحتاج إلى تجديد الإذن؛ لأنه يكفي الإذن الأول.

وقوله: «أو العدل» مثل أن تكون السيارة التي رهنها عند الدائن بيد شخص ثالث، يعني أن الراهن الذي استدان لم يثق بالمرتهن، وجعل السيارة عند شخص آخر عدل مأمون، وقال له: إذا حل الدين ولم أوف فبع السيارة وأوف المرتهن، فنقول: إذا حل الدين وامتنع الراهن من الوفاء، فإن العدل يبيعها، ولا يحتاج إلى تجديد إذن للإذن السابق، ولهذا قال:«فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين» .

قوله: «وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن» يعني إن

ص: 152

لم يكن أذن، يعني رهن العين ولم يأذن في بيعها عند حلول الأجل إذا امتنع من الوفاء، فهنا يترافع الطرفان إلى الحاكم، ما لم يرض الدائن ببقاء الدين بدون أن يباع الرهن، فيجبره الحاكم على وفائه، وهذا إن كان المدين بيده شيء، وإن كان فقيراً أو مماطلاً أجبره على بيع الرهن، فقال: بعه أو ائذن للمرتهن أو العدل في البيع، أي: يأمره أن يبيعه مباشرة أو أن يأذن للعدل أو للمرتهن في بيعه.

قوله: «فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفَّى دينه» وإنما احتجنا إلى هذه المراتب، مع إمكان الحاكم أن يتولى بنفسه من أول الأمر بيع الرهن والوفاء، حفاظاً على أموال الناس، وألا نعتدي عليها، حتى الحاكم لا يعتدي على أموال الناس، إلا إذا تعذرت مباشرتهم إياها بأنفسهم، فإذا لم يتعذر فإن الواجب أن تكون أموال الناس محترمة، فلا نبيع عن الراهن ملكه بدون أن يعجز عن وفائه، فإذا عجز عن وفائه، فحينئذٍ يتولى الحاكم بيع الرهن ووفاء الدين.

وحينئذٍ إما أن يكون ثمن الرهن أقل من الدين أو أكثر أو مساوياً.

فإن كان مساوياً فهذه بتلك، أعطيناه ثمنه وانتهى الأمر، وإن كان أقل، يعني الدين عشرة آلاف ريال وثمن الرهن ثمانية، أعطيناه ثمن الرهن وبقي له على الراهن ألفان، ولا نقول: إن قيمة الرهن تكفي؛ لأن المرتهن رضي بالرهن فليس له إلا ما ارتهن؛ لأن الدين متعلق بالذمة، والذمة الآن لم

ص: 153

تبرأ، فالذمة مشغولة بعشرة آلاف، وهذا الرهن بيع بثمانية فبقي ألفان.

وإن كان الرهن بيع بأكثر من الدين، استوفى المدين حقه، والباقي يرد إلى الراهن، وهذا واضح.

وإذا كان الرهن من جنس الدين ـ وإن كان بعيداً ـ فإن العلماء يقولون: لا حاجة لبيعه، بل نقول للمرتهن: خذ الرهن، فإن كان بقدر مالك فالأمر ظاهر، وإن كان أقل أتممنا لك الحق، وإن كان أكثر أخذنا منك الزائد.

ص: 154

‌فصلٌ

‌وَيُكونُ عِنْدَ مَنْ اتفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَذِنَا لَهُ فِي البَيْعِ لَمْ يَبِعْ إِلاَّ بِنَقْدِ البَلَدِ، وَإِن قَبَضَ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ فَمِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ،

قوله: «ويكون عند من اتفقا عليه» «يكون» الضمير يعود على الرهن، «اتفقا» الألف تعود على الراهن والمرتهن، هذا ما لم يرض الراهن بكونه بيد المرتهن، فإن رضي فذاك المطلوب وإن لم يرض لعدم ثقته به، قيل لهما: اختارا من يكون بيده، فإذا اختارا فلاناً صار بيده، فإن اختلفا قال أحدهما: أنا أريد فلاناً، وقال الثاني: أنا أريد فلاناً الآخر فكيف نعمل؟ هل نقدم قول الراهن؛ لأنه المالك الذي يخشى على ملكه، أو نقدم قول المرتهن؛ لأنه الطالب للحق الذي يريد أن يتوثق، أو نقول: لا نأخذ بقولكما ونرجع إلى القاضي؟

الثالث: أقرب إلى الصواب؛ لأنه إن راعينا قول الراهن؛ لأنه المالك، فقد يختار المالك رجلاً لا يثق به المرتهن، وإن قدمنا قول المرتهن؛ لأنه صاحب حق ويريد أن يتوثق بحقه فإن الراهن قد لا يثق به، فيقول: أخشى على ملكي إذا كان بيد هذا الرجل، لذلك نرى فكّاً للنزاع وحلاً للمشكلة أن ترفع إلى القاضي ويُعيِّن من شاء، فعلى هذا قال:«ويكون عند من اتفقا عليه» إن اتفقا على أحد، وإن اختلفا فالمرجع إلى القاضي؛ لأن له الولاية العامة.

قوله: «وإن أذنا» الضمير يعود على الراهن والمرتهن.

قوله: «له» أي: للعدل.

ص: 155

قوله: «في البيع لم يبع إلا بنقد البلد» ولا يبيع بنقد آخر، فمثلاً هنا نقد البلد الريال السعودي، فلا يبيع بدولار ـ مثلاً ـ لأنه إذا أطلق العقد رجع إلى العرف بين الناس، والمتعارف بين الناس هو النقد المتداول بينهم، فهو لا يبيع إلا بنقد البلد.

ولو قال: أنا أريد أن أبيعه بمثل الدَّيْن، يعني أن هذا مرهون بدولارات وأذنا له في البيع، هل يبيع بالدولارات أو بنقد البلد؟

الجواب: بنقد البلد، هذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأنه ربما ترتفع قيمة الدولارات فيخسر الراهن، وربما تنخفض فيكون في هذا ضرر على المرتهن، وعلى هذا فلا عبرة بالدين أو بجنس النقد الذي هو الدين، بل العبرة بنقد البلد.

والصحيح أنه يبيعه أولاً بجنس الدين ثم بنقد البلد.

وهل يبيع بفئة خمسمائة أو بفئة مائة أو بفئة خمسين أو فئة عشرة أو فئة ريال؟

الجواب: له أن يبيع بما شاء؛ لأن الأمر كله واحد، لكن في ظني أن الدين إذا كان كثيراً فالأحسن الخمسمائة، وعلى كل حال لا بد من نقد البلد، أما كونه من فئة كبيرة أو صغيرة، فهذا يرجع إلى ما تقتضيه المصلحة.

قوله: «وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن» وذلك لأن الدين ثابت في ذمة الراهن حتى يستلمه المرتهن، فالمرتهن الآن لم يستلم الثمن، فلم يوف دينه، فإذا تلف فمن

ص: 156

ضمان الراهن، ولكن يشترط في ذلك أن يكون بلا تعدٍّ ولا تفريط، فإن كان بتعدٍّ أو تفريط صار هناك ضامن آخر، وهو العدل الذي وُكِل من قبل الطرفين.

مثاله: باع العدل الرهن وقبض الثمن، ثم شب حريق في البيت وتلف الثمن، فهنا المرتهن يرجع على الراهن، ولا إشكال، ولا يرجع الراهن على العدل؛ لأنه تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط.

مثال آخر: قبض العدل الثمن، ووضعه على عتبة المحل، ثم نسي وذهب يصلي، فأتى وقد سُرق، فالضمان للمرتهن على الراهن، والراهن يرجع على العدل؛ أما رجوع المرتهن على الراهن فظاهر؛ لأن الدين في ذمته وهو لا يعرف إلا الراهن، وأما رجوع الراهن على العدل؛ فلأنه فرَّط؛ لأن هذا ليس حفظاً للمال، فالأموال المهمة توضع في الصندوق؛ لأن الإنسان معرض للنسيان، وهذه ـ أيضاً ـ مسألة ينبغي للإنسان أن يسير عليها في حياته، وقد نبهنا عليها، وهي أن يبدأ الإنسان بالأهم، وذكرنا هذا في حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه قال: أين تريد أن تصلي؟ وقد صنع له طعاماً ولكنه لم يبدأ بالطعام؛ لأنه إنما جاء ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى

(1)

، وذكرنا ـ أيضاً ـ أنه لما بال الصبي في حجره دعا بماء فأتبعه إياه

(2)

فالإنسان لا يفرط، فلا يقول: أترك

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (33)، عن عتبان بن مالك رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري في الوضوء/ باب بول الصبيان (222)، ومسلم في الطهارة/ باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله (286) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 157

هذا وإذا انتهيت وضعته في مكانه، حتى في المراجعة، فالإنسان يراجع ـ مثلاً ـ خمسة كتب، كل كتاب في رف فإذا راجعت واحداً، لا تقل أضعه عندي؛ لأنك الآن لست محتاجاً إليه، ضعه أولاً في مكانه؛ لأنك ستضعه ولا بد، ولأجل أن يسلم المكان حولك من تكديس الكتب، ولأجل أن يكون منظماً.

فالدراهم إذا أُعْطِيتَها أمانة لا تجعلها أمامك، وتقول: إذا قمت وضعتها في الصندوق، ضعها مباشرة؛ لأن الإنسان بشر ربما ينسى، وكذلك إذا عَنَّ في ذهنك وأنت طالب علم مسألة، قلت هذه سهلة أراجعها فيما بعد، الأولى أن تراجعها أولاً ما دمت في حاجة لها، ولست تراجع مسألة معينة من قبل، أما إذا كنت تراجع مسألة معينة من قبل فلا تتلهى بغيرها فتضيع عليك، أيضاً يمر بك فائدة قد لا تراها في أي كتاب، وقد لا تكون هذه الفائدة في الموضع الذي تظن أنها فيه، فيقول الإنسان أنا أضبطها في قلبي، ولا أنساها ولا يقيدها، أو على الأقل يشير إلى صفحتها في جانب الكتاب، ثم بعد ذلك ينساها وتضيع عليه وهي تعتبر فائدة درة، لكنه ينسى؛ لأن الإنسان بشر.

‌وَإِنِ ادَّعَى دَفْعَ الثَّمَنِ إِلى المُرْتَهِنِ فَأنْكَرَهُ وَلَا بَيِّنَةَ وَلَمْ يَكُنْ بِحُضُورِ الرَّاهِنِ ضَمِنَ كَوكِيلٍ.

قوله: «وإن ادعى دفع الثمن» أي العدل.

قوله: «إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن» أي: ضمن العدل.

صورة المسألة: أذن الراهن للعدل أن يبيع الرهن ويوفي صاحبه، فباعه ثم جاء إلى صاحبه في دكانه، وقال: يا فلان هذا

ص: 158

ثمن الرهن الذي ارتهنته، فأخذ الدراهم وشكر له، وفي آخر النهار ذهب المرتهن إلى الراهن وقال: أوفني، فرجع الراهن إلى العدل وقال: ألست تقول: إنك أوفيته؟ قال: بلى، فذهبا إلى المرتهن فقال: لا ما وفاني، والعدل ليس عنده بينة، والراهن لم يحضر، فهنا يضمن العدل؛ لأنه فرط بعدم إشهاده، وكان عليه أن يشهد حتى تبرأ ذمته ويؤدي الأمانة كما أمر، فيرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الدَّين ثابت في ذمته ويرجع الراهن على العدل.

لكن لو أن العدل استأذن من الراهن، وقال: يا فلان إن المرتهن رجل شريف كريم، وليس هناك حاجة لأن أحضر إليه من يشهد عليه بالوفاء؛ لأن هذا ليس بطيب في حقه، فقال: أوفه وإن لم تشهد، وثبت أن الراهن قال هذا، فهنا لا يضمن العدل، وكَذلك لو كان بحضور الراهن الذي عليه الدين، فلا ضمان على العدل؛ لأن المفرط هنا الراهن الذي عليه الحق، فلماذا لم يطلب شهوداً يشهدون أنه أوفى؟ فيرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الدين ثابت لم يثبت قضاؤه، ولا يرجع الراهن على العدل.

والخلاصة: أن العدل إذا أوفى المرتهن بدون بينة، ولا حضور الراهن وأنكر المرتهن فعليه الضمان.

قوله: «كوكيل» ، يعني كما لو فعل الوكيل في قضاء الدين وقال: إني وفيت، وأنكر الدائن ولم يكن هناك بينة، ولم يكن بحضور الموكل فإنه يضمن، وهذه المسألة تقع كثيراً.

مثال ذلك: صاحب بقالة اشتريت منه كيس خبز ثمنه ريال، وبعد أن ذهبت به إلى البيت ذهب جاري يشتري خبزاً، فأعطيته

ص: 159

ريالاً قيمة الكيس ليعطيه للبقال، فأخذ الريال وأعطاه للبقال وقال: هذا عن الرجل الذي أخذ منك كيس الخبز، ولم يكن هناك شهود، ثم إن صاحب البقالة لما مر به المشتري قال: أعطني قيمة الخبز، فقال: أعطيته جاري ودفعه لك، فقال: ما أعطاني شيئاً، فهنا يضمن الجار الريال؛ لأنه لم يُشهد عليه بشاهدين.

لكن ينبغي أن يقال: لكل مقام مقال، فالدراهم الخطرة الكثيرة لا بد أن يُشهد عليها، فإن لم يفعل فهو مفرط، أما الشيء اليسير الذي جرت العادة أنه لا يُشهد عليه، فإنه لا يعد مفرطاً، والرجل المدين قد ائتمنه ورضي بأمانته.

فالصحيح في هذا أنه لا يضمن؛ لأن هذا الوكيل يقول للذي وكله: أنت لو ذهبت توفي بهذا الريال ما أشهدت عليه، فكيف تعدني مفرطاً وأنت بنفسك تفعل ما أفعل؟!

ولو أعطى صاحب الدكان فاتورة للوكيل بأنه تسلم الثمن، فالأصل أن الإقرار مقبول، فيكفي إعطاء الفاتورة عن الإشهاد.

‌وَإِنْ شَرَطَ ألاَّ يَبِيعَهُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ، أوْ إِن جَاءَهُ بِحَقِّهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلاَّ فَالرَّهْنُ لَهُ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَحْدَهُ،

............

قوله: «وإن شرط» الفاعل هو الراهن.

قوله: «ألا يبيعه» أي: المرتهن.

قوله: «إذا حل الدين» مثاله: قال: رهنتك هذه السيارة بخمسين ألفاً بشرط ألا تبيعها إذا حل الدين، فالرهن صحيح، والشرط فاسد، ولو أن أحداً قال بعدم صحة الرهن والشرط لكان له وجه؛ لأن هذا الشرط لو صححناه، لكان منافياً لمقتضى العقد، إذ مقتضى العقد هو التوثقة، وإذا كان إذا حل الدين لم يبعه فأين التوثقة؟! لكن المذهب أن العقد صحيح والشرط فاسد،

ص: 160

وبناء على ذلك إذا حل الدين، فهل يجوز للمرتهن أن يبيعه؟ نعم؛ لأن الشرط غير صحيح.

قوله: «أو إن جاءه» الفاعل الراهن، والمفعول المرتهن.

قوله: «بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده» «بحقه» الضمير يعود على المرتهن، والحق هو الدين، فإن جاءه بحقه في الوقت، انفك الرهن، وإن لم يأت بحقه في الوقت المحدد، بقي الرهن بحاله، وبقي الدين بحاله؛ لأن الشرط غير صحيح.

مثال ذلك: رجل أرهن شخصاً سيارة، قال: خذ السيارة رهناً عندك، فإن جئتك بحقك أول يوم من رمضان، وإلا فالسيارة لك، فقال: ليس هناك مانع، فإن هذا الشرط لا يصح، فإذا جاء أول يوم من رمضان، ولم يوف بحقه، بقيت السيارة على رهنها وبقي الدين في ذمة الراهن، يعني كأن شيئاً لم يكن.

والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَقُ الرهن من صاحبه»

(1)

، يعني لا يؤخذ منه قسراً، والتعليل أنه بيع معلق ومن شروط البيع أن يكون منجزاً، فالبيع المعلق غير صحيح.

أما الحديث: «لا يغلق الرهن، من صاحبه» فهنا الرهن لم يغلق من صاحبه، غَلْقُ الرهن من صاحبه، أنه إذا حل الدين ولم

(1)

سبق تخريجه ص (145).

ص: 161

يأت به أخذه المرتهن قهراً، سواء يساوي الدين أو أكثر أو أقل، هذا الذي يقال: إنه غلق من صاحبه، وكانوا في الجاهلية إذا رهنوا الشيء وحل الأجل ولم يوفوا امتلكه المرتهن، وأخذه ملكاً له، رضي الراهن أم لم يرض، فهذا لا شك أنه إغلاق للرهن، وتَمَلُّكٌ له بغير حق، وأما إذا كان باختيار صاحبه فإنه لم يغلق عليه أحد.

وأما التعليل بأن البيع المعلق لا يصح فيحتاج إلى دليل، فما الدليل على أن البيع المعلق غير صحيح؟ فصار هذا التعليل غير صحيح والاستدلال غير صحيح، فنرجع إلى الأصل، والأصل في العقود وشروطها الجواز والصحة؛ لقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وهذا يشمل الوفاء بالعقد أصله وشرطه، ولقوله ـ تعالى ـ:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، والشرط عهد، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»

(1)

، فعلم منه أن الشرط الذي لا ينافي كتاب الله صحيح، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(2)

. فهذه أربعة أدلة من الكتاب والسنة، مع بطلان ما استدل به الأصحاب رحمهم الله.

وحينئذٍ يكون القول الثاني أن هذا الشرط صحيح، فإذا قال الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك في وقت كذا، وإلا فالرهن لك، وقبل فهو صحيح، وبهذا أخذ الإمام أحمد رحمه الله في

(1)

سبق تخريجه ص (100).

(2)

سبق تخريجه ص (18).

ص: 162

فعله، فإنه اشترى من بقال شيئاً ورهنه نعليه وصار يمشي حافياً، وقال له: إن جئتك بحقك في وقت كذا، وإلا فالنعال لك، فوافق صاحب البقالة؛ لأن النعال يمكن أن تكون أكثر من الدين، والله أعلم.

فيكون في المسألة عن الإمام أحمد روايتان:

الرواية القولية: أنه لا يصح لدخوله في الحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه»

(1)

.

الرواية الفعلية: وهو أنه فعل ذلك بنفسه، وهذا هو القول الراجح.

بقي علينا أن يقال: ربما يكون الرهن حين العقد مساوياً للدين، لكن عند حلول الدين قد تزيد قيمته وقد تنقص.

مثاله: رهنه هذه السيارة بخمسين ألفاً، وقال: إن جئتك بحقك في أول يوم من رمضان وإلا فالسيارة لك، وهي تساوي في ذلك الوقت خمسين ألفاً، لكن لما دخل رمضان صارت تساوي عشرين ألفاً، أو صارت تساوي ثمانين ألفاً، فيكون حينئذٍ الثمن مجهولاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم:«عن بيع الغرر»

(2)

.

يقال: أما إذا نقصت قيمة الرهن فإن المرتهن قد أسقط بعض الدين باختياره، ودخل على بصيرة، وأما لو زادت فإن الراهن لا يمكن أبداً أن يؤخر الوفاء عن وقته؛ لئلا تفوته هذه الزيادة، إذاً فلا غرر وذلك بالنسبة للمرتهن، أنه يجوز أن يسقط

(1)

سبق تخريجه ص (145).

(2)

سبق تخريجه ص (28).

ص: 163

بعض حقه، وحصوله على بعض حقه خير من عدمه بالكلية، أما بالنسبة للراهن، فهو كما سبق أنه لا يمكن أبداً أن يؤخر الوفاء عن وقته، إذا كان يعلم أن قيمة الرهن أكثر من الدين؛ لأنه لا أحد يرضى بهذا، ولو ذهب يستقرض ويوفي لفعل؛ لئلا تفوته هذه الزيادة، وبهذا يجاب عن هذا الإيراد فيزول الإشكال.

إذاً الصحيح: أنه إذا رهنه شيئاً وقال: إن جئتك بحقك في الوقت الفلاني، وإلا فالرهن لك، أن هذا شرط صحيح ولازم.

‌وَيُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَالرَّهْنِ وَرَدِّهِ وكَوْنِهِ عَصِيراً لَا خَمْراً، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُلْكُ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ جَنَى قُبِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَحُكِمَ بِإقْرَارِه بَعْدَ فَكِّهِ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ المُرْتَهِنُ.

قوله: «ويقبل قول الراهن في قدر الدين» يعني لما حل الدين أتى الراهن بألف ريال، وقال للمرتهن: هذا دينك أعطني الرهن، فقال: الدين ليس بألف ريال، الدين خمسة آلاف ريال، فقال الراهن: بل هو ألف ريال، يقول المؤلف:«يقبل قول الراهن» ، وهذا مقيد بما إذا لم يكن للمرتهن بينة، أما إذا كان للمرتهن بينة، فالقول قول من شهدت له البينة، وهي شهدت للمرتهن فيلزمه في المثال خمسة آلاف.

ص: 164

كذلك ـ أيضاً ـ يقبل قول الراهن مع يمينه، فلا بد أن يحلف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(1)

، ونحن الآن عندنا طرفان، الطرف الأول الراهن ينكر أن يلزمه خمسة آلاف.

والطرف الثاني المرتهن يدعي أن له خمسة آلاف.

نطبق على الحديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(2)

، فنقول: القول قول الراهن بيمينه، وأما المرتهن فلا نقبل قوله إلا بالبينة.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا فرق بين أن يكون الدين الذي ادعاه الراهن قريباً من قيمة الرهن أو بعيداً.

فلو رهنه سيارة بدين، ولما حل الدين جاء الراهن إلى المرتهن بمائة ريال، فقال المرتهن: الدين خمسة آلاف ريال، فقال: لا، بل مائة ريال، فهنا عندنا أصل وعندنا ظاهر.

فالأصل عدم ثبوت ما ادعاه المرتهن؛ لأن الراهن ينكره، فيقول: أبداً لا يلزمني إلا مائة ريال.

والظاهر ثبوت ما ادعاه المرتهن في هذه الصورة؛ إذ لم تجر العادة أن شخصاً يرهن سيارة تساوي خمسين الفاً بمائة ريال، فإذا كان هناك ظاهر وأصل، فكلام المؤلف ظاهره ما ذكرناه من أنه لا فرق بين أن يكون الدين الذي ادعاه الراهن قريباً من قيمة الرهن أو بعيداً، لكن إذا أردنا أن نطبقها على قواعد الشريعة، فإننا نقدم الأقوى من الظاهر أو الأصل، ولهذا لو ثبت ببينة أخذنا بما قالت البينة، ولو كان الراهن قد ادعى أقل.

وعلى هذا نقول: إن الظاهر يكذب قول الراهن، فيكون الأصل مع المرتهن.

(1)

أخرجه البيهقي (10/ 252)، وقال الحافظ في البلوغ (1408): إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه.

(2)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 165

وفي المسألة قول ثالث أن القول قول المرتهن مطلقاً لكنه ضعيف، فالقول بأن القول قول الراهن مطلقاً ضعيف، والقول بأنه قول المرتهن مطلقاً ـ أيضاً ـ ضعيف، والصواب في ذلك التفصيل وأن القول قول من يشهد العرف له؛ لأن الظاهر إذا قوي غُلِّب على الأصل، فإذا وجدت قرينة قوية تدل على رجحان من ادعى الظاهر غلب على الأصل كما سبق.

ولكن يبقى النظر إذا ادعى المرتهن أن الدين خمسون ألفاً بناءً على أن قيمة السيارة تساوي خمسين ألفاً، ولكن لما رأى أنه غير مقبول قال: إذاً الدين أربعون ألفاً. فهل في هذه الحال نقول: إن رهن سيارة قيمتها خمسون ألفاً، قريب من أن يكون الدين أربعين ألفاً، فنقبل قوله لما رجع، أو نقول: إن هذا الرجل كاذب فلا يقبل قوله؟

الجواب: الظاهر الثاني هو الأولى، وعليه فنقول: يكون الدين ما ادعاه الراهن.

وعلى هذا فالقاعدة: «متى ادعى أحدهما ما يخالف الظاهر مخالفة بينة فإننا لا نقبله» .

قوله: «والرهن» إذا قال المرتهن: رهنتني شيئين، وقال الراهن: بل رهنتك شيئاً واحداً، فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الزيادة، مثال ذلك، قال المرتهن: إنك رهنتني البيتين جميعاً وقال الراهن، بل رهنتك بيتاً واحداً، فالقول قول الراهن، وعلى هذا فيكون البيت الثاني طِلقاً لا رهناً، وللراهن أن يتصرف فيه كما شاء؛ ووجه ذلك ما سبق من الحديث: «البينة على المدعي

ص: 166

واليمين على من أنكر»

(1)

، فالراهن والمرتهن اتفقا على أن البيت الأول مرهون، واختلفا في الثاني فقال المرتهن: إنه مرهون، وقال الراهن: ليس بمرهون، فالبيت الثاني فيه مدعٍ ومنكر، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يكون هذا الاختلاف يشهد العرف لأحدهما أو لا يشهد، فمثلاً إذا أقرضه مائة ألف، ثم ادعى المرتهن أنه رهنه البيت الأول والثاني وكلاهما لا يساوي مائة ألف، وادعى الراهن أنه لم يرهنه إلا البيت الأول، فالأقرب إلى الصواب قول المرتهن؛ لأن البيتين جميعاً قيمتهما ستون ألفاً، فكونه يرهن البيتين أقرب من أن يرهن واحداً لا يساوي إلا ثلاثين ألفاً، وعلى هذا نقول: القول الثاني في المسألة أن القول قول من يشهد له العرف، فإذا كان قول أحدهما تدل القرينة على صدقه كان أولى، أما المذهب فيطردون القاعدة على أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

قوله: «ورده» أي: يقبل قول الراهن في رد الرهن، يعني لو ادعى المرتهن أنه رد الرهن إلى الراهن، وقال الراهن: لم ترده، فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الرد، ولأننا اتفقنا على أنه في يدك واختلفنا في انتقاله عن يدك، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والرهن الآن بيد المرتهن.

فإذا قال قائل: ألستم تقولون: إن المودَع إذا ادعى رد

(1)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 167

الوديعة إلى المودِع قبل قوله، فلماذا لا تقبلون قول المرتهن في رد الرهن؟ أي: إنسانٌ أعطى شخصاً وديعة وقال: خذ هذه الساعة أمانة عندك، وبعد مدة جاء صاحب الساعة يطلبها، فقال المودَع: إني قد أعطيتكها، فيقبل قول المودَع، وهذا المرتهن لا نقبل قوله؛ لأن المودَع محسن، والله تعالى يقول:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وكثيراً ما تحصل مثل هذه الأمور بدون إشهاد، فلو أعطاني ماله، وقال: خذ هذا وديعة عندك، فجاء يطلبه فقلت له: لا أعطيك إياه إلا بشهود، فسيقول أنا أعطيتك إياه بلا شهود، فكيف لا تعطيني إياه إلا بشهود؟! فلما كان العرف يقتضي عدم الإشهاد وكان هذا الرجل محسناً، لم يكن عليه من سبيل، ولدينا قاعدة: «أن من قبض الشيء لحظ نفسه كالمستعير لم يُقبل قوله في الرد، ومن قبضه لحظ مالكه كالمودَع قُبل قوله في الرد، ومن قبضه لحظهما جميعاً مثل الرهن والعين المؤجرة لم يقبل قوله في الرد، كمن قبض الشيء لحظ نفسه؛ تغليباً لجانب الحماية، وعلى هذا فلا يقبل قول المستأجر في رد العين المؤجرة إلا ببينة.

أما في التلف فكل من كانت بيده العين بإذن من مالكها أو من الشرع فقوله في التلف مقبول، إلا إذا ادعى التلف بسبب ظاهر، فإنه يلزم بإقامة البينة على هذا الظاهر، ثم يقبل قوله في أن هذا المال تلف من جملة ما تلف، وعليه يقبل قولهما ـ أي: المرتهن والمودع جميعاً ـ، يعني لو ادعى المرتهن أن الرهن تلف قبل قوله؛ لأنه أمين، وفي نظم القواعد:

ص: 168

كل أمين يدعي الرد قُبل

(1)

.

وعلى هذا فنقول: إذا ادعى المرتهن أنه رد الرهن إلى الراهن فإننا لا نقبل قوله، فالقول قول الراهن.

وليعلم أن من كان القول قوله فلا بد من اليمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اليمين على من أنكر»

(2)

.

قوله: «وكونه عصيراً لا خمراً» يعني يقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً، ولكن هذا في صورة معينة، في عقد شُرِطَ فيه الرهن، ولهذا لا بد من القيد، «في عقد شرط فيه الرهن» .

بأن قال المرتهن: بعتك هذه السلعة على أن ترهنني هذا العصير، فوافق فأرهنه العصير، ثم رجع المرتهن وقال: إن العصير كان خمراً، يعني فلا يصح الرهن؛ لأنه إذا كان خمراً لم يصح الرهن، وإذا لم يصح الرهن يقول البائع: فلي الفسخ؛ لأني اشترطت رهناً، وتبين أن الرهن غير صحيح فلي الفسخ؛ لأن العقد الآن صار بلا رهن، وأنا لم أبعه إلا برهن، فقال الراهن: إنه كان عصيراً وليس خمراً، وإذا كان عصيراً كان الرهن صحيحاً، وإذا كان صحيحاً فلا خيار للبائع.

إذا قال قائل: لماذا نقبل قول الراهن في هذه المسألة، ولا نقبل قول المرتهن؟

الجواب: لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، فالأصل السلامة وعدم التخمر؛ لأنه في الأصل عصير، فيكون

(1)

منظومة في أصول الفقه لشيخنا رحمه الله ص (17).

(2)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 169

تخمره في عُهدة المرتهن، فالأصل أن هذا العصير باق لم يتخمر، وحينئذٍ لا فسخ للبائع.

إذاً كلام المؤلف رحمه الله يحتاج إلى قيد، والقيد هو (عقد شرط فيه الرهن) فرهن عصيراً ثم ادعى المرتهن أنه كان خمراً من أجل أن يفسد الرهن، ثم يكون له الخيار في عقد البيع.

قوله: «وإن أقر أنه ملك غيره» «أقر» الفاعل يعود على الراهن، أي: أقر الراهن أنه ملك غيره، قُبِل على نفسه، ولم يقبل على المرتهن، وهذا لا شك أنه عين الحكمة.

مثاله: رجل رهن سيارة لشخص استدان منه مائة ألف، ثم بعد يومين أو ثلاثة رجع الراهن وقال: السيارة ليست لي، السيارة لفلان وهذه استمارتها، فهنا نقول: القول قول الراهن من وجه، لكن لا على حق المرتهن، فنقول: يقبل إقرارك، لكن لا نحكم بمقتضاه حتى ينفك الرهن، فتبقى السيارة مرهونة، وإذا انفك الرهن قلنا: أرجعها لمن أقررت أنها ملكه، أما الآن فلا؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن، وحق المرتهن سابق على هذا الإقرار فيقدم عليه.

وهذا لا شك أنه عين الحكمة؛ لأننا لو لم نقل بذلك لكان كلُّ راهنٍ مبطلٍ، إذا رهن ادعى أنه ملك لفلان، بأن يتفق هو وفلان، ويقول: أنا أريد أن أقر بأن هذا الشيء لك؛ من أجل أن أقول: أنا رهنت ملك غيري، فنقول: الرهن باق بحاله وإذا انفك الرهن أخذه المُقَرُّ له.

مسألة: إذا قدرنا أن الرجل لم يوف الدين فهل يباع الرهن؟

ص: 170

الجواب: نعم يباع ويرجع المُقَر له على الراهن؛ لأن الراهن هو الذي أتلفه، هذا إن بقي على إقراره أنه لغيره.

قوله: «أو أنه جنى» أي: الرهن.

قوله: «قُبل» الضمير يعود على الإقرار، أي: إقرار الراهن.

قوله: «على نفسه» الضمير هنا يعود على الراهن، يقبل على نفسه لا على المرتهن.

قوله: «وحكم بإقراره بعد فكه» أي: بمقتضى إقراره بعد فكه، فإذا أقر أنه ملك غيره نقول: إذا انفك الرهن ينتزعه المقر له، وإذا كان جانياً، فإما أن يفديه سيده ويقول: أنا أدفع الجناية كلها، أو يسلم العبد للمجني عليه، أو يبيع العبد ويعطي قيمته للمجني عليه.

صورة المسألة: رجل رهن عبداً، وبعد أن تم عقد الرهن قال: إن هذا العبد قد جنى على فلان، إما بالنفس أو بما دونها أو بالمال، والعبد إذا جنى تتعلق الجناية برقبته، فيقال لسيده: إما أن تُسَلِّم قيمة الجناية، وإما أن تسلم العبد في مقابلة الجناية، وإما أن تبيع العبد وتسلم ثمنه للمجني عليه، ثلاثة أمور.

والراهن ادعى أن العبد جنى على فلان، ومعلوم أن حق المجني عليه المتعلق بالرقبة، أقوى من تعلق حق المرتهن، وحق المرتهن متعلق بالرهن تعلق توثقة ليس بضمان، فهو أراد أن يبطل حق المرتهن بهذا الإقرار، فيقال له: إقرارك مقبول من وجه، غير مقبول من وجه، فمن جهة المجني عليه الذي أقررت أن العبد جنى عليه فالإقرار مقبول، ومن جهة حق المرتهن، غير مقبول،

ص: 171

إذاً ماذا نعمل بالنسبة للمجني عليه؟ نقول: يبقى العبد الآن رهناً، ثم إذا انفك الرهن أوفينا المجني عليه حقه.

قوله: «إلا أن يصدقه المرتهن» «يصدقه» الضمير يعود على الراهن، والمرتهن فاعل، يعني إلا إذا صدق المرتهنُ الراهنَ في دعوى أنه ملك غيره أو أنه جنى، فإذا قال المرتهن: نعم هو ملك غيرك، حينئذٍ يبطل الرهن؛ لأن المرتهن أقر بأن الرهن غير صحيح، إذ أن الراهن رهن ما لا يملك فيبطل الرهن، ويسلم لمن أقر له الراهن.

وكذلك إذا قال المرتهن: نعم العبد جنى، نقول: الآن الجناية مقتضاها تَعَلَّق برقبته، فسلم العبد لسيده.

لكن هل يمكن أن المرتهن يصدق الراهن في أمر يبطل حقه؟

الجواب: يمكن، إما أن يعرف أن هذا الراهن رجل صدوق لا يمكن أن يكذب، لكن اغتر أو نوى الخداع في أول الأمر ثم تاب، وإما أن يثبت ذلك ببينة، لكن إذا ثبت ببينة حكم بمقتضى البينة، سواء صدقه المرتهن أم لم يصدقه؛ لأن الكلام الآن على مجرد الإقرار.

ص: 172

‌فصلٌ

‌وَلِلْمُرتَهِنِ أَنْ يَرْكَبَ مَا يُرْكَبُ وَيَحْلِبَ مَا يُحْلَبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَإِنْ أنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَإنْ تَعَذَّرَ رَجَعَ،

قوله: «فصل: وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته» للمرتهن أي: الذي له الدين أن ينتفع بما ذكر «أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته» .

وقوله: «بقدر نفقته» متعلقة بيركب ويحلب، فقد تنازعها عاملان.

يعني إذا كان الرهن مما يركب من الحيوان من بعير، أو حمار فله أن يركبه بقدر النفقة، سواء ركبه في داخل البلد أو ركبه في سفر، بشرط ألا يكون عليه في السفر ضرر، فإن كان عليه ضرر فليس له ذلك.

فيقال ـ مثلاً ـ: هذا البعير الذي يركبه المرتهن لو استأجره لمدة عشرة أيام لكانت الأجرة مائة، والنفقة قدرها مائة، حينئذٍ تساوت النفقة والأجرة، فلا شيء له وليس عليه شيء؛ لأنه ركب بقدر النفقة.

فإذا كانت أجرته أكثر من النفقة، فلا بد أن يدفع ما زاد على النفقة، فإذا قدرنا أن نفقته خمسون، وأن أجرته مائة، فعليه أن يدفع خمسين؛ لأنه لو لم يفعل لكان ظالماً للراهن، وإذا كان دينه قرضاً صار دينه قرضاً جر نفعاً.

ولو كان بالعكس، نفقته مائة وأجرته خمسون، فيرجع على الراهن بما زاد عليه، فالنفقة مائة، وأجرة مثله خمسون، فيطالب الراهنَ بما زاد على النفقة وهو خمسون، وكذلك يقال فيما يحلب كالشاة والبقرة.

ص: 173

مثاله: إنسان رهن بقرة وصار المرتهن يحلبها، فنقول: لك أن تحلبها بقدر النفقة، فإذا كان ثمن حليبها مائة في الأسبوع، ونفقتها في الأسبوع مائة، ففي هذه الحال لا له ولا عليه، وإن كان الحليب يساوي مائتين في الأسبوع، والنفقة مائة دفع للراهن مائة، لكن هذه المائة تكون رهناً؛ لأنها من نمائه، وإن كان بالعكس النفقة مائتان، واللبن يساوي مائة، فإنه يرجع على الراهن بما زاد على ثمن الحليب.

فإذا قال قائل: ما الدليل، وما الحكمة؟

قلنا: الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة»

(1)

.

ولو قال قائل: ظاهر الحديث، أن اللبن في مقابل النفقة وأن الركوب في مقابل النفقة سواء كان أكثر أو أقل؟

الجواب: أن هذا ليس ظاهر الحديث، فالحديث يقول:«بنفقته» ، فإما أن نجعل الباء للعوض، وإما أن نجعلها للسببية، فإن جعلناها للعوض فالأمر ظاهر في أنه لا يأخذ أكثر من النفقة، وإن جعلناها للسببية فكذلك؛ لأن السبب لا يتجاوز موضعه، فيقال: إن الباء هنا للسببية، والسببية لا تتجاوز موضع المسبب، وعلى كل تقدير فإن الركوب والحلب يكون بقدر النفقة.

أما الحكمة فلأن الحيوان يحتاج إلى نفقة، فيحتاج إلى طعام، وشراب، وظلال، وتدفئة في أيام الشتاء، ولو قلنا: بأن المرتهن

(1)

سبق تخريجه ص (121).

ص: 174

يقوم بهذا ثم يرجع على الراهن، لحصل في هذا نزاع وشقاق، فكل يوم يأتي للراهن ويقول له: أعطني نفقة هذا، ويحصل بذلك مشقة.

فمن الحكمة أن الشرع جعل المركوب يُركب بالنفقة، والمحلوب يحلب بالنفقة.

وما سوى ذلك فليس للمرتهن أن ينتفع به أبداً، فلا يسكن الدار ولا يستعمل السيارة ولا يقرأ في الكتاب ولا يكتب بالقلم بل يبقيه لصاحبه؛ لأن الأصل في مال الغير أنه محترم لا يجوز الانتفاع به، ولأنه لا يحتاج إلى نفقة، واستثنيت هذه المسألة؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.

قوله: «بلا إذن» أي: بلا إذن من الراهن، اكتفاءً بإذن الشارع، بإذن محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:«الظهر يركب، ولبن الدر يشرب»

(1)

، ومعلوم أن إذن الشارع مقدم على كل إذن، ولهذا إذا لم يأذن الشارع بشيء وأذن المالك به لا ينفذ، فإذا أذن الشارع بشيء نفذ، وإن لم يأذن به المالك وهنا صرح المؤلف رحمه الله بقوله:«بلا إذن» .

قوله: «وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع» .

قوله: «وإن أنفق» الضمير يعود على المرتهن، أي: إن أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن الراهن.

(1)

سبق تخريجه ص (121).

ص: 175

مثال ذلك: احتاج البيت المرهون إلى تعمير فعمره بأن أتى بأناس يليِّسونه، أو يصلحون باباً سقط، أو ما أشبه ذلك، فهل يرجع المرتهن على الراهن أو لا يرجع؟

الجواب: فيه تفصيل:

أولاً: إن كان الراهن قد أذن له رجع عليه، يعني إن كان الراهن قد قال له: إن خرب شيء من البيت فأصلحه، فإنه يرجع عليه؛ لأنه إذا عمل ذلك صار وكيلاً فيرجع عليه، وحينئذٍ يُقبل قوله في قدر ما أنفق بيمينه، إلا أن يدعي شيئاً يكذبه الحس فلا يُقبل، فلو قال: أذنت لي أن أصلح الأبواب إذا تكسرت، قال: نعم أذنت لك، قال: قد فعلت وقد أنفقت على كل باب ألف ريال، والنفقة المعتادة مائة ريال في مثل هذا العمل، فلا يُقبل قوله؛ لأن هذا يكذبه الحس، أما إذا ادعى شيئاً قريباً فإنه يقبل قوله لكن بيمينه.

ثانياً: أن ينفق بلا إذنه على الرهن فينظر ـ أيضاً ـ هل يمكن أن يستأذن منه لكونه قريباً منه، أو بالهاتف، أو بالمكاتبة، فإنه لا يرجع إلا إذا استأذنه، فإن كان لا يمكن لكون الراهن رجلاً مغموراً، دخل هذه المدينة الواسعة ولايدري أين هو؟ والرهن يحتاج إلى تعمير عاجل، فهنا يعمره ويرجع وإن لم يستأذنه؛ لأنه لا يمكن استئذانه، فصارت المسألة لها أحوال:

الحال الأولى: أن يكون الراهن قد أذن له بالتعمير، فهنا يرجع؛ لأنه صار وكيلاً له.

الحال الثانية: ألا يأذن له بالتعمير ويتعذر استئذانه، فهنا

ص: 176

يرجع ـ أيضاً ـ حفظاً لأصل الرهن؛ لأنه لو لم يعمره ازداد خرابه، وانتشر، وفسد، وصار في ذلك ضرر على الراهن والمرتهن.

الحال الثالثة: ألا يأذن له بالتعمير، ويمكن استئذانه ولكنه عمره بدون استئذانه، فهنا لا يرجع؛ لأنه إن أنفق بغير نية الرجوع فهو متبرع، والمتبرع لا يرجع في تبرعه؛ لأن رجوعه في تبرعه رجوع في الهبة وهو حرام، وإن كان قد نوى الرجوع فهو مفرط لأنه لم يستأذن المالك، فهو مفرط لوجوب الاستئذان عليه فلم يفعل.

فإن قال المرتهن: أنا عمرته لأجل المصلحة لي وله.

قلنا: وإذا كانت المصلحة لك وله، فليكن التعمير منك ومنه، بمعنى أنك تعمر بإذنه وحينئذٍ ترجع، أما إذا لم تستأذن منه مع إمكان إذنه فالنفقة عليك.

مسألة: إذا قدر أن الإنفاق عليه وقع في حال تستدعي الفورية قبل أن يستأذنه، مثل أن يكون الرهن قد سقط في بئر، فلو أبقيناه حتى نذهب ونستأذن الراهن هلك، وإذا أتينا بإنسان يستخرجه من البئر في الحال يسلم فهنا يرجع؛ لأن في ذلك إنقاذاً لمال الغير من الهلاك، وكل من أنقذ مال غيره من هلكة فله الرجوع بمثل عمله.

وقوله: «وإن تعذر رجع»

(1)

لكن بشرط أن ينوي الرجوع، هذا ما ذكره في الروض، وظاهر كلام الماتن ما لم ينو التبرع؛ لأن الماتن لم يشترط نية الرجوع، والصواب مع المتن، وأنه يرجع

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 93).

ص: 177

ما لم ينو التبرع، فإن نوى التبرع لم يرجع؛ لأن رجوعه مع نية التبرع رجوع في الهبة وهو حرام، ولا يشترط أن ينوي الرجوع.

فإذا أنفق بنية الرجوع رجع بكل حال، وإذا أنفق بنية التبرع لم يرجع بكل حال على القولين، وإذا أنفق وهو لم ينو لا رجوعاً ولا تبرعاً فعلى المذهب لا يرجع؛ لأنه يشترط أن ينوي الرجوع، وعلى ما قاله الماتن يرجع؛ لأن الأصل أن ما أنفقه على ملك غيره فهو له يرجع فيه، إلا إذا عارض ذلك نية التبرع.

‌وَلَو لَمْ يَسْتَأذِن الحَاكِمَ، وَكَذَا وَدِيعَةٌ وَدَوابٌّ مُسْتَأجَرَةٌ هَرَبَ رَبُّهَا، وَلَو خَرِبَ الرَّهْنُ فَعَمَّرَهُ بِلَا إِذنٍ رَجَعَ بآلتِهِ فَقَطْ.

قوله: «ولو لم يستأذن الحاكم» الحاكم أي: القاضي، هذه إشارة خلاف، فبعض العلماء يقول: لا يرجع حتى يستأذن الحاكم، بمعنى أنه إذا تعذر على المرتهن أن يستأذن من الراهن، قلنا له: الحاكم ينوب منابه، فاستأذن منه، فإن لم تفعل فلا رجوع لك، وهذا القول يزيد المسألة تعقيداً؛ لأنه يحتاج إذا تعذر استئذان المالك ـ وهو الراهن ـ أن يذهب إلى المحكمة، والمحكمة لن تقبل منه بسهولة، بل ستطلب البينة على أنه يحتاج إلى تعمير، فإذا أتى بالبينة أذنت له، وهذا قد يصعب.

والصحيح ما ذهب إليه المؤلف أنه لا يحتاج إلى إذن الحاكم، وأنه إذا تعذر استئذان الراهن الذي هو المالك، فإن المرتهن يعمره ويرجع بنفقته، سواء استأذن الحاكم أم لم يستأذنه، لأن بقاءه في يده بإذن الراهن معناه التزام بما يجب له من النفقة.

قوله: «وكذا وديعة» احتاجت إلى تعمير، وربها موجود فهنا نقول: إن كان رب الوديعة أذن لك في تعميرها فعمِّرْها وترجع

ص: 178

عليه؛ لأنه أذن له فهو وكيل، وإن لم يأذن له فهل يتعذر استئذانه؟

الجواب: إن كان يتعذر فإنه يرجع ـ أيضاً ـ لأن تعميرها مما تدعو الحاجة إليه، وصاحبها الآن بعيد لا يمكن استئذانه، وإن كان يمكن وعمرها بلا إذن، فلا يرجع على المودِع؛ لأنه تمكن من استئذانه ولم يفعل.

قوله: «ودواب مستأجرة هرب ربها» مثاله: إنسان عنده ناقة أجرها شخصاً يسافر عليها إلى مكة، وهرب المالك من أجل أن يورطه وينفق عليها، والدواب تحتاج إلى نفقة فهي تريد علفاً وشراباً، فهذا الرجل الذي استأجر الدواب قد أذن له ربها بأن ينفق عليها، فأنفق عليها فصار يشتري لها علفاً وماءً ويقوم برعايتها، فيرجع على ربها؛ لأنه أذن له فيكون وكيلاً عنه، وأما لو لم يأذن له ربها وتعذر استئذانه؛ والحاجة ملحة في الإنفاق عليها عاجلاً فيرجع عليه، فإن كان موجوداً وتسهل مراجعته وأنفق عليها بدون إذنه، فإنه يضمن، بمعنى أنه لا يرجع بما أنفق على صاحب هذه الدواب.

لكن لو فرض أن هذا المستأجر ذبحها واحتفظ بلحمها لصاحبها، وادعى صاحبها أنها لم تصل إلى حال يضطر فيها إلى ذبحها، وقال: أنت ذبحتها وهي صحيحة معافاة، فقال: إنه ذبحها بعد أن خاف أن تموت فتفوت، فالقول قول المستأجر؛ لأنه أمين والقاعدة:«أن كل إنسان أمين فإنه يقبل قوله فيما ائتمن فيه» ، وإلا لحصلت مشاكل كثيرة إذا لم نقل بقبول قوله.

وقوله: «هرب ربها» أي: مالكها، والرب يكون بمعنى

ص: 179

المالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة:«فإن جاء ربها، وإلا فشأنك بها»

(1)

، وفي بعض ألفاظ حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«أن تلد الأمة ربها»

(2)

بدل «ربتها» ، وهذا جائز سائغ شرعاً ولغة.

قوله: «ولو خرب الرهن فعمَّره بلا إذن رجع بآلته فقط» لو خرب الرهن كالدار ـ مثلاً ـ «فعمَّره» المرتهن «رجع بآلته فقط» والآلة عندهم أي: مادة الشيء، يعني مواد البناء، أي: بما جعل فيه فقط، كاللَّبِن والحديد والأبواب وما أشبهها، فيرجع بهذه فقط دون أجرة العمال، والماء، وما أشبه ذلك، والفرق بين هذا وبين الحيوان، أن الحيوان يحتاج إلى نفقة أما هذا فلا.

مثال ذلك: إنسان ارتهن داراً وسقط جزء منها، فقام بإصلاحه وأحضر اللبن والمواد والأبواب وبناها، فمادة البناء بعشرة آلاف ريال وأجرة العمال وجلب الماء بعشرة آلاف ريال، فبماذا يرجع؟

الجواب: بعشرة آلاف ريال التي هي الآلة فقط، وأما الباقي فلا يرجع به، هذا إذا كان لم يستأذن من رب البيت الذي هو الراهن، أما لو استأذن فإنه يرجع بالجميع؛ لأنه وكيل.

وقال بعض العلماء: بل يرجع بالجميع؛ لأنه ليس كالإنفاق على الحيوان، فالإنفاق على الحيوان إذا أكله الحيوان ذهب، ولم

(1)

أخرجه البخاري في اللقطة/ باب ضالة الإبل (2429)، ومسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء

(1722) عن زيد بن خالد رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 180

ينتفع به الراهن لكن هذا ينتفع به الراهن؛ لأن أثر العمل باق والمصلحة للجميع، للراهن؛ لأن ملكه عُمر، وللمرتهن؛ لأن وثيقته بقيت؛ لأنه لو خرب ما بقي له شيء.

وفَصَّل بعضهم فقال: إن عمره بما يكفي لتوثيق دينه فقط يرجع، وإن كان بأزيد لم يرجع؛ لأنه ليس في ضرورة إلى أن يعمره بأكثر مما يوثق الدين، فلو فرضنا أن الذي خرب غرفتان ولو أصلح واحدة كفى لتوثقته في دينه ولكنه عمَّر الاثنتين جميعاً، فهو يرجع بالأولى ولا يرجع بالثانية إلا بالآلة فقط، وهذا القول قول وسط بين القولين، أي: أن يقال: إن المرتهن يرجع بقدر ما يتوثق به دينه فقط؛ ووجهه أن ما زاد لم يعمره لحفظ حقه بل زاد على ذلك.

وبعض العلماء يقول: إذا كان لو تركه ـ أي التعمير ـ لتداعى بقية البيت، وهذا وارد، يعني لو ترك عمارة المنهدم لانهدم البيت كله فهنا يرجع بالجميع؛ لأن هذا لحفظ البيت كله، وأما إذا كان ما بقي من البيت لا يتأثر بما انهدم فعلى التفصيل الذي سبق.

ص: 181

‌بَابُ الضمان

قوله: «باب الضمان» . الضمان هو النوع الثاني من عقود التوثقة، والضمان لغة مشتق من الضِّمن، والضمن معناه دخول الشيء في الشيء؛ لأن ذمة الضامن دخلت في ذمة المضمون عنه.

وأما في الشرع: فهو التزام جائز التصرف ما وجب أو يجب على غيره، من حق مالي.

مثال الأول: التزام ما وجب: أن يكون شخص مديناً لآخر بدراهم فيمسكه صاحب الدين، ويقول: أعطني ديني الآن، وإلا رفعت أمرك إلى السلطات، فيأتي إنسان من أهل الخير ويقول: أنا أضمن دينه.

ومنه ضمان أبي قتادة رضي الله عنه دين الميت الأنصاري، حين قُدِّم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقال:«أعليه دين» ؟ قالوا: نعم، فتأخر وقال:«صلوا على صاحبكم» ، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه

(1)

.

أما التزام ما يجب: فمثل أن يكتب شخص لآخر ورقة: أنا ضامن كل ما يستدينه هذا الرجل من هذا المحل التجاري، أي: إنسان أراد أن يشتري بضاعة من صاحب دكان وليس معه

(1)

أخرجه البخاري في الكفالة/ باب الدين (2298)، ومسلم في الفرائض/ باب من ترك مالاً فلورثته (1619) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 182

مال، فجاء إلى رجل آخر غنيٍّ فقال له: أنا أريد أن أشتري بضاعة من المحل الفلاني، ولكن ليس معي نقود، أعطني ورقة ضمان فيعطيه ورقة ضمان، يقول فيها: ما استدانه هذا الرجل من هذا المحل فضمانه عليَّ، فهذا التزام ما قد يجب وهو لم يجب بعد.

وإنما توسع الفقهاء في ذلك من أجل التيسير على الناس حتى تسير أمورهم بسهولة؛ ولأن الأصل في المعاملات كلها الحل إلا ما قام الدليل على منعه، وهذا مصلحة ـ أي: ضمان ما يجب ـ، فلا ينبغي أن يكون ممنوعاً وإن كان فيه جهالة؛ لأنه قد يشتري شيئاً كثيراً، وقد يشتري شيئاً قليلاً، لكن نظراً للمصلحة المترتبة على ذلك صار جائزاً، وإن شاء الضامن حدد فقال: أنا أضمن ما اشترى من هذا التاجر في حدود ألف ريال ـ مثلاً ـ فهذا ضمان شيء محدد، وهذا أولى أي: أن الأولى للضامن إذا ضمن ما لم يجب، أن يحدد مقدار ما يضمنه؛ لئلا يستدين المضمون شيئاً يجحف بمال الضامن.

أما حكم الضمان، فنقول: في حق المضمون عنه جائز؛ لأنه لو جاء شخص، وقال لآخر: اضمني جاز كما يجوز أن يقول: أقرضني.

أما في حق الضامن فهو سنة مستحبة؛ لأنه من الإحسان، والله يحب المحسنين، ولكنه سنة بقيد وهو قدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادراً فلا ينبغي أن تأخذه العاطفة في مساعدة أخيه لمضرة نفسه، فإن هذا من الخطأ، ويوجد الآن أناس

ص: 183

غارمون، وسبب الغرم الضمان، فنقول: هذا خطأ لا تحسن إلى غيرك وتسيء إلى نفسك؛ فإن هذا ليس من الحكمة.

والضمان من عقود التوثيقات، ففيه توثيق صاحب الدَّين بدينه وقد مر علينا الرهن وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ الكفالة من الشهادة، فالأشياء التي تحفظ بها الحقوق: الشهادة، وهذه يستوفى بها الحق، والضمان والكفالة والرهن، وهذه يستوفى منها الحق، فالضمان مما يتوثق به الحق؛ لأنني إذا لم أتمكن من قبضه من المضمون عنه أخذته من الضامن.

وللضمان شروط منها:

‌لَا يَصِحُّ إِلاَّ مِن جَائِزِ التَّصَرُّفِ وَلِرَبِّ الحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فِي الحَيَاةِ وَالمَوْتِ.

قوله: «لا يصح إلا من جائز التصرف» ، «لا يصح» الفاعل يعود على الضمان، وجائز التصرف، هو البالغ العاقل، الحر، الرشيد، أي: من جمع أربعة أوصاف:

الأول: أن يكون بالغاً، وضده الصغير، والصغير لا يعطى ماله، حتى وإن كان يحسن التصرف؛ لقول الله ـ تعالى ـ:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فاشترط الله لدفع المال شرطين:

الأول: {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .

الثاني: أن نبصر منهم الرشد، لقوله:{آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} .

والرشد: هو إحسان التصرف في المال، وهو في كل موضع بحسبه، فمثلاً الرشد في الدين استقامة الدين، الرشد في باب الولي في النكاح، معرفة الكفء ومصالح النكاح، والرشيد في العبادات هو الذي قام بالواجبات وترك المحرمات، والرشد

ص: 184

في المال إحسان التصرف فيه؛ لأن هناك كلمات تفسر في كل موضع بما يناسب.

الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، ودليله أن الله اشترط إيناس الرشد، والرشد لا يكون مع الجنون أبداً.

الثالث: أن يكون حراً، والحر ضده العبد، فالعبد لا يصح أن يضمن؛ لأن العبد لا يتصرف إلا بإذن سيده.

الرابع: أن يكون رشيداً، والرشيد هو الذي يحسن التصرف في ماله، قال الفقهاء رحمهم الله بألا يصرف المال في محرم، ولا فيما لا فائدة فيه.

فهل هذا القيد مقبول؟

الجواب: لا؛ لأننا لو قبلنا هذا لكان جميع المدخنين سفهاء غير رشيدين، ولحجرنا عليهم كلهم.

لكن نقول: الرشيد هو من أحسن التصرف في ماله بيعاً وشراء وتأجيراً وإيجاراً ورهناً وارتهاناً، وما أشبه ذلك.

أما كونه لا يصرفه في المحرم أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن الذي يصرفه في المحرم سفيه، لكنه ليس السفه الذي يمنع من التصرف، وإلا لوجب أن نحجر على كل من يتعامل بشيء محرم.

فلا يصح من صغير، فلو أراد الصغير أن يضمن، فإنه لا يصح حتى وإن كان شيئاً يسيراً، فلو أن صبياناً يتبايعون في الدجاج، فباع أحدهم على الآخر، وقال البائع: لا أقبل حتى تأتي بضامن، فقال: هذا صاحبي، وصاحبه مثله صبي، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس جائز التصرف، لكونه صغيراً.

ص: 185

وكذلك يقال في المجنون وفي السفيه.

هذا الذي ذكره شرط، والشرط التالي ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في آخر الباب، وهو أن يكون الدين واجباً، أو مآله إلى الوجوب، فإن كان غير واجب ولا مآله إلى الوجوب، فلا يصح ضمانه كما سيأتي.

قوله: «ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت» رب الحق هو الدائن، له مطالبة من شاء منهما، أي: من الضامن والمضمون عنه في الحياة وفي الموت.

أما في الحياة فأن يكون كل منهما حيّاً، فيأتي صاحب الحق لزيد الذي هو الضامن، أو لعمرو الذي هو المضمون، فيطالب هذا وهذا، وله أن يطالبهما جميعاً بأن يأتي هذا في الصباح، وهذا في المساء، أو يطلب واحداً منهما، ويسكت عن الآخر.

وأما في الموت فلو مات الضامن، فله أن يطالبه في تركته؛ لأن الدين المضمون صار ديناً على الضامن كأنه أصيل، فكما أن الإنسان إذا مات مدينه يطالب الورثة من التركة فهكذا الضامن، فإن لم يخلف مالاً فإنه يطالبه في الآخرة لأنه التزم أن يقضي هذا الدين.

أما المضمون عنه فواضح، فلو مات المضمون عنه فإن لصاحب الحق أن يطالبه في تركته، فإن لم يخلف تركة طالبه يوم القيامة.

فَإِنْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ المَضْمُونِ عَنْهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ لَا عَكْسُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الضَّامِنِ للمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا لَهُ؛ بَلْ رِضَا الضَّامِنِ،

وقوله: «لرب الحق مطالبة من شاء منهما» ظاهره أنه لا

ص: 186

فرق بين أن يتمكن صاحب الحق من استيفاء الحق من المضمون عنه أو لا يتمكن، أي أنه لا يشترط لجواز مطالبة الضامن، أن تتعذر مطالبة المضمون عنه، وهذا هو المذهب، فلو أن صاحب الدين جاء إلى الضامن، وقال: أعطني، أنت ضمنت فلاناً بعشرة آلاف ريال، قال: اذهب إليه هو الأصل، فهل يملك ذلك؟

الجواب: لا؛ لأن صاحب الحق له مطالبة هذا أو هذا، هذا ما ذهب إليه المؤلف؛ وتعليل ذلك أن الضامن التزم وفاء الحق بدون شرط، أي: لم يقل الضامن حين ضمانه: إن تعذر استيفاؤك من المضمون عنه فأنا ضامن، فلو قال هذا لكان المسلمون على شروطهم، لكن لما لم يقل هذا بل التزم التزاماً مطلقاً فلرب الحق أن يطالبه.

القول الثاني: أنه لا يملك مطالبة الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه بموت، أو غيبة، أو مماطلة، أو فقر، فإذا تعذرت مطالبة المضمون عنه فله أن يطالب الضامن.

وحجة هؤلاء أنه لا يرجع للفرع مع تمكن الاستيفاء من الأصل، فإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يستغنى به عن الفرع، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله وعمل الناس اليوم على هذا القول، أما في المحاكم، فالظاهر أنهم يحكمون بالمذهب وأن صاحب الحق إذا طالب الضامن ألزم بأن يدفع عنه الحق الذي ضمنه.

ولو أنه شرط فقال: إنك لا تطالبني إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالقاعدة على المذهب أن كل شرط يخالف مقتضى

ص: 187

العقد فإنه لا يصح، ومعلوم أنه إذا كان مقتضى العقد مطالبة الرجلين جميعاً، فإنه إذا شرط ألا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه صار منافياً لمقتضى العقد، ولكن الصحيح ـ حتى لو قلنا: بأن له مطالبة الرجلين ـ أنه إذا اشترط الضامن ألا يطالبه إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالصحيح أنه شرط صحيح؛ لعموم قوله:«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(1)

، وهذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وغاية ما هنالك أن صاحب الحق أسقط مطالبة الضامن باختياره، فقد أسقط حقاً جعله الشارع له ولا ينافي الشرع.

وعلم من كلام المؤلف أن المضمون عنه لا تبرأ ذمته لو التزم به الضامن؛ لأنه قال: له مطالبتهما جميعاً.

وقال بعض العلماء: إذا ضمن عن الميت برئت ذمة الميت؛ لأن الميت لا ذمة له، فإذا ضمن عنه صارت الذمة واحدة وهي ذمة الضامن؛ لأن ذمته عامرة بخلاف الميت.

واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضمن أبو قتادة رضي الله عنه الدينارين عن الميت تقدم وصلى عليه، وقال:«حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم»

(2)

، فهذا يدل على أنه إذا ضمن ميتاً برئت ذمة الميت، كما قلنا في الرهن: إنه إذا مات الميت وعليه دين برهن يوفي فإن ذمته بريئة، وهذا القول لا شك

(1)

سبق تخريجه ص (18).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 330) والحاكم (2/ 58) وصححه، والبيهقي (6/ 75) عن جابر رضي الله عنه، وحسنه الهيثمي في المجمع (3/ 39).

ص: 188

أن له قوته، حتى وإن صحت الرواية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة:«أوفيت أو أديت عنه، قال: نعم، قال: الآن برَّدْتَ عليه جلدته»

(1)

، فهذه اللفظة لا نعرف عن صحتها، لكن إن صحت فليس معنى ذلك أن ذمة الميت لم تبرأ؛ لأنه لولا أن ذمة الميت برئت ما صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه اشترط قال:«حق الغريم وبرئ منه الميت؟ قال: نعم»

(2)

.

أيضاً ظاهر كلام المؤلف أن من ضمن دين ميت فإن ذمة الميت لا تبرأ، بدليل أنه أجاز للمضمون له أن يطالب في تركة الميت، ولكن الذي يظهر أنه إذا التزم التزاماً كاملاً، بغير نية الرجوع فإن ذمة الميت تبرأ، أما إذا التزم مع نية الرجوع، فمعلوم أن ذمة الميت ـ وإن برئت من الأول ـ تعلق بها حق الثاني، لكن حق الثاني لا يتعلق بذمة الميت وإنما يتعلق بالتركة.

‌فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه

قوله: «فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه» وبماذا تبرأ ذمة المضمون عنه؟

الجواب: تبرأ بإيفائه، والمضمون عنه إذا أوفى برئت ذمة

(1)

أخرجها الإمام أحمد (3/ 330)؛ والدارقطني (3/ 79)؛ والحاكم (2/ 58) والبيهقي (6/ 74) عن جابر رضي الله عنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 39):«رواه أحمد والبزار وإسناده حسن» وليس فيه: «أوفيت أو أديت» ، وإنما فيه:«حق الغريم وبرئ منهما الميت» ، وفي لفظ آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«هو عليك وهو بريء منه» ، قال في «المجمع» (3/ 40):«رواه الطبراني في الأوسط وفيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات» .

(2)

سبق تخريجه ص (188).

ص: 189

الضامن؛ لأن الضامن فرع، فإذا برأ الأصل برأ الفرع؛ ولأنه إن برئت ذمة المضمون عنه لم يبق هناك شيء يضمن.

وقوله: «إن برئت» لم يقل إن قضى المضمون عنه الدين؛ لأن براءة الذمة قد تكون بقضاء الدين وقد تكون بالإبراء وقد تكون بشراء شيء يكون عوضاً عن الدين مثلاً، فكلمة «إن برئت» أعم من قوله:«إن قضى الدين» .

وقوله: «لا عكسه» أي: لو برئت ذمة الضامن فإنها لا تبرأ ذمة المضمون عنه، وتحصل براءة ذمة الضامن بأمرين:

الأول: إما أن يُبرئه صاحب الحق ويقول له: يا فلان أسقطت ضمانك، اذهب ليس عليك شيء.

الثاني: أن يوفي الضامن، فإذا أوفى برئت ذمته، لكن إذا أوفى بنية الرجوع فيرجع على المضمون عنه، وعلى هذا فإذا برئت ذمة الضامن، فلا تبرأ ذمة المضمون سواء برئت ذمة الضامن بإيفاء أو بإبراء.

‌ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه

قوله: «ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه» هل يمكن أن يضمن عمن لا يعرفه؟

الجواب: يمكن بأن يجد شخصاً يشتري شيئاً في السوق، وهو لا يعرفه لكن رق له، وقال: أنا أضمنك، فهذا لا بأس به، لكن لَاحِظْ أنه في هذه الحال، قد عرض نفسه لخطر وهو ألا يوفي المضمون عنه، ويأتيه المضمون له الذي هو صاحب الحق، ويقول له: أوفني، فإذا أوفاه ربما يضيع حقه، إلا أن يسَّر الله أن يأتي هذا المجهول.

ص: 190

‌ولا له بل رضا الضامن

قوله: «ولا له» فليس بشرط أن يعرف المضمون له، وهذا واضح جدّاً؛ لأن المضمون له هو الذي يطلب الضامن، ويبحث عنه فلا يشترط أن يعرفه.

وهل يُشترط معرفة الدَّين المضمون؟

الجواب: لا يشترط أن يعرف الدين المضمون، لكن على كل حال كلما عرفه فهو أحسن وأبعد عن المشكلات، ولكنه ليس بواجب.

فعندنا الآن: ضامن، ومضمون، ومضمون له، ومضمون عنه، فالمضمون له والمضمون عنه لا تشترط معرفتهما، والمضمون الذي هو الدين لا تشترط معرفته، كذلك الضامن لا يشترط أيضاً، لكن من المعلوم أن صاحب الحق لا يمكن أن يقبل ضامناً بدون معرفة، لكن المسألة تصح.

قوله: «بل رضا الضامن» أي: بل يعتبر رضا الضامن، أي: أننا لا نكره أحداً على أن يضمن، فلا بد أن يرضى، فإن لم يرض فإنه لا يُلزم بالحق، حتى لو أراد سلطان جائر أن يُلزم فلاناً بأن يضمن فلاناً فإنه لا يلزمه؛ لقول الله تعالى في التجارة:{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما البيع عن تراض»

(1)

، وهكذا جميع العقود لا بد فيها من الرضا، إلا من أكره بحق كالمحجور عليه ونحو ذلك.

(1)

أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب بيع الخيار (2185)، وابن حبان (4967) إحسان، والبيهقي (6/ 17) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال البوصيري:«هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .

ص: 191

وأما رضا المضمون له والمضمون عنه فليس بشرط، لكن إذا علمنا أنه يضر بسمعة المضمون عنه فقد نشترط ذلك، ويمكن التخلص من ذلك بأن يأتي بالحق ويسلمه.

‌وَيَصِحُّ ضَمَانُ المَجْهُولِ إِذَا آلَ إِلَى العِلْمِ، والعَوَارِي، وَالمَغْصُوبِ، وَالمَقْبُوضِ بِسَوْمٍ وَعُهْدَةِ مَبِيعٍ، لَا ضَمَانُ الأمَانَاتِ، بَلْ التَّعَدِّي فِيهَا.

قوله: «ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العِلم» ضمان المجهول إذا آل إلى العلم جائز، ومنه ما يعرف عند الفقهاء بضمان السوق، بأن يلتزم الإنسان بضمان كل ما يجب على هذا المضمون في معاملته في هذا السوق.

مثلاً: سوق الذهب، كل معاملة تجري في سوق الذهب فأنا ضامن لهذا الرجل، فهذا يجوز مع أنه مجهول.

لكن يقال: ضمان المجهول لا بأس به، إلا أننا ذكرنا أنه ينبغي أن يحدد مقدار الدين، وأن يحدد الرجل الذي يريد أن يستدين منه؛ لأنه إذا لم يحدد وضمن في حدود عشرة آلاف، فيمكن أن يقف على أحد الدكاكين ويقول: هذا الضمان بعشرة آلاف، فيشتري بعشرة آلاف، ثم يذهب إلى دكان آخر ويشتري بعشرة آلاف، ويقول: هذا الضمان، إلا إذا قال: متى قدمت هذه الوثيقة واشتريت بمقدار ما ضمنته لك فليكتب تحتها: انتهى مقدار المضمون، فلا بأس، وإلا فيمكن أن يتلاعب المستدين.

والدليل على صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وحمل البعير غير معلوم قد يزيد وقد ينقص وإن كان الغالب أنه معلوم؛ فقد يقال: إن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ لأن الحمل قد يكون معلوماً بالعرف والعادة، لكن يقال: هناك تعليل، وهو

ص: 192

أن الضمان عقد تبرع وليس عقد معاوضة، وعقد التبرع يسامح فيه ما لا يسامح في عقد المعاوضة؛ ولهذا جازت الجعالة مع أن العمل فيها مجهول؛ لأنها تشبه عقد التبرع، وجاز هبة المجهول على القول الراجح؛ لأنها تبرع.

وعُلم من قوله: «إذا آل إلى العلم» أنه إذا لم يؤل إلى العلم فإنه لا يجوز، كضمان متلفات لشخص لا يدري ما هي.

مثاله: أتلف إنسان متلفات عظيمة، فقيل له: ما هي؟ قال: لا يحضرني، فلا أدري تساوي مليوناً، أو عشرة ريالات، ولا يمكن أن نعلم بها، فهذا مجهول لا يمكن العلم به، فلا يصح ضمانه؛ لأن الضامن لا يدري ماذا يؤدي؟ حتى لو جاءه من أتلفت له هذه المتلفات، وقال: أنا أطالب، قيل له: حدد وعين، فلا بد من أن يكون هذا المجهول مآله إلى العلم.

قوله: «والعواري» العواري جمع عارية، وهي إباحة نفع العين لمن ينتفع بها ويردها.

مثاله: جاء إنسان يستعير سيارة من شخص ليسافر بها إلى بريدة، فقال صاحب السيارة: أنا أريد ضامناً يضمن السيارة لي، قال: هذا فلان يضمن فيصح.

مثال آخر: إنسان أتى يستعير كتاباً من شخص، فقال: أنا أريد أن تأتي بضامن يضمن الكتاب، فيصح هذا؛ لأن العارية مضمونة فإذا كانت مضمونة، صارت آيلة إلى الوجوب، أي: إلى وجوب الضمان، بمعنى أن الإنسان إذا استعار شيئاً فتلف، فالمستعير ضامن على كل حال سواء فرط، أو تعدى، أو لم

ص: 193

يفرط ولم يتعدَّ، ويأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف في هذه المسألة.

فالمذهب أن العارية مضمونة بكل حال، ولهذا صح ضمانها أي: ضمان العواري؛ لأنها مضمونة على قابضها بكل حال.

القول الثاني: أن العارية كسائر الأمانات لا تضمن إلا بالتعدي، أو التفريط، فالأمانات لا يصح فيها الضمان؛ لأنها لا تؤول إلى الوجوب، فصار ضمانها غير صحيح؛ لأنها غير مضمونة على الآخذ وهو الأصل، فلا تضمن على الفرع الذي هو الضامن.

فإن ضمن التعدي فيها أو التفريط صح؛ لأنه إذا ضمن التعدي أو التفريط فإن المستعير سيضمن في هذه الحال فيصح ضمانه.

فالقول الثاني: أن العارية لا تضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط، بمعنى أن الإنسان لو استعار الكتاب ووضعه في بيته في مكان محرز، وجاء سارق فسرقه، أو نزل عليه مطر فأفسده، أو احترق المكان فاحترق الكتاب، فإنه غير ضامن؛ لأنه ليس متعدياً ولا مفرطاً، وهذا القول هو الراجح.

فعلى هذا القول هل يصح ضمان العارية في هذه الحال مطلقاً؟

الجواب: لا، لكن يصح أن يضمن التعدي أو التفريط، بمعنى أن يقول: أنا ضامن إن تعدى أو فرط.

قوله: «والمغصوب» وهو ما أخذ من صاحبه قهراً بغير

ص: 194

حق، فضمان المغصوب صحيح؛ لأن الغاصب ضامن بكل حال.

مثاله: إنسان غصب آخَرَ ساعة وأخذها قهراً منه، وهرب فوجده صاحب الساعة فأمسكه، وقال: أذهب بك إلى السجن، أو أعطني ساعتي، فقال: الساعة في البيت ليست معي، قال صاحب الساعة: سوف أرفعك حتى تسجن، فتقدم رجل آخر وقال: أنا أضمن الساعة، فهنا يصح الضمان؛ لأن المغصوب مضمون على كل حال والغاصب ضامن على كل حال؛ لأنه معتدٍ، يده ليست يد أمانة، وعلى هذا ففي هذه الحال يصح للضامن أن يضمن هذه الساعة؛ لأنها مضمونة بكل حال.

قوله: «والمقبوض بسوم» أي: ويصح ـ أيضاً ـ ضمان المقبوض بسوم، والمقبوض على وجه السوم له صور:

الصورة الأولى: أن يساومه ويقطع الثمن.

مثاله: أن يقف الإنسان على صاحب محل، ويقول: هذه السلعة اشتريتها منك بمائة ريال، فسامها منه الآن، وقال صاحب المحل: لا بأس، قال: سأذهب إلى أهلي أريهم إياها، إن وافقوا أخذتها وإن لم يوافقوا رددتها، قال: لا بأس، فأخذها الذي سامها ليذهب بها إلى أهله، فتلفت السلعة، فهي مضمونة على كل حال على السائم، سواء تعدى أو فرط أو لم يتعد ولم يفرط؛ وذلك لأنه قبضها وقطع الثمن فصار كأن البيع تم، فهي مضمونة عليه بكل حال، ولهذا صح ضمان هذه السلعة المقبوضة على وجه السوم.

ص: 195

وكيف يضمن؟

الجواب: هذا الرجل الذي أراد أن يأخذ السلعة ليريها أهله إن وافقوا أخذها، وإن لم يوافقوا ردها، قال له صاحب الدكان: لا أعرفك، فتقدم رجل وقال: أعطه وأنا ضامن، فهذا يصح، فيصح أن يضمن المقبوض على وجه السوم، بناءً على أنه مضمون على القابض بكل حال، والمقبوض على وجه السوم ليس محل اتفاق أنه مضمون بكل حال.

فالقول الثاني: وهو الصحيح، أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط؛ ووجه ذلك أن هذا المقبوض حصل بيد السائم بإذن مالكه، فيده يد أمانة، وكونه سامه وقطع الثمن أو سامه ولم يقطع الثمن، فإنه لا أثر له في الضمان؛ لأن الرجل الذي قبضه أمين ائتمنه صاحب السلعة، وعلى هذا فيكون المقبوض على وجه السوم ليس مضموناً على قابضه إلا أن يتعدى أو يفرط، وبناءً على هذا القول هل يصح ضمان المقبوض على وجه السوم؟

الجواب: لا يصح؛ لأنه ليس مضموناً على القابض، وإذا لم يكن الأصل ضامناً، فالفرع لا يصح أن يكون ضامناً، لكن يصح أن يضمن التعدي أو التفريط، فيقول: أنا أضمن إذا تعدى أو فرط؛ لأنه كسائر الأمانات.

الصورة الثانية: أن يساومه بدون قطع الثمن، مثل أن يساومه ولكن لم يرض بالسوم، فقال: أعطني أذهب به إلى أهلي إذا رضوا أتيت إليك، وزدتك واشتريت، فهذا يضمن على المذهب؛ لأنه إذا قبضه بعد المساومة صار مضموناً عليه،

ص: 196

والصحيح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط؛ لأن هذا الرجل الذي أخذ المال بعد المساومة أخذه من صاحبه باختياره، فصار المال بيده بإذن مالكه فهو أمين، والأمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

الصورة الثالثة: أن يقبضه قبل أن يساومه، فقال: أعطني هذا أريه أهلي إذا رضوا اشتريته منك، فهذا مقبوض بلا مساومة، فهذا لا يصح ضمانه؛ لأنه لم يسم؛ لأن الضمان إنما يكون فيما يجب.

الخلاصة: هل المقبوض على وجه السوم مضمون بكل حال؟ المذهب نعم إذا ساومه وقطع الثمن.

والقول الثاني: أنه ليس مضموناً إلا إذا حصل تعدٍ أو تفريط.

والفرق بين التعدي والتفريط أن التعدي فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب.

قوله: «وعهدة مبيع» وذلك أن البائع إذا باع الشيء فقد ضمن عهدته، أي تعهد بأن هذا البيع صحيح، وأن المال ملكه وما أشبه ذلك، والمشتري إذا اشتراه فقد تعهد بإقباضه الثمن وتسليمه، فعهدة المبيع يصح ضمانها سواء ضمنت عهدة المبيع للمشتري أو ضمنت عهدة الثمن للبائع، مثاله: عنده سيارة وعند الآخر سيارة فقال له: بعني سيارتك الكبيرة بسيارتي الصغيرة، فالثمن السيارة الصغيرة، فقال المشتري: من يضمن لي عهدة السيارة الكبيرة، ومعنى عهدتها أنني خفت أنها مسروقة أو

ص: 197

مستعارة وليست للبائع أو ليس له ولاية عليها، بمعنى أنها إذا خرجت مستحقة أو أن البيع فاسد فإنه يضمن لي القيمة، فهذا عهدة المبيع للمشتري.

وعهدة الثمن للبائع فالصغيرة هي الثمن، فقال البائع: أنا أخشى أن هذه السيارة الصغيرة مسروقة فأطلب أحداً يضمن العهدة، فهذا يصح؛ لأنه لو ظهر الثمن مستَحَقاً لكان الذي دفعه واجباً عليه أن يضمن فصار ضمانه جائزاً.

وفي ضمان عهدة المبيع فوائد: أن فيه راحة لمن ضمن له، وأيضاً تمشية حال للمضمون عنه؛ فلهذا كان من محاسن الشريعة أنه يصح ضمان عهدة المبيع سواء كان ذلك عهدة الثمن للبائع، أو عهدة المثمن للمشتري.

هل من ضمان عهدة المبيع إذا ظهر به عيب أن يرجع الإنسان بأرش العيب، فقال: أريد أحداً يضمن لي العهدة إذا ظهر فيه عيب، أن يضمن لي الأرش أو يضمن لي التمكن من الرد؟ نعم هذا جائز.

قوله: «لا ضمان الأمانات» أي: لا يصح ضمان الأمانات، وهي كل عين بيدك بإذن من الشرع أو إذن من المالك.

ولا ضمان فيها إلا بتعدٍّ أو تفريط فلا يصح ضمانها؛ لأن الأصل غير ضامن، وإذا كان الأصل غير ضامن، فلا يصح أن يبنى على شيء لم يثبت فلم يضمن الفرع.

قوله: «بل التعدي فيها» أي: لكن التعدي فيها يصح ضمانه؛ لأنه إذا تعدى الأمين انتفت عنه الأمانة وصار ضامناً بكل حال، فيصح أن يضمن التعدي فيها.

ص: 198

مثاله: رجل أودع عند آخر وديعة، ولتكن ألف ريال، ثم بعد أن أودعه صار عنده إشكال، فتقدم رجل آخر، وقال: أنا أضمن لك الوديعة، فالضمان هنا لا يصح؛ لأن الأصل غير ضامن، لكن لو قال: أنا أضمن لك إن تعدى أو فرط، فهذا صحيح؛ لأنه في حال التعدي أو التفريط يكون ضامناً، فحينئذٍ يصح الضمان.

وهذا مأخوذ من الشرط الذي اشترطناه، وهو أن يكون الدين واجباً أو مآله إلى الوجوب؛ لأن ما ليس مضموناً بكل حال ليس بواجب فلا يستحقه صاحبه.

مسألة: لو قضى الضامن الدين، فهل يرجع على المضمون عنه؟

الجواب: نعم يرجع؛ لأنه هو الأصيل، ومعلوم أنه لا يمكن أن نجعل الضامن يخسر ولا يُعوض، ورجوعه لا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أن ينوي التبرع فهذا لا يرجع.

الثانية: أن ينوي الرجوع فيرجع.

الثالثة: إذا أوفى ولم يطرأ على باله نية الرجوع أو عدمها، على المذهب لا يرجع، والصحيح أنه يرجع؛ لأنه إنما التزمها فرعاً عن أصل.

وعلى هذا فإنه على القول الراجح يرجع في حالين، إذا نوى الرجوع، وإذا لم ينو شيئاً، ولا يرجع إذا نوى التبرع، والمذهب يرجع إذا نوى الرجوع فقط، قال العلماء: وهكذا كل

ص: 199

من أدى عن غيره ديناً واجباً، فإنه يرجع إن نوى الرجوع، ولو بغير إذنه، إلا إذا كان الدين مما تشترط فيه نية المدين، فإنه لا يرجع إلا بإذن مثل الزكاة والكفارة؛ لأن الذي عليه الزكاة لم ينوِ ولم يوكل.

مثاله: جاء رجل وقال: أنا سأذهب إلى المجاهدين أعطوني دراهم من الزكاة، وكنت أعلم أن صاحبي عنده زكاة كثيرة، فأعطيت هذا الرجل ثلاثين ألفاً على أنها زكاة صاحبي فهل أرجع؟ لا؛ لأن الزكاة تجب فيها النية، وهنا الذي عليه الزكاة لم ينو، وأما الثلاثون ألفاً فلا تذهب، بل عند الله وفيها أجر وتكون صدقة للذي بذلها.

فلو أنني أخبرته، وقلت: إنني دفعت عنك زكاة، فقال: جزاك الله خيراً، وأنا مجيز لك هذا التصرف، فالمذهب لا يجزئ؛ لعدم وجود النية حين الدفع، والصحيح جواز ذلك، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة حفظه التمر، وهو وكيل للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر يحفظها، فجاءه الشيطان ليلة من الليالي وأخذ من التمر فأمسكه أبو هريرة، فقال الشيطان: إنه فقير وله عائلة، فَرَقَّ له أبو هريرة وتركه، وهكذا الليلة الثانية، والليلة الثالثة قال: لا بد أن تذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فخاف من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أخبرك بآية تقرؤها، فإن قرأتها في ليلة لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأعلمه بآية الكرسي، فلما أصبح قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ وقال: إنه صدقك وهو

ص: 200

كذوب، فقال: أتدري من تخاطب منذ ثلاثة أيام؟ فقال: لا، فقال: ذلك شيطان

(1)

.

فأبو هريرة رضي الله عنه حين دفع من الزكاة لم يدفع بإذن الرسول، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أجازه.

فالصحيح أن الإنسان لو دفع عن غيره زكاة وأجازه الغير، فإن الصحيح جواز ذلك.

(1)

أخرجه البخاري في الوكالة/ باب إذا وكل رجلاً

(2311) معلقاً بصيغة الجزم.

ص: 201

‌فصلٌ

‌وَتَصِحُّ الكَفَالَةُ بِكُلِّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَبِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَا حَدَّ وَلَا قِصَاصَ، وَيُعْتَبَرُ رِضَا الكَفِيلِ لَا مَكْفُولٍ بِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ تَلِفَتِ العَيْنُ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى، أوْ سَلَّمَ نَفْسَه بَرِئَ الكَفِيلُ.

قوله: «فصل: وتصح الكفالة» الكفالة هي العقد الثالث من عقود التوثقة؛ لأن عقود التوثقة رهن وضمان وكفالة.

والكفالة التزام جائز التصرف إحضار بدن من عليه الحق، وإن شئت فقل: إحضار من يصح ضمانه؛ حتى تدخل الأعيان المضمونة كالعواري على القول بأنها مضمونة بكل حال، والمغصوب، وعهدة المبيع، وضمان التعدي في الأمانات.

وبهذا التعريف نعرف الفرق بينها وبين الضمان، فالضمان أن يلتزم إحضار الدين، وهذا إحضار البدن، فإذا أحضر الكافل المكفول وسلمه لصاحب الحق برئ منه، سواء أوفاه أو لم يوفه، وهذا فرق واضح وحينئذٍ تكون الكفالة أدنى توثقة من الضمان؛ لأن الضمان يضمن الدين، وهذا يضمن من عليه الدين، فإذا أحضره برئ منه، وإذا مات المكفول برئ، وإذا مات في الضمان لا يبرأ.

ولكن لو كان العرف عند الناس أن الكفالة بمعنى الضمان، فهل يحمل المعنى على العرف أو على الشرع؟

الجواب: على العرف؛ لأن هذه معاملات يجري الناس فيها على أعرافهم، فعندنا الآن عرف متبع، إذا قال: أنا أكفل فلاناً، يريدون بذلك أن يضمن ما عليه من الدين.

لكن بدؤوا الآن يعرفون بعض الشيء، فصار إذا قال: أنا أكفله، إن أضاف إليها كفالةَ غُرمٍ صار ضامناً، وإن أطلق فهي كفالة بدن، فيُعمل بالعُرف سواء في هذا أو هذا.

ص: 202

وقوله: «وتصح الكفالة» المؤلف رحمه الله تكلم على الكفالة وعلى الضمان، فيما سبق من حيث الحكم الوضعي، هل هما صحيحان أو غير صحيحين، لكن لم يتكلم عنهما من حيث الحكم التكليفي.

فما حكم الضمان، وما حكم الكفالة؟

سبق أن قلنا في الضمان: إنه سنة للضامن؛ لما فيه من مساعدة أخيه وتفريج كربته وغير ذلك، ولكننا قيدنا ذلك بما إذا كان الضامن قادراً على الوفاء، أما إذا كان فقيراً ثم بعد أن يحل الأجل يطالب وليس عنده شيء، فهذا خطأ وليس بمستحب؛ بل هو في أقل الأحوال أن يكون مكروهاً؛ لأنه يُلزم نفسه ما لا يلزمه.

وكذلك يقال في الكفالة، فالكفالة من حيث هي سنة للكفيل وهذا بشرط أن يعلم أنه قادر على إحضار بدن المكفول، أو إيفاء الدين عنه، فإن عرف من نفسه أنه غير قادر فلا ينبغي أن يكفل أحداً؛ ولهذا نجد الآن أناساً كثيرين يأتون وهم يشكون ديوناً عظيمة عليهم، سببها أنهم يكفلون الناس، والإنسان إذا عرف أن مكفوله متساهل ومتلاعب فلا يكفله.

فنقول: احرص على ألا تكفل؛ لأن الناس في الوقت الحاضر خاصة لا أحد يوثق به إلا من شاء الله.

أما من حيث المكفول والمضمون، فهذا لا يعتبر له رضاً، ولا يعتبر له علم؛ لأنه ليس عليه ضرر، وقد سبق لنا التفصيل في

ص: 203

مسألة الضمان أنه إذا كان عليه ضرر، فإنه لا ينبغي للضامن أن يُقْدِم ويضمن.

قوله: «بكل عين مضمونة» هل الأعيان التي تضمن هي التي تكفل؟

الجواب: لا، وإنما الذي يكفل بدن من عنده عين مضمونة، ولهذا تعتبر عبارة المؤلف رحمه الله قاصرة، أي: أنه اختصر اختصاراً مُخِلًّا؛ لأن الذي يقرأ هذه العبارة يفهم بأن الذي تكفل هي العين، وليس كذلك، بل الذي يكفل هو الشخص الذي عنده العين.

إذاً كل عين مضمونة، يصح كفالة بدن من هي عنده.

والعين المضمونة هي التي تضمن بكل حال سواء بتفريط أو بغير تفريط.

مثاله: المسروق عند السارق عين مضمونة، والمغصوب عند الغاصب عين مضمونة، المبيع بكيل أو وزن أو ما أشبه ذلك قبل قبضه هذا ـ أيضاً ـ من الأعيان المضمونة على البائع، فكل عين تضمن بكل حال فإنها تصح الكفالة ببدن من هي عنده.

أما بالنسبة للعارية فعلى ما جرى عليه المؤلف فهي عين مضمونة تصح كفالة من هي عنده، وأما على القول الصحيح فليست من الأعيان المضمونة؛ بل هي أمانة وإذا وجد فيها تلفاً، نظرنا هل يضمن أو لا يضمن؟.

قوله: «وببدن من عليه دين» لأن الحقوق الواجبة للغير إما

ص: 204

أعيان ـ واشترط المؤلف أن تكون مضمونة ـ، وإما ديون في الذمم.

فقوله: «وببدن من عليه دين» أي: تصح الكفالة ببدن من عليه الدين، كرجل في ذمته لشخص ألف ريال، فطالبه صاحب الحق، وأمسك به وقال: أوفني، ولكنه ليس معه شيء، فقال: سوف أرفعك إلى الجهات المسؤولة، فتقدم إنسان محسن، وقال: أنا أكفل الرجل؛ لأنه لو قال: أنا أكفل الدين صار ضامناً، لكن قال: أنا أكفل الرجل، يعني إحضاره، فهذا يصح.

ولا فرق في الدين بين أن يكون عن قرض، أو عن إجارة، أو عن قيمة متلف، أو قيمة مبيع، أو صداق، أو غير ذلك، المهم أن يكون الدين ثابتاً، فتجوز الكفالة ببدن من عليه دين.

قوله: «لا حد» أي: لا ببدن من عليه حد.

مثاله: رجل سارق أمسكته الجهات المسؤولة لتقطع يده، فقال: ذروني أذهب إلى أهلي، وأخبرهم بأني مستحق لقطع اليد فقالت الجهات المسؤولة: لا نتركك، لا بد من القطع الآن، فقال السارق: لي من يكفلني وهو فلان، يكفلني إلى أن أرجع، فتقدم رجل وقال: أنا أكفله فلا يصح أن يكفله؛ لأنه لو تعذر الاستيفاء من السارق، لم يمكن الاستيفاء من الكفيل، فأي فائدة في الكفالة؟ فلا فائدة في الواقع، أما لو كان عليه مال وجاء وقت الإحضار ولم يحضره أخذنا المال منه.

وقد يقول قائل: بل هناك فائدة؛ لأن هذا الرجل الذي كفله

ص: 205

له سلطة، فهو ـ مثلاً ـ أمير قومه، وهذا الرجل من قومه، ويستطيع أن يحضره، وَتَعَذُّر إحضاره أمر طارئ، وإلا فالأصل أن هذا الكفيل قادر على إحضاره، وبناءً على هذا يمكن أن يفرق بين شخص له القدرة التامة على إحضار بدن من عليه حد، وبين شخص عاديٍّ لا يستطيع، فالأول قد يقال: بصحة كفالته، والثاني: لا تصح بلا شك.

والمشهور من المذهب ـ الذي مشى عليه المؤلف ـ أنه لا تصح كفالةُ مَنْ عليه حَدٌّ بأي حال من الأحوال؛ والعلة في ذلك ما ذكرنا وهي تعذر الاستيفاء من الكفيل، لو تعذر الاستيفاءُ من المكفول.

قوله: «ولا قصاص» أي: من عليه قصاص، أي: أن يكون قاتلاً وطالب أولياء المقتول بقتله وثبت ذلك، وأردنا أن نقتله، فقال: ذروني أذهب إلى أهلي، وأكتب وصيتي، وأخبرهم بما عليّ من الديون وغيرها، ثم أرجع، فقيل له: من يكفلك؟ قال: يكفلني فلان، فلا يصح؛ لأنه لو تعذر حضور هذا الذي وجب عليه القصاص لم نتمكن من استيفائه من الكفيل، لكن يلاحظ أن القصاص أهون؛ لأنه إذا تعذر القصاص رجعنا إلى الدية، والدية يمكن أن يقوم بها الكفيل، ولهذا من صحح الكفالة في الحد فيمن يستطيع إحضار المكفول، فإنه يصحح الكفالة فيمن عليه قصاص من باب أولى؛ وذلك لأنه إذا تعذر القصاص لعدم حضور المكفول فإنه يمكن أن يعاد إلى الدية.

والمذهب أنه لا تصح كفالة بدن من عليه قصاص؛ ووجه

ص: 206

ذلك أنه لو تعذر حضور المكفول، لم نتمكن من استيفاء القصاص من الكفيل، فتكون الكفالة لا فائدة منها.

فالقاعدة في هذا تؤخذ من التعليل (أن كل شخص لا يمكن الاستيفاء منه لو تغيب المكفول فإنه لا يصح أن يكفل).

مثال آخر: امرأة أمسكت بزوجها ولها ضرة، وقالت: أنت لا تقسم لي، فالليلة المقبلة لي، وأنت لم تحضر قبل ليلتين، أو أربع ليالٍ والآن لا بد من المحاكمة، فقال لها: أمهليني، فقالت: لا أمهلك، فقام رجل فقال: أنا أكفل الرجل أن يحضر إليك، فهذا لا يمكن؛ لأن المكفول لو لم يحضر، فإن الكفيل لا يمكن أن يقوم مقام المكفول.

فالقاعدة أنه متى تعذر الاستيفاء من الكفيل فإن الكفالة لا تصح؛ وذلك لعدم الفائدة منها، وأحكام الله لا تؤخذ باللعب واللغو الذي لا فائدة منه.

قوله: «ويعتبر رضا الكفيل لا مكفول به» وهذا معلوم؛ لأنه سوف يلتزم بحق وإذا لم يرض بذلك فإنه لا يلزم به، والمكفول له لا تمكن له الكفالة إلا بطلب منه، فإذا تقدم إنسان يكفل له، وقال المكفول له: لا حاجة في أن تكفل فلاناً أنا أعرفه، فهنا لا كفالة؛ لأن المكفول له يجوز له إسقاط الكفالة بعد ثبوتها، فعدم قبولها من أول الأمر من باب أولى.

وقوله: «لا مكفولٍ به» المكفول به في الواقع هو الدين أو الحق، والعبارة السليمة:«لا مكفول» يعني لا يعتبر رضا المكفول، فلو قال إنسان لشخص: أنا أكفل فلاناً، فقال

ص: 207

المكفول: أنت تكفلني؟! أنا أوثق منك عند الناس وأوفى منك، وأعلى منك حسباً، أنت تكفلني، من أنت؟!

فهنا يقول: أنا لا أرضى أن تكفلني، فهل يعتبر؟

الجواب: لا يعتبر؛ لأن عندنا حقاً للمكفول له، وحقاً للكفيل فهما صاحبا الحق، أما المكفول فليس له حق، لكن كما سبق في الضمان، إذا كان يترتب على هذا سوء السمعة بالنسبة للمكفول، فإنه لا يجوز أن يتقدم أحد في كفالته؛ لأن ذلك يضر بسمعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

.

قوله: «فإن مات» الضمير يعود على المكفول، أي: إن مات برئ الكفيل حتى من الدين؛ لأنه لما مات المكفول فلا يمكن إحضاره، فإن طالب من له الحق بإحضاره، قال له الكفيل: تعال وأوقفه عند المقبرة، وقال له: خذ حقك منه!! وهذا لا يمكن، ولو قيل هذا القول له، لقال: إنها سخرية بي، فيقال: إذا مات المكفول برئ الكفيل، وهذا من الفروق بين الكفالة والضمان، فالضمان إذا مات المضمون لم يبرأ الضامن، أما الكفالة فإذا مات المكفول برئ الكفيل.

قوله: «أو تلفت العين بفعل الله تعالى» وهذا يعود على ما إذا كفله بعين مضمونة فتلفت العين بفعل الله، مثل أن يأتي سيل عظيم يجترف هذه العين، فهذه تلفت بفعل الله لا بتعدٍّ ولا تفريط فيبرأ الكفيل، ولو كان ضماناً لم يبرأ.

وعلم من قول المؤلف: «بفعل الله» أنها لو تلفت بفعل

(1)

سبق تخريجه ص (37).

ص: 208

آدمي فإن الكفيلَ لا يبرأ؛ لأن الكفيل في هذه الحال يمكنه مطالبة المتلف، فيقول للمتلف: أحضر بدل ما أتلفت، لكن إذا كانت العين تلفت بفعل الله فإنه يبرأ ولا ضمان عليه.

قوله: «أو سَلَّم نفسه برئ الكفيل» «سلم» الفاعل هو المكفول، سلم نفسه وجاء في الوقت المحدد فإنه يبرأ الكفيل، وهذا واضح إذا سلمه عند حلول الأجل.

مثاله: الدين يحل في أول يوم من رمضان، فجاء هذا الرجل أول يوم من رمضان وسلم نفسه لصاحب الحق، فإنه يبرأ الكفيل، سواء قدر على الاستيفاء منه أم لم يقدر؛ لأنه إنما التزم بإحضار بدنه وقد حضر.

فإن سلم نفسه قبل حلول الأجل فهل يبرأ؟ فيه تفصيل، إن سلم نفسه قبل حلول الأجل وليس ثَمَّة يد ظالمة تحول بينه وبين استيفاء حقه فلا بأس وإلا فلا؛ لأنه لو سلم نفسه قبل أن يحل الدين، ربما يكون هذا حيلة ليبرأ الكفيل، ثم بعد ذلك يهرب، لكن إذا لم يكن هناك يد حائلة ظالمة تمنع من استيفاء الحق، فلا بأس بأن قال: أنا الآن أسلم نفسي وأعطيك الحق الآن.

وإن أُبرئ المكفول برئ الكفيل، كما ذكرنا في الضمان، إذا برئ المضمون عنه برئ الضامن؛ لأن القاعدة أنه إذا برئ الأصل برئ الفرع، وإن أبرئ الكفيل لم يبرأ المكفول، لأنه لا يبرأ الأصل ببراءة الفرع.

ص: 209

‌بَابُ الحَوَالَةِ

قوله: «باب الحَوَالَة» الحوالة معناها التحويل أو التحول، أي: تحول الحق من ذمة إلى ذمة، وهو عبارة عن انتقال الحق من فلان إلى فلان، مثاله: عندي لشخص مائة درهم وعند زيد لي مائة درهم، فجاء يطلبني حقه الذي عليَّ فقلت له: أحلتك به على زيد، فالآن نقلتُ الحق من ذمتي أنا المطلوب، إلى ذمة رجل آخر وهو الذي أنا أطلبه.

وهي من حسن القضاء والاقتضاء؛ لأن المحال إذا قَبِل فقد يسر الأمر على المحيل؛ ولأن المحيل ـ أيضاً ـ إذا أحال صاحبَ الدين بدينه فهذا من التيسير؛ لأن المحيل قد يكون معسراً فيحيله على موسر.

وهي من الإحسان والمعروف، إذا كان فيها تسهيل وتيسير على المكلف.

أما حكمها شرعاً فإنها جائزة بل مستحبة بل واجبة عند بعض العلماء لكن بشروط، والدليل على جوازها قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ومن أحيل بدَينه على مليء فليحتل»

(1)

فهذا أصل في جواز الحوالة، لكنها لها شروط:

الشرط الأول: ذكره المؤلف في قوله:

(1)

سبق تخريجه ص (91).

ص: 210

‌لَا تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا يُعْتَبَرُ اسْتِقْرَارُ المُحَالِ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ الدَّيْنَيْنِ جِنْساً وَوَصْفاً وَوَقْتاً وَقَدْراً، وَلَا يُؤَثِّرُ الفَاضِلُ.

«لا تصح إلا على دينٍ مستقر» أي: أنه لا بد من استقرار المحال عليه، عندنا الآن دَيْنان، محال به ومحال عليه، وعندنا مُحيل ومحتال ومُحال عليه، فالدَّينان أحدهما عند المحيل والثاني عند المحال عليه، والمحيل هو المطلوب والمحتال هو الطالب والمحال عليه ـ أيضاً ـ هو المطلوب للمحيل.

فلا بد أن يكون الدين المحال عليه مستقرّاً، أي ثابتاً ثبوتاً ليس فيه فسخ أو عرضة لفسخ، كثمن المبيع، والأجرة بعد تمام المدة، والقرض، وغُرم الجنايات، وما أشبهها.

المهم أن يكون على دين مستقر، احترازاً من الدَّين غير المستقر كدين الكتابة.

مثاله: إنسان كاتب عبده بعشرة آلاف، فصار على العبد دين، حيث اشترى نفسه من سيده بعشرة آلاف ريال، فلا يملك السيد الآن أن يحيل على الدين الذي في ذمة المكاتب؛ لأنه غير مستقر، فإذا كان هذا السيد عليه عشرة آلاف وأراد أن يحيل صاحب الدين على دين الكتابة، فقد تحصل وقد لا تحصل، فيكون هذا الذي تحول إما سالماً وإما غارماً، أي: أنه لا يدري هل يغرم أو يحصل على حقه؛ لأن هذا العبد قد يعجز عن تسليم المال المكاتب عليه فيضيع حق المحتال، فلهذا لا بد من أن يكون المحال عليه مستقراً.

كذلك مهر المرأة قبل الدخول غير مستقر على الزوج؛ لأنه لا يستقر إلا بالدخول، فإذا أحالت المرأة به على الزوج صارت الحوالة غير صحيحة؛ لأنه غير مستقر؛ لأنه ما دام لم يدخل فيجوز أن يجد فيها عيباً فيفسخ النكاح ويأخذ المهر كاملاً، ويجوز أن

ص: 211

يطلقها فتستحق نصف المهر، ويجوز أن يدخل بها فتستحق المهر كاملاً، إذاً فالمهر هنا دين غير مستقر فلا تصح الحوالة عليه.

قوله: «ولا يُعتبر استقرارُ المحالِ به» أي أن المحال به لا يشترط استقراره وهو الدين الذي على المحيل، والمحال عليه هو الدين الذي على الشخص المحال عليه، فلو أن المكاتب أحال سيده بدينه على من في ذمته دين مستقر للمكاتب، فإن الحوالة صحيحة؛ لأنه لا يشترط استقرار المحال به، ومثل لو أحال الزوج زوجته بمهرها قبل الدخول على شخص يطلبه فيجوز، مثال ذلك: تزوجت امرأة بعشرة آلاف ريال وأطلب رجلاً بعشرة آلاف ريال، فأحلتها بعشرة آلاف ريال على الرجل الذي أطلبُه فهذا يجوز؛ لأن طلبي على فلان مستقر، لكن طلب المرأة عليَّ غير مستقر، لكنه لا يضر؛ لأن استقرار المحال به ليس بشرط، لكن هذه المرأة لا تملك أن تطالب هذا الرجل بمهرها قبل الدخول، لكنها تعرف أن حقها عند هذا الرجل.

فالشرط أن تكون على دين مستقر، فإن كانت على عين فتوكيل، وإن كانت على دين غير مستقر لم تصح، وإن كان على غير دين ولا عين فهذه لا تصح حوالة، لكنها توكيل في الاستقراض.

الشرط الثاني قوله: «ويشترط اتفاق الدَّينين» أي المحال به، والمحال عليه.

قوله: «جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً» أي: اتفاقهما في أربعة أمور:

ص: 212

الأمر الأول: الجنس، بأن يحيل مائة صاع بر في ذمته، على من له في ذمته مائة صاع بر، فإن أحاله بمائة صاع بر على مائة صاع شعير فإنه لا يصح، لاختلاف الجنسين، فهي ليست حوالة ولكنها في الحقيقة بيع.

وأيضاً لو أحاله بعشرة دنانير على عشرة دراهم، فلا يصح لاختلاف الجنسين.

الأمر الثاني: الوصف بأن يكون كل منهما جيداً، أو رديئاً، أو وسطاً، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح أن يحيل جيداً على رديء، ولا رديئاً على جيد، وفي هذا نظر؛ لأنه لا محظور من ذلك، فإذا أحال بجيد على رديء، وقَبِلَ المحال الرديء عن الجيد فما المانع؟ ما دام الجنس واحداً والقدر واحداً، فليس فيه ربا ولا غرر.

فهذا الذي أحيل بالجيد على رديء، يقول: أنا أحب أن آخذ الرديء ولا يبقى حقي في ذمة هذا الرجل الفقير أو المماطل.

وكذلك العكس، لو أحال بمائة صاع رديء على مائة صاع جيد فليس في ذلك شيء؛ لأن المحيل الآن أحال باختياره، كما لو أوفاه جيداً عن رديء.

فالصواب أن الوصف إذا قصد به الرداءة والجودة أنه لا بأس به.

الأمر الثالث: الوقت، وذلك فيما إذا كان الدَّينان مؤجلين، فلا بد من اتفاق الدينين في الأجل، فلا يحيل ما يحل بعد شهر،

ص: 213

على ما يحل بعد شهرين، أو ما يحل بعد شهرين على ما يحل بعد شهر؛ وذلك لعدم الاتفاق في الوقت، ولا يجوز أن يحيل مؤجلاً بحال ـ أيضاً ـ للاختلاف في الوقت.

وهذا ـ أيضاً ـ فيه نظر، فأي مانع يمنع إذا أحلت عشرة دراهم تحل بعد شهر، على عشرة دراهم لا تحل إلا بعد شهرين ورضي المحال؟ فليس في ذلك أي ضرر، والصحيح أنه جائز.

قد يقول قائل: إن هذه تشبه بيع الدراهم بالدراهم إلى أجل؟

فيقال: هذا ليس بيعاً، ولكنه استيفاء، ومن المعلوم أنه لو عجل المؤجل، أو أجل المعجل، فإنه لا بأس به، فالصواب إذن أنه لا يشترط اتفاقهما في الوقت.

الأمر الرابع: القدر فيشترط ـ أيضاً ـ اتفاق الدَّينين قدراً، فلا يحيل بعشرة على ثمانية؛ لأن هذا يشبه البيع، والبيع مع التفاضل لا يجوز، فلو أسقط عنه اثنين، وأحاله على فلان بثمانية فهذا يجوز، لأنه لما أسقط الاثنين صار الذي عنده ثمانية، فإذا أحاله بها على من يطلبه ثمانية تساويا.

أما بثمانية على عشرة فلا بأس، ولهذا قال المؤلف:

«ولا يؤثر الفاضل» يعني الزائد في المحال عليه، ولا بأس به؛ لأنه كأنه أحاله على ثمانية من عشرة، وهذا لا بأس به، وهذا معنى قوله:«ولا يؤثر الفاضل» ويبقى الفاضل لصاحبه.

فإن قال: أحلتك بثمانية على عشرة ليقبض كل العشرة؟ فهذا لا يجوز، لأنه صار معاوضة، والمعاوضة بين جنسين ربويين لا بد أن يكون أحدهما مساوياً للآخر إذا كان الجنس واحداً،

ص: 214

ومعلوم أنه إذا اختلف الجنس فهو معاوضة من باب أولى.

فصار اتفاقهما في القدر تحته أمران:

الأول: التحويل بالناقص على الزائد، على أساس أنه يأخذ مقدار حقه والباقي يبقى في ذمة المحال عليه، فهذا جائز.

الثاني: التحويل بالزائد على الناقص ـ على كلام المؤلف ـ لا يصح، لكن ما هو الطريق للصحة؟

الجواب: الطريق أن يبرئه من الزائد، ثم يحيله على المساوي.

فإذا قال: أنا أريد أن أبرأ منه نهائيّاً؟ قلنا: الطريق إلى هذا أن يبرئه من الزائد ثم يحيله، وهذه حيلة لا بأس بها؛ لأنها حيلة على مباح.

ولو قيل: إذا لم يكن في المسألة إجماع، فإنه يصح بدون إبراء لكان له وجه؛ لأن حقيقة تحول الدائن على ما هو أقل من حقه حقيقته الإبراء، لكن بدلاً من أن يقول: أبرأتك ثم ذاك يقول: أحلتك، اكتفى بالحوالة.

والخلاصة: (أن الحوالة من باب الاستيفاء، فإذا انقلبت إلى معاوضة صار لا بد من مراعاة شروط البيع المعروفة)، هذه هي القاعدة، أما هذه الشروط التي ذكرها المؤلف فكما سبق أن بعضها فيه نظر.

‌وَإِذَا صَحَّتْ نَقَلَتِ الحَقَّ إِلَى ذِمَّةِ المُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرِئَ المُحِيلُ. وَيُعَتَبرُ رِضَاهُ لَا رِضَا المُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَا المُحْتَالِ عَلَى مَلِيءٍ

قوله: «وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل» وتصح الحوالة بتمام الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن كل

ص: 215

شيء من عبادة أو معاملة لا يصح إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه، فإذا صحت نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل براءة تامة، والحوالة غير الضمان، فالضمان سبق أنه لا ينقل الحق؛ فلا ينقل الحق من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وكذلك الكفالة، لكن الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبقى المحيل بريئاً.

ولكن يشترط هنا وفي كل عقد أن يكون العاقد جائز التصرف، وكل عقد ـ أيضاً ـ لا بد أن يكون من مالك للعقد أو من يقوم مقامه، فهذان الشرطان يُصطحبان في كل عقد في البيوع والأوقاف والرهون والهبات والأنكحة وغيرها.

ولو فرض أن المحال عليه أعسر، فهل يرجع المحال على المحيل؟

الجواب: لا؛ لأن الحق انتقل وبرئ المحيل براءة تامة.

وقوله: «وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل» ، دليل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من أحيل بدينه على مليء فليحتل»

(1)

، أي: يتحول من المحيل إلى المحال عليه، فلو كان رجل عليه مائة ألف، وأحال بها على شخص، وتمت الشروط، ثم إن المحال عليه افتقر، فإن المحال لا يملك الرجوع إلى المحيل، فيقول المحيل: أنا أحلتك والحوالة تمت، وإذا تمت، فإنها تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

(1)

سبق تخريجه ص (91).

ص: 216

قوله: «ويعتبر رضاه» هذا هو الشرط الثالث من شروط صحة الحوالة.

والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فالرضا لا بد منه في جميع العقود حتى عقد النكاح ـ على القول الراجح ـ فيما إذا كانت البنت بكراً.

قوله: «لا رضا المحال عليه» المحال عليه لا يعتبر رضاه، فلو أحال رجل بدينه على آخر، وقال المحال عليه: لا أقبل؛ لأن المحتال رجل سيئ الطلب، ويتعب المطلوب، أنا أريد الأول؛ لأنه أسهل وأيسر، فلا يملك ذلك، قال العلماء: لأنه ـ أي: صاحب الحق ـ يملك استيفاءه بنفسه وبوكيله، والمحتال كأنه وكيل، فكما أن لصاحب الحق أن يوكل رجلاً خصماً لدوداً في استيفاء حقه فله أن يحيله أيضاً.

وإذا امتنع المحيل عن الحوالة لكونه فقيراً، فهل يملك صاحب الدين أن يجبره على إحالته على دينه في ذمة غني؟

الجواب: على كلام المؤلف لا يملك؛ لأنه يشترط رضاه على كل حال.

فلو قال الدائن: أنت الآن ليس عندك شيء، لكن لك في ذمة فلان الغني الباذل كذا وكذا، فأحلني عليه، فقال: لا أحيلك، فإنه لا يلزمه، لكن لو رأى القاضي أن إحالته لا بد منها فله ذلك، ونظير هذا، لو أن المدين غيَّبَ ماله وقال: ليس عندي شيء، وكان عنده مال، لكنه غيبه وكتمه، فإنه يُلزم بأن يظهر هذا

ص: 217

المال ويوفي منه، فالقول بأنه في هذه الحال لا يعتبر رضاه وأنه يجبر على الإحالة قول قوي؛ لئلا يضيع حق صاحب الدين.

قوله: «ولا المحتال على مليء» المحتال في رضاه تفصيل إن كان على مليء لم يعتبر رضاه، وإن كان على غير مليء اعتبر رضاه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم بدينه على مليء فليحتل»

(1)

، ومفهومه أنه إذا أحيل على غير مليء لا يلزمه الاحتيال، فصار المحيل والمحتال والمحال عليه باعتبار الرضا على ثلاثة أقسام:

الأول: من يعتبر رضاه بكل حال وهو المحيل.

الثاني: من لا يعتبر رضاه على كل حال وهو المحال عليه.

الثالث: من فيه التفصيل وهو المحتال، إن كان على مليء لم يشترط رضاه، وإن كان على غير مليء اشترط رضاه.

ومن هو المليء؟

الجواب: قال العلماء: هو القادر على الوفاء بقوله وماله وبدنه.

أما «قوله» : فألا يكون كاذباً يَعِدُ ويُخْلِفُ، وهذا هو المماطل، فإذا أحاله على شخص غني، لكن من عادَته أن يماطل فيعد ويكذب، فإنه يعتبر رضا المحتال.

«وماله» بأن يكون عنده مال يستطيع الوفاء منه، فإن كان فقيراً اعتبر رضا المحتال.

(1)

سبق تخريجه ص (91).

ص: 218

«وبدنه» وهو أن يمكن إحضاره عند المحاكمة إلى مجلس الحكم، فإن كان لا يمكن محاكمته شرعاً أو عادة، فإنه لا يلزمه أن يتحول، ولا بد من رضاه.

والذي لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم شرعاً الأب، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: لا تمكن مطالبة الأب بالدَّيْن، إلا ما كان من النفقة فقط، أما غيره فلا يمكن، فلو استقرض أبوك منك مالاً، وطالبته به فلا يمكن أن تحضره إلى مجلس الحكم، ولو طالبته أن يحضر فإن القاضي لا ينظر في ذلك، فإذا أحالك إنسان إلى أبيك، فقال: أنت تطالبني بعشرة آلاف، وأنا أطالب والدك بعشرة آلاف، أحيلك على أبيك، فهل لك أن ترفض؟ هذه مشكلة؛ لأنك لو رفضت، صار قدحاً عظيماً في والدك، وإن قبلت ربما يضيع حقك.

ونحن عرفنا المسألة فقهاً، أما واقعاً، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى ما يترتب على ذلك من مفاسد، فقد يكون بره بأبيه ورفع معنوية أبيه خيراً من أن يحصل على مقصوده.

ومثال من لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم عادة السلطان.

مثاله: إنسان يطلب منك عشرة آلاف ريال، وأنت تطلب من الأمير عشرة آلاف ريال، فقلت: أحلتك على الأمير، فهنا لا يلزمه القبول، ولا بد من رضاه؛ لأن الأمير لا تمكن مطالبته، فإذا ألزمناه بأن يتحول صار هذا سبباً لضياع حقه، والظلم ظلمات يوم القيامة.

إذاً رضا المحتال فيه تفصيل: إن كان على مليء لم يُعتبر

ص: 219

رضاه، وإن كان على غير مليء اعتبر رضاه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهو ما مشى عليه المؤلف، بناء على أن الأمر في قوله:«فليحتل» للوجوب، وعلى هذا فيجبر المحتال أن يتحول وتبرأ ذمة المحيل إذا كان المحال عليه مليئاً.

وذهب أكثر العلماء إلى اعتبار رضاه حتى وإن أحيل على مليء، وقالوا: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «فليحتل»

(1)

، على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب؛ لأنه من حُسن الاقتضاء، وأنا أميل إلى هذا القول وأنه لا يجب قبول التحول؛ لأنه صاحب حق، وأنت ربما تُحيلني على مليء، قادر على الوفاء بقوله وماله وبدنه، وأستطيع أن أحضره إلى مجلس الحكم، لكن له احترام عندي، إما أنه أخ، أو قريب، أو صديق، أو ذو شرف وجاه، فكيف تجبرني؟ أو بالعكس، فلا أُنَزِّل نفسي بمنزلة هذا السفيه مثلاً.

فالصواب أنه لا بد من رضا المحتال سواء كان على مليء أم على غير مليء، وهو قول الجمهور.

‌وَإِنْ كَانَ مُفْلِسَاً وَلَمْ يَكُنْ رِضِيَ رَجَعَ بِهِ وَمَنْ أُحِيلَ بِثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ أُحِيلَ بِهِ عَلَيْهِ فَبَانَ البَيْعُ بَاطِلاً فلا حَوَالَةَ، وإذا فُسِخَ البيعُ لم تَبْطُلْ. ولَهُمَا أَنْ يُحِيلا.

قوله: «وإن كان مفلساً» أي: المحال عليه.

قوله: «ولم يكن» أي: المحتال.

قوله: «رضي» أي: بالحوالة عليه.

قوله: «رجع به» أي: بما أحيل به.

مثال ذلك: أحلت فلاناً على زيد ثم تبين أنه مفلس، فإنه يرجع بذلك؛ لأن صاحبه كان مفلساً، لكن إن رضي المحتال،

(1)

سبق تخريجه ص (91).

ص: 220

وتبين أن المحال عليه مفلس، فإنه لا يرجع، وهذه المسألة لها ثلاث حالات:

الحال الأولى: ألا يكون المحتال رضي، بأن قال المحيل للمحتال: أحلتك على فلان وهو مفلس ليس عنده دراهم، فقال: لا أقبل، فهنا يرجع قولاً واحداً، ولا خلاف في ذلك؛ لأنه يشترط للمحتال على غير مليء أن يكون راضياً، وهنا لم يرض، فيرجع بلا خلاف.

الحال الثانية: أن يعلم أنه مفلس ويرضى بذلك، فهنا لا يرجع بلا خلاف؛ لأنه رضي به فلا يرجع.

الحال الثالثة: أن يرضى وهو لا يعلم بحاله ثم يتبين أنه مفلس، فعلى كلام المؤلف لا يرجع؛ لأنه قيد ذلك بما إذا لم يكن رضي، وهذا الرجل رضي.

فإن قال المحتال: أنا رضيت، أحسب أن فلاناً غني، فلما تبين أنه مفلس أريد أن أرجع إلى الذي أحالني، وآخذ حقي منه؟

قلنا: لا رجوع لك؛ لأنك فرطت، فلماذا لم تشترط الملاءة حين أحالك، وأنت لا تدري عن صاحبك المحال عليه؟

فيقال: ما دمت أنك لم تشترطها فأنت الذي فرطت فلا رجوع لك.

فالأحوال إذن ثلاث:

حالتان لا خلاف فيهما، وحالة فيها التفصيل.

ص: 221

الأولى: إذا كان يعلم أنه مفلس ورضي، فلا رجوع، قولاً واحداً.

الثانية: إذا كان لم يرض، والمحال عليه مفلس، فيرجع بكل حال.

الثالثة: إذا كان رضي، ولم يعلم عن حال المحال عليه، ثم تبين أنه مفلس فيقول المؤلف: إنه لا يرجع؛ لأنه مفرط، فلماذا لم يشترط أن يكون المحال عليه مليّاً حين كان يجهل حاله؟

وقيل: إنه يرجع في هذه الحال؛ لأن كثيراً من الناس قد يستحي أن يستفصل أو يشترط عند الحوالة، ويحسن الظن بالمحيل والمحال عليه ويسكت، فإذا تبين أنه مفلس فإنه يرجع، ولا سيما إذا غلب على ظننا أن المحيل قد غرَّه، وهو يعلم أنه مفلس ولم يخبره، فهنا يتوجه القول بالرجوع.

كذلك ـ أيضاً ـ لو كانت حال المحال عليه جيدة، وكان غنيّاً بالأمس، وقَبِلَ المحتال الحوالة دون اشتراط الملاءة، بناءً على حال المحال عليه، وأنه غني، ثم تبين أن المحال عليه قد أصيب بجائحة، وأنه لا يمكن الاستيفاء منه، فحينئذٍ يتوجه القول بأنه يرجع؛ لأن المحتال إنما قبل بناءً على ما كان من حال المحال عليه.

فتبين الآن ما ذهب إليه المؤلف، والراجح فيه تفصيل، وهو أننا إذا علمنا أن المحيل قد غر المحتال بحيث يكون عالماً بإفلاس المحال عليه ولم يخبره، أو كان المحتال قد بنى على

ص: 222

حال المحال عليه من قبل، حيث كان غنيّاً ثم اجتيح ماله فإن له أن يرجع، وإلا فإن ما ذهب إليه المؤلف وجيه؛ لأن المحتَال مفرِّط، إذ كان يلزمه أن يسأل ويبحث عن المحال عليه، أو على الأقل أن يشترط عند التحويل أن يكون مليّاً.

قوله: «ومن أحيل بثمن مبيع، أو أحيل به عليه فبان البيع باطلاً فلا حوالة، وإذا فسخ البيع لم تبطل» الصورة الأولى عندنا بائع ومشترٍ ومحال عليه، ثلاثة، فالذي يُحال بثمن المبيع البائع، يعني أن المشتري أحال البائع على مدين له فَقَبِل الحوالة، ولكن تبين أن البيع باطل، فالحوالة باطلة؛ وذلك لأن المبني على باطل يكون باطلاً.

مثال ذلك: عبد الرحمن اشترى من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات، فأحال عبدُ الرحمن الطاهرَ على سامي، لأنه كان مديناً له، فتبين بطلان البيع لكون الكتاب وقفاً والوقف لا يباع، فهنا تبطل الحوالة والبائع يرجع على المشتري بالمبيع، وهو هنا الطاهر فيأخذ كتابه وتنتهي المسألة.

ولكن إذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، مثلاً لما اشترى عبد الرحمن الكتاب من الطاهر وجد فيه عيباً، فرده لعيبه، فهذا فسخ للعقد فالحوالة لا تبطل، وللطاهر أن يطالب سامياً بالثمن؛ لأنه أحيل عليه به، فله أن يطالبه، ولكنه إذا قبضه يرده إلى المشتري وهو عبد الرحمن؛ لأنه فسخ العقد.

ص: 223

إذاً إن كانت الحوالة مبنية على باطل فهي باطلة، وإن كانت مبنية على صحيح ولكن فُسخ، فالحوالة صحيحة ولا تبطل.

فإن طالب الطاهر ـ الذي هو البائع ـ المحال عليه ـ وهو سامي ـ بالثمن، فقال سامي: ما دام البيع قد فسخ فلا حق لك، أنا أعطي ديني الذي عليَّ لصاحبي فهل يملك ذلك؟ لا يملك هذا؛ لأن المفروض أن الذي يسلم الثمن بعد الفسخ هو البائع، وهو سيقول: إن البيع لما فسخ فإن المشتري سوف يطالبني، فأعطني الدراهم التي أُحلت بها عليك وأنا أسلمها للمشتري.

وقوله: «أو أحيل به عليه» هذه هي الصورة الثانية، أي: أحيل بثمن المبيع على شخص، أي أن البائع أحال شخصاً يأخذ الثمن من المشتري، يعني عكس الصورة الأولى، مثلاً الطاهر باع كتاباً لعبد الرحمن، وسامي يطلب الطاهرَ ديناً له عليه فأحال الطاهرُ سامياً على عبد الرحمن.

فللمسألة صورتان، تارة يحيل المشتري البائعَ على مدين له، وتارة يحيل البائعُ مدينَه على المشتري.

قوله: «ولهما أن يحيلا» يعني للمشتري في الأولى، وللبائع في الثانية.

ففي المثال الأول عبد الرحمن اشترى من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات وأحال الطاهرَ على سامي بالعشرة، فثبتت العشرة التي في ذمة سامي للطاهر، فللطاهر لما فسخ البيع أن يحيل المشتري ـ عبد الرحمن ـ على سامي؛ لأن عبد الرحمن لا يملك

ص: 224

مطالبة سامي؛ لأن الحق انتقل إلى البائع ـ الذي هو الطاهر ـ فللبائع أن يحيل عبد الرحمن على سامي.

فالطاهر الآن صار مديناً للمشتري ـ عبد الرحمن ـ فأحاله على مدينه ـ سامي، وسامي كان مديناً لعبد الرحمن ـ المشتري؛ ثم صار مديناً للبائع ـ الطاهر ـ فأحال البائع بدينه عليه.

وفي المسألة الثانية: [المثال الثاني] بالعكس، البائع أحال مدينه على المشتري.

مثال ذلك: اشترى عبد الرحمن من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات، فثبت في ذمة عبد الرحمن للطاهر عشرة ريالات، كان سامي يطلب الطاهر عشرة ريالات، فقال له الطاهر: أحلتك على عبد الرحمن ـ المشتري ـ فإذا فسخ البيع، فإن سامياً سوف يستلم من المشتري ـ عبد الرحمن ـ وهنا سوف يحيل المشتري ـ عبد الرحمن ـ سامياً على البائع ـ الطاهر ـ.

ص: 225

‌بَابُ الصُّلح

قوله: «باب الصلح» الصلح مصدر صالح يصالح صلحاً، ويشتق منه ـ أيضاً ـ أصلح يصلح إصلاحاً، وهو في اللغة قطع النزاع.

والصلح عقد يحصل به قطع النزاع بين المتخاصمين، هذا هو الأصل، وله أنواع كثيرة، ويتعلق بجميع الحقوق المالية وغيرها، فكلها يمكن أن يقع فيها الصلح، قال الله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

وهذا فيما بين الزوجين من حقوق، وقال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وجاز شرعاً أن يكذب الإنسان من أجل السير إلى الصلح والمصالحة بين الناس، وحث الشرع على الإصلاح بين الناس، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صالح المشركين في غزوة الحديبية

(1)

، وهذا فيما يقع بين المسلمين والمشركين من العهود.

ولكن يمتنع الإصلاح في حالة واحدة، وهي ما إذا تبين للقاضي أن الحق مع أحد الخصمين، فإن الصلح هنا ممتنع ولا يجوز ما لم يبين لصاحب الحق أن الحق له، ثم يطلب منه الصلح؛ لأنه يوجد قضاة علمهم ضعيف، فكل مسألة ترد عليهم يجعلونها صلحاً، وهذا حرام ولا يجوز.

(1)

أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2731) و (2732).

ص: 226

المهم أن الصلح جارٍ في كل شيء، وبين كل متعاقدين، وهو كما جاء في الحديث المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول «الصلح جائز بين المسلمين» ، أي في كل شيء، وجائز بمعنى نافذ، «إلاَّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(1)

، أي: فإنه لا ينفذ.

والصلح أنواع، فيكون في الحقوق والأموال والأعراض، كل شيء، ولهذا أطلق الله سبحانه وتعالى فقال:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وهنا في هذا الباب، يريد الفقهاء به الصلح في الأموال، ويذكرون الصلح في النزاع بين الزوج وزوجته في باب عِشْرَة النساء، وفي باب أهل الزكاة في الغارم لإصلاح ذات البين، ففي كل موضع بحسبه، فالذي معنا هنا الصلح في الأموال، وهو على نوعين صلح على إقرار وصلح على إنكار، أي: الصلح يكون على شيء أقرَّ به مَنْ عليه الحق، ويكون على شيء أنكره من عليه الحق.

الأول: الصلح على إقرار، وقد بينه المؤلف رحمه الله بقوله:«إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح» .

(1)

أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.

ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، بلفظ «المسلمون على شروطهم» ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمين على شروطهم (3594)، والحاكم (2/ 92) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني (3/ 27 ـ 28) والحاكم (2/ 49 ـ 50) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» وصححه النووي في المجموع (9/ 464) والألباني في الإرواء (1303).

ص: 227

‌إِذَا أقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ أوْ عَيْنٍ فَأسْقَطَ أَوْ وَهَبَ البَعْضَ وَتَرَكَ البَاقِيَ صَحَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَاهُ، وَمِمَّنْ لَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ.

قوله: «إذا أقر له بدين» بأن قال: في ذمتي لك ألف ريال.

وقوله: «أو عين» بأن قال: هذا المسجل لك.

وقوله: «فأسقط» يعود على الدين.

وقوله: «أو وهب» يعود على العين، ففيه لف ونشر مرتب، يعني يذكر شيئين ثم يثني بمثل حكمهما مرتباً؛ لأنه أعاد الأول على الأول والثاني على الثاني، ومن ذلك قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *} {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود]، فهذا يسمى لفّاً ونشراً مرتّباً.

وهناك لف ونشر غير مرتب، بأن يُذكر ما يعود على الثاني، ثم ما يعود على الأول، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106]، هذا لف ونشر غير مرتب.

وهذه كلها من أساليب البلاغة، ولا بد لكل ما خالف الأصل من فائدة، وإلا فالأصل أن يكون اللف والنشر مرتبين.

وقوله: «فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح» ، بأن قال حينما أقر له بمائة ريال قال: أسقطت عنك خمسين ريالاً صح؛ لأن هذا إبراء محض وإحسان ومطلوب، ولكن قد يقال: أين هذا من الصلح؟ فهل حصل نزاع حتى يحصل صلح؟! الجواب: الفقهاء يقولون: لو وقع هذا بلفظ الصلح لم يصح، وهذا وجه إدخاله في باب الصلح، فلو أن صاحب الحق قال للمقر: قد صالحتك على بعض الدين، يقولون: لا يصح، لأنه لا

ص: 228

يمكن أن يصالحه عن ماله ببعضه، لكن القول الثاني أنه يصح بلفظ الصلح؛ لأن المقصود المعنى.

وكذلك لو أقر له بعين فقال: وهبتك نصفها أو ربعها أو ما أشبه ذلك فإنه جائز، لكن لو قال: صالحتك بنصفها فالفقهاء يقولون: لم يصح؛ وهذا وجه إدخاله في باب الصلح، والصحيح أنه يجوز ولو وقع بلفظ الصلح ولكن بشروط:

قوله: «إن لم يكن شرطاه» أي: المتنازعان، أو إن لم يكن شرطاً، أي: بشرط ألا يكون المقر أقر للشخص بهذا الشرط، أي: بأن منعه حقه إلا بأن يسقط أو يهب، فإن كان كذلك فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يحل له أن يمنعه حقه إلا إذا تنازل عن بعضه فهذا حرام، ومن أكل المال بالباطل، ولكن هل لا يجوز للمسقِط أو لا يجوز للمسقَط عنه؟ أيهما الظالم؟

الجواب: الظالم هو المسقَط عنه، إذا قال: أنا أقر لك بهذا الدين بشرط أن تسقط كذا وكذا، فالظالم المسقَط عنه، إذا كان الدَّين حقيقة ثابتاً، فيشترط ألا يكون شرطاه، فإن شرطاه فإنه لا يصح، لكن في حق المعتدي منهما؛ لأن العبرة بما في الأمر نفسه.

قوله: «وممن لا يصح تبرعه» هذه الجملة معطوفة على قوله: «شرطاه» يعني وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، أي: ويشترط ـ أيضاً ـ ألا يكون ممن لا يصح تبرعه، أي: بذله المال مجاناً، وهناك فرق بين من يصح تبرعه ومن يصح تصرفه، فالذي يصح تصرفه أوسع من الذي يصح تبرعه، فمثلاً ولي اليتيم يصح تصرفه ولا يصح تبرعه، وكذلك الوكيل.

ص: 229

إذاً يشترط أن يكون الإسقاط أو الهبة ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه لم يصح الإسقاط ولا الهبة لفوات الشرط.

فإذا أسقط ولي اليتيم بعض دينه وأخذ الباقي فلا يصح الإسقاط؛ لأن ولي اليتيم لا يصح تبرعه، ولكن قد يقال: إنه إذا لم يتمكن من الوصول إلى حقه إلاّ بالإسقاط، فإن الإسقاط جائز؛ لما في ذلك من المصلحة، فمثلاً هذا رجل مماطل وأنا بعت عليه على أنه رجل موفٍ وأنه مليء ثم تبين الأمر بالعكس، ثم صالحته على إسقاط بعض الشيء، فهنا استدراك بعض الشيء خير من فوات الكل، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] وهل يضمن الولي في هذه الحال؟

الجواب: ينظر إن كان مفرطاً ضمن، وإن كان غير مفرط لم يضمن.

ومن الشروط ـ أيضاً ـ ألا يقع بلفظ الصلح؛ لأنه لا يصح أن يصالح بشيء من ماله على ماله.

مثاله: أن يقول: أقرضتك مائة درهم فصالحني على بعضها، فيقول: صالحتك، فهذا لا يصح. هكذا قالوا رحمهم الله.

ولكن ينبغي أن يقال: إذا فهم من هذه المصالحة أنها إسقاط في دين، أو هبة في عين، فينبغي قَبول ذلك؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا علمنا أن مرادهما بالمصالحة، الهبة في العين، والإسقاط في الدين، فلا مانع.

ص: 230

صحيح أن المصالحة لا تكون إلا بعد نزاع، ولا تكون إلا لفض النزاع، وهنا لا نزاع في المسألة؛ لأنه إقرار وهبة، لكن يقال: ما دمنا عرفنا أن المقصود بالمصالحة هنا، الإسقاط في الدين، والهبة في العين، فإن الألفاظ قوالب في الواقع، والعبرة بالمعاني.

إذاً هذا يسمى الصلح على إقرار، وشرطه ألا يكون مشروطاً، ومن باب أولى ألا يمنعه حقه بدونه، فإن منعه حقه بدونه، قال: لا أقر لك إلا أن تسقط، فإنه لا يصح، وهذا معنى قولنا: ألا يكون شرطاً، والثاني: أن يكون ممن يصح تبرعه.

‌وَإِنْ وَضَعَ بَعْضَ الحَالِّ وَأجَّلَ بَاقِيَهُ صَحَّ الإسْقَاطُ فَقَطْ. وَإِنْ صَالَحَ عَنْ المُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالاًّ، أَوْ بِالعَكْسِ،

................

قوله: «وإن وضع بعض الحال وأجَّل باقيه صح الإسقاط فقط» أي: دون التأجيل.

مثال ذلك: إنسان عنده لشخص مائة درهم قد أقر بها، فقال له: أنا أريد أن تسقط عني خمسين درهماً وتؤجل الباقي، فقال: لا بأس أفعل، ففعل.

يقول المؤلف: يصح الإسقاط ولا يصح التأجيل، فيصح الإسقاط؛ لأنه أسقط عنه، فقال: وضعت عنك خمسين درهماً، وفي ذمتك خمسون درهماً، لكن التأجيل لا يصح؛ لأن الفقهاء عندهم رحمهم الله قاعدة: وهي أن الحال لا يمكن أن يتأجل، ولا يقبل التأجيل، ولهذا مر علينا في القرض، أنه إذا استقرض شيئاً، وأجَّل وفاءه، فإنه لا يصح التأجيل ولا يلزم.

ولكن الصحيح في هذه المسألة، وفي مسألة القرض أنه

ص: 231

يصح، فإذا قال: وضعت عنك خمسين درهماً وأجَّلت الخمسين، فإنه يجب أن يفي بوعده؛ لأن إخلافَ الوعدِ ـ ولا سيما في مثل هذه الأمور المالية التي قد يترتب عليها ضمان أو نقص ـ محرمٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال محذراً منه:«آية المنافق ثلاث ومنها إذا وعد أخلف»

(1)

، ويلزمه خمسون مؤجلة.

