المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرسالة الثامنة رسالة في الشفاعة - الشفاعة - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الرسالة الثامنة

رسالة في الشفاعة

ص: 295

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شفع الوعد بالوعيد، والترغيب بالترهيب، والتبشير بالإنذار، وخلق الجنة بخلق النار، ونهى عن الأمن من مكره، كما نهى عن اليأس من رحمته؛ ليكفَّ عباده عن العلو والتقصير، ويقيمهم على الصراط المستقيم، قال عزَّ من قائل:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهدت بذلك غرائز الفِطَر، وشفعها صحيح النَّظَر، وعزَّزها الوحي المُسْتَطَر، ولم يَرْتب فيها إلَّا من عاند وأصرَّ.

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وخصَّه بالشفاعة الكبرى في المقام المحمود، والوسيلة العليا في اليوم المشهود. صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى إخوانه النبيين والمرسلين، وآله الغُرِّ الميامين، وأصحابه الهداة المهديين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعد، فإنَّ صراط الهدى كصراط الجزاء، ذاك صراط على متن النار، لها عذابٌ ووبال، وهذا على متن الباطل، بين غضبٍ وضلال، ولا يمين لهذا ولا ذاك، بل كلتا الجهتين شمال.

فقلَّ قضيَّة من قضايا الحق إلَّا وقد شرَّق عنها قومٌ وغرَّب آخرون، ومن ذلك الشفاعة عند الله عز وجل، غَلَت فيها أُممٌ، فعبدوا من طمعوا أن يشفع

ص: 297

لهم، قال الله عزَّو جلَّ:[{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]

(1)

].

وقصَّر المعتزلة من المسلمين، نُقِل عنهم أنَّهم لا يثبتون شفاعةً في الأخرى، إلَّا شفاعة النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لفصل القضاء.

وتوسّع المتأخّرون من أهل السنَّة، فأثبتوا أنواعًا من الشفاعة، و [أجملوا فيها]، ووصل الأمر إلى القُصَّاص والمتصوّفة والمدّاحين المغرمين

(2)

بمدح النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإطراء المشهورين بالولاية من أمَّته، فبلغوا في ذلك كلَّ مبلغ.

قال بعضهم: قد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ولن يرضى صلى الله عليه وآله وسلم أن يعذَّب أحدٌ من أمَّته

(3)

.

(1)

بيَّض المؤلِّف للآية، فكتبتها.

(2)

في الأصل: "والمداحون المغرمون".

(3)

نُسِب إلى الشِّبلي كما في "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 422) قوله: "والله لا رضي محمدٌ صلى الله عليه وسلم وفي النار من أمَّته أحدٌ! ثم قال: إنَّ محمدًا يشفع في أمَّته وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد"!

وقد رُوِيَ مسندًا موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما كما في "الدُّر المنثور للسيوطي" تفسير سورة الضحى، أنَّه قال في تفسير الآية:"لا يرضى محمدٌ وأحدٌ من أُمَّته في النار". وعدم البقاء في النار أخص من نفي التعذيب ألبتة، كما هو نقل المؤلِّف عنهم.

ص: 298

وعسى أن يقول آخر: قد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فلن يرضى صلى الله عليه وآله وسلم أن يعذّب أحدٌ من العالمين.

وجماعةٌ من شيوخ المتصوّفة يقول أحدهم: ليس على مريدي حسابٌ ولا عقابٌ، فأتاح لهم الكبائر وترك الفرائض، وبعضهم يصرِّح بذلك، فيقول لمريديه: لا تعذِّبوا أنفسكم، اعملوا ما تهواه أنفسكم، وأنا لكم واجب القصاص

(1)

.

والمشايخ إلى العامة أشدهم ترخيصا لهم، والمنتسبون إلى العلم منهم مَن حظُّه من العلم مطالعة كتب الفضائل والمناقب والتصوّف، وهؤلاء هم القُصَّاص والمشايخ الذين شكونا منهم.

ومنهم من قرأ وطالع كتب المتأخرين في الفقه، ثم إمَّا يدمج نفسه في القسم المتقدّم، لما يشاهده من رواجهم على الناس، وإمَّا أن يقتصر على تعليم مختصرات الفقه والفتوى، ويقف عند ذلك، فإن خالف أهل القسم الأول ففيما أفرط فيه غلاتهم جدًّا فقط.

