الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّفْعَةُ بَيِنَ الجَمْعِ العُثْمَانِيِّ
وَالأَحْرُفِ السَّبْعَةِ
(بحث محكم)
كَتَبَهُ
الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِهِ البَارِيِ
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُ
وَغَفَرَ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُوْمِنَاتِ
عَمِيِدُ كُلْيَّةِ أُصُوِلِ الدِّيِنِ والدِرَاسَاتِ الإِسْلَامِيةِ بِجَامِعَةِ خَاتَمِ المُرْسَلِيِنَ العَالَمِيَّةِ
وَأُسْتَاذُ التَّفْسِيرِ وَعُلُوُمِ القُرَآنِ لِلدِّرَاسَاتِ الْعُلِيَا
بِالجَامِعَةِ الإِسْلامِيَّةِ والمَعْهَدِ العَاليِ للأَئِمَّةِ والخُطَبَاءِ- بـ " مِنِيسُوتَا "
وَالرَّئِيسُ العَامُ لِمَرْكَزِ تَأْصِيِل عُلُومِ التَنْزِيِلِ لِلبُحُوثِ العِلْمِيِةِ وَالدِّرَاسَاتِ القُرّآنِيِةِ
-1442 هـ -
من إصدارات
تأصيل
مركز تأصيل علوم التنزيل
للبحوث العلمية والدراسات القرآنية
https://taaselcenter.com
+966503722153
موسوعة تأصيل علوم التنزيل
(8)
الشُّفْعَةُ بَيِنَ الجَمْعِ العُثْمَانِيِّ
وَالأَحْرُفِ السَّبْعَةِ
(بحث محكم)
كَتَبَهُ
الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِهِ البَارِيِ
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُ
وَغَفَرَ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُوْمِنَاتِ
عَمِيِدُ كُلْيَّةِ أُصُوِلِ الدِّيِنِ والدِرَاسَاتِ الإِسْلَامِيةِ بِجَامِعَةِ خَاتَمِ المُرْسَلِيِنَ العَالَمِيَّةِ
وَأُسْتَاذُ التَّفْسِيرِ وَعُلُوُمِ القُرَآنِ لِلدِّرَاسَاتِ الْعُلِيَا
بِالجَامِعَةِ الإِسْلامِيَّةِ والمَعْهَدِ العَاليِ للأَئِمَّةِ والخُطَبَاءِ- بـ " مِنِيسُوتَا "
وَالرَّئِيسُ العَامُ لِمَرْكَزِ تَأْصِيِل عُلُومِ التَنْزِيِلِ لِلبُحُوثِ العِلْمِيِةِ وَالدِّرَاسَاتِ القُرّآنِيِةِ
-1442 هـ -
بسم الله الرحمن الرحيم
مجلة البحوث والدراسات الشرعية
إصدار علمي متخصص جامعي محكم
إلى من يهمه الأمر
يرجى التكرم بالعلم بأن البحث المقدم من:
الدكتور / عرفة بن طنطاوي
عميد كلية أصول الدين والدراسات الإسلامية بجامعة خاتم المرسلين العالمية وأستاذ التفسير وعلوم القرآن للدراسات العليا بالجامعة الإسلامية والمعهد العالي للأئمة والخطباء بمنيسوتا والرئيس العام لمركز تأصيل علوم التنزيل للبحوث العلمية والدراسات القرآنية وعنوانه "الشفعة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة".
قد ورد إلى هيئة الإصدار وخضع للتحكيم العلمي المتخصص وأجيز للنشر وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مؤسس الإصدار ورئيس التحرير
أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس
رقم إيداع المجلة بدار الكتب: (18620/ 2012) - الترقيم الدولي الموحد لها: (ISSN. 2090 - 9993)
رابط موقع المجلة على الانترنت: journalofshareiarchandstudies.com
رابط معامل التأثير العربي للمجلة: journal impact factors-php.mht
جمهورية مصر العربية، القاهرة، مساكن مدينة نصر، رمز بريدي:11371. ص. ب: 8131
دِيْبَاجَةُ الكِتَابِ
الحمد لله الذي بدأ بحمد ذاتِه العليةِ قبل أن يَحْمَده حامدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له كل المحامدِ، الأحد الصّمَد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أهل طاعته كلهم له عابدٌ، وهم له قانتون، ما بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ، حيّ لا يموت؛ قيوم لا ينام، ذو الجلال والإكرام، والهبات الكبيرة العظام؛ تكلم بالقرآن، خلق الإنسانَ، علمه النطق والإفصاح والبيانَ، أنعم على عباده بالهدى والإيمان، فأرسل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم لجميع الإنس والجان أجمعين، وأيده بالحجة والبرهان المتجددين مع تجدد الْمَلَوينِ، وتعاقب الجديدينِ
(1)
؛ أرسله بكتاب عربي واضح مبين، وجعله فارِقًا بين التوحيد والشرك، وبين الهدى والضلال، والظلمات والنور، والشك واليقين؛ أنزله في أوجزِ لفظٍ وأعجزَ أسلوبٍ، فأعيت بلاغَتُه البلغاءَ فأخرستهم مشاكلتُه، وأعجزت فصاحتُه الفصحاءَ فأعجزتهم معارضَتُه، وأبكمت حكمتُه الحكماءَ فأعْيَتهم مناقضتُه، وأذهلت روعتُه الخطباءَ فأعجزتهم محاكاتُه ومخاطبتُه، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظَهِيرًا، كما قال ربنا في ذلك قولًا مبينًا:(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88).
جعل أمثاله لمن عَقِلها وتدبّرها عِبَرًا، وأوامره لمن اهتدى بها واستبصرها هُدًى ورشدًا؛ بَيَّنَ فيه ما أوجبه على عباده من العبادات والأحكامِ، وفرّق فيه بين ما اشتبه عليهم أمرُهُ، كما بَيَّنَ فيه معالم الحلال والحرامِ، وثنى فيه من المواعِظ والعبر والقصص ما تتعظ وتتذكر به سائر الأنامِ، ولينتفع به من شاء الله من عباده على مر العصور والأزمان والأيامِ، وضرب فيه الأمثال، وقصّ فيه غيبَ أخبارِ من سكن هذه الدارَ لأخذ الحَيْطةِ والاعتبارِ والاتعاظِ والادكارِ؛ فقال ربنا الواحدُ القهارُ:(مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)(الأنعام: من آية: 88).
سهل ألفاظه لعباده وخاطبهم به ليعقلوه، وبَيَّنَ لهم فيه مقاصدَهُ ومراميَهُ ليتعلموه،
فَقرأةُ كتابه هم حملتُهُ وهم حَفَظَةُ علمهِ المخزونِ، وقد جعله في كتاب مكنونٍ، لا يمسه إلا المطهرون المقربون. وجعل ورثةَ أنبيائه هم خلفاءه وأمناءه، وهم أهله وخاصّتُه وخِيرتُه وأصفياؤه وأولياؤه؛ كما قال رسوله صلى الله عليه وسلم: إن لِلَّهِ أهلِين مِنّا قالوا: يا رسول الله، مَن هم؟ قال:» هم أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصّتُه «
(2)
.
(1)
المَلَوَانِ: اللَّيلُ والنهار، أَو طَرَفا النهار، والجديدان أيضًا هما اللَّيلُ والنهار، يُنظر: قاموس المعاني الجامع.
(2)
- أخرجه ابن ماجه أنس بن مالك رضي الله عنه: حديث/ 215، 1/ 78، وأحمد، حديث/ 13566، 2/ 242، والدرامي: حديث/ 3326، 2/ 525، والطيالسي في مسنده: حديث/ 2124، 1/ 283، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2688، 2/ 551.) صحيح (وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 1432.
فَحُقَّ لمَن عَلَّمَهُ اللهُ كتابه أن يكون أولَ من ينتهي عن نواهيه، ويعتبر بعبرهِ وينزجرَ عما ورد فيهِ، ويخشى اللهَ ربَهُ ويتّقيهِ، ويراقبه في خلوته وجلوته ويُعَظِمَهُ ويستحييه. فإنه قد حُمِّل ميراثَ الأنبياءِ، وأصبح ممن يشهد في عرصات أرض المحشر على مخالفي الرسل من سائر أهل الملل الأشقياءِ؛ كما قال رب الأرض والسماء:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة: 143).
ألا وإنّ حجةُ الله قائمةٌ على من عَلِمَهُ فأهملَهُ، وهى أشد منها على من جَهِلَهُ فلم يعه ويفهمَهُ، وكذلك هي أنكى على من أوتي القرآنَ فلم تقرعه زواجره ونواهيه، ولم يرتدع به ويَؤُوبُ إلى ربه فيأويه، ولم يرفع به رأسًا ولم ينتفع به فيهديه؛ وارتكب من الذنوب والمآثم كل قبيحٍ لا يحبه ربّه ولا يرتضيِهِ، ومن الجرائم كل فضوحٍ مما يؤلمه ويؤذيه؛ فأضحى ما حمله من القرآن حجةً عليه، وخَصْمًا له يوم الحساب لديه وبين يديه، كما قال رسول الله الذي هو أرأف وأرحم به من أبويه - صلوات الله وسلامه عليه-:"الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"
(1)
.
فحُقَ لمَن خَصّه الله بعلم كتابه أن يقوم بحقه ويتلوَه حق تلاوته، ويتدبّر حقائق عبارته وآياته؛ ويتفهّم في عجائبه، ويتبيّن من غرائبه؛ وقد بيّن ربنا بقوله في آياته:(كِتَاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَك ليَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ)(ص: 29).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله
-:
" أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؛ فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ، وَعَادَاهُ: كَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ".
(2)
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله
-:
" فَهَذَا جَهله كَانَ خيرًا لَهُ، وأخفَ لعذابه من علمه، فَمَا زَاده الْعلم إِلَّا وبالًا وَعَذَابًا، وَهَذَا لَا مطمع فِي صَلَاحه، فَإِن التائه عَن الطَّرِيق يُرْجَى لَهُ الْعود إليها، إِذا أبصرها، فَإِذا عرفهَا وحاد عَنْهَا عمدًا؛ فَمَتَى ترجى هدايته؟ قَالَ تَعَالَى:
(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(آل عمران: 86) ".
(3)
(1)
-صحيح مسلم، من حديث أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِي رضي الله عنه: رقم: 556 - (ج 1/ ص 140) باب فضل الوضوء.
(2)
- مجموع الفتاوى: (7/ 586).
(3)
مفتاح دار السعادة: (1/ 115).
وفي نحو ذلك يقول ابن رسلان الرَّمْلي الشافعي (ت: 844 هـ) رحمه الله
-:
فعالمٌ بعلمِهِ لم يعمَلَنْ
…
مُعَذَّبٌ من قبلِ عُبَّادِ الوَثَنْ.
وكلُّ من بغير علم يعملُ
…
أعمالُه مَردودَةٌ لا تُقْبَلُ.
وقد قال ربنا قولًا جللًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)(الصف: 2 - 3)
ثم جعل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تفصيلَ ما ورد فيه إجمالٌ، وبيانَ ما ثبت فيه إشكالٌ،
وتحقيقَ ما ورد فيه احتمالٌ؛ وليتحقق له بذلك كمال بلاغه عن ربه، حيث أمره سبحانه بقوله:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(المائدة: 67)
وقد وكلَّ اللهُ تفصيلَ المجملِ إليه، وبيانَ المشْكَلِ عليه، وتحقيقَ المحتملِ فيه إليه، فقال سبحانه وخطابه موجه إليه، صلوات ربي وسلامه عليه:(وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: 44).
جعلنا الله ممن يقوم بحقه خير قيام، فيتدبره ويُحُلُ منه الحلالَ ويحرم الحرامَ، ويقوم بقسطه على الكمالِ والتمامِ، ويوفي بشرطه ابتغاء مرضاة الملك العلامِ، ويهتدي بهداه، ولا يرتضي سواه، ويهتدي لأعلامه الظاهرةِ، ويستمسك بأحكامه القاطعة الباهرةِ، ليجمع اللهُ له به خيرَ الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرةِ.
وقد جعل استنباطَ معانيهِ، والاجتهاد في الوصول إلى مقاصده ومراميِهِ، موكولًا لأهل الفهمِ فيه، فقال سبحانه:(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء: 83)
فهم بذلك عن غيرهم قد تميزوا، وخُصوا بثواب اجتهادهم مرتين إن أصابوا الحقَ وقد تفرسوا، وأعداء الملة منهم بذلك قد تغيظوا، وقد بشرهم بذلك من أمرهم أن يتعلموا ويتمرسوا:"إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
(1)
فكتاب الله أصل والسنة له تفصيل وتبيانٌ، واستنباط أهل العلم له شرح وإيضاح وبيانٌ.
فالحمد لله على كمال الدين وتمام النعمة، والحمد لله على شرعةٍ غراءَ وخيرِ ملةٍ، ونسأله سبحانه حسن العاقبة في الأمور كلها والوفاة على الإسلام والسنة.
(2)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (7352) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه
(2)
- ينُظر: عَرَفة بْنُ طَنْطَاوِيِّ: مقدمة كتابه: (المدخل الموسوعي لدراسة التفسير الموضوعي).
وإنَّ القرآن الكريم هو خاتم الكتب المنزلةِ، وهو أجَلُها وأفضلُها وأعظمُها، وإنْ كانت كلها من عند الله إلا أنَّ القرآنَ جاء ناسِخًا لِهَا كلها ومُهَيمِنًا عليها، فأجلى الله به عن البصائرَ ما غشَّاها من تيهٍ وضلالٍ وعمى، وأخرج الله به البشريةَ من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن جَهالة وضلال الجاهلية إلى شرف الانتماء للإسلام، وقطع الله به دابِرَ القوم الظالمينَ، وقد ضمَّنَه تبارك وتعالى جَميعَ ما يُصلِح حياةَ البشر في معاشها ومعادها، كما صانه سبحانه من التحريف والتبديل والتغيير، وتكفَّل سبحانه بِحِفظه بذاته العلية، فقال تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9)، وهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يدَيْه ولا من خلفه، ولا يعتريه أي نَّقص، ولا يشُوبُه أيُّ خطأ أو خللٍ، وجَلَّ الله أن يكون كلامُهُ كلام بشَرٍ كما زعم الْمُبطِلون، بل هو كلامُ الله تعالى حقيقةً- حرفًا وصوتًا ولفظًا ومعنىً-، كما قال تعالى:(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(يسن: 69)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
" وإنّ القرآنَ كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأيقنوا أنه كلامُ الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلامُ البشر فقد كفر وقد ذَمَّه الله وعَابَهُ وأوعده بسقر حيث قال تعالى: (سأُصلِيه سَقَر) (المدثر: 26)، فلما أوْعَدَ بِسَقَر لمن قال (إنْ هذا إلا قول البشر) (المدثر: 25) عَلِمْنَا وأيْقَنَّا أنَه قولُ خالقِ البَشَر ولا يُشْبِه قولَ البشر".
(1)
فالقرآن الكريم ـ الذي هو كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُهُ ـ غيرُ مخلوقٍ، مُعْجِزٌ في نَظْمِه، لا يُشْبِهُه شيءٌ مِن كلام المربوبينَ، ولا يَقْدِرُ على مِثْلِه أحَدٌ مِن المخلوقين، الذي في مَصاحِفِ المسلمين، لم يَفُتْ منه شيءٌ، ولم يَضِعْ بنسيانِ ناسٍ، ولا ضلالِ صحيفةٍ، ولا موتِ قارئ، ولا كتمانِ كاتمٍ، ولم
يُحرَّفْ منه شيءٌ، ولم يُزَدْ فيه حرفٌ، ولم يُنْقَصْ منه حرفٌ، كُلُّه حقٌّ مِن عندِ الله، ولو كذَّب به أعداءُ الرُّسُلِ
(2)
مِن الكُفَّار والمُشْرِكين والمُلْحِدين ومَن سارَ على نهجِهم مِن الفلاسفة وأهلِ الأهواء".
(3)
فما تقولون في فضل كتابٍ أنقذ الله به أمة من جاهلية جهلاءَ، وضلالة عمياءَ، دأبهم السلبُ والنهبُ، ومعبودهم الأوثانُ والحجارةُ، وديدنهم توارثُ العداواتِ والأحقادِ، لا تعرف من الحقَ رسمًا. نحلتها ما وجدت عليه آباءَها، وما استحسنته أسلافُها، من آراء منحرفةٍ، ونحل مخترعةٍ، وملل مبتدعةٍ، فأنزل الله عليهم هذا الكتابَ فأنقذهم منها به، وانتشلهم به من أوحالها.
(1)
- شرح العقيدة الطحاوية (ص: 79).
(2)
- شُعَب الإيمان للبيهقي (1/ 326).
(3)
- يُنظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العزِّ (333).
ما تقولون في فضلِ كتابِ ختمَ الله به الكتبَ، وأنُزِل على نبي ختم به الأنبياء، وبدين ختمت به الأديانَ.
(1)
ما تقولون في فضل كتاب فُتحت به أمصارٌ، وجثت عنده الركبُ، ونهل من منهله العلماءُ، وشرب من مشربه الأدباءُ، وخشعت لهيمنته الأبصارُ، وذلت له القلوبُ، وقام بتلاوته العابدون، والراكعون، والساجدون.
ذلكم القرآن الكريمُ: كليةُ الشريعةِ، وعمدةُ الملةِ، وينبوعُ الحكمةِ، وآيةُ الرسالةِ، ونورُ الأبصارِ والبصائرِ، فلا طريق إلى الله سواهُ، ولا نجاة بغيرهِ، ولا تمسك بشيء يخالفُهُ".
(2)
أما بعد
ملخص البحث
فهذا بحث لطيفٌ امتن به الربُ العليمُ الخبيرُ اللطيفُ على عبده الضعيفِ الفقيرِ في كل أحواله إليهِ، المستكينِ المتذللِ إليهِ، الظاهرِ ضعفُهُ بين يديهِ، المتوكلِ في جميع أمورهِ وشؤونهِ عليهِ، عامله الله بعفوه ورحمته وفضلهِ، فالخير كلُهُ منه وإليهِ، وقد سماه:"تمامِ الشفعةَ بين الجمعِ العثمانيِ والأحرفِ السبعةِ". ليصبحَ مسماه مطابقًا لما يحتويه بين دفتيهِ.
ولما كان المقصدُ الأولُ من هذا البحث هو "الجمعُ العثمانيُ وما إليه"
(3)
، وكان ذكر الجمع في عهديه الأول والثاني كتقدمةٍ بين يدي المبحث الرئيسِ كمعولٍ عليه، ولكون الجمع في عهوده
الثلاثة مرتبطًا ارتباط الروحِ بالجسدِ لا ينفك بعضُه عن بعضٍ، وذلك ليحصل للباحثِ والناظرِ والمتأملِ الفهمُ الصحيحُ والتصورُ الكاملُ لمراحلِ الجمعِ من بدايةِ نزولِ الوحي إلى وقتِ جمعِ المصحفِ الإمامِ واجتماعِ الأمةِ عليهِ، وانتهاءً ببعث الصحف العثمانية إلى الأمصار، وتلقي أهلِ الأمصارِ لها بالقبولِ والشكرانِ لفعل الخليفة الراشد عثمانِ رضوان الله على سائر الصحب والآل وعليه.
(1)
عبارة "الأديان السماوية" يستعاض عنها بكلمة الشرائع السماوية، وذلك لأن الدين واحد لا يتعدد كما قال ربنا:(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ .. )(آل عمران: من آية: 19). وقال الله تعالى:
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة: 136) .. ووصف الله إبراهيم بأنه (كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (آل عمران: 67). ولعلها سبق قلم من الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى. الباحث.
(2)
-الموافقات للشاطبي (3/ 346).
(3)
سبب تأليف هذا البحث: وإنما يرجع سبب تأليف هذا البحث لعزم الباحث المشاركة بورقة بحثية في إحدى المؤتمرات الدولية تتعلق بموضوع بحثنا هنا تحت مسمى: "الجمع العثماني وما إليه"، وقد جرى القلم بما قدره الله من هذا البحث الماثل بين كريم ناظريكم.
وكان اختيارُ اسمِ تمامِ الشفعةِ الذي فيه معنى ضمِ حصةِ الشريكِ إلى شريكه
(1)
، ليصبحَ ضمُ الجمعِ الأولِ والثاني للجمعِ الثالثِ كالتقدمةِ بين يديهِ، فيشدُ كلُ واحدٍ منهما الآخرَ ويأخذُ بعضديهِ، وبذلك تتجلى صورةُ الجمعِ أمامَ أعينِ الناظرينَ متكاملةً كما تتجلى الشمسُ في وضوحها وضوئها وقتَ ضحاها، وكما يتجلى القمرُ البدرُ في طلعتهِ البهيةِ ليلةَ التمامِ إذا تلاها،
وكما يتجلى النهارُ في وضوحهِ فيجلي الظلمةَ ويكشفُ ما حواها، وكما يتجلى الليلُ بشمولهِ إذا يغشاها، فيظهرُ الجمعُ كأنهُ لؤلؤةٌ مصونةٌ في قصر مشيدٍ، وكأنه ريحانةٌ تهتزُ ليس لها مثال يحتز.
(1)
- الشُّفْعة لغة: الشُّفْعة -بإسكان الفاء- مأخوذة من الشفاعة أو من الشفع؛ فإن الشفيع كان نصيبه منفردًا في ملكه، فالشفعة ضم نصيب شريكه إليه فصار شَفْعًا، أو من الشفاعة؛ لأن الأخذ في الجاهلية كان بها، حيث كان الرجل إذا أراد بيع منزل أتاه الشريك أو الجار يشفع إليه فيما باع فيشفعه. يُنظر: القاموس المحيط، مادة:"شفع"، والإفصاح (2/ 34).
Research Summary
This is a concise research paper، which in reality، is a blessing from Allah upon His weak slave.I've named it "The correct combination between the Uthmaani compilation and the Seven Ahruf. "
Since the first and foremost objective behind this research paper was regarding the Uthmaani compilation، mentioning it at the beginning of the research paper serves as an introduction to the discussion of the compilation of the Quran.Also، all of the different compilations of the Quran are all very much inseparable.All of this so that the one studying will be able to completely and correctly understand the stages of the revelation until the compilation during the time of Uthmaan and the consensus of the Ummah regarding that.Also how copies of that Mushaf were sent to the different cities and their inhabitants being grateful and thankful for this action by the rightly guided caliph Uthmaan، May Allah be please with him and the rest of the companions and the family of the Prophet peace be upon him.
Choosing the name "ash-Shuf'a"، which carries the meaning of compiling/ joining portion which belongs to person with the portion of another، was done to express that the different compilations of the Quran all support one another and are intertwined.And so that the different stages and types of compilations of the Quran become crystal clear to the reader.
أملاه
العبد الضعيف الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
الرياض في: 3/ 1/ 1442 هـ
البريد: [email protected]
واتساب: 00966503722153
خطة البحث
وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من أربعة فصول، وكل فصل يندرج تحته عدد من المباحث، وكل مبحث يندرج تحته عدد من المطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي:
أولًا: أهمية موضوع البحث
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
خامسًا: منهج البحث
سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
سابعًا: مجموع الفهارس:
وخطة البحث تشتمل على أربعة فصول على النحو التالي:
الفصل الأول
جمع القرآن - مفهومه ومعناه
وفيه مبحثان
المبحث الأول: بيان مفهوم ومعنى الجمع
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الجمع في اللغة
المطلب الثاني: مفهوم الجمع في الاصطلاح
المبحث الثاني: حفظ الله تعالى لكتابه، وعناية الأمة بجمعه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور
المطلب الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه في السطور
الفصل الثاني
مراحل جمع القرآن في عهديه الأول والثاني، وبيان مزايا وخصائص كل مرحلة من المرحلتين، وذكر الفرق بينها.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: المرحلة الأولى: الجمع في العهد النبوي
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بواعثه وأسبابه ودواعيه
المطلب الثاني: أدوات الكتابة المستخدمة في هذا الجمع
المطلب الثالث: خصائصه ومزاياه
المبحث الثاني: المرحلة الثانية: الجمع في عهد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول: بواعثه وأسبابه ودواعيه
المطلب الثاني: خصائصه ومزاياه
المطلب الثالث: عرض ودراسة ومناقشة للتفاسير التي رُتِبَت على ترتيب النزول والرد عليها:
المطلب الرابع: بيان شروط جمع أبي بكر-رضي الله عنه والصفة التي تم بها
المطلب الخامس: تاريخ وزمن هذا الجمع وأبرز نتائجه
الفصل الثالث
المرحلة الثالثة من مراحل جمع القرآن الكريم: جمعه وتدوينه في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضى الله عنه-"المصاحف العثمانية"
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: المصحف العثماني
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: التعريف به وبيان بواعث جمعه وأسبابه ودواعيه
المطلب الثاني: صفة جمعه وكيفيته وخطواته وتوقيته وزمنه
المطلب الثالث: أعضاء لجنة هذا الجمع، ودواعي اختيارهم، ومنهج جمعهم
المطلب الرابع: علاقة هذا الجمع بجمع أبي بكر- رضي الله عنه، وبيان الفرق بين الجمعين
المطلب الخامس: أبرز نتائج وفوائد هذا الجمع
المطلب السادس: الكلمات التي اختلف رسمها في المصاحف العثمانية
المبحث الثاني: انفاذ المصاحف العثمانية
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: عدد المصاحف المنسوخة التي كتبها عثمان ووجه بها إلى الأمصار
المطلب الثاني: طريقة عثمان-رضي الله عنه في إنفاذ المصاحف وبعثها إلى الأمصار وتعين القراء.