فالصواب أنه يصح الوضع، وأن الحال يتأجل بالتأجيل وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأنه عهد ووعد، وقد قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، ولأن هذا الذي أجلته عليه ربما يبني على تأجيلك إياه تصرفاً لولا أنك أجلته لم يتصرفه، فإذا قلت: أعطني إياه الآن تضرر، ونظير ذلك جئت إلى رجل وقلت: أنا محتاج عشرة آلاف ريال، اشتري سيارة وليس عندي شيء أقرضنيها وأجلها إلى سنة، فقال: تفضل، فأخذتها واشتريت السيارة، فلما اشتريت السيارة، أتى إليَّ من الغد وقال: أعطني عشرة آلاف الريال، على المذهب له أن يطالبني؛ لأن القرض حال والحال لا يتأجل، فيترتب عليَّ من الضرر الكثير، ولا شك أن هذا حتى الفطرة السليمة لا تقبله، وأما على رأي شيخ الإسلام فإنه يتأجل لعموم:«المسلمون على شروطهم»

(2)

.

قوله: «وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً» فإنه لا يصح.

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان/ باب علامة المنافق (33)؛ ومسلم في الإيمان/ باب خصال المنافق (58) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (18).

ص: 232

مثاله: رجل في ذمته لآخر مائة درهم مؤجلة إلى سنة، وفي أثناء السنة جاء الدائن للمدين، وقال: أعطني منها خمسين وأبرئك من الباقي، يقول المؤلف:«لم يصح» ؛ لأن هذا يشبه الربا، حيث أخذ عن المائة خمسين.

والصواب أنه جائز، وأن الإنسان إذا أخذ البعض في المؤجل وأسقط الباقي فإن ذلك صحيح؛ لأن السنة وردت به في قصة إجلاء بني النضير من المدينة، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ضعوا وتعجلوا»

(1)

، ضعوا أي: أسقطوا، وتعجلوا أي: المؤجل؛ ولأن فيه مصلحة للطرفين، أما الطالب فمصلحته التعجيل، وأما المطلوب فمصلحته الإسقاط، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بمنع عقد فيه مصلحة للطرفين، وليس فيه غرر ولا جهالة، وأيضاً فإن الربا في هذا بعيد جداً؛ لأن المدين لم يطرأ على باله حين استدان أنه سوف يرده أنقص معجلاً، فمحظور الربا بعيد جداً، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.

لكن لو أجبر أحدهما الآخر على هذا الفعل فإنه لا يصح، أي: لو قال المطلوب للطالب: هذا نصف حقك أعجله لك، وأسقط عني الباقي، قال: لا، أنا أريد حقي كاملاً متى حلَّ، فإنه لا يجبره.

فإن أعطاه حقه كاملاً حالاً عن المؤجل فهل يجبره أو لا؟

(1)

أخرجه الدارقطني (3/ 46)؛ والبيهقي (6/ 28) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال الدارقطني: «اضطرب في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعيف» ، وضعفه ابن القطان، انظر:«بيان الوهم والإيهام» رقم (431).

ص: 233

الجواب: في هذا خلاف، فالمذهب لا يجبره.

والصواب: أنه يجبره ما لم يكن عليه ضرر.

مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة درهم تحل بعد سنة، وقبل تمام السنة جاء المطلوب إلى الطالب بالمائة درهم، وقال: خذ حقك، قال: لا، حتى تحل، فهل يجبر الطالب؟

في هذا خلاف، فالمشهور من المذهب أنه لا يجبر؛ لأنه حق مؤجل لا يلزمه قبل أجله.

والصحيح أنه يجبر إلا إذا كان في ذلك ضرر عليه؛ ووجه ذلك أنه إذا عجل له دينه فهو مصلحة بلا مضرة، وفيه مصلحة للمطلوب؛ لأن المطلوب يقول: الآن توفر عندي المال، وأخشى إذا جاء أجل الدين ألا يكون عندي مال، فيكون في هذا ضرر عليك.

فالصواب أنه إذا عجل المؤجل فإنه يلزم الطالب القبول ويجبر عليه؛ لأنه زاده خيراً، إلا إذا كان فيه ضرر، بأن قال الطالب: نحن الآن في وقت خوف، وأخشى أن آخذ المال منك فيسرق، أو قال: إني على سفر وليس عندي ما أودعه به، وما أشبه ذلك فإنه لا يلزم بالقبول.

قوله: «أو بالعكس» أي إذا صالح عن الحال بزائد عليه مؤجل، فإنه لا يصح.

مثال ذلك: رجل في ذمته لشخص مائة درهم حالة، فقال المطلوب: أصالحك على أن تؤجل الحق، وتكون بمائة وعشرة، فهذا لا يجوز؛ ووجه ذلك أنه ربا، وهذا هو الربا الذي كانوا

ص: 234

يتعاطونه في الجاهلية والذي قال الله فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [آل عمران]، فإن صالح عن بعضه مؤجلاً، فهي المسألة الأولى، ولهذا اضطررنا إلى أن نقول:«بالعكس» أن يصالح عن الحال بأكثر منه مؤجلاً لا ببعضه مؤجلاً بل بأكثر منه مؤجلاً، فإنه لا يصح، والعلة واضحة.

‌أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِبَيْتٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سُكْناهُ، أَوْ يَبْنِيَ لَهُ فَوْقَهُ غُرْفَةً، أَوْ صَالَحَ مُكَلَّفاً لِيُقِرَّ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ، أَوْ امْرأةً لتُقرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِعِوَضٍ لَمْ يَصِح ...............

قوله: «أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه» أي: أقر لشخص ببيت وصالحه على أن يسكنه، فهذا صلح على إقرار، بأن قال: هذا البيت لك ولكن صالحني على أن أسكنه لمدة سنة، فإنه لا يصح؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه، ولكن يمكن أن نقول في مثل هذا، إذا أقر له بالبيت: إن للمُقَرَّ له أن يمنحه إياه للسكن سنة ـ مثلاً ـ أو أقل أو أكثر، أما أن يجعل ذلك صلحاً فلا يصح.

قوله: «أو يبني له فوقه غرفة» فلا يصح، لأنه صالح عن ماله ببعض ماله، فإذا قال: الذي فوق ليس لك؟ نقول: له إلى السماء، وإلى الأرض السابعة، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين»

(1)

، والغالب أن مثل هذا لا يتأتى إلا إذا امتنع المقر من

(1)

أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452)، ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.

ص: 235

الإقرار إلا أن يبنيها له، أما أن يقر ويقول: البيت بيتك، ثم يقول: صالحني على أن أبني، هذا لا يستقيم في الغالب إلا إذا منعه، وسبق لنا أن الصلح على إقرار إذا كان بشرط أو منع حقه بدونه فإنه لا يصح.

قوله: «أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية» وهذا يقع حيلة في الغالب، مثاله: قال: يا فلان أنا أريد أن أدعي أنك عبدي، تعال فأَقِرْ عند القاضي ففعل، فذهبا إلى القاضي، وقال: هذا عبدي وأريد أن توثق ملكي به، فقال: نعم، فكتب وثيقة بأن فلاناً بن فلان عبد لفلان، فهذا لا يصح؛ لأن الحر لا يمكن أن يكون عبداً، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله ـ تعالى ـ: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجره»

(1)

.

فإن قال قائل: وهل يمكن هذا؟

الجواب: نعم بأن يتفق اثنان على أن يقر أحدهما للآخر بالعبودية، ثم إن المقر له يبيعه، ويأخذ الثمن ويقول للذي أقر بالعبودية: الثمن بيني وبينك ثم يوصيه، ويقول: إذا بعتك على فلان وأخذت الثمن فعليك بالإباق، إذاً نقول: هذه المصالحة لا تصح، وهي حرام ومن كبائر الذنوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله خصم هؤلاء، وهذا وعيد.

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إثم من باع حرّاً (2227) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 236

وقوله: «أو صالح مكلفاً» عبر بقوله: مكلفاً؛ لأن غير المكلف لا يصح إقراره أصلاً، وإذا كان لا يصح إقراره فإنه لا تصح المصالحة معه.

قوله: «أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح» ، مثاله: الدولة فرضت للإنسان الأعزب شيئاً من بيت المال وللمتزوج ضعفه، فطلب إنسان من امرأة أن تقر بأنها زوجته؛ ليعطى مكافأة متزوج، وفعلت، فهذا حرام؛ لأنه يترتب على هذا أمور كثيرة، لو أنه مات لورثته، ولو ماتت لورثها، ثم لو أتت بولد زنا لألحق بهذا الرجل الذي أقرت له بالزوجية، وترتب عليه مسائل كثيرة، فلا يحل أن يصالح امرأة لتقر له بالزوجية.

هذا لو صالح امرأة لتقر له بعوض، فلو صالحها بغير عوض فالحكم كذلك، ولكن في الغالب أنه لا يكون إلا بعوض، إما عين وإما منفعة أو غير ذلك.

مسألة: لو كانت المرأة زوجة حقيقية وأنكرت أنها زوجته، والشهود قد ماتوا ووثيقة النكاح ضاعت، ولم يبق الآن إلا إقرارها، فصالحها لتقر له بالزوجية فما حكم هذا الصلح؟

الجواب: هذا بالنسبة للمرأة حرام عليها أن تأخذ عوضاً عن هذا الإقرار لأنها امرأته، أما بالنسبة للرجل فهو جائز أن يبذل العوض، لأن فيه استنقاذاً لحقه، ونظير ذلك لو أن أحداً أخذ منك شيئاً وأبى أن يقر أنه لك إلا بعوض تعطيه إياه، فأعطيته إياه فهذا بالنسبة لك جائز، وبالنسبة له محرم.

ص: 237

‌وَإِنْ بِذَلَاهُمَا لَهُ صُلْحاً عَنْ دَعْوَاهُ صَحَّ، وَإِنْ قَالَ: أَقِرَّ بِدَيْنِي وَأعِطيكَ مِنْهُ كَذَا فَفَعَلَ، صَحَّ الإِقْرِارُ لَا الصُّلْحُ.

قوله: «وإن بذلاهما له صلحاً عن دعواه صح» «بذلاهما له» يعني بذل المُدَّعى عليه العبودية والمُدَّعى عليها الزوجية، والضمير في «هما» للعوضين، «وله» الضمير يعود على المدعي «صلحاً عن دعواه صح» ، لأن المراد بذلك دفع الدعوى فقط فيصح.

مثال ذلك: رجل قال لآخر: أنت عبدي وألح عليه، وقال له: نذهب إلى المحكمة لأثبت أنك عبدي، إما أن نذهب إلى القاضي أو تعطيني ألف درهم، وهذا الذي ادعيت عليه العبودية لا يريد مشكلات ففعل، قال: خذ ألف درهم ولا نذهب للقاضي، فهذا يصح، فالإقرار غير صحيح ظاهراً، أما في الآخرة فالظالم منهما لا يصح الإقرار في حقه، ويصح في حق المظلوم.

وكذلك بالنسبة للزوجية، رجل أمسك امرأة وقال: أنت زوجتي، فأنكرت وقالت: لست بزوجة لك، فأصر إلا أن تقر، أو تذهب إلى المحكمة، فقالت: هذه ألف درهم صلحاً عن دعواك، فهنا يصح في حقها هي ظاهراً وباطناً، ويصح في حق المدعي ظاهراً لا باطناً، ولهذا يحاسب عند الله عز وجل على كذبه على هذه المرأة.

قوله: «وإن قال: أقرَّ بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح» .

مثاله: رجل قال: أقر بديني ولك نصفه، بأن قال: أنا أطلبك بعشرة آلاف ريال، أقر بها ولك منها خمسة آلاف، قال: نعم، فأقر بها عند القاضي بأن في ذمتي لفلان عشرة آلاف ريال،

ص: 238

على أنه سيعطيه منها خمسة آلاف، فيصح الإقرار؛ لأنه وقع من أهله ولا يصح الصلح؛ لأنه أكل للمال بالباطل.

ولكن الصحيح أن في هذا تفصيلاً، فإذا كان المدين أبى أن يقر إلا بهذا، فالصلح باطل والإقرار ثابت، يُطَالَبُ به ظاهراً، وأما إذا كان غير ممانع وهو مقر فإن إسقاط بعضه يكون من باب الوعد، والصحيح أن الوفاء بالوعد واجب، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخلف الوعد؛ لأن إخلاف الوعد من صفات المنافقين، ما لم يكن هناك ضرر.

ص: 239

‌فصلٌ

‌وَمن ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَسَكَتَ، أَوْ أَنْكَرَ وَهَوَ يَجْهَلُهُ ثُمَّ صَالَحَ بِمالٍ صَحَّ.

قوله: «فصل» هذا الفصل فيه الصلح على إنكار، وفيه بيان حقوق الجيران بعضهم على بعض، وإنما جعل الفقهاء رحمهم الله حقوق الجيران بعضهم على بعض في هذا الباب؛ لكثرة المصالحة بين الجيران في حقوقهم.

قوله: «ومن ادُّعي عليه بدين أو عين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح بمال صح» أي: إذا ادعي عليه بدين أو عين، بأن قال شخص لآخر: أنا أطالبك بمائة ألف ريال، فسكت فلم يقر ولم ينكر، ثم صالح بمال عوضاً عن مائة ألف، فيصح، فإن أقر وصالح عنه بمال، فهو من باب الصلح على الإقرار وسبق.

وقوله: «أو أنكر» أي: أنكر المدعى عليه، قال: ليس في ذمتي لك شيء، ثم صالح بمال، فالمصالحة صحيحة.

وكذلك إذا ادُّعي عليه بعين، بأن قال شخص لآخر: هذا المسجل لي، فقال من بيده المسجل: لا، ليس لك، فهذا إنكار، ثم صالح عنه بمالٍ بأن تصالحا على أن يعطيه مائة ريال عن هذا المسجل، فهو صحيح؛ لأن الأصل الحل، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»

(1)

؛ فإن مفهومه كل شرط في كتاب الله فهو حق، وقوله:«الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(2)

، وهذا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فيجوز.

(1)

سبق تخريجه ص (100).

(2)

سبق تخريجه ص (227).

ص: 240

وكذلك إذا جاء إليَّ شخص وقال: إن في ذمتك لي مائة درهم، فقلت: ليس لك عليَّ شيء، فإنكاري هذا قد يكون عن علم أو عن نسيان وقد يكون عن جهل، أي: إني لا أدري هل الذي يطلبني فلان أو فلان، فهذا جهل، فالمهم أنه ادعى علي وأنكرتُ إما عن علم أو جهل أو نسيان، مع ذلك قلت: ما دمت تدعي عليَّ بهذا وأنا لا أقر به، فلنجعل بيننا صلحاً، فأعطيك عن مائة الدرهم خمسين درهماً فيجوز وينفذ الصلح، ويلزم كل من الطرفين بما تم عليه الاتفاق، ولهذا قال المؤلف:«ثم صالح بمال صح» .

وقوله: «بمال» يشمل الحالَّ والمؤجل، ولو صالح بمنفعة بأن قال: أصالحك على أن تسكن داري شهراً، يجوز؛ لأن المنفعة المباحة مال.

ولكن هل يدخل هذا في باب الإبراء، أو في باب البيع؟ الجواب:

‌وَهُوَ للْمُدَّعِيِ بَيْعٌ، يَرُدُّ مَعِيبَهُ وَيَفْسَخُ الصُّلْحَ وَيُؤْخذُ مِنْهُ بِشُفْعَةٍ، وَللآخَرِ إِبْراءٌ فَلَا رَدَّ وَلَا شُفْعَةَ، وَإِنْ كَذَبَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ بَاطَناً وَمَا أَخَذَهُ حَرَامٌ

قوله: «وهو للمدعي بيع» فإذا ادعى عليه بأن هذا المسجل ملكه، فقال: ليس ملكك، ثم تصالحا على مال، فالمدعي الآن يعتقد أنه أدخل ملكه على هذا الشخص بعوض، فهذا الصلح صحيح، لكن هو للمدعي بيع؛ لأنه يعتقد أن ما ادعاه حق، وأن ملكه انتقل إلى الآخر بعوض، وهذا هو حقيقة البيع، فهو له بيع، وإذا كان له بيع فإنه:

«يرد معيبه ويفسخ الصلح، ويؤخذ منه بشفعة» لأنه بيع،

ص: 241

فيعامل المدعي معاملة البائع تماماً أو المشتري، فالمهم أنه يكون في حقه بيعاً، ولنفرض أن هذا الذي ادعى المسجل، وأنكر من هو بيده، صالحه على راديو، أخذ الراديو ثم إنه وجد في الراديو عيباً فله أن يرده، فيقول: أنا أخذت الراديو، لكن تبين أن به عيباً، وأنا قد أخذته منك على أنه عوض عن ملكي، فأنا أعتبر نفسي بائعاً، فوجدت هذا العيب في هذا الراديو فلي أن أرده وأفسخ الصلح وأطالب بالمسجل؛ لأن الصلح في حقه هنا بيع، وإذا رده تبقى دعواه على ما هي عليه أولاً قبل الصلح.

وقوله: «ويؤخذ منه بشفعة» مثاله ادعيتُ على هذا الرجل أن البيت الذي يسكنه لي، فقال: ليس لك، وليس عندي بينة، ثم صالحني وقال: سأعطيك عوضاً وهو نصيبي في هذه الأرض، لي نصفها ولشريكي نصفها، فقبلت، فقام شريكه وأخذه مني بالشفعة فله الحق في ذلك؛ لأنه دخل ملكي على سبيل المعاوضة؛ لأني أعتقد أن البيت ملك لي، وأن هذا عوض عنه فيأخذه شريكه مني بالشفعة.

قوله: «وللآخر إبراء فلا رد» الآخر، أي: المدعى عليه، يعني المنكر، هو في حقه إبراء فلا رد ولا شفعة.

وقوله: «فلا رد» هذا الذي ادعي عليه أن المسجل للمدعي وأنكر ثم صالح براديو، وبعد ذلك وجد في المسجل عيباً، فإنه لا يرده على ذاك؛ لأنه لا يعتقد أنه ملكه من قِبَلِهِ، هذا المنكر يعتقد أنه ملكه من الأصل وأن ذاك ليس له به ملك، ولكنه

ص: 242

أبرأه من المطالبة بما صالحه عليه من الراديو، فإن وجد المنكر في المسجل عيباً فإنه لا رد له؛ لأن هذا مقتضى الإقرار والإنكار، أنت حينما أنكرت أن هذا المسجل له تعتقد أنه ملكك، وأنك لم تملكه من قِبَلِهِ فكيف ترده عليه؟! فهو في حقك إبراء فلا رَدَّ لك.

قوله: «ولا شفعة» فلو قلتُ لرجل إن البيت الذي أنت فيه لي نصفه فقال: لا، ثم أخذت منه عوضاً عما ادعيت، فشريكه في هذا البيت لا يأخذ هذا الشقص الذي ادعيته بالشفعة؛ لأن هذا الشخص دخل على المنكر لا على سبيل المعاوضة لكن على سبيل الإبراء؛ لأنه لما أعطاني العوض أبرأته منه إبراءً.

قوله: «وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام» «أحدهما» أي: المدعى عليه أو المدعي، لم يصح في حقه باطناً، أي: فيما بينه وبين الله، أما ظاهراً فإنهما لو ترافعا إلى القاضي في المحكمة حكم بالصلح، لكن باطناً فيما بينه وبين الله، فالكاذب لا يصح الصلح في حقه، وعلى هذا فلا يصح أن يتصرف في العين التي أخذها وهو يعتقد أنها ليست له في الواقع؛ لأنه ادعاها كذباً، وما أخذه من العوض ـ سواء كان المدعي أو المدعى عليه ـ حرام لا يحل له؛ لأنه أخذه بغير حق.

مثال ذلك: رجل ادعى على رجل أن قطعة الأرض هذه له، وهي أرض مشتركة، فأنكر من بيده الأرض ثم اتفقا على الصلح، فأعطى المدعى عليه للمدعي مائة درهم، عوضاً عن الأرض، إن

ص: 243

كان المدعي صادقاً، والمنكر ـ المدعى عليه ـ كاذباً، فالأرض حرام على المدعى عليه كالأرض المغصوبة تماماً، وإن كان بالعكس، المدعى عليه هو المحق والمدعي هو المبطل، فالعوض الذي أخذه عن الأرض وهو الدراهم تكون حراماً عليه، وهذا واضح ويتمشى مع القواعد الشرعية؛ لأن كلَّ من أخذ شيئاً بغير حق فهو حرام عليه؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنكم تختصمون إليَّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئاً من مال أخيه فإنما أقتطع له جمرة من النار فليستقل أو ليستكثر

(1)

، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم له جهتان، جهة الظاهر يحكم بحسب الظاهر، وجهة الباطن يعذب على حسب الباطل، لو كان الحكم الظاهر يقضي على الحكم الباطن، لكان إذا حكم لأخيه بشيء حسب الدعوى لا تكون قطعة من النار، لكنها إذا كانت دعوى باطلة كانت قطعة من النار.

‌وَلَا يَصِحُّ بِعِوَضٍ عَنْ حَدِّ سَرِقَةٍ وَقَذْفٍ، وَلَا حَقِّ شُفْعَةٍ وَلَا تَرْكِ شَهَادَةٍ، وَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ والحَدُّ.

قوله: «ولا يصح بعوض عن حد سرقة» لأن حد السرقة لله عز وجل فلا يمكن أن يأخذ المخلوق عوضاً عنه، وإذا بلغت الحدود السلطان فلا شفعة، وإنما مثل المؤلف بالسرقة؛ لأنها تتعلق بالآدمي، بدليل أن المسروق منه لو لم يطالب لم تقطع يد السارق، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام لصفوان بن

(1)

أخرجه البخاري في الشهادات/ باب من أقام البينة بعد اليمين (2680)، ومسلم في الأقضية/ باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن (1713) عن أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 244

أمية رضي الله عنه: هلاَّ كان قبل أن تأتيني به

(1)

.

وعلم من قوله: «عن حد سرقة» أنه يصح عن المال المسروق، فلو أن شخصاً سرق من آخر حليّاً، فضاع الحلي واعترف السارق به، ثم صالح عنه بعوض، فالصلح جائز ولا بأس به، لكن لو صالح عن حد السرقة فإنه لا يصح، فلو مُسِكَ السارق، وقال للذي أَمْسَكَهُ: دعني، وأعطيك عشرة آلاف ريال، ولا ترفعني للولاة، لا يصح فليس له ذلك، فإما أن يرفعه للولي، وإما أن يستر عليه ويدعه إن كان يرى أن المصلحة في ذلك، أما أن يأخذ عوضاً عن هذا فلا يجوز، ثم فيه مفسدة عظيمة، فكل واحد يُمْسَكُ على شيء يبذل عوضاً ويترك.

قوله: «وقذف» فلا يصح بعوض عن حد قذف، حد القذف للمخلوق لكنه فيه شائبة حق لله عز وجل، فلو قال المقذوف للقاذف: سأرفعك إلى ولي الأمر، فقال القاذف: لا ترفعني، أنا أعطيك عن حقك في القذف مائة ألف ولا ترفعني، فوافق فلا يجوز؛ لأن حد القذف لله عز وجل فإما أن ترفعه لولي الأمر أو تتركه، لا سيما على القول بأنه لا يشترط لإقامة حد القذف مطالبة المقذوف؛ لأن بعض أهل العلم يقول: لا يشترط في إقامة الحد مطالبة المقذوف؛ لأنه حق لله، حماية لأعراض المسلمين،

(1)

أخرجه أحمد (3/ 401)، وأبو داود في الحدود/ باب فيمن سرق من حرز (4394)، والنسائي في قطع السارق/ باب ما يكون حرزاً وما لا يكون (8/ 69)، وابن ماجه في الحدود/ باب من سرق من حرز (2595)، وصححه الحاكم (4/ 380) ووافقه الذهبي، وانظر: الإرواء (2317).

ص: 245

ولهذا جاء في الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، فهو كقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، لكن على القول بأنه حق للمقذوف وأن للمقذوف إسقاطه، قالوا: إنه لا يصح بعوض؛ لأن هذا الحق ليس ماليّاً، ولا يقصد به المال فلا يصح بعوض، وهذا هو القول الأول.

والقول الثاني: أنه يصح بالعوض؛ لأن الذي سوف تسود صحيفته به هو المقذوف، فبدلاً من هذا، يقول: أعطني مائة ألف ريال، وأنا ـ إن شاء الله ـ سأدافع عن نفسي فيما يتعلق بالقذف، وهذا القول له وجهة نظر؛ لأنه حق لآدمي في الواقع، ولهذا لا يقام حد القذف إلا بمطالبة من المقذوف.

أما إذا قلنا: إنه حق محض لله، وأنه لا تشترط مطالبة المقذوف، فإنه لا يصح بعوض.

قوله: «ولا حق شفعة» حق الشفعة يتضح بالمثال: شخصان شريكان في أرض، فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فالذي له الشفعة هو الشريك الذي لم يبع، فذهب المشتري إلى الشريك، وقال: أنت لك حق الشفعة، ولكن أنا سأعطيك عشرة آلاف ريال وأسقط حقك ففعل، يقول المؤلف: إنه لا يصح عن إسقاط الشفعة؛ لأن الشريك إما أن يأخذ بالشفعة وإما أن يدع ويتركها مجاناً بلا عوض.

القول الثاني: أنه يصح بعوض عن إسقاط حق الشفعة؛ لأن حق الشفعة يتعلق بالمال، فهو حق آدمي فالمشتري صالح الشفيع

ص: 246

عن حق له فهو حق محض للآدمي، فإذا أسقط الآدمي حقه بعوض فلا بأس بذلك، وما المحظور؟! فإذا قال: أنا أعطيك كذا وتنازل عن المطالبة بالشفعة، فلا مانع وهو حق له، وهذا هو الصواب في هذه المسألة، أنه يصح أن يصالح عن حق الشفعة، وتسقط الشفعة.

قوله: «ولا ترك شهادة» أي: لو صالح إنساناً يشهد عليه بحق، وقال له: لا تقم الشهادة عليّ وأعطيك كذا وكذا.

مثاله: إنسان طلق زوجته في حضور شاهدين، ثم أنكر الطلاق، فقالت المرأة: عندي شهود، رجلان يشهدان، فذهب الزوج إلى الشاهدين، وقال: أنا سأعطي كل واحد منكما ألف ريال واتركا الشهادة، فهذا لا يجوز ولا إشكال فيه؛ لأن الله عز وجل يقول:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، ولا يصح بأي حال من الأحوال حتى لو فرضنا أن المسألة حق مالي لا زوجية، فإنه لا يجوز.

وهل يجوز أن يصالح إنساناً يشهد له بغير حق؟

مثاله: ادعى على زيد بأن عنده له ألف ريال، وليس عنده شهود، فذهب إلى رجلين وقال: اشهدا لي وأعطيكما كذا وكذا، فلا يجوز، وفي بعض البلاد يقولون: الشهادة مقننة على حسب الحق، فإذا كان حقّاً كبيراً فالشهادة بمائة ريال، أو صغيراً فبعشرة ريالات، فلا يجوز للإنسان أن يعطي شخصاً ليشهد له، فهذه شهادة زور من أكبر الكبائر.

قوله: «وتسقط الشفعة والحد» أي: حد القذف يسقط؛ لأن

ص: 247

الرجل أسقطه، لكن لو قال: أنا أسقطته بعوض، فإما أن تعطوني العوض، وإلا فأنا أريد إقامة الحد على القاذف، نقول له: لا نعطيك عوضاً، ولا نقيم لك الحد؛ لأنك أسقطته.

وكذلك الشفعة؛ لأنه أسقطها، وليس له عوض؛ لأن العوض على ترك الشفعة غير صحيح.

والصحيح أنه كما قلنا: تجوز المصالحة بعوض عن إسقاط الشفعة.

وأما بالنسبة للقذف فتقدم حكم الصلح عنه، لكن للمقذوف أن يطالب بحقه إذا علم أن الصلح غير صحيح؛ لأنه أسقطه بناء على أن الصلح صحيح وأنه سيأخذ عوضاً عنه، فإذا لم يكن هناك عوض فلا يمكن أن يفوت حقه بالمطالبة بحد القاذف.

‌وَإِنْ حَصَلَ غُصْنُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ غَيْرِهِ أَوْ قَرَارِهِ أزَالَهُ، فَإِنْ أَبَى لَوَاهُ إِنْ أمْكَنَ، وَإِلاَّ فَلَهُ قَطْعُهُ.

قوله: «وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله» بدأ المؤلف بذكر شيء من حقوق الجار، وإنما ذكر الفقهاء حقوق الجار في هذا الباب؛ لأن الغالب أن النزاعات التي تكون بين الجيران تحل عن طريق المصالحة؛ لهذا ذكروا أحكام الجوار في هذا الباب، ولها مناسبة أخرى فيمكن أن تكون في آخر الفقه لكن هنا رأوا أنه أنسب، ومن المعلوم أن الجار له حق كما قال الله ـ تعالى ـ:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، فإن كان مسلماً قريباً كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، فإن كان مسلماً غير قريب، فله حقان حق الإسلام، وحق الجوار، وإن كان كافراً غير قريب فله حق واحد، وهو حق الجوار.

ص: 248

فالجار له حق حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»

(1)

، وقال:«والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه»

(2)

، أي: تعديه وظلمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»

(3)

. ولننظر في أنفسنا نحن، هل قمنا بحق الجوار؟

الجواب: أكثر الناس في غفلة عن هذا الحق، ولا يرون أن للجار حقّاً، ولكن هذا خطأ، فالذي ينبغي للإنسان أن يواصل جاره بحسب ما تقتضيه الحال وطبيعة الناس، وأن يكف شره عن الجار، يعطيه من الخير ويكف عن الشر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك»

(4)

.

ومن الأشياء التي يجب أن تُكَفَّ عن الجار،، إذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره.

القرار الأرض، والهواء ما فوق الأرض، فإذا حصل غصن

(1)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف

(47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) عن أبي شريح رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب الوصاءة بالجار (6014)، ومسلم في الأدب/ باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2624) عن عائشة رضي الله عنها.

(4)

أخرجه مسلم في الأدب/ باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625)(142) عن أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 249

الشجرة في الهواء بأن يكون الإنسان عنده شجرة في بيته، ولها أغصان متدلية على ملك جاره هذا هواء.

والقرار إنسان عنده شجرة في البيت، لكنها من الشجر الذي يمتد على الأرض مثل البطيخ، فحصل غصن هذه الشجرة في أرض جاره، فهذا حصل في القرار، وهناك شيء ثالث يمتد ـ أيضاً ـ إلى الجار وهو العروق، والعروق في باطن الأرض، فعندنا الآن ثلاثة أشياء: غصن على القرار، وغصن في الهواء، والثالث عروق في باطن الأرض.

أما الغصن في الهواء أو على القرار، فإنه يجب على صاحب الغصن أن يزيله إذا طالبه صاحب الأرض الذي هو الجار، فإذا قال: أزل عني هذا الغصن، وجب عليه أن يزيله.

فإن قال صاحب الشجرة: هذا الغصن ينفعك، يظلك، فتجلس أنت وأهلك في ظلاله، قال: أنا لا أريد هذا الغصن، فهل يلزم صاحب الشجرة إزالته؟

الجواب: نعم يلزم.

فإن تصالحا على أن تكون الثمرة التي في هذا الغصن الممتد بينهما، قال العلماء: إنه يصح.

وكذلك لو كان في القرار، أي: تسرح الأغصان على الأرض، فإنه إذا طالبه الجار يجب عليه إزالته.

وعلم من هذا الكلام أن الهواء ملك لصاحب الأرض إلى السماء الدنيا، فلا يمكن لأحد أن يتخذ روشناً، أو ما أشبه ذلك على أرضه، إلا بإذنه.

ص: 250

وأما العروق، إذا امتدت عروق الشجرة إلى أرض الجار، فهل للجار أن يطالب صاحب الشجرة بقطع العروق؟

نقول: في هذا تفصيل، إن كانت العروق تؤذيه أو تضره فله أن يطالب، وإن كانت لا تؤذيه ولا تضره فليس له حق المطالبة؛ لأن هذا مما جرت العادة بالتسامح فيه، فتؤذيه وتضره بأن كانت تنقل الرطوبة إلى أرضه، أو ربما كانت تبرز على سطح الأرض، فبعض الأشجار يكون لها عروق قوية تدفع حتى الحصى، وهذا الإنسان عنده قبو في الأرض، وعروق شجرة الجار تدفع الجدار، وربما تدفعه حتى يسقط أو ربما تشقه إذا كان من الطين ثم تتدلى في هذا القبو، فهذا ضرر، فلصاحب الملك أن يطالب صاحب الشجرة بقطع هذه العروق، أما إذا كان لا يتأذى ولا يتضرر فلا نلزمه بإزالتها؛ لأن هذا مما جرت العادة بالتسامح فيه.

قوله: «فإن أبى لواه» أي: إن أبى صاحب الشجرة أن يزيله لوى صاحب الأرض الغصن.

قوله: «إن أمكن» يعني إن أمكن لَيُّهُ.

قوله: «وإلا فله قطعه» فصار هذا الغصن له مراحل:

الأولى: أن نطالب صاحب الغصن بالإزالة.

الثانية: إذا أبى فيلوي الغصن.

الثالثة: فإن لم يمكن ليه لكونه قاسياً، أو لا يمكن أن يلتوي إلا بالكسر فله قطعه دفعاً لأذاه.

لكن لو قال قائل: إنه لا ينبغي للإنسان أن يطالب بإزالة

ص: 251

الغصن الذي في الهواء من غير أن يكون عليه ضرر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره»

(1)

، فإذا كان الشارع نهاني أن أمنع جاري من وضع الخشب على الجدار، فكيف بالعسبان التي هي بعيدة لا تؤذي ولا يسقط منها ورق مثل النخل؟! ولا يضرني إذا كان العسيب على ملكي، ولأنه من حسن الجوار الذي أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»

(2)

، ولأن ذلك مما جرت به عادة الناس.

لكن لو تدلت الشجرة كلها عليَّ، مثل نخلة كبيرة أصابها عاصف فمالت حتى صارت كلها على بيتي، فلي مطالبته بإزالته؛ لأن هذا يهددني.

ولو أن صاحب الشجرة قال لصاحب الأرض: أنا أصالحك على أن أدفع لك كل شهر كذا وكذا، فهل تصح الأجرة؟

نقول: لا تصح؛ لأن الأغصان تمتد وتكبر فيكون ما تشغله فيما بعد مجهولاً فلا يمكن أن تكون بأجرة، لكن لو فرض أنه آجره إياه على حسب المساحة، وقال: إذا شغل الغصن مساحة متر فبكذا، أو مساحة مترين فبكذا، فالظاهر الصحة؛ لأن هذا ليس فيه محظور شرعي ولا جهالة، وإذا صالحه على أن له نصف

(1)

أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره (2463)، ومسلم في البيوع/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (249).

ص: 252

الثمر الذي في هذا الغصن المتدلي فهذا يصح؛ لأن الغصن حتى لو كبر وامتد، فسوف يزيد الثمر، فيصح؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك، وليس فيه غرر كثير.

‌وَيَجُوزُ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ فَتْحُ الأبْوابِ للاسْتِطْرَاقِ، لَا إِخراجَ رَوْشَنٍ وَسَابَاطٍ وَدَكَّةٍ وَمِيزَابٍ، وَلَا يَفْعَلُ ذلِكَ فِي مُلْكِ جَارٍ وَدَرْبٍ مُشْتَرَكٍ بِلَا إِذْنِ المُسْتَحِقِّ،

...........

قوله: «ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق» الدروب يعني الطرق، تنقسم إلى قسمين: قسم نافذ، وقسم مسدود لا ينفذ، والطريق النافذ ملك للجميع فيجوز أن يفتح باباً للاستطراق في الدرب النافذ، سواء من أول الدرب أو من وسطه، أو من آخره ما دام بيته ممتدّاً من أول الشارع إلى آخره، وما دام هو للاستطراق فهو ملك عام له أن يفتح الباب.

وقوله: «للاستطراق» ، مفهومه أنه إذا جاز فتح الباب للاستطراق ففتح الباب للهواء والإضاءة من باب أولى؛ لأنه لا يضر أحداً؛ ولأنه يجوز أن يهدم جداره حتى لا يبقى إلا نحو قامة الرجل.

إذن له أن يفتح المنافذ الهوائية، وله أن يفتح الأبواب للاستطراق.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يفتحه في مقابل باب جاره أو في غير مقابل باب جاره؛ لأن الطريق ملك للجميع، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يكون أمام باب جاره أو لا، إلا إذا كان الجار يتأذى بفتح باب أمامه، فحينئذٍ لا يحل له أن يفتحه أمام باب بيت جاره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»

(1)

، وقال: «والله لا يؤمن، والله لا

(1)

سبق تخريجه ص (249).

ص: 253

يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه»

(1)

.

قوله: «لا إخراج روشن وساباط ودكة وميزاب» أي لا يجوز إخراج الروشن والساباط والدكة والميزاب في الدروب النافذة.

و «الروشن» هو أن يجعل سقفاً لا يتصل بالجدار الآخر.

و «الساباط» أن يجعل سقفاً يتصل بالجدار الآخر.

فلا يجوز أن يخرج على الشارع العام شيئاً زائداً عن ملكه.

ووجه ذلك أن الهواء تابع للقرار، وهذا الطريق ملك لعامة الناس، فلا يجوز أن تخرج شيئاً يكون على هواء هذا الطريق.

وكذلك الساباط، لو كان الإنسان له ـ مثلاً ـ بيتان، يفصل بينهما طريق نافذ، فأراد أن يجعل جسراً بين البيتين فإنه ليس له ذلك؛ لأن الهواء تابع للقرار، والشارع ملك لعامة الناس لا يختص به أحد دون آخر.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله سواء كان في ذلك ضرر أم لم يكن، بل ظاهر كلامه حتى ولو كان في ذلك مصلحة لمن طرق هذا الشارع، مثل أن يكون ظلاً يقي من الشمس ومن المطر، فإنه ليس له ذلك.

والصحيح أنه لا بأس أن يُخْرِجَ ما جرت به العادة، مما لا يضر الناس وبإذن الإمام، فإن كان مما يضرهم فإنه لا يجوز حتى لو أذن من له الولاية على البلد، كرئيس البلدية ـ مثلاً ـ، فلو أذن

(1)

سبق تخريجه ص (249).

ص: 254

له أن يخرج هذا الساباط أو الروشن وهو يضر بالناس فإنه ليس له أن يفعله، فإن أخرجه وكان نازلاً بحيث يضرب الراكب أو ما أشبه ذلك فإنه ممنوع.

وقوله: «ودكة» وهي العتبة، أي ليس له أن يخرج عتبة، ولو كان بيته أرفع من الشارع، فإنه لا يحل له أن يخرج عتبة في الشارع؛ لأن الشارع ملك للجميع؛ ولأن العتبة تضيق الشارع وربما تكدم أقدام الناس، لا سيما إذا كان الشارع يتطرق معه أناس كثيرون، فلا يجوز أن يخرج دكة.

وظاهر كلام المؤلف ولو كان الشارع واسعاً، ولو بإذن من له الإذن في ذلك، وهذه ـ أيضاً ـ يقال فيها ما قلنا في الروشن والساباط، وهو أنه إذا لم يكن في ذلك ضرر بأن كان الطريق واسعاً والعتبة منخفضة، ولا ضرر فيها على أحد وأذن الإمام فله أن يفعل ذلك كما جرت به العادة، أما ما يفعله بعض الناس الآن فيجعل في الشارع الضيق درجاً ربما يصل إلى خمس درجات، أو ست درجات فهذا لا يجوز؛ لأن في ذلك تضييقاً للشارع وضرراً على المسلمين، والشارع ليس ملكاً لأحد، بل هو ملك عام.

وقوله: «وميزاب» وهو المثعب الذي يصب منه الماء من السطوح، فلا يجوز أن يخرجه على الدرب النافذ، إذاً ماذا نصنع؟

الجواب: نجعل المطر يصب في داخل البيت ويخرج من أسفل.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز مطلقاً، سواء كان في ذلك

ص: 255

أذية وضرر أم لا، وسواء كان بإذن ولي الأمر في البلد أم لا.

والصحيح خلاف ذلك، وأن له إخراج الميازيب بشرط ألا يحصل بها ضرر؛ لأن هذا عادة الناس حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الميازيب تكون في الشارع

(1)

، وقال شيخ الإسلام: إن استئذان الإمام خلاف السنة، وأن السنة جرت أن الناس يخرجون ميازيبهم بدون استئذان الحاكم، وهذا هو الصحيح والعمل عليه إلى يومنا هذا.

فالصواب أنه يجوز أن يخرج الميزاب، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر، والضرر أن يكون الميزاب نازلاً يضرب رأس الراكب وما أشبه ذلك.

فإن قال قائل: الضرر لا بد أن يكون في الميزاب؛ لأنه إذا جاء المطر فسوف يصب على المارة؟

فيقال: أولاً: هذا ليس دائماً.

وثانياً: الناس في أوقات المطر الشديد، الذي يصب من الميازيب سوف يكونون في البيوت لا يخرجون، وهذا ضرر مغتفر في جانب المصلحة التي تكون للناس.

(1)

مما يدل على ذلك قصة قلع عمر رضي الله عنه لميزاب بيت العباس رضي الله عنه وكان مشرعاً على الشارع، فقال له العباس رضي الله عنه: والله ما وضعه حيث كان إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره عمر رضي الله عنه برده، أخرجه عبد الرزاق (15264)؛ والحاكم (3/ 332)؛ والبيهقي (6/ 66)؛ وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 206):«رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله» . وضعفه الألباني في «الإرواء» (5/ 256).

ص: 256

قوله: «ولا يفعل ذلك في ملك جار ودرب مشترك بلا إذن المستحق» «ذلك» المشار إليه كل ما سبق، إخراج الروشن والساباط والدكة والميزاب، لا يفعله في ملك جار إلا بإذنه، ومثاله: بيتي جداره إلى جاري فأردت أن أخرج روشناً فمنعني الجار فيحرم عليَّ إخراجه؛ لأن الهواء تابع للقرار، فجاري ملكه إلى السماء وإلى أسفل الأرض، والساباط من باب أولى؛ لأنه يصل إلى الجدار، والدكة، والميزاب كذلك لا يجوز إلا بإذنه، وهل يجوز أن أفتح نافذة عليه؟

يجوز بشرط ألا يكون بذلك مشرفاً عليه بأن يكون رفيعاً؛ لأنه إذا كان لي أن أنهي الجدار إلى هذا الحد، فأنا إذا فتحت نافذة فقد أنهيت بعض الجدار إلى هذا الحد.

وقوله: «ودرب مشترك» هذا هو النوع الثاني من الدروب، وهو الدرب المشترك الذي ليس بنافذ، فالشارع الذي ليس بنافذ مشتركٌ للجيران وهم أهل الحق فيه، فلا يجوز أن يخرج هذه الأشياء الأربعة التي هي: الروشن، والساباط، والدكة، والميزاب، إلا بإذن المستحق، والمستحقون هم الذين لهم أبواب شارعة على هذا الدرب، وليس الذين لهم بيوت على الدرب؛ فالذي له بيت على الدرب وليس له باب، لا حق له في الدرب، لكن إذا كان له باب فله حق في الدرب، فلا يجوز إخراج هذه الأربعة إلا بإذنهم، فإذا أذنوا فالحق لهم، وإن لم يأذنوا فإنه لا يحل له ذلك، لكن يختلف هذا عن الدرب النافذ بأن الواحد منهم

ص: 257

لا يُخرج باباً أدنى من بابه إلا بإذن الآخرين، أي: لو كان أحد هؤلاء المشتركين في الدرب له باب في أوله، فأراد أن يحوله إلى آخره فليس له ذلك؛ لأنه لا يملك من هذا الدرب إلا ما كان محاذياً لبابه أو أدنى منه لفم الدرب.

فلو فرضنا أن هذا الدرب عليه ستة أبواب، بابان في الآخر عند نهاية الدرب، وبابان على اليمين، وعلى اليسار، فأصحاب الأبواب التي في الآخر، هؤلاء لهم حق أن يفتحوا في أي مكان من هذا الدرب، والسبب لأنهم يملكون كل الدرب، فلهم حق في كل الدرب.

وأصحاب الأبواب التي على اليمين واليسار من كان منهم أدنى إلى فم الدرب، فليس له أن ينقل بابه إلى الداخل إلا بإذنهم، وأما ما أراد نقله إلى فم الدرب فله ذلك؛ لأنه أسقط حقه، لكن بشرط ألا يفتحه أمام باب جاره إلا بإذنه؛ لأنه ربما يتأذى.

وهل له أن يفتح باباً للهواء في الطريق المشترك؟

الجواب: نعم، له ذلك ولا يحتاج إلى إذن، والسبب أنه لا ضرر على أهل الشارع؛ ولأن له الحق في أن يهدم من جداره إلى مقدار قامة الرجل، فإخراج النوافذ للهواء لا بأس به.

‌وَلَيْسَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّسْقِيفُ إِلاَّ بِهِ، وَكَذَلِكَ المَسْجِدُ وَغَيْرُهُ.

قوله: «وليس له وضع خشبه على حائط جاره إلا عند الضرورة» هذه مسألة جديدة، فالجيران لا بد أن يكون بينهم، جدار، وهذا الجدار إما أن يكون لواحد منهم فقط أو يكون مشتركاً، فإذا كان لواحد منهم فهو ملكه، وإذا كان مشتركاً فهو

ص: 258

ملك للجميع، وكلام المؤلف الآن فيما إذا كان خاصّاً بأحدهما أي: بأحد الجارين، فهل للثاني أن يضع خشبه على هذا الجدار؟

يقول المؤلف: إذا كان هناك ضرورة فلا بأس وإلا فليس له ذلك إلا إذا أذن المالك، فإنه يجوز مطلقاً سواء اضطر إلى ذلك أم لم يضطر، وسواء كان على الجدار ضرر أم لم يكن؛ لأن الجدار ملك للجار فإذا أذن فلا بأس، ولا أحد يحول بينه وبين ماله، وأما إذا لم يأذن فإنه لا يجوز أن يضع الخشب إلا بشرطين:

الأول: الضرورة إلى وضعه.

الثاني: ألاَّ يكون على الجدار ضرر.

قوله: «إذا لم يمكنه التسقيف إلا به» هذه الضرورة مثل أن يكون الخشب قصيراً لو أنه سَقَّفَهُ على جداره هو لكانت المسافة بعيدة، فلا يمكن التسقيف به لقصر الخشب.

مثاله: حجرة طولها أربعة أمتار وعرضها متران، والعرض هو جدار الجار، والخشب الذي عنده طوله متران ونصف، فلو أراد أن يجعل الخشب على الأمتار الأربعة لا يمكن، إذن لا بد أن يجعله على المترين، والمتران هما الجدار الذي لصاحبه، فنقول: لك أن تضع الخشب على جدار جارك سواء رضي أم لم يرض، فإن قال هل لذلك شرط؟

قلنا: نعم، الشرط ألا يتضرر الجدار بذلك، مثل أن يكون الجدار رهيفاً والخشب ثقيلاً، ويتضرر الجدار، ويخشى عليه من الانهدام فحينئذٍ لا يحل له أن يضعه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر

ص: 259

ولا ضرار»

(1)

، لكن إذا كان لا يضره فإنه لا يمنعه ما دام محتاجاً إلى ذلك.

فإذا قال الجار: أخرج عمودين واجعل بينهما جسراً، وضع الخشبة عليهما من داخل بيتك فإنه لا يلزمه؛ لأننا إذا قلنا: يلزمه، لم يبق للحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم معنى من المعاني أبداً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» ، والنهي هنا للتحريم، وإنما حرم النبي صلى الله عليه وسلم المنع؛ لأن في وضع الخشب مصلحة لصاحب الجدار ومصلحة للجار.

أما مصلحة الجار فظاهرة؛ لأنه يسلم من أن يقيم أعمدة وسقوفاً قوية تحمل الخشب، وأما مصلحة ذلك لصاحب الجدار؛ فلأن الخشب يشد الجدار ويقويه، ويقيه الشمس، والمطر، ففيه مصلحة للطرفين، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الجار أن يمنع جاره من وضع خشبه على جداره، قال أبو هريرة:«ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم»

(2)

، قال ذلك حين كان أميراً على المدينة، وكلامه رضي الله عنه يحتمل معنيين:

المعنى الأول: «ما لي أراكم عنها» ، أي: عن هذه السنة «معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» ، وخص الأكتاف لأنها موضع التحمل.

(1)

سبق تخريجه ص (37).

(2)

أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار أن يغرز خشبه في جداره (2463)؛ ومسلم في المساقاة/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 260

المعنى الثاني: «ما لي أراكم عنها معرضين» ، أي: تمنعون من وضع الخشب، «والله لأرمين بها ـ أي بالخشب ـ بين أكتافكم» ، يعني لو لم أجد ما أضعها عليه إلا أكتافكم لوضعتها على أكتافكم؛ لأنه كان أميراً، وهذا كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمحمد بن مسلمة:«والله لأجرينه ولو على بطنك»

(1)

؛ وذلك أن له مُلْكَين وبينهما ملك لجاره، فأراد أن يجري الماء من ملكه إلى ملكه الثاني مارّاً بملك جاره، فمنعه جاره وقال: لا يمكن أن تجري الماء على أرضي، فألزمه عمر رضي الله عنه بذلك، أي: بأن يجري الماء على أرضه؛ لأنه لم تكن هناك مصلحة من المنع، فصاحب الأرض ينتفع فيزرع ويغرس على هذا الساقي الذي يمشي، والجار ـ أيضاً ـ ينتفع، لكن لو فرض أن الجار الذي منع من جريان الماء يريد أن يقيم عليها بيتاً فحينئذٍ له الحق، أما وهي بستان فجريان الماء ينفعها.

ولو قال صاحب الجدار: لا تضع الخشب حتى تسلم نصف قيمة الإيجار، فإنه لا يلزمه أن يسلمه؛ لأن الجدار ملك لبانيه، وهذا الجار إن رضي أن يكون شريكاً له في هذا الجدار ويشتريه منه فله، وإن لم يرض فإنه لا يجبر، وبناء على ذلك فإن ما يعرف عند الناس بالمباناة لا تحل للجار، فبعض الناس إذا بنى بيته وجاء جاره وبنى قال له: أعطني نصف تكاليف الجدار، فهذا حرام عليه؛ لأنه إنما بنى الجدار على أنه ملكه، فما الذي

(1)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 746)؛ وصحح إسناده الحافظ في «الفتح» تحت الحديث (2463).

ص: 261

يُحل له أن يأخذ نصف تكاليفه من هذا الجار؟! نعم تلزمه إن علمنا أن الجار تباطأ في البناء وتأخر من أجل أن يبني الجار.

فالشرط لوضع الخشب ألا يكون على الجدار ضرر، والشرط الذي أشار إليه المؤلف أن يكون الجار محتاجاً إلى وضع الخشب.

قوله: «وكذلك المسجد» أي: أن المسجد كالجار، فإذا احتاج جار المسجد إلى أن يضع خشبه على جدار المسجد، أو أن يغرزها فيه غرزاً، فلا بأس بالشرطين المذكورين وهما الضرورة، وعدم الضرر على الجدار.

ولا يُقال: إن المسجد وقف عام للمسلمين، بل يُقال: إن العلة هي مصلحة الطرفين، وهذا لا يضر المسجد وهو مصلحة للجار.

قوله: «وغيره» أي: كالمدارس والرُّبُط وبيوت الأيتام وما أشبه ذلك من الأوقاف العامة، فإنه يضع خشبه عليها كما يضع على جدار الجار بالشرطين المذكورين، وهما الضرورة إلى وضع الخشب، وعدم الضرر على الجدار.

وظاهر كلام المؤلف أن للجار أن يُعَلِّيَ بناءه على جاره فيجعله ـ مثلاً ـ خمسة طوابق أو ستة طوابق، وجاره ليس له إلا طابق واحد؛ لأن الهواء تابع للقرار وهذا صحيح، فله ذلك حتى لو حجب الشمس والهواء عنه؛ لأن هذا ملكه، لكن إن علمنا أنه قصد الإضرار بجاره فهنا نمنعه؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يُضَار جاره، والمضارة ممنوعة شرعاً، حتى إن الرجل إذا أراد أن

ص: 262

يُراجع زوجته التي طلقها حَرُم عليه إذا كان قصده المضارة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].

أما إذا كان لغرض صحيح، كأن يستغل ملكه فيجعله شققاً ويؤجرها فله ذلك.

‌وَإِذَا انْهَدَمَ جِدَارُهُمَا أوْ خِيفَ ضَرَرُهُ فَطَلَبَ أحَدُهُما أَنْ يُعَمِّرَهُ الآخَرُ مَعَهُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا النَّهْرُ والدُّولَابُ والقَنَاةُ.

قوله: «وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه» .

«إذا انهدم جدارهما» الضمير يعود على الجارين، أي: هذا جدار مشترك بين أرضيهما، وأقيم على نفقتيهما ثم انهدم الجدار فطلب أحدهما من الآخر أن يُعَمِّره، فقال الآخر: أنا لن أعمره؛ لأنه ليس لي حاجة لإقامة الجدار، فإنه يجبر على ذلك؛ لأنه شريك مع صاحبه فيجبر على عمارة ما كانا شريكين فيه.

فإذا أراد أحدهما أن يهدمه ليعمره بالإسمنت وهو قد عُمِّر بلبن الطين، فهل يجبر؟

الجواب: لا؛ لأن هناك فرقاً بين إصلاح ما فسد، وبين التجميل والتزويق والنقل إلى أفضل، فإصلاح ما فسد يجبر الآخر عليه، كما لو انهدم، أو خيف ضرره بأن يكون مَالَ أو تشقق، أما أن ينقل إلى أفضل فلا يجبر الآخر.

وإذا قال: أنا أريد أن أقوم به ـ والجدار مشترك ـ على نفقتي وامتنع الشريك، يُنظر في هذا فإن كان قصده من الامتناع المراغمة لجاره، وقال أهل الخبرة: إن الجدار إذا أقيم على

ص: 263

الطراز الحديث أفضل وأحسن فهنا يجبر؛ لأنه في هذه الحال ليس عليه ضرر.

فإذا قال: اللبن ملكي كيف تأخذونه وتهدمونه؟ قلنا له: إنما نقلناه إلى أحسن وأنت ليس عليك ضرر، فالنفقة ليست عليك والجدار باق على الشركة، فأي ضرر في ذلك؟! وأنت إذا امتنعت لا تريد إلاَّ المراغمة فقط.

فإن قال: أنا لا أريد المراغمة، لكن إذا كان طيناً أمكنني أن أضرب الوتد في الجدار، أما الآن فلا يمكنني، فهذا قد يكون غرضاً، بأن يكون ممن يغسل الثياب ويريد أن يضع أوتاداً على الجدار؛ من أجل أن ينشر عليها الثياب.

والخلاصة: أنه إذا امتنع لغرض صحيح فهنا لا نجبره، أما إذا امتنع مراغمة لجاره، فإنه لا ضرر ولا ضرار.

وقوله: «أو خيف ضرره» بأن يكون الجدار متشققاً ويخشى سقوطه والشقوق عرضية فإنه يخشى منه، وإذا كانت الشقوق طولا فلا يخشى منه وهذا بالنسبة لبيوت الطين، وأما بالنسبة للبيوت المسلحة، فالظاهر أنها كلها عيب، لكن الشقوق العرضية أخطر، إلا إذا كان يوجد جسر فوق، فالظاهر أنه لا يؤثر، فإذا خيف أن يسقط الجدار ففي هذه الحال إذا طلب أحدهما من الآخر أن يعمر أجبر عليه.

قوله: «وكذا النهر» أي: لو كان بين أراضيهما نهر، وذلك بأن فتح على النهر الأم ساقية ينطلق منها الماء، فخربت الساقية

ص: 264

وهي مشتركة بين الجارين، فهل يجبر أحدهما الآخر على إصلاحها؟

الجواب: نعم يجبره؛ لأنها مشتركة، والآن خربت ولا بد من إصلاحها، فإن طلب أحدهما من الآخر أن يوسع النهر فهل يجبر؟

الجواب: لا يجبر؛ لأن هذا كمال وليس إصلاح فاسد، فلو اتسع ملك أحدهما واحتاج إلى زيادة ماء، فقال: أنا أريد أن أوسع مدخل الماء حتى يكثر، وقال الآخر: لا، فهل يجبر؟

الجواب: لا يجبر؛ لأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى زيادة الماء، ولا يمكن أن ترهقني بالنفقة، فإن قال الجار: أنا أقوم بالنفقة وأبى، فهل يجبر؟

الجواب: فيه تفصيل، إن كان يقول: أخشى إن زاد مدخل الماء أن يغرقني وأنا لا أتحمل، والنهر يزيد وينقص، فأخشى أن يغرقني، وإذا كان مدخله ضيقاً أمكنني أن أدرأه فأنا لا أوافق، والثاني يقول: أنا أرضي اتسعت وأحتاج إلى زيادة الماء، فينظر في الحقيقة، نقول: إذا كان الاحتمال الذي أبداه الشريك وهو خوف زيادة الماء وإغراق الزرع وارداً فهذا له حق الامتناع، ويقول لصاحبه: افتح نهراً لك، وأما إذا كان غير وارد والنهر مطرد على حال واحدة ولا يخشى منه، فإننا نجبره إذا التزم الشريك بالنفقة.

قوله: «والدولاب» وهو دولاب الماء المعروف، فإذا خرب هذا الدولاب المشترك، وطلب أحد الشريكين من الآخر أن يعمره ألزم بذلك.

ص: 265

قوله: «والقناة» وهي الماسورة، يعني إذا كان هؤلاء لهم ماسورة تنطلق من نهر أو بئر وخربت، وطلب أحدهما من الآخر أن يعمرها وجب عليه.

والخلاصة:

أولاً: أن إصلاح الفاسد يُجبر عليه الممتنع.

ثانياً: فعل الأكمل لا يجبر عليه، إلا إذا التزم من أراد إصلاحه بالنفقة، ولم يكن على الآخر ضرر فإنه يجبر.

ثالثاً: إذا أراد نقله لمساوٍ فإنه لا يجبر مطلقاً، حتى ولو التزم الآخر بالنفقة، مثل أن ينقل الجدار بمواد هي المواد الأولى، لكن أراد أن يجعله أبيض بدل أسود أو أحمر بدل أبيض وما أشبه ذلك، فإنه لا يجبر؛ لأنه ليس فيه مصلحة.

قال في الروض

(1)

: «ومن له عُلوٌ لم يلزمه عمارة سفله إذا انهدم بل يجبر عليه مالكه» ويُتصور هذا، فيمكن لواحد أن يشتري الدور الأعلى، والآخر الدور الأسفل فإذا انهدم الأسفل فإن الأعلى سينهدم، فقال الأعلى للأسفل: اعمر، فقال: لا، بل سأرحل إلى محل آخر فهنا يجبر صاحب الأسفل، ونقول له: إذا كنت لا تريده أقم الأعمدة والجسور والسقف؛ لأنه مالكه، فإذا قال المالك: لك الأرض لا أريدها ولن أعمرها، اعْمُرْ أنت على الأرض، فهنا ننظر أيهما أحسن أن يسكن فوق، أو أسفل؟ فالأعلى أفضل من وجوه، إذاً ما دام الأسفل ليس أحسن مطلقاً لا يجبر عليه بل يعود إلى رضاه، فإن رضي وإلا فله الحق

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 160).

ص: 266

بمطالبته بالبناء، أما لو كان الأسفل أحسن مطلقاً فإننا نلزمه؛ لأنه إذا أبى مع أنه أحسن مطلقاً علمنا أنه يريد بذلك المضارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار»

(1)

، ونقول في مثل هذه الحال: يجبر على القبول وإلا فهو وشأنه.

قال في الروض

(2)

: «ويلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل» ، فمثلاً لي بيت مرتفع فيجب أن أبني جداراً يمنع مشارفة الأسفل، وكم ارتفاعه؟ العلماء يقولون: العبرة في ذلك بقامة الرجل المتوسط، فلا بد أن يضع جداراً بحيث إذا وقف الإنسان لا يشرف على جاره.

وإذا كان الجار ليس ملاصقاً لكن بيني وبينه سور، وبيتي يطل عليه فهنا يلزمني أن أضع سترة؛ لأن هذا ضرر على الجيران، ومِثْلُ ذلك النَّوافِذُ، فلا بد أن يكونَ جدارُها رفيعاً، فإن كان غير رفيع فإنه لا يجوز، فإن قال قائل: لن أرفع هذه النوافذ، ولكن سأضع زجاجاً مثلجاً يمنع الرؤية، فقال الجار: هذا الزجاج إن كانت أبوابه متحركة فيمكن تبقى مفتوحة، وإن كانت ثابتة فصحيح ربما يمنع لكن الزجاج قابل للكسر، لو يأتي بَرَد من السحاب ويضرب الزجاج كسره، أو يعبث شخص بالحصى لكسر الزجاج، فأنا أتوقف في هذه المسألة.

(1)

سبق تخريجه ص (37).

(2)

الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 161).

ص: 267

‌بَابُ الحَجْرِ

‌وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ وَحَرُمَ حَبْسُهُ، وَمَنْ مَالُهُ قَدْرَ دَيِنِه لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَأُمِرَ بِوَفَائِهِ، فَإنْ أَبَى حُبِسَ بِطَلَبِ رَبِّهِ، فَإِنْ أصَرَّ وَلَمْ يَبِعْ مَالَهُ بَاعَهُ الحَاكِمُ وَقَضَاهُ وَلَا يُطَالَبُ بمُؤَجَّلٍ.

قوله: «باب الحجر» الحجر في اللغة: المنع والتضييق، ومنه سمي العقل حِجْراً، قال: ـ تعالى ـ: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ *} [الفجر: 5]، أي: لذي عقل، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل ما لا يليق شرعاً أو عرفاً.

أما في الاصطلاح: فهو منع إنسان من التصرف في ماله، وذمته، أو في ماله فقط.

وهو قسمان: إما لمصلحته أو لمصلحة غيره، أي أن الحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه، وقد يكون لمصلحة غيره، فإن كان لمصلحته فهو حجر في المال والذمة، وإن كان لمصلحة الغير فهو حجر في المال فقط.

فمثلاً إذا قلنا للموصي: لا توص بأكثر من الثلث، أي: حجرنا عليه فيما زاد على الثلث فهذا لمصلحة الغير، فيمنع من التصرف في ماله ولا يمنع من التصرف في ذمته، وإذا حجرنا على السفيه ألا يتصرف في ماله أو ذمته فهذا لمصلحة نفسه، فالمهم أن الحجر تارة يكون لمصلحة الغير، وتارة يكون لمصلحة المحجور عليه نفسه، وله أسباب تتبين في الشرح.

قوله: «ومن لم يقدر على وفاء شيء من دَينه لم يطالب به وحرم حبسه» .

ص: 268

قسم المؤلف رحمه الله المدين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه، يعني ليس عنده شيء يفي به، كرجل عليه مائة درهم، لكن ليس عنده شيء، فكيف نعامل هذا؟

يقول المؤلف: «لم يطالب به وحرم حبسه» يعني لا يحل لغريمه أن يطالبه، بل ولا أن نطلبه؛ دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ولما قال:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، إذاً هذا لا يتعرض له ويترك حتى يرزقه الله ويوفي دينه، هذا الذي لا يستطيع وفاء شيء من دينه، فليس عنده شيء أبداً.

وبهذا نعرف أن أولئك الظلمة، الذين يطالبون الغرماء الذين ليس عندهم شيء، لا يخافون الله، ولا يرحمون عباد الله، لا يخافون الله؛ لأنهم عصوا الله، فالله يقول:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، وهؤلاء لم ينظروه، ولم يرحموا عباد الله؛ لأنهم يكلفون العبد ما لا يطيق، وربما أدى ذلك إلى حبسه؛ لأن بعض القضاة قد لا يتصرف تصرفاً حسناً، فيحبس هذا الغريم مع أنه لا يستطيع الوفاء، وما أحسن أن تقرأ في حاشية العنقري كلاماً لابن هبيرة.

وقوله: «وحرم حبسه» حرم على ولي الأمر أن يحبسه، سواء حبسه في السجن العام، أو حبسه في بيته؛ لأن الحبس لا يعني أن يكون في السجن العام، بل قد يحبس الإنسان في بيته ويرسم عليه،

ص: 269

ويقال: لا تخرج من البيت؛ لما سبق من الآيات التي ذكرناها.

فلا يحل للقاضي أن يحكم بحبس المطلوب؛ لأن حبسه ليس فيه فائدة بل لا يزيد الأمر إلا شدة، ليدعه يطلب الرزق في أرض الله فلعله أن يوفي، بل ويحرم على القاضي سماع الدعوى في مطالبته متى تبين له أنه فقير، ويجب على القاضي إذا نهى من له الدين عن الطلب وأصرَّ، أن يؤدب هذا المطالب؛ لأنه فعل معصية، وقد قال العلماء: التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، لكن لو ادَّعى العسرة وهو كاذب فلا بد من بينة، فلو ادعى العسرة وليس هناك قرينة تدل على أنه موسر فإنه يحلف ويخلى، فإن كان هناك قرينة تدل على أنه موسر فللقاضي أن يحبسه.

قوله: «ومن ماله قدر دينه لم يحجر عليه» لا يعني بذلك أن يكون المال قدر الدين سواء بسواء، بل المراد من ماله قدر دينه أو أكثر فإنه لا يحجر عليه، كرجل عليه مائة درهم وبيده مائة درهم، فهذا ماله قدر دينه، فلا يحجر عليه؛ لأنه لا حاجة للحجر.

مثال آخر: رجل عليه مائة درهم وبيده مائتا درهم، فهذا لا يحجر عليه، إذاً مراد المؤلف بقوله:«من ماله قدر دينه» هذا الحد الأدنى، يعني قدر الدين أو أعلى فإنه لا يحجر عليه، ولا يمنع من التصرف في ماله ولكن ماذا نفعل؟

يقول: «وأمر بوفائه» «أمر» مبني لما لم يسمَّ فاعله، فمن الفاعل الآمر؟

ص: 270

الجواب: هو ولي الأمر من قاض، أو أمير، أو غيرهما، فإن أبى حبس بطلب رب الدين أي: صاحب الدين، فيحبسه ولي الأمر إما في السجن العام، وإما في بيته، وإما في بيت آخر، المهم أنه يمنع من التصرف، ومن التجول.

قوله: «فإن أبى حبس بطلب ربه» أي: رب الدين، والرب هنا بمعنى الصاحب، فهو يطلق على عدة معانٍ منها الصاحب، يعني إذا طلب صاحب الدين أن يحبس حبس؛ والدليل على الحبس قول النبي عليه الصلاة والسلام:«لَيُّ الواجد ظلم يُحل عرضه وعقوبته»

(1)

، «لَيّ» بمعنى مطل، و «الواجد» هو القادر على الوفاء، «عرضه» ، أي: غيبته في الشكوى بأنه مماطل، و «عقوبته» لم يبين نوع العقوبة، فقال بعض العلماء: الحبس، وعندي أن الحديث ينبغي أن يكون على إطلاقه، وأن يراد بالعقوبة ما تجعله يوفي ما عليه، فقد يكون الحبس أنكى له فيبادر بالوفاء، وقد يكون الضرب أنكى، وقد يكون التشهير به أنكى له فيبادر بالقضاء، فالصحيح أن العقوبة مطلقة ترجع إلى اجتهاد القاضي، هذا إذا كان ماله قدر دينه.

فإن لم يطلب وقال للقاضي ـ مثلاً ـ لما رأى أنه متوجه إلى

(1)

أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في الاستقراض وأداء الديون/ باب لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/ 222) وأبو داود في القضاء/ باب في الدين هل يحبس به؟ (3628)، والنسائي في البيوع/ باب مطل الغني (7/ 316)، وابن ماجه في الصدقات/ باب الحبس في الدين والملازمة (2427) عن الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/ 102) ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (5/ 76) ط/دار الريان.