ومنهم من يحاذر ذلك، فيقرأ بعض التفاسير وبعض كتب الحديث، ويشتغل بإقرائها ويقتصر على ذلك، وإذا عرَض له ما ينافي ما شاع بين الناس في الشفاعة خاف على نفسه من الكفر والضلال، فقطع التفكّر وصرف نفسه

(1)

نقل ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين"(ص 289)، وتنظر نقول أخرى في "التصوف، المنشأ والمصدر" لإحسان إلهي ظهير (ص 262) وما بعدها.

ص: 299

عن التدبّر.

ومنهم من طال باعه واتّسع اطّلاعه، ولكنّه أخلد إلى ما شاع بين الناس؛ لأنَّه قد رسخ في نفسه قبل اتّساعه، ولأنَّه يرى أنَّ خلافه إن لم يكن خرقًا للإجماع فهو خلاف للمشهور الذي عليه الجمهور، ويخشى أن يكون خلافه لذلك هلاكًا في دينه ودنياه.

أمَّا في دينه فلخشية أن يكون الخلاف انتقاصًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأولياء أمَّته.

وأمَّا في دنياه فلِعِلمه أنَّه إن أظهر خلاف ما شاع ضلَّلوه وكفَّروه وآذوه، وربَّما قتلوه، وأيسر ما يناله أن يصير مبغوضًا ممقوتًا، يعانده الناس في دنياه، فتضيق عليه المسالك.

فأخذ يتأوَّل ويتمحّل ويتكلَّف الطعن في أدلَّة الحِسِّ الصحيحة وتلفيق الشبهات لموافقة ما يخالفها.

ومنهم مَن بان له الحق واتَّضح له السبيل، ولكن لم تطعه نفسه لمعارضة الناس أحوج ما يكون إليهم، والتعرّض لمقتهم وبغضهم وعداوتهم وأذاهم، فطوى على علمه كشحا وضرب عن المصارحة صفحًا، إلَّا إشارات يُسِرُّ بها إلى من يأنس به من تلامذته وأصحابه، ويلوّح بها في بعض كتبه.

وبالجملة فإنَّ الغلو المفرط، كالقول بأنَّه لا يعذر من هذه الأمَّة أحدٌ، وقول بعض المشايخ برفع التكليف عن مريديه = تجد بحمد الله كثيرًا من أهل العلم قد صرَّحوا بإبطاله والتشنيع عليه وعلى قائله، وأشاروا ــ وربَّما

ص: 300

صرَّح بعضهم ــ بردِّ ما دونه، إلَّا أني لا أعلم من صمد لتحقيق مسألة الشفاعة كلها، واجتثاث شجرة الخطأ فيها من أصلها.

وقد جمعتُ رسالةً مطوَّلةً في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعم من أن تكون لله عز وجل أو لغيره، فوجدت عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة، بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدّد الشفاعة وما يتعلَّق بها. ولهذا لا تكاد تجد موضعًا في القرآن تقام فيه الحُجَّة على المشركين إلَّا وفيه التعرُّض للشفاعة، فرأيت أن أفرد مسألة الشفاعة برسالة، تحيط بفروعها، متضرِّعًا إلى مقلّب القلوب أن يثبِّت قلبي على دينه، ويهديني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه.

ص: 301

مقدِّمة

الشفاعة في اللُّغة مأخوذة من الشَّفع، وهو مقابل الوتر، ويقال (شفَعَه) أي: انضمَّ إليه، فصار معه شفعًا.

قال الراغب: "والشفاعة الانضمام إلى آخر، ناصًرا له وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى"

(1)

.

أقول: وكأنَّ (شَفَع) ضُمِّن معنى سأل ورغب، فقولهم:(شفعتُ لزيدٍ إلى فلان) كأنَّ تقديره: شفعتُ زيدًا سائلًا له قضاء حاجةٍ راغبًا إلى فلان، وقولهم:(شفعت إلى زيدٍ في فلان) كأنَّ أصله: شفعتُ فلانًا راغبًا إلى زيدٍ في شأنه.

إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كلَّم بريرة بعد أن أعتقتها زوجته عائشة أن تقيم مع زوجها، فقالت: أتأمرني؟ قال: "لا، إنَّما أنا شافعٌ". قالت: لا حاجة لي فيه

(2)

! فلم يلمها النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم في ردِّها شفاعته.

ويعلم من هذا أنَّ الشافع ينزل نفسه منزلة من يرغب في حاجةٍ لنفسه، إن شاء المشفوع إليه قبل، مكرمًا له، وإن شاء أبى. وأنَّه ليس من شأن الشافع أن يغضب على المشفوع إليه إذا أبى، ولا يتكدَّر منه، وإلَّا لم يكن شافعًا بل آمرًا.

وعُلِم منه أيضًا أنَّه ليس من شرط الشفاعة أن تكون من أدنى لأعلى،

(1)

"مفردات القرآن"(457).