المطلب الثالث: مواقف الصحابة- رضي الله عنهم من المصاحف العثمانية
المطلب الرابع: الشبهات الواردة حول الجمع العثماني ودحضها
المطلب الخامس: تحريق المصاحف الأخرى غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه، وبيان دواعي ذلك
المبحث الثالث: قضايا مهمة حول المصاحف العثمانية ومصيرها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أهم نتائج جمع هذه المصاحف وفوائد جمعها
المطلب الثاني: وجود هذه المصاحف بين الناس في الزمن الحاضر
المطلب الثالث: ظهور طباعة المصحف العثماني وانتشاره في الآفاق في عصرنا الحاضر
المبحث الرابع: الرسم العثماني
وفيه خمسة مطالب
المطلب الأول: تعريف الرسم العثماني
المطلب الثاني: قواعد الرسم العثماني
المطلب الثالث: تطور الرسم العثماني
المطلب الرابع: الرسم العثماني توقيفي أم اصطلاحي؟
المطلب الخامس: موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية
المبحث الخامس: المرحلة الرابعة لجمع القرآن الكريم:
وهي مرحلة الجمع الصوتي للقرآن الكريم، أي "تسجيله تسجيلًا صوتيًا"
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فكرةُ هذا الجمع وظهور أول تسجيل للقرآن الكريم كاملًا
المطلب الثاني: ضوابط في تسجيل القرآن الكريم
المطلب الثالث: آفات ومعوقات في طريق التسجيل الصوتي للقرآن الكريم في عصرنا الحاضر
الفصل الرابع
الأحرف السبعة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بالأحرف السبعة
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الأحرف في اللغة
المطلب الثاني: مفهوم الأحرف السبعة في الاصطلاح
المطلب الثالث: أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف
المطلب الرابع: الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات
المطلب الخامس: ما المقصود من هذه الأحرف السبعة
المطلب السادس: مصير الأحرف السبعة
المطلب السابع: الفرق بين الأحرف السبعة والقراءات
المبحث الثاني: الجمع العثماني والأحرف السبعة
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان رضي الله عنهما
المطلب الثاني: علاقة الأحرف السبعة بالعرضة الأخيرة
المطلب الثالث: علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب
المطلب الرابع: علاقة الأحرف السبعة برسم القرآن
المطلب الخامس: تلخيص المراد بالأحرف السبعة
المطلب السادس: موقف الرافضة من الأحرف السبعة
منهجية البحث
أولًا: أهمية موضوع البحث
يُعد جمع الخليفة عثمان بن عفان للقرآن الكريم هو الجمع الثاني في عهد الخلفاء الراشدين. عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وعلوم الدين، وكان كل صحابي يُعلم طلابه بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة، فكان أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب، فيقرأون بما لم يسمع أهل العراق، وكان أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيقرأون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا.
(1)
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ):
فنحن نقطع بأن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه، من زيادة كلمة أو أكثر، وإبدال أخرى بأخرى، ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرها، ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيره منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك. ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر.
(2)
فكان ولابد من جمع الأمة على مصحف إمام جامع يجتمع عليه المسلمون في الأقطار.
يقول صاحب "تاريخ القرآن
":
والمراد بالمصحف العثماني مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي أمر بكتابته وجمعه وكانوا يسمونه "المصحف الإمام"، وسبب هذه التسمية "الإمام" هي مقولة عثمان (
…
يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا).
(3)
ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان رضي الله عنه في أي مصر من الأمصار، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة فحسب.
(4)
.
(1)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: (9/ 18). فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (ت: 852 هـ)، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عدد الأجزاء:13.
(2)
منجد المقرئين ومرشد الطالبين، ابن الجزري:(ص: 21). منجد المقرئين ومرشد الطالبين المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1420 هـ -1999 م عدد الأجزاء: 1
(3)
- تاريخ القرآن الكريم - للكردي: (ص: 3)، مطبعة الفتح - جدة. ط 1365. 1 هـ.
(4)
- رسم المصحف - لغانم قدوري، ص 189 - 190 (اللجنة الوطنية - بغداد. ط 1402. 1 هـ). رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية " للدكتور. غانم قدوري الحمد، نشر: اللجنة الوطنية للنشر-العراق، عام: 1402 - 1982، ط 1، مجلد واحد.
مما سبق بيانه تتجلى أهمية موضوع البحث وشدة الحاجة لمباحثته ومدارسته دراسة تأصلية.
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
لم يقف الباحث في حدود بحثه الضيق على بحث متأصل تناول جمع عثمان رضي الله عنه ببحث علمي مستقل، ولكن جاء تناوله ضمن جمع القرآن في مراحله الثلاث في عدد من البحوث العلمية، ومن أبرزها ما يلي:
الدراسة الأولى: جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث
، تأليف: محمد شرعي أبو زيد، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة الكويت، سنة النشر: 1419 هـ.
وصف البحث:
هذا البحث يُبرِز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويُؤكِّد أن نقل القرآن حظِيَ بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرُدُّ على شبهات الطاعِنِين من أعداء الإسلام على نقل القرآن الكريم، ولجودة البحث وحسن صياغته وجودة عرضه وسبك أسلوبه وقوة حجته قد أفاد منه الكثير من الباحثين ونهلوا منه.
الدراسة الثانية: جمع القرآن (دراسة تحليلية لمروياته)
، أصل الكتاب رسالة علمية، بكلية العلوم الإسلامية - جامعة بغداد، أشرف عليها الدكتور عمر محمود حسين السامرائي، ومؤلفها الباحث: أكرم عبد خليفة حمد الدليمي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م، عدد الأجزاء:1.
وصف البحث:
وهو عبارة عن أطروحة علمية، قدمها الباحث لكلية العلوم الإسلامية، ولم يحدد المرحلة التي نال شهادتها بهذا البحث. وقد قسم الباحث هذا البحث إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
وقد تناول بحثه في أربعة فصول، فتناول كتابة القرآن في عهوده الثلاثة، كل مرحلة في فصل مستقل، وقد تابع فيها كثيرًا ممن سبقه، ثم تناول فيه شبهات حول القرآن في الفصل الرابع.
والباحث في هذا البحث تراه ممسكًا من علمين بطرف، هما: علوم القرآن والحديث. لكنه أقرب إلى الحديث ودراسة الأسانيد منه إلى علوم القرآن. وقد جاءت دراسة أسانيده والحكم عليها وتخريجها مختصرة جدًا. وهذا يلحظه المتتبع لتلك المرويات.
وقد بذل الباحث وفقه الله جهد مشكورًا وطرق موضوعًا رائعًا جديرًا بالبحث حاول أعداء الدين التسلل من خلاله للنيل من كتاب الله ومحاولة التشكيك فيه، وقد وفق في عرض شبههم والجواب عنها بأجوبة قريبة يستوعبها كل من يطلع عليها.
(1)
الدراسة الثالثة: جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين
، عبد القيوم بن عبد الغفور السندي، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1421 هـ، عدد المجلدات:1.
وصف البحث:
لقد تناول الباحث الجمع في عهديه الثاني والثالث، ولم يتعرض للجمع في العهد النبوي مع أهميته ومكانته لأن بحثه جاء ضمن محاور ندوة خاصة عقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة بعنوان: عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، ولكون بحثه هو أحد محاور الندوة ..
وقد اشتمل بحثه على ثلاثة مباحث في مجلد واحد في حدود 72 صفحة، وقد تناول في المبحث الأول: جمع أبي بكر رضي الله عنه، ثم تناول في المبحث الثاني: جمع عثمان رضي الله عنه، وأما المبحث الثالث فلم يسمه، وقد تناوله في مطلبين، أما المطلب الأول فتناول فيه الفروق المميزة بين الجمعين، وأما المطلب الثاني فقد تناول فيه الأحرف السبعة ومراعاتها في الجمعين.
وكان على الباحث وجوب مراعاة جوانب هامة والانتباه لها، ومن أبرزها ما يلي:
1 -
التقدمة للجمع في العهد النبوي ولو في التمهيد لأنه الأساس الذي بنيت عليه مراحل الجمع كلها، ولارتباط الجمع في عهديه التاليين به ارتباطًا وثيقًا، غير إنه أشار إليه إشارة سريعة في سطرين فحسب.
2 -
الانتبهاه لما ذهب إليه أبو عمر الداني في"الأرجوزة المنبهة"إلى أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل عام بواحد من الحروف السبعة، حيث يقول:
وكان يعرض على جبريل
…
في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة
…
بواحد من الحروف السبعة
حتى إذا كان بقرب الحين
…
عرضه عليه مرتين
(2)
(1)
يُنظر: تقرير عن كتاب (جمع القرآن: دراسة تحليلية لمروياته) للدكتور أكرم الدليمي، ملتقى أهل التفسير، عبدالله الحربي، بتاريخ: 4/ 11/ 2008 م. بتصرف يسير.
(2)
- الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني، البيت رقم:(70 - 72)، (ص: 87).
الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات، عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي (371 - 444 هـ)، تحقيق: محمد بن مجقان الجزائري، الطبعة الأولى عن دار المغني- الرياض- هـ 1420 - 1999 م، عدد المجلدات:1.
وهذا التفصيل لا يصح وهو محل نظر عند أهل التحقيق وقد قال به غير واحد من أهل العلم غير الداني. وإذا تأملنا في زمن الاستزادة من الأحرف السبعة تحقق لدينا أن ذلك كان في المدينة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة عام أو عامين اثنين، وقصة عمر وهشام بن حكيم في اختلاف قراءتيهما في سورة الفرقان خير شاهد، وذلك لأن هشامًا من مسلمة الفتح، وأن ذلك كان قُبيل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى بعامين على الأكثر، وكذلك ما وقع لأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل. فكيف كان يعرض عليه جبريل في كل عام بحرف من الأحرف السبعة، وهي ولم تحصل الاستزادة منها ولم تنزل بعد! منها بعد- كذلك- وهذا خلف من القول من عَلَمٍ كأبي عمرو الداني، ولكن جل من لا يسهو.
3 -
الانتباه لكثرة النقول في البحث والتي غيبت وجود قلم الباحث في كثير من مواطن البحث.
وهناك بعض ملاحظات أخرى غير جوهرية، وهذه الملحوظات وغيرها لا تقل من قيمة البحث العلمية ولا من جهدالباحث الذي قد أجاد وأفاد فجزاه الله خيرًا.
الدراسة الرابعة: مواقف المستشرقين من جمع القرآن الكريم ورسمه وترتيبه عرض ونقد
، د. أبو بكر كافي، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، نسخة منشورة (بي دي إف)
وصف الكتاب:
في هذا البحث الماتع يستعرض لنا الباحث -أبو بكر كافي- المواقف المشهورة عن كبار المستشرقين من مسألة جمع القرآن الكريم وتدوينه وترتيبه والمراحل التي مر بها، حيث أثار كثير من المستشرقين شبهات ومزاعم باطلة حول هذه المسألة، وفي هذا الكتاب يعرض لنا المؤلف هذه المزاعم والشبهات كما أنه يحلل لنا دوافعها وأهدافها ويتعقبها بالنقد والرد ليدحضها بشكل علمي وموضوعي مبينًا كم الأغاليط الموجودة فيها.
الدراسة الخامسة: جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة
، أ. د. علي بن سليمان العبيد، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1421 هـ، عدد المجلدات:1.
وصف الكتاب:
لقد تناول الباحث الجمع في عهوده الثلاثة باختصار شديد في قرابة: 73 صفحة، وقد تبع من سبقه، وقد جاء بحثه متميزًا بسهولة الأسلوب ووضوح العبارة، فجزى الله الباحث خيرًا، ولكنه لم يضف إلى بحثه جديد بحث.
الدراسة السادسة: جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين
، أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، عدد الصفحات: 42، مصدر الكتاب: موقع الإسلام.
وصف البحث:
هو بحث مختصر للغاية، غير إن صاحبه له رسوخ في تقديم مادة علمية مؤصلة وإن كانت موجزة.
مقارنة بين تلك البحوث وهذا البحث:
وبعقد مقارنة بين تلك البحوث وبين البحث الماثل بين ناظري القارئ الكريم يلاحظ ما يلي:
1 -
كلها مختصرة جدًا، وهذا الاختصار قد لا يقاوم مكانة وقدر وعظم باب الجمع العثماني وذلك لما له من أهمية كبرى ولكثرة ما يتعلق به من مباحث رئيسة تلامس الموضوع من جميع جوانبه.
2 -
لم يتناول أي بحث منها الجمع العثماني من جميع جوانبه في حدود رؤية الباحث
3 -
لم يقف الباحث على بحث مستقل قد تناول الجمع العثماني بشمولية وتحقيق وتدقيق علمي بما فيه تلك الدراسات السابقة.
مما سبق ذكره باقتضاب يتبين ما تفرد به هذا البحث عن غيره وما تميز به، كما يتبين مسيس الحاجة لدراسات وتحقيقات علمية تتناول الجمع العثماني وكل ما يتعلق به من مباحث في بحث علمي واحد - مؤصل - يجمع ويلم شعثه وأصوله كلها.
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
إنما ترجع أسباب ودواعي وبواعث هذا الجمع لأمور كِبَارٍ عِظَامٍ للغاية تهم كل مسلم عمومًا، وكل باحث خصوصًا، كما ترمي تلك البواعث والدواعي لتنبيه المختصين والمهتمين بعلوم القرآن في كثيرًا من المباحث التي تناولها هذا البحث بالتحقيق والتدقيق بأسلوب علمي تأصيلي قد قصد منه تجلية بعض الحقائق العلمية المتعلقة بموضوع البحث، والتي من أبرزها ما يلي:
السبب الأول: جمع كل أطراف موضوع البحث في بحث علمي بين دفتي بحث واحد مستقل
، وهو ما لم يقف عليه الباحث في حدود علمه وبحثه الضيق، ذلك لأن الجمع العثماني لم يقف الباحث على دراسة له مستقلة قد جمعت كل ما يتعلق به من مباحث في بحث علمي مستقل، وكل ما وقف عليه إنما هو مدرج تحت مبحث جمع القرآن في مراحله الثلاث فحسب، ومع ذلك لم يقف أيضًا على شمولية دراسة هذا الجمع في أي منها، فأراد الباحث بهذا لم شمل كل متعلقات هذا المبحث الهام-الجمع العثماني- وكل ما يتعلق به في بحث علمي تأصيلي في مكان واحد، وقد سبق التنبيه على ذلك في ذيل الدراسات السابقة آنفًا.
السبب الثاني: بيان مراحل جمع القرآن في عهديه الأول والثاني
، وبيان مزايا وخصائص كل مرحلة من المرحلتين، وذكر الفرق بينها، وبيان الصفة والحالة التي تم بها الجمع في هاتين المرحلتين فيما يتعلق بموافقة كل منهما للعرضة الأخيرة الموافقة لما هو مثبت في اللوح المحفوظ، وأن الجمع في
المرحلتين كان موافقًا للترتيب المصحفي كما هو حال المصاحف التي في أيدي المسلمين الآن في كل أقطار الدنيا.
السبب الثالث: عرض ودراسة ومناقشة التفاسير التي رُتِبَت ترتيبًا نزوليًا لا ترتيبًا مصحفيًا والتي خالفت بعملها هذا ما استقر عليه الجمع في عهوده الثلاثة
، والتي تُعدُ بذلك العمل المشين مخالفة لعمل جماهير الصحابة رضي الله عنهم وما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا وتلقاه عمومًا المسلمين بالقبول، والرد عليها بدوامغ الأدلة وواضحات البراهين.
السبب الرابع: تناول دراسة الجمع الثالث في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضى الله عنه وتدوينه في-"المصاحف العثمانية" مبينًا التعريف به وصفة جمعه ذاكرًا لأعضاء لجنة الجمع مبينًا دواعي اختيارهم، ثم معرجًا على علاقة هذا الجمع بالجمع البكري ثم مبينًا الفرق بين الجمعين، ثم تناول الكلمات التي اختلف رسمها في المصاحف العثمانية.
السبب الخامس: أراد الباحث التحقيق في ذكر عدد المصاحف المنسوخة التي كتبها عثمان ووجه بها إلى الأمصار
، وطريقته البديعة في بعثه بها إلى الأمصار، ومواقف الصحابة- رضي الله عنهم منها، ثم دحض الشبهات الواردة حولها، والكلام على دواعي تحريق المصاحف الأخرى، ثم
بيان أهم نتائج هذا الجمع، ثم الكلام عن وجود تلك المصاحف وانتشار طباعتها في الزمن الحاضر في مشارق الأرض ومغاربها.
السبب السادس: التحقيق والتدقيق في الكلام عن الرسم العثماني وما يتعلق بتعريفه
، وقواعد رسمه، وتطوره، وهل هو توقيفي أم اصطلاحي.
السبب السابع: بيان موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية
وكشف عوارهم ورد مطاعنهم في صدورهم وسهامهم في نحورهم.
السبب الثامن: مدارسة المرحلة الرابعة لجمع القرآن الكريم والتي هي مرحلة الجمع الصوتي للقرآن الكريم
، أي "تسجيله تسجيلًا صوتيًا"، وبيان فكرة هذا الجمع وظهور أول تسجيل للقرآن الكريم كاملًا، ووضع ضوابط وشروط محكمة لتسجيل القرآن، وذكر الآفات والمعوقات التي تقف سدًا منيعًا في طريق التسجيل الصوتي للقرآن الكريم في عصرنا الحاضر ومعالجتها بوضع بضوابط وحلول شرعية ممكنة ليتحقق بها الهدف المنشود.
السبب التاسع: تناول الأحرف السبعة بالمدارسة والبحث والتحقيق والتدقيق بتعريفها وبيان مفهومها في اللغة والاصطلاح
، وبيان أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف، وبيان علاقتها بالقراءات وذكر الفرق بينهما، والمقصود منها، وذكر مصيرها، وبيان علاقتها بالجمع في عهديه الثاني والثالث وبالعرضة الأخيرة، وعلاقتها كذلك بكل من: لغات العرب ورسم القرآن، وذكر موقف الرافضة منها.
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
إن من أبرز مشكلات البحث ما يلي:
1 -
الجمع بين أطرافه المتشعبة بين دفتي رسالة واحدة جامعة شاملة لكل ما يتعلق بمبحث الجمع العثماني وعلاقته بالأحرف السبعة.
2 -
وجود مباحث هامة متعلقة بموضوع البحث الرئيس - بل هي من عصبه ولبه- تحتاج لتحقيق وتأصيل علمي لإثبات حقائقها الثابتة على الوجه الصحيح خلافًا لما هو منتشر وشائع في مصنفات علوم القرآن قديمًا وحديثًا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أ- شهود زيد بن ثابت رضي الله عنه للعرضة الأخير، وهو محل نظر عند أهل التحقيق والتدقيق، وذلك لضعف الروايات الواردة فيها، أما الثابت بأسانيد ثابتة صحاح فهو: شهود عبد الله بن مسعود لها، وأما شهود زيد لها فمشتهر وذائع ومستفيض - فحسب-، ومع اشتهاره فالباحث لم يقف على إسناد ثابت صحيح يُعول عليه في شهوده للعرضة الأخيرة إلا ما أشيع في مصنفات علوم القرآن وبعض كتب التفسير.
ولذا قال البغوي (ت: 516 هـ) في " شرح السنة
":
يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي.
(1)
فرواها بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
ب- عرض جبريل القرآن كل عام من رمضان على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف من الأحرف السبعة، وقد قال بذلك غير واحد من الأعلام الكبار منهم أبو عمر الداني وقد أشار لذلك في الأرجوزة المنبهة بقوله:
وكان يعرض على جبريل
…
في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة
…
بواحد من الحروف السبعة
حتى إذا كان بقرب الحين
…
عرضه عليه مرتين
(2)
.
ولا شك في أن هذا التفصيل لا يصح البتة، لأن زمن الاستزادة من الأحرف السبعة كان في المدينة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة عام أو عامين اثنين على الأكثر، فكيف كان يعرض
عليه في كل عام بحرف من الأحرف السبعة! وهي لم تنزل بعد! وهذا خلف من القول من عَلَمٍ كأبي عمرو الداني، ولكن جل من لا يسهو.
وقد بسط الباحث القول في تحقيق هذه المسألة وغيرها في ثنايا البحث.
ج- الحاجة للتحقيق العلمي الرصين في قضية الأحرف السبعة وعلاقتها بالجمع في عهوده الثلاثة، وكذلك علاقتها بالعرضة الأخيرة، ومعالجة المطاعن الواردة على الأحرف السبعة.
د- مدارسة موضوع الأحرف السبعة وما يتعلق بها من مباحث بين دفتي هذا البحث وبيان العلاقة والرابط بينها وبين الجمع العثماني وصحف الأمصار التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وتلقتها الأمة بالقبول وأجمع عليها السلف والخلف، وعليها عمل المسلمين لوقتنا الحاضر.
(1)
- يُنظر: قول البغوي في شرح السنة: (4/ 525). شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء:15.
(2)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني، البيت رقم:(70 - 72)، (ص: 87).
خامسًا: منهج البحث
لقد استخدم الباحث في بحثه عددًا من المناهج البحثية، والتي كان من أبينها ما يلي:
أ-المنهج التاريخي:
فتناول الباحث مراحل جمع القرآن في عهديه الأول والثاني وعرضهما عرضًا تاريخيًا مبينًا زمن وقوع كل جمع منهما وكان ذلك في الفصل الثاني، ثم عرج على تناول المرحلة الثالثة من مراحل جمع القرآن الكريم وتدوينه في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضى الله عنه- وعرضه عرضًا تاريخيًا - كذلك- مبينًا زمن وقوعه وكان ذلك في الفصل الثالث، ثم عرج على تناول مبحث الأحرف السبعة مبينًا الزمن الذي تمت الاستزادة منها ألا وهو آخر العهد النبوي وكان ذلك في الفصل الرابع.
ب-المنهج الوصفي التحليلي:
قام الباحث بعرض الجمع في عهود الثلاثة، ثم وصف كل مرحلة منها وصفًا تحليليًا مناسبًا لمقتضى الحال، فاختصر الوصف في المرحلتين الأوليين لأن ذكرهما غير مراد لذاته في البحث، ثم وصف المرحلة الثالثة من مراحل الجمع وصفًا تحليليًا دقيقًا للغاية وتوسع فيه توسعًا مطولًا لأنه لب البحث وموضوعه الرئيس.
هذا وقد عرض الباحث بحثه عرضًا تحليليًا مقسمًا على فصول أربعة، ثم قَوَّمَهُ تقويمًا تفصيليًا ولا سيما المبحث الرئيس ألا وهو الجمع العثماني وما يتعلق به من مباحث، وقد أحكم بحثه وأيده بالحجج والبراهين، ثم قام بعرض المخالفات والمطاعن الواردة عليه ونقد كل منها نقدًا علميًا بناءً، ثم خلص في نهاية بحثه إلى تحقيق أهدافه من صحة وسلامة القرآن وبقائه سليمًا محفوظًا من أي زيادة أو نقصان أو تغير أو تبديل إلى أن يُرْفَعَ في آخر الزمان تحقيقًا لوعد الله القائل في محكم آي التنزيل:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
الفصل الأول
جمع القرآن - مفهومه ومعناه
وفيه مبحثان
التمهيد
التعريف بالقرآن
أولًا: مفهوم القرآن في اللغة
القرآن (لغةً) مأخوذ من (قرأ) بمعنى: تلا، وهو مصدر مرادف للقراءة، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(القيامة آيتا: 17 - 18) أي قراءته.
ومنه قول حسان بن ثابت
(1)
رضي الله عنه يرثي ذا النورين عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
ضَحّوا بأشمطَ عُنوانُ السجودِ به
…
يُقطّعُ الليلَ تسبيحًا وقرآنًا
(أي: قراءة).
(2)
قال ابن منظور في اللسان: (ت: 711 هـ)
"قَرَأَهُ يَقْرَؤُهُ ويَقْرُؤُهُ، الأَخيرة عن الزجاج، قَرْءًا وقِراءَةً وقُرآنًا، الأُولى عن اللحياني، فهو مَقْرُوءٌ.
قال أَبو إِسحق النحوي: (ت: 311 هـ)
يُسمى كلام اللّه تعالى الذي أَنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، كتابًا وقُرْآنًا وفُرْقًا، ومعنى القُرآن معنى الجمع، وسمي قُرْآنًا لأَنه يجمع السُّوَر، فيَضُمُّها. وقوله تعالى:(إنَّ علينا جَمْعه وقُرآنه)(القيامة: 17)، أَي:"جَمْعَه وقِراءَته"، (فإِذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة: 18)، أَي قِراءَتَهُ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإِذا بيَّنَّاه لك بالقراءَة، فاعْمَلْ بما بَيَّنَّاه لك".
(3)
وقال في اللسان أيضًا: "وقرأتَ الكتابَ قِراءةً وقرآن، ومنه سُمي القرآن
…
(1)
- هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، وقيل أبو الوليد، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المخضرمين، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام، اشتهرت مدائحه في الغسانيين وملوك الحيرة، عمي قبل وفاته، وتوفي في سنة 54 هـ. التهذيب: 2/ 227 - 228، التقريب: 1/ 161، الإصابة: 1/ 326، الأعلام: 2/ 175 - 176.
(2)
- البيت في ديوان حسان بن ثابت، وقد استدل به ابن عطية لتأكيد مصدرية القرآن، يُنظر: مقدمتان في علوم القرآن، ص 284، والشمط: في الرجل شيب اللحية، اللسان، مادة (شمط): 7/ 335 - 336.
(3)
- لسان العرب، حرف القاف، مادة قرأ: ج 12، ص 51. لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15
وقال ابن الأثير:
(1)
تكرَّر في الحديث ذكرُ القراءة والاقتراء والقارئ والقرآن، والأصل في هذه اللفظة الجمْعُ، وكلُّ شيء جمعْتَه فقد قرَأْتَه
…
"
(2)
و (القرآن) على وزن فعلان كغفران وشكران .. ، وهو مهموز كما في قراءة جمهور القراء، ويقرأ بالتخفيف (قران) كما في قراءة ابن كثير وحده.
(3)
؛ وأما بقية السبعة فقرأوا بالهمزة.
وأصله من (القرء) بمعنى الجمع والضم، يقال: قرأت الماء في الحوض، بمعنى جمعته فيه، يقال: ما قرأت الناقة جنينًا، أي لم تضمَّ رحمها على ولد.
وسمى القرآن قرآنًا لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض).
(4)
ولقد أصبح -لفظة- (القرآن) علمًا شخصيًا على كلام الله تعالى، ومنه قوله تعالى:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء: 9)
(5)
ثانيًا: مفهوم القرآن في الاصطلاح
"هو كلام الله تعالى المنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، المجموع بين دفتي المصحف، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر جيلًا بعد جيل" وحول هذا المعنى تدور تعريفات كثير من الأصوليين والفقهاء للقرآن الكريم.