ص: 271

حبسه: لا تحبسه، إذا آل الأمر إلى حبسه فأنا أصبر، فهنا لا يحبس؛ لأن الحق لصاحب الدين ولو شاء أن يبرئه لأبرأه، فإذا كان الحق حقه ولو شاء أن يبرئه لأبرأه فهنا يبرئه من الحبس، فيقول: لا يُحبس اتركه متى أراد أوفى، فإن أصر حبس، وهذه الصورة قد تكون نادرة، لكن ربما تقع من بعض السفهاء أو من بعض من يريد الإضرار بالدائن، المهم يحبس يومين أو ثلاثة أو أكثر.

قوله: «فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه» ولم يذكر المؤلف الضرب، يعني أنه يحبس ولا يضرب، وظاهر كلامه أنه لا يضرب.

وقال بعض أهل العلم: بل يضرب، فيعزر كل يوم، لكن لا يزاد على عدد الجلدات التعزيرية، وهي على المشهور عشر جلدات، كل يوم نجلده عشر جلدات، فيحبس ليلاً ونهاراً ويجلد صباحاً، ويقال له: أوف ما عليك وإذا لم ينفع فيه حبس ولا ضرب، حينئذٍ يبيع الحاكم ماله ويقضي دينه، لكن المؤلف رحمه الله مشى على أنه لا ضرب؛ لأنه لا فائدة، فرجل صبر على الحبس ولم يوف فما الفائدة من ضربه؟ لكن لو رأى ولي الأمر من قاض أو أمير، أن ضربه قد يفيد فله أن يضربه ضرباً غير مبرح، وعلى هذا فنجعل الضرب ليس لازماً بل هو راجع إلى المصلحة.

وظاهر كلام المؤلف أن الحاكم لا يبيع ماله فوراً، بمعنى أنه إذا قيل له: أوف الدين، قال: لا، قلنا: نحبسك، قال:

ص: 272

احبسوني، فظاهر كلام المؤلف: أنه لا يباع، وإنما يستعمل معه الحبس، وإلى متى؟ إلى يومين أو ثلاثة أو أربعة، فلم يحدد، بل إلى أن يوفي، وإلا سيبقى في الحبس دائماً، ولا شك أن هذا فيه إضرار بلا مصلحة، إضرار بصاحب الدين من جهة، وإضرار بالغريم المدين من جهة أخرى.

ولهذا لو كان أحد من العلماء يقول: بأنه لا يحبس ولا يضرب، وإنما يتولى الحاكم الوفاء مباشرة مما عنده، لو قيل بهذا لكان له وجه؛ لأن في ذلك مصلحة للطرفين، أما صاحب الحق فمصلحته ظاهرة أنه يسلم إليه الحق، وأما المدين وهو الغريم فالمصلحة في حقه انتفاء الضرر عليه بالسجن أو الضرب، وحينئذٍ نقول: إذا استوفى صاحب الحق حقه، فلا حرج على القاضي أو ولي الأمر أن يؤدب هذا المماطل بحبس، أو ضرب، فيكون هنا التأديب فيه مصلحة، ألا يعود مثل هذا إلى المماطلة، وأما المبادرة بتولي قضاء الدين ففيه مصلحة لصاحب الدين.

وقوله: «فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه» «باعه» الهاء تعود على المال، و «الحاكم» القاضي، وكلما جاءت كلمة «الحاكم» ، فالمراد به القاضي، لكن لو أنه جَعَلَ هيئةً للنظر في الديون، صارت هذه الهيئة تتولى شؤون الديون، ولا يتولاها الحاكم.

مسألة: هل يجوز أن يشتري الناس والمالك لم يرضَ؟ يجوز، لأنه بيع بحق والبيع لا يصح إذا كان مكرهاً بغير حق، أما إن كان بحق فلا بأس به، ومن ثَمَّ ننتقل إلى مسألة مشكلة

ص: 273

وهي ما تأخذه الحكومة تعزيراً، فهل يجوز أن نشتريه إذا عرض للبيع؟ نعم يجوز؛ لأنها أخذت بحق مثل السيارات والأراضي ونحوها.

وقوله: «باعه الحاكم» هذا مقيد بما إذا لم يكن المال عنده من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فلا حاجة لبيعه.

مثاله: رجل يُطْلَبُ منه مائة صاع بر، وعنده مائة صاع بر، إذاً ماله الآن قدر دينه فلا يحجر عليه، ومن جنس دينه فلا يباع، اللهم إلا أن يكون ما في ذمته موصوفاً بصفات لا توجد في هذا البر الذي عنده، فحينئذٍ لا بد من بيعه، سواء كان الذي عنده أطيب أو أردأ، إن كان أردأ فإن صاحب الحق لا يرضى، وإن رضي فلا حرج، وإن كان أطيب فإن المدين لا يرضى وإن رضي فلا حرج.

قوله: «ولا يطالب بمؤجل» يعني أن المدين لا يطلب ولا يطالب ـ أيضاً ـ بمؤجل حتى يحل أجله، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم»

(1)

، وصاحب الدين قد رضي بتأجيله، فيجب عليه الانتظار حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل عملنا ما سبق، يعني صار كالحال.

‌وَمَنْ مَالُهُ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ حَالًّا وَجَبَ الحَجْرُ عَلَيْهِ بِسُؤَالِ غُرَمَائِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهُ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ الحَجْرِ، وَلَا إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ بَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئاً بَعْدَهُ رَجَعَ فِيهِ إِنْ جَهِلَ حَجْرَهُ وَإِلاَّ فَلَا،

قوله: «ومن ماله لا يفي بما عليه حالًّا وجب الحجر عليه» هذا هو القسم الثالث، مثاله: رجل له ألف ريال وهو مطلوب

(1)

سبق تخريجه ص (18).

ص: 274

بألفين، فالمال الذي عنده لا يفي بما عليه حالًّا، فماذا نصنع؟

يقول المؤلف: «وجب الحجر عليه» أي: وجب على الحاكم الذي يتولى هذه الأمور الحجر على من ماله لا يفي بما عليه.

قوله: «بسؤال غرمائه» يعني إذا سأل الغرماء الحجر عليه.

قوله: «أو بعضهم» أي: أو سأل بعضهم الحجر عليه وجبت إجابته، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه وباع ماله في دين عليه

(1)

، هذا من جهة الأثر، وإن كان فيه مقال.

ومن جهة النظر؛ فلأنه في الحجر عليه حماية لحق الدائن وحماية لذمة المدين، فالدائن حتى يعطى حقه أو بعضه، وحماية لذمة المدين لئلا تبقى ذمته معلقة مشغولة بالدين دائماً، وهذه مصلحة كبرى عظيمة للدائن والمدين، فكان مقتضى النظر الصحيح أن يثبت الحجر.

ومن جهة النظر ـ أيضاً ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مطل الغني ظلماً

(2)

، وهذا وإن لم يكن غنيّاً الغناء التام الذي يوفي، لكن عنده بعض الشيء فيكون ظالماً بمنع الحقوق، والظلم يجب

(1)

أخرجه عبد الرزاق (15177)؛ والدراقطني (4/ 231)؛ والحاكم (2/ 58)؛ والبيهقي (6/ 48) عن كعب بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في «المراسيل» (171، 172)، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ورجح إرساله أبو داود وعبد الحق، انظر:«بيان الوهم الإيهام» (311)؛ و «التلخيص» (1233).

(2)

سبق تخريجه ص (271).

ص: 275

رفعه، ولا سبيل لنا إلى رفعه في هذه الحال إلا بالحجر عليه؛ لأنه لو قال قائل: احبسوه، كما في القسم الثاني، قلنا: ولو حبسناه ليس فيه فائدة؛ لأن المال الذي عنده لا يفي بخلاف القسم الثاني فالمال يفي، أما هنا فلا حاجة، والظلم تجب إزالته، فلهذا وجب الحجر.

ومعنى الحجر أن نمنعه من التصرف في ماله، لا في ذمته، فلا يتصرف ببيع ولا شراء ولا هبة ولا وقف ولا رهن، ولا غير ذلك، فإذا كان صاحب متجر أغلقنا المتجر بحيث لا يتصرف فيه بشيء، ولو صاحب زراعة، منعناه من التصرف في زراعته، المهم أن نمنعه من التصرف في أعيان ماله، حفظاً لذمته ولحق الغرماء.

قوله: «ويستحب إظهاره» أي: إظهار الحجر بوسائل الإعلام، فلان محجور عليه؛ وذلك لفائدتين:

الأولى: ليظهر من له دين عند هذا الرجل؛ لأنه إذا اشتهر أنه حجر عليه فأهل الدين سيأتون.

الثانية: لئلا يغتر الناس فيعاملوه بعد الحجر، ومعلوم أن معاملته بعد الحجر باطلة، يعني لو أن أحداً اشترى منه شيئاً بعد الحجر، فإن الشراء لا يصح ولا ينفذ، فيعلم الناس حتى لا يغتروا بمعاملته؛ لأنه إذا لم يعلم فإنه ربما يغتر الناس ويعاملونه، فيستحب إظهاره لما فيه من الفائدة للمحجور عليه، وللغرماء ولغيرهم من الناس.

قوله: «ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر» يعني بعد أن نحجر عليه لا ينفذ تصرفه في ماله، لا ببيع ولا شراء ولا تأجير

ص: 276

ولا هبة ولا رهن ولا وقف، فأي تصرف في المال لا ينفذ؛ لأنه محجور عليه فأصبحت أمواله مشغولة بحقوق الغرماء، فصار كالراهن يبيع الرهن، وبيع الرهن ـ كما سبق ـ غير صحيح، وهذه فائدة الحجر، أن نمنعه من التصرف في ماله لحق الغرماء، فهذا محجور عليه لحق غيره.

مثال ذلك: رجل حجرنا عليه وعنده سيارة قد وضعها في المعرض قبل الحجر عليه، فهل يمكن أن يبيعها؟

الجواب: لا يمكن؛ لأنه إذا حجر عليه لا يمكن أن يتصرف.

وقوله: «في ماله» يؤخذ منه أنه يصح تصرفه في ذمته، بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل، وهو كذلك، فلو اشترى المحجور عليه في ذمته لم نمنعه؛ لأن المال الذي حجر عليه لا يتضرر بذلك، ولكن البائع لا يدخل مع الغرماء فيما حجر عليه فيه هذا الشخص، فإذا اشترى من شخص سيارة فنقول: الشراء صحيح، لكن لا ينقد ثمنها من المال الذي عنده، وتكون السيارة للمحجور عليه.

وصاحب السيارة لا يدخل مع الغرماء في ماله السابق؛ وذلك لأنه حجر عليه قبل هذا التصرف.

وقوله: «بعد الحجر» يؤخذ منه أن تصرفه قبل الحجر صحيح، ولو أضر بالغرماء، فلو كان عليه دين وماله أقل من دينه، وتصرف فيه بالهبة بأن وهب من وجد من الناس، فتصرفه صحيح.

ص: 277

مثاله: إنسان عليه عشرة آلاف، وليس عنده إلا ثمانية آلاف، فذهب يتبرع للناس، فكل من وجد تبرع له، فنقول: لا يصح التبرع، مع أنه بالغ عاقل رشيد؛ لأن المال الآن تعلق به حق الغرماء.

فظاهر كلام المؤلف أن تصرفه صحيح ولو أضر بالغرماء ولكنه آثم، وهذا هو المذهب.

واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن تصرفه قبل الحجر، إن كان مضراً بالغرماء فهو غير صحيح ولا نافذ، وإن كان غير مضر فهو صحيح ونافذ، وهذا أصح؛ ووجهه أن تصرفه في ماله تصرفاً يضر الغرماء حرام ـ حتى على المذهب ـ والشيء الحرام لا يجوز أن ينفذ؛ لأن تنفيذ ما حرم الله مضادة لله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»

(1)

، ولهذا سئل الإمام أحمد رحمه الله عن المدين، هل يتصدق أو لا؟ قال: بالشيء اليسير كالخبزة وشبهها، وأما ما يضر بالغرماء فلا يجوز، على أننا نرى أنه لا يجوز أن يتصدق ولو بالقليل ما دام عليه دين أكثر مما عنده من المال؛ لأن القليل، مع القليل كثير، فإذا قلنا تصدق ـ مثلاً ـ بدرهم على هذا الفقير، فجاء فقير آخر تصدق بدرهم وهلم جراً، فصار القليل كثيراً فالمنع أولى؛ ولأننا إذا منعناه من الصدقة، وقلنا: لا يمكن أن تتصدق، صار ذلك أشحذ لهمته في وفاء دينه؛ لأن الإنسان قد لا يحتمل أن يبقى لا يتصدق.

(1)

سبق تخريجه ص (100).

ص: 278

ولو أراد أن يعتمر وعليه دين أكثر من ماله، ومعه مال الآن يستطيع أن يعتمر به، فإننا نقول: لا تعتمر، وهذا حرام عليك، قال: ما أديت الفريضة، قلنا: لا فريضة عليك؛ لأن من شرط وجوب العمرة والحج ألا يكون على الإنسان دين، فليس عليك فريضة الآن، قال: زملائي يحجون، قلنا: ولو كان، فلا يمكن حتى توفي الدَّين، فإذا قال: يريدون أن أذهب معهم مجاناً، فهذا فيه تفصيل:

إن كان يمنعه من عمل يكسب به فلا يجوز، وإن كان لا يمنعه وهو إنسان عاطل ليس عنده عمل، أو جاءت الإجازة ـ مثلاً ـ فلا حرج؛ لأنه هنا لا يضر بالغريم في شيء.

والعجب أن بعض الناس ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ تكون عليهم الديون ويقومون بإكرام الناس ودعوتهم كما يفعل الغني، هذا خطأ! وهو آثم في ذلك؛ لأن قضاء الدين واجب، ومثل هذه الأمور مستحبة وليست بواجبة؛ لكن أكثر الناس لا يعقلون هذا الأمر ويستهينون بأمر الدَّيْن، مع أن أمر الدَّيْن عظيم جدّاً، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يفتح الله عليه كان إذا قدمت إليه جنازة وعليها دين يمتنع من الصلاة عليها

(1)

، وهذا أمر عظيم، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشفع له! وكذلك ـ أيضاً ـ الرجل يقتل في سبيل الله، تكفر الشهادة كل شيء إلا الدَّين، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة قال:«إنها تكفِّر كل شيء» ، فانصرف

(1)

سبق تخريجه ص (182).

ص: 279

الرجل فناداه فقال: «إلا الدَّين أخبرني بذلك جبريل آنفاً»

(1)

، فالتهاون بالدين ليس من العقل ولا من الشرع أيضاً.

والخلاصة الآن: يحجر على المدين إذا كان ماله أقل من دينه، لكن بشرط سؤال الغرماء أو بعضهم، فإن لم يسألوا فلا حرج إذا لم يحجر عليه، لكن الصحيح أنه محجور عليه شرعاً، لا حكماً، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مطل الغني ظلم» ،

(2)

والتبرع بماله يؤدي إلى المطل، وعدم الوفاء، فيكون ذلك ظلماً، لكن يفترق عن المحجور عليه حكماً، بأن هذا يصح أن يتصرف في ماله بغير التبرع، فيجوز أن يتصرف لكن لا يتبرع فيبيع ويشتري ـ مثلاً ـ ولا حرج، فهذا هو الفرق.

ولهذا نقول للمدين الذي ماله أقل من دينه ولم يحجر عليه: بع واشتر ليس ثمة مانع، لكن لا تتصدق ولا تتبرع، وإذا جاءه صاحب له وأراد أن يبيع عليه ما يساوي عشرة بثمانية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا تبرع في الواقع.

قوله: «ولا إقراره عليه» يعني لا يصح بعد الحجر أن يقر على شيء من ماله الذي بيده، ويصح إقراره في ذمته.

مثال ذلك: لما حجرنا عليه قال: هذه السيارة لفلان، فلا يقبل إقراره على المال، لكن يقبل في ذمته وكيف ذلك؟ نقول: أما السيارة الآن فإنها تباع ويوفى منها الدين، وأما الذي أقر له

(1)

أخرجه مسلم في الجهاد/ باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدَّين (1885) عن أبي قتادة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (271).

ص: 280

بالسيارة فيطالبه بعد فك الحجر عنه، ويقول: أعطني قيمة السيارة، فإقراره على عين ماله لا يقبل.

والحكمة من أنه لا يقبل؛ لئلا يتواطأ الغريم وآخر على الإقرار، بأن هذا الشيء للآخر؛ من أجل ألا يباع في دينه.

مثاله: إنسان حجرنا عليه وعنده سيارة تساوي خمسين ألفاً، فجاءه صاحب له فقال: يا فلان أقر بأن السيارة لي؛ من أجل ألا تباع في الدين، هذا وارد لا شك، ولهذا يسد الباب.

كذلك لو قال لشخص: إن له علي ألف درهم في ذمتي، بعد أن حجرنا عليه، فهنا لم يقر بعين وإنما أقر بدين.

قلنا: لا يقبل بمعنى أنه لا يدخل مع الغرماء، ولكن يطالب بعد فك الحجر عنه؛ لأن التهمة حاصلة، فقد يأتي إنسان صاحباً له ويقول: أنت عليك دراهم للناس، أقر لي بشيء حتى أشاركهم، وإذا أخذته أعطيتك إياه، وهذا وارد، فإننا نقول: لا يقبل إقراره بالنسبة لمشاركة الغرماء، أما بالنسبة لبقاء الدين في ذمته فهو باق، ولهذا قال:«ولا إقراره عليه» أي: على ماله، يعني على أعيان ماله لا يقبل.

قوله: «ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده» أي: بعد الحجر.

قوله: «رجع فيه» أي: فيما باعه أو أقرضه.

قوله: «إن جهل حجره وإلا فلا» يعني إنسان باع على المحجور عليه شيئاً وهو لا يعلم ـ والمراد أنه باعه في ذمته؛ لأنه

ص: 281

سبق أنه لو باعه بماله لم يصح ـ ثم علم أنه محجور عليه، فإننا نقول له: ارجع بمالك ولا ضرر؛ لأن التصرف معه بعد الحجر غير نافذ، حتى لو فرض أن هذا المحجور عليه استعمله يومين أو ثلاثة أو أكثر، فيكفيك أن يرجع إليك عين مالك.

مثال هذا: رجل باع على هذا المحجور عليه سيارة بخمسين ألفاً، وهو لا يدري أنه محجور عليه ثم علم، فنقول: خذ السيارة ما دمت لم تعلم، فإن كان عالماً فإنه لا يرجع وتدخل السيارة في دينه، تباع وتوزع على الغرماء، ولا يدلي مع الغرماء؛ لأن هذا التصرف وقع بعد أن منع هذا من التصرف.

‌وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ أقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ قَوَداً أَوْ مَالاً صَحَّ وَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ عَنْهُ، وَيَبِيْعُ الحَاكِمُ مَالَهُ وَيُقَسِّمُ ثَمَنَهُ بَقَدْرِ ديونِ غُرَمَائِهِ،

قوله: «وإن تصرف في ذمته» المحجور عليه لا يصح تصرفه في عين ماله، فإذا حجرنا على الرجل لوجود دين عليه أكثر مما معه فإنه لا يمكن أن يبيع شيئاً من ماله ولو قلّ، فلا يمكنه أن يبيع قلماً، ولا ساعة، ولا غيره؛ لأن أعيان ماله تعلق بها حق الغرماء، لكن إن تصرف في ذمته فلا بأس، ومعنى تصرفه في ذمته أي: لو استقرض من شخص شيئاً فلا حرج، فهذا الرجل الذي حجرنا عليه لو احتاج إلى مال واستقرض من غيره فلا حرج، فإذا كان عليه دين يبلغ عشرة آلاف، والمال الذي عنده يساوي ثمانية آلاف، فإننا نحجر عليه ولا يتصرف في ماله، فإذا استقرض من شخص مالاً فالقرض هنا صحيح؛ لأنه لم يتصرف في المال الذي حجرنا عليه فيه وإنما يتصرف في ذمته، وكذلك ـ أيضاً ـ لو اشترى شيئاً لكن لم يشتر بعين ماله، كما لو اشترى من شخص بيتاً أو سيارة فلا بأس؛ لأن الحجر عليه

ص: 282

إنما هو في أعيان المال فقط، أما الذمة فليس عليها حجر.

قوله: «أو أقر بدين» أي: حال الحَجْر أقر بدَين، يعني أن هذا الرجل الذي عليه عشرة آلاف، وعنده ثمانية وحجرنا عليه، بعد الحجر قال: في ذمتي لفلان أربعة آلاف، فإننا لا نقبله على المال الموجود نقبله في ذمته، فنقول: الآن ثبت في ذمتك للذي أقررت له أربعة آلاف، لكن لا تؤخذ أربعة الآلاف من المال؛ لوجهين:

الأول: أن هذا التصرف بعد الحجر والتصرف بعد الحجر لا يمكن أن يصح فيما يتعلق بالمال.

الثاني: أن هذا المدين ربما يتفق مع شخص ويقول: سأقر لك بخمسين ألف ريال من أجل أن يشارك الغرماء، فإذا وزعت الدراهم وأخذ هذا المُقَرُّ له الدراهم، أعادها على المحجور عليه.

قوله: «أو جناية توجب قوداً» أي: أقر بجناية توجب قوداً، فقال: إن عبده قطع يد إنسان من المفصل، أو أقر بأنه قطع يد إنسان من المفصل واختار المجني عليه الدية.

فكلمة «توجب قوداً» تشمل ما إذا أقر على نفسه بجناية توجب قوداً فإنه يصح، لكن لا يطالب بالدية إلا بعد فك الحجر.

والجناية التي توجب قوداً مثل أن يقر أنه قطع يد إنسان من المفصل عمداً، فهذه جناية توجب القود وهو القصاص، فنقول: الإقرار صحيح، لكن المُقَرَّ له إذا اختار الدية لا يشارك الغرماء؛

ص: 283

لأن هذا الإقرار بعد الحجر ولا يطالبه إلا بعد فك الحجر، ما لم يطالب بالقود، فإن طالب بالقود فلا بأس أن يقاد، بأن قال المقر له: أنا أريد أن يقتص منه وتقطع يده، قلنا: لا بأس؛ لأن هذا لا يتعلق بماله.

قوله: «أو مالاً صح» الجناية التي توجب المال، مثل القطع من دون المفصل، يعني لو قطعه من الذراع من دون المفصل فلا قود فيه، وإنما يجب المال، والمال إذا كان في الإنسان شيئان فإن في أحدهما نصف الدية، فهذا قطع يده من نصف الذراع فلا قود ولكن فيه نصف الدية، فإذا أقر بذلك يقبل الإقرار، ولا يطالب به إلا بعد فك الحجر.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن تكون الجناية جديدة أو قديمة، فلو فرض أن هذا الرجل الذي أقر المحجور عليه بأنه هو الذي قطع يده، أن يده قد برئت منذ زمن والحجر ليس له إلا عشرة أيام فقط، فهنا نعلم أن القطع كان قبل الحجر، وأن الدية وجبت قبل الحجر، لكن نقول: شرط وجوب الدية هو الإقرار ولم يكن إلا بعد الحجر، واحتمال أن يكون المحجور عليه كاذباً في إقراره وارد، فالمهم أنه لو أقر بجناية توجب قوداً أو مالاً فالإقرار صحيح، لكن لا يطالب به إلا بعد فك الحجر.

وكذلك لو كان له عبد وأقر بأن عبده جنى، والعبد من جملة المال يباع في الدين، فإننا لا نقبله إلا بعد فك الحجر، أما الآن فلا.

ص: 284

قوله: «ويطالب به بعد فك الحجر عنه» أي: بما أقر به بعد فك الحجر، ويفك الحجر إذا أعطينا الغرماء ما وجدوه من ماله، فإذا قسم ما وجدنا من ماله على الغرماء فقد انتهى الحجر، فيطالب بما أقر به ويطالب بما ثبت في ذمته، فإن حجرنا عليه مرة ثانية شارك من أقر لهم غرماءه الأولين، فالأحكام التي تترتب على الحجر هي:

الأول: لا ينفذ تصرفه في ماله.

الثاني: أن إقراره بعد الحجر لا يصح على ماله، ولكن يصح في ذمته ويطالب به بعد فك الحجر.

قوله: «ويبيع الحاكم ماله» هذا هو الحكم الثالث، الحاكم أي: القاضي، وهل المراد أن الحاكم نفسه يتولى بيعه فيقف في السوق ويقول: من يشتري هذا، أو يأمر من يبيع؟

الجواب: الثاني؛ لأن الحاكم عادة ـ الذي هو القاضي ـ لا يقف في الأسواق يقول: من يشتري هذا المال؟ لكن يأمر من يبيع ماله، أي: مال المحجور عليه، لكن بشرط ألا يكون ماله من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فإنه لا يبيعه؛ لأنه لا حاجة للبيع حينئذٍ، ولأن البيع قد يضر هذا المحجور عليه، فربما يباع الشيء بأقل من قيمته، والبيع يحتاج إلى نقل وتفريغ وأجرة دلاَّل، وهذا ضرر على المحجور عليه.

قوله: «ويقسِّم ثمنه بقدر ديون غرمائه» أي: ثمن المبيع يقسم بقدر ديون الغرماء، ولا فرق بين ما ثبت قريباً وما ثبت

ص: 285

بعيداً، بمعنى أننا لا نقدم الدين الأول، على الدين الثاني.

وكيفية ذلك أن تَنْسِبَ الموجود للدين، فما حصل من النسبة فهو لكل واحد من دينه بقدر تلك النسبة.

مثال ذلك: الدَّيْنُ عشرة آلاف ريال والموجود ثمانية، انسب الثمانية إلى العشرة تكن أربعة أخماس، فلكل واحد من الغرماء أربعة أخماس ماله، فمن له ألف نعطيه ثمانمائة، ومن له مائة نعطيه ثمانين، وإذا كان دين أحدهم خمسة ريالات فإننا نعطيه أربعة ريالات وهلم جرّاً؛ لأن النسبة هكذا تكون.

‌وَلَا يَحِلُّ مُؤَجَّلٌ بِفَلَسٍ وَلَا بِمَوْتٍ إِنْ وَثَّقَ وَرَثَتُهُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ وَإنْ ظَهَر غَرِيمٌ بَعْدَ القِسْمَةِ رَجَعَ عَلَى الغُرَمَاءِ بقِسْطِهِ وَلَا يَفُكُّ حَجْرَهُ إِلاَّ حَاكِمٌ.

قوله: «ولا يحل مؤجل بفلس» يعني إذا كان على الإنسان دين مؤجل وحجر عليه فهل يحل الدين أو يبقى على أجله؟

يقول المؤلف: إنه لا يحل فيبقى على أجله ويطالب إذا حل الأجل.

مثال هذا: إنسان استدان من شخص ديناً لمدة سنة، وفي أثناء السنة حجر على المدين، فجاء صاحب الدين ليطالب مع الغرماء، فنقول: لا حق لك؛ لأنه لم يحل دينك المؤجل؛ لأن الأجل حق للمدين، وحق المدين لا يسقط بفلسه.

فإذا قال صاحب الدين المؤجل: أنتم لما حجرتم عليه سوف تبيعون ماله، ولا يبقى لي شيء، فإننا نقول: لا؛ لأنه لا حق لك فيه، بل أنت على حقك، وربما إذا حل دينك يأتي الله تعالى برزق.

قوله: «ولا بموت» كذلك لا يحل المؤجل بموت، أي موت المدين إلا أن المؤلف استثنى فقال:

ص: 286

«إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء» فإن لم يوثقوا حل.

مثال هذا: رجل عليه عشرة آلاف ريال تحل بعد سنة، ثم مات الرجل فهل يحل الدين؟

الجواب: لا يحل؛ لأن المال انتقل إلى الورثة بأعيانه وأوصافه، ومن أوصافه أنه مؤجل، فالحق للورثة الآن فإذا قالوا: لن نوفيك؛ لأن دينك لم يحل، فالقول قولهم، ولكن اشترط المؤلف «إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء» يعني إذا قالوا: حقك الآن لم يحل ولا تطالبنا بشيء.

فإذا قال: أخشى أن تقتسموا المال ويضيع حقي، قالوا: لك هذا البيت رهناً، والبيت يساوي عشرين ألفاً، والدين عشرة آلاف، وهذا الرهن يكفي للدين، فإذا لم يرهنوه شيئاً، وقال: قدموا لي كفيلاً، قالوا: هذا فلان يكفل دينك، نظرنا فإن كان مليئاً لم يحل الدين، وإن كان غير مليء حل الدين.

والمليء هو القادر على الوفاء بماله وقوله وبدنه.

فالمليء بماله أن يكون عنده أموال تكفي لهذا الدين.

والقادر ببدنه أن يكون ممن يمكن إحضاره لمجلس الحكم عند التحاكم.

والقادر بقوله ألا يكون مماطلاً، فيقول: غداً بعد غد، ويماطل، فإذا أتوا بكفيل غني لو أبى أن يوفي حوكم فالدين لا يحل.

وعلم من قوله: «أو كفيل مليء» أنهم لو جاؤوا بكفيل غير

ص: 287

مليء فإن الدين يحل؛ لئلا يضيع حق الدائن، فإذا جاؤوا إليه بكفيل، والكفيل لا يملك إلا ألف ريال، والدين عشرة آلاف، فإنه لا يكفي؛ لأنه ليس مليّاً بماله، وإذا أتوا بكفيل عنده أموال كثيرة، لكنه مماطل لا يكاد يخرج الحق منه، فهذا ـ أيضاً ـ لا يكفي في إحرازه.

فلو أتوا بإنسان غني وعنده مال وغير معروف بالمماطلة، لكن لو ماطل لم نتمكن من إحضاره إلى القضاء، إما لأنه ذو سلطان لا يمكن أن يؤتى به إلى القضاء؛ وإما لأنه قريب للإنسان يخجل أن يجر قريبه إلى القضاء كأبيه ـ مثلاً ـ فهنا نقول: هذا الكفيل لا يكفي فيحل الدين؛ لئلا يضيع حق الدائن، وعلى هذا فإذا توفي رجل وعليه دين لآخر يحل بعد سنة، وجاء صاحب الدين يطالب الورثة، ففيه تفصيل:

إن أعطوه رهناً يكفي، أو أقاموا كفيلاً مليئاً فإن الدين لا يحل، وإلا فإن الدين يحل، ويطالب صاحب الدين الورثة بدينه.

بقي أن يقال: إذا كان هذا الدين ثمن مبيع، فالغالب أن الدين إذا كان ثمن مبيع سوف يزيد على الثمن الحاضر، فإذا كنت أبيع هذه السيارة بعشرة آلاف اليوم، سأبيعها إذا كان الثمن مؤجلاً باثني عشر ألف مثلاً.

مثاله: رجل اشترى سيارة من شخص باثني عشر ألف إلى سنة، وثمنها الحاضر عشرة آلاف ثم مات يوم شرائه، ولم يكن عند الورثة رهن يحرز، ولم يأتوا بكفيل، فحل الدين، فهل للدائن أن يأخذ جميع الدين، أو لا يأخذ إلا ثمنه الحاضر؟

ص: 288

الجواب: على المذهب، أنه يحل بكامله ولا ينزل منه شيء؛ لأنه ثبت في ذمة الميت اثنا عشر ألفاً، والميت لو كان حيّاً لم يوف إلا بعد سنة.

لكن لو قيل: بأنه إذا مات بمثل هذه السرعة في يومه، فينبغي أن يثبت له قيمة السيارة في اليوم الحاضر؛ لأن السعر لم يتغير، أو يقال له: خذ سيارتك لم يأتها شيء.

فالخلاصة الآن: إذا أفلس الرجل المدين فإنه لا يحل دينه ويبقى مؤجلاً.

وإذا مات المدين، فإن فيه تفصيلاً: فإن وثق الورثة من له الدين، برهن يكفي، أو أتوا بكفيل مليء فالدين باق لا يحل؛ لأنه لا ضرر على صاحب الدين، وأما إذا لم يأتوا برهن أو لم يأتوا بكفيل مليء، فإنه يحل الدين؛ لئلا يضيع حقه.

بقي علينا الإشكال الذي أوردناه، هل يحل الدين بكامله، أو يخصم منه ما كان زائداً على الثمن الحاضر؟

فالمذهب أنه يحل الدين بكامله؛ لأنه دين ثبت في ذمة الميت فيبقى على ما هو عليه، والذي ينبغي أن يقال: إنه لا يحل الدين بكامله؛ لئلا نظلم الورثة.

قوله: «وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه»

ص: 289

أي: بعد قسمة ماله، يعني حجرنا على الرجل وقسمنا ماله ولم يبق عنده شيء، ظهر بعد ذلك غريم لم يعلموا به من قبل، وقد سبق دينُهُ الحَجْرَ عليه، قال المؤلف:«رجع على الغرماء بقسطه» وما قسطه؟ ننظر نسبة دينه إلى ما أخذه الغرماء، فإذا وجدناه نصف ما أخذه الغرماء، يرجع على كل واحد بنصف ما أخذ، ولو الربع يرجع على كل واحد بربع ما أخذ.

مثال ذلك: الدين ثمانية آلاف والموجود ستة آلاف، قسمنا الستة بين الغرماء، ثم ظهر غريم دينه أربعة آلاف، فإنك تضمها إلى الدين السابق فيكون مجموع الدين اثني عشر ألفاً، ونسبة الدين الذي ظهر إلى مجموع الدين الثلث، فيرجع على كل واحد بثلث نصيبه.

قوله: «ولا يفك حجره إلا حاكم» أي: حجر المحجور عليه لفلس لا يفكه إلا حاكم، والتعليل: لأنه ثبت بحكم الحاكم، وما ثبت بحكم الحاكم لا يرتفع إلا بحكمه.

فلا نقول: إننا إذا قسمنا ماله بين غرمائه انفك الحجر؛ بل لا بد أن يفكه الحاكم، وعلى الحاكم أن يبادر بفك الحجر عنه فلا يماطل، فمثلاً نحن قسمنا ماله الموجود بين الغرماء يوم السبت، فلا يجوز للقاضي أن يؤخر فك الحجر إلى يوم الجمعة مثلاً؛ لأن في ذلك ضرراً عليه، بل نقول: يجب أن يفكه فور قسمته.

ص: 290

‌فصلٌ

‌وَيُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ والصَّغِيرِ والمَجْنُونِ لِحَظِّهِمْ وَمَنْ أعْطَاهُمْ مَالَهُ بَيْعَاً أَوْ قَرْضَاً رَجَعَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ أتْلَفُوهُ لَمْ يَضْمَنُوا،

قوله: «ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظِّهم» هذا هو القسم الثاني من أقسام الحجر، وهو المحجور عليه لحظِّ نفسه، وهم ثلاثة:

السفيه: وهو الذي لا يحسن التصرف في المال، فهو بالغ عاقل لكن لا يحسن التصرف في المال، فيذهب يشتري به ما لا نفع فيه ولا فائدة.

الصغير: وهو الذي لم يبلغ.

المجنون: وهو فاقد العقل.

فهؤلاء الثلاثة يحجر عليهم، فلا يمكنون من التصرف في مالهم، لكن لحظهم لا لحظ غيرهم، فإذا كان السفيه مراهقاً حجرنا عليه من وجهين، هما: السفه، والصغر، ولكن لا بأس أن نعطيه ما يتصرف به مما جرت به العادة لنختبره؛ لأن الله تعالى قال:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، بمعنى أننا لا نحجر عليه حجراً تاماً، بل نعطيه ما يتصرف به بقدره، حتى نعرف أنه يحسن التصرف فإذا بلغ أعطيناه ماله.

والمجنون هل نعطيه شيئاً للاختبار؟

الجواب: لا؛ لأنه مجنون، فلو أعطيناه أيَّ شيء فسوف يفسده.

والسفيه البالغ كالمراهق، بمعنى أننا لا نمكنه من التصرف في ماله كما يريد، ولكن نعطيه شيئاً مما جرت به العادة من الأشياء اليسيرة.

ص: 291

وأطلق المؤلف فلم يقل: يحجر عليهم في أموالهم أو في ذممهم، فهؤلاء محجور عليهم في الأموال، بمعنى أنهم لا يتصرفون في أموالهم، وفي الذمم بمعنى أنهم لا يتصرفون في ذممهم، فلا يستقرضون ولا يشترون شيئاً بدين؛ لأنهم محجور عليهم في المال والذمة.

وقوله: «لحظهم» هذه إشارة إلى الحكمة من الحجر عليهم وهو حظهم ومنفعتهم، فلسنا نحجر على هؤلاء من باب التضييق ولكن من باب المصلحة.

قوله: «ومن أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا» «من أعطاهم» «من» اسم شرط، واسم الشرط يدل على العموم، يعني أيَّ إنسان أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً رجع بعينه، وإن أتلفوه لم يضمنوا.

مثال ذلك: رجل باع على السفيه ساعة ثم إن السفيه أتلفها، فهل يصح البيع؟

الجواب: لا يصح، فإن كان أخذ ثمنها من السفيه وجب عليه رده، وهل يضمنها هذا السفيه؟

الجواب: لا يضمنها؛ لأن الرجل هو الذي سلطه على ماله فلا يضمن، وكذلك لو جاء إنسان سفيه لشخص فقال: أقرضني مائة ريال، وهو يعرفه فقال: هذه مائة ريال، فلو أتلف هذا السفيه مائة الريال فإنه لا يضمنها، لكن إن بقيت المائة في يده فلمن أقرضه إياها أن يأخذها منه؛ لأن هذا التصرف غير صحيح،

ص: 292

وإذا قدر أن هذا السفيه اشترى بها حاجة، فهل يرجع عليه بها؟

الجواب: نعم يرجع؛ لأن البدل له حكم المبدل، فإذا جاء هذا السفيه إلى شخص، وقال: أقرضني مائة ريال، قال له: هذه مائة ريال، فذهب واشترى بها ساعة، فهل يرجع الذي أعطاه المائة ريال بالساعة أو لا؟

الجواب: يرجع؛ لأنها بدل ماله، لو وجد ماله عند السفيه لأخذه، فكذلك إذا وجد بدله، أما لو اشترى هذا السفيه بالمائة ريال حلوى وأكلها، أو بطيخاً وأكله، أو عمل بها وليمة دعا إليها أصحابه وأكلها، فإنه لا يضمن؛ لأنه هو الذي سلطه على ماله وهذا سفيه، فكيف تعطي مالك للسفهاء؟!

ومثل ذلك الصغير، فلو جاء الصغير وقال لشخص: سلفني عشرة ريالات، فقال له: خذ هذه العشرة، فأخذها الصغير واشترى بها أشياء وأتلفها فلا يضمن الصغير، لكن لو وجد العشرة بيده، أخذها منه؛ لأنها عين ماله.

ولو جاء الصغير وقال لرجل: إن أبي يقول لك: من فضلك أقرضني مائة ريال، فادعى أن أباه أوصاه بذلك، فأقرضه، ثم إن الصبي أتلفها، هل يضمن؟

الجواب فيه تفصيل: إن صَدَّق الوالد ابنه فإن الأب يضمن؛ لأن الولد قبضها وكيلاً عن أبيه، فإذا تلفت بيد الولد كأنما تلفت بيد أبيه، وإن قال: لم أرسله ولا علمت بذلك، فلا ضمان على الصبي؛ لأن هذا الرجل هو الذي سلط الصغير على ماله.

والذي قررناه هو مقتضى كلام الفقهاء رحمهم الله لكن

ص: 293

فيه إشكال؛ لأنها جرت العادة في مثل هذا أن الإنسان يقول لابنه، الذي لم يبلغ بأن يكون مراهقاً، أو له إحدى عشرة سنة أو ما أشبه ذلك: يا بني اذهب لجارنا، وقل له: أقرضني مائة ريال مثلاً، فهنا لا شك أن الرجل لم يعطه مائة ريال إلا وهو واثق من أن أباه قد أوصاه، وإلا لم يعطه، فهذه المسألة عندي فيها توقف، وهو أنه إذا جرت العادة بأن صاحبه يرسل إليه ولده ليستقرض منه، فينبغي أن يقال: إنه يضمن، لكن في هذه الحال الذي يضمن هو الوالد؛ لأن الرجل إنما أقرضه بناءً على أن أباه أرسله.

هذا إذا كانت العادة جارية بينهما مطردة، أما إذا لم تكن العادة جارية مطردة فإن هذا الصغير لا يضمن، ووالده ـ أيضاً ـ لا يضمن، إذا كذبه.

وقوله: «ومن أعطاهم» ذكرنا أنها عامة، فإذا كان الذي أعطاهم مثلهم يعني صغيراً أعطى صغيراً، وتلف المال عند الصغير، فهل نقول: عليهم الضمان؛ لأن عطية الصغير هنا غير معتبرة، فكأن الصغير الذي أعطي المال أتلفه بدون إعطاء؛ لأن هذا الإعطاء غير معتبر لكونه ممن لا يصح تصرفه؟ أو نقول: إن هذا الصغير لما سلط الصغير على المال فإنه لا ضمان؟ الأقرب الضمان؛ لأن حق الآدمي مضمون بكل حال، وإعطاء الصغار لمثلهم لا عبرة به.

‌وَيَلْزَمُهُمْ أرْشُ الجِنَايَةِ، وَضَمَانُ مَالِ مَنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ تَمَّ لِصَغِيرٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً،

قوله: «ويلزمهم أرش الجناية» يعني إذا جنى هؤلاء الثلاثة فإن أرش الجناية ـ أي: ما تقدر به الجناية ـ لازم لهم، سواء

ص: 294

كانت الجناية على النفس أو على المال، فلو أن هؤلاء الثلاثة اعتدوا على شاة إنسان وكسروها لزمهم أرش الجناية، ولو اعتدوا عليه نفسه وكسروا يده لزمهم أرش الجناية؛ لأن حق الآدمي لا يفرق فيه بين المكلف وغير المكلف؛ إذ إنه مبني على المشاحة، ولا يمكن أن يضيع حق بعمل مكلف أو غير مكلف، فلا بد أن يضمن، لكن إن كانت دية فالدية على عاقلته، وإن كان دون ثلث الدية فهو عليه نفسه.

قوله: «وضمان مال من لم يدفعه إليهم» حتى وإن لم يكن لهم تمييز، فلو أن المجنون اعتدى على مال إنسان وأحرقه فإنه يضمنه؛ لأنه لم يسلطه عليه.

فإذا قال قائل: أليس قد رفع القلم عن ثلاثة؟

قلنا: نعم رفع القلم عن ثلاثة باعتبار حق الله، ولهذا لا يأثم هذا المجنون، ولا يأثم هذا السفيه، ولا يأثم هذا الصغير، ويأثم إذا كان بالغاً، ولكن الضمان لازم لهم؛ لأن هذا حق للآدمي؛ ولذلك لو أن نائماً انقلب على مال أحد وأتلفه فإنه يضمنه؛ لأن الإتلاف يستوي فيه العامد والمخطئ والصغير والكبير.

فإن لم يكن عندهم مال فإنه لا يؤخذ من وليهم، لكن يبقى في ذممهم حتى يكبروا ويتوظفوا أو يتجروا ويؤخذ منهم.

فخلاصة هذا أن هؤلاء الثلاثة محجور عليهم في أموالهم وذممهم، وأن من سلطهم على ماله

ص: 295

ببيع أو إجارة أو قرض أو غير ذلك فإنه لا ضمان عليهم؛ لأنه هو الذي سلطهم على ماله، وأما إن اعتدوا هم بأنفسهم فعليهم الضمان، فيلزمهم أرش جناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم.

قوله: «وإن تم لصغير خمس عشرة سنة» (خمسَ عشرةَ) بالفتح؛ لأنها مبنية على الفتح، وكل الأعداد المركبة ما عدا اثني عشر مبنية على الفتح، ثلاثةَ عشرَ عاماً، وأربعَ عشرةَ سنة، خمسةَ عشرَ، ستةَ عشرَ، وسبعةَ عشرَ، وثمانيةَ عشرَ، وتسعَ عشرةَ، وأحدَ عشرَ أيضاً، أو إحدى عشرة، أي مبنية على فتح الجزءين، أما اثنا عشر فإنها بحسب العوامل، فتقول: جاءني اثنا عشر رجلاً وأكرمت اثني عشر رجلاً.

‌أَوْ نَبَتَ حَولَ قُبُلِهِ شَعْرٌ خَشِنٌ أَوْ أَنَزَلَ، أَوْ عَقَلَ مَجْنُونٌ وَرَشَدَ، أَوْ رَشَدَ سَفِيهٌ زَالَ حَجْرُهُم بِلَا قَضَاءٍ وَتَزِيدُ الجَارِيَةُ فِي البُلُوغِ بِالحَيْضِ، وَإِنْ حَمَلَتْ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا، وَلَا يَنْفَكُّ قَبْلَ شُرُوطِهِ.

قوله: «أو نبت حول قُبُله شعر خشن أو أنزل» هذه ثلاثة أشياء بها يحصل البلوغ، الأول: إذا تم له خمس عشرة سنة فقد حصل البلوغ، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:«عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني» .

وفي رواية صحيحة للبيهقي وابن حبان: «ولم يرن بلغت»

(1)

، «وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت»

(2)

، الشاهد قوله:«ورآني بلغت» ، لأننا لو اقتصرنا على الرواية الأولى رواية البخاري، لنازع منازع وقال:

(1)

أخرجها ابن حبان (4728)؛ إحسان، والبيهقي (6/ 55).

(2)

أخرجه البخاري في الشهادات/ باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (2664)؛ ومسلم في المغازي/ باب بيان سن البلوغ (1868).

ص: 296

إنه لم يجزه، لا لأنه لم يبلغ، ولا لأنه بلغ، ولكن لأنه ليس أهلاً للقتال، إما لضعف جسمه، وإما لغير ذلك من الأسباب، لكن رواية البيهقي وابن حبان تدل على أنه لم يجزه لعدم البلوغ، وللبلوغ أجازه، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته بهذا الحديث، فقال: هذا هو حد البلوغ، وكتب إلى عماله بذلك

(1)

، وعلى هذا فنقول: إذا تم للإنسان خمس عشرة سنة فهو بالغ، وإن كان صغيراً في جسمه، وإن لم يحتلم، وإن لم تنبت عانته، فيمكن أن يكون الإنسان في أول النهار غير مكلف، وفي آخر النهار مكلفاً، إذا ولد عند زوال الشمس وتم له خمس عشرة سنة عند زوال الشمس بلغ.

فإذا قال قائل: كيف يمكن البلوغ بين دقيقة ودقيقة؟ قلنا: لا بد من حد، إذا اعتبرنا البلوغ بالسنين، حتى لو جعلناها ثماني عشرة سنة فسوف يبلغ في آخر النهار، وفي أول النهار ليس ببالغ، حتى في الإنزال إذا احتلم نصف النهار، كان أول النهار غير بالغ وآخره بالغاً، فلا بد من حد.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيه إشكال:

حيث يقول: «إنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة»

(2)

. فالفرق سنة، ومن المعلوم أن أُحُداً في السنة

(1)

أخرجه البخاري في الشهادات/ باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (2664)، ومسلم في المغازي/ باب بيان سن البلوغ (1868).

(2)

سبق تخريجه ص (296).

ص: 297

الثالثة، والخندق في السنة الخامسة، فكيف يُخرج هذا الحديث؟

يمكن أن يخرج على أحد وجهين:

الوجه الأول: أنه كان في أحد في أول السنة الرابعة عشرة، وفي الخندق في آخرها.

الوجه الثاني: أن يقال: إنه ابن خمس عشرة سنة، يعني قد بلغها ولا يمنع أن يكون قد تجاوزها، كما نقول للرجل الذي له ست عشرة سنة: هذا له خمس عشرة سنة يعني فأكثر.

الثاني: أن ينبت حول قُبُله شعر خشن ـ سواء كان ذكراً أو أنثى ـ أي: قوي صلب، احترازاً من الشعر الناعم الخفيف، فهذا يحصل حتى لابن عشر أو أقل، لكن الشعر الخشن القوي الصلب، هذا علامة البلوغ، فلو نبتت لحيته ولم تنبت عانته فليس ببالغ، فالعبرة هي نبات العانة، والدليل حديث عطية القرظي «أنهم عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لا فلا»

(1)

، وهذا يكون قرينة على أن هذا هو البلوغ.

وقوله: «نبت» ظاهره أنه نبت بدون علاج، أما لو كان

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 310)؛ وأبو داود في الحدود/ باب في الغلام يصيب الحد (4404)؛ والترمذي في السير/ باب ما جاء في النزول على الحكم (1584)؛ والنسائي (8/ 92) في كتاب قطع السارق/ باب حد البلوغ وذكر السن الذي إذا بلغها الرجل والمرأة أقيم عليهما الحد، وابن ماجه في الحدود/ باب من لا يجب عليه الحد (2541)؛ والحاكم (2/ 123)؛ وابن حبان (4780).

وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي، وصححه النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 335).

ص: 298

هناك علاج بأن ادهن هذا الصبي بدهن ينبت به الشعر، فإنه لا يحصل البلوغ بذلك؛ لأن هذه معالجة، لكن إذا نبت بالطبيعة فهذا يحصل به البلوغ.

وقوله: «أو أنزل» هذا هو الثالث، أي: أنزل منيّاً سواء في اليقظة أم في المنام بشهوة، فإنه يحكم ببلوغه، لقول الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59].

ولقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] والإنسان يبلغ النكاح إذا أنزل؛ لأنه صالحٌ الآن للتزوج حيث ينجب بهذا الإنزال، وهذه علامة على البلوغ بإجماع المسلمين، أما العلامتان السابقتان ففيهما خلاف عند أهل العلم.

فلو أنزل بمحاولة إنزال كأن عالج نفسه وحرك بدنه حتى أنزل يعني بدون احتلام، حصل البلوغ بذلك، وكذلك لو قبَّل امرأة أجنبية حرام عليه تقبيلها، فإنه إذا أنزل بهذا يكون بالغاً، فالمهم أن وسيلة الإنزال لا يشترط أن تكون مباحة.

قوله: «أو عقل مجنون» أي: مجنون بالغ؛ لأن البلوغ الذي سبق يكون للعاقل والمجنون، لكن لو عقل مجنون كان بالغاً زال حجره.

قوله: «ورشد» الفاعل يعود على الصغير والمجنون، فعلى هذا يكون قوله:«ورشد» شاملاً للصغير والمجنون.

وقوله: «أو عقل مجنون ورشد» معطوف على ما سبق،

ص: 299

ومعنى الرشد في كل موضع بحسبه، وهنا الرشد هو الصلاح في المال وإحسان التصرف فيه، والرشد في ولاية النكاح، هو معرفة الكفء ومصالح النكاح، فالرشد في كل موضع بحسبه.

قوله: «أو رشد سفيه» أي: عاقل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الأصل في العطف المغايرة؛ لأن السفيه هنا من كان عاقلاً بالغاً، لكنه لا يحسن التصرف في ماله، ثم رشد.

قوله: «زال حجرهم بلا قضاء» أي: بلا قضاء حاكم، أي: بمجرد ما يحصل البلوغ مع الرشد أو العقل مع الرشد أو الرشد بعد السفه، ينفك الحجر عنه ولا حاجة أن نذهب للقاضي، فلو أن يتيماً بلغ بالسن مع رشده في نصف النهار، فله أن يطالب وليه بماله الذي عنده في آخر النهار، ولو قال الولي: لا نعطيك حتى نذهب إلى القاضي، ويحكم بأن الحجر زال فإنه لا يطاع؛ لأن الحجر يزول بزوال سببه، ودائماً يمر علينا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

فإن قال قائل: ما الفرق بين هذا وبين من حجر عليه لفلس؟ لأنه قال هناك: «ولا يفك حجره إلا حاكم» .

الجواب: أن هذا الحجر ثبت بدون القاضي فزال بدونه، بخلاف الحجر على المفلس لحظ غيره فإنه لا يثبت إلا بحكم القاضي، ولا يزول إلا بحكم القاضي.

وقال بعض العلماء: إنه إذا وزع ماله وقسم انفك الحجر.

لكن المذهب أقرب إلى الصواب، أنه من حجر عليه لحظِّ الغير، فلا بد من حاكم ينقض الحجر، أما من حجر عليه لحظِّ

ص: 300

نفسه، وهم هؤلاء الثلاثة الصغير والمجنون والسفيه، فإنه بمجرد زوال العلة التي أوجبت الحجر ينفك الحجر.

قوله: «وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض» الجارية يعني الأنثى، فتكون علامات البلوغ عندها أربعاً: تمام خمس عشرة سنة، إنبات الشعر الخشن حول القبل، والإنزال، والحيض.

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»

(1)

، والمراد بالحائض التي أصابها الحيض؛ لأن الحائض التي حاضت لا يمكن أن تصلي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .

قوله: «وإن حملت حكم ببلوغها» ويمكن أن تحمل الجارية قبل أن تتم خمس عشرة سنة، قال أهل العلم: يمكن لبنت تسع سنين أن تحمل، ويمكن لابن عشر أن يولد له، فهذه جارية لها اثنتا عشرة سنة تزوجت وليس لها عانة ثم ولدت، فهل حصل البلوغ بالحمل، أو حكم ببلوغها بالحمل؟

قال العلماء: يحكم ببلوغها بالحمل عن طريق اللزوم؛ لأنه لا حمل بلا إنزال وإذا أنزلت بلغت بإنزالها، ولهذا قال المؤلف:

(1)

أخرجه أحمد (6/ 150)، وأبو داود في الصلاة/ باب المرأة تصلي بغير خمار (641)، والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار (377) وابن ماجه في الطهارة وسننها/ باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار (655) عن عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة (775)، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

ص: 301

«وإن حملت حكم ببلوغها» ولم يقل: وإن حملت بلغت، والحكم بالبلوغ هل هو بالحمل، أو بالإنزال السابق له؟

الجواب: الثاني، بالإنزال السابق له، وعلى هذا فإذا ولدت امرأة ولها اثنتا عشرة سنة، ولم تر الحيض ولم تر إنباتاً، نقول: إنها بالغة بالإنزال السابق للحمل.

قوله: «ولا ينفك قبل شروطه» يعني لا ينفك الحجر على هؤلاء الثلاثة قبل شروطه، فما شرطه في الصغير؟

الجواب: البلوغ والرشد، وفي المجنون العقل والرشد، وفي السفيه الرشد، فلا بد إذن من تمام الشروط، فإذا تمت الشروط انفك، ولا حاجة للحاكم.

‌وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي المَالِ بأنْ يَتصَرَّفَ مِرَاراً فَلَا يُغْبَنُ غَالباً وَلَا يَبْذُلُ مَالَهُ فِي حَرامٍ أَوْ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ حَتَّى يُخْتَبَرَ قَبْلَ بُلُوغِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَوَليُّهُم حَالَ الحَجْرِ الأبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الحَاكِمُ،

قوله: «والرشد الصلاح في المال» الرشد في كل موضع بحسبه كما سبق.

وقوله: «الصلاح في المال» لا في الدين، فلا يشترط صلاح الدين في هذا الباب؛ لأن الكلام في هذا الباب عن التصرف في المال، فإذا كان في الدين غير صالح وفي المال صالحاً فهو رشيد، يدفع إليه المال، قال المؤلف في تفسيره:

«بأن يتصرف مراراً فلا يغبن غالباً» كلمة «مراراً» جمع فلا يدخل فيه المرتان، فإن كان كلما باع أو اشترى غبن، بأن يشتري ما يساوي عشرة بعشرين، ويبيع ما يساوي عشرين بعشرة، فهذا ليس رشيداً، وإذا كان يعطي بلا شيء تبرعاً، فهذا سفيه.

ص: 302

قوله: «ولا يبذل ماله في حرام» كما لو صار ـ والعياذ بالله ـ ينفق ماله في السكر فإنه سفيه.

قوله: «أو في غير فائدة» كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يبذل ماله في غير فائدة، كإنسان يشتري مفرقعات ويفرقعها، أو معه أوراق نقدية فوضع ورقة بيده وطار بها الهواء فأعجبه هذا، فجعل يخرج من الكيس وينصبها في الهواء وتطير فهذا سفيه؛ لأنه بذل ماله في غير فائدة، لكن هل يحجر على من يبذل أمواله في حرام؟

ظاهر كلام المؤلف أنه يحجر عليه؛ لأنه يبذل أمواله فيما يضره، وفي هذا نظر؛ وذلك لأن الناس يعتبرون هذا رشيداً في ماله، ولو كان يشتري به الدخان ويشرب، ويشتري به الخمر ويشرب، ويشتري به المخدرات ويأكلها، لكن لنا أن نحجر عليه من طريق آخر يعني بأن نحبسه ونجلده، وإذا كان يشرب الخمر جلدناه ثلاث مرات وفي الرابعة نقتله إذا لم ينته بغير ذلك، وكذلك في المخدرات يرجع للعقوبة المقررة شرعاً، أما أن نقول: إنه محجور عليه وهو رجل جيد في البيع والشراء، ولكنه يشرب الدخان هذا غير صحيح، فنقول: هذا لا يصح أن يبيع بيته! ولا يصح أن يبيع سيارته! ولا يصح أن يشتري خبزاً لأولاده! فلا نقول بهذا، ولذلك نجد كثيراً من الناس ممن يشرب الدخان فيصرف ماله في حرام، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من القضاة: إن بيعه لبيته، أو سيارته، أو ما أشبه ذلك باطل؛ لأن هذا في الواقع يحسن التصرف في المال، لكنه ضل في دينه، وصار لا يبالي أن يبذله فيما حرم الله عليه.

ص: 303

إذاً الأولى أن نقول: السفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، بأن يغبن ويغر ويخدع، أو يبذله في شيء لا ينتفع به، كما ذكرنا مسألة الذي يُطَيِّرُ الأوراق النقدية، ويتفرج عليها، ومثله لو فرضنا أن رجلاً، ابتلي بشراء المفرقعات، فصار يشتري مفرقعات ويفرقعها، فهذا سفيه لا شك يحجر عليه.

فإذا كان إذا أعطي المال تصدق به كله، فهل هذا رشيد؟ هذا غير رشيد، نعم لو تصدق بالشيء اليسير الذي جرت العادة بمثله فهذا يعتبر رشيداً؛ والدليل على ذلك أن الفقهاء يقولون: إن الصبي لا يصح أن يتبرع بشيء من ماله، لكن يصح أن يوصي بشيء من ماله، وعللوا ذلك أنه إذا أوصى بشيء من ماله، فإنه لا يضره؛ لأنه سوف يدفع بعد موته، بخلاف ما إذا تبرع.

قوله: «ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به» أي: لا يدفع حتى يختبر قبل البلوغ، والمراد بالاختبار هنا الوصول إلى العلم بباطن حاله لأنه من الخبرة، والخبرة هي العلم ببواطن الأمور.

وقوله: «قبل بلوغه» يعني لا بد أن يكون قبل بلوغه، لأجل إذا بلغ فمن حين بلوغه يدفع إليه المال؛ لأن الأصل في بقاء المال في يد الولي التحريم، ولهذا نقدم الاختبار قبل البلوغ من أجل أن ندفع إليه ماله فور بلوغه إذا علمنا رشده، قال الله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ}

} [النساء: 6].

وقوله: «بما يليق به» فإذا كان ولدَ تاجرٍ، فالذي يليق به

ص: 304

البيع والشراء، وإذا كان ولدَ فلاَّحٍ فالذي يليق به إحسان التصرف في الزرع، وإذا كانت امرأة فالذي يليق بها أن تحسن ما يتعلق بشؤون البيت، فيختبر كل إنسان بما يليق به.

وينبغي أن يقال: إنه لا يتعين هذا الذي قاله المؤلف؛ لأنه ربما تكون المرأة جيدة في شؤون البيت، لكنها خرقاء في مسألة المال فهل نقول: هذه رشيدة؟ لا.

فلو قيل: حتى يختبر بما يدل على رشده في ماله لكان أحسن؛ لأننا الآن نتكلم عن المال وليس عن الأعمال.

فيكون الصواب أن يقال: ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه فيما يتعلق بتصرف المال، حتى يعلم به رشده في التصرف في ماله.

قوله: «ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم» تنحصر ولاية هؤلاء في ثلاثة، الأب، والمراد به الأب الأدنى الذي خرجوا من صلبه، ثم وصي الأب، وهو من أوصى إليه بعد الموت في النظر على هؤلاء الأولاد الصغار، ثم الحاكم أي: القاضي.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا ولاية للجد ولو مع فقد الأب، فأبناء الابن يتولى مالَهم والنظرَ فيه، إذا لم يكن لأبيهم وصي يتولاه الحاكمُ، حتى ولو كان الجد حانياً عليهم قد ضمهم إلى أولاده، وهو من أنصح الناس لهم، وأحسن الناس تصرفاً في مالهم، فالمؤلف يقول: إن الجد ليس وليّاً، والأخ

ص: 305

الكبير ليس وليّاً، والعم ليس وليّاً، والأم ليست ولية، فتنتقل الولاية من الأب مباشرة إذا لم يكن وصي إلى الحاكم، وهذا لا شك فيه نظر؛ لأن أولى الناس بهم جدهم، أو أخوهم الكبير، أو عمهم وهم أرفق الناس بهم، فكيف نجعل الولاية لإنسان بعيد؟!

ولكن طريق هذا على المذهب، بأن يذهب الجد إلى الحاكم، ويطلب أن يكون وليّاً عليهم، والحاكم إذا رأى أن هذا أهل للولاية ولاه، حتى الحاكم يتمنى أن يأتي أحد يكفيه مؤونتهم.

هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو المذهب. والقول الثاني في المسألة: أن الولاية تكون لأولى الناس به، ولو كانت الأم إذا كانت رشيدة؛ لأن المقصود حماية هذا الطفل الصغير أو حماية المجنون أو السفيه، فإذا وجد من يقوم بهذه الحماية من أقاربه فهو أولى من غيره، وهذا هو الحق ـ إن شاء الله تعالى ـ وعليه فالجد أو الأب يكون ولياً لأولاد ابنه، والأخ الشقيق ولياً لأخيه الصغير، والأم إذا عدم العصبة تكون ولية لابنها، نعم إذا قدر أن أقاربه ليس فيهم الشفقة والحب والعطف، فحينئذٍ نلجأ إلى الحاكم ليولي من هو أولى.

‌وَلَا يَتَصَرَّفُ لأَِحَدِهِمْ وَلِيُّهُ إِلاَّ بِالأحَظِّ ويتَّجِرُ لَهُ مَجَّاناً وَلَهُ دَفْعُ مَالِهِ مُضَارَبةً بِجُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ وَيَأْكُلُ الوَلِيُّ الفَقِيْرُ مِنْ مَالِ مَوْلِيِّهِ الأقلَّ مِن كفايتِهِ أو أجرتِهِ مَجَّاناً.

قوله: «ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ» ، لقول الله ـ تعالى ـ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152].

ولأن هذا الولي يتصرف لغيره فوجب أن يأخذ بالأحظ، وهذا شامل للولايات الدينية والولايات الدنيوية، فلا يتصرف الولي لغيره إلا بالأحسن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّ أحدكم

ص: 306

الناس فليخفف، وإذا صلى وحده فليطول ما شاء»

(1)

، لأنه إذا كان إماماً فهو ولي وإن كان يصلي وحده فهو أمير نفسه، ومن ثمَّ ـ أيضاً ـ نقول: لا يجوز للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب، ويكره أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يستحب، ولو قيل: بأنه يحرم عليه أن يخالف السنة لكان له وجه، لا سيما إذا علمنا أن المأمومين يودون تطبيق السنة، ـ فمثلاً ـ لو أراد أن يصلي الفجر بقصار المفصل، فالمذهب أن هذا جائز، لكن لو قيل: إنه ليس بجائز؛ لأنه خلاف السنة، لكان له وجه؛ لأن القاعدة أن من يتصرف لغيره فإنه يجب عليه أن يعمل بالأحسن.

وقوله: «بالأحظ» يخرج ما لا حظ فيه إطلاقاً، وما فيه حظ، لكن غيره أحظ منه.

فالأقسام إذن ثلاثة:

الأول: أن يكون فيه حظ، لكن غيره أحظ.

الثاني: ألا يكون فيه حظ إطلاقاً.

الثالث: أن يكون التصرف هو الأحظ.

والذي يجب اتباعه هو الأحظ؛ لما ذكرناه من الآية الكريمة {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152]، ولنضرب لكل واحد مثالاً.

(1)

أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (703)، ومسلم في الصلاة/ باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة (467) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 307

مثال ما لا حظ فيه: اشترى لهم أرضاً، يعلم أنها لن تزيد قيمتها وليس في شرائها فائدة، لكن عرضت عليه واستحيا من الذي عرضها أن يرده، واشتراها لليتيم من مال اليتيم، فهذا ليس فيه حظ وربما يكون فيه خسران.

مثال الأحظ، عرضت عليه سلعتان، إحداهما يؤمل أن تربح عشرين في المائة، والثانية يؤمل أن تربح أربعين في المائة، فيشتري السلعة التي تربح أربعين في المائة.

كذلك ـ أيضاً ـ لو دار الأمر بين أن يتَّجِرَ بمالٍ آفاتُهُ كثيرةٌ، ومالٍ قليل الآفات، فالواجب أن يتَّجر بالمال القليل الآفات.

وهل له أن يتبرع من ماله؟ لا.

وهل له أن يتصدق؟ لا؛ لأن هذا ليس فيه حظ للصغير.

وهل له أن يكسوه ثوباً جديداً في العيد؟ له أن يشتري ثوباً بمائتي ريال، وهو يمكن أن يغسل الثوب القديم بعشرين ريالاً، فالشراء أحظ؛ لأنه من مصلحة الصبي أن يفرح مع الناس ويكون عليه ثوب جديد.

وإذا جاء عيد الأضحى هل يشتري من ماله أضحية له، أو لا؟

الجواب: أما في عُرفنا فلا؛ لأن اليتيم لا يهمه سواء ضُحي له أو لا، لكن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر أنه يضحى لليتيم من ماله؛ لأنه هو الذي جرت به العادة، وهذا عندهم فيما سبق أن اليتيم يفتخر إذا ضحى، فيكون هذا من باب الإنفاق عليه

ص: 308

بالمعروف، أما في عهدنا الآن فنرى أن اليتيم لا يهمه أن يضحى له أو لا.

قوله: «ويتجر له مجاناً» يعني أن ولي الصغير والمجنون والسفيه يتجر له، أي: لموليه، مجاناً يعني لا يأخذ شيئاً، فيبيع ويشتري بماله، ولكن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه أمين يتصرف لحظ هذا الذي ولاه الله عليه.

ولكن إذا قال: أنا لن أشغل نفسي بالاتجار له، إلا أن يُجعل لي سهم من الربح كالمضارب؟

فيقال: إذا كان يصده عن أشغاله إذا اتجر له، ويقول: أنا لن أشتغل به عن أشغالي الخاصة إلا إذا كان لي سهم من الربح، فحينئذٍ نقول: لا بد أن ترجع إلى القاضي وهو الذي يفرض لك ما يراه مناسباً، وعلى هذا فقول المؤلف:«يتجر له مجاناً» ، ظاهره مطلقاً سواء شغله عن أشغاله الخاصة أم لا، ولكن ينبغي أن يُقيد بما لم يشغله عن أشغاله الخاصة، ويأبى أن يتجر إلا بسهم، فحينئذٍ نقول: لا بأس، ولكن تُرفع المسألة إلى القاضي ليقرر ما يراه مناسباً.

قوله: «وله» أي: لولي المحجور عليه.

قوله: «دفع ماله» أي: مال المحجور عليه.

قوله: «مضاربة» مأخوذة من الضرب لقوله ـ تعالى ـ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]؛ لأن الغالب أن التجار يسافرون إلى البلاد ويأتون بالأموال ويبيعونها، ويسافرون إلى البلدان بأموالهم ويبيعونها هناك.