(2)

أخرجه البخاري (5283) وغيرها، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 302

ولكن من شرطها أن لا يكون الشافع مالكًا للحاجة، فلا يتصوَّر في حقِّ الله تبارك وتعالى أن يشفع إلى أحدٍ؛ لأنَّه مالك الملك كله، وقد جاء في الحديث: ["فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبَّار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج أقوامًا قد امتُحِشوا، فيُلقَون فى نهرٍ بأفواه الجنة، يُقال له: ماء الحياة، فينبتون فى حافتيه كما تنبت الحِبَّة فى حميل السيل .. "

(1)

]

(2)

.

فصلٌ

والشفاعة عند الله عز وجل أقسام:

الأول: شفاعة إنسان في هذه الحياة الدنيويَّة لحيٍّ أو ميتٍ، والغالب في هذه تسميتها (دعاء)، وفيها مباحث:

الأول: في حكم طلب الدعاء: اتفقت الأمة على جواز طلب الدعاء ممَّن هو حيٌّ هذه الحياة الدنيا طلبًا عاديًا، كأن يخاطب السائل المسئول وهو حاضرٌ عنده، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرسل إليه رسولًا، أو نحو ذلك.

فأمَّا أن يهتف به وهو غائبٌ، بحيث يعلم أنَّه لا يسمع كلامه بحسب العادة فلا، وقد أوضحت حكم ذلك في "رسالة العبادة".

وذكر بعض أهل العلم

(3)

أنَّ طلب الدعاء لا يخلو من كراهية، واستدلَّ

(1)

أخرجه البخاري (7439) وغيره، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

بيَّض المؤلّف للحديث فأتممته.

(3)

لعلّه ابن تيمية، ينظر قوله في "مجموع الفتاوى"(1/ 182)، وغيرها.

ص: 303

على ذلك بحديث "الصَّحيحين"

(1)

، في الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب:"هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون".

وبأنَّ كبار الصحابة لم يكونوا يسألون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء لأنفسهم، بل كانوا يجتهدون في أعمال الخير التي [رضاها] الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأنَّ الناس بعد النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا يسألون كبار الصحابة الدعاء إلَّا ما ندر.

وأنَّ رجلًا كتب إلى عمر [ .........................................

(2)

]

والذي تلخَّص لي أنَّ الأصل الجواز، وإنَّما يكره أو يكون خلاف الأولى لعارضٍ.

فمن ذلك: أن تكون الحاجة دنيويَّة غير ضرورية، وهي للطالب نفسه، فالمؤمن يرجو من الله عز وجل أن يختار له ما يعلمه خيرًا له، ودعاؤه لنفسه لا ينافي هذا؛ لأنَّ الدعاء نفسه عبادة، مع أنَّ الله عز وجل قد وعد بالإجابة بقوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

وفسَّر النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة بقوله: ["ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخرها له فى الآخرة وإما أن يصرف عنه من

(1)

البخاري (5705) ومسلم (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.

(2)

بيَّض له المؤلِّف، ولم يتبيَّن لي مراده!

ص: 304

السوء مثلها". قالوا: إذًا نكثر؟ قال: "الله أكثر"

(1)

]

(2)

.

فالمؤمن في دعائه لنفسه مأجورٌ على الدعاء، موعودٌ بما يختاره الله عز وجل له من إعطائه عين ما طلبَه، أوإعطائه ما هو خيرٌ له من مطلوبه.

فطلب الدعاء يشير بأنَّ الطالب حريصٌ على قضاء حاجته، وإن كان الله عز وجل يعلم أنَّه شرٌّ له، وقد كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يرشد مَن يطلب منه الدعاء، إلى أنَّ الصبر خيرٌ له.

فمن ذلك: [حديث المرأة السوداء التي أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنِّي أصرع، وإنِّي أتكشَّف فادع الله لي، فقال:"إن شئتِ صَبَرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إنِّي أتكشَّف، فادع الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها

(3)

.

ومنه: حديث خباب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله

(1)

بيَّض له المؤلِّف، فذكرته.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 18)، والترمذي (3573)، والحاكم (1/ 670)، وغيرهم، من أحاديث عدّةٍ، جابر وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (6/ 441):"بأسانيد جيّدة"، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (4483)، وفي "صحيح الأدب المفرد"(264).

(3)

أخرجه البخاري (5652) ومسلم (2576) وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 305

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟

فقال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلَّا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"

(1)

]

(2)

.