(6)
(1)
وابن الأثير هو اللغوي الي ينقل عن ابن منظور، وهو: عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي (555 - 630 هـ) المعروف بابن الأثير الجزري من أبرز المؤرخين المسلمين، عاصر دولة صلاح الدين الأيوبي، ورصد أحداثها ويعد كتابه الكامل في التاريخ مرجعا لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي. نقلًا عن الموسوعة الحرة:(ويكيبيديا).
قال الزبيدي في تاج العروس مادة (أ ث ر):
وأَبناءُ الأَثِيرِ: الأَئِمَّةُ المَشَاهِيرُ الأخوةُ الثلاثةُ: عِزُّ الدِّين عليُّ بنُ محمّدِ بنِ عبدِ الكريمِ بنِ عبد الواحدِ الشَّيْبَانِيُّ الجَزَرِيُّ اللُّغَوِيُّ المحدِّثُ له التاريخُ والأَنسابُ ومعرفةُ الصَّحابةِ وغيرُها وأَخُوه مَجْدُ الدِّينِ أَبو السَّعَاداتِ له جامعُ الأُصولِ والنِّهَايَةُ وغيرُهما ذَكَرهما الذَّهَبِيُّ في التَّذْكرة وأَخُوهما الثّالثُ ضِياءُ الدِّين أَبو الفَتْحِ نَصْرُ الله له المَثَلُ السّائرُ وغيرُه ذَكَره مع أَخَويْه ابنُ خلِّكانَ في الوَفَيات. قال شيخُنا: ومِن لَطائِفِ ما قِيلَ فيهم:
وَبنُو الأَثِيرِ ثلاثةٌ
…
قد حازَ كلٌّ مُفْتَخَرْ
فمُؤَرِّخٌ جَمَع العُلُو
…
مَ وآخَرٌ وَلِيَ الوَزَرْ
ومُحَدِّثٌ كَتَب الحَدِيـ
…
ثَ له النِّهَايةُ في الأَثَرْ. أهـ.
(2)
- لسان العرب، حرف القاف، مادة قرأ: ج 12، ص 51.
(3)
- قال الشاطبي: ونقل قرآن والقران دواؤنا .. حرز الأماني، البيت رقم:502.
(4)
- راجع لسان العرب (قرأ): 1/ 128، مجاز القرآن لمعمر بن المثنى: 1/ 1 - 3، مناهل القرآن للزرقاني: 1/ 14 - 15.
(5)
يُنظر: القرآن في الاتقان: 1/ 50
(6)
- يُراجع تيسير التحرير لأمير بادشاه: 3/ 3، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 228، كشف الأسرار للنسفي مع نور الأنوار للملاجيون: 1/ 17، إرشاد الفحول، ص: 29، واقرأ كلام النويري في رسالته: القول الجاذ لمن قرأ بالشاذ، ص 55، المطبوعة مع شرح الطيبة للنويري. و (القرآن كلام الله، منه بدا، بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيَّا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر (الطحاوية 1/ 168)(اللجنة العلمية).
وقيل: القرآن الكريم: هو كلام الله تعالى المعجز المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة أمين الوحي جبريل-عليه السلام، المنقول إلينا بالتواتر،
المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس، والمتحدى بأقصر سورة منه.
(1)
. والتعريفان متقربان ومتشابهان، إلا لم يتطابقًا لفظًا ومعنى.
بيان أهم مفردات التعريف ومحترزاتها:
(فالكلام) جنس في التعريف يشمل كل كلام. وإضافته إلى الله تعالى تخرج كلام غيره من الإنس والجن والملائكة. (والمنزّل) تخرج كلام الله تعالى الذي استأثر به سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(الكهف: 109)
وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ)(لقمان: 27)
وبقولنا " المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" يخرج ما أنزل على الأنبياء من قبله مثل التوراة والإنجيل وغيرهما. وجملة (المتعبد بتلاوته) تخرج قراءات الآحاد والأحاديث القدسية،
إذا صح أنها منزلة من عند الله بألفاظها
(2)
، لأن التعبد بتلاوته معناه الأمر بقراءته في الصلاة وغيرها، على وجه العبادة، وليست قراءة الآحاد والأحاديث القدسية كذلك
(3)
.. والله تعالى أعلم
مراحل تنزل القرآن:
وقوله: " المنزل" يشمل ثلاثة تنزُّلاتٍ
التنزل الأول: ثُبُوتُه في اللوحِ المحفوظ
كما قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 21 - 22)، وإنزال القرآن الكريم إلى اللوح المحفوظ ليس خاصًا به ولا علمًا عليه وحده دون سواه مما أراد الله كتابته فيه، فاللوح المحفوظ يشتمل كل ما شاء الله تعالى وقدره وأراد كتابته فيه من: جميع الكتب المنزلة، وخلق
(1)
-يُنظر: المدخل إلى علوم القرآن والعلوم الإسلامية لمحمد أمين فرشوخ.، ص 11.
(2)
- وهذ القول هو الصواب، لأنه يُروى بنحو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى، فهو صريح في أنه- صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه سبحانه بصيغة القول. انتهى. الباحث.
(3)
مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص 18 بتصرف. مباحث في علوم القرآن المؤلف: مناع بن خليل القطان (المتوفى: 1420 هـ) الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1
الخلائق وتقدير أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وكل ما شاء الله أن يكون فيه مما أخبر الله به خلقه فعلموه، ومما استأثر الله بعلمه، وأخفاه عنهم فجهلوه.
التنزل الثاني: نزوله جملة واحدة الى بيت العزة في السماء الدنيا
كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(الدخان: 3)، والليلة المباركة هي ليلة القدر، كما قال ربنا:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(القدر: 1)، وذلك في شهر رمضان، كما قال تعالى:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(البقرة: 185)، وقد دلت الآيات على أن نزوله كان جملة واحدة في ليلة القدر.
التنزل الثالث: نزوله مُنجَّمًا
أي: (مُفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث) قِطعًا قِطعًا في ثلاث وعشرين سنة، كان منها ثلاث عشرة سنة بمكة على القول الراجح، وعشر سنين بالمدينة، وجاء التصريح بنزوله مفرَّقًا في قوله تعالى:(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)(الإسراء: 106)
أي: جعلنا نزوله مفرقًا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت، ونزَّلناه تنزيلًا بحسب الوقائع والأحداث.
وقوله سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)(الفرقان: 32)
ومما يؤكد تنزيله منجمًا كذلك قوله جل في علاه: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)(الفرقان: 33)، فدلت تلك الآية على أن هذا التحدي كان حال التنزيل، وذلك مما يؤكد تنزيله منجمًا.
وقولنا (المعجز بلفظه) قيدٌ في التعريف؛ لأن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة والباقية، والتحدي به باق إلى قيام الساعة، قال تعالى:(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)(الإسراء: 88)
(المعجز) خرج به كذلك سائر المعجزات الحسية التي أيد الله تعالى بها، وقولنا
رسله وأنبيائه تصديقًا لهم في دعواهم.
يقول الدكتور/ محمد عبد الله دراز رحمه الله
-:
(1)
"روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (البقرة: 282)
(2)
، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر".
(3)
خرج به كل ما سوى القرآن المتواتر، (المنقول بالتواتر) وقولنا من منسوخ التلاوة والقراءات الشاذة، وبقي ما قبله الصحابة رضوان الله عليهم، وأجمعوا على قرآنيته، واعترفوا وأقروا به، ألا وهو (الجمع العثماني للقرآن) الذي جمعه عثمان-رضي الله عنه، والذي سمي بالمصحف الإمام.
والمُراد من أن القرآن منقول بالتواتر:
هو ما رواه جمع كثير غفير، يستحيل عقلًا تواطؤهم على الكذب عادة أو صدور ذلك منهم اتفاقًا، وذلك عن مثلهم في كل طبقة من طبقاته، من أول السند إلى منتهاه، وأن يكون مستند انتهائهم الحس السمعي (أي السمع بالتلقي المباشر مشافهة)، ويصحب خبرهم إفادة العلم بنفسه لسامعه.
(1)
-علم من أعلام الفكر الإسلامي (مع التحفظ على هذه العبارة)(أ) في العصر الحديث، رزق الحظ الأوفر من علوم الإسلام، كما نهل من علوم أوربا الشيء الكثير، ولد في قرية (محلة دياي) بمحافظة كفر الشيخ عام 1894، وحصل على العالَمية (الليسانس) الأزهرية عام 1916 م، ونال الدكتوراه من فرنسا عام 1947 م، من مؤلفاته: التعريف بالقرآن، الأخلاق في القرآن، الدين، النبأ العظيم، توفي في مدينة لاهور بباكستان عام 1958 م، يُنظر: فاتحة كتابه: النبأ العظيم، قال الزركلي: فقيه متأدب، الأعلام: 6/ 246.
(أ)(مع التحفظ على هذه العبارة) أي عبارة: "علم من أعلام الفكر الإسلامي":
وقد سُئِلَ شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين رحمه الله: عن مصطلح (فكر إسلامي) و (مفكر إسلامي)؟.
فأجاب قائلا: كلمة (فكر إسلامي) من الألفاظ التي يحذر عنها، إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر.
أما (مفكر إسلامي) فلا أعلم فيه بأسًا لأنه وصف للرجل المسلم والرجل المسلم يكون مفكرًا.
المناهي اللفظية - لابن عثيمين رحمه الله. (1/ 88). المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)، جمع وإعداد: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، الناشر: دار الثريا للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1415 هـ، عدد الأجزاء: 1
(2)
-هذا يسمى أسلوب اقتباس، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(3)
- النبأ العظيم ص: 12 - 13
والتواتر كذلك معناه إفادة العلم اليقيني المقطوع به دون الظني، وقد حصل العلم اليقيني بذلك، ونقل القرآن حتى وصل إلينا على صفة التواتر المذكورة آنفًا، وقد أفاد التواتر العلم اليقيني بلا ريب.
فقد تلقاه الصحابة-رضوان الله عليهم-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشافهةً، ثم تلقاه التابعون عن الصحابة مُشافهةً كذلك، ثم تلقاه تابعو التابعين مُشافهةً عنهم من بعدهم كذلك، ثم نُقِلَ إلى من بعدهم بنفس الطريقة كذلك، وهؤلاء جميعًا يُجزم بصدقهم في النَّقل، كما يُجزم
بدقتهم وتحريهم للضبط وكمال الإتقان، وهكذا في كل طبقة ممن يُنقل عنهم عمن قبلهم، مع استحالة تواطؤهم واتّفاقهم جميعًا على الكذب عادة.
والقرآن الكريم كما هو معلوم يُشترط في تلقيه وأخذه المشافهة عمن يؤديه، ومن المعلوم أن الأصل في تلقي القرآن النقل من الصدور إلى الصدور؛ وليس النقل من السطور إلى الصدور.
قال الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله: (ت: 748 هـ)
"ليس من شرط التواتر أن يصل إلى كل الأمة، فعند القراء أشياء متواترة دون غيرهم، وعند الفقهاء مسائل متواترة عن أئمتهم لا يدريها القراء، وعند المحدثين أحاديث متواترة قد لا يكون سمعها الفقهاء، أو أفادتهم ظنًا فقط، وعند النحاة مسائل قطعية، وكذلك اللغويون ".
(1)
قال النووي رحمه الله: (ت: 676 هـ)
"قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنًا؛ فإن القرآن لا يثبت إلا
بالتواتر، وكل واحدة من السبع متواترة، هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، ومن قال غيره فغالط أو جاهل ".
(2)
وقال الزرقاني رحمه الله:: (ت: 1367 هـ)
"والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة، وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري ".
(3)
(1)
- سير أعلام النبلاء (10/ 171). سير أعلام النبلاء المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ) المحقق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1405 هـ/ 1985 م عدد الأجزاء: 25 (23 ومجلدان فهارس).
(2)
- المجموع (3/ 392)
(3)
- مناهل العرفان (1/ 441)، مناهل العرفان في علوم القرآن المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367 هـ) الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة: الطبعة الثالثة.
قال ابن النجار الفتوحي رحمه الله
-:
(1)
"وَالْقِرَاءاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ "الْغَايَةِ"، وَقَالَ: قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: آحَاد".
(2)
والحقيقة أن تواتر القراءات كلها محل خلاف عند جمع من أهل العلم، وسيأتي معنا ذكر شروط صحة القراءة، وأن منها صحة السند، وقد اكتفى بعض أهل العلم بذيوع القراءة وانتشارها، وقيل: إن تعرض علماء السلف المتقدمين لقضية تواتر القراءات أمر غير مشتهر، وإن دعوى تواتر القراءات كلها أمر يحتاج لدليل قاطع وبرهان ساطع.
تعريف القرآن بين أهل السنة والأشاعرة:
-والقرآن هو: كلامُ الله تعالى "لفظًا ومعنى" والمراد بـ: كلامِ الله تعالى، هو الكلام اللفظي، وهو اختيار الفقهاء، وليس المُرادُ به الكلامَ النفسيَّ كما يقول المُتَكلِّمون والفلاسفة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، فقد تكلم الله تعالى بالقرآن بحرف وصوت وسمعه جبريل عليه السلام فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فوعاه قلبه وبلغه له بحرف وصوت كما سمعه كما قال ربنا:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)(الشعراء: 193 - 195)، ومما يدل على أن القرآن كلام الله حقيقة قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا) (النساء: 164)، وقوله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)(التوبة من آية: 6). -
ثم يتابع ابن النجار الفتوحي رحمه الله ويقول
-:
"وَفِي أَحَادِيثَ أُخَرَ تَبْلُغُ نَحْوَ الثَّلاثِينَ وَارِدَةٌ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، بَعْضُهَا صِحَاحٌ وَبَعْضُهَا حِسَانٌ، وَيُحْتَجُّ بِهَا أَخْرَجَهَا الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ غَالِبَهَا، وَاحْتَجَّ بِهِا، وَأَخْرَجَ غَالِبَهَا أَيْضًا ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، واحْتَجَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. وَقَدْ صَحَّحُوا هَذِهِ الأَحَادِيثَ وَاعْتَقَدُوهَا مَعَ مَا فِيهَا، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا،
(1)
-هو أبو البقاء تقيُّ الدين محمَّد بن أحمد بن عبد العزيز بن عليٍّ الفتوحيُّ المصريُّ الحنبليُّ، الإمام الأصوليُّ اللغويُّ المتقن الشهير ب «ابن النجَّار» ، وُلد بمصر سنة (898 هـ)، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنبليِّ، له مصنَّفاتٌ أشهرها:«منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات» في الفروع و «الكوكب المنير» المسمَّى ب «مختصر التحرير» في أصول الفقه، توفِّي سنة (972 هـ).
تُنظر ترجمته في: "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (87)، «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد» لابن بدران (436، 462)، «الأعلام» للزركلي (6/ 233)، «معجم المؤلفين» لكحالة (3/ 73)، مقدمة «شرح الكوكب المنير» للمحققين محمَّد الزحيلي، ونزيه حماد (1/ 5).
(2)
-شرح الكوكب المنير شرح مختصر التحرير (2/ 127).
مُنَزِّهِينَ اللَّهَ عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ مِنْ شُبُهَاتِ الْحُدُوثِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالُوا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. فَإِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ النَّاسِ مَا يُقَدَّرُ عُشْرَ مِعْشَارِ هَؤُلاءِ يَقُولُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ. وَرَأَيْنَا هَؤُلاءِ الأَئِمَّةَ أَئِمَّةَ الإِسْلامِ الَّذِينَ اعْتَمَدَ أَهْلُ الإِسْلامِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَعَمِلُوا بِهَا وَدَوَّنُوهَا وَدَانُوا اللَّهَ بِهَا صَرَّحُوا بِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ لا يُشْبِهَانِ صَوْتَ مَخْلُوقٍ وَلا حَرْفَهُ بِوَجْهٍ أَلْبَتَّةَ. مُعْتَمَدِينَ عَلَى مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ الْمَعْصُومِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى- صلى الله عليه وسلم، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ الْجَازِمِ بِهِ، الَّذِي لا يَعْتَرِيهِ شَكٌّ وَلا وَهْمٌ وَلا خَيَالٌ: نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَالتَّكْيِيفِ، وَأَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي صِفَةِ الْكَلامِ كَمَا يَقُولُونَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، مِنْ النُّزُولِ وَالاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَهُ سَلَفُ الأُمَّةِ، مَعَ إثْبَاتِهِمْ لَهَا. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور من آية: 40) ".
(1)
مفهوم لفظ الجلالة:
ولفظ الجلالة (الله) اسمُ عَلَمٍ على الذات الإلهية، لا يسمى به سواه سبحانه، ومن خصائص هذا الاسمِ الأعظمِ: أنه لم يُسَمَّ به أحدٌ غيرُ الله، وأنه أصلٌ لكلِّ الأسماء الحُسنى وإليه مَرْجِعُها؛ وهو المعبود بحقٍّ، وهو اسم غيرُ مُشْتقٍّ، وقيل: أنه مشتقٌّ من (وَلِهَ)؛ أيْ: تحيَّر، وقيل: من (أَلَهَ)؛ أيْ: تنسَّك وتعبَّد، فهو المأْلوهُ الذي تُؤلِّهه القلوبُ وتعبده، وتحبه، وتعظمه، وتبجله، وتجله، وتخافه، وترهبه، وترجوه، وتنيب إليه، وتستعينه، وتستغيثه، وتستعيذه، وتؤمن به وتتوكل عليه سبحانه؛ وقيل: من (لاه)؛ أي: تعالى وسما؛ منَ السُّمُوِّ والارتفاع.
ومن خصائص لفظ الجلالة (الله):
أنه اسم لا يَقبل تثنيةَ ولا جمعًا، والألفُ واللامُ فيه أصليَّتانِ من صلب الاسم الكريم العظيم، وهما ليستا ألف ولام التعريف؛ فكلُّ حرفٍ في لفظ الجلالة هو حرف أصليٌّ من بنية الكلمة؛ بحيث لو حُذف أي حرفٍ منها لتغيَّر المعنى؛ مثل كلمةِ التوحيد (لا إله إلا الله) فهي مركبة من
أربعةِ أجزاءٍ، فلا يُقال إلا "كلمة"؛ مثل قولِنا: كلمةُ التَّوحيد، والكلمة الطيبة؛ وذلك لأن كلَّ جزء منها أصلٌ لا يتجزأ ولا ينفرد فيها، وكذا كلُّ حرفٍ في لفظ الجلالة (الله)، ولذا لا يصحُّ ولا يُشرع التقرب والتعبدُ لله بالذكر المفرد بقول: "الله الله الله
…
"؛ كما يفعل أهل الوجد من المتصوفة، ومن على شاكلتهم من سائر المبتدعة، وإنما يكونُ الذكرُ بنحو قول: "لا إله إلا الله"، وهو أفضلُ الذكرِ؛
(1)
- الكوكب المنير شرح مختصر التحرير (1/ 132 - 133).
لِما ثبت من حديثِ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الحَمْدُ لِلهِ))
(1)
؛
ثم إنه لا يصحُّ ولا يليق أن ينادي العبدُ سيدَهُ ومولاه ويقولُ: "يا ألله" ثم لا يتبِع ذلك النداء بسؤال، أو دعاء، أو استغاثة، أو استعاذة، أو طلب حاجة.
وكلمة التوحيد هي أعظم وأجَلّ كلمة، فمن أجلها خُلقت الخليقةُ، وأُرسلت الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وسلت سيوف في سبيل الله، فأُهْرِيقَت دماءٌ، وقطعت أشلاء، ويتم أطفال، ورمِّلت نساء، وهي العروة الوثقى التي من استمسك بها نجا، وهي الكلمة التي من قالها وعمل بمقتضاها فاز وربح، وهي كلمة التقوى وأساس الملة وركن الدين الركين وأساسه المتين، وهي الكلمة التي من
خُتِمَ له بها سعد السعادة الأبدية التي لا يرى بعدها شقاء أبدًا، وفضائلها وقدرها ومكانتها من الدين فوق وصف البلغاء وتعريف الفصحاء.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: (ت: 973 هـ)
"أفضل الأذكار التي لم يخصها الشارع بحال أو زمن القرآن، وبعده التهليل، لخبر:
(أفضل الذكر لا إله إلا الله) ".
(2)
ويقول المباركفوري رحمه الله: (ت: 1414 هـ)
"لأنها كلمة التوحيد، والتوحيد لا يماثله شيء، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، ولأنها أجمع للقلب مع الله، وأنفى للغير، وأشد تزكية للنفس، وتصفية للباطن، وتنقية للخاطر من خبث النفس، وأطرد للشيطان ".
(3)
ولذا فأهل السعادة في هذه الدار هم المكثرون من نطقها وتحقيقها نفيًا وإثباتًا، وهم الذين لا تفتر ألسنتهم عن ذكرها في كل أحوالهم وأوقاتهم، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، حضرًا وسفرًا، صيامًا وإفطارًا، حجًا واعتمارًا، صحة وسقمًا. فنطقها وتحقيقها هو
شغلهم الشاغل مع عدد أنفاسهم، كل ذلك مع حضور قلوبهم وتدبر معانيها ومقاصدها ومراميها وما دلت عليه هذه الكلمة الطيبة العظيمة.
(1)
-رواه الترمذي (3383) وقال: حسن غريب. ورواه النسائي في " السنن الكبرى "(6/ 208) وبوب عليه بقوله: (باب أفضل الذكر وأفضل الدعاء)، ورواه ابن حبان في صحيحه (3/ 126) وبوب عليه بقوله: ذكر البيان بأن الحمد لله جل وعلا من أفضل الدعاء، والتهليل له من أفضل الذكر. وحسنه الحافظ ابن حجر في " نتائج الأفكار "(1/ 63) والألباني في " صحيح الترمذي ". وصححه كذلك في السلسلة الصحيحة (1497).
(2)
الفتاوى الحديثية (ص/ 109)، والحديث بطوله: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لِلَّهِ). والحديث سبق تخريجه في الهامش السابق.
(3)
- تحفة الأحوذي (9/ 325).
المبحث الأول: بيان مفهوم ومعنى الجمع
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الجمع في اللغة
الجَمْع: مصدر الفعل "جَمَع"، يقال: جمع الشيء يجمعه جمعًا.
قال الجوهري: (ت: 393 هـ)
أجمعتُ الشيءَ: جعلته جميعًا، والمجموع: الذي جُمِعَ من هاهنا وهنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ".
(1)
وقال الراغب الأصفهاني: (ت: 502 هـ)
" الجمع: ضم الشيء بتقريب بعضِهِ من بعض، يقال: جمعته فاجتمع.
(2)
وقال ابن منظور: (ت: 711 هـ)
" جَمَعَ الشيءَ عن كل تفرقة يجمعه جمعًا، واستجمع السيل: اجتمع من كل موضع، وجمعت الشيء: إذا جئت به من هنا وهنا، وتجمَّع القوم: اجتمعوا أيضًا من هنا وهنا ".
(3)
وقال الفيروز أبادي: (ت: 817 هـ)" الجمع: تأليف المُتَفَرِّق ".
(4)
المطلب الثاني: مفهوم الجمع في الاصطلاح
القرآن الكريم يطلق في علوم القرآن على معنيين:
أحدهما: جمعه بمعنى حفظه في الصدور عن ظهر قلب، ويدل له قوله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(القيامة: 17) أي: جمعه في صدرك، وإثبات قراءته في لسانك
(5)
وما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: " جمعتُ القرآن فقرأته كلَّه في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى أن يطول عليك الزمان، وأن تملَّ، فاقرأه في شهر، فقلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي قال: فاقرأه في عشرة، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: فاقرأه في سبع،
(1)
-الصحاح للجوهري ج 3 - ص 1199 مادة "جمع"
(2)
-المفردات للراغب ص 96.
(3)
-لسان العرب لابن منظور ج 8 - ص 53 مادة "جمع"
(4)
- القاموس المحيط ج 1 ص 528 مادة "جمع".
(5)
-يُنظر: الكشاف ج 6 - ص 269. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة - 1407 هـ عدد الأجزاء: 4، الكتاب مذيل بحاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري (ت 683) وتخريج أحاديث الكشاف للإمام الزيلعى.
قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي فأبى"
(1)
فمعنى قوله: جمعت القرآن أي: حفظته عن ظهر قلب.
ومنه قولهم: " جُمَّاع القرآن " أي: حُفَّاظه.
الثاني: جمعه بمعنى كتابته، ويدل له ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري في قصة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومما ورد فيه: قول عمر بن الخطاب لأبي بكر- رضي الله عنهما: " وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ".
وقول أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: " فتتبع القرآن فاجمعه " أي: اكتبه كله.
وقول زيد بن ثابت- رضي الله عنه: " فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال "
(2)
وإذا نظرنا إلى
أشهر أسماء القرآن الكريم
، فإننا سنجد فيها اسمين يدلان على المعنيين:
الأول: القرآن
الثاني: الكتاب
ف
الاسم الأول: "القرآن
"
إشارة إلى جمعه عن طريق المعنى الأول، وهو الحفظ في الصدور. فالقرآن: لفظ مشتق من الفعل "قرأ" بمعنى تلا، فهو مرادف للقراءة، ودل على هذا قوله عز وجل:(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(طه: 114) أي: لا تعجل بقراءة القرآن قبل أن ينتهي جبريل من قراءته. وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)(الإسراء: 78) أي: قراءة القرآن في هذا الوقت تشهدها الملائكة ويشهدون بها.
قال اللحياني
(3)
وجماعة من أهل اللغة:
" قرآن: مصدر كغفران، سمي بـ "المقروء" أي المتلو، تسمية للمفعول بالمصدر، ومنه قوله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(القيامة: 17، 18) أي: قراءته، والمراد: جبريل-عليه السلام. ويقال: قرأ الرجل، إذا تلا، يقطع قرآنا وقراءة
(4)
(1)
-أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة، باب في كم يستحب يختم القرآن، سنن ابن ماجة ج 1 - ص 428، واللفظ له، وأحمد (6873)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8064)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه:(1114).