ص: 309

ومعنى المضاربة: دفع المال لمن يتجر به بجزء مشاع معلوم من الربح.

فقولنا: «بجزء» لا بكل فلو أعطاه المال وقال: اتجر به ولك جميع ربحه، فليس هذا مضاربة بل هو إحسان وتبرع.

ولو قال: لك من الربح مائة درهم فلا يصح مضاربة؛ لأنه معين فلا بد من جزء مشاع، ولو قال: لك بعض ربحه لا يصح؛ لأنه غير معلوم، ولو قال: خذ هذا واتجر به ولك نصف ربحه يجوز، لكن بشرط أن يرى أن هذا أحسن ما يكون في مال هذا الصبي.

وهذا من سعة الشريعة الإسلامية؛ لأنه يوجد من الناس من عنده مال لكنه لا يحسن التصرف، ومن الناس من هو قادر على التصرف، لكن ليس عنده مال، فيكمل هذا بهذا، بأن يعطي صاحبُ المالِ المالَ لمن يحسن التصرفَ، مضاربة، بجزء من الربح، وهنا يجب على الولي، أن يختار أقل العروض في الربح، إذا تساووا في الحذق والأمانة.

فمثلاً: عرض عشرة آلاف وقال: أريد أن أجعلها مضاربة، تقدم إليه رجلان أحدهما قال: يكفيني السدس من الربح، والثاني قال: لا يكفيني إلا الربع، فنعطي الذي طلب السدس، لكن بشرط أن يتساوى الشخصان في الأمانة والحذق، فإن كان من طلب الربع أقوى أمانة وأشد حذقاً، فإنه يقدم؛ لأن هذا أقرب إلى أن يحصل على ربح كثير، وإن كان الله تعالى قد يسوق الربح لرجل أبله لا يعرف، لكن الإنسان ليس له إلا الظاهر.

ص: 310

وهل له أن يأخذ هو بنفسه المال مضاربة، يعني يفرض لنفسه سهماً ويتجر؟

الجواب: لا؛ لأنه قال: «ويتجر له مجاناً» ، فإذا قال: أنا أريد أن أتجر بمال المحجور عليه ولي نصف الربح، أو ربع الربح حسب ما يرى في السوق، فإنه ليس له ذلك؛ لأنه متهم، فلا يجوز أن يفعل، لكن كما سبق، إذا كان يقول: أنا لن أتجر إلا بسهم؛ لأنه يصدني عن اتجاري بمالي، نقول: حينئذٍ تُحوَّلُ المسألة إلى القاضي ليفرض له من السهم ما يرى أنه مناسب.

قوله: «بجزء من الربح» جزء مشاع؛ لأنه لا تصح المضاربة مع سهم معين أبداً، فلا بد أن تكون المضاربة بجزء مشاع معلوم كما سبق.

مثاله: إنسان أعطى ماله مضاربة لشخص، وقال: لك ربح شهر المحرم ولي ربح شهر صفر، فهذا معين لا يجوز، ولو قال: لك ربح المال الفلاني كالسكر ـ مثلاً ـ ولي ربح المال الفلاني كالأرز، فهذا لا يجوز؛ لأنه معين، ولو قال: لك من الربح مائة ريال، والباقي لي فلا يجوز ـ أيضاً ـ؛ لأنه معين، فلا بد أن يكون مشاعاً، النصف، الربع، السدس.

ولو قال: خذ هذا المال مضاربة بسهم، فلا يجوز؛ لأنه غير معلوم، فلا بد أن يكون معلوماً.

ولما ذكر المؤلف أن الولي يتجر مجاناً، وأن له أن يعطي غيره المال مضاربة، ذكر مسألة أخرى: هل يجوز للوكيل أن يفرض لنفسه أجرة على النظر في مال المحجور عليه؟

ص: 311

الجواب: لا.

وهل له أن يأكل؟ فيه تفصيل بينه بقوله:

«ويأكل الوليُّ الفقيرُ» وهو الذي ليس عنده ما يكفيه من كسب يده أو غلة أو راتب أو مكافأة، ليس عنده إلا مال هذا اليتيم.

قوله: «من مال موليِّه الأقلَّ من كفايته أو أجرته مجاناً» فإذا قدرنا أن كفايته ألف ريال وأجرته خمسمائة ريال، فنعطيه خمسمائة؛ لأنها الأقل، فإذا قال: هذه ما تكفيني، أنا إلى الآن فقير، نقول: ليس لك إلا الأجرة فقط.

وبالعكس، أجرته ألف ريال وكفايته خمسمائة، فنعطيه خمسمائة، وهذه لا إشكال فيها، الإشكال في المسألة الأولى، إذا كانت الأجرة أقل من الكفاية فإنه سوف يبقى فقيراً، وظاهر الآية الكريمة:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] أنه يأكل بالمعروف، وأنه إذا كانت الأجرة أقل تُكمل له الكفاية وعلى هذا فنقول: يأكل كفايته سواءً كانت بقدر الأجرة أو أقل أو أكثر؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .

فإذا قال هذا الولي: أنا إذا أكلت من مال المحجور عليه، هل يعتبر أكل أغنياء الناس أو أكل فقراء الناس أو أكل متوسطي الناس؟

الجواب: يقول الله عز وجل: {بِالْمَعْرُوفِ} ، وإذا كان بالمعروف فإننا نعرف أن الفقراء لهم أكل، والأغنياء لهم أكل،

ص: 312

والمتوسطين لهم أكل، هذا هو المعروف منذ أن خلقت الدنيا.

جارية لم تأكل المرققا

ولم تذق من البقول الفستقا

لأنها فقيرة، لا تأكل إلا الخبز المكسر اليابس، فلكل مقام مقال، فالذي يظهر أنه يعطى بالمعروف، وإذا كان عديم المال فإنه يعطى كفاية الفقير.

‌ويُقْبَلُ قَولُ الوَلِيِّ والحَاكِمِ بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ فِي النَّفَقَةِ والضَّرورَةِ والغِبْطَةِ والتَّلَفِ وَدَفْعِ المَالِ وَمَا اسْتَدَانَ العَبْدُ لَزِمَ سيِّدَهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلاَّ ففِي رَقَبَتِهِ كاسْتِيدَاعِهِ وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ وقِيمَةِ مُتْلَفِهِ.

قوله: «ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال» هذه مسائل:

أولاً: يقبل قول الولي؛ لأنه مؤتمن، ويقبل قول الحاكم، لكنهم فرقوا في قبول قول الولي وقول الحاكم، بأن الولي يقبل قوله بيمين، والحاكم بلا يمين؛ لأن الحاكم يقول بمقتضى السلطة، فقوله كأنه حكم لا يحتاج إلى يمين، وأما الولي فإنه لا يقبل قوله على أنه محل سلطة ولكن على أنه مدعٍ، ويشترط لقبول قول الولي ألا يخالف العادة، فإن خالف العادة فإنه لا يقبل إلا ببينة.

وقوله: «بعد فك الحجر» لأنه قبل فك الحجر لن يخاصمه أحد، لكن بعد فك الحجر سيخاصمه المحجور عليه.

إذاً يقبل قول الولي بيمينه، والحاكم بغير يمين في هذه الأمور الآتية:

أولاً: «في النفقة» قدرها وأصلها، فإذا فُك الحجر، وقال المحجور عليه: أنا مالي عشرة آلاف، والآن لا يوجد إلا ثمانية آلاف، فأين الباقي؟ فقال الولي: أنفقتها عليك، وقوله محتمل أنه

ص: 313

أنفق في هذه المدة ألفي ريال، فهنا يقبل بيمينه، وكذلك إذا قال: إني أنفقت، وقال المحجور عليه: لم تنفق إطلاقاً، فالذي يقبل قوله هو الولي، والحجة أنه أمين، والأمين يقبل قوله فيما أنفقه على ما ائتمن فيه.

ثانياً وثالثاً: «الضرورة والغبطة» وهذه تتعلق فيما إذا باع عقاره، فإذا كان للمحجور عليه عقار من حيطان أو بيوت، فإنها لا تباع إلا للضرورة أو الغبطة.

الضرورة: ألا يكون للمحجور عليه دراهم إطلاقاً، والمحجور عليه يضطر إلى أكل وشرب فيبيع البستان مثلاً.

الغبطة: أن يُبذل فيه مال كثير أكثر من قيمته المعتادة، فيأتي إنسان يقول: أنا أريد أن أشتري هذا البستان أو هذا البيت بمائة ألف، وهو لا يساوي في السوق، إلا خمسين ألفاً، فهذه غبطة.

فإذا قال قائل: كيف يُبذل فيه مال كثير خارج عن العادة؟ نقول: نعم ربما يكون شخص له جار محتاج إلى هذا البيت ـ مثلاً ـ أو هذا البستان، ولضرورته إليه بذل فيه مالاً كثيراً، فهذا يقبل قوله.

فإذا قال المحجور عليه: لماذا تبيع عقاري؟ قال: بعته لضرورة الإنفاق، قال: أبداً ما عندي ضرورة، فيقبل قول الولي بيمينه.

الغبطة قال له: لماذا تبيع عقاري؟ قال: لأنني أعطيت فيه غبطة مالاً كثيراً، قال: أبداً عقاري في ذلك الوقت يساوي ما بعت به عند عامة الناس، فالقول قول الولي؛ لأنه مؤتمن.

رابعاً: «التلف» لو ادعى الولي أن مال اليتيم تلف، وقال

ص: 314

المحجور عليه: إنه لم يتلف، فإن القول قول الولي؛ لأنه مؤتمن، لكن لو ادعى الولي أنه تلف بأمر ظاهر، لا يخفى على الناس بأن قال: تلف في أمطار أتتنا كثيرة، فيحتاج أولاً إلى إثبات هذا الشيء الظاهر، ثم يقبل قول الولي بأن المال تلف به.

أيضاً لو قال: المال تلف بالحريق الذي شب في بيته، والحريق شيء ظاهر، نقول: أثبت الحريق أولاً، ثم نقبل قولك بأنه تلف به، وهكذا كل أمين إذا ادعى التلف، فإنه يقبل قوله بيمينه ما لم يدعِهِ بأمر ظاهر، فإذا ادعاه بأمر ظاهر كالحريق والغرق والجنود التي احتلت البلاد، وما أشبه ذلك، فلا بد من أن يقيم البينة على وجود هذا الحادث الظاهر، ثم يقبل قوله في التلف، وهذه قاعدة ذكرت في الأبواب السابقة.

خامساً: «دفع المال» لما بلغ الصبي ورشد، قال لوليه: أعطني المال، قال: دفعته إليك، قال: ما دفعت، فلدينا الآن دعوى وإنكار، المنكِر هو المحجور عليه، والمدعي الرد هو الولي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(1)

، على كلام المؤلف يقبل قول الولي في دفع المال، وحينئذ يحتاج إلى إخراجه من الحديث:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه لا يقبل قول الولي في دفع المال إلى المحجور عليه إلا ببينة.

ودليل المؤلف أنه أمين وأنه محسن، وقد قال الله ـ تعالى ـ:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، ولو قلنا: إن قوله لا

(1)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 315

يقبل لكان عليه سبيل، فكيف نضمنه ما دامت ذمته بريئة منه؟ ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله يقبل قوله في الرد ما لم يكن له أجرة، بأن كان فقيراً وأعطيناه أجرة أو نفقة فإنه لا يقبل قوله؛ لأن المال بيده لحظ نفسه، وكل إنسان المال بيده لحظ نفسه، فإنه لا يقبل قوله في الرد.

القول الثاني: أن الولي لا يقبل قوله في الرد؛ لأنه مدعٍ والمحجور عليه منكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .

والدليل الثاني: أن الله ـ تعالى ـ قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فأمر بالإشهاد؛ لأنه لو كان قوله مقبولاً لم يحتج إلى إشهاد، وأنت إذا لم تشهد فقد خالفت أمر الله فتكون بين معتدٍ أو مفرط، والمعتدي أو المفرط ليس بأمين، نقول: لماذا لم تشهد؟ فإن ربك أمرك أن تشهد؛ والتعليل أن الأصل عدم الدفع.

هذه أدلة من يرى أنه لا يقبل قوله في الرد، وكما أسلفنا كثيراً أن من رجح قولاً على قول فلا بد من أمرين:

الأول: بيان دليل الرجحان.

والثاني: والإجابة على أدلة الخصوم.

ولا يكفي أن تذكر أدلتك حتى ترد على أدلة خصومك، فأجابوا عن قوله ـ تعالى ـ:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} بأن هذا الرجل لم يحسن؛ لأنه فرط، حيث لم يشهد، ولماذا لم يشهد؟!

ولو قال قائل: أنا أريد أن أتوسط بين القولين فإذا كان

ص: 316

الولي معروفاً بالورع والتقوى والصدق، فالقول قوله، وإن كان الأمر بالعكس فلا يقبل قوله، مع أننا لا نقبل قوله إلا بيمين، لو قال قائل بهذا القول الوسط، لكان وسطاً، ولأخذ بقول بعض هؤلاء وقول بعض هؤلاء، ودائماً العلماء يسلكون هذا المسلك إذا اختلف الناس على قولين، جاء إنسان بقول ثالث يأخذ بأحد القولين في حال، وبأحد القولين في حال أخرى، ومن ذلك ـ تقعيداً للقاعدة ـ أن العلماء اختلفوا في وجوب الوتر، فمنهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه ليس بواجب، ونحن نذكر الخلاف بقطع النظر عن الدليل، وإلا فالدليل يدل على أنه ليس بواجب، لكن من العلماء من قال: يجب على من له ورد من الليل دون من ليس له ورد، يعني من كان من عادته أن يقوم ويتهجد وجب عليه أن يوتر، ومن لا فلا، وهذا القول أخذ بقول البعض في حال والبعض في حال أخرى، ولهذا يقول قائله: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً، وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولا يعد هذا خروجاً عن الإجماع، ولكنه جعله بدلاً من أن يقول: واجب بكل حال، إنه واجب في حال دون حال.

قوله: «وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له» ما استدان العبد من قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك، فإن كان بإذن سيده، لزم السيد بأن قال له سيده: اذهب إلى فلان، واستقرض منه ألف ريال ـ مثلاً ـ فذهب واستقرض فهنا يلزم سيده؛ لأنه استدان بإذنه، وسواء استدان بإذنه لمصلحة السيد، أو لمصلحة العبد، فقد يأتي العبد ويقول: أنا أريد أن أتزوج وأحتاج إلى ألف ريال

ص: 317

أو أكثر أو أقل، فيقول: اذهب إلى فلان واستدن منه، فيلزم السيد، وقد يكون السيد عليه حاجة، فيقول: اذهب يا فلان إلى الرجل الفلاني واستقرض منه كذا وكذا، فالمهم أن ما استدانه لسيده فهو على سيده.

قوله: «وإلا» يعني وإلا يأذن له.

قوله: «ففي رقبته» أي: يتعلق برقبة العبد، والفرق بين تعلقه برقبة العبد وتعلقه بذمة السيد، أنه إذا تعلق بذمة السيد لزمه وفاؤه مهما بلغ، حتى لو كان أكثر من قيمة العبد عشر مرات.

أما إذا تعلق برقبة العبد، فإنه يخير السيد بين أمور ثلاثة، إما أن يبيعه ويعطي ثمنه من استدان منه العبد، وإما أن يسلمه لمن استدان منه عوضاً عن الدين، وإما أن يفديه السيد بما استدان.

مثال ذلك: استدان العبد ألف ريال بغير إذن سيده، فإنه يتعلق برقبته، فنقول للسيد: أنت مخير إن شئت أعطِ صاحب الدين العبد، وقل: لك العبد بالدين الذي استدانه منك، أو يبيع العبد ويأخذ قيمته ويعطيها صاحب الدين، أو يفديه بقدر ديْنِهِ، فيقول: الدين كذا وكذا وأنا لا أريد أن أبيع العبد، ولا أريد أن أعطيك إياه، ولكن هذا دينك الذي ديَّنته، أيهما الذي يختار؟ سوف يختار السيد الأقل؛ لأنه من مصلحته، والفرق بين كونه يبيعه ويسلم ثمنه لصاحب الدين، وبين أنه يسلمه إلى صاحب الدين، أنه قد يلاحظ مصلحة العبد.

فإذا قال صاحب الدين: أنت الآن لك الخيار بين أن تعطيني إياه أو تبيعه، أو تفديه، ويكون عندك العبد، لكن ما دمت

ص: 318

ستخرج العبد عن ملكك فأنا أريده؛ لأنه الذي استدان مني، فقال سيد العبد: أنا أريد أن أبيعه وأعطيك ثمنه، فالآن عندنا نزاع بين السيد وصاحب الدين.

فالقول قول السيد، ولكن قد يقول قائل: لماذا ينازع السيد في هذا أليس كله سواء؛ لأنه سيخرج من ملكه؟

قلنا: قد يرى السيد أن صاحب الدين ليس أهلاً أن يكون عنده هذا العبد، إما لسوء أخلاقه، وإما لاتهامه في أخلاقه، أو لغير ذلك، فهذا العبد غال عنده، ولا يحب أن يملكه صاحب الدين؛ لأن صاحب الدين سيئ المعاملة أو رجل سفلة، أخشى على العبد منه خصوصاً، إذا كان العبد شابّاً ـ مثلاً ـ فأنا أريد أن أبيعه وأعطيه الثمن.

ولو قال من له الدين: قد دينته عشرة آلاف، وإذا بعته لا يساوي إلا خمسة آلاف ريال فيكون عليّ نقص.

نقول: أنت المفرط ولو حصل عليك النقص، لماذا تعطيه ديناً يبلغ عشرة آلاف وأنت تعرف أنه عبد؟ لماذا لم تمتنع حتى تستأذن السيد؟

وهذا التخيير الذي يكون للسيد تخيير تَشَهٍّ، فالتخيير يكون تخيير مصلحة إذا كان الإنسان يتصرف لغيره، أما إذا تصرف لنفسه فهو تخيير تشهٍّ، لكن في هاتين المسألتين، أي: بيعه، أو تسليمه لصاحب الدين، يجب أن نقول: إن التخيير هنا تخيير مصلحة، ينظر فيه إلى مصلحة العبد.

ص: 319

قوله: «كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلَفه» هذه ثلاث مسائل:

الأولى: «استيداعه» يعني أن يأخذ وديعة فيتلفها فيتعلق برقبته.

الثانية: «وأرش جنايته» أي: قيمة الجناية، يعني إذا جنى على أحد فإنه يخير سيده بما ذكرنا.

الثالثة: «قيمة متلفه» أي قيمة ما أتلف فإنه يتعلق برقبته، فعندنا الآن أربع مسائل: إذا استدان بغير إذن السيد، أو استودع، أو جنى، أو أتلف، كل هذه تتعلق برقبته، وكل شيء يتعلق برقبته فإن سيده يخير بين الأمور الثلاثة:

الأول: أن يعطيه صاحب الحق ويقول: هو لك بدينك أو بجنايتك أو قيمة متلفك.

الثاني: أن يبيعه ويعطي صاحب الحق قيمة العبد.

الثالث: أن يفديه ويبقى العبد عنده.

ص: 320

‌باب الوكالة

قوله: «باب الوكالة» يقال: وَكالة ووِكالة، كوَلاية، ووِلاية، وهي في اللغة التفويض، ومنه قوله ـ تعالى ـ:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 132]، أي كفى به مُفَوضاً إليه الأمور، يقال: وكلت الأمر إليه، أي: فوضته إليه.

وهي في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.

جائز التصرف هو الحر البالغ العاقل الرشيد، من جمع أربعة أوصاف، يستنيب ـ أي: جائز التصرف ـ مثله فيما تدخله النيابة.

وقولنا: «فيما تدخله النيابة» احترازاً مما لا تدخله النيابة، فلو وكل إنساناً أن يتوضأ عنه، فقال: وكلتك أن تتوضأ عني، وأنا أصلي فهذا لا يجوز؛ لأنه لا تدخله النيابة، ولو وكله أن يصوم عنه كأن يكون عليه قضاء من رمضان، فقال: وكلتك أن تقضي عني؛ فهذا لا يصح فلا بد أن تدخله النيابة.

وحكمها التكليفي أنها جائزة بالنسبة للموكل، سنة بالنسبة للوكيل؛ لما فيها من الإحسان إلى أخيه وقضاء حاجته، أما بالنسبة للموكل فهي جائزة؛ لأنها من التصرف الذي أباحه الله، ويدل على جوازها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما كتاب الله فقد قال الله ـ تعالى ـ عن أصحاب الكهف

ص: 321

لما استيقظوا من نومهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]، فهذا توكيل، وكَّلوا واحداً منهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي بطعام، ويكون في ذهابه متلطفاً يعني مستتراً ما أمكنه، ولا يخبر عنهم؛ لأنهم قالوا:{لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، وكانوا قد أووا إلى الغار خوفاً من ظلم رجل مشرك هربوا منه، لكن تغيرت الأحوال؛ لأنهم بقوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهم أوصوه بهذه الوصايا بناء على بقاء الملك الأول.

وقال الله ـ تعالى ـ عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، وهذه وكالة، ووكل سليمان عليه الصلاة والسلام الهدهد فقال:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28].

أما من السنة: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وكل في العبادات، ووكل في المعاملات، فوكل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:«أن ينحر ما تبقى من هديه وأن يقسم لحومها وجلودها»

(1)

، ووكل رجلاً في أن يشتري له أضحية بدينار فاشترى الرجل اثنتين بدينار، وباع واحدة بدينار، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«بارك الله لك في بيعك» ، فكان لا يبيع شيئاً أو يشتريه إلا ربح فيه، حتى ولو

(1)

أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 322

كان تراباً

(1)

؛ ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك ـ أيضاً ـ النظر يدل على جواز الوكالة؛ لأنها من مصلحة العباد فكم من إنسان لا يستطيع أن يعمل أعماله بنفسه، فمن رحمة الله عز وجل وحكمته أن أباح لهم الوكالة، فإذا كان ـ مثلاً ـ مشتغلاً بطلب العلم أو بغير ذلك من الأعمال، وهو يريد أن يشتري لأهله خبزاً ولا يستطيع أن يترك عمله ليشتري الخبز فإنه يوكل، إذاً المصلحة تقتضي أن تكون الوكالة جائزة، هذا من حيث الشرع، إذاً دل عليها الكتاب والسنة والنظر الصحيح.

أما حكمها الوضعي فيقول رحمه الله:

‌تَصِحُّ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلى الإِذْنِ وَيَصِحُّ القَبُولُ عَلَى الفَوْرِ والتَّراخِي بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ ومَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي شيءٍ فَلَهُ التَّوْكِيلُ والتوكُّلُ فِيهِ ........

«تصح بكل قول يدل على الإذن» الصحة والفساد والبطلان والسبب والشرط والمانع، كل هذه أحكام وضعية، فتصح الوكالة بكل قول يدل على الإذن، فلو قال رجل: يا فلان خذ هذه السيارة بعها ـ مثلاً ـ فإن الوكالة تصح، وإن لم يقل وكلتك في بيعها؛ لأن قوله:«خذها بعها» يدل على هذا، وإن لم يكن فيه لفظ الوكالة.

فالإيجاب وهو اللفظ الصادر من الموكل وهو التوكيل، لا بد فيه من قول وليس له صيغة معينة شرعاً، وفي هذا الباب نص الفقهاء على أن العقود تنعقد بما دل عليها، وهذا هو القول الراجح المتعين.

أما القبول فهو أوسع، فيصح بكل قول أو فعل يدل عليه.

(1)

أخرجه البخاري في المناقب/ باب (3642) عن عروة بن الجعد رضي الله عنه.

ص: 323

وهل يصح التوكيل بالفعل؟ وهل يصح بالكتابة؟

الجواب: ظاهر كلام المؤلف لا، والصحيح أنه يصح التوكيل بالفعل، ويصح التوكيل بالكتابة، فلو كتب إلى آخر وقال: وكلتك في بيع بيتي، وهو في بلد آخر صح ولا مانع، ولو كان إنسان معروف بأنه يبيع الأطعمة، فجاء إنسان بكيس من الطعام من مزرعته، ووضعه في دكان هذا الذي يبيع، فإن هذا يكون توكيلاً لكن بالفعل، ما دام أنه قد عرف أن هذا الرجل قد أعد نفسه للبيع، وأتى إليه بشيء ووضعه في مكان المبيعات، فهذا يعني أنه وكله في بيعه، وهذه وكالة بالفعل، فلا يقول قائل: ربما وضع الكيس على أنه وديعة، أو على أنه هدية، أو ما أشبه ذلك، فهذا فيه احتمال، لكن ظاهر الحال أنه وضعه للبيع.

إذاً القول الراجح أن الوكالة تصح بالقول والكتابة والفعل، وتصح مطلقة ومقيدة، ومؤقتة ومؤبدة، فالمهم أن الوكالة من أوسع الأبواب.

قوله: «ويصح القبول على الفور والتراخي» يعني قبول الوكالة على الفور والتراخي، القبول هو اللفظ الصادر من الوكيل.

فيصح أن يقبل الوكالة على الفور، بمعنى أنه من حين أن يقول له الموكل: وكلتك في بيع بيتي، قال: أعطني المفتاح لأبيع.

وعلى التراخي بأن يقول: وكلتك، ثم يسكت وبعد ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين يقول: قبلت، أو يبيع البيت ـ مثلاً ـ

ص: 324

فهذا يصح، لكن لو وكله وقال: لا أستطيع أنا مشغول، ثم ذهب الموكل، وبعد ذلك ندم الوكيل وقال: كيف أرده؟! ثم قَبِل وتصرف، فلا يصح؛ لأنه ردها، وإذا ردها معناه بطل الإيجاب الأول الصادر من الموكل، فلا بد من توكيل آخر.

قوله: «بكل قول أو فعل دال عليه» كأن يقول: قبلت وأبشر، ولو أخذ السلعة من الذي قال له: وكلتك في بيع هذه، ولم ينطق بكلمة ثم باعها فيصح، وهذا قبول بالفعل.

هذه القاعدة في العقود ليست مطردة عند الفقهاء رحمهم الله فإن بعض العقود يشددون فيها، ولكن الصحيح أن العقود كلها بابها واحد، وأن كل عقد يصح بكل قول أو فعل يدل عليه، وأما ما شدد فيه بعض الفقهاء رحمهم الله في بعض العقود فلا دليل عليه، فالأصل أن هذا يرجع إلى العرف، فما عرفه الناس عقداً فهو عقد، ولو كان بقول أو فعل.

إلا أنه يستثنى من هذا ما لا بد من الإشهاد عليه، فهذا لا بد أن يكون بقول واضح مثل النكاح، فلو أن رجلاً قال لشخص: زوجتك بنتي هذه، فأخذ البنت ومشى، فإن النكاح لا ينعقد؛ لأن هذا يحتاج إلى إشهاد، ومجرد الفعل لا يدل على القبول.

ولو قال: وهبتك هذه الساعة، فأخذها وسكت، فهذا قبول.

إذاً الوكالة ليس لها صيغة معينة، بل تنعقد بكل قول أو فعل يدل عليها، وقلنا: إن هذا ينبغي أن يكون عامّاً لجميع العقود.

ص: 325

قوله: «ومن له التصرف في شيء فله التوكيل، والتوكل فيه» «من» موصولة وليست شرطية؛ لأنها لا تدخل إلا على الفعل، فإذا قلنا: إنها شرطية، نحتاج إلى تقدير فعل الشرط، وإذا قلنا: موصولة، لا نحتاج إلى تقدير، وإذا دار الأمر بين التقدير وعدمه، فالأصل عدمه، وأما الفاء في قوله:«فله» فقد سبق مراراً أن الاسم الموصول يجوز أن يقترن خبره بالفاء؛ لأنه يشبه الشرط في العموم.

هذه قاعدة: فكل من له التصرف في شيء فله أن يوكل وله أن يتوكل، ومن ليس له التصرف فيه فليس له أن يوكل، وليس له أن يتوكل.

مثال ذلك: رجل بالغ عاقل حر رشيد، وكّل مثله في شراء سيارة ـ مثلاً ـ فهذا جائز؛ لأن من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه.

ومفهومه أن من ليس له التصرف في شيء فليس له أن يوكل فيه، فلو أن صبيّاً لم يبلغ قال لشخص: وكلتك في بيع بيتي فلا يصح؛ لأنه هو نفسه لا يصح له التصرف فيه فلا يصح أن يوكل.

ولو كان الأمر بالعكس، رجل بالغ عاقل حر رشيد وكل صبياً في بيع بيته فلا يصح أيضاً؛ لأن الوكيل لا يتصرف في مثل هذا التصرف، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

يستثنى من ذلك توكيل الأعمى بصيراً فيما يشترط لصحة

ص: 326

بيعه الرؤية، فالأعمى إذا اشترى شيئاً لا يصح شراؤه إلا برؤية لا يصح منه؛ لأنه مجهول له، وكذلك رجل لا يشم يريد أن يشتري طيباً فيجوز أن يوكل شخصاً يشم، فهذا مستثنى من قوله:«ومن له التصرف في شيء فله التوكيل» فيستثنى من ذلك ما يشترط لعلمه الرؤية، فإن الأعمى يجوز أن يوكل فيه بصيراً ليشتري له، وما يشترط لصحة بيعه الشم فإن للذي لا يشم أن يوكل فيه، وما يشترط لصحة بيعه العلم به وهو لا يعلم بهذه الأشياء، لكن وكل شخصاً في ذلك فإنه جائز.

وإذا وكل شخص شخصاً أن يعقد له النكاح، قال: وكلتك أن تقبل النكاح لي من فلان، وهذا الوكيل بالغ عاقل حر رشيد فيصح؛ لأن الوكالة في عقد النكاح جائزة.

وقوله: «والتوكل فيه» أي: من له التصرف في شيء فله التوكل فيه، فمن ليس له أن يتصرف في شيء فليس له أن يتوكل فيه، ولكن يستثنى من هذا أشياء، فمثلاً: فقير وكَّل غنياً في قبض الزكاة له فإنه يجوز، فجاز أن يتصرف لغيره بالوكالة، ولا يجوز أن يتصرف لنفسه.

مثال آخر: امرأة لا يجوز أن تطلِّق نفسها، فوكلها زوجها في طلاق نفسها يجوز؛ لأن هذا لمعنى يتعلق بالزوج، والزوج قد أذن فيه.

فحقوق الآدميين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يصح التوكيل فيه مطلقاً، وقسم لا يصح مطلقاً، وقسم يصح عند العذر.

‌وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي كُلِّ حقِّ آدَمِيٍّ مِنَ العُقُودِ والفُسُوخِ والعِتْقِ، والطَّلاقِ، والرَّجْعَةِ،

قوله: «ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود» هذا هو

ص: 327

القسم الذي يصح مطلقاً، أي: سواء كانت عقود تبرعات أو معاوضات أو أنكحة أو توثيقات، أو غير ذلك، فحق الآدمي من العقود يبدأ بالبيع، فيجوز أن يوكل في بيع أو شراء، وكذا الإجارة، فيجوز أن يوكل شخصاً يستأجر له بيتاً، أو يؤجر بيته، وكذا الرهن فيصح أن يوكل شخصاً أن يرتهن له شيئاً أو يرهن له شيئاً، والوقف فيصح أن يقول: وكلتك أن توقف بيتي الفلاني وتثبته عند المحكمة.

قوله: «والفسوخ» وتَرِدُ على كل عقد.

مثاله: إنسان اشترى شيئاً معيباً، ووكل إنساناً أن يفسخ البيع مع البائع، وقال: أنا اشتريت السيارة الفلانية من فلان ووجدت فيها عيباً وأنا لن أنازعه؛ لأنه رجل صاحب قوة وبيان، وقد وكلتك أن تفسخ البيع معه، فهذا جائز.

وَكَّلَ زوج رجلاً أن يخالع زوجته، والمخالعة الفراق على عوض؛ لأن الطلاق على عوض شيء، والخلع شيء آخر، فالطلاق على عوض يحسب من الطلاق على المذهب، فلو كانت هذه آخر طلقة على عوض حرمت عليه، لكن إذا كان خلعاً وقد طلق قبل ذلك مرتين فإنها لا تحرم عليه؛ لأن الخلع فسخ وليس طلاقاً.

فإذا وكل إنساناً في مخالعة زوجته فهذا جائز، لكن لا بد من أن يذكر مقدار العوض؛ لأنه ربما يوكله في خلع زوجته، ثم تكون غالية في قلب الزوج، ولا يمكن أن يخلعها بأقل من عشرة آلاف، فيأتي هذا الوكيل ويخلعها بألف ريال فلا بد من التعيين.

ص: 328

ويجوز التوكيل في الإقالة، وهي فسخ عقد البيع أو الإجارة أو غيره، مثاله: اشتريت من فلان سيارة ثم لم تعجبني السيارة، فرجعت إليه وقلت: أريد أن تقيلني البيع، فقال: نعم، فلو وكلت إنساناً في الإقالة يجوز سواء من البائع أو من المشتري، وهذا نسميه فسخاً، والفرق بين العقد والفسخ، أن العقد إيجاد العقد، والفسخ إزالة العقد.

قوله: «والعتق» فيصح أن يوكل شخصاً في إعتاق عبده؛ لأن هذا يصح التوكيل في عقده، فصح التوكيل في عتقه والتخلي عنه.

قوله: «والطلاق» أن يوكل فيه فيقول: يا فلان وكلتك أن تطلق زوجتي، وتكون الفائدة ـ مثلاً ـ أنه يثبت طلاقها عند المحكمة.

ويصح أن يوكل زوجته في طلاق نفسها؛ لأن من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه، وهل للزوجة أن تتصرف في الطلاق وتطلق زوجها؟!

الجواب: لا، لكن هذه مستثناة، فيجوز أن يوكل زوجته في طلاق نفسها.

ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّر نساءه بين أن يردن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو يردن الحياة الدنيا

(1)

، وهذا مثل الطلاق فتكون هذه المسألة مستثناة، وتقول: طلقت نفسي من موكلي فلان.

(1)

أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} (4786)؛ ومسلم في الطلاق/ باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلاّ بالنية (1475) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 329

قوله: «والرجعة» يصح التوكيل فيها، بأن يقول لشخص حين طلق زوجته: وكلتك في مراجعتها.

فإذا قال قائل: لماذا يوكل في مراجعتها، لماذا لم يراجع هو بنفسه؟

نقول: قد يكون غائباً ويقول للوكيل: راقبها لا تنقضي عدتها حتى تراجعها، الزوج لا يريد أن يراجعها بنفسه، بل ربما يريد أن يهينها بعض الشيء حتى تستقيم، وربما لا يخبرها بأنه راجعها حتى تستقيم أيضاً، ويجوز أن يوكل أبا الزوجة في رجعتها، فيقول: وكلتك في مراجعة ابنتك، لكن لو خاف ألاّ يراجع، إذا كان أبو الزوجة لا يحب أن يرجع الزوج لزوجته، ففي هذه الحال يجب أن يحتاط لنفسه وألا يوكله؛ لئلا يفوت عليه الرجعة.

‌وتَمَلُّكِ المُباحَاتِ مِنَ الصَّيْدِ والحَشِيشِ وَنَحْوِهِ لا الظِّهَارِ واللِّعَانِ والأَيْمَانِ وَفِي كُلِّ حقٍّ تَدْخُلُه النِّيابَةُ مِنَ العِباداتِ والحُدُودِ في إثبَاتِها واستِيفَائِها

قوله: «وتملك المباحات من الصيد» «المباحات» أي: التي لم تكن على ملك الغير، فالمباح هو الذي حصل من غير فعل آدمي، مثل الكلأ أو الصيد، يعني له أن يوكله في تملك المباحات، فيقول: وكلتك أن تصيد لي طيراً وأرنباً وغزالاً، فيقول: قبلت، ويأخذ البندقية ويذهب ويصيد، فعلى كلام المؤلف يجوز؛ لأن هذا فعل مباح اسْتَنَبْتُ فيه غيري فجاز.

والقول الثاني: أنه لا يجوز التوكيل في تملك المباحات؛ لأن الموكِّل حين التوكيل لا يملكها، فلا يملك التصرف فيها، وبناءً على هذا القول، لو أن الوكيل تصرف وأتى بالصيد فيكون للوكيل؛ لأن الوكالة لم تصح، وإذا أراد الوكيل أن يعطيه الموكل

ص: 330

يكون هبة؛ لأنه حين صاده صار في ملكه، فإذا أعطاه الموكل فهو هبة، وليس عن طريق الوكالة.

وقوله: «والحشيش» فإذا وكله فقال: يا فلان وكلتك أن تحش لي هذه المنطقة، فحشَّها، فالمؤلف يرى أنه يصح، وأنه إذا حشَّها فإنها تكون على ملك الموكل.

ويجب على الإنسان أن يبين ما يريد من الألفاظ المشتركة، فالآن الحشيش مشترك بين ما تنبته الأرض كما في الحديث:«لا يحش حشيشها»

(1)

، وبين ما يستعمل في التخدير، فيجب في مثل هذه المسائل المشتركة لا سيما إذا كان يتبادر إلى أذهان العامة الشيء المحرم، أن تبين الأمور وتوضح حتى يكون الإنسان على بصيرة، فقول المؤلف رحمه الله «والحشيش» ، أي: ما تنبته الأرض.

قوله: «ونحوه» أي: من الأشياء المباحة كأخذ الكمأة، فإنها لا تعد من الحشيش؛ ولهذا يجوز أن يستخرج الإنسان الكمأة ولو في أرض مكة؛ لأنها ليست من الحشيش.

قوله: «لا الظهار واللعان والأيمان» فهذه لا يجوز فيها الوكالة؛ لأنها متعلقة بالفاعل نفسه، فلو وكل شخصاً في الظهار من امرأته وذهب الرجل إلى المرأة، وقال لها: أنت على زوجك كظهر أمه عليه، فهنا لا يثبت الظهار؛ لأن هذا عقد يتعلق بالفاعل نفسه فلا يصح، أما إذا وكله في الطلاق فإنه يصح؛ لأنه فسخ،

(1)

أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349)، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 331

ولذلك لو فرضنا أنه صح التوكيل في الظهار، وأراد الزوج الرجوع، فالزوج هو الذي يتحمل الكفارة، وإذا كانت الكفارة تتعلق بالموكِّل فإنه لا يصح التوكيل فيه.

وقوله: «واللعان» ـ أيضاً ـ لا يصح التوكيل فيه، وهو مشتق من الملاعنة، وهي أيمانٌ مؤكدة بشهادات سببها ما يكون بين الزوج وزوجته إذا رماها بالزنا ـ والعياذ بالله ـ فقال: إن امرأته زنت فهذا له حالات ثلاث:

أولاً: إن أقرت الزوجة بذلك ارتفعت عنه العقوبة، ووجبت العقوبة على الزوجة.

ثانياً: إن أنكرت وأتى ببينة ارتفعت عنه العقوبة، ووجب الحد على الزوجة.

ثالثاً: إن أنكرت ولم يجد بينة فحينئذٍ نجري اللعان، فيشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ويقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فإن ردت عليه اللعان فله حكمه، وإن لم ترد اللعان فهل يثبت عليها الحد أو لا؟

من العلماء من يقول: إن الزوج إذا لاعن ثم نكلت الزوجة وجب عليها الحد.

ومنهم من يقول: إذا لاعن الزوج ونكلت الزوجة، فإنها تحبس حتى تقر أو تلاعن أو تموت.

والقول الأول هو الصحيح، وهو المتعين؛ لأنه يكون كإقامة البينة، فقول الله ـ تعالى ـ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *} [النور]، فالعذاب يعني الحد،

ص: 332

وليس الرجم، بدليل أن الله تعالى قال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *} [النور]، فسمى الله الحد عذاباً، فإن لم تشهد وجب الحد عليها.

فإذا أراد الزوج أن يلاعن الزوجة؛ لإثبات ما ادعاه عليها، ولكنه أراد أن يوكل من يلاعن عنه، فهذا لا يقبل؛ لأن اللعان يتعلق بالزوج نفسه، إذ أنه إذا لم يلاعن وجب عليه حد القذف، وإن لاعن ونكلت هي وجب عليها حد الزنا، فالوكيل لا يجوز أن يقول:«وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» ، وهو ـ أيضاً ـ لم يقذف، وكذلك المرأة لا توكل من يلاعن عنها.

وقوله: «والأيمان» لا تدخل فيها النيابة فلا تصح فيها الوكالة، فلو أن شخصاً ادعى على زيد بمائة ريال وليس عنده بينة، فالحكم أن يحلف زيد المدعى عليه يميناً بأنه لا حق لفلان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«واليمين على من أنكر»

(1)

، فلما توجهت اليمين على المنكر، قال: أُوكِّلُ فلاناً يحلف عني، فهذا لا يصح؛ لأن هذه مما تتعلق بالإنسان نفسه، وهو الذي يكون آثماً أو بارّاً، فلا يصح فيها الوكالة.

ولو أن يهودياً عليه جزية، وكان موعد أخذ الجزية منه يوم الاثنين، فقال اليهودي لخادمه: اذهب أعطِ المسلمين الجزية، فذهب الخادم وأعطى الجزية، فلا يصح التوكيل؛ لأن هذا يتعلق بالإنسان نفسه، لقول الله ـ تعالى ـ في صفة أخذ الجزية: {حَتَّى

(1)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 333

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، ولهذا إذا جاء بها لا بد أن يسلمها «عن يد» يعني من يده، أو «عن يد» أي: عن قوةٍ مِنَّا عليه، وهو ـ أيضاً ـ صاغر، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيد للمسلمين هذا المجد الذي فقدوه بفقدهم كثيراً من دينهم.

قوله: «وفي كل حق تدخله النيابة من العبادات» أي: وتصح الوكالة في كل حق لله تدخله النيابة.

حق الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يدخله التوكيل مطلقاً، وقسم لا يدخله مطلقاً، وقسم فيه تفصيل.

القسم الأول: كل العبادات المالية تدخلها النيابة، كتفريق زكاة وصدقة وكفارة.

القسم الثاني: العبادات البدنية لا تصح فيها الوكالة، مثل الصلاة والصيام والوضوء والتيمم وما أشبهها، فهذه عبادة بدنية تتعلق ببدن الإنسان فلا يمكن أن تدخلها النيابة، ولكن لو وكلت شخصاً يستفتي عني فهذا لا بأس به؛ لأن هذا نقل علم يقصد به الإخبار فقط؛ ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يوكل بعضهم بعضاً في استفتاء النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، فإن قيل: يرد على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»

(2)

، فهذا يدل على أن العبادة البدنية يكون فيها نيابة، فالجواب: أن هذا

(1)

من ذلك توكيل علي المقداد رضي الله عنهما ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم المذي، أخرجه البخاري في العلم/ باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132)، ومسلم في الطهارة/ باب المذي (303) عن علي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الصوم/ باب من مات وعليه صوم (1952)، ومسلم في الصيام/ باب قضاء الصوم عن الميت (1147) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 334

ليس عن طريق التوكيل، ولكن هذا تشريع من النبي عليه الصلاة والسلام فهو في الحقيقة أصيل وليس بوكيل، ولهذا يصوم الإنسان عن ميته سواء أوصى به أم لم يوصِ به، فالمسألة هنا ليست من باب الوكالة، لكنها من باب القيام مقام الشخص بأمرٍ من الشرع.

القسم الثالث من العبادات: هو الذي يصح فيه التوكيل على التفصيل، مثل الحج، فيجوز فيه التوكيل في الفرض للذي لا يستطيع أن يحج، أي أنه عاجز عن الحج عجزاً مستمراً، وسيأتي تفصيل ذلك.

المهم أن الأصل في حقوق الله أنه لا يجوز فيها الوكالة؛ لأن حقوق الله المقصود بها إقامة التعبد لله عز وجل وهذه لا تصح إلا من الإنسان نفسه؛ لأنك لو وكلت غيرك، فهل بفعله تحس بأن إيمانك زاد به؟ الجواب: لا؛ ولذلك كان الأصل في حقوق الله ألاّ تصح الوكالة فيها، هذا هو الضابط؛ وذلك لأن المقصود بها التعبد لله، وهذا لا يصح فيما إذا قام به غير المكلف، إذاً لا نجيز الوكالة في شيء من العبادات إلا فيما ورد فيه الشرع، هذا هو الأصل، ولننظر:

أولاً: الصلاة هل ورد التوكيل فيها؟

الجواب: لا، لا فرضها ولا نفلها.

هل ورد قضاؤها عمَّن مات وعليه صلاة؟

الجواب: لا، لم يرد، لا في الفرض ولا في النفل.

إذاً الصلاة لا تصح الوكالة فيها في حالة العجز، ولا

ص: 335

في حال القدرة، ولا في الفرض، ولا في النفل.

ثانياً: الزكاة هل تصح الوكالة فيها؟

الجواب: نعم، تصح الوكالة فيها للعاجز والقادر، يعني يصح أن يوكل القادر شخصاً يؤدي زكاته إلى الفقراء، حتى لو قال: خذ زكاتي من مالي وهو لا يعلم عنها، بأن قال له: أحصِ مالي وخذ زكاته وتصدق بها على الفقراء، فإن ذلك جائز. والوكالة في الزكاة لها صورتان:

الصورة الأولى: أن يحصي الإنسان ماله ويعرف زكاته، ويأخذها ثم يسلمها إلى الوكيل، وهذا لا إشكال فيه، والثمرة التي تحصل بأداء الزكاة تحصل في هذه الحال؛ لأن الإنسان يشعر الآن بأنه أخرج من محبوباته ما يكره أن يخرج منها، لكن الله يحب ذلك فأخرجها لله.

الصورة الثانية: أن يوكل شخصاً في إحصاء ماله ويقول: أحصِ مالي وأخرج زكاته، وهذا لا شك أنه لا يكون في قلبه، ما كان في قلب الأول؛ لأنه لا يحس بأنه أخرج شيئاً معيناً تتعلق به النفس من ماله المحبوب إليه، لكن مع ذلك تصح الوكالة، وهذا ثابت بالسنة، وإذا ثبت بالسنة فهي الفاصل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوكل في إخراج الزكاة، ويوكل في حفظها، ويوكل في قبضها صلى الله عليه وسلم.

وإذا صحت الوكالة في الزكاة فلا فرق بين أن يعيِّن المدفوع له أو لا يعين، بأن يقول: ادفع زكاتي لفلان أو يقول: ادفعها لمستحق، لكنه إذا عين الجهة فإن الوكيل لا يصرف الزكاة في

ص: 336

غيرها، إلا بعد مراجعة الموكل، فلو قال: أعطها فلاناً، فلا يمكن أن يصرفها لغيره إلا بإذن موكله؛ لأن الوكيل محدود تصرفه بما وكل فيه، لكن لو فرض أن صاحب المال قال: أعطِ زكاتي فلاناً، وهو يعلم أن فلاناً لا يستحق، لكنه لم يعلم إلا بعد أن فارقه الموكِّل؛ لأن الموكل إذا كان يعلم أنه ليس بأهل سيقول له فوراً: إنه لا يستحق، ويجب عليه أن يقول: بأنه ليس أهلاً؛ لأن بعض العوام المساكين يقولون: لا تقطع رزقه، فإذا قال لك أعط زكاتي فلاناً فأعطه إياها سواء يستحق أو لا، وهذا غلط وخيانة ولا يجوز، فإذا كنت تعلم أنه لا يستحق قل: يا أخي هذا لا يستحق، فإذا قال: أعطها إياه وإن لم يستحق، فإنك تقول: لا؛ لأني لو فعلت لأعنته على الإثم، حيث وضع الزكاة في غير محلها، أما إذا لم أعلم إلا بعد أن فارقني الموكِّل، أي: أعطاني الموكل مائة ريال وقال: خذ هذه زكاة أعطها فلاناً، وبعد أن فارقني عرفت أن فلاناً لا يستحق، فهنا أوقف العطاء حتى أراجعه وأقول: إن فلاناً لا يستحق، فإذا قال: أعطه ولو كان لا يستحق، أقول: لا، لا أعينك على الإثم.

فإن قال: أعطها إياه تطوعاً، فهنا يصح ويعطيها إياه.

إذاً الزكاة يجوز التوكيل في قبضها وإخراجها للعاجز والقادر؛ لأن السنة وردت به؛ ولأنها في الحقيقة يتعلق بها حق ثالث، وهو المستحق، فمتى وصلت إلى مستحقها من أي جهة كانت فهي في محلها.

ثالثاً: الصوم هل يجوز أن يوكل أحداً يصوم عنه؟

ص: 337

الجواب: لا، لا فرضاً ولا نفلاً، حتى لو كان عاجزاً عليه كفارة يمين، أو فدية أذى صيام ثلاثة أيام وهو شيخ كبير وله أولاد، فقال لأبنائه: صوموا عني ثلاثة أيام، فلا يجزئ هذا عنه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يرد فقد قلنا: إن الأصل في العبادات أنه لا يجوز التوكيل فيها؛ لأنه يفوت المقصود من التعبد لله عز وجل إذاً لو أن العاجز وكَّل في الصوم، ما أجزأ إذا كان عجزه لا يرجى زواله، ولو وكل في الإطعام عنه فهذا يجزئ؛ لأن الإطعام يشبه الزكاة فيجزئ.

إذا مات فهل يقضى عنه أو لا يقضى؟ أما النفل فلا يقضى؛ لأنه لم يرد، وما دام أنه لم يرد فالأصل عدم القضاء، فلو أن إنساناً كان من عادته أن يصوم الأيام الثلاثة البيض ولكنه لم يصمها، ثم توفي قبل استكمال الشهر فإنه لا يصام عنه.

وإذا كان واجباً فمن العلماء من قال: إنه لا يصام عنه؛ لأنه إذا مات وهو لم يصم صار كالشيخ الكبير والمريض الميؤوس منه، فيطعم من تركته عن كل يوم مسكيناً ولا يصام عنه.

وقال بعض العلماء: يصام عنه صيام الفرض سواء كان واجباً بأصل الشرع كرمضان والفدية والكفارة، أو كان واجباً بالنذر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه»

(1)

، فقوله:«وعليه صيام» ، يشمل الفرض بأصل الشرع أو الفرض بالنذر فهو عام.

(1)

سبق تخريجه ص (334).

ص: 338

وفصل بعض العلماء فقال: إن كان واجباً بالنذر قضي عنه، وإن كان واجباً بأصل الشرع فإنه لا يقضى عنه.

واستدلوا بأن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمها نذرت أن تصوم شهراً فلم تصم فقال: «صومي عنها»

(1)

، فأذن لها أن تصوم عنها، والصيام نذر ولا يقاس عليه الواجب بأصل الشرع؛ لأن الأصل في العبادات عدم جواز الوكالة، لكن هذا القول ضعيف.

والصواب القول الثاني أنه يجوز أن يصام عن الميت ما وجب عليه من فرض بأصل الشرع أو فرض بالنذر، والدليل عموم حديث عائشة رضي الله عنها:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وما قصة المرأة التي سألت عن النذر إلا فرداً من أفراد هذا العموم، لا يخالفه ولا يقيده، فهي قضية عين وقع فيها أن الميت مات وعليه صوم مفروض، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام عنها، ثم نقول ـ أيضاً ـ: أيهما أكثر أن يموت الإنسان، وعليه صيام من رمضان أو عليه صيام نذر؟

الجواب: الأول لا شك، فمتى يأتي إنسانٌ نَذَرَ أن يصوم ومات قبل أن يصوم؟! فلا يمكن أن نحمل الحديث العام على الصورة النادرة، دون الصورة الشائعة، فهذا في الحقيقة خلل في الاستدلال.

فالصواب أنه يصام عنه إذا مات وعليه صيام، لكن متى يكون عليه الصيام؟

(1)

أخرجه البخاري في الصوم/ باب من مات وعليه صوم (1953)، ومسلم في الصيام/ باب قضاء الصوم عن الميت عن ابن عباس رضي الله عنهما (1148)(155).

ص: 339

الجواب: إذا أمكنه أن يصوم ولكنه فرط ثم مات، وأما من لم يفرط فإنه لا صيام عليه؛ لأنه إن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه ففرضه الإطعام، وإن كان مرضاً يرجى برؤه واستمر به المرض حتى مات، فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يدرك أن يقضي، ومثل ذلك إذا حصل حادث ومات الإنسان المخطئ في نفس الحادث في الحال، والمخطئ إذا قتل نفساً خطأ فيكون عليه إما عتق رقبة، وإما صيام شهرين متتابعين، فإن مات وكان ذا مال يتسع لعتق الرقبة، أُعتق من ماله؛ لأنه دين عليه، وإن كان ليس عنده مال أو لا توجد الرقبة فلا صيام عليه؛ لعدم التمكن من الأداء، فالرجل لم يتمكن من الأداء؛ لأنه مات في الحال، فكيف نلزمه صيام أيام لم يعشها؟! الله تعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهذا أبلغ، هذا غير ممكن إطلاقاً.

فحكم التوكيل في الصيام لا يصح مطلقاً في حال الحياة لا فرضاً ولا نفلاً، ولا عاجزاً ولا قادراً.

رابعاً: الحج: الحج كغيره من العبادات؛ والأصل فيه عدم جواز التوكيل؛ لأنه عبادة، والأصل في العبادة أنها مطلوبة من العابد، ولا يقوم غيره مقامه فيها، وحينئذٍ نقول: الحج وردت النيابة فيه عن صنفين من الناس.

الأول: من مات قبل الفريضة فإنه يحج عنه؛ لأنه ثبت ذلك بالسنة

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الحج/ باب الحج والنذور عن الميت (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 340

الثاني: من كان عاجزاً عن الفريضة عجزاً لا يرجى زواله، فهذا جاءت السنة بالحج عنه

(1)

؛ وعليه فإذا عجز الإنسان عن الحج بعد وجوبه عليه مع قدرته عليه ماليّاً، والعجز لا يرجى زواله كالكبر والمرض الذي لا يرجى برؤه، قلنا: ينوب عنه من يحج عنه؛ لأن ذلك ثبت بالسنة.

لو وكَّل في حج الفريضة وهو قادر فلا يصح، فإذا حج الوكيل فالحج له؛ لأن هذه الوكالة فاسدة، والفاسد وجوده كالعدم.

والنافلة إذا وَكَّلَ فيها شخصٌ مريضٌ مرضاً لا يرجى برؤه، فحج عنه هذا الوكيل، فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك إنما ورد في حج الفريضة، وما دمنا قلنا: إن الأصل في العبادات عدم جواز التوكيل فإنه لا يوكل؛ لأن النافلة لم يرد فيها التوكيل، فنقول لهذا: إن كنت قادراً فحج بنفسك، وإن كنت عاجزاً فلم يوجب الله عليك الحج فلا تحج، ونقول لمن كان قادراً بنفسه: الصدقة بهذا المال أفضل بكثير من أن توكل من يحج عنك، وإعانة حاج لتأدية فرض الحج بهذه خمسة الآلاف، أفضل من أن يحج عنك نفلاً.

لكن بعض العلماء رحمهم الله توسع في هذا، وقال: إذا كان يجوز له أن يستنيب في الفرض جاز أن يستنيب في النافلة، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله، فله أن يوكل من يحج عنه، قالوا: لأن طلب الفريضة من الإنسان بدنيّاً أقوى وأشد

(1)

أخرجه البخاري في الحج/ باب وجوب الحج (1513)، ومسلم في الحج/ باب الحج عن العاجز (1334) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 341

من طلب النافلة، فإذا جاز التوكيل في الأشد جاز التوكيل في الأخف، لكن هذا التعليل معارض بالتعليل الأول، وهو أن المطالب بالفريضة لا بد أن يأتي بها، إما بنفسه أو بنائبه.

وبعضهم ـ أيضاً ـ توسع وقال: النفل يجوز التوكيل فيه ولو كان قادراً، وهذا من غرائب العلم؛ لأن هذا لا يصح أثراً ولا نظراً، فلا يصح أثراً؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحداً حج عن أحد نافلة.

وأما نظراً فلأننا إن قلنا بالقياس على الفريضة، فالفريضة لم ترد إلا في حال العجز عجزاً لا يرجى زواله.

وبعضهم ـ أيضاً ـ توسع توسعاً ثالثاً، وقال: يجوز أن يوكل الإنسان في حج النفل ولو في أثنائه، وعلى هذا إذا ذهب إنسان للعمرة وطاف ووجد مشقة وهي نافلة، وقال لإنسان: يا فلان وكلتك تسعى عني وتحلق عني، جاز على هذا القول، وهذا في الحقيقة من أضعف الأقوال، أن يستنيب شخصاً في إكمال النافلة؛ لأن الحج إذا شرع فيه الإنسان، صار فرضاً واجباً عليه لا يمكن أن يتحلل منه إلا بإتمامه، أو بالإحصار عنه، أو بالعذر إن اشترط، لقول الله ـ تعالى ـ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فالحج من بين سائر الأعمال إذا شرعت فيه وهو نفل يلزمك أن تتمه، قال الله تبارك وتعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]، فجعل الإحرام بالحج فرضاً، وقال ـ تعالى ـ:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} يعني الحُجاج {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29].

ص: 342

وأقرب الأقوال: أن التوكيل في النفل للقادر لا يصح أبداً، فيقال للقادر: إما أن تحج بنفسك وإما ألا تحج، وأما العاجز ففي إلحاق النفل بالفرض ثقل على النفس، فالإنسان لا يجزم بأنه يلحق بالفرض؛ لأن الفرض لازم يطالب به الإنسان، والنفل تطوع ليس بلازم، فإذا أجازت الشريعة التوكيل في الفرض فإنه لا يلزم أن يجوز ذلك في النفل؛ لأن الإنسان من النفل في سعة، والقول بأنه إذا جاز في الفرض جاز في النفل من باب أولى ضعيف، وكون الفرض أشد مطالبة أن يقوم الإنسان فيه ببدنه نقول: هذا صحيح، لكن العبادات الأصل فيها منع التوكيل فيقتصر على ما ورد، ولذلك بعض الناس يوكل في حجج كثيرة، نافلة لأبيه، وأمه، وعمه، وخاله، وما أشبه ذلك، ولكنه جالس من غير عجز، فأين الحج الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم جهاداً حين سألته عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: «عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة»

(1)

؟!

خامساً: الشهادتان، لا يجوز التوكيل فيهما مطلقاً، فلو قال شخص غير مسلم: يا فلان أنا أريد أن أسلم لكن وكلتك أن تشهد عني، فهذا لا يصح، ولو كانت وثيقة من كاتب عدل فهذا لا يمكن.

فالقاعدة: «أن الأصل في العبادات منع التوكيل فيها» ؛ لأن التوكيل فيها يفوت المقصود من العبادة وهو التذلل لله عز وجل والتعبد له، ويقتصر فيها على ما ورد.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 71، 165)، وابن ماجه في المناسك/ باب الحج جهاد النساء (2901) قال الحافظ في البلوغ (709): إسناده صحيح.

ص: 343

قوله: «والحدود في إثباتها» الحدود جمع حد، وهو في اللغة المنع، والمراد به هنا كل عقوبة مقدرة من الشرع على معصية لتمنع من الوقوع في مثلها وتكفر ذنب صاحبها، والمراد بإثباتها، مثل أن يقول الحاكم لشخص: اذهب إلى فلان ليقر بما يقتضي الحد، فهذا في إثباتها.

قوله: «واستيفائها» بأن يكون المذنب قد اعترف وثبت الحد، فيوكل الحاكم من يقيم هذا الحد، فهذا لا بأس به، والدليل قول النبي لرجل من الأنصار:«اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فقوله:«فإن اعترفت» هذا إثبات، وقوله:«فارجمها» هذا استيفاء.

فلنستعرض الحدود وهي: حدّ الزنا، وحدّ القذف، وحد السرقة، وحد قطع الطريق.

أولاً: الزنا، وهو حد بنص القرآن، قال الله ـ تعالى ـ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وجاءت السنة بزيادة على ذلك، وهي أن يُغرَّب الزاني والزانية عن البلد الذي حصل فيه الزنا لمدة عام، وإن كان محصناً ـ وهو الذي قد تزوج بنكاح صحيح وجامع زوجته ـ فإن حده الرجم، حتى وإن كان قد فارق الزوجة.

ثانياً: القذف، وحده ثمانون جلدة، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4].

ثالثاً: السرقة، وحدها قطع اليد اليمنى من مفصل الكف؛

ص: 344

لقول الله ـ تعالى ـ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [المائدة].

رابعاً: قطاع الطريق وحدّهم ما ذكره الله في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33].

هل (أو) في هذه الآية للتخيير أو للتنويع؟ في ذلك للعلماء قولان:

القول الأول: أنها للتنويع.

القول الثاني: أنها للتخيير.

فعلى القول بأنها للتنويع، فقوله:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} يحمل على أنهم إن قتلوا فقط بدون أخذ المال قتلوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أما إذا أخافوا الطريق دون أن يعتدوا على مال أو نفس فإنهم ينفون من الأرض، والنفي من الأرض، هل معناه أن يطردوا من هذا المكان، أو أن يحبسوا؟

في هذا قولان ـ أيضاً ـ للعلماء، منهم من قال: إن النفي من الأرض أن يحبسوا لا أن يطردوا إلى بلاد أخرى؛ لأنهم ربما إذا طردوا إلى بلاد أخرى، عادوا مرة أخرى إلى حالهم فلم نستفد من نفيهم، أما إذا حبسوا فإنهم يحبسون عن الناس فلا يتعدى شرهم إلى أحد.

ص: 345

والأرجح في هذا، أنه يرجع إلى اجتهاد القاضي إن رأى أن ينفيهم من الأرض إلى بلاد أخرى، أو أن يحبسوا على حسب ما يرى.

وأما شرب الخمر فقد اختلف العلماء، هل هو حد أو تعزير؟

فأكثر أهل العلم على أنه حد، ثم اختلفوا هل هو أربعون، أو ثمانون، أو يخير الإمام بينهما؟.

ومن تدبَّر عقوبة شارب الخمر، عرف أنها تعزير لا حد، لكنه لا يُنْقَص عن أربعين جلدة.

ودليل ذلك أنهم كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى بالشارب فيقوم الناس إليه يضربونه، منهم من يضرب بيده، ومنهم من يضرب بالنعل، ومنهم من يضرب بالرداء أو بالجريد

(1)

أو ما أشبه ذلك، ولهذا جاء في بعض ألفاظ الحديث:«نحواً من أربعين»

(2)

. ثم إن أبا بكر رضي الله عنه جلد أربعين، ثم جلد عمر رضي الله عنه أربعين، ولما كثر شرب الخمر جمع الصحابة رضي الله عنهم يستشيرهم، وهذا من دأبه رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون

(3)

، يعني فاجلد شارب

(1)

أخرجه البخاري في الحدود/ باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6773)؛ ومسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1706) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.

وأخرجه البخاري أيضاً عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه (6775)؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه (6777) وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه (6779).

(2)

أخرجه مسلم الحدود/ باب حد الخمر (1706) عن أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1706)(36)، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 346

الخمر ثمانين، فأقر ذلك عمر، وعمر له سُنَّةٌ متبوعة فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، وسموا ذلك حداً، لكن من تدبر النصوص الواردة في ذلك عرف أنه ليس بحدٍّ، وأنه تعزير لا ينقص عن أربعين جلدة؛ لأنه لو كان حدّاً ما استطاع عمر رضي الله عنه ولا غيره أن يزيد فيه ولهذا لو كثر الزنا في الناس ـ نسأل الله العافية ـ هل يمكن أن نزيد على مائة جلدة؟

الجواب: لا يمكن حتى لو كثر الزنا، فكون أمير المؤمنين عمر ومعه الصحابة رضي الله عنهم يزيدون على ذلك، يدل على أن المقصود هو التعزير الذي يردع الناس عن هذا الشيء الخبيث.

ودليل آخر: قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أخف الحدود ثمانون)

(1)

، وأقره الصحابة، إذاً لا يوجد حَدٌّ يقدر بأربعين جلدة، وهذا يشبه أن يكون إجماعاً، لأن عمر رضي الله عنه لم يقل: لا أزيد؛ لأن فيه حداً، فالصواب أنه تعزير، وبناءً على ذلك لو كثر شرب الخمر في الناس، فَلِوَلِيِّ الأمر أن يزيد على ثمانين بالكم أو بالنوع أو بالكيفية، حتى لو أنه رأى أن يعزر شارب الخمر بغير ذلك فلا بأس، إلا أنه لا يقطع عضواً من أعضائه؛ لأن بدن الإنسان محترم، وليس فيه قطع، اللهم إلا السارق وقطاع الطريق.

ويرى بعض العلماء أن من الحدود الردة، ويكتبون هذا في مؤلفاتهم، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن الردة إذا تاب المرتد ولو

(1)

سبق تخريجه ص (346).

ص: 347

بعد القدرة عليه فإنه يرفع عنه القتل ولا يقتل، ولو كانت حدّاً ما ارتفع بعد القدرة عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المائدة].

فالصواب أن القتل بالردة ليس حدّاً، حتى على قول من يقول: إن من أنواع الردة ما لا تقبل فيه التوبة، مع أن الصحيح أن جميع أنواع الردة تقبل فيها التوبة، حتى لو سب الإنسان رب العالمين، أو الرسل أو الملائكة، ثم تاب فإن توبته مقبولة؛ لأن من المشركين من سب الله عز وجل ومع ذلك قبلت توبتهم، ثم إن عموم الأدلة كقوله ـ تعالى ـ:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، يدل على أن أي ذنب تاب الإنسان منه فإن الله يتوب عليه، حتى لو سب الله جهاراً نهاراً ثم تاب وحسنت حاله، قبلت توبته، والحمد لله؛ لأن باب التوبة مفتوح.

لكن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تاب فإننا نقبل توبته، ولكننا نقتله؛ لأن سبه للرسول صلى الله عليه وسلم حق آدمي، ولا نعلم هل عفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات فالقتل لا بد منه، لكنه إذا تاب يقتل على أنه مسلم، يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدعى له بالرحمة، ويدفن مع المسلمين.

على كل حال الحدود يجوز التوكيل في إثباتها واستيفائها.

ومن الموكل؟ الموكل من له إقامة الحد، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمير والقاضي والرسول والقائد والإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال في الموضوع.

ص: 348

وكذلك إذا كان الأمراء هم القضاة فلا إشكال ـ أيضاً ـ؛ لأنهم سوف يحكمون أولاً ثم ينفذون ثانياً، فالأمراء هم الذين يوكلون في إقامة الحدود، لكن في وقتنا الحاضر تفرقت المسؤولية، فصار القاضي عليه مسؤولية، والأمير عليه مسؤولية، فمن الذي يملك تنفيذ الحدود؟

الجواب: الأمير، وعلى هذا فالقاضي يرفع الحكم، ثم الأمير يوكل من شاء إن ينفذ الحكم.

وما الدليل على التوكيل في الحدود في إثباتها واستيفائها؟

الدليل قصة المرأة التي زنا بها أجير عند زوجها، وقيل لهذا الأجير: إن عليك الرجم، فذهب أبوه وافتداه بمائة شاة ووليدة يعني جارية؛ لئلا يرجم، وهذه فتوى جهل وخطأ، فسأل أهل العلم، فقالوا: على ابنك الجلد وعلى امرأة الرجل الرجم؛ لأن الابن غير محصن، أي: بكر، وزوجة المستأجر ثيِّب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما الغنم والوليدة فهي رد عليك» ، أي: مردودة، يعني لا يملكها الزوج ولا الزوجة؛ وذلك لأن هذا الحكم مخالف لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبه نعرف أن ما قبض بغير حق يجب أن يرد إلى صاحبه، وأن على زوجة هذا الرجل الرجم، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار:«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصلح/ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2695)؛ ومسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1697) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 349

فهذا توكيل في إثبات الحد واستيفائه، في إثباته حين قال:«إن اعترفت» ، وفي استيفائه حين قال:«فارجمها» ، وعلى هذا فيجوز لولي الأمر أن يوكل في إثبات الحدود، أي فيما تثبت به وفي تنفيذها.