وقد يُشعِر طلب الدعاء بأنَّ الطالب غير واثق بوعد الله عز وجل له بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

فإن كان عدم وثوقه لعلمه بأنَّه مُصِرٌّ على الكبائر، كما هي حال أكثر أمراء هذا الزمان فالأمر أشد؛ فإنَّ الله عز وجل يبتليهم ليرجعهم إلى التوبة والاستغفار والطاعة، فالابتلاء خيرٌ لهم قطعًا، وهم يحاولون التخلُّص من الابتلاء مع الإصرار على الفجور!

وعلى من طلب منه هؤلاء الدعاء لحوائجهم الدنيوية أن يمتنع ويقول: ادعوا لأنفسكم. فإن قالوا: إنَّنا عصاةٌ؟ قال لهم: توبوا وأنيبوا واستغفروا وادعوا لأنفسكم، وشرح لهم هذا المعنى.

وأكثر الذين يُطلَب منهم الدعاء هذا الزمان لا يعرِّجون على هذا، بل

(1)

بيَّض المؤلِّف مقدار صفحة، فذكرت هذين الحديثين.

(2)

أخرجه البخاري (3612) وغيره.

ص: 306

يحرصون على أن يطلب منهم الدعاء؛ ليحصل لهم من الطالبين شيءٌ من الدنيا، بل إنَّ بعضهم يقول: خيرٌ لنا أن يبقى الأمراء والأغنياء فجّارًا؛ لأنَّهم إذا صلحوا استغنوا بالدعاء لأنفسهم، فلم يحصل لنا منهم شيءٌ!

وقد رأينا كثيرًا منهم يجيئه الغني المجاهر بالفجور، يلتمس منه الدعاء فلا يعظه ولا ينصحه، بل يعظِّمه ويكرمه ويفهمه أنَّك ما عليك إلَّا أن تعطيني وتقضي حوائجي وأنا أتكفَّل [لك]

(1)

بحوائجك عند الله تعالى كلها! فحال الفريقين كما قال الله عز وجل: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

فليعلم الأمراء والأغنياء أنَّ طلبهم الدعاء من أمثال هؤلاء شرٌّ لهم في دينهم ودنياهم، وأنَّها إن قُضِيَت لهم حاجة عقب دعاء هؤلاء، فهي وبالٌ عليهم، والله المستعان. فأمَّا من يطلب الدعاء لحاجةٍ ضروريَّة فلا بأس به، كطلب السوداء الدعاء بأن لا تنكشف، ولذلك طلب الدعاء لغيره، ولو لولده.

وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء لأولادهم، وشكَت أسماء بنت عُمَيس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ أطفالها أبناء جعفر بن أبي طالب تسرع إليهم العين، فأذن لها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تسترقي لهم

(2)

.

وكذلك إذا كانت الحاجة عامَّة، كسؤال الصحابة النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم

(3)

. وغير ذلك.

(1)

في الأصل "له".

(2)

أخرجه مسلم (2198) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (1015) ومسلم (897) وغيرهما، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 307

ومن العوارض أن يكون في طلب الدعاء مشقة على المطلوب منه، أو شبه إساءة الظن به؛ ولهذا لم يكثر من أكابر الصحابة طلب الاستغفار من النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، كرهوا أن يشقُّوا عليه، وعلموا أنَّه يستغفر لهم كما أمره الله عز وجل بقوله:[{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقوله عز وجل:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]

(1)

].

وقد وقع من بعضهم طلب الاستغفار لتقصيرٍ خاص، قال عمر رضي الله عنه: [ .. يا رسول الله ادْعُ الله فليوسّع على أمتك؛ فإنَّ فارسًا والروم قد وسَّع عليهم، وأُعْطُوا الدنيا وهم لا يعبدون الله! فجلس النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وكان متكئًا ــ فقال:"أَوَفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! إنَّ أولئك قومٌ عجَّلوا طيِّباتهم فى الحياة الدنيا"، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي ..

(2)

]

(3)

.

ومن العوارض أن يخشى على المطلوب منه أن يداخله العجب، فيرى أنَّ الناس إنَّما يطلبون منه الاستغفار لعلمهم بصلاحه.

أو يخشى على الطالب أن يكون غاليًا في الاعتقاد في المطلوب منه، أو أن يقصّر في عمل الخير اتكالًا على استغفار فلان له.

(1)

بيَّض المؤلِّف مقدار هاتين الآيتين، فكتبتهما.

(2)

بيَّض المؤلِّف مقدار هذا الحديث، فذكرته.

(3)

أخرجه البخاري (2468) وغيره، في قصَّة ما أشيع من تطليقه صلى الله عليه وسلم نساءه.