(2)
- الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب. صحيح البخاري ج 6 - ص 98
(3)
-هو علي بن حازم اللحياني، لغوي معاصر، الفراء، كان حيًا سنة 207 هـ، معجم المؤلفين 7:
56
(4)
- يُنظر قوله في مدخل إلى تفسير القرآن د. عدنان زرزور ص 45.
و
الاسم الثاني: "الكتاب
":
إشارة إلى جمعه عن طريق المعنى الثاني وهو الحفظ في السطور، فالكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتابًا.
(1)
قال علم الدين السخاوي: (ت: 643 هـ)
(2)
" ومن أسمائه - أي القرآن - الكتاب، سمي بذلك، لأن الكَتْبَ الجمع يقال: كتب إذا جمع الحروف بعضها على بعض، وتكَتَّب بنو فلان، أي: اجتمعوا".
(3)
وحين يتحدث المؤلفون في علوم القرآن عن موضوع جمع القرآن الكريم فإن أغلبهم يطلق عبارة جمع القرآن الكريم في -عهوده الثلاثة- ويريدون بالجمع معاني مختلفة، فبتدبر الأمر وتتبع الروايات نجد أن لفظ الجمع حين يطلق في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم-يقصد به حفظه عن ظهر قلب وكتابته على الأدوات المتوفرة ذلك الوقت.
وحين يطلق في عهد أبي بكر الصديق-رضي الله عنه يقصد به كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد مسلسل الآيات مرتب السور. وحين يطلق في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه يقصد به نسخ المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر-رضي الله عنه بمصاحف متعددة. وسنتناول هذه المراحل بالتفصيل في مواضعها بإذن الله تعالى
(4)
.
المبحث الثاني: حفظ الله تعالى لكتابه، وعناية الأمة بجمعه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور
إن القرآن الكريم يطلق على معنيين اثنين:
المعنى الأول: يطلق على حفظه وتقييده في الصدور.
(1)
-يُنظر: المفردات ص 423.
(2)
السخاوي نسبة إلى السخا، قد تشير إلى:
1 -
علي بن إسماعيل بن إبراهيم بن جبارة الكندي التجيبي السخاوي، أبو الحسن، شرف الدين (ت. 632 هـ).
2 -
علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري السخاوي الشافعي، أبو الحسن، علم الدين (ت. 643 هـ). وهو الذي مهنا عنا- المعروف بـ "العلم السخاوي".
3 -
محمد بن الحسن بن علي السخاوي الشافعي (ت. بعد 846 هـ).
4 -
علي بن أحمد بن عمر بن خلف بن محمود، أبو الحسن نور الدين السخاوي (ت. بعد 889 هـ).
شمس الدين السخاوي (ت. 902 هـ).
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن زين الدين ابن مسك السخاوي (ت. 1123 هـ)
(3)
- جمال القراء ج 1 ص 28.
(4)
- يُنظر: جمع القرآن الكريم حفظًا وكتابة- سليمان علي العبيد- ص: 5 - 8، عن المكتبة الشاملة الحديثة. بتصرف.
المعنى الثاني: يطلق على كتابته وتقيده في الصحف وحفظه في السطور.
والكلام هنا عن المعنى الأول من معاني حفظ القرآن، الذي هو حفظه وتقييده في الصدور.
أولًا: تكفُل الله تعالى بحفظ كتابه بذاته العلية
إن الله تعالى جلت قدرته قد أنزل القرآن الكريم -آخر كتبه -، على خاتم أنبيائه ورسله، وجعله مهيمنًا على الكتب السابقة كما قال جل ذكره:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه)(المائدة: 48).
وقد توكل ربنا حفظه بذاته العلية، ولم يوكل ذلك لأحد من خلقه، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى في محكم كتابه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
قال الطبري رحمه الله: (ت: 310 هـ)
وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه.
(1)
وثبت عند مسلم منْ حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ (ت: 50 هـ)
(2)
رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا
جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا:
…
إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ
…
)
(3)
يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله:
(4)
"فلو غُسِلَتِ المصاحفُ لما انغسل من الصدور، ولما ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) ".
(5)
(1)
- تفسير الطبري (9/ 69). جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24
(2)
-من بني مجاشع بْن دارم بْن مالك بْن حنظلة بْن مالك بْن زيد مناة بْن تميم له صحبة وهو عياض بْن حمار بْن أَبِي حمار بْن ناجية بْن عقال بْن مُحَمَّد بْن سفيان بْن مجاشع نسبه خليفة بْن خياط، عداده في أهل البصرة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، ومعه نجيبة يهديها إليه فقال:" أسلمت؟ " قال: لا، قال:" إن اللَّه نهاني أن أقبل زبد المشركين ".
فأسلم فقبلها منه. يُنظر: (عياض بن حمار التميمي) في تهذيب الكمال للمزي (4605 (بخ م 4)، أسد الغابة:(ص: 97)
(3)
- رواه مسلم (رقم/ 2865).
(4)
- الفقيه المحدّث أبو العباس ضياء الدين أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري الأندلسيّ القرطبي المالكي، ولد سنة 578 هـ في قرطبة، وعُرف بابن المزيِّن، رحل مع أبيه من الأندلس وهو صغير، إلى فاس وتلمسان، ثم الإسكندرية، والمدينة ومكّة، والقدس. يُنظر: وفيات الأعيان (7/ 295)، تذكرت الحفاظ (4/ 1438).
(5)
-المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (7/ 163)
ويقول النووي رحمه الله: (ت: 676 هـ)
"قوله تعالى: (لا يغسله الماء) معناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان ".
(1)
ويقول الله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(الحاقة: 44 - 47)
فإذا كان هذا الوعيد والتهديد الشديد قد ورد في حق خير الخلق وحبيب الحق، في حق وليه وصفيه وخليله وأمينه على وحيه صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونه في الرتبة والمكانة والفضل والمنزلة؟! ومن هو؟ إنه نبيه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه، وهو من هو في عصمته وأمانته في البلاغ عن ربه وأدائه لرسالته سبحانه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم-أن يتقول على ربه ولو بعض قول، وقد وصف الله تعالى أمانته في البلاغ عنه سبحانه في محكم كتابه جل في علاه بقوله:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: آيتا: 3 - 4]، والمعنى المراد هنا: إن هذا الوعيد الشديد من باب أولى ينال من كان دون النبي- صلى الله عليه وسلم فيما لو تقول على الله بعض القول!!.
قال ابن كثير - (ت: 774 هـ) رحمه الله:
يقول تعالى: (ولو تقول علينا) أي: محمد- صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة.
(2)
يقول البغوي (ت: 561 هـ) رحمه الله:
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) أي: مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى: أن محمدًا لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه بأنه لو تكلفه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه.
(3)
وهذه الآية الكريمة نظيرها في كتاب الله تعالى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65]، وإن كان الشرك والكفر في حقه - صلى الله
(1)
- شرح مسلم (17/ 198)
(2)
يُنظر: تفسير ابن كثير: (14/ 132). تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 8
(3)
- يُنظر: تفسير البغوي: (8/ 215). معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي -بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء: 5
عليه وسلم- ممتنع عقلًا وشرعًا غاية الامتناع،؟ لأن الله عصمه جل في علاه، فهذا الوعيد والتهديد الشديد في حق من دونه أحق وأولى.
خطب الحجاج، فقال: إن ابن الزبير يبدل كلام الله تعالى،
قال: فقال ابن عمر رضي الله عنهما: كذب الحجاج؛ إن ابن الزبير لا يبدل كلام الله تعالى ولا يستطيع ذلك.
(1)
وهذا من فقهه- رضي الله عنه وَسَعَة علمه بكتاب ربه جل في علاه.
وقال تعالى عن التوراة وهو من الكتب السابقة المنزلة، وقد أنزله على نبيه موسى بن عمران-عليه السلام:(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)(المائدة: من آية: 44)
والضمير في قوله: (استحفظوا) يعود على علمائهم وقرائهم وفقهائهم، وهذا القول، أعني عود الضمير في (استحفظوا)، لا أعلم له خلافًا بين أهل التفسير، وهو واضح جلي.
يقول ابن كثير رحمه الله:
أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به.
(2)
"ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد ماحكاه عياض في المدارك عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت عند إسماعيل يومًا فَسُئِل: لما جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز التبديل
على أهل القرآن؟. فقال لأن الله تعالى قال في أهل التوراة (بما استحفظوا من كتاب الله) فوكل الحفظ إليهم، وقال في القرآن (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فتعهد الله بحفظه فلم يجز التبديل على أهل القرآن.
قال: فذكرت ذلك للمحاملي فقال لا أحسن من هذا الكلام".
(3)
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(فصلت: 41 - 42)
يقول الطبري رحمه الله:
(1)
- رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "(1/ 596) بسند صحيح.
(2)
- ابن كثير (3/ 117)
(3)
- يُنظر: تفسير ابن عاشور: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (6/ 209). التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 هـ) الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس سنة النشر: 1984 هـ عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين).
قول: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلًا أو تحريفًا أو تغييرًا، من إنسي وجني وشيطان مارد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) معناه: لا يستطيع ذو باطل تغييره بكيده، وتبديل شيء من معانيه عما هو به، وذلك هو الإتيان من بين يديه، ولا إلحاق ما ليس منه فيه، وذلك إتيانه من خلفه.
عن قتادة: الباطل: إبليس، لا يستطيع أن ينقص منه حقًا، ولا يزيد فيه باطلًا.
(1)
ويقول ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
يقول تعالى آمرًا رسوله عليه الصلاة والسلام بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي: لا مغير لها، ولا محرِّف، ولا مؤوّل.
(2)
ويقول سبحانه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: 2)
و (لا ريب فيه) أي: لاشك فيه، وبهذا ينفي الله تعالى عن كتابه الكريم كل ريب وكل شك، وإن من أعظم الريب المنفي في الآية دخول التحريف والتغير والتبديل إليه، سواء كان ذلك بالزيادة أو النقصان.
وقد تحدى الله بكتابه الإنس والجن بصنوف التحدي.
يقول ابن سعدي رحمه الله: (ت: 1376 هـ)
"ومن ذلك تحدي الله لجميعِ الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإخبارُه أنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله، والتحدي قائمٌ في كل وقت، والعجز من الخلق ظاهرٌ، مع توفر دواعي الأعداء، وحرصهم الشديد على ردِّ ما جاء به الرسول، والقدح في رسالته. وهذا
برهان عظيم يضطرُّ كلُّ عاقلٍ معه إنصافٌ؛ أن يعترفَ بالحق الذي قامت البيناتُ الظاهرة والدلالات الباهرة على صدقه من كل وجه؛ ولله الحمد".
(3)
الإعجاز وآيات التحدي:
مفهوم التحدي في اللغة والاصطلاح
أ- مفهوم التحدي في اللغة:
التحدي لغةً: بمعنى المباراة والمبارزة.
(1)
- تفسير الطبري (21/ 479)
(2)
- تفسير ابن كثير (5/ 151)
(3)
-البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله (ص: 54 - 55) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
و " تحديت فلانًا إذا بارَيْتَه في فعل ونازَعْتَه الغلبة"،
…
وهي الحديّا ".
(1)
قال عمرو بن كلثوم في معلقته متحديًا الناس جميعًا بمجد قومه وشرفهم:
حُدَيّا الناسِ كلِّهِمِ جَميعا
…
مُقارَعَةً بَنِيهمْ عن بَنيِنا.
(2)
ب- مفهوم التحدي في الاصطلاح:
والتحدي اصطلاحًا: يتصل اتصالاً وثيقًا بالمعنى اللغوي فهو طلب الإتيان بالمثل على سبيل المنازعة والغلبة ويتحدد المثل تبعا لما يتحدى به.
فالتحدي بالقرآن طلب الإتيان بمثله.
(3)
ويعلل الباقلاني (ت: 430 هـ) عن الاحتياج في باب القرآن إلى التحدي فيقول:
"وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزًا، فإنما يعرف أولًا إعجازه بطريق؛ لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزًا، فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه، فيجب أن يعرف هذا، حتى يمكنه أن يستدل به، ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه والتقريع به والتمكين منه صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء وانقلاب العصي ثعبانًا تتلقف ما يأفكون
…
".
(4)
وكلمة "المعجزة من الفعل أعجز وهو فعل مزيد بالهمزة وأكسبته الزيادة التعدي إلى مفعول به، فأصبح الإعجاز واقعًا على فرد أو أفراد أو غير ذلك، فعندما تستخدم الكلمة في سياق إعجاز القرآن وقعت على الجن والإنس كافة، ولعل آيات التحدي هي التي رسخت قضية الإعجاز التي ناقشها المكذبون ربما قبل أن يرد التعرض لها في القرآن تعرضًا صريحًا وذلك في قوله تعالى:(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)) (المدثر: 18 - 25)، فإن الركون في الكلام المذكور-هنا- إلى تصنيف القرآن الكريم في إطار السحر لهو اعتراف صريح بخروجه على المألوف من كلام البشر، ولعل هذا هو الذي دعاه إلى تأكيد الزعم بأنه من كلام البشر، نذكر هذا للائتناس بهذا القول المذكور الذي يحاول صاحبه تفنيد الخصوصية
(1)
- ابن منظور-لسان العرب، مادة حدا- (168).
(2)
-شرح المعلقات السبع- الزوزني- ص: 177 - نقلاً عن: التحدي بالقرآن الكريم-د. محسن الخالدي-ص: 3
(3)
-المرجع السابق-ص: 3
(4)
- إعجاز القرآن-الباقلاني-ص: 190.
والتفوق والرقي والسمو الذي لمسوه واقعًا فعليًا في النص القرآني، ولكننا ننبه أيضًا إلى أننا لا نقبل بحال ما ذهب إليه بعض المفكرين المحدثين من أن الفهم السائد للإعجاز قبل المعتزلة كان استمرارًا لما كان سائدًا من قبل، أي منذ وصفت قريش القرآن بأنه سحر يؤثر".
(1)
، "فلم يكن هذا هو تلقي من آمنوا بالقرآن، ولكنه كان تصنيف من ترددوا في تصنيفه لأنه غير متوافق مع أي استعمال لغوي عرفوه".
(2)
(1)
- د. محمد عبد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، ط 1 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006 م ص 185
(2)
-إعجاز القرآن الكريم، د. عيد بلبع، عن موقع سياقات، بتاريخ: 2/ 4/ 2008 م.
آيات التحدي في القرآن الكريم على الترتيب المصحفي:
لقد ورد التحدي بالقرآن الكريم في خمس آيات من خمس سور، نذكرها على الترتيب المصحفي، لا على الترتيب النزولي، ولا على ترتيب مراحل التحدي،
على النحو التالي:
1 -
في سورة البقرة
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: 23).
2 -
في سورة يونس
قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(يونس: 38).
3 -
في سورة هود
قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(هود: 13)
4 -
في سورة الإسراء
قوله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88)
5 -
في سورة الطور
قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)(الطور 33: -34).
لماذا لم يأت التحدي بآية من القرآن
؟
قد" جاء التحدي بالقرآن كاملاً، وجاء التحدي بعشر سور منه، وجاء التحدي بسورة، لكن لم يأتِ التحدي بآية؛ لأن من الآيات ما هو كلمة، كقوله تعالى:(مدهامتان)[الرحمن: 64]، ولا يعجز البشر أن يقولوا:(مدهامتان)، لكن مع ذلك فالآية معجزة في موضعها من الكلام وارتباطها بما قبلها وما بعدها، فلا تستطيع أن تحذف (مدهامتان) وتأتي بأي كلمة ترادفها تقوم مقامها، لكن بالنظر إليها مفردة لا تعجز، ولذا لم يحصل التحدي بها.
وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، فإذا قلنا -وهو قول الشافعي-: إن البسملة آية، صارت سورة الكوثر أربع آيات، فلا يحصل التحدي إلا بأربع آيات أو بمقدارها ولو آية واحدة، وإذا قلنا: إن البسملة ليست بآية -وهو قول الأكثر- قلنا: يحصل التحدي بثلاث آيات، أو بقدر هذه الثلاث
ولو آية واحدة، المهم ألّا تقل عن قدر سورة الكوثر، فلا يمكن أن يأتوا بآية واحدة بقدر أقصر سور القرآن".
(1)
"ويمكن القول بأن هذا التحدي كان أول مواجهة لتحدي ثقافي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فزعم المشركون أن باستطاعتهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلقه فتحداهم الله أن يأتوا بمثله، وقرَّعهم بالعجز عن الإتيان- مع ما هم عليه من الأنفة والحمية- بما فيه من الآيات التي تبين أنه بلغتهم ومن جنس كلامهم فطالبهم أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة وتمر عليهم السنوات وتزداد الآيات وهم على عجزهم دائمون
…
".
(2)
والتحدي بالقران من جهة الإعجاز عن الإتيان بمثله يستوي قلة وكثرة، فليس الإتيان بقليله أسهل من الإتيان بكثيره، وذلك لأن التحدي واقع كيفًا ونوعًا، لا كمًا ولا مقدارًا، فليُنتبه لهذا، لأن العجز عن الإتيان بقليله يستوي مع العجز عن الإتيان بكثيره، فلا يُظَنُ أن ترتيب التحدي تصاعديًا له أثر في قوة التحدي والتعجيز عن الإتيان بمثل القرآن كله أو بعضه.
وسيأتي معنا الكلام حول قضية ترتيب آيات التحدي.
تنبيه هام جدًا:
آيات التحدي: بين ترتيب النزول وترتيب التدرج في التحدي
"وقد ظهرت قضية الإعجاز في آيات التحدي، وقد اعتاد المفسرون ومؤلفو كتب علوم القرآن الإشارة إلى تعدد مستويات التحدي بالقرآن الكريم، وطيب لهم دائمًا الإشارة إلى تدرج التحدي من التحدي بأن يأتوا بمثل القرآن، إلى التحدي بأن يأتوا بعشر سور من مثله، إلى التحدي بأن يأتوا بسورة واحدة، مستشهدين في ذلك بآية سورة الإسراء ثم آية سورة هود ثم آية سورة البقرة، فهذه الآيات الثلاث يتحقق بها الترتيب التنازلي وفق ترتيب النزول، والحقيقة أن هذه المستويات متداخلة في ترتيب نزولها؛ ذلك لأن آيات التحدي وفق ما ذهبوا إليه لا تقتصر على هذه الآيات الثلاث، بل هناك آيتا سورة الطور وسورة يونس، وإذا نظرنا رؤية استقرائية شاملة للآيات الخمس وجدنا أن التدرج من الأعلى إلى الأدنى ليس تدرجًا صارمًا لا تداخل فيه، الأمر الذي جعل بعض المتعرضين لآيات التحدي من المسلمين يتغاضون عن الإشارة إلى بعض الآيات التي ربما توهم بشيء من عدم الاطراد في الترتيب التنازلي في التحدي من الأعلى إلى الأدنى، فذكر آيات سور: الإسراء للتدليل على التحدي بالقرآن كله، ثم ذكر آية سورة هود للتدليل على المستوى الثاني
(1)
- أصول التفسير للسيوطي: (د. ص).
(2)
-التحدي بالقرآن الكريم-د. محسن الخالدي- (ص: 15). بتصرف.
التحدي بعشر سور، ثم ذكر آية سورة البقرة التي جاء فيها التحدي بسورة واحدة، وهو المستوى
الثالث
(1)
، ولعل الذي دفع إلى هذا هو حساسية التعرض للتداخل في ترتيب النزول بين آيات التحدي، ولكن الحقيقة أن هذه رؤية عقل بشري قد تخطئ وقد تصيب، فلعل فكرة الترتيب التنازلي قد راقت لهم، ثم لعلها قادتهم إلى التغاضي عن الاستقصاء أو إلى التغاضي عن الإشارة إلى التداخل بين هذه المستويات.
وهذا الأمر نفسه جعل بعض المعترضين المتشككين يتغاضون ـ بدورهم ـ عن الاستقصاء في استقراء ترتيب النزول للسور التي جاءت فيها آيات التحدي، فانطلقوا بالمنحى الانتقائي المضاد للمنحى الانتقائي الأول، واكتفوا بذكر بعض آيات محاولين إثبات أن الترتيب جاء تصاعديًا وليس تنازليًا، أي بدأ بالتحدي بسورة ثم بعشر سور ثم بالقرآن كله، بل اختلقوا ترتيبًا ظنيًا لا نبرؤه من العَمْد، نتبين ذلك بالوقوف عند نموذج من العرض لبعض أصحاب هذا الاتجاه المضاد لآيات التحدي جاء فيه: أن آية سور الطور {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور: 34) هي أول ما نزل من آيات التحدي، ثم رأى فيها إمكان أن يأتوا بحديث مثله مستندًا إلى أن إطلاق الحديث يترتب عليه إمكان أن يأتوا به؛ لأنه يتحقق في الآية والآيتين، ثم يخلص إلى أن " تحديهم بأن يأتوا بحديث مثله غير صحيح ولا مأمون فيه سوء العاقبة، فلذا عدل عنه محمد-صلى الله عليه وسلم متدرجًا في التحدي إلى ما هو أعلى من ذلك، فجاء بالآية الثانية (فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (يونس: 38)، ولم يقف عند هذا الحد حتى جعلها عشر سور، ثم ارتقى إلى ما يقتضيه التحدي الصحيح الذي يتعذر أو يستحيل عادة أن يجيبه إليه أحد، وهو تحديهم بأن يأتوا بمثل القرآن من دون قيد بحديث أو سورة كما قال في الآية الأخرى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ) (الإسراء: 88)، وهذا هو التحدي الذي ترجع فيه المعارضة خائبة خاسرة بلا شك ولا ريب، ولذا نراه يتكلم بجراءة واطمئنان واثقًا بعجزهم عما يريد منهم، حتى أنه لم يتحد الإنس وحدهم بل جعل الجن لهم معاونين تهويلاً عليهم وتأكيدًا لعجزهم ".
(2)
والغريب أن المتحدث هنا لم يهتم بالبحث في ترتيب النزول، ولا اهتم بالرجوع إلى المراجع التي تعرضت له، على الرغم من رجوعه إلى بعض هذه المراجع في كتابه المذكور ومنها كتاب الإتقان للسيوطي، والبرهان للزركشي، ثم إن الغريب الغريب أيضًا أن العرض الذي عمد إلى ذكر ثلاث آيات فقط، وهي آيات
(1)
- د. حلمي محمد القاعود: مدخل إلى البلاغة القرآنية، ط 1 دار النشر الدولي، الرياض 1428 هـ 2007 م ص 167
(2)
- معروف الرصافي (1365 هـ): الشخصية المحمدية، أو حل اللغز المقدس، ط 1 منشورات الجمل، ألمانيا 2002 م:(ص: 607 - 608).
(الإسراء وهود والبقرة) متوافق، لا نقول مع ترتيب السيوطي، بل متوافق مع ترتيب المستشرقين، وذلك في الترتيب الذي قام به " نولدكه " وأخذ به " بلاشير" في ترجمته لمعاني القرآن، ولعل في هذا مالا يحوجنا إلى رد أو مناقشة هذا الزعم، فهو محض هراء؛ لأن الحقيقة
التي لا جدال فيها أن الإسراء نزلت أولًا ثم نزلت هود ثم نزلت البقرة، وهذا النزول يتحقق به الترتيب التنازلي في التحدي، وفق ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأول.
ولكننا نود أن ندع هذا الاستقراء الناقص في الرؤيتين السابقتين لنعمد إلى تدبر ملمح آخر يتحدد في التداخل في ترتيب النزول بين آيات التحدي والترتيب التنازلي في التحدي نعتمد فيه على رؤية الآيات جميعها ونتجاوز الرؤية الانتقائية، ولعلنا لسنا بحاجة إلى إيضاح أن المقصود بالترتيب التنازلي هو الترتيب المستند على الكم المتحدَّى به من الأكثر إلى الأقل، وهذا الترتيب التنازلي كما ذكرنا له ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: التحدي بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقد جاء هذا المستوى في سورتي: الإسراء والطور.
المستوى الثاني: التحدي بأن يأتوا بعشر سور من مثله، وقد جاء في سورة هود.
المستوى الثالث: التحدي بأن يأتوا بسورة من مثله، وقد جاء في سورتي يونس والبقرة.
ووفقا للترتيب التنازلي نرى تداخلًا في ترتيب النزول؛ لأن الترتيب التنازلي يقتضي أن يكون المستوى الأول هو الأسبق في زمن النزول، ثم يتلوه المستوى الثاني، ثم يتلوه المستوى الثالث، ولكن الحقيقة أن ترتيب النزول يقول غير ذلك، فترتيب النزول للسور السابق ذكرها في مستويات التحدي هي وفق ترتيب النزول الإسراء ثم يونس ثم هود ثم الطور ثم البقرة.
ومن هنا جد بعض الباحثين في محاولة التوفيق بين هذه الآيات وتعليل أسباب النزول، أو الوقوف حيالها موقف التسليم والإذعان.
(1)
ترتيب الزركشي والسيوطي لآيات التحدي:
وقد رتبها على ترتيب النزول صاحبا البرهان والإتقان كذلك على النحو التالي:
فأولها: آية الإسراء.
وثانيها: آية يونس.
وثالثها: آية هود.
ورابعها: آية الطور "وكلها مكي".
وخامسها: آية البقرة في المدينة.
(2)
(1)
-إعجاز القرآن الكريم، د. عيد بلبع، عن موقع سياقات، بتاريخ: 2/ 4/ 2008 م.
(2)
- يُنظر: البرهان: الزركشي ج 1 ص 193، والإتقان: السيوطي ج 1 ص 27.
ويرى الزمخشري والبيضاوي والرازي وأبو حيان وابن كثير وابن عاشور والرافعي وغيرهم أن آية هود نزلت قبل آية يونس.
مشاهد التحدي بين العجز والإعجاز:
في أشد مشاهد ووقائع التحدي لأهل اللغة والفصاحة والبيان يقول تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88).
يقول ابن كثير رحمه الله:
" محمد-صلى الله عليه وسلم-بعثه الله في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله-عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا".
(1)
ويقول البغوي (ت: 516 هـ) رحمه الله
-:
"نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله تعالى فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقًا لأتوا بمثله".