ولكن الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه ولا سيما في عصرنا الآن؛ لئلا يحصل خطأ في الإثبات أو خطأ في التنفيذ، لكن الكلام على أن هذا جائز، والدليل هذه القصة.

‌وَليْسَ لِلْوَكِيلِ أنْ يُوكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ إِلَيْهِ والوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ وتَبْطُلُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا وَمَوْتِهِ وَعزْلِ الوَكِيلِ وَبِحَجْرِ السَّفَهِ

قوله: «وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه» الوكيل يتصرف بالإذن من الموكل، وإذا كان يتصرف بالإذن من الموكل فإنه يجب ألا يتعدى ما وكل فيه لا بصفة العقد، ولا بالمعقود له، فإذا قال: وكلتك أن تبيع هذا العبد على فلان، فعندنا الآن تعيين في المبيع وتعيين في المشتري، فهل يملك الوكيل أن يبيع عبداً آخر من عبيد الموكل؟

الجواب: لا؛ لأنه خص بمعين، وهل يملك أن يبيع العبد المعين على شخص غير زيد؟

الجواب: لا؛ لأنه يتصرف بالإذن فوجب أن يكون تصرفه بحسب ما أذن له فيه.

فالقاعدة أن الوكيل يتصرف بالإذن، فوجب أن يكون تصرفه بحسب ما أذن له فيه ولا يتعداه، إما لفظاً وإما عُرْفاً.

وهل له أن يوكل؟

الجواب: لا، ليس له أن يوكل، فإذا وكلت فلاناً أن يبيع هذه السيارة فليس له أن يوكل غيره؛ لأنني وكلته هو بنفسه،

ص: 350

فليس له أن يوكل غيره؛ لأني قد أثق به، ولا أثق بغيره، ولا سيما في الأمور التي يختلف فيها القصد اختلافاً كبيراً، كما لو وكلت شخصاً يفرق زكاة، وأراد أن يوكل غيره فهذا لا يمكن؛ لأن الزكاة أمرها عظيم، وربما أثق بفلان، ولا أثق بغيره.

فلا يجوز إذاً أن يوكل فيما وُكِّل فيه إلا في أحوال ثلاث:

الحال الأولى:

قوله: «إلا أن يجعل إليه» «يجعل» هذا مبني لما لم يسم فاعله، والفاعل هو الموكل، يعني إلا أن يجعل الموكل ذلك للوكيل، فيقول: وكلتك في كذا ولك أن توكل من شئت، أو من تثق به، أو أن توكل فلاناً قريبك، أو ما أشبه ذلك.

فإذا جعل إليه ووكل حسب ما جُعل إليه، يكون قد تصرف بحسب الوكالة.

الحال الثانية: إذا كان مثله لا يتولاه عادة.

فلو قلت لجارك وهو رجل شريف وزير، أو قاض، أو أمير: يا فلان أنا سوف أسافر، اشتر للبقرة العلف كل يوم، الرجل الآن سوف يشتري علفاً كل يوم للبقرة، فهل له أن يوكل من يشتري العلف؟ أو نقول: اذهب بنفسك؟ نقول: له أن يوكل من يشتري العلف؛ لأن هذا مما جرت العادة ألا يتولاه بنفسه، فله أن يوكل من يشتري، وإن لم يُؤذن له في ذلك، لكن عليه أن يتحرى الرجل الأمين أكثر مما يتحراه لماله.

الحال الثالثة: إذا كان يعجز عن القيام بمثله عادة.

ص: 351

مثال ذلك: وكلتَ رجلاً أن يصعد بحجر كبير إلى السطح؛ لأنك تريد أن تبني به السطح، وهو رجل ضعيف لا يقوى على ذلك، فهل له أن يوكل من يحمل الحجر إلى فوق؟

الجواب: نعم؛ لأن مثله يعجز عنه.

وكذلك لو وكلته في بيع أموال كثيرة، وقلت له: اصرف هذه الأموال في هذا الموسم، ولا تتعدى هذا الموسم، وهي أموال كثيرة لو أنه باشرها بنفسه لانتهى الموسم قبل التصريف، فهنا له أن يوكل؛ لأن كون الموكل يقول: بع هذه في هذا الموسم، وهي أموال كثيرة يعرف أنه لا يستطيع أن يقوم ببيعها وحده، معناه أنه قد أذن له في أن يوكل غيره، فيكون الإذن معلوماً من قرينة الحال.

فإذا قال قائل: كيف أجزتم أن يوكل في الحالين الأخريين؟ نقول: لأن هذا وإن لم يأذن فيه الموكل لفظاً فهو كالمأذون فيه عرفاً، فكل أحد يعرف أنك إذا قلت لرجل شريف: يا فلان اشتر العلف للبقرة كل يوم، فالمعروف أنه لا يشتريه بنفسه، وكل يعرف أنك إذا قلت للموكل: اصرف هذه البضاعة في هذا الموسم، وهو عشرة أيام وهي بضاعة كثيرة، كل واحد يعرف أن المراد أن يصرفها بنفسه أو بوكيله.

ففي الحقيقة أن هاتين الحالتين داخلتان في قوله: «إلا أن يجعل إليه» ، لكن لما ذكرها العلماء نقول: إلا أن يجعل إليه لفظاً، وأما الثانية والثالثة فقد جعل ذلك إليه عرفاً.

قوله: «والوكالة عقد جائز» وهو جائز من الناحية التكليفية،

ص: 352

ومن الناحية الوضعية ذكرنا من قبل أنها تصح بكل قول يدل على إذن، وأنه يصح التوكيل في كل حق آدمي.

لكن من الناحية التكليفية هل هي من العقود الجائزة، أو من العقود اللازمة؟ يقول المؤلف: إنها عقد جائز، والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.

ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الوكالة من الموكل إذن ومن الوكيل تبرع، فللوكيل أن يرجع، وللموكل أن يرجع ـ أيضاً.

وقوله: «والوكالة عقد جائز» يفيد أن العقود منها جائز، ومنها لازم، ومنها جائز من طرف لازم من طرف.

فعقد البيع بعد التفرق من المجلس عقد لازم إلا أن يكون شرط الخيار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فقد وجب البيع»

(1)

.

والرهن عقد جائز من جانب المرتهن، ولازم من جانب الراهن، ووجهه ظاهر؛ لأن الحق في الرهن للمرتهن، فإذا رضي بإطلاق الرهن وإزالته فالحق له، لكنه حق على الراهن فلا يملك أن يتخلص منه.

والوكالة جائزة من الطرفين، وبهذا تمت أقسام العقود، وهي ثلاثة أقسام:

عقد لازم من الطرفين.

عقد جائز من الطرفين.

(1)

سبق تخريجه ص (128).

ص: 353

عقد لازم من طرف جائز من طرف.

قوله: «وتبطل بفسخ أحدهما» «تبطل» بإسقاط الواو، وهو الأصح؛ لأنك إذا قلت:«وتبطل» لم تكن هذه الجملة تفسيراً لقوله: «جائز» ، والجملة في الواقع استئنافية، فهي تفسير لمعنى قوله:«جائز» .

وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» مَنْ أحدهما؟ الوكيل والموكل، تبطل بفسخه.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنها تبطل بفسخ أحدهما مطلقاً ولو مع ضرر، ولكن يجب أن نقيد هذا بما إذا لم تتضمن ضرراً، فإن تضمنت ضرراً فإنه ليس لأحدهما أن يضر صاحبه، ودليل ذلك قول الله عز وجل:{أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [النساء: 12]، ويقول عز وجل:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

، ولذلك قال العلماء: إذا تضمَّن الفسخ ضرراً على أحد الطرفين فإن العقود الجائزة تنقلب لازمة درءاً للضرر.

فعلمنا بذلك أن ما كان فيه ضرر فإنه ممنوع شرعاً، فلو أن الوكيل قبِلَ الوكالة على أنه سوف يُصرِّفها في الموسم، ثم انصرف من عند الموكل وفسخ، فقال: اشهدوا أني فسخت الوكالة، والموكل لم يعلم، ففات الموسم، فهنا الفسخ فيه ضرر على الموكل، إذاً لا يحل للوكيل هنا أن يفسخ إلا إذا استأذن من

(1)

سبق تخريجه ص (37).

ص: 354

الموكل؛ من أجل أن يعرف الموكل كيف يتصرف؟ أو يقال يجوز الفسخ مع ضمان الضرر، فنقول: الوكالة عقد جائز، لكن إذا تضمن ضرراً فتنفسخ الوكالة، وعليك ضمان الضرر.

وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» ظاهره سواء علم الوكيل أم لم يعلم، فإذا وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي ثم في اليوم التالي أشهدت رجلين بأني فسخت الوكالة، ثم باع الوكيل البيت في اليوم الثالث ولم يعلم، فالمذهب أن البيع غير صحيح؛ لأني فسخت وكالته قبل أن يبيع، فباع وهو لا يملك العقد عليه.

والقول الثاني: أنه لا ينفسخ إلا بعد العلم؛ لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم زواله فكان تصرفاً صحيحاً، ويقال للموكل أنت الذي فرطت، لماذا لم تخبره بفسخ الوكالة من فوره؟ وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن أحمد، لا سيما وهو في هذه الحال تعلق به حق المشتري، أما إذا لم يتعلق به حق أحد فقد يقال بفسخ الوكالة.

وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» يشمل الفسخ بالقول والفسخ بالفعل، بالقول بأن يقول: فسخت الوكالة، وبالفعل بأنه يفعل فعلاً ينافي تصرف الوكيل، مثل أن يوكله في بيع عبد ثم أَعْتَقَ العَبْدَ، فإعتاقه إياه يتضمن فسخ التوكيل في البيع؛ لأنه لا يمكن بيعه بعد عتقه، وكذلك لو وكله في بيع شيء ثم رهنه تنفسخ الوكالة؛ لأن بيع المرهون لا يصح فعلم أنه عَدَلَ عن بيعه.

قوله: «وموته» أي: إذا مات الوكيل بطلت الوكالة، وإذا مات الموكل بطلت الوكالة.

ص: 355

وجه ذلك أنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلا بد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل، أما الوكيل فتبطل بموته؛ لأن الموكل إنما رضيه بعينه فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.

مثال ذلك: رجل وكل شخصاً في بيع بيته، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم قدر الله على الموكل أن يموت، فحينئذ لا يحل للوكيل أن يبيع البيت، ولا أن يتصرف فيه، بل يجب أن يبلغ الورثة أنه قد انتهت الوكالة؛ لأن الملك الآن انتقل إلى الورثة.

مثال آخر: رجل وكَّل شخصاً في بيع ثم قدَّر الله أن يموت الوكيل فتنفسخ الوكالة، ولا يحل للوكيل أن يوكل شخصاً بعد موته يتولى البيع؛ لأن الوكالة انفسخت بموته.

وهنا يجب أن ننبه إلى مسألة يكتبها إخواننا الكُتَّاب الذين يكتبون وصايا للناس، إذا كانت الوصية وقال: أوصيت بثلث مالي يُتصدق به على الفقراء، كثير من الكتَّاب يكتب: والوكيل على ذلك فلان، والصواب أن يقول: الوصي على ذلك فلان؛ لأن هناك فرقاً بين الوكيل والوصي، الوصي من أذن له بالتصرف بعد الموت، والوكيل من أذن له بالتصرف في حال الحياة، وإذا قال: الوكيل على ثلثي فلان، فلو أخذنا باللفظ لقلنا: إذا مات هذا الرجل انفسخت الوكالة، لكن الحكام ـ القضاة ـ يفتون بأن هذا اللفظ من العامة بمعنى الوصية، وإن كان بلفظ الوكالة، ولكننا نقول للكتاب: ينبغي أن تحرروا الكتابة، وإذا ذكرتم وصية فلان بشيء لا تقولوا: والوكيل فلان، قولوا: الوصي.

ص: 356

لكن لو قال: «الوكيل بعد موتي» ، ارتفع الإشكال؛ لأنه لو قيد الوكالة بعد الموت فإننا نعلم علم اليقين أنه أراد الوصية.

قوله: «وعزل الوكيل» هذه العبارة لم نرها في المنتهى، ولا في الإقناع، ولا في المقنع ـ أيضاً ـ الذي هو أصل الكتاب، وهي في الحقيقة زائدة، لأن عزل الوكيل يغني عنه قوله:«بفسخ أحدهما» ؛ لأن فسخ الموكل يعني عزل الوكيل، إذاً ليس هناك حاجة إلى أن يقول:«وعزل الوكيل» ، لكن لعل هذا من المؤلف رحمه الله سبق قلم.

على كل حال تبطل الوكالة بعزل الوكيل، وعزل الوكيل هو فسخ الموكل للوكالة.

مسألة: لو أنه وكَّل إنساناً أن يبيع بيته، وبعد انصراف الوكيل باع الموكل نفسه البيت، ثم إن الوكيل باعه، فالمالك باعه على زيد، والوكيل باعه على عمرو، فالوكيل انعزل؛ لأن بيع المالك للشيء الذي وكل شخصاً في بيعه، يعني أنه عزله، وهذا عزل بالفعل، وحينئذ الوكيل باع على عمرو، والمالك باع على زيد، إن أبطلنا بيع الوكيل فقد تعلق به حق عمرو، وإن أبطلنا تصرف المالك أبطلنا حق زيد، فنقدم الآن صاحب الأصل وهو المالك، وحينئذ نقول: إن بيع الوكيل وقع على شيء انتقل ملكه عن صاحبه، حتى صاحبه الآن لا يمكن أن يتصرف فيه، فنقول في بيع الوكيل: إنه باطل؛ لأن هذه المسألة تعلق بها حق ثالث، ثم إن الموكَّل فيه انتقل عن ملك الموكِّل إلى ملك آخر، فلا يمكن أن يبطل هذا الانتقال، وإن صححنا تصرف الوكيل لزم من ذلك إبطال تصرف المالك.

ص: 357

مسألة: إذا تصرف الموكل تصرفاً لا يمنع تصرف الوكيل مثل: أن يقول وكلتك في بيع بيتي ثم بعد ذهاب الوكيل، أجّرَهُ الموكل؛ فهل تبطل الوكالة ونقول: إن هذا عزل؟

الجواب: لا؛ لأن التأجير لا ينافي البيع، إذ يجوز بيع المؤجر، فإذا كان يجوز بيع المؤجر، فإن تصرف الموكل الآن لا يعتبر فسخاً للوكالة؛ لأنه لا منافاة بين ما وَكَّل فيه وتصرفه.

إذاً إذا تصرف تصرفاً ينافي الوكالة فهو عزل، وإذا تصرف تصرفاً لا ينافي الوكالة فليس بعزل.

قوله: «وبحجر السفه» لم يقل المؤلف: الصِّغَر؛ لأن الكبير لا يصغر فهو غير وارد أبداً، وأما الحجر للجنون ففيه تفصيل:

إن كان مطبِقاً انفسخت الوكالة، وإن كان غير مطبِق كأن يكون ساعة ويذهب لم تنفسخ، فثلاثة أسباب للحجر، الصغر والجنون والسفه، إذا حُجر على الوكيل أو الموكل حجر سفه انفسخت الوكالة.

وفي قول المؤلف: «وبحجر السفه» منطوق وله مفهوم، ومفهومه حجر الفلس، فمن كان لا يحسن التصرف فالحجر عليه حجر سفه، ومن كان يحسن التصرف لكنه غريم مدين، دينه أكثر من ماله، فالحجر عليه حجر فلس، فالوكالة تبطل بحجر السفه.

مثال هذا: الوكيل قال لشخص: بع بيتي، ثم إن الرجل الذي وكَّله في البيع ـ أي: مالك البيت ـ أصيب بخلل في عقله أفسد تصرفه، فلا تستمر الوكالة بل تنفسخ؛ لأن الموكل الآن لو

ص: 358

أراد أن يتصرف بنفسه لم يتمكن، فبوكيله من باب أولى، ويمكن أن تقع بأن يحصل لإنسان حادث يختل به فكره، فنقول الآن: انفسخت الوكالة، ونقول للذي وُكِّلَ في البيع: لا تبع؛ لأن الوكالة انفسخت، فالموكل نفسه لو أراد أن يتصرف لا يمكنه، فكيف بفرعه وهو الوكيل؟

إذاً كلمة «السفه» إنما تعود إلى العقل، بحيث يكون فيه جنون أو سوء تصرف، بحيث يختل فكره وعقله ويبدأ لا يعرف شيئاً.

والحجر لفلس هل تبطل به الوكالة أو لا؟

فيه تفصيل: إن كانت في أعيان مال الموكل انفسخت، وإن كانت في ذمته لم تنفسخ.

أما الوكيل فإنه إذا حجر عليه لفلس لا تنفسخ الوكالة بذلك؛ لصحة تصرفه في مال غيره، إذن إذا حجر عليه لفلس فبالنسبة للوكيل لا تتأثر الوكالة ولا تنفسخ، وبالنسبة للموكل ففيه تفصيل.

مثال ذلك بالنسبة للوكيل: وكل إنساناً يبيع بيته، ثم إن هذا الوكيل صار مديناً دينه أكثر من ماله فحجر عليه؛ فالآن الوكيل لا يمكن أن يبيع شيئاً من ماله؛ لأنه محجور عليه، لكن هل يبيع بيت من وكله؟

الجواب: نعم؛ لأن من حجر عليه لفلس إنما يحجر عليه في أعيان ماله لا في أعيان مال غيره، فتبقى الوكالة.

مثال ذلك بالنسبة للموكل، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم

ص: 359

إن الموكل لَحِقَهُ الدينُ وصار دينه أكثر من ماله، فحجرنا عليه، هل يملك الوكيل أن يبيع البيت؟

الجواب: لا، وتنفسخ الوكالة؛ لأن الموكل الآن لا يملك بنفسه بيع بيته، فإذا كان الأصل لا يملك البيع، فالفرع من باب أولى.

فصار الحجر لفلس فيه تفصيل، والحجر لسفه ليس فيه تفصيل، فتبطل به الوكالة سواء حجر على الوكيل، أو حجر على الموكل.

‌وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَم يَبِعْ وَلَمْ يَشْتَرِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَلَا يَبِيعُ بَعَرَضٍ وَلَا نَسَاءٍ وَلَا بِغَيْرِ نَقْدِ البَلَدِ ......

قوله: «من وُكِّل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده» إذا وكل في بيع فإنه لا يبيع على نفسه، ولا يبيع على ولده، ولا على والده، ولا على من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في ذلك، ولأنه لو أراد أن يبيعه على فلان لقال: اشتر مني هذا، واستغنى بذلك عن توكيله.

مثال ذلك: وكلت إنساناً أن يبيع البيت، قلت: وكلتك في بيع بيتي، باعه على ابنه، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه متهم، فإذا كان لا تقبل شهادته لولده بالمال لاتهامه بذلك، فكذلك بيعه ما وكل فيه لولده فهو متهم، وإذا كان الوكيل الذي باع على ابنه ثقة عدلاً مرضياً، نقول: ولو كان؛ سداً للباب، ولئلا يقول قائل: لماذا صححتم بيع فلان على ولده ولم تصححوا بيع فلان؟ فنسد الباب، بل لا يبيع على أحد من الأصول كالأب والجد أو الفروع كولد الولد أو ولد البنت؛ لأنه متهم، والأمر في هذا سهل، وهو أن يستأذن من الموكل، فيقول له: إن ابني يريد البيت أتأذن أن أبيعه؟ إذا قال: نعم، انتهى الإشكال، واستثنى بعض العلماء من ذلك مسألتين:

ص: 360

الأولى: إذا كان البيع في المزايدة وانتهى الثمن على ولده أو نفسه فإن البيع يصح؛ لأنه ليس فيه تهمة.

مثاله: أعطاه ليبيع السيارة مزايدة بالحراج علناً، زادت ثم زادت ثم زادت، وآخر السعر صار على ولده وباعها عليه، فهذا ليس فيه اتهام، ولهذا استثنى بعض العلماء هذه المسألة، قال: في المناداة إذا انتهى السعر على ولده فلا بأس أن يبيع؛ وذلك لأنه لا تهمة.

الثانية: إذا حدد الموكل الثمن للوكيل وقال: بعها، قال: بكم أبيعها؟ قال: بعها بعشرة آلاف، وباعها على ولده بعشرة آلاف، فهذا يجوز؛ لأن الموكل حدد الثمن، فهو لا يريد أكثر من ذلك، فيصح أن يبيعها على ولده لانتفاء التهمة حينئذ.

ولكن لو أن الموكل قال للوكيل: بعها بعشرة آلاف بناءً على أن هذا أعلى سعر، وكانت السلع قد زادت لكن الموكل لم يعلم، فهل يجوز في هذه الحال أن يبيعها الوكيل على ولده؟

الجواب: لا؛ لأن هذا غش، والواجب أن يخبره إذا كان الوكيل يعلم أن قيمة الأشياء قد زادت، والموكل رجل جاهل بالأسعار، فعليه أن يبين له ويخبره بأن السلعة تساوي أكثر وجوباً؛ لأنه لو كتم وجعلها تباع بعشرة آلاف لكان غاشّاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من غش فليس منا»

(1)

؛ لأن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يستغل سذاجة الموكل وجهله بالواقع ولا يخبره به فهذا

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» ، (101) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 361

حرام، هذا غش، عامِلْ الناسَ بما تحب أن يعاملوك به، لا تغشهم ولا تخدعْهم.

وإذا باع على بنته، فهي من الولد؛ لقوله ـ تعالى ـ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فجعل الله الأنثى من الولد وهو كذلك.

وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يبيع على ولده ووالده وأمه وجدته وبنته وبنت بنته إلا إذا ظهرت المحاباة؛ لأنه وكله في البيع ولم يقل: لا تبع على هؤلاء، فاللفظ يشمل هؤلاء وهؤلاء، وهذا القول هو الصحيح إلا إذا كان شريكاً لهم؛ لأن حقيقة الأمر أنه باع على نفسه، وبناء عليه يجوز أن يبيع على إخوته وأعمامه وبني إخوته ما لم يكن شريكاً لهم.

مسألة: إذا كان لا يبيع على نفسه، فهل يجوز أن يوكل شخصاً يشتريها له؟

مثاله: أعطاه هذه السيارة لبيعها، قلنا: لا يصح البيع على نفسه، لكن قال: يا فلان لا يجوز أن أشتريها لنفسي، لكن وكلتك أن تشتريها لي، وصار الذي يزيد وكيله حتى انتهت عليه واشتراها، فهذا لا يجوز؛ لأنه حيلة، ووكيله قائم مقام نفسه.

وبناءً على أنه لا يجوز للوكيل أن يشتري السلعة لنفسه، فإنه لا يجوز أن يزيد في ثمنها.

مثاله: أخرجها أمام الناس وقال: من يريد أن يسوم بعشرة آلاف، أو باثني عشر ألفاً، وأراد هو أن يزيد لما قال واحد باثني عشر قال: بثلاثة عشر ألفاً أي: الوكيل وهو الذي يسمى الدلال،

ص: 362

فهذا لا يجوز؛ لأنه لو زاد لا يمكن أن يشتريها، فيكون في زيادته هنا إضرار بالمشترين، وتضييق عليهم، فما دمت تعرف أنك لا يمكن أن تشتريها فإنه لا يجوز أن تزيد.

فإن أذن الموكل للوكيل أن يشتري فهنا يجوز أن يزيد؛ لأنه إذا أذن الموكل للوكيل أن يشتري فلا بأس، وحينئذ فإذا زاد في الثمن فقد زاد زيادة أذن له فيها، فصار ذلك صحيحاً.

قوله: «ولا يبيع بعرض» مثاله، قال: وكلتُك أن تبيع السيارة فبعتَها بعمارة، فالسيارة تساوي عشرة آلاف، والعمارة تساوي خمسة عشر ألفاً، فهذا لا يجوز، لأني إذا قلت: بعها يعني بدراهم، لا أقول: بعها ببيت.

مثال آخر: قال: بع هذه السيارة، فذهب وباعها بسيارة أخرى فهذا لا يجوز؛ لأني إذا قلت: بعها يعني بعها بدراهم ليس بعرض، وهلم جرّاً.

والفلوس من العَرَض عند الفقهاء، والأوراق النقدية من العرض؛ لأن النقد عندهم هو الدرهم والدينار فقط يعني الذهب والفضة، وعلى هذا فالأوراق النقدية عند الفقهاء عرض، فهل نقول: كلام المؤلف يدل على أني إذا قلت بع هذا البيت ـ مثلاً ـ وباعه بعشرة آلاف من الأوراق النقدية لم ينعقد البيع؛ لأنه باع بعرض نقول: هذا مقتضى كلام المؤلف؛ لأنهم صرحوا أنه لا يبيعها بالفلوس، ولكننا نقول: أصبحت النقود الورقية الآن عند الناس نائبة مناب الدينار والدرهم، فإذا باعها بالفلوس التي هي الأوراق صح البيع.

ص: 363

ولو قال الموكل: أنا قلت الدراهم والدنانير هي النقود، أما الأوراق هذه فتأتي بها عندي، وتأكلها الأرضة، والنار تحرقها، لا أريد هذا، لا بد أن تعطيني ذهباً أو فضة فلا يملك هذا؛ لأن العرف الآن المطرد أن هذه الأوراق قائمة مقام الذهب والفضة، بدل الدينار والدرهم.

قوله: «ولا نَسَاء» أي: بثمن مؤخر، سواء كان مؤجلاً أم غير مؤجل، فلا بد أن يكون نقداً يداً بيد، فعلى كلام المؤلف إذا باع شيئاً أذنت له في بيعه، ولم يقبض الثمن فإنه يكون ضامناً، لكن كلام المؤلف هنا ينبغي أن يقيد بما إذا لم يدل العرف على التأخير، والآن عند الناس لو بعت عليك شيئاً اليوم، يمكن أن تذهب به ولا آخذ الثمن منك إلا بعد يوم أو يومين، حسب كثرة الثمن وقلته، وحسب حال المشتري، إلا إذا كان المشتري لا يُعرف، فإنه إذا لم يبعه نقداً يداً بيد فهو ضامن؛ لأنه مفرِّط.

مثاله: إنسان عرض سيارة للمزايدة، فجاء أجنبي لا يعرفه وقال: السيارة تساوي عشرة، وأنا آخذها منك بأحد عشر ألفاً، فأخذها وذهب، فلا يمكن للوكيل أن يدعه يذهب بدون نقد، ولو فعل لكان ضامناً؛ لأنه مفرط.

وهل يبيع مؤجلاً؟ المؤجل غير النسأ، والنسأ هو تأخير القبض ولو كان غير مؤجل، والمؤجل تأخير الوفاء.

مثال ذلك: قلت: بعتك هذا الشيء بثمن يحل بعد شهر فهذا مؤجل، وبعتك هذا الشيء ولم أقبض الثمن فهذا نسأ؛ لأن فيه تأخيراً، وبعتك هذا الشيء بعشرة وأعطيتني إياها وأخذته فهذا يداً بيد.

ص: 364

فإن باع مؤجلاً فإن ذلك لا يصح ولو كان الثمن المؤجل أكثر.

قوله: «ولا بغير نقد البلد» نقد البلد عندنا الآن الريال السعودي، فهذا الرجل أخذ السلعة، وذهب وباعها بدولار، فهنا لا يصح البيع؛ لأنني إذا أذنت لك في البيع فبعت بالدولار فقد بعت بغير ما ينصرف الإطلاق إليه، والدولار عندنا ليس نقداً ولكنه سلعة، يزيد وينقص فإذا باع بالدولار لا يصح، وإذا باع بالجنيه المصري ـ مثلاً ـ فهذا لا يصح، وإذا وكله في مصر، وباع بالجنيه المصري فهنا يصح؛ لأنه نقد البلد.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا يبيع بغير نقد البلد ولو باع بنقد أغلى.

مثاله: وكلتك أن تبيع هذه السيارة وهي تساوي بنقد البلد مائة مليون وبالدولار ألف دولار وباعها بألف دولار، فهنا على كلام المؤلف لا يصح البيع؛ لأنه غير نقد البلد، مع أنه أغلى من نقد البلد، فهل نقول: إن كلام المؤلف مقيد بما إذا لم يكن النقد الذي باع به أغلى من نقد البلد؟ ربما يقال: إن الرجل إذا باعها بنقد أغلى فإننا نقول: هذا يصح؛ لأنه زاده خيراً، وكما لو قلت: بعها بدراهم فبعتها بدنانير، أليس عروة بن الجعد رضي الله عنه وكَّله الرسول صلى الله عليه وسلم يشتري له أضحية فأعطاه ديناراً، فاشترى أضحيتين وباع واحدة بدينار فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأضحية ودينار

(1)

، لم يخسر شيئاً، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؟ فهذا يدل

(1)

سبق تخريجه ص (323).

ص: 365

على أنه إذا كان تصرف الوكيل فيه خيرٌ للموكل فينبغي أن ينفذ؛ لأن مطالبة الموكل بنقد البلد مع أن ما باع به أغلى، ما هو إلا إضرار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»

(1)

.

‌وإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ أَوْ دُونِ ما قَدَّرَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَى لَهُ بِأكثَرَ مِنْ ثَمَنِ المِثْلِ أَوْ ممَّا قَدَّرَهُ لَهُ صَحَّ وَضَمِنَ النَّقْصَ والزِّيادَةَ .....

قوله: «وإن باع بدون ثمن المثل» هذا تصرف مخالف للوكالة لكنه ليس مخالفاً لها في أصل العقد، بل في وصف العقد، ولهذا يصح ويضمن.

مثاله: قال له: بع سيارتي، وكانت هذه السيارة يُباع مثلها بأربعين ألفاً، فباعها بخمسة وثلاثين ألفاً.

يقول المؤلف: إن البيع صحيح؛ لأنه تعلق به حق لإنسان وهو المشتري فلا نبطل حقه بسوء تصرف غيره، ولأن الوكالة لم تتعد البيع، أي: لم يهبه لأحد أو يعطه إياه مضاربة أو يوقفه؛ بل باعه لكنه خالف في الوصف؛ لأنني من حين أقول: بع السيارة إنما أريد أن تبيعها بثمن المثل، فعلى هذا يصح البيع ويضمن الوكيل النقص؛ لأنه من المعلوم أن الإذن المطلق ينصرف إلى ما تعارف عليه الناس وهو ثمن المثل، فالوكيل باعها بخمسة وثلاثين ألفاً وقيمتها في السوق أربعون ألفاً، إذاً تبقى السيارة مع المشتري؛ لأن البيع صحيح، وعلى الوكيل أن يضمن لصاحب السيارة خمسة آلاف ريال، التي هي قيمة النقص، فإن عفا عنه فالحق له.

وظاهر كلام المؤلف أنه ضامن مطلقاً حتى وإن اجتهد

(1)

سبق تخريجه ص (37).

ص: 366

وتصرف تصرفاً تاماً، لكن تبين أن السلع قد زادت وهو لا يعلم، والصحيح أنه لا يضمن في هذه الحال لأنه مجتهد وحريص، بل لو باع الموكل في هذه الحال لَعَذَرَ نفسه، كذلك ـ أيضاً ـ الوكيل، ولو قلنا بأنه يضمن في هذه الحال ما استقامت الوكالة أبداً؛ لأن كل وكيل يقول: يحتمل أن تكون القيمة قد زادت ولم أدرِ، فإذا كان الرجل قد اجتهد وتحرى ولكن أتى أمرٌ بغير اختياره ولا يحتمل تفريطه، فالصواب أنه لا ضمان عليه.

قوله: «أو دون ما قدره له» هذه الصورة الثانية بأن قال: بع هذه السيارة بأربعين ألفاً، ومثلها في السوق بخمسة وثلاثين ألفاً، فباعها بخمسة وثلاثين، كما هو سعرها في السوق، يقول المؤلف: إن البيع صحيح، وعليه ضمان النقص بكل حال وهو خمسة آلاف؛ لأن صاحب السيارة حدد الثمن فقال: بع بأربعين، وهذا باع بخمسة وثلاثين، فإذا قال الوكيل: أنا بعت بثمن المثل ولا تساوي أكثر من هذا، قلنا: لكن الموكل حدد لك.

فإذا قال قائل: لماذا لا يبطل العقد من أصله؟

قلنا: لأن هذا الرجل لم يخالف في أصل العقد؛ لأن الوكيل أراد أن يبيعها فباعها، ولا ضرر عليه إلا في النقص وسوف يُضمن.

قوله: «أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل» هذه الصورة الثالثة، مثاله قلت لرجل: اشترِ لي مسجلاً فذهب واشترى مسجلاً بأربعمائة ريال وهو يساوي مائتين يصح الشراء؛ لأنه تعلق به حق ثالث، لكن الوكيل يضمن الزيادة.

ص: 367

قوله: «أو مما قدره له صح» هذه الصورة الرابعة، قال له: اشتر لي ـ مثلاً ـ ساعة ماركة كذا، وهي تباع بأربعين ريالاً، لكن صاحب الساعات صاحب للوكيل، فاشتراها بخمسة وأربعين، فنقول: الشراء صحيح؛ لأنه حصل مقصود الموكل، والزيادة عن ثمن المثل نُضمِّنُها الوكيلَ وهي خمسة الريالات.

لو قال الوكيل: الموكل قَدَّرَ لي أربعين لكن السعر زاد، واشتريتها بما تساويه كما هو معلوم في جميع محلات بيع الساعات أن قيمتها تساوي خمسة وأربعين؟

نقول: لكن الموكل حدد لك، لماذا لم ترجع إليه وتخبره أن القيمة زادت ثم تنظر، هل يستمر في التوكيل أو لا؟

قوله: «وضمن النقص» هذا فيما إذا باع بدون ثمن المثل، أو دون ما قدره له، ضمن النقص.

قوله: «والزيادة» هذا فيما إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له، وهذا يسمى عند البلاغيين (اللف والنشر المرتب)، وأحياناً يكون اللف والنشر غير مرتب، فيبدأ بالثاني ثم الأول.

مثاله قال الله ـ تعالى ـ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106]، هذا لف ونشر غير مرتب، وقوله ـ تعالى ـ:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} ، ثم قال:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 105 ـ 108] هذا لف ونشر مرتب.

فإذا قال قائل: ما هو الأصل أن يكون اللف والنشر مرتباً أو أن يكون غير مرتب؟

ص: 368

قلنا: الأصل أن يكون مرتباً؛ لكنه يأتي أحياناً غير مرتب لنكتة بلاغية تظهر عند التأمل، فالمؤلف هنا مشى على اللف والنشر المرتب.

‌وإِنْ بَاعَ بِأَزْيَدَ أَوْ قَالَ: بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً فَبَاعَ بِهِ حَالًّا، أو اشْتَرِ بِكَذَا حالًّا فَاشْتَرى بِهِ مُؤَجَّلاً، ولا ضَررَ فِيهِمَا صَحَّ وإِلاَّ فَلَا.

قوله: «وإن باع بأزيد» أي: أزيد من ثمن المثل فإنه يصح، كما لو عَيّن واحداً واشترى اثنين، والثاني قد جاءت به السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من الجعد بن عروة رضي الله عنه أن يشتري أضحية بدينار فاشترى شاتين، ثم باع واحدة بدينار وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

، وقد يقال: إن هذا يمكن فيه المنازعة؛ لأن هذا أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له وعدم قوله: لا تَعُد، يدل على أن مثل ذلك جائز.

مثال ما إذا باع بأزيد مما قدره له: قال: يا فلان بِعْ هذه الساعة بأربعين درهماً، فذهب وباعها بخمسة وأربعين، وجاء وقال له: خذ الخمسة والأربعين، فهذا يصح وإن عين، فإن أبى قال له الوكيل: أعطني الخمسة، وقدِّرْ أنك بعتها بأربعين.

لكن لو عَيّن من يبيعها عليه فقال: بعها على فلان بأربعين، ثم باعها عليه بخمسة وأربعين، فهنا لا يصح؛ لأن تعيين الموكل للشخص يدل على أنه أراد بذلك محاباة الشخص، وهذا لما باعها بأزيد فوت على الموكل غرضه، وحينئذ نقول: لا يصح، ارجع إليه ورد عليه الخمسة، أو نقول بأسوأ الأمرين: إن البيع غير صحيح.

(1)

سبق تخريجه ص (323).

ص: 369

قوله: «أو قال بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا، أو اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا» هاتان مسألتان:

الأولى: «بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا» قال: يا فلان خذ هذه الساعة بعها بأربعين درهماً لكنها مؤجلة إلى سنة، فذهب الوكيل وباعها بأربعين نقداً وجاء بالأربعين، فقال له الموكل: أنا قلت لك: بعها بأربعين مؤجلة إلى سنة، قال: هذا أحسن لك، أنا أتيت لك بالأربعين وبدلاً من أن تنتظر الوفاء لمدة سنة، الآن حصل الوفاء، فيقول المؤلف: يصح بشرط ألا يكون هناك ضرر.

وعُلِمَ من كلامه أنه إذا كان هناك ضرر فالبيع غير صحيح، وصورة الضرر أن يكون هذا الموكل يريد السفر، وليس راجعاً إلى البلد إلا بعد سنة، ويعلم أنه لو أخذ الدراهم الآن ضاعت منه، فله غرض في التأجيل، فالغرض هو ألا يضيع ماله، فنقول: في هذه الحال لا يصح البيع؛ لأن الموكل له غرض في التأجيل وأنت فوت عليه غرضه.

مثال آخر: أن يكون هذا الموكل في بلد فيه ولاة ظلمة يسطون على الناس، ومن وجدوا عنده مالاً ضربوا عليه ضرائب، أو أخذوا ماله، وهو يقول: لو أخذت الثمن حالًّا، ووضعته عندي، فجاءت أعين الظلمة وقالوا: هذا الرجل عنده مال وتسلطوا عليه، فهذا غرض صحيح، قال: أنا قلت لك بعه مؤجلاً؛ لأن الولاة الظلمة قد نشروا أعينهم في البلد، ومن رأوا

ص: 370

عنده مالاً أخذوه أو جعلوا عليه ضريبة، وأنا لا أريد ذلك، نقول: هذا فيه ضرر فَبَيْعُهُ نقداً فيه ضرر على الموكِّل.

الخلاصة: أنه إذا قال: بع بكذا مؤجلاً فباع به حالاً فالبيع صحيح، ويُلزم الموكل بقبض الثمن، إلا إذا كان في ذلك ضرر فالبيع غير صحيح ولا يلزم الموكل بقبض الثمن، وضربنا مثالين للضرر.

الثانية: «اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً» مثاله: قال: يا فلان هذه أربعون درهماً ـ والدرهم هو النقد من الفضة ـ اشتر لي ساعة بأربعين درهماً وعيَّن الساعة، فذهب الوكيل واشترى ساعة مؤجلة إلى سنة بأربعين درهماً، ورد الأربعين درهماً إلى الموكل، وقال ـ الحمد الله ـ جاءك ساعة بأربعين درهماً مؤجلة، وانتفع بدراهمك الآن، وإذا جاءت السنة فأوف، فهذا يصح بشرط ألا يكون هناك ضرر، والأحسن للناس التعجيل، حتى لو كان لك حق على شخص مؤجل، وقلت: يا فلان عندي لك عشرة آلاف إلى سنة، يكفيني منك ثمانية آلاف نقداً فأعطني ثمانية آلاف، فهذا يجوز، مع أنه أخذ عن العشرة ثمانية، فكُلٌّ يرغب التعجيل إلا أن يكون هناك ضرر.

الضرر أن هذا الموكل يقول: إذا جاءت الفلوس عندي فأنا رجل يدي خرقاء لا تمسك الدراهم، فيمكن أن أعمل وليمة لأصدقائي اليوم بأربعين ريالاً وأخسرها، فهذا ضرر علي، وهذا غرض صحيح، وكثير من الناس إذا كانت الدراهم عنده يضيعها.

ص: 371

فالخلاصة: أنه إذا باع بأقل من ثمن المثل أو مما قدر له فالبيع صحيح، وعليه ضمان النقص.

وإذا اشترى بأكثر مما قدر له أو بأكثر من ثمن المثل فالشراء صحيح، وعليه ضمان الزيادة.

وهذا إذا كانت المخالفة في الكمية، أما في الكيفية بأن قال: بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا أو اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً، فإننا نقول: يصح؛ لأنه هنا ليس فيه زيادة ولا نقص، إلا إذا كان في ذلك ضرر على الموكل فإنه لا يصح، والذي يقدر الضرر أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا الغرض الذي ذكره الموكل صحيح، وأن في التعجيل ضرراً، أو في التأخير ضرراً عمل به.

ص: 372

‌فصلٌ

‌وَإِنِ اشْتَرَى مَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ لَزِمَهُ إِنْ لَمْ يَرْضَ مُوَكِّلُهُ، فَإِنْ جَهِلَ رَدَّهُ ........

قوله: «وإن اشترى» الفاعل هنا الوكيل.

قوله: «ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله» وذلك أن الموكِّل إنما وكله في شراء شيء سليم، لا في شراء شيء معيب، وكلٌّ يعرف أنه لا أحد يقول: اشتر لي شيئاً معيباً.

مثاله: وكله في شراء سيارة، واشترى سيارة معيبة بثمن المثل ليس فيها زيادة ولا نقص، فنقول: يلزمك أنت أيها الوكيل، وتضمن للموكل الدراهم التي أعطاك، فإن رضي الموكِّل، بأن قال: هذا رجل محسن إلي وتعب في تحصيل السيارة وأنا راضٍ وإن كان فيها عيب، فإننا نقول: يصح ولا يلزم الوكيل شيء؛ لأن الحق له وقد رضي به.

لكن يبقى النظر إذا قلنا: إنه يلزم الوكيل هذا المبيع المعيب، وأن الموكل ليس له إلا مبيع سالم، هل يملك الوكيل أن يرد السلعة على من اشتراها منه؟

الجواب: لا يملك؛ لأن المؤلف يقول: «وإن اشترى ما يعلم عيبه» . فالوكيل الآن عالم بالعيب داخل على بصيرة وليس له حق الرد، إلا أنه يستثنى من ذلك ـ أي: في حق الرد ـ إذا قال الوكيل: أنا مشتريها لفلان بالوكالة، وأنا راض بالعيب، لكن إن لم يرض موكلي فهو على خياره، فإننا نقول: له الرد؛ وذلك لأن البائع دخل على بصيرة وقبل هذا الشرط.

قوله: «فإن جهل رده» الفاعل يعود على الوكيل، يعني إن

ص: 373

جهل العيب ولم يَدْرِ به رده، ولم يقل هنا: إنه يخير بين الرد وبين الأرش، والذي قرأ في باب الخيار يمر عليه أنه يخير إذا وجد العيب، بين إمضاء البيع مجاناً أو إمضائه بالأرش أو رده، وهنا يقول المؤلف:«إن جهل رده» فقط ولا يملك أخذ الأرش؛ لأن أخذ الأرش معاوضة جديدة إذ أن الأرشَ عوض عن الجزء الفائت بالعيب، ولا يملك أن يعاوض هو لأنه ليس أصيلاً بل هو وكيل وفرع، إلا إذا قال الموكل: لا بأس أن تأخذ الأرش.

إذن إذا اشترى معيباً وهو لا يعلم بعيبه ثم وجد العيب، نقول الآن: لك الخيار بين الرد والإمضاء، لكن الإمضاء لا بد أن يرضي الموكِّل، ولا نقول: لك الخيار بين الرد والإمضاء مع الأرش.

مثال ذلك: إنسان اشترى سيارة على أنها سليمة بأربعين ألفاً؛ ولما ذهب بها وجد أن فيها عيباً ينقص من قيمتها عشرة آلاف، فتكون قيمتها في الواقع ثلاثين ألفاً، نقول للمالك: أنت الآن بالخيار، إما أن ترد السيارة على البائع وتأخذ الأربعين، وإما أن تبقيها، وتأخذ عشرة عن العيب، أما الوكيل فقد سبق أنه لا يملك الأرش.

وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن لا أرش وأنه يقال لمن اشترى المبيع المعيب: إما أن ترد وإما تأخذه معيباً ولا أرش إلا برضا البائع، والبائع يقول للمشتري: خذ السلعة بعيبها وإلا ردها، وخذ دراهمك، أما أن تلزمني أن أخصم من الثمن فهذا لا يلزمني.

ص: 374

‌وَوَكِيلُ البَيْعِ يُسَلِّمُهُ وَلَا يَقْبِضُ الثَّمنَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَيُسَلِّمُ وَكِيلُ المُشْتَري الثَّمَنَ، فَلَوْ أخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ وتَلِفَ ضَمِنَهُ ......

قوله: «ووكيل البيع» أي: الذي وُكل في بيع.

قوله: «يسلِّمه» أي: يسلم المبيع؛ لأن هذا من مقتضى العقد.

مثاله: أعطيت رجلاً ساعة يبيعها لك فباعها، فسلمها إلى المشتري مع أن الموكل لم يقل: بعها وسلمه إياها، إنما أمرك بالبيع، فنقول: التسليم من مقتضى العقد؛ لأنه إذا تم البيع مَلَكَ المشتري السلعة، ووجب أن تسلمها له.

وهل يقبض الثمن؟

قال المؤلف: «ولا يقبض الثمن» وجه ذلك أمران:

الأول: أنه وُكل في البيع دون قبض الثمن، وقبض الثمن ليس من مقتضى البيع.

الثاني: أنه قد يرضى أن يبيع له، ولا يرضى أن يقبض الثمن؛ لأنه غير أمين عليه عند الموكل، فلهذا قالوا: إنه يملك تسليم المبيع، ولا يملك تسلُّم الثمن؛ لهذين الوجهين.

وهذا أحد الأقوال الثلاثة، فالقول الأول: أنه لا يقبض الثمن مطلقاً إلا بتوكيل خاص، والقول الثاني: أنه يقبضه مطلقاً، والقول الثالث أنه يقبضه بالقرينة، والذي عليه عمل الناس أن الوكيل وكيل في البيع وقبض الثمن وهذا هو القول الراجح.

قوله: «بغير قرينة» يعني فإن وُجدت قرينة فإنه يقبض الثمن وجوباً، والقرينة نوعان: شرعية، وعُرفية.

فالقرينة الشرعية هي ما إذا كان البيع يشترط فيه التقابض، فإنه لا بد أن يقبض الثمن.

ص: 375

مثاله: أعطاه حُليًّا من الذهب وقال: بعه، فهنا لا يمكن أن يبيع الذهب بدراهم دون قَبض؛ بل لا بد من القبض، وحينئذ نقول: هذه القرينة، قرينة شرعية.

والقرينة العرفية لها صورتان:

الأولى: مثل أن يبيعه على رجل، غريب لا يُعرف، فإذا لم يقبض الثمن منه فإنه سوف يضيع، فهنا القرينة تدل على أنه لا بد أن يقبضه.

والثانية: مثل ما لو باعه على من عُرِفَ بالمماطلة، فهنا يقبض الثمن؛ لأنه من مصلحة الموكل.

فإن قال قائل: لماذا لا تمنعونه من الأصل، بأن يبيع على غريب، أو على مماطل؟

قلنا: إنه قد تقتضي المصلحة وزيادة الثمن أن يبيع على الغريب والمماطل، وإذا كان سيُسلم له الثمن فلا ضرر.

وإذا أذن الموكل للوكيل أن يقبض الثمن فهل يقبضه؟

الجواب: نعم يقبضه من باب أولى.

وإذا قال: لا تقبض الثمن، فلا يقبضه ولو وجدت قرينة؛ لأنه نهاه وقال له: لا تقبض الثمن.

لكن إذا قال قائل: إذا نهاه أن يقبض الثمن، فمن المعلوم أن الموكل ليس غبياً، بحيث لا يأذن له إذا دلت القرينة على أنه يقبضه.

فيقال: إذا كنا نعلم هذا من حال الموكل، أنه لو باعه على

ص: 376

من يخشى ألا يُسَلِّم الثمن، فحينئذ نقول: هذه قرينة فليقبضه.

قوله: «ويسلم وكيل المشتري الثمن» أي: إذا أعطاه دراهم، وقال: اشتر لي بها سلعة، فاشترى السلعة، نقول: يجب أن يسلم الثمن، حتى وإن لم يقل له: سَلِّمهُ للبائع؛ لأن هذا من مقتضى العقد، كما أن وكيل البيع يُسَلِّم المبيع، فوكيل الشراء يُسَلِّم الثمن، وهل يقبض المبيع أم لا؟ المذهب لا يقبضه إلا بإذن أو قرينة، والصحيح أنه يستلمه مطلقاً، والعرف عندنا الآن أنني إذا وكلت في شراء شيء فإنه يتضمن الإذن في قبضه، بل لو اشترى الوكيل من صاحب الدكان وأعطاه الدراهم ورجع بدون استلام السلعة لعد هذا مفرطاً بلا شك.

إذاً نقول: إن استلام الوكيل في الشراء للسلعة المشتراة أقوى من استلام الثمن بالنسبة للوكيل في البيع، ومع ذلك فالصحيح أن العرف يقتضي استلام الثمن من الوكيل في البيع، واستلام السلعة من الوكيل في الشراء.

قوله: «فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه» أي: لو أخر الوكيل تسليم الثمن بلا عذر ضمنه إذا تلف.

مثاله: أعطيت رجلاً أربعين درهماً يشتري بها سلعة، واشترى السلعة في أول النهار وقال للبائع: آتي لك بالثمن في آخر النهار، أو سكت ولم يأت به إلا آخر النهار، لكنه فيما بين الشراء وآخر النهار تلف الثمن، فإن المشتري يضمنه؛ لأنه مفرط، إذ أن الواجب عليه أن يُسَلِّم الثمن مباشرة، هذا ما ذهب إليه المؤلف.

ص: 377

ولكن الصواب أن يقال: الحكم يدور مع علته، والناس إذا اشترى منهم الإنسان سلعة في أول النهار وأتى بالثمن في آخره، لا يعدُّونه مفرطاً؛ لأن هذا مما جرت به العادة.

فالصواب أن يقال: إن أخر تسليم الثمن تأخيراً يُعَدُّ به مفرِّطاً فهو ضامن، وإلا فلا.

وتعليل الفقهاء رحمهم الله يدل على هذا، وليس من المتيسر أن تكون الدراهم في جيبه، بل ربما يمر بالشارع ويجد السلعة التي وكل في شرائها ويشتريها، ثم إذا صار في آخر النهار أتى له بالثمن، وهذا أمر شائع ومعروف.

وقوله: «فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه» أي: لو أخره بإذن البائع وتلف هل يكون من ضمان البائع أو من ضمان الموكل؟

الجواب: من ضمان البائع؛ لأن الموكل بمجرد الشراء صار الثمن مستحقّاً للبائع، والبائع قال للوكيل: يمكن أن تعطيني الدراهم اليوم أو غداً أو بعد غد ولا مانع، وفي هذه الأثناء تلف الثمن بدون تعدٍّ ولا تفريط من الوكيل فضمانه على البائع؛ لأن الوكيل إنما أبقاه بإذن مستحقه وهو البائع.

‌وَإِن وكَّلَهُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ فَبَاعَ صَحِيحَاً، أَوْ وَكَّلَهُ فِي كلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ، أَوْ شِرَاءِ ما شَاءَ، أو عَيْناً بِمَا شَاءَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يَصِحَّ.

........

قوله: «وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً، أو وكله في كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء، أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح» تضمن كلام المؤلف أربع مسائل:

المسألة الأولى: إذا وكله في بيع فاسد، فباع بيعاً صحيحاً، مثل أن يوكله في بيع جمل شارد فالتوكيل لا يصح؛ لأن البيع

ص: 378

حينئذ فاسد، فلو حضر الجمل فباعه بدون توكيل جديد لم يصح؛ لأن أصل الوكالة فاسد؛ إذ إن الموكل لا يملك بيع الجمل الشارد حتى يحضر، فإن علق الوكالة بحضوره فقال: متى حضر فأنت وكيل في بيعه، صحت الوكالة؛ لأنها تصح معلقة.

مثال ثانٍ: إذا وكله في بيع خمر، بأن كان عنده قلة خمر، فقال له: بعها، فبيعُ الخمر بيع فاسد، لكن الخمر تخللت بنفسها، وإذا تخللت بنفسها صارت حلالاً، فهل يملك الوكيل بعد أن تخللت بنفسها أن يبيعها؟

الجواب: لا؛ لأن أصل الوكالة غير صحيح، فلا يبيعها بعد ذلك.

مثال ثالث: باع شيئاً مجهولاً، بأن قال: وكلتك في بيع ما في بيتي من المتاع وهو مجهول، حتى الموكل لا يعلمه، لكن الوكيل ذهب وباعه قبل أن يعلم، فالوكالة تكون غير صحيحة والبيع غير صحيح، لكن لو ذهب ورآه، فهذا يأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام عليه في كلام المؤلف إذا وكله في شيء مجهول.

المسألة الثانية: «أو وكله في كل قليل وكثير» هذا ـ أيضاً ـ لا يصح، إذا وكله في كل قليل وكثير، على أنه يشمل جميع الأجناس، وجميع الأنواع وجميع الأفراد، فهذا لا يصح، قال: اذهب إلى السوق وأنت وكيلي في كل شيء، في كل قليل وكثير، فوجد سيارات فاشترى له السيارات، ووجد إبلاً فاشتراها، ووجد بقراً فاشتراها، ووجد حميراً فاشتراها، أو طلق نساءه الأربع أو أعتق جميع عبيده؛ فهذا لا يصح؛ لأن هذا يعظم به الضرر، وفيه

ص: 379

جهالة عظيمة، هذه هي العلة؛ إذن نقول: الوكالة غير صحيحة، فليس للوكيل أن يتصرف.

أما لو عيّن نوعاً وقال ـ مثلاً ـ: اشتر لي أرزاً قليلاً كان أو كثيراً، ولو أتيت لي بكل ما في السوق، فهنا الخطر قليل، فالصحيح أنه جائز؛ لأن الموكل أراد أن يشتري جميع ما في السوق؛ لأجل أن يوزعه على الفقراء في وقت الحاجة.

المسألة الثالثة: «أو شراء ما شاء» قال: اشتر ما شئت، أنت وكيل عني، فلا يصح هذا؛ لأنه لو أتى له بقلم بخمسة ريالات وقال له: أنت وكلتني وقلتَ: اشتر ما شئت، وأنا اشتريت لك قلماً بخمسة ريالات، وهذا الرجل ممن يقتني الأقلام التي بمائتي ريال، أو ذهب واشترى له سيارة قيمتها مليون ريال، فهذا فيه خطر، ولا يصح.

أما لو عين النوع وقال ـ مثلاً ـ: أنا وكلتك لتشتري شاة لوليمة، فيشمل الصغيرة والكبيرة والسمينة والهزيلة، فهذا الخطر فيه قليل، ويتسامح فيه؛ لأنه مما جرت به العادة، لكن اشتر ما شئت بدون أن يذكر نوعاً، فهذا خطره عظيم ولا تصح الوكالة فيه.

المسألة الرابعة: «أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح» كلام المؤلف فيه نظر.

مثاله: قال: اشتر لي الساعة الفلانية موديل كذا وصفتها كذا وكذا، فقال له: بكم؟ قال: بما تشاء، يقول بأن هذا لا يصح؛ لأنه ربما لا تساوي إلا عشرة، ويقول للبائع: أخذتها

ص: 380

بخمسين، فإذا جاء بها إلى الموكل قال: خذ هذه الساعة بخمسين، فقال: هذه لا تساوي إلا عشرة، قال: أنت قلت لي: اشتر بما شئت وأنا شئت أن أشتريها بخمسين، فهنا المؤلف يقول: لا يصح، لكن نحن نعلم علم اليقين أن الموكل لما قال للوكيل: بما شئت، فإنما وَكَلَهُ إلى أمانته، وليس من الأمانة أن يشتري ما يساوي عشرة بخمسين.

ولو عين له عيناً، وقال: اشترها، قال: بكم؟ قال: بما ترى أنه مناسب، فهذا يصح، وقد يقال: إنها داخلة في كلام المؤلف، وأنها لا تصح، وقد يقال: إنها غير داخلة؛ لأنه هنا لم يقيده بالمشيئة المطلقة، وإنما قيده بما يرى أنه مناسب، وهذا نوع من التخصيص فلا يكون كالمشيئة المطلقة.

مثال آخر: قال: اشتر للوفد الذين يحضرون إليَّ أو الضيوف شاة، فقال: بكم؟ قال: بما ترى أنه مناسب، فهذا جائز؛ لأن هذا وإن كان فيه شيء من الجهالة وربما يشتريها بثمن لم يخطر على بال الموكل، لكن مثل هذا يكون قليلاً، ومما يتسامح الناس فيه عادة، وحقيقة الأمر أن هذه مسائل فردية لكن ينبغي أن نعرف لها ضابطاً.

والضابط في ذلك: «أن كل ما دل عليه العُرف أو القرينة مما يحتمله كلام الموكل، وليس فيه محظور شرعي، فإنه صحيح» ؛ وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، فإذا لم تخالف الشرع، ولم تخالف العُرف، ولم تخالف لفظ المتعامِلَيْنِ فإن الأصل فيها الصحة.

ص: 381

‌وَالوَكِيلُ في الخُصُومَةِ لا يَقْبِضُ وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ وَاقَبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ لا يَقْبِضُ مِنْ وَرَثَتِهِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: الذي قِبَلَهُ وَلَا يَضْمنُ وَكيلُ الإيداعِ إِذا لَمْ يُشْهِدْ.

قوله: «والوكيل في الخصومة لا يقبض» أفادنا المؤلف أولاً أنه يجوز التوكيل في الخصومة، يعني يجوز أن توكل شخصاً أن يخاصم عنك.

وهل يجوز قبول هذه الوكالة أو لا؟ في ذلك تفصيل فلا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن تعلم أنه محق، أو تعلم أنه مبطل، أو تتردد.

فإن علمت أن الموكل محق لكن خصمه خَصِمٌ جَدِلٌ، فهنا يجوز لك أن تقبل الوكالة في الخصومة، بل قد نقول: إنه يُشرع أو يجب؛ لأن في هذا استنقاذاً لحق أخيك، ونصرة له وللظالم ـ أيضاً ـ أما نصرته؛ فلأنك سبب لوصول الحق إليه، وأما نصرة الظالم؛ فلمنعه من الظلم.

وإذا علمت أنه مبطل لكنه اختار هذا الوكيل؛ لأنه وكيل جدلي يستطيع أن يقلب الباطل حقّاً، والحق باطلاً، فهنا لا يجوز أن تقبل هذه الوكالة؛ لقوله ـ تعالى ـ:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وإذا ترددت فالسلامة أولى، أي: لا تقبل الوكالة، فالإمام أحمد رحمه الله لا يعدل بالسلامة شيئاً، ولا سيما في أوقاتنا هذه عند تغير الزمان واختلاف الذمم.

فالذين يتوكلون ويسمون (بالمحامين)، فالمحامي إذا قال: هل يجوز أن أشتغل بالمحاماة؟

نقول: في هذا تفصيل، إن كنت تحامي عن شخص عاجز عن دفع الظلم عن نفسه فهذا خير، وهو دائر بين الوجوب أو

ص: 382

الاستحباب، وإن كنت تحامي من أجل أن تحصل على المال، سواء كان صاحبك محقاً أو مبطلاً، فهذا لا يجوز، وإن علمت أنه مبطل صار ذلك أشد تحريماً.

نرجع الآن ونقول: هل يجوز أن يوكل من يخاصم عنه؟

الجواب: نعم، يجوز.

فإذا قيل: ما الدليل؟ قلنا: لا حاجة لطلب الدليل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، فأي إنسان يطالبك بدليل أي معاملة، فقل: الدليل عليك أنت، هات الدليل على التحريم وأنا ألتزم به.

فإذا وكله في الخصومة فيقول المؤلف: إنه لا يملك القبض، فإذا وكل زيد عمراً أن يخاصم عنه خَصْمَه، فخاصمه وحكم القاضي للموكل، فهل للوكيل أن يقبض ما حصلت فيه الخصومة؟

يقول المؤلف: لا؛ لأن اللفظ لا يتناول القبض، ولأنه ربما يرضى في وكالة الخصومة من لا يرضاه في وكالة القبض، فربما يكون هذا الرجل قويّاً في الخصومة لكنه غير أمين، وربما لو قبض المال ذهب وأفسده، أو ادعى التلف، أو يؤذي صاحب المال في تخليصه منه، فقد أوكِّل في الخصومة من لا أرضاه في القبض.

وقال بعض أهل العلم: يُنظر في ذلك إلى قرائن الأحوال، فإذا كان الوكيل في الخصومة في بلد غير الموكل، فهنا القرينة تقتضي أن يقبض؛ لأن الموكل ليس حاضراً حتى يُقال: إن الموكل هو الذي يقبض، وقد جرت العادة في مثل هذا أن الوكيل

ص: 383

في الخصومة يقبض، إلا إذا نهاه وقال: أنت وكيلي في الخصومة ولكن لا تقبض شيئاً، فهنا لا يقبض على كل حال.

وحينئذ نقول: على القول الراجح لا تخلو المسألة من ثلاث حالات:

الأولى: أن يقول: أنت وكيلي في الخصومة والقبض، فهنا يملك الخصومة والقبض.

الثانية: أن يقول: أنت وكيلي في الخصومة لا في القبض، فيكون وكيلاً في الخصومة ولا يقبض.

الثالثة: أن يسكت، فالمؤلف يرى أنه لا يقبض.

والراجح أنه يرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال، فإن دلت القرينة على أنه يقبض قبض، وإلا فلا، وإذا قلنا بهذا القول ولم يقبض صار مفرطاً فيكون عليه الضمان.

قوله: «والعكس بالعكس» الوكيل في القبض له أن يخاصم، يعني لو قلت: يا فلان أنت وكيلي، اقبض حقي من زيد، فإذا طلب الحق من زيد، وقال زيد: ليس له عندي شيء فأنكر، فهنا نحتاج إلى خصومة، فهل يملك الوكيل في القبض أن يخاصم؟

نعم والتعليل؛ لأنه قد لا يتأتى القبض إلا بخصومة، فالخصومة قد تكون أحياناً هي التي يتمكن بها من القبض، فلهذا إذا وكله في القبض فله أن يخاصم، هكذا قال المؤلف رحمه الله وأطلق، ولكن في الإطلاق نظر؛ لأنني قد أثق به في القبض لكنني لا أعتمد عليه في الخصومة؛ لكونه رجلاً ضعيفاً لا يمكنه

ص: 384

أن يحاج ولا يعرف أن يخاصم، وصاحبي الذي أنا أطلب منه رجل قوي في الخصومة، فيقول له: ما عندي لك شيء، ولا عندي لموكلك شيء، وإذا خاصم وكيلي في القبض غلبه، فهذا الكلام الذي قاله المؤلف فيه نظر.

بل نقول: إذا وكله في القبض، فإنه لا يملك الخصومة، إلا إذا قال: وإن احتجت إلى خصومة فخاصم، فإذا وكله في القبض ثم ذهب إلى الغريم، وقال: ليس عندي شيء، فهنا يرجع إلى موكله ويقول: الرجل أنكر، فهل توكلني أن أخاصم أو توكل غيري؟ لأن الإنسان ليس ملزماً، إذا وكل في شيء أن يتمه؛ لأن الوكالة عقد جائز، فإذا طلب الحق وقال المحقوق: ليس عندي لموكلك شيء، يجب أن يتوقف ولا يخاصم؛ لأنه قد يخاصم فَيُغْلَبُ والحقُ معه؛ لأن صاحبه خصم لدود، وهو ضعيف، فنقول: الوكيل في القبض لا يملك الخصومة، إلا بإذن خاص.

قوله: «واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته» إذا وكله في قبض حقه من زيد، قال: يا فلان لي عند زيد عشرة آلاف ريال، فأنت وكيلي في قبضها، فذهب الوكيل إلى زيد ووجده قد توفي، فإن المال ينتقل إلى ورثته، فهل يقبض من الورثة؟

يقول المؤلف: لا يقبض من الورثة؛ لأن الوكالة تتقيد بما قيدها به الموكل، والموكل قال: اقبض

ص: 385

حقي من زيد، فوجد زيداً قد توفي، فإننا نقول: لا تقبض من الورثة، حتى لو قال الورثة: يا فلان أنت وكيل فلان؟ قال: نعم، قالوا: عند أبينا له كذا وكذا، تفضل وخذه، فإنه لا يتسلمه؛ لأن الموكل قال: اقبض حقي من زيد، وقد تتغير حال الموكل إذا علم أن غريمه قد توفي، ويكون قد ترك صغاراً وأيتاماً وعجائز، فيريد أن يبرئهم منه، وعلى هذا فماذا يصنع إذا كان لا يريد أن يأخذ من ورثته؟ يخبر الموكل، فيقول: إني وجدته قد توفي، فهل توكلني في أن أقبض من ورثته أو لا؟ فهو الآن بالخيار.

قوله: «إلا أن يقول الذي قِبله» الضمير يعود على الموكل أي: إلا إذا قال: اقبض حقي الذي قِبَلَ زيد ـ أي: من جهته ـ فاقبض حقي من زيد، هذا لا يقبض من الورثة، واقبض حقي الذي قِبَلَ زيد، فهنا يقبض من الورثة؛ لأنه وكله في قبض حقه دون تعيين من يقبضه منه.

فهنا فرق بين العبارات مع أن أكثر الناس لا يميز الفرق بين اقبض حقي من زيد، واقبض حقي الذي قبل زيد أو عند زيد، وما أشبه ذلك، لكن الواقع أن بينهما فرقاً واضحاً؛ لأن اقبض حقي من زيد عَيَّنَ المقبوض منه، واقبض حقي الذي قِبَلَ زيد لم يُعَيَّن المقبوض منه لكنه عيّن الجهة، لكن هذه المسائل الدقيقة لا أظن أن العوام يفرقون بينها، فالعامي إذا قال: اقبض حقي من زيد، فهو بمنزلة قوله: اقبض حقي الذي قبل زيد، فإذا علمنا يقيناً أن هذا هو المراد فإن الوكيل يقبض من الورثة، وإذا شككنا فالسلامة.

ومتى شككنا في ملك الشيء فخذوا بالسلامة، وكان الإمام أحمد رحمه الله لا يعدل بالسلامة شيئاً، وأنت الآن إذا قبضت من الورثة وأنت شاك فقد أخذت ما ترددت فيه، لكن إذا

ص: 386

لم تقبض فليس عليك لوم، فأنت سالم، وعليه فمتى تردد الإنسان في الإمضاء أو التوقف فالسلامة التوقف.

قوله: «ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يُشهد» وكيل الإيداع، مثاله: وكلتك أن تودع شيئاً عند شخص، فقلت: يا فلان هذه عشرة آلاف ريال اذهب بها إلى فلان وديعة عنده، ومعنى وديعة، أي: يكون حافظاً لها، فأخذها الوكيل وذهب بها إلى فلان، وأعطاها إياه بدون شهود.

يقول المؤلف: إنه لا يضمن الوكيل؛ لأنه لو فرض أن المُوْدَع أنكر فقال: ما أعطيتني وديعة، فقال له الوكيل: يا رجل جئت إليك في البيت وأعطيتك عشرة آلاف ريال، وقلت: هذه وديعة من فلان، احفظها له حتى يرجع من سفره، فأنكر، فهل يضمن الوكيل في الإيداع؟ أي: الذي وكلته أن يودعها عند زيد؟

يقول المؤلف: لا يضمن؛ لأن المُودَع يقبل قوله في الرد، فلو أن إنساناً ادعى أنه أودع شخصاً مالاً، وقال: رددته، فهل يلزمه شيء؟

الجواب: لا يلزمه؛ لأن الأصل براءة ذمته، فالوكيل لما لم يُشْهِدْ لم يكن مفرِّطاً؛ إذ لو قدر أنه أشهد وثبتت الوديعة عند المودَع، ثم ادعى ردَّها وقال: صحيح أنت أودعتني لفلان عشرة آلاف ريال لكنني رددتها عليه، فإنه يقبل قوله، فيكون إذن الإشهاد لا فائدة منه، سواء أشهد أو لم يشهد، فإن المودَع يقبل قوله في رد الوديعة، هكذا قال المؤلف رحمه الله.