ص: 308

[ ..................................................................

(1)

]

وقد تُفقَد العوارض المقتضية للكراهة، ويقوم ما يفيد استحباب الطلب، كما يروى أنَّ عمر لمَّا جاء يودِّع النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ليذهب إلى مكَّة للوفاء بما كان نذره في الجاهلية، من الاعتكاف عند البيت قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك"

(2)

.

كان ذلك من النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم تطييبًا لنفس عمر، وبيانا لأنَّ في اعتكافه فضلًا وأجرًا يُرجَى معه استجابة الدعاء، ليزول بذلك ما قد يخطر في نفسه من توهّم أنَّ اعتكافه لمَّا كان وفاءً بنذرٍ نذَرَه في الجاهليَّة = يمكن أن لا يكون له فيه أجر، وفوق ذلك ففيه إرشاد له فيما يجب عليه؛ فإنَّ الله عز وجل [أمر]

(3)

بالدعاء لنبيِّه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

(1)

بيَّض المؤلِّف هنا مقدار صفحة.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 29)، وأبو داود (1498)، والترمذي (3562)، وابن ماجه (2894)، وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه بنحوه. قال الترمذي:"حسن صحيح".

ومدار إسناده على عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطَّاب، وقد ضعَّفه الأئمَّة. تنظر ترجمته في:"تهذيب الكمال" للمزِّي (12/ 500)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (2/ 353). وينظر بسط تخريجه في:"ضعيف سنن أبي داود، الكبير" للألباني (264)، و"النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة" للحويني (130).

(3)

زيادةٌ يقتضيها السياق.

ص: 309

ومن هذا ما يُروَى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم بشَّر عمر وغيره بأُوَيس القرني، وأمرهم إذا لقوه أن يأمروه أن يستغفر لهم

(1)

.

ففي ذلك إرشاد لأُوَيس إلى ما أمر الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وفيه تنبيه للناس على فضل أُوَيس؛ فإنَّهم كانوا يستحقرونه ويؤذونه ويسخرون منه.

[ ..................................................................

(2)

]

(1)

أخرجه مسلم (2542) وغيره، من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

بيَّض هنا المؤلِّف نحو سطرين.

ص: 310

المبحث الثاني: فيما ينبغي للمطلوب منه الدعاء

ينبغي للمطلوب منه الدعاء أمور:

الأول: إذا خشي على نفسه الإعجاب أو خشي على الطالب أو على غيره أن يغلوا في الاعتقاد فيه، أو يتَّكلوا على دعائه، ويقصِّروا في العمل= كان عليه أن لا يدعو له، بل يرشده إلى أن يتَّقي الله ويدعو لنفسه، فإن اقتضى الحال أن يزجره زجره، كما يفيده ما تقدَّم من الآثار.

الثاني: إذا لم يخش مفسدةً، وكانت الحاجة أُخرويَّة أرشد الطالب إلى أن يجتهد في الخير، ويعلِّمه أنَّ الدعاء إنَّما يُرجَى أن يكون مساعدًا له، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض من سأله الدعاء في منزلةٍ أُخرويَّة:"أعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود"

(1)

.

وإن كانت دنيويَّة للطالب نفسه أرشده إلى أنَّ الصبر خير له، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يصنع.

الثالث: إذا أظهر ولده أو تلميذه ــ الذي ظهر عقوقه ــ التوبة وطلب منه الدعاء، وظهر صدق توبته، أو كان في إظهار الرضا عنه مصلحة تخفيف شرٍّ ونحوه = دعا له، كالحال في استغفار النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم

(1)

أخرجه مسلم (489) وغيره، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوَضُوئه وحاجته، فقال لي: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوَ غير ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال:"فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود".

ص: 311

وغيرهم.

فإذا علم أنَّ في ترك المبادرة بالدعاء مصلحة امتنع منه، كما امتنع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاستغفار للثلاثة الذين خُلِّفوا

(1)

.

الرابع: عليه أن يتحرَّز من بيع الدعاء، ولا يتمُّ هذا إلَّا بالاستغناء عن الناس.

الخامس: أن يبدأ فينظر في حاله وحال الطالب وحال حاجته، ويزنها بالميزان الشرعي، حتى يتهيّأ له أن يقدّم رضا الله عز وجل، ولا يكون في الدعاء ما يخالفه.

السادس:

(2)

.

(1)

قصَّة الثلاثة الذين خُلِّفوا أخرجها بطولها البخاري (4418) ومسلم (2769) وغيرهما، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

(2)

هنا ينتهي آخر ما وجد من هذه الرسالة.

ص: 312