(2)
ويقول أبو السعود: (ت: 982 هـ)
"قل للذين لا يعرفون جلالة قدر التنزيل ولا يفهمون فخامة شأنه الجليل، بل يزعمون أنه من كلام البشر. لئن اجتمعت الإنس والجن أي: اتفقوا. على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر; لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرهما قادر على المعارضة".
(3)
(1)
-تفسير ابن كثير (2/ 45).
(2)
تفسير البغوي (5/ 127).
(3)
- تفسير أبي السعود: (5/ 194).
ويقول ابن سعدي رحمه الله:
" وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.
ووقع كما أخبر الله، فإن دواعي أعدائه المكذبين به، متوفرة على رد ما جاء به بأي وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه.
فعلم بذلك، أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا، وعجزوا عن معارضته.
وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه، أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا، والأشجار كلها أقلام، لنفذ المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله".
(1)
ولقد مكث النبي-صلى الله عليه وسلم في مكة قرابة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله ويؤسس معالم التوحيد ويفضح ويقارع معاقل الشرك والوثنية، والقرآن المكي يتنزل عليه بآيات وسور زواجر وروادع، وهو يتلو عليهم آياته ويتحداهم بها، وبعد هجرته تتابع الوحي المدني نزولًا وتجدد تحديًا مرة أخرى فنزلت سورة البقرة المدنية يتجدد معها عهد التحدي، ونزل قوله تعالى: (وإِن كُنتم في ريْبٍ ممّا نزّلْنا على عبدِنا فأتوا بسُورةٍ من مِّثْلِه، وادعُوا شُهداءَكم مِّن دُونِ الله اِن كُنتم صادقين، فإن لَّم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتّقوا النّارَ
…
) (البقرة: 23 - 24).
يقول القرطبي: (ت: 671 هـ)
"ولن تفعلوا: أي لن تطيقوا ذلك فيما يأتي .. وفيهِ إثارة لهِمَمِهم وتحريكٌ لنفوسهم، ليكون عجزُهم بعد ذلك أبدع .. وهذا من الغيوب التي أخبر الله بها في القرآن قبل وقوعها".
(2)
"وقد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم تخرجهم أنفة التحدي وصبروا على نغص العجز مع شدة حميتهم وقوة أنفتهم وقد سفه أحلامهم وسبَّ أصنامهم ولو وجدوا إلى المعارضة سبيلاً وكان في
(1)
- تفسير السعدي: (ص: 466). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420 هـ -2000 م عدد الأجزاء: 1.
(2)
- تفسير القرطبي (1/ 32). بتصرف يسير في بعض الألفاظ.
مقدورهم داخلاً وقد جعله حجة لهم في رد رسالته لعارضوه ولما عدلوا عنه إلى بذل نفوسهم في قتاله وسفك دمائهم في محاربته".
(1)
.
عجز أهل الفصاحة عن تحدي القرآن مع توفر كامل دواعي التحدي:
لقد أيد الله تعالى خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم بالمعجزة الخالدة الباقية، ألا وهي القرآن الكريم، وحتى يقيم الله تعالى الحجة على الكافرين والمعاندين فقد أمره ربه سبحانه بتلاوة كلامه عليهم كما قال جل في علاه:(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) - (التوبة: 6).
يقول الشوكاني: (ت: 1250 هـ)
" (فَأَجِرْهُ) أي كن جارًا له مؤمِّنًا محاميًا (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) منك ويتدبره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه".
(2)
"فلولا أن سماعه آية حجة عليه، لم يقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.
هذا وهم الفصحاء اللد، وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعًا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى العناد تارة، وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا: سحر، وتارة قالوا: شعر، وتارة قالوا: أساطير الأولين. كل ذلك من التحير والانقطاع ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم، وسبي
ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم، وقد كانوا آنف شيء، وأشده حمية فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه، لأنه كان أهون عليهم.
(1)
- أعلام النبوّة الماوردي- ص 71.
(2)
- فتح القدير: (1/ 558).
قال الجاحظ "المعتزلي
":
(1)
بعث الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم-أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر، وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية، دون الجهل والحيرة،
حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة.
فكلما ازداد تحديًا لهم بها وتقريعًا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا قال: فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه، ويكايد فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض.
فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه، وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات
(1)
-الجاحظ الكناني هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري) 159 هـ-255 هـ (أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها. مختلف في أصله فمنهم من قال بأنه عربي من قبيلة كنانة ومنهم من قال بأن أصله يعود للزنج وأن جده كان مولى لرجل من بني كنانة وكان ذلك بسبب بشرته السمراء الغامقة. نقلًا عن الموسوعة الحرة" ويكيبيديا".
قال الذهبي في السير (11/ 527) عن الجاحظ: "كان ماجنًا قليل الدين، له نوادر"، وقال (11/ 528):"يظهر من شمائل الجاحظ أنه يختلق"، وقال في الميزان (3/ 247):"وكان من أئمّة البدع".
وقال ابن حزم في "الفصل"(4/ 195): "كان أحد المجّان، ومن غلب عليه الهزل، وأحد الضلاّل المضلّين، فإنّا ما رأينا في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره. كذا في لسان الميزان لابن حجر:(4/ 355).
وقد أورد البغدادي في "الفَرق بين الفِرَق"(175 - 178) والسكسكي في "البرهان في عقائد أهل الأديان"(30 - 31) كثيرًا من البدع العقديّة التي كان يعتقدها الجاحظ وأودعها في كتبه.
للاستزادة يُنظر: تعليق الشيخ مشهور حسن آل سلمان على كتاب الشيخ محمد راغب الطبّاخ-رحمه الله "ذو القرنين وسد الصين"(ص 121/ حاشية 5/ ط. غراس)
والجاحظ: يُعَدُّ من المعتزلة، وله جماعة حامت حوله سُمِّيَت بـ "الجاحظيّة.
يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور.
ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم، فمحال - أكرمك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه، وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر ".
(1)
.
وإن كان التحدي باقيًا إلى قيام الساعة، فإن العرب وهم أهل الفصاحة والبيان عجزوا مع توفر كامل دواعي التحدي.
"وعجز العرب عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها، وعنفوان قوتها والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره، وهذا ما أُجْمِلِ في القرآن، أو أُشِيِرَ إليه فيه، فصار القرآن بهذا معجزًا للإنسانية كافة".
(2)
يقول وحيد الدين خان رحمه الله: (ت: 1343 - 1344 هـ)
" إنه أغرب تحدٍ في التاريخ وأكثره إثارة للدهشة .. فلم يجرؤ احدٌ من الكُتّاب في التاريخ الإنساني - وهو بكامل عقله - أن يقدِّم تحدِّيًا مماثلًا .. فليس هناك مؤلِّف يمكنُ أن يضعَ كتابًا يستحيلُ على الآخَرين أن يكتُبوا مثلَه أو خيرًا منه .. فمن الممكن إصدارُ مثيلٍ من أي عمل إِنساني في أي مجال، ولكن حين يُدّعىَ أن هناك كلامًا ليس في إمكان البشر الإِتيان بمثله .. ثم تخفق البشرية على مدى
(1)
- يُنظر: الإتقان: (2/ 240).
(2)
- مباحث في علوم القرآن- مناع القطان- ص 274. بتصرف يسير في بعض الألفاظ
التاريخ .. في مواجهة هذا التحدي .. حينئذ يثبت تلقائيًا أنه كلام غير إنساني .. وأنها كلمات صدرت عن صميم المنبع الإلهي
(1)
، وكل ما يخرج من المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته".
(2)
عرض الأقوال الواردة في مراحل التحدي بالقرآن ومناقشتها:
"والتحدي جاء مرة بالإتيان بمثل القرآن كله، ومرة بعشر سور، ومرة بسورة، ومرة بحديث مثله. فهل جاء التحدي بالقرآن متدرجًا من الأكثر إلى الأقل أم لا؟ للعلماء في مراحل التحدي بالقرآن الكريم أقوال:
القول الأول:
وهو قول جمهور علماء التفسير والبلاغة أن التحدي كان متدرجًا بالقرآن كله كما في سورة الإسراء والطور، ثم تحداهم بعشر سور في سورة هود، ثم تحداهم بسورة في سورة يونس، ثم بسورة من مثله في سورة البقرة، ولكن هذا القول لا يساعد عليه ترتيب نزول القرآن الكريم.
القول الثاني:
رتب آيات التحدي ترتيب النزول وأنه كان متدرجًا أيضًا، إلا أن التحدي بسورة وقع قبل التحدي بعشر سور، ثم ذهب أصحاب هذا القول يعللون ذلك بتعليلات ليس فيها ما يقنع.
القول الثالث:
وهو ما أرى صوابه أن القولين السابقين قاما على تصور أن الإتيان بمثل القرآن أصعب من الإتيان بمثل عشر سور وأن الإتيان بالعشر أصعب من الإتيان بسورة وهذا غير صحيح. لأن القرآن كله قليله وكثيره على حد سواء في الإعجاز، فليس الإتيان بسورة أسهل من الإتيان بالقرآن كله
فالتحدي في القرآن بالكيف لا بالكم وبالنوع لا بالمقدار فلا يهم إذًا أن يكون التحدي بسورة جاء قبل التحدي بعشر سور أو قبل التحدي بالقرآن كله.
واستحالة المجيء بمثل سورة من القرآن كاستحالة المجيء بعشر سور، واستحالة المجيء بمثل القرآن كله على حد سواء فكل ذلك متعذر، ولذا فلا أثر للاختلاف في ترتيب آيات التحدي ما دام لا يترتب عليه أثر في قوة التحدي والعجز كان عن الإتيان بجنس القرآن لا عن مقداره.
(3)
(1)
- هذه العبارات لم يدرج عليها السلف، والصواب أن يقال القرآن كلام الله وكفى. وقد يستشف منها نفي تكلم الله بالقرآن، وأن القرآن عبارة عن كلام الله النفسي كما تقول المعتزلة والمتكلمون، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وعليه جرى التنبيه والبيان، والحمد لله. الباحث.
(2)
الإسلام يتحدى - وحيد الدين خان: (ص: 123).
(3)
- دراسات في علوم القرآن - فهد الرومي: (1/ 270).
والعجز عن الإتيان بحديث مثله هو العجز نفسه عن الإتيان بسورة منه، وهو العجز نفسه عن الإتيان بعشر سور مثله مفتريات، والجذم بترتيب آيات التحدي من الكثرة إلى القلة لا يؤثر في كون العجز عن الإتيان بسورة أو عشر سور أو بمثله كله محال، وذلك لأن التحدي قائمًا عن الإتيان بالقرآن نفسه لا عن الإتيان بمقدار منه فحسب.
عرض الأقوال الواردة في مقدار المعجز من القرآن الكريم ومناقشتها:
ومما يتصل بالحديث حديث عن القدر المعجز من القرآن الكريم، فقد وقع في هذا القدر خلافًا أيضًا على أقوال هي:
القول الأول:
أن الإعجاز متعلق بجميع القرآن لا ببعضه وهذا القول مردود بالآيات التي تتحدى بعشر سور وبسورة واحدة أو حديث مثله.
القول الثاني:
أن الإعجاز متعلق بسورة تامة طويلة أو قصيرة وهذا رأي الجمهور، وزاد بعضهم أنه يتعلق أيضًا بقدر سورة تامة
(1)
من الكلام بحيث يظهر به تفاضل قوى البلاغة، وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر ثلاث آيات فيكون مقدار هذه السورة من الآيات معجز.
القول الثالث:
أن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)(الطور: 34) والتحدي بجنس القرآن لا بالمقدار كما مر بنا بيانه، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
(2)
غير أن التحدي بكلمة لم يقع، وقد مر بنا مناقشته، والحمد لله.
وفي نحو هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ت: 725 هـ)
"وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ فِيهِ تَحَدِّي الْأُمَمِ بِالْمُعَارَضَةِ، وَالتَّحَدِّي هُوَ أَنْ يَحْدُوَهُمْ: أَيْ يَدْعُوَهُمْ فَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ، فَيُقَالُ فِيهِ: حَدَانِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ: أَيْ بَعَثَنِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ سُمِّي حَادِي الْعِيسِ؛ لِأَنَّهُ بِحِدَاهُ يَبْعَثُهَا عَلَى السَّيْرِ.
وَقَدْ يُرِيدُ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّحَدِّي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُهُ الْأَوَّلُ، قَالَ تَعَالَى: فِي سُورَةِ الطُّورِ: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)[الطور: 33].
(1)
-إعجاز القرآن: الباقلاني ص 261.
(2)
-دراسات في علوم القرآن - فهد الرومي: (1/ 272). بتصرف يسير
فَهُنَا قَال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)[الطور: 34].
فِي أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَقَوَّلَهُ كَمَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ، كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لِلنَّاسِ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَمْكَنَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَقَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود: 13].
ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[يونس: 37 - 38].
فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ هُمْ وَكُلُّ مَنِ اسْتَطَاعُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ هُمْ وَمَنِ اسْتَطَاعُوا، قَالَ:(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)[هود: 14].
كَمَا قَالَ: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ)[النساء: 166].
أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ:(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ)[يونس: 37].
أَيْ: مَا كَانَ لِأَنْ يُفْتَرَى، يَقُولُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ هَذَا. فَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ فِعْلِهِ، بَلْ نَفَى احْتِمَالَ فِعْلِهِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ، بَلْ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا يُمْكِنُ، وَلَا يُحْتَمَلُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَرَى هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَفْتَرِيهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا التَّحَدِّي كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّوَرَ مَكِّيَّةٌ؛ سُورَةَ يُونُسَ، وَهُودٍ، وَالطُّورِ.
ثُمَّ أَعَادَ التَّحَدِّي فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ فِي (الْبَقَرَةِ) وَهِيَ سُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23].
ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[البقرة: 24].
فَذَكَرَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)[البقرة: 24].
يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَخَافُوا اللَّهَ أَنْ تُكَذِّبُوهُ، فَيَحِيقُ بِكُمُ الْعَذَابُ، الَّذِي وَعَدَ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَهَذَا دُعَاءٌ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَهُوَ جِدَالُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ: (وَلَنْ تَفْعَلُوا)[البقرة: 24].
وَ (لَنْ) لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَثَبَتَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، لَا يَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كَمَا أَخْبَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي سُورَةِ (سُبْحَانَ)، وَهِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَذَكَرَ فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لِلْكَفَّارِ بِمَكَّةَ مَا يُبَيِّنُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88] فَعَمَّ بِالْخَبَرِ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُعْجِزًا لَهُمْ، قَاطِعًا بِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا التَّحَدِّي وَالدُّعَاءُ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهَذَا قَدْ سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَرَفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَعَلِمَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَا أَتَوْا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَمِنْ حِينِ بُعِثَ، وَإِلَى الْيَوْمِ، الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَلَمَّا بُعِثَ إِنَّمَا تَبِعَهُ قَلِيلٌ.
وَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِ، مُجْتَهِدِينَ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ، تَارَةً يَذْهَبُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ، حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنْهَا، كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَأَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ. وَتَارَةً يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْمَعٍ بَعْدَ مَجْمَعٍ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ، وَصَارُوا يَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ، فَيُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِمُجَرَّدِ شَبَهٍ مَا مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ. فَتَارَةً يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: سَاحِرٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: كَاهِنٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: شَاعِرٌ
…
إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُونَ - هُمْ وَكُلُّ عَاقِلٍ سَمِعَهَا - أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَ قَدْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ - مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - وَهِيَ تُبْطِلُ دَعْوَتُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا لَفَعَلُوهَا، فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الدَّاعِي التَّامِّ الْمُؤَكَّدِ إِذَا كَانَتِ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً، وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ، ثُمَّ هَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ.
فَهَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ عِلْمًا بَيِّنًا لِكُلِّ أَحَدٍ بِعَجْزِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِحِيلَةٍ، وَبِغَيْرِ حِيلَةٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُكَرَّرُ جِنْسُهَا كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِنَظِيرِهِ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَطْ، أَوْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ صَرْفِ الدَّوَاعِي عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ
سَلْبِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ
(1)
، بَلْ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مُعْجِزَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظْمِ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(1)
شيخ الإسلام لا يقول بالصرفة، بل له أقوال واضحة في نفيها نفيًا باتًا، وإنما ذكرها هنا على سبيل التَّقْدِيرِ وَالتَّنْزِيلِ فقط، فلينتبه، وسيأتي كلامه بعد قليل يؤكد ذلك، وقد ذكر الباحث ذلك في كتابيه:"منهاج المفسرين"، وفي:"جنى الخُرْفة في إبطال القول بالصرفة"، والحمد لله.
وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ، الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ الْغَيْبِ الْمَاضِي، وَعَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمَعَادِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا بَيَّنَ فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)[الإسراء: 89].
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)[الكهف: 54].
وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ مِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، هُوَ حُجَّةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ تَنَبَّهُوا لِمَا تَنَبَّهُوا لَهُ.
ويضرب شيخ الإسلام لعجزهم عن معارضة القرآن أمثلة فيقول:
وَمِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِصَرْفِ الدَّوَاعِي - مَعَ تَمَامِ الْمُوجِبِ لَهَا - أَوْ بِسَلْبِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، أَوْ بِسَلْبِهِمُ الْقُدْرَةَ الْمُعْتَادَةَ فِي مِثْلِهِ سَلْبًا عَامًّا، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا:(آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)[مريم: 10].
وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ قُلُوبَ الْأُمَمِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي التَّامِّ. فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَامْتِنَاعُهُمْ - جَمِيعُهُمْ - عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، مَعَ قِيَامِ الدَّوَاعِي الْعَظِيمَةِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ.
المثال الأول:
مِنْ أَبْلَغِ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنِّي آخُذُ أَمْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ الْعَظِيمِ، وَأَضْرِبُهُمْ جَمِيعَهُمْ، وَأُجَوِّعُهُمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يَشْكُوا إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ - مَعَ ذَلِكَ - مَنْ يَشْتَكِي، فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ.
المثال الثاني:
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ وَاحِدًا صَنَّفَ كِتَابًا يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ عَلَى تَصْنِيفٍ مِثْلِهِ، أَوْ قَالَ شِعْرًا، يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَتَحَدَّاهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ: عَارِضُونِي، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضُونِي فَأَنْتُمْ كُفَّارٌ، مَأْوَاكُمُ النَّارُ، وَدِمَاؤُكُمْ لِي حَلَالٌ، امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ أَحَدٌ. فَإِذَا لَمْ يُعَارِضُوهُ كَانَ هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ.
فَيُقَالُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ أَوْ عَاجِزِينَ.
فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ، وَلَمْ يُعَارِضُوهُ، بَلْ صَرَفَ اللَّهُ دَوَاعِي قُلُوبِهِمْ، وَمَنَعَهَا أَنْ تُرِيدَ مُعَارَضَتَهُ مَعَ هَذَا التَّحَدِّي الْعَظِيمِ، أَوْ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ قَبْلَ تَحَدِّيهِ.
المثال الثالث:
فإِنَّ سَلْبَ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ: مُعْجِزَتِي أَنَّكُمْ كُلُّكُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُعْتَادِ كَإِحْدَاثِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ - فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْخَوَارِقِ.
وَإِنْ كَانُوا عَاجِزِينَ، ثَبَتَ أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَثَبَتَ كَوْنُهُ خَارِقًا عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ; النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْعَجَائِبِ النَّاقِضَةِ لِلْعَادَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
فَهَذَا غَايَةُ التَّنَزُّلِ، وَإِلَّا فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَفْسُهُ - مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ كَلَامِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَدَبُّرٍ، كَمَا قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ.
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
وَأَيْضًا فَالنَّاسُ يَجِدُونَ دَوَاعِيَهِمْ إِلَى الْمُعَارَضَةِ حَاصِلَةً، لَكِنَّهُمْ يُحِسُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَعَارَضُوهُ.
وَقَدِ انْتَدَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِمُعَارَضَتِهِ، لَكِنْ جَاءَ بِكَلَامٍ فَضَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، مِثْلَ قُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، كَقَوْلِهِ:(يَا ضُفْدَعُ بِنْتَ ضُفْدَعِينَ، نِقِّي كَمْ تَنِقِّينَ، لَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينَ، وَلَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ، رَأْسُكِ فِي الْمَاءِ، وَذَنَبُكِ فِي الطِّينِ).
وَكَذَلِكَ - أَيْضًا - يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ قُدْرَتِهِمْ قَبْلَ سَمَاعِهِ وَبَعْدَ سَمَاعِهِ، فَلَا يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ عَاجِزِينَ عَمَّا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَدَ زَكَرِيَّا عَجْزَهُ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُ، إِنَّهُ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ النَّاسُ وَلَا يُكَذِّبُوهُ، وَكَانَ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ أَعْقَلِ النَّاسِ وَأَخْبَرِهِمْ وَأَعْرَفِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، يَنَالُ مَقْصُودَهُ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ. فَإِنَّ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ وَانْتَشَرَتْ مِلَّتُهُ هَذَا الِانْتِشَارَ، هُوَ مِنْ عُظَمَاءِ الرِّجَالِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ. فَإِقْدَامُهُ - مَعَ هَذَا الْقَصْدِ - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَأَتْبَاعُهُ قَلِيلٌ، عَلَى أَنْ يَقُولَ خَبَرًا، يَقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، لَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ،
وَلَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ جَزْمِهِ بِذَلِكَ، وَتَيَقُّنِهِ لَهُ، وَإِلَّا فَمَعَ الشَّكِّ وَالظَّنِّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ فَيَفْتَضِحَ فَيَرْجِعَ النَّاسُ عَنْ تَصْدِيقِهِ.
وَإِذَا كَانَ جَازِمًا بِذَلِكَ- مُتَيَقِّنًا لَهُ - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي الْعُلُومِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ كَلَامِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ الْعَالَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ. وَالْعِلْمُ بِهَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُعْجِزًا، فَإِنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُنَا بِذَلِكَ
خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ ثُبُوتُ الْمَعْلُومِ، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ جَهْلًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ.
(1)
استمرار التحدي بالقرآن الكريم:
"والتحدي في القرآن الكريم ليس خاصًّا بأمة دون أمة أو عصر دون عصر بل هو باق ما بقى القرآن يعلن للناس تحديه فقوله عز شأنه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ .. )(الإسراء: الآية 88) الآية. عام يشمل جميع الإنس في جميع العصور
ولأن القرآن خاتم الكتب والرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والإسلام خاتم الأديان
(2)
، فقد اقتضت الحكمة بقاء المعجزة لتكون شاهدة على كل جيل كما هي شاهدة على الجيل الأول.
ولئن عجز الجيل الأول وهم أهل الفصاحة والبلاغة وأهل البيان والبديع عن الإتيان بمثل هذا القرآن أو بعضه أو مجرد محاولة ذلك لعلمهم سلفًا بعجزهم عن ذلك فإن من بعدهم أعجز وأبعد عن الاستطاعة، فالإعجاز مستمر والتحدي قائم إلى يوم القيامة".
(3)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإعجاز
"
…
نَفْسُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ عَجِيبٌ بَدِيعٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِنَظِيرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ وَلَا الرَّجَزِ وَلَا الْخَطَابَةِ وَلَا الرَّسَائِلِ، وَلَا نَظْمُهُ نَظْمُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، وَنَفْسُ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ هَذَا عَجِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَبَسْطُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ طَوِيلٌ، يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ نَظَرٌ وَتَدَبُّرٌ.
وَنَفْسُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي بَابِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَمْرٌ عَجِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَشَرٍ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ.
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجِنِّ وَخَلْقِ آدَمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَفْسُ مَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الدِّينِ، وَالشَّرَائِعِ كَذَلِكَ، وَنَفْسُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَبَيَّنَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ هُوَ - أَيْضًا - كَذَلِكَ.
(1)
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية: (5/ 422 - 436).
(2)
- الدين عند الله واحد لا يتعدد كما قال ربنا: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)(آل عمران: 19)، والصواب أن يقال: وشريعته خاتمة الشرائع، أو يقال: الإسلام خاتم الشرائع، على أن المقصود بالإسلام ما شرعه الله للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وليس الإسلام بمفهومه العام، ألا وهو الدين الذي ارتضاه الله لنفسه وبعث به جميع رسله. الباحث.
(3)
- دراسات في علوم القرآن - فهد الرومي: (1/ 272).
وَمَنْ تَدَبَّرَ مَا صَنَّفَهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ فِي الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَجَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ - التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ - وَجَدَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ وَنَظْمِهِمْ.
فَالْإِعْجَازُ فِي مَعْنَاهُ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنَ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ، وَجَمِيعُ عُقَلَاءِ الْأُمَمِ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَعَانِيهِ أَعْظَمَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ. وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ، لَا يُقْدَحُ فِي الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ تِلْكَ كُتُبُ اللَّهِ - أَيْضًا - وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْتِيَ نَبِيٌّ بِنَظِيرِ آيَةِ نَبِيٍّ، كَمَا أَتَى الْمَسِيحُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقَدْ وَقَعَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ غَيْرِهِ؛ فَكَيْفَ وَلَيْسَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُمَاثِلًا لِمَعَانِي الْقُرْآنِ؛ لَا فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَلَا الْكَمِّيَّةِ، بَلْ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ لِكُلِّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ الْكُتُبَ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَنْ ظَهَرَتْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، ظَهَرَ لَهُ إِعْجَازُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ اكْتَفَى بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَظْهَرُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ كَعَجْزِ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ تَحَدِّي النَّبِيِّ، وَإِخْبَارِهِ بِعَجْزِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ مِنْ جِنْسِ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ، فِيهَا الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ; كَالْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ; مِثْلِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالسَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ مِثْلُ دَقَائِقِ التَّشْرِيحِ وَمَقَادِيرِ الْكَوَاكِبِ وَحَرَكَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَالْإِقْرَارِ بِرُسُلِهِ، وَمَا اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يَجُودُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ جُودًا عَامًّا مُيَسَّرًا.