ولكن في كلامه نظر، والصحيح أنه يضمن، إلا في حالين:

ص: 387

الأولى: إذا كان المُودَعُ شيئاً زهيداً، لم تجر العادة بالإشهاد عليه.

الثانية: إذا كان المُودَعُ رجلاً مبرِّزاً في العدالة، جرت العادة ألا يُشْهَدَ عليه إذا أودع؛ لأنه أمين عند الناس كلهم، فهنا نقول: إن المودِع الذي وكل في الإيداع لا يضمن؛ لأن الناس كلهم لا يقولون: هذا مفرط.

مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً عشرة ريالات، وقال: أنا سوف أسافر وهذه الريالات العشرة، خذها واجعلها وديعة عند فلان وأعطاها إياه، فهل يضمن إذا لم يُشهد؟

الجواب: لا؛ لأنها شيء زهيد، فلو أن هذا الوكيل، ذهب وأتى بشاهدين، وقال: اشهدا أني أعطيت هذا الرجل عشرة ريالات وديعة، فإن الناس يستخفون به لا شك، ولا يعدون هذا مناسباً.

مثال آخر: رجل أعطى شخصاً دراهم، وقال: دعها أمانة عند شخص يحفظها لي، فذهب الرجل إلى رجل مبرز في العدالة، أمين عالم عابد حافظ، ليس كثير النسيان حتى نقول: خرف ونسي، ثم أودعها عنده، فإن العادة لم تجر أن يُشْهَدَ على مثل هذا.

فالصواب أن يقال: إن الوكيل، في الإيداع إذا لم يُشهد إن عُدّ مفرّطاً فهو ضامن وإلا فلا، ولكن كيف يعد مفرطاً؟

نقول: هو مفرط إذا لم يشهد مطلقاً إلا في حالين: إما لزهادة الوديعة، وإما لاعتبار المودَع.

ص: 388

وإذا قال قائل: ما الفائدة من الإشهاد إذا كان قول المُودَع مقبولاً في الرد؟

الجواب: الفائدة هو أنه قد لا يدعي الرد، فقد يكون عنده من الإيمان، ما يمنعه أن يدعي الرد وهو لم يرد، لكن ينسى فينكر الوديعة، فيقول: ما أودعتني، فحينئذ إذا لم يكن شهود فإن الوديعة تضيع، وإذا كان هناك شهود فلا تضيع؛ لأن الشهود سيثبتونها، وحينئذ يكون عدم الإشهاد فيه تفريط من الوكيل، فيضمن.

وتعليل كلام المؤلف أن الوديعة يقبل فيها قول المودَع إذا ادعى الرد فلا فائدة من الإشهاد، حتى لو أقر بأن قال: أودعتني ولكني رددتها.

فنقول: هذا التعليل صحيح من جهة؛ لكنه عليل من جهة أخرى، فنقول: يُشهد خوفاً من النسيان كما سبق.

فالمذهب إذاً أن لا يضمن مطلقاً، والقول الثاني يضمن مطلقاً، وهذا قول ذكره صاحب الرعاية، والقول الثالث التفريق بين ما يعد عدم الإشهاد عليه تفريطاً وما لم يُعَد، فما عد تفريطاً وجب عليه الضمان، وما لم يعد فلا، وهذا هو القول الراجح.

ص: 389

‌فصلٌ

‌والوَكِيلُ أَمِينٌ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بيدِهِ بِلا تَفْرِيطٍ ويُقْبَلُ قَوْلُهُ في نَفْيِهِ وَالهَلَاكِ مَعَ يَمِينِهِ.

قوله: «والوكيل أمين» أمين بمعنى مؤتمن، فهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأن المال حصل بيده بإذن مالكه، أفادنا المؤلف رحمه الله أن الناس الذين بأيديهم أموال الناس منهم أمناء ومنهم غير أمناء، فما هو الضابط للأمين من غير الأمين؟

نقول الضابط: (كل من كان المال بيده بإذن من الشارع أو بإذن من المالك فهو أمين، ومن كان في يده بغير إذن من الشارع أو من المالك فليس بأمين)، فلننظر ولي اليتيم: أمين، أذن له الشرع، ناظر الوقف: أمين، أذنَ له الواقف، المُوصَى إليه: أمين، أذن له الموصِي، المستأجر الذي تحتَ يده العين مؤجرة: أمين، أذن له المُؤجر وهلم جَرّاً.

والوكيل أمين؛ لأن العين حصلت بيده بإذن من الموكِّل، ومتى ترتفع الأمانة؟

ترتفع الأمانة إذا تعدى أو فرط، وصارت يده غير أمينة.

مثال ذلك: أودعت شخصاً عشرة آلاف ريال، وجعلها أمام عينه في الصندوق وبقيت في الصندوق لم يتصرف فيها، فهو الآن أمين؛ لأن الدراهم تحت يده بإذن من المالك، هذا الرجل احتاج يوماً من الأيام واستقرض هذه الدراهم، واشترى بها حاجة ثم ردها في يومها إلى الصندوق، فتزول أمانته؛ لأن يده صارت غير أمينة؛ لأنه تصرف في المال بغير إذن مالكه، وهذا من التعدي.

فإذا قال قائل: هو أخذ عشرة آلاف وردها في اليوم نفسه، وفي الصندوق نفسه؟

ص: 390

نقول: لكن ليس له حق أن يتصرف في عين مال الغير إلا بإذنه، وهذا لم يُؤذن له.

ولو فرض أن هذا الصندوق احترق وتلفت الأموال التي فيه، ومن جملتها عشرة الآلاف، وذلك بعد أن تصرف فيها وردها فإنه يضمنها؛ لأنه صار غير أمين بتصرفه فيها، أما لو أبقاها ولم يتصرف فيها، ثم احترق الصندوق فليس عليه ضمان؛ لأنه أمين، انتبه لهذه القواعد لأنها مفيدة جدّاً.

وقوله: «والوكيل أمين» ثم بين الحكم الذي يترتب على كونه أميناً فقال:

«لا يضمن ما تلف بيده» أي: من المال الذي ائتمن عليه.

قوله: «بلا تفريط» أي: ولا تعدٍ، وإنما لم يذكر المؤلف التعدي؛ لأنه إذا كان يضمن بالتفريط فضمانه بالتعدي من باب أولى، ولكن مع هذا الأولى أن يذكر، فشَرْطُ عدمِ الضمان ألا يفرط ولا يتعدى، والفرق بين التفريط والتعدي:

التعدي أن يفعل ما لا يجوز، والتفريط أن يترك ما يجب.

فما طُلب فعله فتركه يسمى تفريطاً، وما طلب الامتناع منه ففعله يسمى تعدياً.

ففي المثال الذي ذكرنا من قبل في مسألة الوديعة، إذا أخذ الدراهم التي أودعَها وتصرف فيها فهذا تعدٍّ، وإذا وضع الدراهم فوق سطح الصندوق، وغفل ثم سُرقت فهذا تفريط؛ لأنه ترك ما يجب، إذ إن الواجب عليه أن يحفظها فوراً بما تحفظ فيه عادة.

ص: 391

مثال آخر: الوكيل وكله في شراء ساعة، واشترى الساعة، ثم وضعها في بيته على رف يتناوله الصبيان، فأخذ الصبيان الساعة وخرَّبوها، فإنه يضمن؛ لأنه فرَّط.

مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة فاشتراها، ثم إنه نسي ساعته في البيت فوضع الساعة التي اشتراها لي في يده ـ يعني استعملها ـ فجاءها شيء وكسرها، فإنه يضمن؛ لأن هذا من التعدي.

مثال آخر: اشترى الساعة ووضعها في رف عال لا يتناوله الصبيان، ولكن أحد الصبيان كان بذيّاً، أتى بسلم، وصعد على الرف وأخذ الساعة وكسرها، فهنا لا يضمن؛ لأن هذا ليس تعدياً ولا تفريطاً، إذ إنه جرت العادة أن الناس يحفظون مثل الساعة وشبهها في الرفوف العالية عن الصبيان، وهذا الصبي خرج عن العادة.

فعلى كل حال، إذا تلف الشيء الذي تحت يده بتعدٍّ أو تفريط فهو ضامن، وبلا تعدٍّ ولا تفريط فهو غير ضامن.

قوله: «ويقبل قوله» أي: الوكيل.

قوله: «في نفيه» أي: في نفي التفريط.

قوله: «والهلاك مع يمينه» أي: ويقبل قوله في التلف، لكن «مع يمينه» ؛ لأن كل من قلنا القول قوله فيما يتعلق بحق العباد فلا بد فيه من اليمين، أي: لو قال الموكل: إنك قد فرطت، فقال: لم أفرط، فالقول قول الوكيل لوجهين:

الأول: أن الأصل عدم التفريط.

ص: 392

الثاني: أن الموكل قد ائتمنه على ذلك، وإذا ائتمنه فإنه لا يصح أن يعود فَيُخَوِّنَهُ بدون سبب أو ثبوت شرعي.

وكذلك يقبل قوله في الهلاك، أي: تلف المال، مثل أن يقول: أخذت منك هذه السلعة لأبيعها لك لكن تلفت، فإنه يقبل قوله.

وهل يقبل قول الموكل في طلب التفصيل، بمعنى أن يقول الموكل: بأي شيء تلفت؟

الجواب: لا يلزم الوكيل أن يبين بماذا تلفت، ويكفي أن يقول قد تلفت، وإذا قال تلفت فهو أمين، لكن لا بد من اليمين كما سيأتي، لكن لو ادعى الوكيل الهلاك بسبب ظاهر، مثل أن يقول: المال تلف؛ لأن دكاني احترق، فالسبب الآن ظاهر، فيقال: هات بينة على أنه احترق، ولا بد، فإذا أتى ببينة قُبِلَ قوله أن المال الذي وُكِّلَ فيه مع المال الذي تلف.

وكذلك ـ أيضاً ـ لو قال: إنه انهدم عليه الدكان، نقول: هات بينة؛ لأن انهدام الدكان سبب ظاهر، فإذا أتى ببينة، وقال: إن المال الذي وكل فيه مع المال الذي تلف بانهدام الدكان، فإنه يقبل قوله.

فالخلاصة الآن أنه يقبل قوله في التلف، وهو الذي ذكره المؤلف بلفظ الهلاك ولا يُلزم بالتفصيل، فلا يقال له: بماذا تلف؟ وكيف تلف؟ ومتى تلف؟ لكن لو أنه ادعاه بسبب ظاهر، وقال: الدكان احترق أو الأمطار هطلت وهدمت البناء، أو ما

ص: 393

أشبه ذلك، نقول: أقم بينة على أنه حصل الحريق، أو أقم بينة أنه حصل الهدم.

فإذا ادعى الموكِّل أن المال لم يكن مع ما احترق، فالقول قول الوكيل؛ لأنه مؤتمن.

‌وَمَنْ ادَّعى وَكَالةَ زَيْدٍ فِي قَبْضِ حَقِّهِ مِنْ عَمْروٍ، لَم يلزَمْهُ دفعُهُ إِنْ صَدَّقَهُ وَلَا اليمينُ إِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ دَفَعَهُ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ الوَكَالةَ حَلَفَ وضَمِنَهُ عَمْرٌو، وَإِنْ كَانَ المُدْفوعُ وَدِيعةً أَخَذَهَا فإِنْ تَلِفَتْ ضَمَّنَ أيُّهما شَاءَ.

قوله: «ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو، لم يلزمه دفعه إن صدقه» «وكالة» هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، يعني ادعى أن زيداً وكَّلَه «في قبض حقه» ، أي: حق زيد من عمرو، فأركان المسألة ثلاثة: زيد هو الطالب، وعمرو هو المطلوب، وعبد الله هو الوكيل، فجاء عبد الله إلى عمرو وقال: إن زيداً وكلني في قبض حقه منك، قال: أنت رجل صدوق دَيِّنٌ ورع، ولكن لا أعطيك، ولذا قال المؤلف:«لم يلزمه دفعه إن صدقه» أي: لم يلزم عمراً «دفعه» أي: الحق، «إن صدقه» أي: إن صدق مدعي الوكالة وهو عبد الله، فعمرو قال لعبد الله: أنا لا أقول لك إنك كاذب، فأنت رجل صدوق، وكأني أسمعه وهو يوكلك من أمانتك عندي وصدقك، لكن لن أسلمك، فنقول: لا يلزمه؛ لاحتمال أن زيداً ينكر التوكيل، ويقول: أنا ما وكلته، حتى لو كان صادقاً أنه وكله فزيد قد يكون ظالماً، فينكر الوكالة، فإذا قال: ما وكلته، فإنه يضيع حق عمرو، فيؤخذ الحق من عمرو مرتين؛ لأن زيداً الذي هو صاحب الحق سيقول لعمرو: حقي لم يصلني؛ لأني لم أوكل عبد الله، فإن له الحق.

ص: 394

ولو قدرنا أن زيداً أخذ الحق من عمرو، رجع عمرو إلى عبد الله الذي ادعى الوكالة؛ لأنه أخذه منه.

ولو ادعى زيد عدم قبض حقه من عمرو، وأتى ببينة، أو شهود، أو وثيقة من المحكمة، فإنه يلزمه الدفع؛ لأن زيداً صاحب الحق، له أن يقبضه بنفسه وبوكيله، فإذا أتى ببينة قلنا: يلزمك أن تدفع.

قوله: «ولا اليمين إن كذَّبه» يعني ولا يلزم عَمْراً اليمينُ «إن كذبه» أي: كذب مدعي الوكالة وهو عبد الله، فلما جاء عبد الله إلى عمرو وقال: إن زيداً وكلني في قبض حقه منك، قال: أنت كذاب، فإنه لا يلزمه أن يحلف على كذب مدعي الوكالة؛ لأن اليمين إنما تلزم من إذا نكل عنها حكم عليه، فلو أن عَمْراً نكل وقال: لا أحلف، فإن القاضي لا يقول له: إذاً يلزمك الحق؛ لأنه سبق لنا أنه لا يلزمه التسليم ولو صدقه.

إذاً لدينا مسألتان:

الأولى: ادعى عبد الله أن زيداً وَكَّلَه في قبض حقه من عمرو، فقال عمرو: صدقت، ولكن لا أسلمك، فهنا يصح.

الثانية: ادعى عبد الله أن زيداً وَكَّلَه في قبض حقه من عمرو، فقال عمرو: كذبت، ولا أصدقك، هات بينة وإلا فأنت غير صادق، فهنا لا يلزمه أن يسلم الحق.

ص: 395

وهل يلزمه اليمين إذا قال عبد الله: احلف أنه ما وكلني؟

الجواب: لا يلزمه؛ لأنه لا يُقضى عليه بالنكول، حتى لو قال: إنه صادق، فإنه لا يُلزم بالدفع على ما سبق.

قوله: «فإن دفعه» أي: الحق، الفاعل عمرو، والمدفوع إليه عبد الله.

قوله: «فأنكر زيد الوكالة» وقال: ما وكلت، فهنا نقول لزيد: احلف، ولهذا قال:

«حلف وضمنه عمرو» أي: حلف زيد الذي له الحق، فإذا حلف فإن عَمْراً يضمنه لزيد، ويرجع بالحق الذي دفعه على عبد الله الذي ادعى الوكالة بلا بينة، ولهذا قال:«وضمنه عمرو» يعني ويرجع عمرو على مدعي الوكالة بما أقبضه إياه.

وإن لم يحلف زيد فإنه يقضى عليه بالنكول، ويقال: حقك وصل إلى وكيلك، ولا شيء لك.

فإذا قال: لا أحلف خشية الإثم، فإننا نقول له: إن كنت صادقاً فلا إثم عليك، وإن كنت كاذباً فالإثم عليك.

قوله: «وإن كان المدفوع وديعة» يعني ليس حقّاً ثابتاً في ذمة الآخر.

قوله: «أخذها» أي: صاحبها الذي هو زيد، فزيد قال لعبد الله: إن لي عند عمرو وديعة، اذهب وائت بها إليّ، فذهب إلى عمرو وصدقه، فقال: أعطني الوديعة التي عندك لفلان، قد وكلني في قبضها، فأعطاها إياه، ثم إن زيداً أنكر الوكالة، فنقول: إذا أنكر الوكالة، فالوديعة موجودة الآن، خذها من عبد الله الذي هو مدعي الوكالة.

قوله: «فإن تلفت ضَمّن أيهما شاء» «ضَمَّنَ» الفاعل زيد

ص: 396

«أيهما شاء» أي عمراً أو عبد الله مدعي الوكالة، فإذا تلفت نقول: ضَمِّن من شئت، فيُضَمِّن مدعي الوكالة؛ لأنه أنكر الوكالة، فيكون مدعي الوكالة أخذ المال بغير حق فيضمنه، ويضمن المودَع الذي كان محسناً وهو عمرو؛ لأنه فرط حيث دفعها إلى هذا بدون بينة، فصار الآن يخير إن شاء ضمَّن هذا وإن شاء ضمَّن هذا.

والمسألة الأولى ليست في الوديعة بل هي دين، زيد له حق على عمرو فادعى عبد الله أنه موكل في قبضه، أما هذه فهي وديعة.

هذه المسائل في الحقيقة تنبني على ضابط دلت عليه السنة هو: (أن الأصل في أموال المحترمين العصمة، وأنك لا تتصرف فيها إلا حسب ما أُذِنَ لك فيها)، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»

(1)

.

هذه القاعدة الأساسية، ثم التفريعات هذه تكون على حسب القواعد، وقد يصح التفريع وقد لا يصح.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 72)، والدارقطني (3/ 26)، والبيهقي (6/ 100) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً، وأخرجه الدارقطني (3/ 26) عن أنس رضي الله عنه.

والحديث حسّنه البيهقي لطرقه كما في خلاصة البدر المنير (1591) وانظر: الإرواء (1459).

ص: 397

‌بَابُ الشركة

‌وَهِيَ اجتماعٌ فِي اسْتِحقَاقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ ...............

قوله: «الشركة» الشركة لفظها بوزن عَرَفَة ونَمِرَة وحِكْمة، فإذا كان بوزن عَرَفَة نقول: شَرَكَة، وبوزن نَمِرَة نقول: شَرِكَة، وبوزن حِكْمة نقول: شِرْكَة، وكلها جائزة.

وهي في الأصل: الاختلاط، فالاختلاط يسمى شركة.

وتعريفها: يقول المؤلف:

«وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف» .

فقوله: «اجتماع في استحقاق» بمعنى أن يكون شيء بين شخصين فأكثر اشتركا فيه باستحقاق، وهذه تسمى شركة الأملاك.

مثاله: ورثة ورثوا من أبيهم عقاراً، فهؤلاء اجتمعوا في استحقاق ليس بينهم عقد، وكذا اشتراك المجاهدين في الغنيمة، وكذا لو وُهِبَ لرجلين كتاب، وقد تكون في المنافع لا في الأعيان كما لو منحت رجلين الانتفاع بهذا البيت.

ودليلها قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، هذا اجتماع في استحقاق، والاجتماع في الاستحقاق يسمى شركة أملاك.

وقوله: «أو تصرف» وتسمى شركة عقود، وهي التي قد قسمها المؤلف إلى الأقسام الخمسة الآتية، بمعنى أن يتعاقد

ص: 398

شخصان في شيء يشتركان فيه، وهذه لا تثبت إلا بعقد بين المتعاقدين.

واعلم أن من رحمة الله عز وجل وتوسيعه على عباده أنه أباح عقود الشركة؛ وذلك أن الإنسان قد لا يستطيع الاستقلال باستغلال ملكه، فهذا رجل عنده أموال كثيرة لكنه مشلول أو زَمِنٌ أو أعمى، فيعطي غيره من هذا المال لينتفع به ويتجر به ويكون الربح بينهما.

وأما حكمها فهي جائزة وليست حراماً، وهنا نسأل هل نحتاج إلى دليل على الجواز أو لا؟

الجواب: لا نحتاج إلى دليل على الجواز، فلو قال لنا قائل: ما دليلكم على جواز الشركة؟ قلنا: لا حاجة إلى دليل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، فنقول: دليلنا عدم الدليل على المنع؛ لأن الأصل في المعاملات هو الحل، وقد قال الله ـ تعالى ـ:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19]، فأضاف الوَرِق إليهم جميعاً، وهذا لا شك أنه اشتراك في تصرف؛ لأن الظاهر أنهم ليسوا ورثة ورثوا هذه الدراهم.

إذاً هي اجتماع في استحقاق، أو تصرف، وهي جائزة حكماً تكليفيّاً، والدليل على الجواز عدم الدليل على المنع.

ثم لنا دليل من الشرع، أما شركة الاستحقاق فقوله ـ تعالى ـ:{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، وأما شركة العقود فكما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف ـ وأيضاً ـ قال الله ـ تعالى ـ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ

ص: 399

شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28]، فدل على أن الشركة ممكنة.

أما حكمها من حيث الحكم الوضعي فإنها من العقود الجائزة وليست من العقود اللازمة، بمعنى أنه يجوز لكل واحد من المشتركين أن يفسخ الشركة.

مسألة: هل الأولى المشاركة أو الأولى الانفراد؟ يعني هل الأولى أن يتصرف الإنسان في ماله بنفسه ولا يجعل معه شريكاً، أو الأولى أن يشارك؟

الجواب: لا تستطيع أن تقول: هذا أولى أو غير أولى، لكن إذا تردد الإنسان فالانفراد أولى؛ لأن الإنسان يكون حرّاً في ماله لا أحد يحاسبه، وهو إن شاء تبرع وإن شاء منع، وإن شاء تصدق وإن شاء جمع؛ ولأنه أسلم في الغالب، لكن قد يكون الإنسان لا يستطيع أن يتصرف في ماله بنفسه، فيحتاج إلى المشاركة، وعلى هذا فتجويز المشاركة من نعمة الله عز وجل ومن رحمته بالخلق، وإلا لو قيل: لا أحد يتصرف إلا في ماله الخاص، صار في هذا تضييق، فقد يكون الإنسان عنده مال كثير لكنه لا يحسن التصرف، إما لعجز في بدنه أو لعجز في فكره أو لانشغاله في علمه أو ما أشبه ذلك، لكن المال كثير فيعطيه لإنسان حاذق في البيع والشراء، ويقول له: خذ بع واشتر في هذا المال، ولك نصف الربح أو ربع الربح أو ما أشبه ذلك.

‌وَهِيَ أَنْوَاعٌ فَشَرِكَةُ عِنَانٍ أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَاليْهِمَا المَعْلُومِ وَلَوْ مُتَفَاوِتاً لِيَعْمَلا فِيهِ بِبَدَنَيْهِمَا.

قوله: «وهي أنواع» كأن الدليل على هذا التنويع هو التتبع والاستقراء، والتتبع والاستقراء طريق من طرق الأدلة، على أنه

ص: 400

ربما تحدث أنواع من الشركات يصعب تنزيلها على ما قاله الفقهاء، فإذا وجدنا نوعاً من الشركات حدث كما يحدث الآن في المعاملات الأخيرة، فلا نقول: إنه حرام؛ لأنه خارج عما قال الفقهاء؛ لأن الأصل الحل والإباحة.

وظاهر كلام المؤلف: «وهي أنواع» أنه يعود إلى الشركة بقسميها، أي شركة الأملاك وشركة العقود، ولكن هذا غير مراد وهو إنما يريد شركة العقود.

قوله: «فشركة عِنان» من إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأن الشركات أجناس، وأفرادها أنواع، قيل: إنها مشتقة من أعنة الخيل، فالشريكان كالمتسابقين كل منهما قد أمسك بعنان فرسه.

وقيل: إنها مشتقة من «عَنَّ له» إذا طرأ عليه، كأن كل واحد منهما طرأ عليه أن يشارك الآخر، لكن الاشتقاق الثاني لا يمنع دخول بقية الأنواع؛ لأن بقية الأنواع كلها إنما تحدث بما عَنَّ لكل واحد، أي: بما طرأ، فاشتقاقها من المعنى الأول أقرب إلى الصواب، فما هي شركة العنان؟

قوله: «أن يشتركا بدنان» يعني شخصين.

قوله: «بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً ليعملا فيه ببدنيهما» إذاً هناك مال، وهناك بدن.

مثاله: زيد وعمرو أرادا أن يشتركا في المال والتصرف، كل واحد جاء بماله وقال للآخر: نحن شركاء، فهذه نسميها شركة عنان؛ لأنها جامعة بين المال والبدن.

ص: 401

وإذا قال قائل: ما الفائدة؟

قلنا: فائدتها:

أولاً: أن كلًّا من الشريكين ينشط الآخر.

ثانياً: ربما يكون مال كل واحد منهما ليس كثيراً يُمَكِّنُهُمَا أن يستوردا البضائع الكثيرة التي بها الفائدة الكثيرة، وهذا واقع، فمثلاً شخص عنده مليون ريال، والآخر عنده مليون ريال، لكن مليوناً واحداً لا يكفي لشراء بضائع كبيرة، تكون فائدتها كثيرة، فيجتمعان ويشتريان البضائع.

ثالثاً: أنه قد لا يتمكن كل واحد منهما أن يتجر بماله، فيحتاج إلى ضم مال الآخر إليه، حتى تتسع التجارة.

لكن اشترط شروطاً:

أولاً: قوله: «بماليهما» وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون مملوكاً لهما، ولكن هل هذا شرط؟ أو نقول: بماليهما أو مال لهما حق التصرف فيه؟

الثاني: يعني إما أن يكون مالاً لهما، أو يكون مالاً هما فيه وكلاء، أو فيه أولياء، أو ما أشبه ذلك، لكن بالنسبة للوكلاء، لا بد فيه من الإذن.

ثانياً: قوله: «المعلوم» وضده المجهول؛ وذلك لأنه لا بد أن نرجع عند فسخ الشركة إلى المال، فكل شخص منا يريد ماله، فإذا كان لا بد من الرجوع إلى المال، فإنه لا يمكن الرجوع، إلا إذا كان مال كل واحد منهما معلوماً، حتى يعرف عند تنضيض المال، ما لكل واحد منهما.

ص: 402

وقوله: «ولو متفاوتاً» يعني بعضه أكثر من بعض، فمثال ذلك: إنسان شارك بمليون ريال، والثاني بخمسمائة ريال، فلا يشترط أن يكون المالان سواءً؛ بل يجوز أن يتفاوتا، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ كيفية توزيع الربح.

وقوله: «ليعملا فيه ببدنيهما» أي: بأبدانهما أو بأبدان من ينيبانه، كما لو كان أحدهما عنده عبد أو خادم أو ما أشبه ذلك يتصرف في ماله، فهذا كأنه هو الذي تصرف، فقوله:«بأبدانهما» بناءً على الغالب، وإلا فإنه يجوز أن يكون أحدهما شريكاً في المال، وببدن خادمه أو عمه أو ابن عمه أو ما أشبه ذلك.

فإن قال: يعمل فيه أحدنا فقط؟ يقول في الروض

(1)

: إنه من العنان، وظاهر كلام الماتن أنه ليس من العِنان، والواضح أن هذا فيه شبه من العِنان، وفيه شبه من المضاربة، فبالنظر إلى أن هذا يعمل بماله وبدنه يكون شبيهاً بالعنان، وبالنظر إلى أن أحدهما لا يعمل ببدنه، وإنما العمل في ماله يشبه المضاربة، فيمكن أن نقول: إن هذا جامع بين المضاربة وبين العنان، ولكن يشترط في هذا النوع أن يكون لمن عمل ببدنه من الربح أكثر من ربح ماله؛ لأجل أن يشتمل على شيء من المضاربة، فمثلاً أتيت بعشرة آلاف ريال وأتى هو بعشرة آلاف، وقلت له: اعمل أنت أما أنا فلا أستطيع العمل، ولك من الربح النصف فهذا لا يصح، لا بد أن يكون له أكثر من ربح ماله؛ لأن الذي دفع المال ولم

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 244).

ص: 403

يعمل أتاه ربح ماله كاملاً، والذي دفع وعمل لم يأته إلا ربح ماله فقط، فيكون عمله هباء لا ينتفع منه بشيء.

وعندي أنه لا مانع من هذا العمل، أن يكون له بمقدار ماله؛ لأن صاحب المال الذي لم يعمل إذا أعطي ربح ماله كاملاً فهو إحسان من العامل، ومن يمنع الإحسان؟! أليس يجوز أن أعطيه مالي ليعمل فيه ويكون الربح كله لي؟! ويكون هو متبرعاً لي بالعمل.

فالصواب أنه يجوز أن يعطى من الربح بقدر ماله؛ وذلك لأنه يكون بهذا محسناً إلى صاحبه.

‌فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُما فِيهِمَا، بِحُكْمِ المِلْكِ في نَصِيبِهِ وبِالوَكَالةِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ.

قوله: «فينفذ تصرف كل منهما فيهما، بحكم الملك في نصيبه وبالوكالة في نصيب شريكه» لما اشتركا أصبح كل واحد ينفذ تصرفه في المالين جميعاً، بالنسبة لملكه يتصرف بالأصالة بحكم الملك، وبالنسبة لشريكه يتصرف بالوكالة؛ لأنه فرع عنه، وكونه يتصرف بالوكالة وهو لم يوكله؛ لأن مقتضى عقد الشركة أن يتصرف في هذا المال المشترك، والوكالة تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل، فعلى هذا يغني عقد الشركة عن الإذن الصريح في التوكيل؛ لأنه من لازم عقد الشركة أن يتصرف في المال المشترك بطريق الأصالة في نصيبه، وطريق الوكالة في نصيب شريكه.

مثال ذلك: اشترك اثنان في شركة عنان أحدهما يبيع أقمشة، والآخر يبيع أطعمة، فيجوز لبائع الأطعمة أن يبيع شيئاً من

ص: 404

الأقمشة ولو كانت عند صاحبه، ويجوز لصاحب الأقمشة أن يبيع شيئاً من الأطعمة ولو كانت عند صاحبه، وكيف يبيع شيئاً ليس في دكانه بل في دكان آخر؛ بل قد يكون في بلد آخر ـ أيضاً ـ؟

نقول: لأن الشركة، تقتضي أن كل واحد يتصرف في المال كله مجموعاً؛ لأننا لما عقدنا الشركة صار نصف مالك لي ونصف مالي لك، إذا تصرفتَ فيه يكون بالملك في نصيبك وبالوكالة في نصيب شريكك، وإن لم يَخْلُطَا المالين، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.

وقوله: «بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه» إذا تصرف في نصيب شريكه وتبين أن شريكه قد باعه مثلاً، فإننا نقول ـ كما ذكرنا فيما سبق في الوكالة ـ: إنه ينعزل الوكيل في مثل هذه الحال؛ لأن الموكل تصرف تصرفاً يمنع الوكيل من أن ينفذ تصرفه فيه.

مثاله: إنسان شارك آخر، لأحدهما معرض سيارات، وللآخر أطعمة، فصاحب الأطعمة باع سيارة من المعرض عند صاحبه، ثم تبين أن صاحبه قد باع السيارة، فإن الحكم أنه يبطل بيع الأخير؛ لأن بيع صاحبه للسيارة صحيح.

فإن قيل: ألست تقول: إنهم شركاء في ماليهما؟

أقول: بلى؛ لكن لما باع صاحب المعرض السيارة، باعها بحكم ملكه في نصيبه وبالوكالة في نصيب شريكه، وانتهى البيع وتم العقد، ولما جاء الشريك الآخر وباعها بعد بيع الأول لم يصح البيع؛ لأنه وكيل في بيعها، لكن تصرف فيها الشريك قبل أن يبيع هذا.

ص: 405

‌وَيُشْتَرطُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ المالِ مِنَ النَّقْدَيْنِ المَضْرُوبَيْنِ وَلَوْ مَغْشُوشَيْنِ يَسِيراً وَأنْ يَشْتَرِطَا لكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءاً من الرِّبْحِ مُشَاعَاً مَعْلُوماً .....

قوله: «ويشترط» يعني مع الشروط السابقة، وهي أن يكونا مالكين، أو لهما حق التصرف، وأن يكون المال معلوماً.

قوله: «أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين» هذا الشرط الثالث، أي: أن يكون رأس المال الذي فيه الشركة من النقدين، وهما الذهب والفضة، «المضروبين» وهما الدراهم والدنانير، والمضروب هو الذي جعل سِكة ونقداً، أي: جعل دراهم ودنانير، فلو أن كل واحد منهما أتى بصُرَّة من ذهب، واشتركا فإنه لا يصح؛ لأنه غير مضروب، ولو أن كل واحد أتى بمائة ربطة فئة عشر أوراق، فلا يصح؛ لأنهما ليسا نقدين، ولو أن كل واحد أتى بعشرين سيارة، فلا يصح؛ لأن ذلك ليس من النقدين، ولو عملا فَرِبْحُ مالِ كلِّ واحدٍ لَهُ، والثاني لا حق له فيه، لعدم صحة الشركة وهذا هو المذهب.

وقوله: «من النقدين» يشمل ما إذا كان أحدهما أتى بدنانير والآخر أتى بدراهم، فمثلاً أحدهم أتى بعشرة دنانير، والآخر أتى بمائة درهم، فيصح.

لكن هذا فيما سبق في زمن العلماء السابقين، الدراهم والدنانير لا تتغير، يعني اثنا عشر درهماً بدينار، أما في وقتنا الحاضر فتتفاوت، فأحياناً يزيد الذهب وأحياناً ينقص، وبناءً على ذلك نقول: لا بد أن يكون النقد من جنس واحد، إما من ذهب وإما فضة.

هذا هو الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله وهو أنه لا بد أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين.

ص: 406

وقيل: يصح أن يكون رأس المال من عروض التجارة لكن يقوَّم عند عقد الشركة بنقد، فأحدهما يأتي بأطعمة والثاني يأتي بأقمشة ويختلطان، لكن عند فسخ الشركة لا نقول لأحدهما: اشتر طعاماً لأخيك، ولا نقول للثاني: اشتر أقمشة لأخيك، فقد ترتفع الأقمشة وقد ترتفع الأطعمة، لكن عند عقد الشركة نقول: ماذا تساوي الأطعمة؟ وماذا تساوي الأقمشة؟ فإذا قالوا: الأطعمة بعشرة آلاف، والأقمشة بعشرة آلاف، عند الفسخ نرجع إلى القيمة، فنعطي كل واحد عشرة آلاف فيكون المال أنصافاً، والربح يُقسم حسب الشرط.

وإذا كانت السيارات تساوي مليوناً، والأطعمة خمسمائة ألف، صار المال أثلاثاً لصاحب السيارات الثلثان، ولصاحب الأطعمة الثلث.

إذاً القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون رأس المال من غير النقدين المضروبين، ولكن تقدر قيمته بالنقدين عند عقد الشركة؛ ليرجع كل واحد منهما إلى قيمة ملكه عند فسخ الشركة، وهذا القول هو الراجح، وعليه العمل.

وقوله: «ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين» ، ظاهره ولو كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، وهذا مبني على أن سعر الفضة لا يتغير كما في الزمن السابق، فإنه في الزمن السابق كان الدينار يساوي اثني عشر درهماً، وعلى هذا تكون ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار؛ ولهذا جاء في السرقة: «لا تقطع اليد إلا في

ص: 407

ربع دينار فصاعداً»

(1)

وقطع النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم

(2)

، فدل هذا على أن الدينار في ذلك الوقت قيمته من الفضة اثنا عشر درهماً.

وكذلك ـ أيضاً ـ في الدية ألف دينار تساوي اثني عشر ألف درهم، لكن في الوقت الحاضر وقبل هذا الوقت لا يستقيم هذا؛ لأن الذهب والفضة ليسا مستقرين فقد ترتفع قيمة الذهب وقد ترتفع قيمة الفضة، وعلى هذا فلا يصح أن يأتي أحدهما بذهب والآخر بفضة، إلا على القول بأنه لا بأس أن يأتي أحدهما بعروض وتقدر قيمتها عند انعقاد الشركة.

قوله: «ولو مغشوشين يسيراً» هذه إشارة خلاف، كانت الدنانير والدراهم فيما سبق يُتلاعب بها، فيغش بعض الناس، فيخلط مع الذهب معدناً آخر، أو مع الفضة معدناً آخر.

يقول العلماء: إن كان هذا الخليط شيئاً يسيراً من أجل تصليب الذهب، وتصليب الفضة، فهذا لا يضر، لأنه كالإنفحة مع اللبن من أجل أن تجبنه، وهذا لمصلحة النقدين ولا يضر، أما إذا كان الغش كثيراً يُراد به الترويج فإنه لا يصح أن يكون نقداً

(1)

أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (6789)؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1684)(2) ـ واللفظ له ـ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (6795)؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1686) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 408

يُتعامل به؛ لأنه صار في الحقيقة كعروض التجارة، ولا يصح أن يكون رأس مال شركة.

فالغش في النقدين ينقسم إلى قسمين:

الأول: يسير من أجل تصليب النقدين، قالوا: إنه لا يخلو منه الذهب ولا الفضة غالباً؛ لأنهما لو لم يُصَلَّبا صارا ليِّنَيْن، فهذا لا بأس به؛ لأنه لمصلحتهما.

الثاني: يراد به الغش والخداع، فهذا لا يجوز التعامل به، ويجب على ولي الأمر أن يمنع التعامل به؛ لأنه غش، ولا يصح أن يكون رأس مال الشركة، وهذا هو محترز قوله:«ولو مغشوشين يسيراً» .

وتقدم أنه لا يشترط أن يكون رأس المال من النقدين، لكن يجب أن يُقَوَّم مال كل واحد منهما عند عقد الشركة بالنقدين، على أن يكون التقدير بالأكثر رواجاً.

قوله: «وأن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً» هذا هو الشرط الرابع، مثال ذلك: قالا: اشتركنا في المال ولكل واحد منا من الربح النصف، فهذا يصح.

مثال آخر: اشتركنا في المال ولك يا زيد من الربح ألف والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه غير مشاع، وغير المشاع ربما لا يكون الربح إلا مقدار ما شُرِطَ لأحدهما، ويبقى الثاني لا ربح له.

مثال آخر: قال: لك بعضه ولي بعضه، فهذا لا يصح؛ لأن البعض مجهول، فلا بد أن يكون معلوماً، ومشاعاً؛ لقوله:«جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً» .

ص: 409

والمشاع أي: مشتركاً يكون المضارِب والمضارَب شريكين في كل حبة.

قوله: «فإن لم يذكرا الربح أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين لم تصح» كل هذه الصور مخالفة للشرط.

َ‌

‌إِنْ لَمْ يَذْكُرَا الرِّبْحَ أو شَرَطَا لأحدِهِمَا جُزْءَاً مجهولاً أو دَرَاهِمَ مَعْلُومةً أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ لَمْ تَصِحَّ وَكَذَا مُسَاقَاةٌ ومُزارعَةٌ ومُضَارَبةٌ ............

فقوله: «إن لم يذكرا الربح» بل قالا: نحن شريكان شركة عنان، ولم يتعرضا للربح، هل هو بينهما بالأنصاف؟ أو بالأرباع؟ أو ما أشبه ذلك؟ فالشركة لا تصح؛ لأنه يبقى الأمر مجهولاً فيحصل النزاع والعداوة بين الناس، ويكون لكل واحد منهما ربح ماله، ولا يرجع على الثاني بشيء، حتى لو تلف أحد المالين لم يرجع على صاحبه؛ لأن العقد فاسد، والعقد الفاسد لا يترتب عليه أثره.

وقوله: «أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً» قال: نحن الآن شريكان سنعمل في المال، ولك بعض الربح ولي بعضه، أو لك بعضه ولي باقيه، فهذا لا يصح؛ لأنه مجهول.

وقوله: «أو دراهم معلومة» قال: سنشترك شركة عنان والربح يكون لك منه عشرة آلاف والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما

ص: 410

لا يربح إلا عشرة الآلاف، ويبقى الثاني لا ربح له، والشركة مبنية على أصل وهو اشتراك الشريكين في المغنم والمغرم.

وقوله: «أو ربح أحد الثوبين» اشتركا فقال أحدهما للآخر: لك ربح السيارات ولي ربح الأطعمة، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما يربح في السيارات ولا يربح في الأطعمة أو بالعكس، والأصل أن الشركة مبنية على التساوي.

قال: لك ربح النصف الأول من السنة، ولي ربح النصف الثاني، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما يربح في أول السنة كثيراً، وفي آخر السنة لا يربح إلا قليلاً، أو لا يربح أصلاً.

قال: لك ربح السفر إلى مكة، ولي ربح السفر إلى المدينة، فهذا لا يصح؛ لأنه قد يربح في هذا، ولا يربح في هذا، والأصل في الشركة أن يشترك الاثنان في المغنم والمغرم.

قوله: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» كذا أي: كشركة العنان مساقاة ومزارعة ومضاربة وكلها لم تأتِ بعد، لكن استطرد المؤلف بذكرها.

فالمساقاة هي أن يدفع الإنسان أرضه ونخله لشخص يقوم عليها بجزء من الثمر.

مثال ذلك: إنسان عنده أرض وعليها أشجار من نخيل وأعناب ورمان وغيرها، فأعطاها شخصاً ينميها بجزء من الثمر، فهذا يجوز، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع

(1)

.

والمزارعة أن يدفع أرضاً لمن يزرعها بجزء معلوم مشاع من الزرع، مثال ذلك: إنسان عنده أرض بيضاء، وليس فيها زرع،

(1)

أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة (2329)؛ ومسلم في البيوع/ باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر (1551)، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 411

فأعطاها فلاحاً يزرعها، وله نصف الزرع ـ مثلاً ـ فهذا يجوز؛ لأن هذا منه العمل، وهذا منه الأرض، وكذلك في الشجر، هذا منه الأرض والشجر، وهذا منه العمل.

المضاربة وهي أن يدفع ماله لشخص يتجر فيه، وله جزء من الربح.

مثال ذلك: أعطى رجلاً مائة ألف ريال يتجر بها، على أن له نصف الربح، فإننا نسمي هذا مضاربة.

كل هذه الثلاث لا بد أن يُشترط لأحدهما جزء مشاع معلوم.

ففي المساقاة لو قال له: خذ هذا الشجر اعمل فيه ولك بعضه، فهذا لا يصح؛ لأنه غير معلوم، أو قال له: خذ هذا الشجر اعمل فيه ولك ثمر الشجر السكري والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما تثمر هذه ولا تثمر تلك، أو قال له: خذ هذه الأرض وشَجَرَها ولك ثمرتها عام ستة عشر ولي ثمرتها عام سبعة عشر، فهذا لا يصح؛ لأنه مجهول؛ وقد تثمر في هذه السنة ولا تثمر في الأخرى، أو قال له: خذ هذه الأرض مساقاة بشجرها، ولك ثمرة الجزء الغربي منها، ولي ثمرة الجزء الشرقي منها، فهذا لا يصح، أو قال له: خذ هذه الأرض مساقاة، ولك من ثمرها مائة صاع والباقي لي، فهذا لا يصح، لأنه غير مشاع.

كذلك نقول في المزارعة، إذا قال له: خذ هذه الأرض البيضاء وازرعها هذا العام، ولك من الزرع شرقيه ولي غربيه، لا

ص: 412

يصح، أو قال له: لك بعضه ولي بعضه، فهذا لا يصح، أو قال له: لك ما تزرعه من شعير، ولي ما تزرعه من بر، فهذا لا يصح، أو قال له: لك زرع هذا العام ولي زرع العام الثاني، لا يصح، فلا بد أن يكون الربح جزءاً مشاعاً معلوماً.

والمضاربة كذلك، أعطيتُ هذا الرجل مالاً يتجر به وقلت له: لك بعض الربح، ولي بعضه، فهذا لا يصح، أو قلت له: لك ربح هذا الشهر، ولي ربح الشهر الثاني، فلا يصح.

أو لك ربح ما تجلبه من مكة، ولي ربح ما تجلبه من المدينة، فلا يصح، أو لك ربح السيارات، ولي ربح الأطعمة، فلا يصح.

المهم أن كل هذا يخالف القاعدة الأصلية في المشاركة، وهي تساوي الشريكين في المغنم والمغرم.

‌والوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ المَالِ وَلَا يُشْتَرَطُ خَلْطُ المَالَيْنِ وَلَا كَوْنُهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.

قوله: «والوضيعة على قدر المال» الوضيعة يعني ما يوضع من القيمة، أي: الخسارة، فالخسارة على قدر المال بخلاف الربح فعلى ما شرطاه، فلو جاء أحدهما بعشرة آلاف وجاء الثاني بعشرين ألفاً، فالمال الآن أثلاث، فإذا اتفقوا على أن تكون الخسارة أنصافاً، فهذا لا يصح هنا؛ لأن الخسارة يجب أن تكون على قدر المال، وإذا خسرت الشركة فعلى صاحب عشرة الآلاف ثلث الخسارة، وعلى صاحب العشرين ألفاً الثلثان، ولا يصح أن تكون الخسارة على خلاف ذلك؛ ولهذا قال:«والوضيعة على قدر المال» أما الربح فيكون على ما شرطاه، يعني لو أن أحدهما جاء بعشرين ألفاً والثاني بعشرة آلاف، وقالا: الربح بيننا مناصفة، فهنا اختلف الربح عن قدر المال، فهذا يصح.

ص: 413

فإذا قيل: كيف يصح أن يعطى هذا أكثر من ربح ماله؟

قلنا: نعم؛ لأنه ربما جعل للثاني أكثر منه؛ لأنه أخبر منه في البيع والشراء، فأعطاه أكثر من ربح ماله، أما الوضيعة فلا يمكن أن نحمِّل أحدهما أكثر من خسارة ماله؛ لأن تحميلنا إياه أكثر من خسارة ماله، معناه إضافة شيء من ماله إلى مال الآخر وهذا أكل للمال بالباطل، فلو كان المال بينهما أحدهما ثلاثة أرباع والآخر الربع، والخسارة أربعمائة وقد قالوا: إن الخسارة أنصافاً فيكون على صاحب الربع زيادة، فمعنى ذلك أننا اقتطعنا من ماله شيئاً أضفناه إلى مال الآخر، وهذا لا يجوز لقوله:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [البقرة: 188].

فصار الربح على ما شرطاه، وأما الوضيعة فعلى قدر المال.

قوله: «ولا يشترط خلط المالين» يعني لا يشترط أن يَخلطا المالين، بل لو عمل كل واحد منهما بماله فلا بأس؛ لأن المقصود الربح لا الخلط، وهذا نفاه المؤلف، واعلم أن لدى العلماء قاعدة وهي أنهم لا ينفون شيئاً إلا لوجود خلاف فيه؛ لأنه إذا لم يكن خلاف فالسكوت عن ذكره يغني عن نفيه، لكن إذا كان هناك خلاف، فإنهم يذكرون النفي دفعاً لهذا الخلاف، فقوله:«ولا يشترط خلط المالين» إشارة إلى نفي القول باشتراطه، والقول باشتراط الخلط نوعان:

الأول: أنه لا بد أن يؤتى بالمالين، ويجعلا في متجر واحد، ولو كان كل واحد منهما ماله متميزاً.

ص: 414

مثاله: شخص ماله أقمشة، والثاني ماله أطعمة، يقول: لا بد أن يؤتى بالأطعمة إلى مكان الأقمشة، أو بالعكس ويكون محلهما واحداً، وإن كان هذا يعمل بماله وذاك يعمل بماله، وهذا اختلاط في المكان، وبه قال الإمام مالك رحمه الله.

الثاني: أنه لا بد أن يختلط المالان جميعاً، ويتصرف كل واحد منهما فيهما جميعاً، بمعنى أن المالين صارا خليطين كالمال الواحد كأنه متجر لشخص واحد، وكل منهما يعمل به، وهذا اختلاط تام، وبه قال الشافعي.

إذاً الاختلاط نوعان: اختلاط تام، واختلاط في المكان.

القول الثاني: أنه ليس بشرط، وكل واحد منهما يعمل بماله في مكانه، حتى لو كان أحدهما في مكة والآخر في المدينة، واشتركا شركة عِنان فلا بأس.

فالذين قالوا بالاشتراط قالوا: أين الشركة إذا كان كل واحد يعمل في مكان، وفي ماله الخاص؟! أجيب أنهما إذا اختلطا صار المال الذي في البلد هناك، بينه وبين شريكه نصفين، والمال الذي في بلده بينه وبين شريكه نصفين، كما لو كانا شريكين شركة أملاك، فإنهما يكونان هكذا.

والقول الراجح أنه لا يشترط خلط المالين كما قال المؤلف؛ لأن الشركة حاصلة بدون الخلط إذ المقصود الربح.

قوله: «ولا كونهما من جنس واحد» يعني في النقدين فمثلاً: لو أتى أحدهما بذهب والثاني بفضة فلا بأس، ولكن هذا مبني على أن سعر الذهب والفضة لا يتفاوت.

ص: 415

والقول الثاني في المسألة: أنه يجب أن يكونا من جنس واحد؛ وعللوا ذلك بأنهما إذا كانا من جنسين مختلفين، فقد يرتفع أحد الجنسين حتى يحيط بالربح كله، لكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف بشرط ألا يزيد سعر الدنانير ولا ينقص، بأن يكون مقرراً من قبل الدولة، فإن كان يمكن فيه الزيادة والنقص فإنه لا يجوز، وفي الوقت الحاضر الدنانير (الذهب) غير مقدر، فبناء على ذلك فإنه لا يصح أن يكون أحدهما دنانير والآخر دراهم، إلا على القول الذي أشرنا إليه فيما سبق أنه يجوز أن يكون رأس المال عرضاً ولكن يقدر بقيمته، فحينئذٍ يؤتى بالدنانير والدراهم لكن تقدر الدنانير بدراهم.

ص: 416

‌فصلٌ

‌الثَّانِي المُضَارَبَةُ لِمُتَّجِرٍ بهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ،

.............

قوله: «الثاني المضاربة» الثاني، أي: من أنواع شركة العقود، المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، قال الله ـ تعالى ـ:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].

ومعلوم أن كل تجارة فهي مضاربة، يعني يضرب الإنسان في الأرض، لكن خُصت بهذا النوع من المعاملة اصطلاحاً لا لغة، كما قيل: مزدلفة تسمى جمعاً، مع أن الحجاج يجتمعون في عرفة، لكن هكذا اصطلح أهل اللغة على أن مزدلفة تسمى جمعاً، وسميت مزدلفة كذلك لقربها من الحرم، مع أن منى أقرب من مزدلفة إلى الحرم، لكن هكذا اصطُلِح، وقد يقال: إن مزدلفة سميت بهذا باعتبار أنها مشعر وعرفة مشعر أيضاً، وهي أقرب المشعرين إلى مكة.

قوله: «لمتَّجرٍ به» والمعروف أن كل مجرور لا بد له من عامل يتعلق به، وهذا العامل إما مذكور وإما محذوف، فإن كان مذكوراً فالأمر واضح، وإن كان محذوفاً فلا بد أن يُقَدَّر بما يناسب السياق، فهنا نقدر المضاربة دفع مال لمِتَّجرٍ به، وعلى هذا فتكون متعلقة بمحذوف هو المصدر، أي: دفع مال لمتجر به.

وقوله: «لمتَّجِر به» أي: لمن يتجر به.

قوله: «ببعض ربحه» المؤلف قال: «ببعض ربحه» ولم يبين هذا البعض، فهل يجوز أن تقول: خذ هذا المال مضاربة ببعض ربحه؟

الجواب: لا، لكن المؤلف اعتمد على قوله في الفصل

ص: 417

السابق: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» فكما يُشترط في شركة العنان أن يكون الربح جزءاً معلوماً مشاعاً، فكذلك في المضاربة.

إذاً قوله: «ببعض ربحه» هذا مبهم لا بد أن يُفسَّرَ، كأن يُقال: بالربع، أو بالثمن، أو بالخمس، حسب ما يتفقان عليه.

مثال ذلك: أعطى رجل آخر مائة ألف ريال، وقال له: خذ هذه اتجر بها ولك نصف الربح، فهذا يصح، أو قال له: خذ هذه اتجر بها ولك ربع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، أو خذ هذه واتجر بها ولك ثلاثة أرباع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، فلا بد أن يكون معلوماً مشاعاً، ولهذا قال:

‌فإِنْ قَالَ: والرِّبْحُ بينَنَا فَنِصْفَانِ، وإنْ قَالَ: ولِي أَوْ لَكَ ثلاثةُ أَرباعِهِ أَوْ ثلثُهُ صَحَّ، والبَاقِي لِلآخَرِ، وَإنِ اخْتَلَفَا لِمَن المَشْرُوطُ فلِعَامِلٍ ..............

«فإن قال: والربح بيننا فنصفان» أي: إن قال الدافع وهو المضارِب، والعامل يسمى المضارَب بفتح الراء، إن قال المضارِب ـ وهو رب المال ـ «والربح بيننا فنصفان» أي: فهو نصفان، نصف للعامل ونصف للمضارِب؛ لأن هذا مقتضى البينية، ومقتضى البينية هو التساوي؛ ولهذا لو أعطيت جماعة دراهم وقلت هذه بينكم، فإنهم يمتلكونها بالتساوي، إذا كانت عشرة دراهم وهم عشرة رجال فلكل واحد درهم.

قوله: «وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثُهُ صح، والباقي للآخر» لأن المال بين اثنين، فإذا حدد نصيب أحدهما تبين حق الآخر، فإذا قال: لي ربعه ولم يقل ثلاثة أرباعه لك، فهذا يصح؛ لأنه إذا أخذ الربع فالباقي للآخر.

وكذلك لو قال: لي ثلاثة أرباعه، وسكت عن الربع الباقي،

ص: 418

فهنا يصح ويكون الربع الباقي للعامل أي للمضارَب؛ ولهذا قال: «صح والباقي للآخر» .

قوله: «وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل» يعني اتفقا على أنه قيل: ثلاثة أرباعه لك والباقي لي، ثم اختلفوا، أحدهما يقول: ثلاثة أرباعه مشروطة لي، والثاني يقول: مشروطة لي، فإن القول قول العامل؛ لأن الربح إنما حصل بفعله فكان هو أولى به، فلذلك نقول: القول قول العامل وهذا هو المذهب قل أو كثر.

والصحيح أنه للعامل ما لم يدع خلاف العادة، فإن ادعى ما يخالف العادة فلا يقبل، فإذا كانت العادة أن الأرباع الثلاثة في مثل هذه التجارة لرب المال، فالقول قول رب المال، إذ البضائع تختلف، فبضاعة الصيرفة سهلة، وبضاعة الأطعمة متعبة؛ لأنه يحتاج إلى تحميل وتنزيل وعمال وسيارات.

مثال ذلك: كان الجزء المشروط ثلثين، ادعى العامل أنه له، وادعى صاحب المال أنه له، والعادة أن المضاربة لا يعطى فيها العامل إلا الثلث فأقل، فهنا العرف يشهد لصاحب المال فيؤخذ بقول صاحب المال.

وهذا نظير ما سبق في باب الرهن، أن الراهن والمرتهن إذا اختلفا في قدر الدين، فإنه يرجع إلى الرهن إذا كان الرهن كثيراً والمدين يدعي أن الدين قليل فإن القول قول صاحب الحق.

وإن اختلفا في قدر المشروط فالقول قول رب المال، بأن قال العامل: شرطنا لك ثلث الربح، وقال صاحب المال: بل

ص: 419

نصف الربح، فهما متفقان على أن المشروط له هو رب المال، لكن اختلفوا في القدر، فصاحب المال يقول: النصف، والعامل يقول: الثلث، فإذا قدرنا أنه الثلث فإنه يكون للعامل الثلثان، وإذا قدرنا أنه النصف فليس له إلا النصف، فالقول قول رب المال؛ لأن الربح تبع للأصل، فما دام أنهما الآن لم يختلفا لمن المشروط له، لكن اختلفا في قدره فالربح تابع للأصل، وإذا ادعى العامل أنه النصف، قلنا: اتفقتما على الثلث، فأنت أيها العامل ادعيت الزائد وهو السدس والبينة على المدعي.

إذاً إذا اختلفا في تعيين المشروط له فالقول قول العامل، وإن اختلفا في قدر المشروط مع اتفاقهما على المشروط له، فالقول قول رب المال.

‌وكذا مُسَاقَاةٌ وُمُزارعةٌ ومُضَاربَةٌ وَلَا يُضَارِبُ بِمَالٍ لآخَرَ إِنْ أَضَرَّ الأَوَّلَ ولَمْ يَرْضَ ..

قوله: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» يعني اختلف المُسَاقي والمزارع، وعرفنا أن المساقاة هي أن يدفع الإنسان أرضه ونخله لشخص يقوم عليها بجزء من الثمرة، والمزارعة أن يدفع إنسان أرضه البيضاء التي ليس فيها زرع إلى فلاح يزرعها وله نصف الزرع ـ مثلاً ـ، والفرق بينهما، المساقاة على أشجار، والمزارعة على أرض تزرع.

فإذا اختلفا لمن المشروط في المساقاة والمزارعة فللعامل على المذهب، وعلى الراجح ينظر إلى القرائن فيعمل بها، وإن اختلفا في قدره فالقول قول صاحب الأرض في المزارعة، وصاحب النخل في المساقاة.

مثال ذلك: أعطيتُ فلاحاً هذا البستان بما فيه من نخيل

ص: 420

وعنب ورمان ليقوم عليه بثلث ما يخرج منه، يعني ولي الثلثان، فنسميها مساقاة.

ومثال المزارعة: عندي أرض بور ليس فيها شيء أعطيتها شخصاً يزرعها شعيراً، أو بُرّاً، أو أرزاً، أو ما أشبه ذلك بالنصف أو بالربع أو بالثلث، فهذه نسميها مزارعة، فالمساقي يقول في الصورة الأولى: خذ هذا النخل والأشجار، واتفقوا على أن المشروط الثلثان، وعند جذ النخيل وجمع العنب وما أشبه ذلك اختلفوا، فقال العامل: المشروط لي، وقال صاحب النخيل: هو مشروط لي، فالقول هنا قول العامل على المذهب.

وإن اختلفا في قدر المشروط، قال العامل: إنك قد شرطت لي ثلاثة أرباع، وقال صاحب الأصل: قد شرطت لك النصف، فهما الآن متفقان على أن المشروط له هو العامل، لكن اختلفا في قدر المشروط، فالقول هنا قول صاحب الأرض، وكذلك يقال في المزارعة.

فهنا فرق بين الاختلاف في تعيين المشروط له، وبين الاختلاف في تعيين المشروط، إن كان الاختلاف في تعيين المشروط له، فالقول قول العامل، وإن كان في قدر المشروط مع الاتفاق على تعيين المشروط له فالقول قول رب المال.

والتعليل أن العامل استحق السهم في عمله بالعمل فكان القول قوله، وهذا على المذهب، والقول الثاني: أنه للعامل إن كانت دعواه مقاربة، أما إن كانت بعيدة عن الواقع فالقول قول صاحب الأرض.

ص: 421

وأما الاختلاف في القدر فالأصل أن الربح في المضاربة، والنماء في المساقاة والمزارعة، أنه تابع لأصله، فيكون القول قول رب المال.

وكل من قلنا القول قوله فلا بد من اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على من أنكر»

(1)

فإذا قالا: المشروط ثلاثة أرباع، والعامل يقول: لي، ورب المال يقول: لي، وجرت العادة أن مثل هذا يعطى رب المال، فعلى الراجح يكون لرب المال، لكن مع يمينه؛ لأن العامل مدعٍ، ورب المال منكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اليمين على من أنكر» .

مسألة: إذا فسدت المضاربة فالربح كله لرب المال، وللعامل أجرة المثل، فمثلاً إذا كان مثل هذا العامل راتبه الشهري ألف ريال، فيكون له على رب المال ألف ريال، حتى لو أحاطت بالربح كله، أو كانت جزءاً من ألف جزء من الربح، هذا هو المشهور من المذهب؛ والتعليل أن هذه المضاربة فاسدة فيستحق العامل أجر عمله.

والصحيح في هذه المسألة أن للعامل سهم المثل، فيقال: لو اتجر الإنسان بهذا المال كم يعطى في العادة؟ فقالوا ـ مثلاً ـ: يعطى نصف الربح، فيكون له نصف الربح، وهكذا؛ لأن العامل إنما عمل على أنه شريك، لا على أنه أجير، ولأنا لو قلنا: يعطى الأجرة فربما تحيط الأجرة بالربح كله، وحينئذٍ يخسر رب المال، ورب المال لم يعطه على أنه أجير.

(1)

سبق تخريجه ص (164).

ص: 422

قوله: «ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض» فقوله: «ولا يضارب» الفاعل المضارَب، فالمضارَب لا يضارب بمال لآخر.

مثاله: أعطيت رجلاً مالاً يتجر به مضاربة، فذهب إلى آخر وقال: أعطني مالاً مضاربة، فهنا يقول المؤلف: لا يجوز، لكن متى لا يجوز؟ يقول:«إن أضر الأول ولم يرض» ، فإن رضي جاز، وإن لم يضر به جاز.

وإضرار الأول يحصل بأحد أمرين:

الأول: أن ينشغل المضارَب بالمضاربة الثانية عن المضاربة الأولى مع اختلاف المال.

الثاني: أن يشتري مالاً من جنس ما ضاربه الأولُ عليه حتى تتخم الأسواق من هذا النوع من المال فيرخص، فكل هذا ضرر.

مثال ذلك: أعطيت رجلاً عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز؛ لأنني أعرف أن الأرز عليه طلب فأخذها، ثم ذهب إلى آخر وأخذ منه عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز، فهل هذا التصرف يضر بالأول أو لا؟

الجواب: نعم يضره؛ لأن السوق إذا امتلأ بالأرز فسوف يرخص السعر، فيتحقق الضرر بالمضارب الأول.

أما إذا أخذ عشرة آلاف ريال مضاربة من شخص آخر ليشتري بها سيارات، ومعلوم أن السيارات لا تؤثر على الأرز، لكن ربما ينشغل هذا المضارَب بالاتجار بالسيارات، لا سيما إذا علم أن ربحها أكثر، فيترتب على ذلك أن يترك المضارب الأول

ص: 423

مع أرزه، ويقول: السيارات أكسب، ومعلوم أن هذا التصرف يضره.

وقوله: «ولم يرض» فإن رضي فلا بأس؛ لأن الحق له.

وقوله: «ولا يضارب» المؤلف لم يفصح تماماً بالحكم، فهل هو مكروه أو حرام؟ هذه العبارة إذا جاءت في كلام العلماء (لا يفعل كذا) فهي محتملة للكراهة وللتحريم، كما لو قالوا في الصلاة ـ مثلاً ـ (ولا يفعل كذا في الصلاة) فهي محتملة للكراهة وللتحريم، لكن الفقهاء صرحوا بأن ذلك حرام، فيحرم أن يضارب بمال لآخر بالشرطين المذكورين: أن يضره، وألا يرضى، فإن لم يضره فلا بأس، وإن رضي فلا بأس، فإن أقدم العامل، وضارب بمال لآخر مع الضرر قال المؤلف:

«فإن فعل رد حصته في الشركة» أي: ضارب العامل بمال لآخر، وحصل له ربح في المضاربة الثانية، فإنه يرد حصته من هذا الربح في الشركة الأولى، فكأنه ربح من المال الأول؛ لأن وقت المضارَب مستحق لصاحب المال الأول.

مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال مضاربة على النصف، ثم إن هذا العامل أخذ مضاربة من شخص آخر عشرة آلاف ريال، فربحت عشرة الآلاف الأولى ألف ريال فيكون نصيب العامل خمسمائة، وربحت العشرة الثانية عشرة آلاف ريال، فيكون نصيب العامل خمسة آلاف ريال، فنضيف خمسة الآلاف إلى الألف؛ لأن نصيب العامل من المضاربة الثانية خمسة آلاف، فنضيف خمسة الآلاف إلى الألف، فكأن المضاربة الأولى

ص: 424

ربحت ستة آلاف، ولهذا قال: ..........

‌فَإِنْ فَعَلَ رَدَّ حِصَّتَهُ في الشَّرِكَةِ وَلَا يُقْسَمُ مَعْ بَقَاءِ العَقْدِ إِلاَّ باتفاقِهِمَا وَإِنْ تَلِفَ رأسُ المالِ أَو بعضُهُ بَعْدَ التصرُّفِ أَوْ خَسِرَ جُبِرَ مِنَ الرِّبْحِ قبل قِسْمَتِهِ أو تَنْضِيضِهِ.

«فإن فعل رد حصته في الشركة» .

إذن إذا ضارب العامل بمال لشخص وربح، فإن هذا الربح يضاف إلى ربح المضاربة الأولى، ويكون المضارِب الأول شريكاً، كأن هذا الربح من المضاربة الثانية ربح مالهما، هذا ما ذهب إليه المؤلف.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لا يستحق من ربح المضاربة الثانية شيئاً؛ لأنها ليست من ماله، وإنما هي من كسب العامل، والعامل أخطأ في كونه يضارب بمال الآخر مع الإضرار بالأول، لكن ما الذي يُحل هذا الربح لصاحب المال الأول؟! ففي الواقع أنه لا يحل، ولهذا كان هذا القول هو الراجح، أنه لا يضيف ربحه من المضاربة الثانية إلى ربح المضاربة الأولى، بل هو له لكنه آثم.

فإن قال قائل: لو فرض أنه فوت على المضارب الأول، أي: على رب المال أرباحاً، فهنا ربما نضمنه، وقد لا نضمنه أيضاً، لكن الكلام على أن الربح من المضاربة الثانية، لا يرد في ربح المضاربة الأولى على القول الراجح، أما المذهب فكما سبق بيانه.

قوله: «ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما» الضمير يعود على الربح؛ لأن الذي يقسم بين المضارب والمضارب هو الربح، أما رأس المال فهو لصاحبه فيتعين أن يكون الضمير في «يقسم» يعود إلى الربح، يعني العامل اتجر بالمال وربح، والعقد باقٍ لم يفسخ حتى الآن، يقول المؤلف:«لا يقسم» ، فلا يقسم الربح مع

ص: 425

بقاء العقد إلا باتفاقهما، أما إن فسخ العقد فيقسم الربح؛ لأنه انتهى، لكن مع بقاء العقد لا يقسم إلا باتفاقهما؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فربما يقول العامل: اقسم الآن، فيخشى أن يتجر به مرة ثانية فيخسر، فيطالب العامل بالقسمة؛ لئلا يخسر، فيقول مثلاً: المال الآن ربح عشرة في المائة فنقسمها؛ لأنني أخشى إذا اتجرت مرة ثانية أن أخسر ولا أربح، فيكون عمل العامل هباءً ولا فائدة منه.

أما رب المال فقال: لا نقسم، فأنت الآن إذا اشتريت بعشرة آلاف أقل مما لو اشتريت بأحدَ عشرَ والربح الآن مستمر، فإذا اشتريت بأحد عشر، صار الربح أكثر مما لو اشتريت بعشرة.

فلا يجبر العامل رب المال على القسمة؛ لأن العقد باق، ولو كان بالعكس بأن طلب رب المال قسمة الربح؛ من أجل أن يأخذ ربح ماله وذاك يأخذ ربح عمله، وقال العامل: لا نقسم، الربح مضمون، وإذا ربحنا من أحد عشر، صار أكثر مما لو ربحنا من عشرة؛ فأنا لا أريد القسمة، فإننا نقول: نعم لا يقسم مع بقاء العقد.