فَلَمَّا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى النَّفْسِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَحَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْأَكْلِ، كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَاءَ بِالْهَوَاءِ جُودًا عَامًّا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ لِضَرُورَةِ الْحَيَوَانِ إِلَيْهِ، ثُمَّ الْمَاءُ دُونَهُ، وَلَكِنَّهُ يُوجَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ الْقُوتُ وَأَيْسَرَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَشَدُّ.
فَكَذَلِكَ دَلَائِلُ الرُّبُوبِيَّةِ، حَاجَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهَا فِي دِينِهِمْ أَشَدُّ الْحَاجَاتِ، ثُمَّ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ; فَلِهَذَا يَسَّرَهَا اللَّهُ وَسَهَّلَهَا أَكْثَرَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَامَّةُ، مِثْلُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَاخْتِلَافِهَا، وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ أَوْ
فَنَائِهَا، وَثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَوِ انْتِفَائِهِ، وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَفَوَاتِ الْحَجِّ وَفَسَادِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
(1)
"فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول-صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وبينه للناس وهو من أعظم ما أقام الله الحجة على عباده فيه بالرسل الذين
(1)
-الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: (5/ 434 - 436).
بينوه وبلغوه وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول-صلى الله عليه وسلم لفظه ومعانيه والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضًا عن الرسول-صلى الله عليه وسلم مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب، والحمد لله الذي بعث فينا رسولًا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينًا الذي أنزل الكتاب تفصيلًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).
(1)
وجوه إعجاز القرآن الكريم:
يقول القرطبي-رحمه الله في تفسيره: ووجوه إعجاز القرآن عَشْرَةٌ:
الوجه الأول: النَّظْمُ الْبَدِيعُ الْمُخَالِفُ لِكُلِّ نَظْمٍ مَعْهُودٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَفِي غَيْرِهَا
…
الوجه الثاني: الْأُسْلُوبُ الْمُخَالِفُ لِجَمِيعِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ.
الوجه الثالث: الْجَزَالَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ مِنْ مَخْلُوقٍ بِحَالٍ
…
الوجه الرابع: التَّصَرُّفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَرَبِيٌّ، حَتَّى يَقَعَ مِنْهُمُ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِ فِي وَضْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وَحَرْفٍ مَوْضِعَهُ.
الوجه الخامس: الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في أول الدنيا إلى وقت نزوله مِنْ أُمِّيٍّ مَا كَانَ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ، فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهَا، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ فِي دَهْرِهَا، وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ أَهْلُ الكتاب عنه، وتحدوه به من قصص أَهْلِ الْكَهْفِ، وَشَأْنِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عليهما السلام، وَحَالِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَجَاءَهُمْ وَهُوَ أُمِّيٌّ مِنْ أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، لَيْسَ لَهَا بِذَلِكَ عِلْمٌ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ صِحَّتَهُ، فَتَحَقَّقُوا صِدْقَهُ
…
الوجه السادس: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، المدرَك بالحسن فِي الْعَيَانِ، فِي كُلِّ مَا وَعَدَ اللَّهُ سبحان، وَيَنْقَسِمُ: إِلَى أَخْبَارِهِ الْمُطْلَقَةِ، كَوَعْدِهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عليه السلام، وَإِخْرَاجِ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُ مَنْ وَطَنِهِ. وإلى مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، كَقَوْلِهِ:) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق من آية: 3)
…
و (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن من آية: 3)
…
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)(الطلاق من آية: 2) وَ (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(الأنفال من آية: 65)، وَشِبْهُ ذَلِكَ.
الوجه السابع: الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، فمن ذلك:
(1)
- درء تعارض العقل والنقل: (27/ 1).
مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عليه السلام أَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(الصف: 9). فَفَعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(النور: 55) وَقَالَ: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ). (الفتح من آية: 27) وَقَالَ: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(الأنفال من آية: 7) وَقَالَ: (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(الروم: 1 - 3). فَهَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَقِفُ عَلَيْهَا إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَنْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَفَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ.
الوجه الثامن: مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ جَمِيعِ الْأَنَامِ، فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ.
الوجه التاسع: الْحِكَمُ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَصْدُرَ فِي كَثْرَتِهَا وَشَرَفِهَا مِنْ آدَمِيٍّ.
الوجه العاشر: التَّنَاسُبُ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(النساء: 82). قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
(1)
، وكلام القرطبي رحمه الله آنفًا ورد بصيغ مختلفة في اللفظ، ولكنها متقاربة ومتجانسة في المعنى والفحوى.
وبشيء من بعض البيان في قول القرطبي بأن وجوه إعجاز القرآن عشرة، نقول:
الوجه الأول: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها؛ لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه:
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)(يس: 69).
وفي صحيح مسلم أن أُنيسًا أخا أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال لأبي ذرٍّ: لقيت رجلاً بمكَّةَ على دِينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعرٌ، كاهنٌ، ساحرٌ، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكَهَنَةِ، فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادقٌ وإنهم لكاذبون
(2)
.
(1)
- يُنظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 116 - 119) ط: الرسالة.
(2)
-صحيح مسلم (2473) وعنده: فما يلتئم، وهو في مسند أحمد (21525).
وكذلك أقرَّ عُتبة بن ربيعة أنه ليس بسِحر ولا بشِعر، لما قرأ عليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم:"حم" فُصلت،
(1)
، فإذا اعترف عُتبة - على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة - بأنه ما سَمِعَ مثل القرآن قَطُّ، كان في هذا القول مُقِرًّا بإعجاز القرآن له، ولضربائه من المتحقِّقين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ولاشك في أن الله تحداهم بالقرآن بأبلغ عبارة وأشد أسلوب في التحدي ليحفز هِممهم ويوخز ضمائر نفوسهم ليأخذوا أُهبتهم واستعدادهم ويجلبوا على ذلك بخيلهم ورجلهم، ولاشك في توافر دواعي أدوات وأسلحة التحدي لديهم بكل ما يقتضيهم أن ينازلوا به، من فصاحة لغة، وقوة وروعة بيان، مع طلاقة لسان، فعجزوا في أن يأتوا بمثله، أو بعشر سورة من مثله، أو بسورة من مثله، ولا ريب في أنهم انتفى عنهم كل ما يَمنعهم من هذا التحدي او معارضته من كل جهة، لفظية كانت أو معنوية أو حتى زمنية؛ هذا كله مع أن القرآن نزل بلغتهم وفيهم علماء من أهل الكتاب، وقد أنزله الله مُفرَّقًا ومنجمًا في ثلاث وعشرين سنة، وقد أمهلهم الله بذلك ليمكنهم من تحديه، ولكنهم عجزوا، ومع هذا كله لم يحاولوا، ولم يمكنهم أن يأتوا بمثله، بل لم يستطيعوا معارضته،
ولو أمكنهم المجيء بمثله، لنصروا آلهتهم، وأبطلوا حُجة من جاء بالقرآن، ففرق جمعهم، وخالف بين كلمتهم، وعاب آلهتهم وسفَّه أحلامهم، ولكَفَوا أنفسهم وعشيرتهم وأهليهم ويلات حربه وقتاله ونزاله طيلة بقائه ومكثه فيهم.
ولكنهم بدلوا المعارضة والتحدي بالتكذيب والعداوة والحقد بل وبالمحاربة والمقاتلة، وهذا كله استسلام منهم واعترافٌ بعجزهم عن محاجته معارضته، وتسليم منهم بأن هذا فوق قدرة البشر، وبرهان على أنه من عند الله، شاءوا ذلك أم أبوا، ولو تغايرت أساليب ومفاهيم العجز والاعتراف بأن القرآن كلام الله لا كلام البشر ..
الوجه الثاني: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. والتي منها الشعر والنثر والسجع، وما ورد فيها من أساليب، هذا مع ما أُتوا من فصاحة وبلاغة، وقوة تعبير، وسحر بيان، ولقد كانت أسواقهم ونواديهم ومجالسهم ميادينَ للتنافس بين فصحائهم وبلغائهم في الخطابة والحماسة والشعر وضرْب الأمثال. والقرآن ليس كذلك أبدًا.
وبهذا الأسلوب المغاير لأساليبهم وأفانينهم وقوتهم في البلاغة والفصاحة أعجزهم الله في أبين مظاهر قوَّتهم، فأقحمهم وهزمهم في أعز وأقوى ميادينهم التي صالوا وجالوا فيها فصاحة وبلاغة،
(1)
- أخرج قصة عتبة بن ربيعة ابن إسحاق فيما ذكر ابن هشام (1/ 293 - 294) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 204 - 205). حديث رقم: (536)، الاعتقاد إلى سبيل الرشاد للبيهقي: حديث رقم: (262). والأثر: إسناده ضعيف لأن به موضع إرسال، وفيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي وهو ضعيف الحديث.
شعرًا ونثرًا، خطابة وحماسة، وأقنعهم بما لا سبيل لهم إلى مجادلته ومحاجته، وأقام لهم برهانًا هم أقدر الناس على فهمه وإدراك معانيه، والاستسلام لسلطانه، والانقياد والإذعان لما ورد فيه.
وبذلك قد أقام الله كتابه على صدق رسالة نبيه الأمي المؤيد بالوحي من الله، والصادق في دعواه أنه رسول من عند الله- صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (ق: 1)، إلى آخرها، وقوله سبحانه:(وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الزمر: 67)، إلى آخر السورة، وكذلك قوله سبحانه:(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(إبراهيم: 42)، إلى آخر السورة.
قال ابن الحصار القرطبي المالكي
(1)
:
فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول:(لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)(غافر: 16)، ولا أن يقول:(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء)(الرعد: 13).
يتابع ابن الحصار ويقول:
وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمةٌ كلَّ سورة، بل هي لازمةٌ كلَّ آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز،
ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن ينضافَ إليها أمرٌ آخر من الوجوه العشر، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قِصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبارَ عن مُغَيَّبَين:
أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمه، وسعته، وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرُّسُل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قوله الحق:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا)(المدثر: 11 - 14)، ثم أهلكَ الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله.
الوجه الرابع: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقلُّ به عربيٌّ، حتى يقعَ منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
(1)
-عبدالرحمن بن أحمد بن سعيد، أبو المطرِّف، القرطبي المالكي، تفقه بأبي عمر الإشبيلي، توفي سنة 422 هـ، سيرة أعلام النبلاء (17/ 473).
الوجه الخامس: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزولِه من أمِّيٍّ ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم - وهو أُميٌّ من أمَّةٍ أُمِّيَّة، ليس لها بذلك علم - بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صدقه.
قال الباقلاني (ت: 430 هـ) رحمه الله
-:
(1)
ونحن نعلم ضرورة أنَّ هذا مما لا سبيلَ إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفًا أنه لم يكن ملابسًا لأهلِ الآثار، وحَمَلَةِ الأخبار، ولا مترددًا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقعَ إليه كتاب فيأخذ منه، عُلِمَ أنه لا يصِلُ إلى علمِ ذلك إلا بتأييد من جهة الوَحي.
الوجه السادس: الوفاء بالوعد، المدرك بالحسن في العِيان، في كلِّ ما وعدَ الله سبحان، وينقسم إلى:
أخباره المطلقة: كوعده بنصر رسوله-عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه.
وإلى مقيد بشرط: كقوله: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: 3)(وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(التغابن: 11)(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)(الطلاق: 2) و (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ)(الأنفال: 65) وشبه ذلك.
الوجه السابع: الإخبار عن المُغَيَّبات في المستقبل التي لا يُطَّلَعُ عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سَيُظهِرُ دينه على الأديان بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)(التوبة: 23)، الآية، ففعل ذلك، وكان أبو بكر-رضي الله عنه إذا أغزَى جيوشه عرَّفَهم ما وعدهم الله في إظهار دينه، ليَثِقُوا بالنصر، وليَسْتَيقِنوا بالنُّجْح، وكان عمر
يفعل ذلك
(2)
. فلم يزل الفتح يتوالى شرقًا وغربًا، برًا وبحرًا، قال الله تعالى:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)(النور: 55) وقال: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ)(الفتح: 27) وقال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)(الأنفال: 7) وقال: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(الروم: 1 - 3).
(1)
- في إعجاز القرآن، (ص: 51).
(2)
- من قوله: فمن ذلك ما وعد الله نبيه، إلى هذا الموضع، من إعجاز القرآن للباقلاني، (ص: 48).
فهذه كلُّها أخبار عن الغيوب التي لا يَقِفُ عليها إلا ربُّ العالمين، أو من أوقفه عليها ربُّ العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكونَ دلالة على صدقه.
الوجه الثامن: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قِوامُ جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام.
الوجه التاسع: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدميّ.
الوجه العاشر: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرًا وباطنًا من غير اختلاف، قال الله تعالى:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(النساء: 82).
قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم)).
(1)
(2)
.
وقد انتفت لديهم جميع الموانع الحسية والمعنوية من أن يأتوا بمثل كلام الله، نزل القرآن بلغتهم، وحروفه وكلماته وآياته وسوره مكونة من حروف لغتهم التي تتكون منها كلماتهم وألفاظهم، وأساليب القرآن إنما وردت على نفس نظم وطريقة أساليبهم، وهم ملوك البلاغة والفصاحة والبيان، شعرًا ونثرًا، وهم أساطين فنون البلاغة وصنوفها والفصاحة كلها، وهم فرسان الحكمة والأمثال، وهم مع ذلك كله أهل حنكة ودربة وتجارب، وفيهم كهنة وسحرة وُّرهبان من أهل الكتاب، وقد دعاهم الله في هذا التحدي أن يجتمعوا على ذلك ويستعينوا بمن شاءوا أن يستعينوا به؛ ليتموا عجزهم، ويُكملوا نقصهم، ويتأهبوا عدتهم لذلك، فعجزوا، وهم كما وصفهم الله سبحانه بقوله:(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة: 32).
وعلى كل حال فإنه لا يستطيع بشر مهما أُوتي من علم وفهم وبلاغة وفصاحة أن يحصي وجوه إعجاز القرآن كلها؛ لأن وجوه إعجاز القرآن لا يمكن أن يحصيها إلا من تكلم به، وليس بمقدور بشر أن يحيط علمًا بكلام الله الذي أنزله، وليس بمقدوره كذلك أن يحيط علمُهُ بما أحاط اللهُ به علمًا.
وإنما غاية إدراكه واستطاعته أن يعدد ما بينه الله وأظهره في كتابه من جوه الإعجاز البلاغية واللفظية والعلمية والتشريعية ونحو ذلك مما بينه الله في كتابه.
هذا مع العلم بأن إعجاز القرآن ليس بمحصور في تقرير حقائق علمية، ما كان لأحد من الخلق علمٌ بها قط، ولا من ناحية ما قَصه الله عن الأُمم الغابرة، وصراع الرسل مع المعاندين والمكذبين لدعوتهم فحسب، ولا من ناحية فصاحة ألفاظ القرآن وبلاغة أساليبه وبراعة بيانه، ولا من ناحية
(1)
- الجامع لأحكام القرآن (1/ 116 - 119) ط: الرسالة
(2)
يُنظر: موقع روائع المتون العلمية، د. عبد الله بن سفيان الحكمي. بتصرف
اتِّساق أوجه تشريعاته وتناسق أحكامه، ولا من جهة مناسبتها لأحوال البشر، ولا من جهة كونها صالحة لكل زمان ومكان، وإنما إعجازه جاء من كل وجه وشمل كل جوانب الإعجاز ونواحيه، وكلما زاد تثور القرآن ومدارسته وتدبر آياته، كلما ظهرت وتجلَّت أوجه إعجازه، وكلما أعمل الإنسان عقله وأنصفه نفسه من نفسه ورفع الغشاوة عن قلبه، أبصر بنور البصيرة حقيقة العجز والتسليم بأن القرآن ليس بكلام البشر، بل هو:(تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(فصلت من آية: 42)، وأن الذي - نطَق به لسان النبي الأمي-صلى الله عليه وسلم الذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق تعليمًا، ازداد بذلك يقينًا بأن القرآن كلام الله حقًا، وأن أوجه إعجازه فوق طاقة البشر قاطبة ولو اجتمعوا على ذلك صدقًا.
فمن أين لهذا النبي الأُمِّي أن يأتي بأخبار الأمم السابقة وبالأخبار اللاحقة الصادقة، ويخبر عما سيقع، ويخبر عن مراحل تكوين الجنين في بطن أُمه، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، مع ما حواه من
أخبار ملكوت الله في العالم العلوي والسفلي وما تضمنه من إعجازات وحقائق علمية لم يتمكن البشر للوصول إلى بعض منها إلا بعد قرون من نزول القرآن وبوسائل حديثة لم تتوفر ولم تتواجد إلا بعد مضي قرون طويلة من نزول القرآن، كمراحل تكوين الجنين في بطن أُمه، وما في نحوها كما أسلفنا.
من أين له هذا كله وقد نشأ في بيئة أمية، وقد أخبر عن أمم هلكت وبادت عن بكرة أبيها، فأين درس تأريخهم؟، ومن أين تلقى قصصهم؟، ومن أين عرف أخبارهم، فهم قد هلكوا وبادوا وبادت معهم آثارهم، أليس في هذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أنه مبلَّغ عن ربه الحكيم العليم، وإلى هذا الوجه من وجوه الإِعجاز وأمثاله قال الله - سبحانه:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49).
وكما وصف الله تعالى كتابه الكريم بعظيم القدر، وعلو المنزلة، ورفعة المكانة،
و كل هذه الأوصاف دالة على أن الله قد تولى حفظه من أن يزاد فيه أو ينقص منه، لأن هذه الأوصاف لا يمكن اكتمالها إلا بحفظ الله لكتابه على الدوام.
كما قال ربنا في صدر سورة الزخرف: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(الزخرف: 1 - 3)
يقول ابن كثير رحمه الله
-:
"قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى:(وإنه) أي: القرآن (فِي أُمِّ الْكِتَابِ) أي: اللوح المحفوظ، قاله
ابن عباس، ومجاهد، (لدينا) أي: عندنا، قاله قتادة وغير، (لَعَلِيٌّ) أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة:(حكيم)
أي: محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال:
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الواقعة: 77 - 80). وقال: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ)(عبس: 11 - 16) ".
(1)
قد مر معنا آنفًا بيان قول القرطبي في أوجه الإعجاز العشرة، والحقيقة أنه يصعب جدًا حصرها، لكنه ذكر أبرزها وأبينها.
غير أن المعتزلة ومن سلك سبيلهم واقتفى آثارهم من بعض متقدمي الأشاعرة وغيرهم أيضًا قد أضافوا وجهًا آخر للإعجاز، ظنوه من الإعجاز وما هو من الإعجاز في شيء، وإنهم بقولهم هذا قد زعموا أن إعجاز القرآن أمرًا خارجًا عنه وليس إعجازًا ذاتيًا فيه، ولا شك أبدًا في بطلان قولهم
جملة وتفصيلًا، ولقد ناقشه أهل العلم وفندوه وردوه ودحضوا شبهته ونسفوه بمنجنيق الأدلة ألا وهو "القول بالصَّرْفة".
وبما أن الكلام هنا عن الإعجاز والتحدي فإن مما يَجدُر بنا بحثه ومدارسته ومناقشته ها هنا بشيء من الإيضاح والتفصيل أيضًا-"القول بالصَّرْفة"-، ذلك على أن القائلين به يعدونه وجهًا عظيمًا من وجوه الإعجاز.
تمهيد في وقفة مع مناقشة القول بالصَّرْفة
البشر عجزوا ما استطاعوا أن يعارضوا هذا القرآن، ولكن هذا العجز ليس كما يقول المعتزلة إن الله صرفهم عن معارضته، وهذه عقيدة مشهورة قال بها المعتزلة يقال لها "الصَّرْفة"، يقولون إن الله عز وجل صرف الناس عن معارضة القرآن فعجزوا، صرف هممهم ودواعيهم فما استطاعوا، لأنه سبحانه صرفهم فزعموا أن الإعجاز إنما هو أن الله صرفهم لا أن القرآن معجز بنفسه.
ولهذا قد اشتغل علماء السنة منذ أن ظهرت هذه البدعة وهذه العقيدة الفاسدة الباطلة بالرد عليها، لأن عقيدة الصَّرْفة عقيدة باطلة ونحن نقول كما قال أهل السنة القرآن لفظًا ومعنى هو دليل الإعجاز وهو دليل التحدي.
فالقول بهذه العقيدة، عقيدة:"الصَّرْفة" يعني أن القرآن في ذاته ليس فيه فضيلة في الامتياز ليس فيه فضيلة في التفوق، ولا شك أن هذا باطل بنصوص القرآن، لأن الله عز وجل أخبر في القرآن وفي
(1)
- تفسير القرآن العظيم (7/ 218
نصوص كثيرة منه أنه تحدى العرب أن يأتوا بمثله ثم بإجماع الأمة على أن الإعجاز ذاتيٌ في القرآن غير منفك عنه بإجماعهم، لا كما تقول المعتزلة أن الإعجاز إنما هو في الصَّرْفة أي أن الله صرفهم فعجزوا، لا أن القرآن معجز بنفسه، إنما جعلوا الإعجاز في قدرة الله، فرجعت إلى صفة القدرة التي هي: أن الله بقدرته صرفهم فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهذا من أبطل الباطل ترده النصوص الكثيرة.
(1)
ولا شك في أن القول بالصَّرْفة قولٌ باطلٌ وفاسدٌ، ويرد هذا القول الفاسد التحدي الوارد في غير ما موضع من كتاب الله ولاسيما قوله تعالى:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)) (الإسراء: 88).
يقول الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله
-:
" يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ قَالُوا لَكَ: إِنَّا نَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، لَا يَأْتُونَ أَبَدًا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَوْنًا وَظَهْرًا. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ جَادَلُوهُ فِي الْقُرْآنِ،
وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرِهِ شَاهِدَةٍ لَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِهِمْ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ".
(2)
ولاشك في دلالة الآية على أن عجزهم قائم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا تلك القدرة لم يبق هناك أي فائدة لاجتماعهم.
ول
مناقشة القول بالصَّرْفة
لابد من بيان وإيضاح مسائل ومباحث هامة من أبينها ما يلي:
أولًا: مفهوم الصَّرْفة في اللغة والاصطلاح
أ- مفهوم الصَّرْفة في اللغة
فمن المناسب بمكان بيان معنى ومفهوم الصَّرْفة في اللغة ودلالتها.
الصَّرْفة لغة: على وزن فَعلَة، بفتح الفاء واللام وسكون العين- رد الشيء عن وجهه، يقال: صرفه يصرفه، صرفًا، فانصرف، وصارف نفسه عن الشيء: صرفها عنه، قال تعالى:(وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ)(التوبة: 127)
(1)
- يُنظر: موقع ميرا ث الأنبياء، عرفات بن حسن المحمدي، بتاريخ: 15/ 9/ 2016 م. بتصرف.
(2)
- تفسير الطبري: (15/ 75).
فقوله: - (ثم انصرفوا
…
) أي: رجعوا عن المكان الذي استمعوا منه، وقيل: - انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا، وقوله تعالى: - (صرف الله قلوبهم .. ) أي: - أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وصرفت الرجل عني فانصرف).
(1)
أي: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين
(2)
.
ويأتي الصرف بمعاني أخرى كالتوبة والتطوع والقيمة والعدل والمثل والميل والنافلة
(3)
.
فـ" أصلُ الصرفةِ من الفعلِ صرفَ، والصرفُ لغة هو ردُّ الشيءِ عن وجهِه".
(4)
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: (ت: 170 هـ)
"الصَّرْفُ فَضْلُ الدَّرْهَم في القيمة وجَوْدةُ الفِضَّة وبيع الذَّهَبِ بالفضَّةِ ومنه الصَّيْرَفِيُّ لتَصريفه أحدهما بالآخَر".
(5)
.
وقال الراغب الأصفهاني:
" الصَّرْفُ: ردّ الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره، يقال: صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ. قال تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)[آل عمران: 152]، وقال تعالى:(أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ)(هود: 8)، وقوله:(ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(التوبة: 127)، فيجوز أن يكون دعاء عليهم، وأن يكون ذلك إشارة إلى ما فعله بهم، وقوله تعالى:(فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)(الفرقان: 19)، أي: لا يقدرون أن يَصْرِفُوا عن أنفسهم العذاب، أو أن يصرفوا أنفسهم عن النّار. وقيل: أن يصرفوا الأمر من حالة إلى حالة في التّغيير، ومنه قول العرب:(لا يُقبل منه صَرْفٌ ولا عدلٌ)، وقوله تعالى:(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِ)[الأحقاف: 29]، أي: أقبلنا بهم إليك وإلى الاستماع منك، والتَّصْرِيفُ كالصّرف إلّا في التّكثير، وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة، ومن أمر إلى أمر. وتَصْرِيفُ الرّياح هو صرفها من حال إلى حال.
(6)
.
(1)
- لسان العرب - مادة صرف - لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: 711 هـ) - دار صادر - بيروت 1955 م.
(2)
- يُنظر: تفسير الطبري: (12/ 94).
(3)
- المرجع السابق: مادة (صرف).
(4)
- المرجع السابق: مادة (صرف).
(5)
- الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، دار ومكتبة الهلال، (بدون ذكر الطبعة وسنة النشر)، ت: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، (ج 7/ ص 109).
(6)
- الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب، المفردات، دار القلم، الدار الشامية - دمشق- بيروت، (ط: الأولى - 1412 هـ)، ت: صفوان عدنان الداودي، (ج 1/ ص 482).
ويقول ابن فارس (ت: 395 هـ) في معجم مقاييس اللغة:
" صرف الصاد والراء والفاء معظم بابه يدل على رجع الشيء، من ذلك صرفت القوم صرفًا وانصرفوا اذا رجعتهم فرجعوا".
(1)
وقيل إن الصَّرْفة:
"هي كوكب نير، وسمي هذا الكوكب بالصَّرْفَة لانصراف الحر عند طلوعه مع الفجر من المشرق وانصراف البرد إذا غرب مع الشمس، ويقال الصَّرْفَة ناب الدهر لأنها تفتر عن فصل الزمانين".
(2)
.
قال ابن قتيبة الدينوري: (ت: 276 هـ)
(3)
"وسميت الصَّرْفَة لانصراف البرد و إقبال الحر
(4)
وقد جعلها العرب في أسجاعهم، كقولهم: إذا طَلِعَت الصَّرْفة بكرت الخُرْفة وكثرت الطُّرْفة وهانت للضيف الكُلْفَة
(5)
وكقولهم أيضًا إذا
طَلِعَت الصَّرْفَة احتَالَ كلُّ ذي حِرْفَة وقيل اخْتَالَ كلُّ ذِي خُرْفَة وجَفَرَ كلُّ ذي نُطْفَة وامْتِيزَ عن المياه زُلْفَة
(6)
.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ:
الصَّرْفَةُ نابُ الدَّهْرِ لأَنها تفْتَرُّ عَنِ الْبَرْدِ أَو عَنِ الحَرّ فِي الْحَالَتَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ كُناسةَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الْبَرْدِ وَإِقْبَالِ الْحَرِّ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ أَن يُقَالَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الحرِّ وَإِقْبَالِ الْبَرْدِ. والصَّرْفةُ: خرَزةٌ من الخرَز التي تُذْكر فِي الأُخَذِ
(7)
، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ
(8)
: يُسْتَعْطَفُ بِهَا الرِّجَالُ يُصْرَفون بِهَا عَنْ مَذاهِبهم وَوُجُوهِهِمْ.
(1)
- معجم مقاييس اللغة: (3/ 3 جل جلاله 2).
(2)
- القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نشر: دار الفكر - دمشق،
(الطبعة الأولى، 1987 م) تحقيق: د. يوسف علي طويل (ج 2، ص 177).
(3)
-هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد: من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين. ولد ببغداد سنة 213 هـ - 828 م، وسكن الكوفة. ثم ولي قضاء الدينور مدة، فنسب إليها. وتوفي ببغداد سنة 276 هـ -889 م. من كتبه: تأويل مختلف الحديث، والشعر والشعراء، وغيرهما كثيرة. ينظر: الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفى: 1396 هـ)، الجزء الرابع، ص: 137، دار العلم للملايين، ط: 15، 2002 م.
(4)
- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أدب الكتّاب، (ج 1، ص 20).
(5)
- المزهر: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، (الطبعة الأولى، 1998) تحقيق: فؤاد علي منصور، (ج 2، ص 446).
(6)
- ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، دار إحياء التراث العربي - بيروت - 1417 هـ 1996 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: خليل إبراهيم جفال، (ج 2، ص 369).
(7)
- ابن منظور، لسان العرب، (ج 9، ص 189).
(8)
- ابن سيده، المخصص، (ج 1، ص 375).
والخلاصة مما جاء أنفًا من معاني يعود إلى معنى التبدل والتحول وانتقال شيء إلى شيء، أو من حال إلى حال.
(1)
.
ب- مفهوم الصَّرْفة اصطلاحًا
وبعد بيان مفهوم الصَّرْفَة في اللغة وبيان مدلولاتها، فمن المناسب كذلك بيان معناها في الاصطلاح ليكتمل معناها ويتضح فحواها ومبناها.
والصَّرْفة في الاصطلاح تعني:
1 -
أن الله صرف همم العرب عن معارضة القرآن، وسلب عقولهم عنها، وكانت في مقدورهم، لكن عاقهم عنها أمر خارجي، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك لجاءوا بمثله.
(2)
2 -
وقيل تعني: صرف الهمم عن المعارضة
(3)
.
3 -
وقيل تعني: صرف اللهِ هممَ العرب عن معارضة القرآن
(4)
.
وهي كلها بمعنى واحد ألا وهو أن الصَّرْفة تعني:
أن معارضة العرب للقرآن كانت ممكنة وهي بمقدورهم، غير إن الله تعالى صرف همم عنها بقدرته.
ولا شك أن القول بالصَّرْفة كلام فاسد وباطل كما أسلفنا، ويلزم منه أن القرآن الكريم ليس بمعجز في حد ذاته، وسيأتي معنا بيان ذلك في محل بحثه بشيء من زيادة التفصيل والإيضاح والبيان.
ثانيًا: ما هو المقصود بالصَّرْفة
؟
أ- بيان معنى الصَّرْفة عند القائلين بها
والصَّرْفة لها عند أصحابها معنيان:
المعنى الأول: أنَّ الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتِهم عليها فكانَ هذا الصرفُ خارِقًا للعادة.
(1)
- يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة:(ص: 10).
(2)
البرهان في علوم القرآن - لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - الطبعة الأولى - دار إحياء الكتب العربية، مصر 51376 - 1957 م، ج 2/ ص 93
…
، ويُنظر: الاتقان في علوم القرآن - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 للهجرة) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ-1985 م
…
ج 2/ ص 118.
(3)
- النكت في إعجاز القرآن، الرماني، علي بن عيسى، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة:(ص 110).
(4)
- المرجع السابق (ص 23).
المعنى الثاني: أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجُ إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن".
(1)
وفي نحو ذلك يقول ابن سنان الخفاجي الشيعي الرافضي: (ت: 466 هـ)
" إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن
سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك".
(2)
وبشيء من الإيضاح والبيان نبين المقصود بالصَّرْفة والتي تدور مادتها حول إثبات التحدي بالقرآن بالحيلولة بينه وبين العرب في أن يأتوا بمثله.
وفي بيان معنى هذا الوجه من بالصَّرْفة يقول الرّماني: (ت: 384 هـ)
"أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول
…
".
(3)
ب- المقاصد الثلاثة للقائلين بالصَّرْفة بشيء من التفصيل
وقد اختلف القائلون بالصَّرْفة في بيان حقيقة ما يقصدونه بها، فقالوا: إن الله سبحانه لأجل اثبات التحدي، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم، وبين الاتيان بمثل القرآن بأحد الأمور الثلاثة التالية:
المقصد الأول: صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة، فكلما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفًا ودافعًا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة، ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم
عن الانصداع لهذا الأمر، بل إن المقتضى فيهم كان تامًا، غير أن الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الالتفات لهذا الأمر، بصرف الله قلوبهم عنه، ولولا ذلك لأتوا بمثله.
المقصد الثاني: إن الله سبحانه سلبهم العلوم التي كانت العرب مالكة لها ومتجهزة بها، وكانت كافية للإتيان بما يشاكل القرآن، ولولا هذا السلب لأتوا بمثله ..
وممن تبنى هذا القول الشريف المرتضى الشيعي الرافضي (ت: 463 هـ)
(1)
- مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص 261.
(2)
- سر الفصاحة: (ص: 100).
(3)
النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: (ص: 110).
وهو المتهم بوضع كتاب (نهج البلاغة) المنسوب لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث يقول:" الله تعالى سلبهُمُ العلومَ التي يُحتاجُ إليها في مُعارضَةِ القرآنِ والإتيانِ بمثلِهِ".
(1)
وقد تابع الشريف المرتضي على هذا القول ابنُ سنان الخفاجي الشيعي الرافضي: (ت: 466 هـ) وقد مر معنا آنفًا قوله في الصَّرْفة.
المقصد الثالث: إنهم كانوا قادرين على المعارضة، ومجهزين بالعلوم اللازمة لها، ولكن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسر من المعارضة، مع كونهم قادرين، فتقهقروا في حلبة المعارضة، لغلبة القوة الإلهية على قواهم.
(2)
وسنبين أن الصَّرْفة بكل صورها غير مقبولة، لأنها تسلب الاعجاز الذاتي للقرآن، وأنها وِهمُ ذهب إليه خيال القائلين بها دون سند أو دليل.
وفي نحو ما سبق يجمل القرطبي رحمه الله القول فيقول:
" إن بعض أصحاب الصَّرْفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه، وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقًا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار".
(3)
ثالثًا: مصدر القول بالصَّرْفة
أ- المصدر الأول لفكرة القول بالصَّرْفة
لقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على أن القرآن معجز بذاته، وأن إعجازه بذاته لا بسبب خارج عنه، وقد بذلوا مهجهم في بيان أوجه إعجازه.
ومن ذهب إلى القول بالصَّرْفة أراد بذلك أن " إعجاز القرآن أمرًا خارجًا عنه ".
(1)
-المعجزة الكبرى القرآن، لمحمد أبو زهرة ص 79.
(2)
- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز - ليحيى بن حمزة الحسيني اليمني الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (المتوفى: 745 هـ) - طبع في مصر في ثلاثة أجزاء، طبعة المتقطف عام 1333 للهجرة. ج 3/ ص 291. ويُنظر: إعجاز القرآن - للأستاذ علي العماري - سلسلة الثقافة الإسلامية - عدد 44، حزيران 1963 م، القاهرة. ويُنظر: البيان في إعجاز القرآن - للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - دار عمار - عمان - ص 82 - 83.
(3)
- الجامع لأحكام القرآن: (1/ 76).
ويعزى القول بالصَّرْفة عند الباحثين الى أنه من التيارات التي وفدت علينا من الخارج
…
وأن بعض فلاسفة المسلمين، وقفوا على أقوال البراهمة في كتابهم - الفيدا -
(1)
،
(2)
وهو يشتمل على مجموعة من الأشعار والآداب ليس في كلام الناس ما يماثلها - في زعمهم -، ويقول جمهور علمائهم: - إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله
…
، لأن - براهما-
(3)
صرفهم عن أن يأتوا بمثلها
…
وقد لاقى هذا الرأي انتقاضًا من أحد الباحثين. محتجًا بأن البراهمة لم يقولوا مثل أشعار الفيدا احترامًا لها، وليس بمقتضى التكوين، ثم إن كلام البراهمة في الفيدا كان محل سخرية العقل الإسلامي، فلا مستنصر لهذا الرأي.
(4)
وكل هذا لا ينكر وجود التأثر، فالتأثر برأي لا يوجب نقله كاملًا، كما أن السخرية بالبراهما قد تؤدي إلى تنزيل الصرف على القرآن، وإن كان من وجه مختلف لأنه الكتاب المعجز حقًا.
(5)
وفي نحو ذلك يقول أبو الريحان البيروني (ت: 430 هـ) في كتابه - "ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" - ما نصه:
" إن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون عن ذلك احترامًا لها، ولم يبين - البيروني- وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى .. ؟ أم هو منع تكويني .. بمعنى: أن -براهما- صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها
…
؟ وهذا الأخير هو الظاهر، لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا به من أن القول بالصرفة نبع في واديهم
…
(1)
-المعجزة الكبرى القرآن لمحمد أبو زهرة ص 76. المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة - ص 69 - 71، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت).
(2)
- والفيدا: كتاب يشمل أربعة كتب مقدسة للهندوس، وقد كتب باللغة السنسكريتية - يُنظر كتاب: مشكلة الألوهية د. محمد غلاب - ص 97. ويُنظر: موسوعة المورد: للبعلبكي - ج 10/ ص 82.
(3)
- براهما: من آلهة الهندوس، وهو عندهم مرادف للمطلق الأعلى أو (الأتمان) - يُنظر: المرجع السابق ص 98
(4)
- يُنظر: الإعجاز البياني: د. محمد أبو موسى ص 358.
(5)
- عن مدونة: نورة الشريف: بتاريخ: 13/ 6/ 2008 م.
ب- كيفية وفود فكرة القول بالصرفة إلينا، وبيان المصدر الثاني الذي تلقها وروج لها
ولقد وفدت إلينا هذه الفكرة عندما ترجمت الفلسفة الهندية في عهد - أبي جعفر المنصور (وهو الخليقة الثاني من خلفاء بني العباس ت: 156 هـ)، فتلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، هذه الفكرة الغريبة الوافدة، واعتنقوا هذا القول وطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب اذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه، ومعانيه، ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله
…
"
(1)
فلا غرابة في انتقال قول - البراهمة - في كتابهم المقدس - الفيدا - إلى بعض المسلمين، عن طريق الذين يتلقفون كل وافد من الأفكار، وهي ليست أول وآخر فكرة انتقلت من الفكر البراهمي إلينا، يعرف ذلك كل من وقف على حقيقة ذلك الفكر.
إن رواج فكرة - الصَّرْفة - يؤدي الى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته، وتعجز القدر البشرية عن أن تأتي بمثله، فالإعجاز القرآني عند القائلين - بالصَّرْفة - ليس من صفات القرآن الذاتية، وبالتالي ما دامت بلاغة القرآن لا تزيد على بلاغة سائر الناس، فمؤدى كلامهم: أن يكون القرآن من جنس
كلام البشر
(2)
وحول كيفية انتقال القول بالصَّرْفة إلى رحاب المسلمين يوضح ويجلي ذلك
الرافعي
(3)
حيث يقول-رحمه الله:
"لما نجَمَت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شؤون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظرًا صرفًا، وبين الدين على كونه يقينًا محضًا
…
فذهب شيطانُ المتكلمين أبو إسحاق
(1)
يُنظر: المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة - ص 69 - 71، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت).
(2)
- إعجاز القرآن الكريم بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف.
(3)
- مصطفى صادق الرافعي (1298 - 1356 هـ = 1881 - 1937 م)
مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي:
عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب. أصله من طرابلس الشام، ومولده في بهتيم (بمنزل والد أمه) ووفاته في طنطا (بمصر) أصيب بصمم فكان يكتب له ما يراد مخاطبته به. شعره نقي الديباجة، على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول. له عدد من الدواوين الشعرية و الأدبية، وغيرها من المصنفات.
يُنظر: المنتخب من أدب العرب 1: 55 ومحمود بسيوني، في مجلة الرابطة العربية 18 ربيع الأول 1357 والمقتطف 73: 352 وتراجم علماء طرابلس 211 في آخر ترجمة عمه عبد الحميد بن سعيد الرافعي ومعجم المطبوعات 926 والفهرس الخاص - خ وتعليقات عبيد.
مع تصرف واختصار يسير من الباحث.
إبراهيم النَّظام
(1)
إلى أن الإعجاز كان بالصَّرْفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارقًا للعادة
(2)
.
وقد تكلم عدد من الباحثين حول قضية نشأة القول بالصَّرْفة وذكروا أقوالًا مفادها أنه
لا علاقة بالبراهمة بهذا القول، ولا يوجد أحد من القدامى أشار أو نبه على ذلك الأمر.
ومما ذكر في ذلك قول أحد الباحثين:
"
…
ويبدو (أن) الرأي الثاني - أي أن هذا القول من بيئة العرب قولًا خالصًا لا من غيرهم - في نظري هو الأقرب للصواب، نظرًا لعدم ورود أي إشارة من العلماء القدامى الذين تحدّثوا عن هذه القضية تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى كون الفكرة مستقاة من البراهمة أو من غيرهم ".
(3)
.
ج- ذكر أقوال المتقدمين القائلين بتأكيد تلقي النَّظام لفكرة القول بالصَّرْفة من الفلاسفة
ويبدوا أن أصحاب هذا الرأي لم يقفوا على ما ذكره بعض المتقدمين، ونسوق بعض أقوالهم ليتبين ويتضح بالبرهان الساطع منشأ القول بالصَّرْفة ومصدر تلقيه الأول كان من البراهمة، وأن أصحاب هذا الرأي قد أصابوا الحق فيه ومن هذه الأقوال
1 -
قول أبي منصور البغدادي التميمي (ت: 1037 هـ) حيث يقول-رحمه الله عن النَّظام:
"وأعجبَ - أي النَّظام - بقول البراهمة بإبطال النبوات ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف فأنكر إعجاز القرآن في نظمه وأنكر ما روى في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم".
(4)
.
2 -
قول أبي المظفر الإسفراييني
(5)
حيث يقول-رحمه الله عن النَّظام:
(1)
- إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام، من أئمة المعتزلة، ذكروا أن له كتبًا كثيرة في الفلسفة والاعتزال، وقال عنه الجاحظ: في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحًا فأبي إسحاق من أولئك. (ت: 231 هـ). الأعلام: (1/ 43)، فوات الوفيات:(1/ 23).، وقيل:(ت: 224 هـ).
(2)
- الرافعي، مصطفى صادق بن عبد الرزاق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثامنة - 1425 هـ - 2005 م، (ص 101).
(3)
- التركي، إبراهيم بن منصور، القول بالصرفة في إعجاز القرآن الكريم، بحث منشور على الشبكة بصيغة: بي دي إف، (ص: 7).
(4)
- البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة الثانية، 1977،
(5)
- شَاهْفُوْرُ أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسفرَايينِيّ، ثُمَّ الطُّوْسِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ (التَّفْسِيْر الكَبِيْر).
كَانَ أَحَدُ الأَعْلَامِ. حَدَّثَ عَنِ: ابْنِ مَحمِش، وَأَصْحَاب الأَصَمّ. رَوَى عَنْهُ: زَاهِرٌ الشَّحَّامِيّ، وَغَيْرهُ.
صَاهر الأُسْتَاذ أَبَا مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيّ. تُوُفِّيَ: بطُوسَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة. سير أعلام النبلاء (18/ 401).
"كَانَ يصحب ملحدة الفلاسفة
(1)
وقال عنه أيضًا: وَمن فضائحه - النَّظام - قَوْله فِي الْقُرْآن أَنه لَا معْجزَة فِي نظمه وَكَانَ يُنكر سَائِر المعجزات مثل انشقاق الْقَمَر وَأَن كَانَ قد نطق بِهِ الْقُرْآن
(2)
فِي
قَوْله (اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر)(القمر: 1) وَكَذَلِكَ كَانَ يُنكر تَسْبِيح الْحَصَى فِي يَده ونبوع المَاء من بَين أَصَابِعه- صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي الْبَاطِن يمِيل إِلَى مَذْهَب البراهمة الَّذين يُنكرُونَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء فَتكلم بِهَذَيْنِ المذهبين اللَّذين يبطل أَحدهمَا حدث الْعَالم وَالْآخر يبطل ثُبُوت النُّبُوَّة وَكَانَ لَا يقدر على إِظْهَار مَا كَانَ يضمره من الْإِلْحَاد
(3)
.
3 -
قول عضد الدين الإيجي
(4)
حيث يقول-رحمه الله عن النَّظام:
"
…
النَّظام وهو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة
(5)
وتابع عنه وعن أتباعه بتأثرهم في الفلاسفة وأنه مال في بعض المسائل إلى قول الطبيعيين، إلى أن قال:
وقالوا نظم القرآن ليس بمعجز إنما المعجز إخباره بالغيب من الأمور السالفة والآتية، وصرف الله العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لأمكنهم الإتيان بمثله بل بأفصح منه
(6)
.
وخلاصة القول: أن الصَّرْفة مصدرها البراهمة وقد أخذها النَّظام عنهم، ثم نسبت إليه.
"وبعد هذه النقول يتبين لنا أصل موضوع الصَّرْفة، ومن ثم يتبين لنا كذلك أول من قال بها ممن ينتسب للمسلمين وروجها، فمصدرها البراهمة وأخذها النَّظام، والقدماء نسبوها له بشكل مستفيض، وعلى زعم أن النَّظام لم يقل بهذا لم يرد ولو نص واحد ينسب للنَّظام لا له ولا لتلامذته ولا لمخالفيه يقول بعكس ما نسب إليه من القول بالصَّرْفة، فلو وجد لسطر كما سطرت أقواله الأخرى، وكما ينقل عن الكثير من الأئمة أقوالهم، ولو كانت متعددة حتى ولو في المسألة الواحدة، فهناك الكثير من أراء ومسائل لعلماء نقلت إلينا آرائهم في المسألة الواحدة ربما أكثر من
(1)
- الإسفراييني، طاهر بن محمد أبو المظفر، ت 471 هـ، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، المحقق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - لبنان، الطبعة: الأولى، 1403 هـ - 1983 م، (ص 71).
(2)
- عبارة "نطق بِهِ الْقُرْآن" وما في نحوها لا تليق بالقرآن أبدًا، لأن الذي ينطق ويتكلم هو المخلوق، والقرآن الذي هو كلام الله "منزل غير مخلوق". الباحث.
(3)
- التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص 74
(4)
عَضُد الدين الإِيجي: (
…
765 هـ-
…
-1355 م)
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل، عَضُد الدين الإيجي: عالم بالأصول والمعاني والعربية. من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء، وأنجب تلاميذ عظامًا. وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجونًا.
يُنظر: بغية الوعاة 296، ومفتاح السعادة 1: 169، والدرر الكامنة 2: 322 وطبقات السبكي 6:، والكتب خانة 4: 145 ثم 7: 160، ومعجم المطبوعات 1331
(5)
- الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، (ج 3، ص 661).
(6)
- السابق، ص 663
خمسة أراء، فإذا لم يوجد يبقى الرأي المنسوب إليه منصوب على قدميه، حتى يأتينا ما يخالفه أو يناقضه، أو ما يرده، وإلى ذلك الوقت سيبقى ما نسب إليه منسوب".
(1)
رابعًا: أبرز أقوال القائلين بالصَّرْفة من المعتزلة وغيرهم
وبين يدي هذا المبحث الهام جدير بنا أن نعرف بالمعتزلة ومنهجهم في خطوات مختصرة جدًا على النحو التالي:
أولًا: التعريف بالمعتزلة
المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.
(2)
ثانيًا: منهجها
"وهي فرقة عقلانية كلامية فلسفية، تتكون من طوائف من أهل الكلام، الذين خلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات في كثير من مسائل العقيدة، وقد خرجت المعتزلة عن السنة والجماعة في مصادر التلقي ومناهج الاستدلال ومنهج تقرير العقيدة وفي أصول الاعتقاد".
(3)
ثالثًا: نشأتها
الواقع أن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية؛ فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي، على أن هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية؛ فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي. وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية قد أدت إلى تشكيكه في دينه، وابتداعه لنفي
(1)
- يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة:(ص: 20). بتاريخ: 16/ 7/ 1436 هـ.
(2)
- الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، المؤلف: د. مانع بن حماد الجهني، الناشر: دار الندوة للنشر; عدد المجلدات: 2; (ص: 69).، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية:(ص: 73).
(3)
- ناصر العقل: الجهمية والمعتزلة ص 127.
الصفات، كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي؛ إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية.
رابعًا: بروزها
وقد برزت المعتزلة بعد ذلك كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الذي كان تلميذًا للحسن البصري، وذلك عندما دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم
ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟
فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء
(1)
: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة. ولأجل هذا سمَّاهم المسلمون معتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها.
وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن؛ لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، ولمعرفته بأن ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام، وعلى هذا القول مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين.
خامسًا: انتشارها
ولقد "انتشرت حركة الاعتزال في أنحاء الممالك الإسلامية واستقطبت شخصيات بارزة، أمثال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النَّظام وغيرهم، وقد كان لهذه الشخصيات تأثير بعيد المدى في مختلف ميادين الحياة العقلية، فنظرية المعرفة عندهم كانت تستند على العقل، كونهم أطلقوا العنان للعقل في البحث في جميع المسائل من غير أن يحده أي حد، وجعلوا له الحق في أن يبحث في السماء، وفي الأرض، وفي ذات الله تعالى، وفي الإنسان، وفيما دق وجل. "
(2)
(1)
- واصل بن عطاء الغزَّال، البصري المتكلم، كبير المعتزلة، ولد سنة (80 هـ) ومات سنة (131 هـ)، كان تلميذًا للحسن البصري فحصل خلاف بينه وبين شيخه الحسن البصري، فطرده من مجلسه.
(2)
- ضحى الإسلام - أحمد أمين: (3/ 86). بتصرف.
والكاتب "أحمد أمين" -هذا- أحد رؤوس العصرانيين " العقلانيين " في عصرنا، ممن عظموا العقل حتى ردوا به أحاديث المعصوم-صلى الله عليه وسلم، وانتصروا للمعتزلة ضد أهل السنة - وطالع ما يقول عنه ولده جلال في مذكراته:(ص 303 - 304) يتبين لك أمر الرجل.
سادسًا: انقسامها
لقد انقسمت المعتزلة إلى فرق شتى، تسمى كل منها باسم زعيمها، ومن أبرز تلك الفرق:
أ- الواصلية: (أصحاب واصل بن عطاء الغزَّال المخزومي- مولاهم-)(ت: 131 هـ)
ب- النَّظامية: (أصحاب إبراهيم بن سيار النَّظام). (ت: 231 هـ)
ج- الجاحظية: (أصحاب الجاحظ) أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (ت: 255 هـ).
وإنما اكتفينا بذكر أبرز فرقها لكثرتها، وما ذُكِرَ من فرقها آنفًا فهو متعلق بموضوع بحثنا، فـ" واصل" هو رأس الاعتزال ومؤسسه، و"النَّظام" هو رأس القول بالصرفة، و" الجاحظ" إنما هو تلميذ النَّظام وتابع له في القول بالصرفة كذلك.
سابعًا: أصول مذهبها
ورغم عن هذا الانقسام، إلا أن ثمة أصول خمسة ظلت تجمع فرق المعتزلة ألا وهي:
1 -
التوحيد
2 -
العدل
3 -
الوعد الوعيد
4 -
المنزلة بين المنزلتين
5 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي نحو ذلك يقول الخياط أحد كبرائهم في كتابه "الانتصار":
" ليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس، فهو معتزلي".
(1)
ثامنًا: أبرز أسباب توسع أفكارها عن الأصول الخمسة
إن المعتزلة كغيرها من الفرق بدأت بأفكار ومعتقدات مختصرة ومحدودة ومحصورة في أصولهم الخمسة التي ذكرها الخياط آنفًا. ولكن تعمقهم وتوسعهم في بحثها والتنقيب عن شرح معانيها،
(1)
- الانتصار: (ص: 126). الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403 هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2.
فتفرع عن بحثهم وتنقيبهم هذا مسائل فرعية عدة منبثقة عن تلك الأصول الخمسة وعن غيرها أيضًا، وكان ذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها.
أ- أنهم لم يتقيدوا بنصوص وحيي التنزيل "الكتاب والسنة"، واعتمدوا على العقل وبالغوا في ذلك حتى قدموه على النقل، مما كان له أعظم وأبلغ الأثر في وقوع الخلاف والاحتدام فيما بينهم البعض.