والخلاصة أنه ما دام العقد باقياً؛ فإنه إذا طلب أحدهما قسمة الربح فإنه لا يقسم إلا باتفاقهما؛ لأن الحق لهما.

قوله: «وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جُبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه» إن تلف رأس المال فلا يخلو من حالين: إما أن يكون قبل التصرف، وإما أن يكون بعده،

ص: 426

فإن كان قبل التصرف انفسخت الشركة؛ لأن المال المعقود عليه تلف ولا يلزم ربَ المالِ بدلُهُ، أما بعد التصرف فيقول رحمه الله: إنه يجبر من الربح إذا تلف رأس المال أو بعضه؛ لأنه ما دامت الشركة مؤقتة فالعقد باق حتى يتم الوقت، فما حصل من زيادة أو نقص فإنه يكون على الربح، لكن بشرط أن يكون قبل القسمة، أما بعد القسمة فكُلٌّ أخذ حقه.

مثاله: إنسان مضارَب اتجر، وجعل الدراهم في الصندوق، وكانت عشرة آلاف، وصارت بالربح عشرين ألفاً، فسرق منها عشرة آلاف، يقول المؤلف:«جبر من الربح» وفي هذا المثال الذي مثلنا به هل يبقى للعامل شيء؟ لا؛ لأن كل الربح الآن سُرِق، وكلام المؤلف أن ما تلف قبل القسمة أو التنضيض يكون من الربح، وحينئذٍ تبقى العشرة الباقية لرب المال.

في المثال السابق نفسه لو سرق من العشرين ألفاً خمسة آلاف، فإن الربح يكون خمسة آلاف، وعشرة آلاف تبقى لرب المال؛ لأن الخسارة قبل القسمة والتنضيض تكون من الربح.

وقوله: «أو خسر» إذا خسر ـ أيضاً ـ يجبر من الربح.

مثال ذلك: اتجر شخص برأس مال قدره عشرة آلاف ريال فصارت خمسة عشر ألفاً، فأخذ الخمسة وهي الربح ووضعها في المصرف، ثم اتجر بعشرة الآلاف فخسرت وصارت ثمانية آلاف، فإننا نأخذ الألفي ريال مقدار الخسارة من الربح ويكون الربح على هذا ثلاثة آلاف ريال، ولهذا قال:«أو خسر جُبر من الربح» .

ص: 427

وقوله: «قبل قسمته» فإن قُسِم فكل واحد منهما أخذ نصيبه.

مثاله: قدرنا أن رأس المال عشرة آلاف، والربح كان مقدراً بألفي ريال، واتفق رب المال والعامل على أن يُقسم الربح، فأخذ العامل نصيبه من الربح وهو ألف ريال، فيبقى عندنا الآن ألف من الربح وعشرة آلاف من رأس المال، فنقول لرب المال: الألف هذه إن شئت اجعلها رأس مال، وإن شئت فخذها، لكن العامل بعد أخذ نصيبه خسر المال، فلا نقول للعامل: أعطنا ما أخذت من الربح؛ لأنه لما قسمه صار ملكه خاصّاً به، خارجاً من الشركة.

وقوله: «أو تنضيضه» يعني تحويله إلى نقد، والتنضيض يعني التصفية، فلو خسر بعد التصفية فالضمان على رأس المال؛ لأنه نُض وعَرَفَ العامل نصيبه وصفيت الشركة، لكن ما دام لم يُنضض فإن الخسارة تكون على الربح، وأما بعد التنضيض فلا، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.

والصحيح أنه إن كان التنضيض يعني فسخ الشركة، أو يعني المطالبة بالقسمة، فكما قال المؤلف.

وأما إذا كان التنضيض (التصفية) من أجل أن يشتري بضاعة أخرى؛ لأنه أحياناً يرى العامل أن هذه البضاعة ثقيلة، وليس عليها إقبال، فيبيعها ويصفي المال من أجل أن يشتري به بضاعة أخرى يكون عليها إقبال، فهنا لا نقول: إن التنضيض يعتبر كالقسمة؛ لأن العامل ورب المال كليهما يعتقدان أن هذا ليس فسخاً ولا قسمة.

ص: 428

مثال ذلك: اشترى العامل عقارات ليؤجرها من أجل الربح، لكنه رأى أن العقارات لا مكسب فيها بسبب انخفاض الإجارة، فباعها جميعاً بمائة ألف ريال ـ مثلاً ـ، فصار بيده الآن مائة ألف ريال، لكن يريد أن يشتري بها نوعاً آخر من المال، يرى أنه أفيد، فهنا نقول: هذا التنضيض ليس تنضيض قسمة، ولا تنضيض فسخ، إنما هو تنضيض لمصلحة الشركة، فلو قُدِّرَ أنه خسر بعد ذلك، فالخسارة على الربح.

وخلاصة الموضوع أن أي خسران يكون قبل القسمة أو فسخ الشركة فهو على الربح، فإن خسر كل شيء، فعلى الربح وعلى رأس المال.

‌الثالث: شَرِكَةُ الوُجُوهِ أَنْ يَشْتَرِيَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا بِجَاهِهِمَا فَمَا رَبِحَا فَبَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ منهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ وكَفِيلٌ عَنْهُ بِالثَّمَنِ، والمِلْكُ بينهما على ما شَرَطَاهُ، والوضيعةُ على قدرِ مِلْكَيْهِمَا والرِّبْحُ على ما شَرَطَاهُ.

قوله: «الثالث شركة الوجوه» أي: الثالث من أنواع شركة العقود؛ لأن المؤلف قال في الأول: «وهي أنواع» والمراد بالوجه هنا الجاه، وجاه الإنسان يعني شرفه وقيمته عند الناس ومنزلته بينهم.

قوله: «أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما فما ربحا فبينهما» مثال ذلك: هذان رجلان عاملان، لكن ليس عندهما مال، وكلاهما فقير، فذهبا إلى رجل غني كبير، وقالا له: نريد أن نشتري منك هذا المحل، فقال: أعطوني المال، فقالا: ليس عندنا شيء، لكننا نشتري بالذمة، فهو الآن ـ مثلاً ـ يساوي مائة ألف، فنشتريه منك بمائة ألف وعشرة في ذمتينا، فهذه تسمى شركة الوجوه؛ لأنهما اكتسبا المال بجاههما وثقة الناس بهما،

ص: 429

فقال رب المحل: بعته عليكما، فصارا شريكين في هذا المحل بدون أن يسلما دراهم، لا منهما ولا من أحدهما؛ لأنهما لو سلما دراهم منهما صار ذلك شركة عنان، ولو سلم أحدهما فمضاربة، فهذان لم يسلما مالاً؛ لأنهما اشتريا في ذمتيهما بجاههما.

مثال آخر: رجلان آخران ذهبا إلى صاحب محل، وهما من أصحاب الحيلة والمكر، وقالا: بع علينا المحل، فقال: أعطوني المال، فقالا: ليس لنا مال ولكن لك جاهنا ووجاهتنا وذمتنا، ولكنهما معروفان بالحيل والمكر والخداع والمماطلة، فهنا لا يعطيهما، أما في المثال الأول فقد أعطاهما؛ لأن لهما جاهاً ووجاهة وذمة.

فتبين الآن أن شركة الوجوه معناها أن الشريكين ليس لهما مال، لا منهما، ولا من أحدهما، وإنما لهما الذمة والجاه والاعتبار عند الناس.

وهذه الشركة يحتاج إليها الفقراء الأقوياء على التكسب، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة:«لا تحل لغني، ولا لقوي مُكْتَسِب»

(1)

، والناس قد لا يكون عندهم مال فيذهبون إلى التجار ويقولون: أعطونا أموالكم نتجر بها واكتبوها في ذمتنا، فالملك هنا ملكهما، والتاجر ليس له إلا ثمن ثابت في الذمة.

(1)

أخرجه مسلم في الزكاة/ باب من تحل له المسألة (1044) عن قبيصة رضي الله عنه.

ص: 430

وقوله: «فما ربحا فبينهما» أي: على حسب ما شرطاه، فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر، فيشترط له من الربح أكثر، والثاني أقل، وقد يتساويان، فيجعلان الربح بينهما مناصفة.

قوله: «وكل واحد منهما وكيل صاحبه» حتى وإن لم يصرِّحا بالتوكيل، فإن مقتضى هذه الشركة أن يكون كل واحد منهما وكيلاً لصاحبه.

قوله: «وكفيل عنه بالثمن» كفيل بمعنى ضامن، أي: كفيل غَرَّام بالثمن كما يقولون، فما دام البائع باع عليهما بوجهيهما، فإنه يعتقد أن كل واحد منهما غارم عن صاحبه، فلو أن أحدهما هرب ـ مثلاً ـ بعد عقد الشركة، وبقي واحد منهما، فللبائع عليهما أن يُضَمِّن هذا الذي لم يهرب.

فإذا قال: إننا شركاء وإن لصاحبي الذي هرب النصف؟ قال: لكن كل واحد منكما كفيل عن صاحبه.

قوله: «والملك بينهما على ما شرطاه» فمثلاً إذا قالا: ثلث لزيد وثلثان لعمرو فلا حرج، ولو قالا: ربع لزيد وثلاثة أرباع لعمرو فلا حرج، أو نصف لزيد ونصف لعمرو فلا حرج.

قوله: «والوضيعة» يعني الخسارة.

قوله: «على قدر ملكيهما» فإذا اتفقا على أن يكون لزيد قدر الثلث، ولعمرو قدر الثلثين، وخسر المال، فيكون لعمرو قدر الثلثين من الخسارة، ولزيد قدر الثلث؛ لأن الوضيعة على قدر المال في جميع الشركات.

ص: 431

قوله: «والربح على ما شرطاه» ؛ لأنه ربما يشترطان لأحدهما أكثر من ربح ماله لكونه حاذقاً في البيع والشراء، فالخلاصة كما يلي:

أولاً: تصرفهما كل واحد بالأصالة عن نفسه والوكالة عن صاحبه.

ثانياً: كل واحد يضمن عن نفسه، ويضمن عن صاحبه.

ثالثاً: يملكان هذا المال المشترك على ما شرطاه، فقد يجعلان لأحدهما الثلثين وللآخر الثلث أو يجعلانه أنصافاً.

رابعاً: الخسارة وهي الوضيعة، تكون على قدر المال.

خامساً: الربح يكون على ما شرطاه.

ولو قُدِّرَ أن المال تلف بغير تعدٍّ ولا تفريط فهل يضمنان لمن أعطاهما بوجهيهما أو لا؟

الجواب: نعم يضمنان، لأنهما أخذا هذا المال على أنه ملك لهما، عليهما غرمه ولهما غنمه، وليس هذا من باب المضاربة، أو من باب الأمانة أو ما أشبه ذلك، بل هذا بيع وشراء، فقد تم هذا البيع والشراء على هذين المشتركين، فكانت الغرامة عليهما كما أن الغنيمة لهما.

‌الرابع: شَرِكةُ الأَبْدانِ أَنْ يَشْتَرِكا فِيمَا يَكْتسِبانِ بأبْدَانِهِمَا فَمَا تَقبَّلَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ عَمَلٍ يَلزَمْهُمَا فِعْلُهُ وَتَصِحُّ في الاحْتِشَاشِ والاحْتِطَابِ وَسَائِرِ المُبَاحَاتِ وَإِنْ مَرِضَ أَحَدُهُما فالكَسْبُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ طَالَبَهُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقِيمَ مُقامَهُ لَزِمَه.

قوله: «الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما» وهذه ـ أيضاً ـ ليس فيها مال، وقد يكون عند كل واحد

ص: 432

منهما مال، لكنهما لم يشتركا في المال، وشركة الأبدان شركة في العمل بأن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما.

قوله: «فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله» ما: شرطية، وتقبل فعل الشرط، ويلزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه يجوز أن يكونا مضارعين، أو يكونا ماضيين، أو يكونا مختلفين.

مثال الأول: إن يقم زيد يقم عمرو.

ومثال الثاني: إن قام زيد قام عمرو.

ومثال الثالث: إن قام زيد يقم عمرو، وإن يقم زيد قام عمرو.

فقوله: «فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله» فهنا فعل الشرط وجوابه مختلفان، فقوله: تقبل فعل الشرط، ويلزمهما: جواب الشرط، ولهذا قلنا: إنه مجزوم، ويجوز رفعه من الناحية العربية، كما قال ابن مالك:

وبَعْدَ ماضٍ رَفْعُكَ الجَزَا حَسَنْ

وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضَارِعٍ وَهَنْ

فهنا «تقبل» ماض فيجوز أنه نرفع المضارع الذي هو جواب الشرط، لكن لو رفعناه هنا لاختلف المعنى؛ لأنك لو رفعته قلت:«يلزمُهما» وتكون الجملة صفة لـ: «عمل» ، ويختلف المعنى.

ومعنى العبارة: أن أي عمل يتقبله أحدهما فإنه يلزم الجميع، ومعنى يتقبل أي: يلتزم به، فما التزم به أحدهما من عمل لزم الجميع، وهذا مع اتفاق الصنائع واضح ـ فمثلاً ـ اشترك

ص: 433

اثنان في النجارة فجاء شخص، وقال لأحدهما: اصنع لي باباً، قال: لا بأس أصنع الباب، هنا لو أن الذي اتفق معه لم يصنع الباب، فإنه يلزم الثاني أن يصنع الباب؛ لأنهما شريكان متضامنان، فما تقبله أحدهما لزم الآخر.

ومع اختلاف الصنائع، مثل أن يكون أحدهما خشاباً والثاني حداداً، فإذا التزم الخشاب أن يصنع باباً من خشب فهل يلزم الحداد؟

الجواب: نعم، يلزم على كلام المؤلف؛ لأنهما شريكان، فيقال للحداد: اصنع باب الخشب لنا، فقال: أنا لست بخشاب لا أعرف، قلنا له: استأجر من يصنعه لنا؛ لأنك ملتزم بما التزم به شريكك فيلزمك، وكذلك بالعكس، فلو جاء شخص إلى الحداد وقال: اصنع لي باباً خشباً، فالتزم، فإنه يلزم صاحبه، فعلى كل حال ما تقبله أحدهما من عمل لزم الآخر؛ لأنهما شريكان وكل واحد ملتزم بما التزم به الآخر، وهذا هو المذهب.

وشركة الأبدان لها عدة صور منها:

قوله: «وتصح في الاحتشاش والاحتطاب» الاحتشاش مثل أن يخرج رجلان إلى البر ليأتيا بالحشيش، ويبيعانه في السوق، فقال أحدهما للآخر: نحن شركاء فيما نكتسب، فقال: «لا بأس نشترك ويذهب كل واحد منا في وادٍ، وكل واحد أتى بوقر من الحشيش.

والاحتطاب مثله، خرجا إلى البر ليأتيا بحطب يبيعانه، فقال

ص: 434

أحدهما: نحن شركاء، فقال الآخر: لا بأس، فعلى حسب ما يتفقان عليه.

وتصح مؤجلة ومطلقة، فيجوز نحن اليوم شركاء، أو نحن هذا الشهر شركاء، أو نحن هذا الأسبوع شركاء، أو تطلق ومتى شاءا فسخاها.

ويكون الملك على ما شرطاه، والربح على ما شرطاه، والوضيعة على قدر المال.

وهذه ليس فيها مال وإنما هو عمل، والفرق بينها وبين شركة الوجوه، أن شركة الوجوه، يأخذان المال من ثالث ويعملان بأبدانهما، أما هذه فلا يأخذان من أحد مالاً ولا يأتي أحدهما بمال، وإنما يشتركان في العمل.

قوله: «وسائر المباحات» من المباحات التقاط السمك والجوهر، وما أشبه ذلك من البحر، فهذه جائزة وهي شركة أبدان.

ومنها: الاشتراك في جمع الكمأة وهي (الفقع) تنبت في البر، فيأخذانها ويبيعانها.

ومنها: الاشتراك ـ أيضاً ـ في الصيد، مثل أن يذهبا إلى مكان يكثر فيه الصيد واشتركا، فهذه ـ أيضاً ـ شركة أبدان.

ومن صور الاشتراك في العمل أن يكون كل منهما نجاراً ـ مثلاً ـ، أو أن أحدهما نجار والثاني حداد والثالث بَنَّاء، فيشتركون فهذا ـ أيضاً ـ جائز، وتسمى شركة أبدان، وهذه تقع أحياناً مع اتفاق الصنائع، كأن يشترك نجاران في ورشة يعملان

ص: 435

فيها، أو يشترك حدادان في ورشة حدادة، أو ميكانيكيان في ورشة ميكانيكا وهلم جرّا.

فهذا اشتراك في عمل صناعة، فالمادة ليست لهما بل لغيرهما، لكنهما يصنعانها ويحوِّلانها إلى شيء معين، أو يصلحانها أو ما أشبه ذلك.

ومنها ـ أيضاً ـ شركة الدلالين، بأن يكون في هذا السوق دلاَّلون مشهورون بالحذق، فيشترك هؤلاء الدلالون في الدلالة فلا بأس، فأحدهما ـ مثلاً ـ يبيع الثياب، والثاني يبيع الأواني، والثالث يبيع الفرش، والرابع يبيع سلعاً أخرى، وتسمى شركة الدلالين؛ لأنهم يشتركون في عمل بدني، ليس عندهم مال، والمال ليس لهما ـ أيضاً ـ وإنما هو لغيرهم ويأخذون عليه الأجرة بالدلالة.

الخلاصة: أن شركة الأبدان شركة في عمل ولها أنواع.

قوله: «وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما» على ما شرطاه إذا كان النصف أو الربع أو الثلث حسب ما شرطاه، مع أن هذا المريض لم يعمل، لكنه ترك العمل لعذر، وهل لصاحبه في هذه الحال أن يفسخ الشركة؟

الجواب: نعم له ذلك، فله أن يفسخ الشركة وله أن يطالبه بمن يقوم مقامه، فيقول له: أنت الآن تركت العمل فأرسل مكانك أحداً، ولنفرض أنهما نجاران، مرض أحدهما ولم يأت للعمل، فلصاحبه أن يقول له: ائتني ببدلك، من يقوم بالعمل؛ لأن هذه شركة بدن، ولا بد أن يشترك الشريكان في العمل.

وقوله: «وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما» لو ترك العمل

ص: 436

لغير عذر، مثل إنسان لا يهتم ولا يعمل بدون عذر، فالمذهب الكسب بينهما؛ لأنه يمكن للشريك أن يطالب شريكه بمن يقوم مقامه ولم يفعل، ولكن هذا فيه نظر.

والصواب أن ما كسبه صاحبه في هذا اليوم له، يختص به؛ لأن هذا ترك العمل بغير عذر، والآخر انفرد بالكسب.

فإذا قال قائل: أليس يلزمه أن يطالبه بأن يقيم مقامه من يكون بدله؟

قلنا: بلى، لكن ربما يستحيي الإنسان، وربما يظن أنه ترك العمل لعذر فيخجل أن يذهب إليه ويطالبه بالعمل، فلذلك القول الراجح في هذه المسألة أنه إذا ترك العمل لغير عذر، فإنه لا يستحق كسب ذلك الزمن الذي ترك فيه العمل بغير عذر.

قوله: «وإن طالبه الصحيح» يعني الذي لم يمرض.

قوله: «أن يقيم مقامه لَزِمَه» مُقامه أو مَقامه، إذا كانت رباعية فهي بضم أوله، وإن كانت ثلاثية فهي بالفتح هذه القاعدة، فتقول: قَام مَقام، وتقول: أقَام مُقامه؛ لأنه رباعي.

فنقول: إذا كان رباعيّاً فضم أوله، وإذا كان ثلاثيّاً فافتح أوله.

فإن طالبه الصحيح أن يقيم مُقامه لزمه، فإن أبى فللآخر فسخ الشركة، فيقول: إذا كنت لا تقيم معي من يقوم مقامك فإني أفسخ الشركة، ولكن كيف يمكَّن من الفسخ وقد تم العقد بينه وبين صاحبه وهما شريكان؟! قلنا: لما تعذر العمل من قبل صاحبه ولا يمكن أن ينفرد هذا بالعمل، صار له حق الفسخ.

ص: 437

‌الخَامِسُ: شَرِكةَ المفاوَضَةِ، أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلى صاحِبهِ كُلَّ تَصَرُّفٍ مَاليٍّ وبَدَنِيٍّ مِنْ أَنْواعِ الشَّرِكَةِ، والرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ والوَضِيعَةُ بِقَدْرِ المَالِ فَإِنْ أَدْخَلَا فِيهَا كَسْباً، أَوْ غَرامةً نَادرِيْنِ أَوْ مَا يَلزمُ أَحَدَهُمَا مِنْ ضَمانِ غَصْبٍ أَوْ نَحْوِهِ فَسَدَتْ.

قوله: «الخامس: شركة المفاوضة» والمفاوضة في الحقيقة شركة عامة لجميع أنواع الشركات السابقة وهي أربع: العنان، المضاربة، الوجوه، الأبدان.

وشركة المفاوضة أن يشتركا في جميع أنواع الشركة.

قوله: «أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة» فيفوض كل واحد منهما للآخر كل نوع من أنواع الشركة: مضاربة، عنان، أبدان، وجوه، فهي عامة، وهذه عليها عمل كثير من الناس اليوم، وأكثر الشركات اليوم على هذا، فتجد الشركاء ـ مثلاً ـ كل واحد منهم يبيع بمؤجل، ويضارب، ويسافر بالمال، ويقرض المال يعني في كل شيء، وهذه اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها، وقال: إننا لو أجزنا هذه الشركة وهي واسعة فلا تمكن الإحاطة بها، فهي مفاوضة قد تؤدي إلى الفوضى والغرر؛ لأن فيها كل شيء، يعني أحدهما ضارب والثاني شارك في بدن، والثالث شارك في وجوه، والرابع شارك في عنان.

فنقول: لا مانع فيه؛ لأن كل أنواع الشركة تدخل في عقد المفاوضة، فلم تَعْدُ أن تجمع بين متفرق؛ لأن المضاربة وحدها جائزة، والعنان وحدها جائزة، والوجوه جائزة، والأبدان جائزة، إذاً هذه لم تعدُ إلا أنها جمعت بين هذه الأربعة، وما جاز أفراداً جاز جمعاً، فالصواب هو ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله أنها جائزة والحاجة تدعو إليها، وعمل الناس اليوم على هذا،

ص: 438

فكثير من الشركاء التجار الكبار، شركاتهم مفاوضة، تجد أحدهم ـ مثلاً ـ في المدينة والثاني في مكة، هذا يعطي مضاربة ويعطي قرضاً، وربما ـ أيضاً ـ يتبرع أحياناً في الشيء الذي ليس بكثير وأخوه يجيزه، فالصواب أنها جائزة؛ ولهذا يقول المؤلف:«أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة» .

إذاً أنواع الشركة أربعة، والخامسة المفاوضة وهي تجمع الأنواع الأربعة.

قوله: «والربح على ما شرطاه» أي: إذا قال أحدهما للآخر: لك الربع، ولي ثلاثة أرباع وقبل فإنه جائز، وثلثان وثلث جائز، والنصف جائز.

إذا قال قائل: كيف تجعلون الربح على ما شرطاه، والمال قد يختلف؟ قلنا: لأن الربح مبني على العمل والحذق، وقد يكون أحدهما أحذق من الآخر وأقوى عملاً، بل ربما يكون عند الناس ـ أيضاً ـ أوثق؛ ولذلك تجد ـ مثلاً ـ من يعرض عليك سلعة يقول: قيمتها بعشرة، فإنك تتردد هل قيمتها عشرة أو لا؟ ولو أتاك آخر دلال تعرف أنه حاذق وعارف بالأسعار، فقال لك: قيمتها اثنا عشر فإنك لا تتردد؛ لأنك تعرف أن هذا حاذق ويعرف الأسعار، وذاك ليس حاذقاً ولا يعرف الأسعار، فتخشى أنه قال بعشرة وهي لا تساوي إلا ثمانية.

قوله: «والوضيعة بقدر المال» وهذه قاعدة، الوضيعة بقدر المال في جميع أنواع الشركة؛ لأنه لا يمكن أن نلزم أحدهما غرم

ص: 439

صاحبه؛ لأنك لو قلت: إن الوضيعة على ما شرطاه، وكان المال مختلفاً لزم من ذلك أن نلزم أحدهما بغرم مال صاحبه، أما الغنم فالإنسان كاسب على كل حال، حتى لو نقص غنمه عن غنم ماله فلا بأس.

فالربح على ما شرطاه، فيجوز أن يبذل كل واحد منهم عشرة آلاف، ويكون الربح ثلاثة أرباع فإنه جائز، والوضيعة إذا كان كل واحد أتى بعشرة آلاف لا يمكن أن تكون على هذا ثلثين وعلى الآخر ثلثاً؛ لأنه كما قلنا: إننا حملنا غرم أحدهما على مال الآخر، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا حيف وجور، فالوضيعة على قدر المال.

قوله: «فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادرين» ، الكسب النادر كالركاز ـ مثلاً ـ فالركاز كسب لكنه نادر، واللقطة نادرة، فمتى تجد لقطة؟! ثم إذا وجدتها فمتى تعدم صاحبها؟! فربما تنشد عليها ثم يأتي صاحبها فلا تكسب، فهذه من المكاسب النادرة، إذا أدخلت في شركة المفاوضة، بأن قال: حتى ما نجده من لُقطة وما نطلع عليه من ركاز فهو داخل في الشركة، فهنا يقول المؤلف: الشركة لا تصح؛ لأنهما أدخلا فيها كسباً نادراً.

وقوله: «أو غرامة» الغرامة النادرة كالجناية، فمثلاً إنسان جَنى على شخص خطأ، ولزمته دية ما جنى، فهذه حكمها على الجاني، لكن لو أدخلاها في ضمن الشركة لم يصح؛ لأنه ربما تكون هذه الغرامة مجحفة بمال الشركة كله، فلا يصح هذا الشرط، والمذهب أنه فاسد مفسد؛ لأنه يعود بجهالة الربح والأصل، وكل شرط يعود إلى الشركة بجهالة الربح فهو فاسد

ص: 440

مفسد لها، وعلى المذهب لو تمت الشركة على هذا الشرط واشتغلا في الشركة لمدة سنة ثم قيل لهما: إن الشركة فاسدة، يقولون حينئذٍ يكون لكل واحد منهما ربح ماله، ولا يشاركه الآخر فيه؛ لأن الشركة فاسدة، ويكون لكل واحد منهم على الآخر أجرة مثله بما عمله في ماله.

والقول الثاني: أنها إذا فسدت الشركة فإنه يرجع إلى سهم المثل لا أجرة المثل؛ لأن هذا إنما أخذ المال برضا صاحبه على أساس الشركة وعلى أنه شريك لا أجير، فإذا فسدت الشركة فإننا نرجع إلى سهم المثل، فيكون لكل واحد منهما من الربح سهم مثله، أما خسارة المال أو ربح المال فهو ضمن الشركة؛ لأنه ليس بنادر.

ولو أدخلا فيها ميراثاً لأحدهما بأن مات قريبه، وكسب من ورائه ألف مليون ريال، وقال: ندخلها في الشركة فهنا لا يدخل؛ لأنه من النادر، ولا علاقة له بعمل الشريك، والهبة ـ أيضاً ـ نادرة، فيقولون: لا يصح وتفسد الشركة.

لكن لو قال قائل: النوادر أقسام:

الأول: لا أثر للإنسان فيه، فهذا نعم لا يدخل في الشركة كالميراث.

الثاني: ما كان بكسب من الإنسان كالتقاط وشبهه، فهذا لا بأس أن يدخل في الشركة وإن كان نادراً، فكون الإنسان يجد لقطة هذا أمر نادر لكن الإنسان يتملكه باختياره.

الثالث: ما كان باختيار الإنسان لا فعله كالهبة ـ مثلاً ـ،

ص: 441

فالهبة لو شاء الإنسان لم يقبلها، فإذا قبلها صار هذا نوعاً من الكسب، وكونه نادراً لا يمنع أن يدخله في الشركة، فإذا قال: أنا راضٍ إذا وُهِبَتْ لي هبة أن أدخلها، فإن الفقهاء يقولون: هذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه نوع من الجهالة والغرر؛ إذ أنه ليس شيئاً مطرداً معروفاً بل هذا شيء نادر، فكيف يدخل في الشركة؟!

ولكني أقول: إذا قال الكاسب الذي كسب النادر، سواء بفعله أو بغير فعله: أنا أدخله في الشركة وأجعله تبرعاً مني لصاحبي فيجوز، لكن أن تجعله في ضمن العقد فلا يجوز، فإذا قال: أنا راضٍ أن أجعله في ضمن العقد، قلنا: ربما ترضى اليوم ولكن إذا جاءت الدراهم لن ترضى وتندم؛ لهذا نقول: إن الشركة تكون فاسدة إذا أدخل فيها كسباً نادراً، ولو قيل بفساد الشرط لا العقد لكان له وجه.

قوله: «أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت» هذا غير الغرامة، فالغرامة تأتي بغير اختيار الإنسان، والغصب باختياره، مثل أن يقولا: نحن شركاء مفاوضة، لكن ما لزم أحدنا من ضمان غصب فهو على الشركة، فقال أحدهما: ليس هناك مانع، فاتفقا على هذا، فإن المؤلف يقول: إن الشركة تكون فاسدة وصدق رحمه الله؛ لأن هذا قد يجحف بمال الشركة، ولأنه ربما يكون هذا الشريك يُغِيرُ على الناس، ويغصب أموالهم، فإذا أدخلا في الشركة ما يلزم أحدهما من ضمان الغصب والإتلافات وما أشبهه، فإن الشركة تكون فاسدة؛ لأنه يترتب على ذلك أن يتعدى أحدهما على حقوق الناس، بالغصب، والسرقة،

ص: 442

والتكسير، والإحراق، وغير ذلك، ويقول: على الشركة!! وهذا لا شك أنه ضرر عظيم.

وقوله: «أو نحوه» كخيانة في أمانة، وما أشبه ذلك.

إذاً شركة المفاوضة ما كان من ربح المال، أو من عملهما فهو داخل في الشركة، والخسارة ما كان من تصرف أحدهما في المال بغير عدوان منه، ولكن لمصلحة المال فهو على الشركة؛ لأن ذلك لمصلحتها وليس كل إنسان يجتهد يكون مصيباً.

ص: 443

‌بَابُ المساقاة

قوله: «باب المساقاة» أصل المساقاة مساقية، لكن تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فهي مفاعلة، والمفاعلة لا تكون غالباً إلا من طرفين، وقولنا: لا تكون غالباً احترازاً من غير الغالب، ومنه: سافر يسافر مسافرة، فليس معه أحد يغالبه في السفر، لكن الغالب أن المفاعلة لا تكون إلا بين اثنين.

إذاً المساقاة عقد بين اثنين، وهي أن يدفع شجراً لمن يقوم عليه بجزء من ثمره.

وهي جائزة بالدليل العام والسنة، والنظر الصحيح.

أما الدليل العام فهو أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه.

أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر، طلب منه أهلُها أن يعاملَهم وقالوا: نحن نكفيكم المؤونة ولنا شطر الثمر؛ لأن أهل خيبر كانوا عالمين بالفلاحة، والصحابة رضي الله عنهم كانوا مشتغلين بالجهاد عن العمل في هذه المزارع، فعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع

(1)

، والشطر النصف.

وأما النظر الصحيح؛ فلأنها من المصلحة، فقد يكون الإنسان مالكاً لبساتين كثيرة ويعجز عن القيام بما تحتاجه هذه

(1)

سبق تخريجه ص (411).

ص: 444

البساتين عجزاً بدنياً أو عجزاً مالياً فيكون حينئذٍ بين أمرين، إما أن يهمل هذا الشجر فيموت ويهلك وهذا فساد وإضاعة مال، وإما أن يعطيه من يعمل به بأجرة، وهذا قد يكون شاقاً عليه، فهو جائز لكن قد يشق على صاحب المال، وقد يكون هناك أناس عاطلون عن العمل يحتاجون إلى عمل، فإذا انضم كثرة البساتين عند هذا، وحاجة العمال إلى العمل، صار من المصلحة أن نُجَوِّز المساقاة، ونقول: ادفعها لهؤلاء العمال بجزء من الثمرة.

فاتضح الآن أن المساقاة تكون على شجر، وليس على أرض، ولا على زرع، فهل هي من العقد الجائز من ناحية الحكم التكليفي أو من المحرم؟

الجواب: هي من العقود الجائزة، والدليل عدم الدليل؛ لأنها معاملة، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فإذا لم يقم دليل على التحريم فهي حلال، وإن شئنا قلنا: الدليل هو انتفاء الدليل المُحَرِّم وثبوت الدليل المُجَوِّز، وذلك في معاملة أهل خيبر، وأن المصلحة تقتضيها، فهي إذاً جارية على القياس، وذلك خلافاً لمن قال: إنها جارية على خلاف القياس؛ لأن الجزء المشروط للعامل مجهول، فإن هذا الشجر قد يثمر ثمراً كثيراً يقابل أضعاف ما أنفق العامل عليه، وقد يثمر ثمراً قليلاً، وقد لا يثمر شيئاً فيكون العامل خاسراً، لذلك كان نصيب العامل مجهولاً، فيقال: هذه نظير المضاربة تماماً؛ لأن المضاربة يأخذ العامل الدراهم ويسافر ويتعب ويربح ربحاً كثيراً عظيماً، وفي النهاية

ص: 445

يشتري سلعة تجحف بجميع الربح، فهذا خسر البدن والمال، ومع ذلك فهي جائزة، فإذا قال: والمضاربة على خلاف القياس أيضاً.

فنقول: ما هو القياس الذي تعنيه؟ الممنوع أن يكون أحد المتشاركين غارماً والثاني غانماً، أما إذا اشتركا في المغنم والمغرم فإن هذا على وفق القياس، وكون العامل تحت الحظ لا يعني خلاف القياس؛ لأن كل إنسان يعمل في الدنيا فهو تحت الحظ حتى صاحب المال تحت الحظ، ولذلك فهي لما تتضمنه من المصلحة ولكونها جارية على سنن الحياة على وفق القياس.

‌تَصِحُّ عَلَى شَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ وَعَلَى ثَمرَةٍ مَوْجُودَةٍ وَعَلَى شَجَرٍ يغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ علَيْهِ حتى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ ويَشْتَرطُ أَنْ يَكُونَ الجُزْءُ مَعْلُومَاً مُشَاعَاً .........

قوله: «تصح» الفاعل المساقاة.

قوله: «على شجر» أي: أن يعقد على شجر.

قوله: «له ثمر يؤكل» فاشترط المؤلف في الشجر أن يكون له ثمر، واشترط في الثمر أن يكون مأكولاً.

مثاله: النخل، فالنخل شجر له ثمر يؤكل، وكذلك العنب، والبرتقال، والتفاح.

أما البرسيم ـ مثلاً ـ فليس بشجر؛ لأن الشجر ما له ساق، والبرسيم ليس له ساق، مع أن كلام الفقهاء في أن الشجر ما له ساق، فيه نظر، لأن الله تعالى أثبت الساق للزرع، فقال الله ـ تعالى ـ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، المهم أن الزرع لا يدخل في هذا؛ لأنه ليس شجراً.

وقوله: «له ثمر» احترازاً مما لا ثمر له، كشجر السَّرْوِ، وهو شجر قوي كبير يرتفع، تتخذ منه الأبواب لكن ليس له ثمر، وفيه يقول الشاعر:

ص: 446

في شجر السرو لهم مثل

له رواء وما له ثمر

أما بالنسبة للأثل فله ثمر؛ ولكنه لا يؤكل، كما أنه قليل الثمر، فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن التعب عليه لا يعطي ربحاً، والمؤلف يقول:«له ثمر يؤكل» وهذا ظاهر كلام المؤلف.

وقال بعض العلماء: إنه يجوز على شجر لا ثمر له، إذا كانت أغصانه يُنتفع بها، مثل أن تكون أغصانه تقطع وتجعل أبواباً صغاراً ـ مثلاً ـ أو ما أشبه ذلك، أو سدر يمكن أن يُنتفع بأوراقه، وعلى شجر له ثمر لكن لا يؤكل لكنه مقصود، مثل الأثل له ثمر فيؤخذ هذا الثمر ويجعل في الدِّيار، تدبغ به الجلود، فهو ثمر مقصود لكنه لا يؤكل، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن القاعدة هي أن يكون للعامل شيء في مقابلة عمله من ثمر يؤكل أو ثمر لا يؤكل لكنه مقصود ينتفع به، أو من قطع الشجر نفسه عند تكامل نموه فلا مانع؛ وفيه فائدة للطرفين، فما الفرق بين أن نقول: أغصان تُقطع وتُباع ويُنتفع بها، أو نقول: ثمر يُجذ ويؤكل؟!

إذاً موضوع المساقاة هو الشجر، ويشترط أن يكون له ثمر، وأن يكون ثمره يؤكل، وهذه هي الصورة الأولى.

قوله: «وعلى ثمرة موجودة» مثاله: رجل عنده نخلة وأثمرت النخلة، لكنه تعب من سقيها وملاحظتها فساقى عليها شخصاً، فقال: أنا أساقيك على هذه الثمرة إلى أن تجذ، فهنا لا بأس بذلك.

فإن قال قائل: هذا يعني بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها،

ص: 447

نقول: هذا ليس ببيع، لكنه كالمؤاجرة على سقيها وإصلاحها، والبيع يتخلى عنه البائع نهائيّاً وينتقل ملكه إلى المشتري، أما هذا فلا ينتقل، وإنما هو كالأجير يقوم على هذه الثمرة حتى تنضج، وهذه هي الصورة الثانية.

قوله: «وعلى شجر يغرسه» يعني وتصح المساقاة على شجر لم يغرس بعد، وإنما يغرسه العامل، والشجر من رب الأرض، وهذه هي الصورة الثالثة، فالصور إذن:

الأولى: شجر قائم يُساقي عليه.

الثانية: ثمر على شجر يُساقي عليه.

الثالثة: شجر لم يغرس بَعْدُ، إنما أتى رب المال بالأشجار وجمعها، وقال للعامل: ساقيتك على هذه الأشجار تغرسها بجزء من ثمرتها، فهذا يجوز؛ لأن الأصل في المعاملات الجواز؛ ولأن هذا هو ظاهر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر، فصارت الصور ثلاثاً.

قوله: «ويعمل عليه» هذا العامل.

قوله: «حتى يثمر بجزء من الثمرة» وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ما الذي يلزمه وما الذي يلزم رب الأصل.

هناك صورة رابعة: وهي لو ساقاه على الشجر بكل الثمرة، قال: لك كل الثمرة، فالمذهب أن هذا لا يجوز، والصحيح أنه جائز بلا شك؛ لأنه إذا جازت المساقاة بجزء من الثمرة جازت بكل الثمرة؛ لأن ذلك أحظ للعامل.

ولو ساقاه على أن يعمل ولا شيء له من الثمر، فالمذهب

ص: 448

لا يجوز؛ لأن العامل ما ربح شيئاً، لكن لو قيل بالجواز لكان له وجه؛ لأن العامل تبرع بنفسه أن يعمل في هذا البستان، لكن قد يقال: إذا قلنا بالجواز هنا، فيجب أن تكون مؤنة المواد على المالك لئلاً نجمع على العامل بين الخسارة المالية والبدنية، ولأن هذا مجهول إذ لا يدرى ما يستحقه النخل من المواد؟

قوله: «ويشترط أن يكون الجزء معلوماً مشاعاً» وهذه سبقت في الشركة، فلا بد أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً مثل: ربع، ونصف، وثلث، وثمن، وعشر، حسب ما يتفقان عليه.

فإن كان غير معلوم، بأن قال: ساقيتك على هذا الشجر ببعض ثمره، فهذا لا يجوز؛ لأنه مجهول.

ولو قال: ساقيتك على هذا الشجر بمائة كيلو منه، فهذا لا يصح؛ لأنه غير مشاع.

ولو قال: ساقيتك على هذا الشجر، ولك مقطران، ولي مقطران، والمقاطر هي صفوف النخل، فلا يجوز؛ لأنه ليس مشاعاً.

لو قال: ساقيتك على هذا النخل على أنَّ ثمرة العام لك، وثمرة الثاني لي، فهذا لا يجوز؛ لأنه غرر وجهالة ويؤدي إلى النزاع، ويؤدي إلى المغرم أو المغنم لأحدهما دون الآخر، والأصل في الشركة اشتراك الشريكين في المغنم والمغرم.

يقول رافع بن خديج رضي الله عنه: «كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء

ص: 449

من الزرع ـ يعني غير مشاع ـ فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به»

(1)

، يريد بالشيء المعلوم المضمون المشاع المعلوم.

‌وَهِي عَقْدٌ جَائِزٌ فَإِنْ فَسَخَ المالكُ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فلِلعَامِلِ الأُجْرَةُ، وَإِنْ فَسَخَها هُوَ فَلَا شَيْءَ لَهُ ........

قوله: «وهي عقد جائز» وذلك باعتبار الحكم الوضعي؛ لأن الحكم التكليفي هو ما يترتب عليه الثواب والعقاب.

والحكم الوضعي هو ما يترتب عليه الصحة والفساد، فقولنا جائز في الحكم الوضعي، يعني أنها من العقود التي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخها بدون رضى الآخر، وضد الجائز اللازم، وهو الذي لا يملك أحد المتعاقدين فسخه إلا بسبب شرعي، أما من جهة الحكم التكليفي فأقول: جائز، أي لا إثم فيه، وضده المحرم.

وعلى هذا فمالك الشجر لا يُلزم الفلاح، والفلاح لا يُلزم مالك الشجر، لكن المشكل إذا كان هذا الفلاح قبض النخل في شهر المحرم ـ مثلاً ـ، وتَعبَ فيه، وسقاه، وعمل فيه كل ما يكون سبباً لنمو وظهور ثمره، ثم قال المالك: أنا فسخت، فهنا هل يضيع حق العامل، أو نقول: الآن صار العقد لازماً؟ بَيَّن المؤلف الحكم فقال:

«فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة» إذاً فلا

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب كراء الأرض بالذهب والورق (1547)(116).

ص: 450

يضيع حق العامل، وعلينا أن نلاحظ أن الثمرة في المساقاة هي المعقود عليها، فمثلاً المالك أعطى العامل النخل في مثل وقتنا الآن، الثمر قد جُذ والنخيل ليس عليها ثمرة، وبعد مضي شهرين رأى المالك أن هذا العامل لا يقوم باللازم تجاه النخيل، ففسخ المالك المساقاة بينه وبين العامل، فهنا نقول: لا بأس، لكن العامل تعب في ملكك بإذنك، فيكون له الحق، ويُفرض له على قول المؤلف أَجرة المثل، فيقال: كم يُعطى الرجل لو عمل على هذا البستان لمدة شهرين؟ قالوا: يعطى في الشهر الواحد ـ مثلاً ـ عشرة آلاف، فنقول: له عشرون ألفاً.

ولو قال قائل: إنه يعطى بالقسط من سهم المثل لكان له وجه؛ لأن العامل لم يعمل على أنه أجير، بل عمل على أنه شريك، فيقال ـ مثلاً ـ: لو أن العامل أكمل نصيبه، فمعروف أنه قد جُعل له سهم، فالآن مضى ـ مثلاً ـ شهران من ثمانية، فيستحق ربع السهم الذي اتفق مع صاحب الملك عليه، فيكون أكثر من الأجرة، وقد يكون أقل، فعلى كل حال لو قيل: بأنه يُعطى بالقسط من السهم الذي شُرط له، لكان قولاً له وجه.

قوله: «وإن فسخها هو» الضمير هنا يعود على العامل.

قوله: «فلا شيء له» لأنه هو الذي أسقط عمله بنفسه، وهذا قبل ظهور الثمرة، أي: إذا فسخ العامل المساقاة فلا شيء له.

لو قال قائل: قد يكون هذا ضرراً على المالك، مثل أن يكون من عادة الناس أنه في وقت الجذاذ، يكون إقبال العمال

ص: 451

على أخذ البساتين مساقاة، والآن ليس هناك نشاط، ألا يلزم العامل بما يعود من النقص على صاحب الأصل؟

الجواب: بلى، قد نقول: إنه يلزم بذلك، وعلى هذا التقدير نقول: إذا كان فسخه لعذر ـ أي العامل ـ مثل أن ينفد ما بيده من المال، أو يكون عنده خادم فيموت أو يهرب ولا يستطيع أن يكمل العمل بنفسه، فهنا نقول: إنه معذور فلا يضمن شيئاً، أما إذا كان غير معذور وفات غرض صاحب الأصل، فينبغي أن يُضَمَّن، وإلا يلزم بإتمام العمل، وهذا قبل ظهور الثمرة، فإذا كان الفسخ بعد ظهور الثمرة، فلا يملك مالك الأصل أن يفسخ، والعامل ـ أيضاً ـ يُلزم بإتمام العمل، يعني تكون لازمة بعد ظهور الثمرة؛ لأن العامل أصبح الآن شريكاً في الثمرة، ولا يمكن لرب الأصل أن يطرده، وصاحب الأصل ـ أيضاً ـ لا يُمَكّن العامل من الفسخ إلا إذا رضي أن يفسخ مجاناً فلا بأس، فلو قال العامل: أنا الآن لا أستطيع، فله ذلك بشرط أن يتنازل عن حقه ويقول: أنا لا أريد شيئاً، فصار قبل ظهور الثمرة كما سبق، إن فسخ المالك لزمه أجرة المثل، وعلى قولنا يلزمه قسط السهم الذي عامل عليه، والعامل إذا فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء له؛ لأنه هو الذي رضي لنفسه ذلك، ولكن هل يضمن العامل للمالك؟ الجواب: إن فسخ لعذر فلا شيء عليه، وإن فسخ مضارَّة فينبغي أن يضمن.

والمالك بعد بدو الثمرة لا يملك أن يفسخ، والعامل يملك

ص: 452

أن يفسخ بشرط أن يتنازل عن حقه؛ لأنه في هذه الحال لم يزد صاحب الأصل إلا خيراً.

والقول الثاني في هذه المسألة: أن المساقاة عقد لازم كالإجارة، وبناء على هذا القول يتعين تعيين المدة، فيقال: ساقيتك على سنة أو سنتين أو ثلاث سنين أو ما أشبه ذلك؛ لأن العقد اللازم لا بد أن يحدد؛ حتى لا يكون لازماً مدى الدهر، فيتعين تحديد المدة، ولا يمكن لأحد منهما فسخها ما دامت المدة باقية، فإن تعذر العمل عليه لمرض أو غيره أقيم من يقوم بالعمل على نفقة العامل، وله السهم المتفق عليه وهذا هو الصحيح، وعليه عمل الناس اليوم وربما يستدل لذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع، وقال: نقركم في ذلك ما شئنا

(1)

، أي نقركم ما شئنا من الإقرار وأنتم ما دمتم باقين فعلى المعاملة، ولأننا لو قلنا: إنه عقد جائز كثر الضرر والنزاع بين الناس، ولأن العامل ربما يتحيل فيأتي إلى صاحب الملك ويأخذ منه الملك مساقاة في موسم المساقاة، فإذا زال الموسم جاء إلى المالك وفسخ، وكذلك بالعكس ربما يكون المالك أعطى العامل هذا الملك ليعمل فيه، فإذا زادت الأسهم للملاك فسخها وأعطاه أجرة المثل، فالصواب أن المساقاة عقد لازم ويتعين فيها تحديد المدة.

ثم بدأ المؤلف يبين ما يلزم العامل وما يلزم المالك فقال:

(1)

سبق تخريجه ص (411).

ص: 453

‌وَيَلْزَمُ العَامِلَ كُلُّ ما فِيهِ صلاحُ الثَّمَرَةِ من حَرْثٍ وسَقْيٍ وزِبَارٍ وتَلقِيحٍ وتشْمِيسٍ وإِصْلاحِ موضعِهِ وطُرُقِ الماءِ وحصادٍ ونحوِه وعلى ربِّ المَالِ ما يُصْلِحُهُ كسَدِّ حَائِطٍ وإِجْرَاءِ الأَنْهَارِ والدُّولابِ وَنَحْوِهِ.

«ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة» أما ما فيه بقاء الأصل فعلى المالك كما سيأتي.

قوله: «من حرث» أي: حرث الأرض.

قوله: «وسقي» أي: سقي الشجر.

قوله: «وزبار» الزِّبار هو قطع الأغصان الرديئة، والشجر والنخيل يكون فيه أغصان رديئة يابسة، فهذه على العامل، ويسمى عند العامة التقليم.

قوله: «وتلقيح» أي: لثمر النخل.

قوله: «وتشميس» للثمر بعد أن يجذ، فيحتاج إلى أن يوضع في الشمس حتى ييبس، فهذا على العامل.

قوله: «وإصلاح موضعه» أي: إصلاح موضع التشميس وهو ما يسمى بالبيدر، فكانوا في الزمن السابق يجعلون موضعاً للتشميس في أرض واسعة، ويضربون حولها ـ مثلاً ـ بحصى يصفونه ويجعلون فيه الجص من أجل أن يكون نقيّاً فييبس عليه الثمر.

قوله: «وطرق الماء» أي: إصلاح طرق الماء، وهي السواقي، والفلاحون يجعلونها حياضاً.

قوله: «وحصاد ونحوه» أيضاً الحصاد على العامل، والجذاذ يرون أنه على كل واحد منهما بقدر حصته، وإن شُرط على العامل فلا بأس، أي جذاذ النخل، فإذا كانت أثلاثاً فعلى

ص: 454

صاحب الثلث الثلث، وعلى صاحب الثلثين الثلثان، وإذا كانت أنصافاً فعلى كل واحد منهما نصفه، إلا إذا شُرِطَ على العامل فيصح.

والصواب أنه يتبع في ذلك العُرف، فإذا جرت العادة أن الجذاذ يكون على العامل فهو على العامل، وإذا جرت العادة أن يكون على صاحب المال فهو على صاحب المال، والعادة عندنا أنه إذا نضجت الثمار قَسَمُوها على رؤوس النخل، وقيل: لك أنت أيها الفلاح هذا الجانب وللثاني الجانب الآخر، وكل واحد منهما يجذ نخله، وهذا في عُرفنا ولا ندري عن عُرف الآخرين.

قوله: «وعلى رب المال ما يصلحه» أي: ما يصلح المال، يعني ما يعود بصلاح النخل على رب المال، وما يعود بتصريفه على العامل.

قوله: «كسد حائط» أي: إذا انثلم سور البستان يسده صاحب البستان، لا العامل؛ لأن هذا تابع لإصلاح البستان، فيكون على رب المال.

قوله: «وإجراء الأنهار» وهذا ـ أيضاً ـ على رب المال، والآن ليس عندنا أنهار، ومقابل إجراء الأنهار إخراج الماء، وإخراج الماء عندنا استخراجه بالمكاين، وهذا يكون على العامل، لكن حفر البئر على رب المال، هذا هو العرف، والعرف المطرد كالشرط اللفظي، يعني الاطراد العرفي كالشرط اللفظي، فما دام الناس اطرد عندهم أن حفر الآبار على رب المال، وأن استخراج الماء على الفلاح العامل، فإننا نمشي على ما كان الناس عليه.

ص: 455

قوله: «والدولاب ونحوه» الدولاب هو آلة استخراج الماء من البئر ونحوه، ويستعمل بدل الدولاب الرحى، حيث يستعمل الدولاب في الآبار، والرحى تستعمل في الأنهار، وقد مر علينا استعمال الرحى في باب خيار التدليس، حيث قال المؤلف:«وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها» ، وهذا يشبه التدليس في تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام.

وعلى هذا يكون الدولاب في المساقاة على صاحب الأصل، وإدارة الدولاب، وتحريكه أي: تشغيله يكون على العامل.

وقوله: «ونحوه» يعني مما يحتاجه الأصل

لو قال قائل: أين في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا عليه كذا أو عليه كذا؟.

نقول: المرجع في ذلك إلى العرف، وذلك على القاعدة المعروفة:

وكُلُّ ما أَتَى ولَمْ يُحَدَّدِ

بالشَّرعِ كالحِرْزِ فبِالْعُرْفِ احْدُدِ

(1)

فإذا كان العرف مطرداً فبها ونعمت، وهذا هو المطلوب، ونمشي على ما جرى عليه العرف، وإذا لم يكن مطرداً، وجب على كل منهما أن يُبَيِّن للآخر ما عليه وما له حتى لا يقع نزاع؛ لأنه من المعلوم أن المتعاقدين عند أول الدخول في العقد، يكون كل واحد منهما مشفقاً، وربما ينسى أو يتناسى بعض الشروط، ويقول: هذا هَيِّن، لكن نقول: هذا لا يجوز، فلا بد أن يكون الشيء واضحاً بيّناً؛ لأنه ربما يحدث نزاع ثم لا نستطيع أن نؤلف بين الطرفين.

(1)

منظومة قواعد الفقه وأصوله لشيخنا رحمه الله.

ص: 456

‌فصلٌ

‌وَتَصِحُّ المُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مَعْلوم النِّسْبَةِ ممَّا يَخْرُجُ مِنَ الأَرْضِ لرَبِّها أَوْ لِلعَامِلِ وَالبَاقِي للآخَرِ، ولا يُشْتَرطُ كَوْنُ البَذْرِ والغِراسِ مِنْ ربِّ الأَرْضِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ.

«فصل: وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة» المزارعة هي أن يدفع أرضاً لمن يزرعها بجزء من الزرع.

والفرق بينها وبين المساقاة أن المساقاة على الشجر، والمزارعة على الزرع، والفرق بين الشجر والزرع أن ما له ثمر وساق وأغصان يسمى شجراً، وما ليس كذلك فإنه يسمى زرعاً.

مثال الزرع: القمح، والذرة، والشعير، والأرز، وما أشبه ذلك.

وإباحتها من حكمة الشرع، وتيسير الإسلام، فقد يكون عند الإنسان أرض بيضاء لا يستطيع زرعها، وفي مقابل ذلك عمال ليس لهم ما يكتسبون، فيأخذون هذه الأرض ويزرعونها، فيكون في ذلك مصلحة لصاحب الأرض وللعامل، وهذا لا شك أنه من محاسن الإسلام.

وقوله: «وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة» اعلم أن كل صحيح فهو جائز، يعني إذا قيل: يصح، فالمعنى أنها جائزة؛ لأن الصحة فرع عن الجواز في الحكم الشرعي لا الوضعي.

وهل كل محرم غير صحيح؟

الجواب: يُنْظَر، فإذا عاد التحريم إلى ذات الشيء، فهو غير صحيح، وإن عاد إلى أمر خارج فهو صحيح، فتلقي الركبان ـ مثلاً ـ: محرم، والشراء من الركبان حرام، لكن البيع صحيح؛ لأنه لا يعود إلى جهالة المبيع، ولا إلى الربا، وإنما يعود إلى

ص: 457

خوف تغرير البائع الذي لم يقدم البلد ولم يدرِ عن الأسعار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»

(1)

.

وقوله: «بجزء» هذا شرط خرج به ما لو دفع الأرض لمن يزرعها مجاناً، فهذه لا تسمى مزارعة؛ لأن الزرع كله للعامل.

مثال ذلك: رجل عنده أرض، وله صديق عاطل، فقال له: يا فلان خذ أرضي، وازرعها واسترزق الله بها، بدون أي سهم لصاحب الأرض، فهذه لا تسمى مزارعة، وإنما هي منحة منحها صاحب الأرض لمن يعمل فيها فلا تصح مزارعة؛ لأن المزارعة نوع من المشاركة، لكنها تبرع.

وقوله: «معلوم النسبة» خرج به المجهول، فلو قال: خذ هذه الأرض مزارعة ببعض الزرع، فهذا لا يجوز؛ لأن البعض مجهول، فلا بد أن يُحَدِّد.

وأيضاً لا بد أن يكون معلومَ النسبة يعني أن علمه نسبي، وليس بالتعيين، فالنسبة أن يقول: ربع، ثلث، عُشر، وما أشبه ذلك، احترازاً من المعلوم بالتعيين، والمعلوم بالتعيين لا تصح معه المزارعة، مثل أن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يسلم هذا ويهلك هذا أو بالعكس.

والقاعدة في المشاركة أن يتساوى الشريكان في المغنم والمغرم، فلو قال: لك الزرع هذا العام، ولي زرع العام القادم

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519)(17) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 458

فلا يصح ـ أيضاً ـ لتعيين الزمن لأحدهما دون الآخر، والمثال الذي قبله تعيين المكان لأحدهما دون الآخر.

لو قال: لك ما تزرعه من شعير ولي ما تزرعه من بُر، فهذا لا يصح؛ لأنهما لم يشتركا في النوع.

لو قال: إن زرعتها شعيراً فلك النصف، وإن زرعتها بُرّاً فلك الربع فهذا يصح؛ لعدم الإشكال فإن زرعها براً له سهم معلوم وهو الربع، وإن زرعها شعيراً فله سهم معلوم وهو النصف.

قوله: «مما يخرج من الأرض» أي من الزرع، فإن أعطاه إياها بجزء أو بشيء معلوم مما لا يخرج من الأرض، فليست مزارعة بل هي إجارة، مثل أن يقول: خذ هذه الأرض ازرعها بمائة صاع من البر فهذا يصح، لكن يكون إجارة؛ لأنني لم أقل: بمائة صاع مما يخرج منها، بل مائة صاع من البر، فالعوض الآن ثابت في الذمة، ليس ناتجاً من عمل هذا المزارع، بل هو ثابت في الذمة حتى وإن لم يزرعها يلزمه مائة صاع.

قوله: «لربها أو للعامل» يعني الجزء المعين تارة يعين لربها، وتارة يعين للعامل، فإذا قال: خذ الأرض ازرعها ولك الربع، فهنا عُين للعامل، ولو قال: خذ الأرض وازرعها ولي الربع، فهنا عُين لرب الأرض.

وإذا عُين لأحدهما سهم فهنا يقول المؤلف: «والباقي للآخر» .

قوله: «ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض» يعني

ص: 459

لا يشترط كون البذر في المزارعة من رب الأرض، ولا كون الشجر وهو الغراس في المغارسة من رب الأرض.

قد يقول قائل: لماذ ينفي المؤلف الشرط؟

نقول: لدينا قاعدة سبق ذكرها، وهي أن العلماء المؤلفين إذا نفوا شيئاً فهو لدفع قول قيل، وإلا كان سكوته عن اشتراطه يدل على أنه ليس بشرط، لكن إذا نفاه فكأنه يشير إلى قول بإثباته، فإذا قال: لا يشترط كذا، فإننا نقول: هذا إشارة إلى قول بخلاف ذلك، أي: دفعاً لهذا القول؛ لأن من العلماء من قال: يشترط في المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض، فإذا أعطيت شخصاً أرضاً يزرعها فأعطه البذر، وإذا كان البذر منه لم يصح؛ لأن المزارعة صنو المضاربة، إذ المزارعة دفع أصل لمن يعمل به بجزء من ربحه، والمضاربة هي دفع مال لمن يعمل به بجزء من ربحه، فإذا كانت مضاربة فلا بد أن يكون المال من المضارب، فكذلك يجب أن يكون البَذر من رب الأرض لا من العامل. والصحيح أنه ليس بشرط وهو الذي مشى عليه صاحب المتن والدليل على ما قاله سلبي وإيجابي.

فالسلبي أن نقول: الأصل عدم الشرط وأن العقود بين المسلمين جائزة بدون شرط، ولهذا نقول لمن منع عقداً من العقود: إيتِ بالدليل، ومن منع عقداً من العقود إلا بشرط قلنا: إِيتِ بالدليل؛ لأنه إذا كان منع العقد من أصله يحتاج إلى دليل، فمنع وصف في العقد يحتاج ـ أيضاً ـ إلى دليل؛ لأن منع العقد إلا بوصف أو شرط هو في الحقيقة منع لكنه ليس منعاً مطلقاً، بل

ص: 460

منع مقيد بحال وهي عدم وجود الشرط. فإذا ثبت جواز العقد فالأصل عدم الشرط فيه، ولأننا إذا أضفنا شرطاً إلى حل العقد، معناه أننا نمنع هذا العقد عند عدم وجود الشرط، وهذا يقتضي أن هذا العقد ممنوع في بعض الأحوال، فنقول: منعك إياه عند تخلف هذا الشرط يحتاج إلى دليل، فاشتراط أن يكون البذر من رب الأرض يحتاج إلى دليل.

والدليل الإيجابي أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع

(1)

ولم يعطهم البذر والغراس، ولو كان شرطاً لأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم البذر والغراس، والدليل الإيجابي فيما دليله سلبي نحتاجه للتقوية من جهة وللتنصيص عليه من جهة أخرى.

وقوله: «والغراس» إشارة إلى المغارسة، والمؤلف لم يذكرها، فهناك عقد ثالث غير المساقاة والمزارعة، ويسمى المغارسة، ويسمى المناصبة، وهي أن يدفع الإنسان الأرض لشخص، يغرسها بأشجار ويعمل عليها بجزء من الأشجار، ليس بجزء من الثمرة، بل بجزء من الغرس، والثمرة تتبع الأصل، والفرق بينها وبين المساقاة، أن المساقاة بجزء من الثمرة، والأصل ـ أي: الشجر ـ لرب الأرض، وهذه بجزء من الأصل نفسه، أي: من الغرس، وهي جائزة، وإذا تمت كان للعامل نصف الشجر، أو ربعه، حسب الشرط، والمساقاة إذا تمت كان للعامل نصف الثمرة أو ربعها حسب الشرط، إذن بينهما فرق.

(1)

سبق تخريجه ص (411).

ص: 461

ففي المغارسة الجزء المشروط للعامل من الأصل، أي: من الشجر نفسه، فهل يشترط إذا أعطيت شخصاً أرضاً مغارسة، أن يكون الفرخ الصغير من رب الأرض، أو يجوز أن يكون من العامل؟

الجواب: المذهب أنه لا بد أن يكون من رب الأرض، كالمزارعة تماماً، لكن ما مشى عليه المؤلف أنه ليس بشرط.

فيجوز أن تقول: يا فلان هذه أرض بيضاء، تحمل ألفاً خذها مغارسة بالنصف، فعلى كلام المؤلف الذي يشتري الغراس هو العامل، ثم إذا انتهت مدة المغارسة يقسم النخل، وعلى المذهب لا بد أن الذي يدفع ثمن الغرس هو رب الأرض.

ولكن الصحيح ما مشى عليه المؤلف، أنه ليس بشرط، وعلى هذا تكون المشاركات في الزروع والنخيل والأشجار ثلاثة أنواع: مغارسة ومساقاة، ومزارعة، وقد تبين حكم كل واحدة منها والحمد لله.

قوله: «وعليه عمل الناس» أي المزارعين؛ لأن الأصل في ذلك معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ولم ينقل أنه كان يعطيهم البذر كما سبق، فكان الناس على ذلك من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وظاهر كلام المؤلف أنه إلى وقت المؤلف، وعمل الناس أن البذر من العامل إلى يومنا هذا، ولا ريب أنه الصواب.

وقوله: «وعليه عمل الناس» هل عمل الناس حجة أو لا؟ نحن نعرف أن الأدلة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس،

ص: 462

وعمل الناس لم نسمع به، ولو كان عمل الناس حجة لكان الناس إذا عملوا أشياء محرمة وطال عليهم الزمن، وصاروا لا يرون إلا أنها مباحة نقول: إنها مباحة؛ لأن عمل الناس عليها.

ولكن هذا لا يقوله أحد، فيقال: المراد بعمل الناس أي عمل المساقين والمزارعين من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصل المسألة هي معاملة أهل خيبر، وبقيت المعاملة هذه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه

(1)

؛ لأنهم فعلوا ما يقتضي إجلاءهم فأجلاهم، لكن نعم يستأنس بعمل الناس إذا كان يعيش بينهم علماء أقوياء في الله، لو كان الأمر منكراً لأنكروه، وإن كان لا يعيش بينهم إلا علماء أمة فهؤلاء لا حجة بعملهم، ولتعلم أن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

الأول: علماء دولة.

الثاني: علماء أمة.

الثالث: علماء ملة.

علماء الدولة هم الذين ينظرون ماذا تريد الدولة فيلتمسون له أدلة متشابهة، فيتبعون ما تشابه من الأدلة إرضاءً للدولة، ولهم أمثلة كثيرة في غابر الزمان وحديثه، فظهرت الاشتراكية في الدول العربية، وتأميم أموال الناس الخاصة، وظلم الناس، فحاول

(1)

أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله (2338)؛ ومسلم في البيوع/ باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع (1551)(6)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 463

علماء الدولة أن يجدوا دليلاً ليرضوا الدولة؛ لأن العامة لا يرضون أن تؤخذ أموالهم، ويقال لهم: أمموها، فأتوا بمتشابهات، يتعسفون في رد النصوص ويلوون أعناقها من أجل أن توافق رأي الدولة، واستدلوا بالنصوص على وجه عجيب قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الناس شركاء في ثلاث»

(1)

، فأثبت المشاركة، يعني الاشتراكية، وقالوا ـ أيضاً ـ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«من كان له أرض فليَزْرَعْها أو ليُزْرِعْها أخاه»

(2)

، وأنت عندك فدادين كثيرة وأرض واسعة، لا تستطيع زراعتها، فنأخذها منك ونعطيها للآخرين، وقالوا: إن الله ـ تعالى ـ قال في القرآن: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28]، أي: ما رزقناكم فأنتم والعبيد فيه سواء، وإذا كان الحر مع العبد سواء فالحر مع الحر من باب أولى، وهلم جرّاً، فهؤلاء نسميهم علماء دولة، ولكن والله لا تغنيهم الدولة شيئاً، سيكون لهم ـ إن لم يغفر لهم ـ موقف من يقولون:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيرًا *} [الأحزاب].

علماء الأمة ليس لهم دخل في الدولة، لكن ينظرون ما

(1)

سبق تخريجه ص (10).

(2)

أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر (2340)، ومسلم في البيوع/ باب كراء الأرض (1536)(88) ـ واللفظ له ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 464

يصلح للأمة والعامة، ويقولون: العامة مثل الذر إن عارضناهم أكلونا، لكن نرى ماذا يكون أصلح.

فيأتون العالم ويقولون: البنوك هذه مفيدة فائدة عظيمة، ترفع الاقتصاد وينتفع الفقير، ويأخذ أموالاً يعمل ويحرث بها، والبنك ـ أيضاً ـ يستفيد من الربا فيقولون للعالم: رخص لنا ـ جزاك الله خيراً ـ، فقال العالم: دعوني أفكر، فجاءوا إليه بعد ما شاء الله من الزمن قال: وجدت أن هذا لا بأس به؛ لأن الشرع مبني على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهذه مصلحة كما قلتم، ففيه مصلحة لهذا ومصلحة لهذا، ولم يلاحظ الضرر الديني، فهؤلاء نسميهم علماء أمة، يعني الذين ينظرون ماذا تريد الأمة ويمشون عليه.

وعلماء الملة هم الذين لا يريدون إلا أن يكون دين الله هو الأعلى وكلمته هي العليا، ولا يبالون بدولة ولا بعوام، فهؤلاء إذا وجدوا في الأرض وشاعت معاملة بين الناس ولم ينكروها، حينئذٍ نقول: إن عمل الناس في ظل هؤلاء العلماء يعتبر حجة، وإن كان ليس كحجة النصوص لكنه يطمئن الإنسان لوجود علماء ربانيين، لا ينكرون هذا، فهذا مما يستأنس به الإنسان، ويقول: إن العمل مع وجود هؤلاء العلماء يعتبر معضداً لما أذهب إليه.

وكلمة: «وعليه عمل الناس» توجد كثيراً في كتاب «الإنصاف» و «التنقيح» للمرداوي رحمه الله تعالى.

ص: 465