ب- أنهم انفتحوا على مطالعة ومدارسة كتب الفلسفة اليونانية، فقد استمدوا أفكارها منها ومزجوها وخلطوها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المنبثقة من الوحي المنزل، فتشعبت بهم الأهواء بسبب سوء المصدر الفلسفي اليوناني وعدم لزومهم وتقيدهم بنصوص الكتاب والسنة واتباع سبيل المؤمنين، فنتج عن ذلك اختلاف في الآراء، وزاد بينهم الجدل العقيم، واشتد بينهم الحوار والتنازع والانقسام إلى فرق شتى أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين فرقة، وأصبح لكل فرقة منها رؤساؤها وآراؤها وأفكارها الخاصة بها.
وهذا أمر لا غرابة فيه، فالسنة تجمع والبدعة تفرق، فأهل الحق سُمُوا بـ "أهل السنة والجماعة" بسبب لزومهم السنة واجتماعهم عليها، وأهل الباطل سُمُوا بـ " أهل البدعة والاختلاف" بسبب تفرقهم وتنازعهم.
نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام والسنة والجماعة حتى نلقاه سبحانه، وحتى نَرِدَ حوض المعصوم-صلى الله عليه وسلم ونشرب منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يوم يقول لأهل البدع الذين أَحْدَثُوا وغَيَّرُ وبدلوا - سُحْقًا، سُحْقًا-.
ثبت في الصحيحين من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي-رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ
أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي".
(1)
.
يقول الإمام الشاطبي-رحمه الله: (ت: 790 هـ)
"ولقوله: (قد بدلوا بعدك)، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك"
، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع.
ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تَقِّيةً، لا تعبدًا، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع
(1)
- رواه البخاري: (6212)، ومسلم:(2290).
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي".
(1)
قال النووي رحمه الله معلقًا على الحديث: (ت: 676 هـ)
"هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:
…
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم
يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام".
(2)
قال القرطبي رحمه الله: (ت: 671 هـ)
"قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكلُّ مَن ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله: فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردًا: مَن خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء والبدع".
(3)
خامسًا: أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة
كان إبراهيم النَّظام الذي هو أحد رؤوس هؤلاء المعتزلة، هو أول من قال بالصَّرْفَةِ منهم.
"فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه، كأنه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول إنه أول من جهر به، ولا نقول إنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به، لأن الأفكار لا يعرف ابتداؤها وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.
جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح".
(4)
.
يقول عنه تلميذهُ الجاحظ (ت: 255 هـ):
"وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ ظنِّهِ وجَودة قياسِهِ عَلَى العارض والخاطر،
(1)
- الاعتصام: (1/ 96).
(2)
-شرح النووي على مسلم: (3/ 136، 137).
(3)
- التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة: (ص 352).
(4)
- يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، ص: 59، الشاملة الحديثة.
كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنًّا فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ".
(1)
"ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصَّرْفَةِ ببيان الإعجاز الذاتي".
(2)
وليتجلى الأمر بصورة أوضح
فقد "كان النَّظام - ابراهيم بن سيَّار بن هانئ النَّظام البصري من الموالي، وإليه تنتسب الفرقة النظامية
(3)
-أول من اقترن اسم الصَّرْفَةِ باسمه، واشتهر أنه أول المنادين بها، وقيل له - النَّظام -
لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، تتلمذ على خاله أبي الهذيل العلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون مذهبًا خاصًا به، مات في ريعان شبابه (سنة 231 للهجرة) عن ست وثلاثين عامًا، وكان أستاذ - الجاحظ -
(4)
، ترجم له أبو منصور البغدادي - في كتابه - الفرق بين الفرق - عند ذكره الفرقة النظامية فقال: - عاشر النَّظام في شبابه قومًا من الثنوية
(5)
وقومًا من السمنية
(6)
القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط قومًا من ملاحدة الفلاسفة، ثم دون مذاهب الثنوية، وبدع الفلاسفة، وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا عليه السلام الى إنكار نبوته، ثم أنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار رفعها، فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع، وحجية القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي توجب العلم
الضروري ثم إنه ذكر الصحابة بما يقرؤها غدًا في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة رضي الله عنهم ثم قال: - والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النَّظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته، ليست بمعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا دالة على صدقه
(1)
- الحيوان للجاحظ: (2/ 229 - 230).
(2)
- يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، (ص: 59)، الشاملة الحديثة.
(3)
-النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظّام طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة. يُنظر: الملل والنحل-الشهرستاني: (1/ 61).
(4)
-المعتزلة - زهدي حسن جار الله - منشورات النادي العربي في يافا - 1947 م - ص 120 - 129.
(5)
الثنوية: قوم يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، يُنظر: الملل والنحل: للشهرستاني: الإمام أبي الفتح عبد الكريم (ت: 584 هـ) ج 1/ ص 80 بهامش الفصل. دار صادر - بيروت.
(6)
- السمنية: فرقة هندية قالت بقدم العالم وبتناسخ الأرواح -يُنظر: الفرق بين الفرق - للبغدادي الفصل الثاني عشر ص 270.
في دعواه النبوة، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه، ما فيه من الإخبار بالغيوب، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته، فإن العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف"
(1)
.
وقد تبنت الفرقة - النَّظامية - بالإضافة الى ما تقدم من مخالفات لجماعة المسلمين، آراء شاذة في العقائد منها: أن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح فيه، ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب، والتواتر يحتمل الكذب، وأوجبوا النص على الإمام، وثبوت الإمامة لعلي رضي الله عنه -لكن عمر- رضي الله عنه كتمه
…
(2)
.
وقال الشهرستاني في الملل والنحل: (ت: 548 هـ)
"والنظَّامية: أصحاب ابراهيم بن سيار بن هانئ النظَّام.، وإبراهيم النظَّام قد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها: قوله في إعجاز القرآن
أنه من حيث إخباره عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب من الاهتمام به جبرًا وتعجيزًا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغة، وفصاحة، ونظمًا
…
"
(3)
ففي رأي - النَّظام - إذن: أن الله قد صرف أوهام العرب عن معارضة القرآن، فانصرفوا عن ذلك، وتعذرت عليهم المعارضة، لا لأن القرآن في حد ذاته خارج عن طوق البشر، أو خارقًا لمقدرتهم، ومألوف عادتهم، فهو في ذلك لا يتفوق على البليغ الفصيح من كلام العرب، ولا تكاد تكون له مزية أو فضل في ذلك، ولو ترك لهم المجال، وأفسح أمامهم الطريق، لأتوا بمثل القرآن فصاحة، وبلاغة، وحسن نظم، وتأليف
…
(4)
نعوذ بالله من الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سادسًا: القائلون بالصرفة من المعتزلة غير النظّام
ليس القول بالصرفة مقصورًا على النظّام كما يظنه البعض بل لقد سلك هذا الطريق أقوام كُثُر سواء من المعتزلة أو من غيرهم كذلك.
(1)
- الفرق بين الفرق: لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت 429 هـ) ص 128 - 150، تحقيق - لجنة إحياء التراث العربي - بيروت - 1987 م.
(2)
- مباحث في إعجاز القرآن - د. مصطفى مسلم، الطبعة الثانية - دار المسلم بالرياض - سنة 1996 م، نقلا عن لوامع الأنوار لمحمد بن أحمد السفاريني - ج 1/ ص 78.
(3)
-الملل والنحل - للشهرستاني: ج 1/ ص 67 بهامش الفصل.
(4)
- إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف.
وإن كان النظّام أبرز من قال بالصرفة من المعتزلة، فقد تابعه عليه كذلك أقوام وكان من أبرز هؤلاء كل من:
1 -
عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المُزدار (ت: 226 هـ): كان معروفًا بالناسك وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم عنه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة.
(1)
، وقد تلمذ له أيضًا الجعفران،
والجعفران هما:
أ- جعفر بن حرب الثقفي المعتزلي العابد أبو الفضل: (ت: 234 هـ) من نساك القوم وله تصانيف.
ب- وجعفر بن مبشر الهمداني المعتزلي البغدادي أبو محمد: (ت: 236 هـ) الفقيه البليغ كان مع بدعته يوصف بزهد وتأله وعفة.
وكان الجعفران سيدا معتزلة بغداد في عصرهما، ومضربا المثل في العلم والعمل عندهم.
كما تلمذ له أيضًا أبو زفر وهو من مصنفي المعتزلة، ومحمد بن سويد المعتزلي.
وصحبه (أبو جعفر) محمد بن عبد الله الإسكافي وعيسى بن الهيثم وجعفر بن حرب الأشج. وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا: إن الله تعالى خلق القرآن
(2)
في اللوح المحفوظ ولا
يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرؤه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا.
(3)
.
وقد تولى المُزدار رئاسة المعتزلة ببغداد
(4)
.
وقال في القرآن: إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظمًا وبلاغة،
وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه.
(5)
وهو الذي نُسِبَ إليه القول بأن: (الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه).
(6)
2 -
عباد بن سليمان الصخري (ت: 385 هـ): معتزلي من أهل البصرة من تلامذة هشام بن عمرو القوطي.
(7)
(1)
الملل والنحل للشهرستاني: (1/ 68). بتصرف يسير.
(2)
- وذلك لأن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، وأما أهل السنة فيقولون بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. الباحث.
(3)
- المرجع السابق: (1/ 69).
(4)
-طبقات المعتزلة ص 70 الفرق بين الفرق ص 154 د، عمر السلامي؛ الإعجاز الفني في القرآن ص 52 ـ 65
(5)
-الملل والنحل للشهرستاني: (1/ 68).
(6)
-الفرق بين الفرق - ص 154.
(7)
- ابن النديم؛ الفهرست 269 ــ 280
3 -
القاضي هشام بن عمرو القوطي (ت:؟): بصري، عدّه القاضي في نهاية الطبقة السادسة من المعتزلة كان يحظى باحترام المأمون.
(1)
4 -
أبو إسحاق النصيبي (ت:؟): من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وكان يشك في النبوات كلّها.
(2)
5 -
"الجاحظ" أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي
(3)
.
ولقد فنَّد (الجاحظُ) دعوى أستاذه (النظّام) في كتابٍ مفقودٍ سماهُ "الاحتجاج لنظم القرآن".
قال في مقدمته:
"فلم أدع فيه مسألةً لرافضي ولا لحديثي، ولا لحشوي ولا لكافر مباد، ولا لمنافق
مقموع، ولا لأصحاب النظّام، ولمن نجم بعد النظّام ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل، وليس ببرهان ولا دلالة".
(4)
ورجّح (الرافعي) أن الجاحظ تابع طائفته المعتزلة في القول بالصَّرْفة، وإن كان له رأيٌ في أن القرآن في الدرجة العليا من الفصاحة. يقول عنه: "لم يسلم
…
من القول بالصَّرْفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها من عُرض". واستدل بقوله في كتاب "الحيوان":"ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب وصرف نفوسهم عن المعارَضَةِ للقرآن بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ بنظْمه".
(5)
وقال العلامة محمود محمد شاكر (ت: 1418 هـ) رحمه الله:
"إن الجاحظ يقول بالصَّرْفة مثل شيخه (النظّام)، وأنه هو الذي أظهر هذا القول وأشاعه، لكنه أضاف إليها الإعجاز بالنظم. ولما رأى الجاحظ التناقض بين قوليه كاد أن يتراجع".
(6)
.
(1)
- طبقات المعتزلة 69
(2)
- أبو حيان التوحيدي الإمتاع والمؤانسة: (1/ 141).
(3)
- العلامة المتبحر، ذو الفنون، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، صاحب التصانيف. أخذ عن النظام. وروى عن: أبي يوسف القاضي، وثمامة بن أشرس. قال ثعلب: ما هو بثقة. قلت: كان ماجنًا قليل الدين، له نوادر مات سنة خمسين ومائتين. وقال الصولي: مات سنة خمس وخمسين ومائتين .. سير أعلام النبلاء: (11/ 527). بتصرف.
(4)
نقلاً عن الإعجاز البياني: (ص: 360).
(5)
-إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 102). إعجاز القرآن والبلاغة النبوية المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة الثامنة - 1425 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 1.
(6)
محمود شاكر: مداخل إعجاز القرآن، (ص: 56 - 68)
وقد نفى أحد الباحثين المعاصرين عن الجاحظ هذا الانتساب لمذهب الصَّرْفة بتفريقه بين مراد الجاحظ ومراد شيخه.
(1)
والحقيقة: لقد وقع الجاحظ في التناقض والاضطراب لقوله بالصرفة - وإن اختلف مفهومه لها عن مفهوم أستاذه النظّام.
قال مصطفى صادق الرافعي (ت: 1356 هـ) رحمه الله:
" أما الجاحظ فان رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فان هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا في منخل، ولذلك لم يسلم هو أيضًا من القول بالصَّرْفة
…
ثم قال (الرافعي) مبررًا قول الجاحظ بالصَّرْفة: وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أمر أستاذه النظّام، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له أو نبه عليه، أو يكون هو ناقلًا ولا يدري
…
".
(2)
وما قاله الرافعي عن الجاحظ هو القول العدل فيه الذي يشهد له كلام الجاحظ نفسه.
6 -
"الرماني" علي بن عيسى أبو الحسن الرماني المعتزلي.
(3)
والصَّرْفة عنده تشبه الصَّرْفة عند الجاحظ، فهي لا تقدح في بلاغة القرآن وحسن تأليفه، وإن كان الجاحظ فيه ما فيه من التناقض والاضطراب.
وقد ذكر الرماني أن القرآن في أعلى مراتب البيان، ولا يدانيه شيء من كلام فصحاء العرب وبلاغييهم، وصَّرْفة الرماني - كما هو الشأن عند الجاحظ - من فعل الله بالقوم، فهي إذن شيء خارج عن إرادتهم، ووقع عليهم بقدرة الله وتدبيره
…
يقول الرماني:
"وأما الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الاعجاز .. "
(4)
(1)
-الإعجاز البلاغي للدكتور. محمد أبو موسى، (ص: 370)، ويُنظر مدونة: نورة الشريف-بتاريخ: 13/ 6/ 2008 م.
(2)
- إعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي، ص 165.
(3)
- أبو الحسن الرماني (296 - 384 هـ = 908 - 994 م). باحث معتزلي مفسر. من كبار النحاة. أصله من سامراء، ومولده ووفاته ببغداد. يُنظر: بغية الوعاة 344 ووفيات الأعيان 1: 331 وسير النبلاء - خ. الطبقة الحادية والعشرون. وتاريخ بغداد 12: 16 ونزهة الألباب 389 ومفتاح السعادة 1: 142 وإنباه الرواة 2: 294.
(4)
- النكت في إعجاز القرآن - علي بن عيسى الرماني - (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر - ص 110 تحقيق محمد خلف الله أحمد وزميله.
وقول الرماني لا يحتاج إلى زيادة بيان، إذ إنه يقول بالصَّرْفة ويرى أنها أحد وجوه الإعجاز عند المعتزلة.
7 -
القاضي عبد الجبار (ت: 415 هـ):
القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبدالله
الأسد آبادي المعتزلي
(1)
.
وبسبب المعتقدات الفاسدة التي يعتقدها النظّام ويتبناها ويقول بها فقد كفره جمع من العلماء هو وفرقته، حتى إن بعض المعتزلة أنفسهم قد كفره كذلك.
موقف القاضي عبد الجبار وقوله في الصَّرْفة
القاضي عبد الجبار: " قد خالف جميع من تقدموه ممن تحدثوا عنها، ولم يرض عن تفسيراتهم، وأعطى القضية بعدًا أعمق، وفهما أنضج فقد أبعد مفهوم الجبرية الذي ساد في حديث - النظّام - والجاحظ- والرماني - عنها، لأنها كانت عندهم جميعا شيئًا خارجًا عن إرادة القوم، مجبورين عليه جبرًا".
(2)
وقدم بين يدي ذلك أدلة منها: -
أولًا: لو كانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح، أو قول بليغ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم، لما أمكنهم الكلام المعتاد، ولكن القوم ظلوا يتكلمون
ويأتون بالقول الفني الممتاز، ولم ينحدر مستوى بيانهم أو يهبط، ولكنه كان - على علوه - لا يرقى الى مستوى القرآن.
ثانيًا: ولو ثبت هذا المنع لكان في حد ذاته هو المعجز وليس القرآن، فان من سلك هذا المسلك في القرآن، يلزمه أن لا يجعل له مزية البتة.
ثالثًا: ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره لبطل بعض القرآن، ولما كان صحيحًا قوله تعالى: - (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88)
(1)
- القاضِي عبد الجبار (000 - 415 هـ = 000 - 1025 م).
عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسد أبادي، أبو الحسين المعتزلي:
العلامة المتكلم، شيخ المعتزلة، أبو الحسن الهمذاني صاحب التصانيف، من كبار فقهاء الشافعية ولي قضاء القضاة بالري، وتصانيفه كثيرة تخرج به خلق في الرأي الممقوت. مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة من أبناء التسعين.
سير أعلام النبلاء، الطبقة الثانية والعشرون، القاضي عبد الجبار (17/ 254).
(2)
التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة - د. وليد قصاب - الدوحة - دار الثقافة - ط أولى سنة 1985 م - ص 320.
رابعًا: القول بالصَّرْفة يتعارض مع الآية السابقة، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء: إن بعضها يكون ظهيرًا لبعض، لأن المعاونة والمظاهرة، انما تمكن مع القدرة، ولا تصح مع العجز والمنع)
(1)
.
وبعد أن قدم - القاضي عبد الجبار- هذه الأدلة التي نقض بها مفهوم من تقدموه عن - الصَّرْفة -، توصل القاضي الى مفهوم جديد للصَّرْفة، وهو في هذه المرة يرتبط بالقوم أنفسهم، وليس شيئًا خارجًا عنهم، أو مفروضًا عليهم فرضًا، وهذا المفهوم: هو
إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم بأنها غير ممكنة على ما دللنا عليه، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة عليهم ..
(2)
.
فهي صرفة تشبه اليأس الذي يعتري الانسان من أمر ما حاوله عدة مرات، وكان يمنى كل مرة بالإخفاق الذريع، فإذا بعزيمته تتثبط، وهمته تنهار، وذلك كان شأن القوم مع القرآن، فلم يكن تركهم للمعارضة لأمر خارجي، وانما لإحساسهم باليأس، وتيقنهم من العجز عن الاتيان بمثل القرآن
يقول القاضي عبد الجبار:
" واعلم أن الخلاف في هذا الباب أنا نقول: إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم أنها غير ممكنة، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة، وهم يقولون: ان دواعيهم انصرفت مع التأتي، ولأجل انصراف دواعيهم، لم يأتوا بالمعارضة مع كونها ممكنة، فهذا موضع الخلاف .. "
(3)
.
ثم ينهي - القاضي عبد الجبار - حديثه عن مفهومه للصرفة فيقول: -
" فالصحيح ما قلناه، من أنهم علموا بالعادات تعذر مثله، فصار علمهم صرفًا عن المعارضة .. "
(4)
.
فالصَّرْفة بهذا المفهوم الجديد عند القاضي عبد الجبار، ليست تلك الصَّرْفة التي عند - النظّام - أو - الجاحظ -، والتي تعني: القهر والجبر، وإنما هي صَّرْفة ذاتية، فهم أدركوا بالفطرة أن أسلوب
(1)
- المغني في أبواب التوحيد والعدل - ج 16 - للقاضي عبد الجبار - تحقيق: أمين الخولي - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - بمصر ج 16/ ص 323.
(2)
-المرجع السابق ج 16/ ص 324.
(3)
- المرجع السابق نفسه، ونفس الجزء والصفحة.
(4)
المرجع السابق ج 16/ ص 325.
القرآن في علوه وسموه، وروعة نظمه وبيانه، لا يمكن مجاراته ومعارضته، فانصرفوا ذاتيًا بلا قهر أو جبر من قوة خارجية عن المعارضة، اقتناعًا منهم ويقينًا بالعجز، فالأمر في الحقيقة: انصراف .. وليس صَّرْفة ..
(1)
.
وبذلك يكون القاضي عبد الجبار أقل القوم وأضعفهم تعسُّفًا في قضية القول بالصَّرْفة.
سابعًا: القائلون بالصرفة من غير المعتزلة، من
الأشاعرة
وغيرهم
1 -
الأشاعرة:
أما الأشاعرة: فَجُلّهم إنّما يقبل بنظرية الصَّرْفة إماّ كوجه ثانوي من أوجه الإعجاز فهو عندهم تابع للوجه الأوّل، والأهمّ وهو إعجاز القرآن بنظمه وذاته، وإمّا يقولون بها من باب المجادلة والمنافحة عن الحق لا غير.
2 -
ما ينسب إلى أبي الحسن الأشعري (ت: 324 هـ)
يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم (ت: 548 هـ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري: -
"والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة، والنظم، والفصاحة، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي، وهو المنع من المعتاد".
(2)
3 -
ما يُنسب للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت: 544 هـ)
قال محمد بن أحمد السفاريني: (ت: 1189 هـ) رحمه الله:
"وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض (ت: 544 هـ) بعض ميل للقول بالصَّرْفة، فإنه قال: وذهب الشيخ أبو الحسن (الأشعري -) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم
الله عليه، ولكنه لم يكن هذا، ولا يكون، فمنعهم الله هذا، وعجزهم عنه ".
(3)
. ولاشك في وضوح قول القاضي عياض بالصَّرْفة، فالمنع والتعجيز بمعنى أنه سبحانه صرفهم عنه بمنعهم وتعجيزهم عن الإتيان بمثله.
4 -
الفخر الرازي (ت: 606 هـ):
(1)
- إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف يسير.
(2)
- الشهرستاني: الملل والنحل، بهامش الفصل:(: 135 ـ 136) وجُل هذه الأقوال نقلًا من بحث الصَّرْفة للدكتور/ سامي عطا حسن. بتصرف
(3)
- محمد بن أحمد السفاريني: لوامع الأنوار البهية: (1/ 175).
أطلق القول بالصَّرْفة في بعض مواضع تفسيره كقوله عند تعرضه لآية التحدي في سورة البقرة: حيث يقول:
الطريق الثاني، أن نقول:" القرآن لا يخلو إما أن يقال: إنه كان بالغًا في الفصاحة إلى حد الإعجاز، أو لم يكن كذلك، فإن كان الأول: ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني: كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمعارضة، مع كون المعارضة ممكنة، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزًا، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب".
وفي مواضع أخرى قيدها بالسور القصار حيث يقول:
" فإن قيل: قوله (فأتوا بسورة من مثله) يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، وسورة (قل يا أيها الكافرون)، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله، أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان
بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر، كان ذلك مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز، فقد حصل المقصود، وإن لم يكن الأمر كذلك، كان امتناعهم عن المعارضة - مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره -معجزًا، فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز.
(1)
5 -
الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت: 774 هـ) رحمه الله
-:
أقرّها على سبيل المجادلة والمنافحة على الحق لا غير حيث يقول:
"وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة، وقول المعتزلة في الصَّرْفة، فقال: إن كان القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله، ولم يفعلوا مع شدة عداوتهم له، كان ذلك دليلًا على أنه من عند الله، لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة - وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا - إلا
أنها تصلح على سبيل التنزل، والمجادلة، والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، وإنا أعطيناك الكوثر".
(2)
(1)
- الرازي: مفاتيح الغيب 1\ 116 ـ 117، ومحسن عبد الحميد: الرازي مفسرًا (ص: 233 ـ 234).
(2)
- تفسير ابن كثير: (1/ 60).
فابن كثير هنا يقرر أن القرآن معجز بذاته، وفي ذلك رد للصَّرْفة، وهو بذلك يقررها فقط على سبيل التنزل والمجادلة عن الحق والمنافحة عنه كما قرر رحمه الله آنفًا، وفي نحو ذلك يقول عند تفسيره لآية التحدي في سورة الإسراء:
فـ " لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له ولا مثال له، ولا عديل له؟! ".
(1)
6 -
أبو إسحاق الإسفراييني (ت: 418 هـ) رحمه الله
-:
(2)
فقد عدّها وجهًا من أوجه الإعجاز حيث قال في شرحه للمواقف:
"وقيل: إعجازه بالصَّرْفة، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة، لكن الله صرفهم عن معارضته، واختلف في كيفية الصرف، (فقال الأستاذ) أبو إسحاق مِنَّا، (والنظّام) من المعتزلة، (صرفهم الله عنها مع قدرتهم) عليها، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها، مع كونهم مجبولين عليها، خصوصًا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم، كالتقريع بالعجز، والاستنزال عن الرياسات، والتكليف بالانقياد، فهذا الصرف خارق للعادة، فيكون معجزًا ".
(3)
7 -
الراغب الأصبهاني (ت: 425 هـ) حيث يقول:
"اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما: إعجاز يتعلق بنفسه.
والثاني: بصرف الناس عن معارضته" ثم يتبع ذلك بقوله: " فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة، الذين يهيمون في كل واد من المعاني - بسلاطة لسانهم - إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفًا إلهيًّا صرفهم عن ذلك،
(1)
- المرجع السابق: (5/ 117).
(2)
الإسفراييني (ت: 418 هـ):
أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، كان فقيهًا متكلمًا أصوليًّا، وكان ثقة ثبتًا في الحديث، أقر له أهل بغداد ونيسابور بالتقدم والفضل، درّس بمدرسة نيسابور، وكان يلقب بركن الدين، وهو أول من لُقِّب من العلماء، له تصانيف كثيرة أهمها:"الجامع " في أصول الدين والرد على الملحدين، توفي بنيسابور سنة 418 هـ وقيل 417 هـ. ينظر ترجمته في: طبقات الفقهاء ص 126، وطبقات الشافعية الكبرى (4/ 256)، سير أعلام النبلاء (17/ 353)، وفيات الأعيان (1/ 8)، وشذرات الذهب (3/ 209).
وهو غير إمام الشافعية العلامة أحمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الإسفرايينى (توفى 406 هـ) ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (17/ 193)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 61)، تاريخ بغداد (4/ 368).
(3)
- القاضي عضد الدين الإيجي: شرح المواقف 8\ 646
وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة مصروفة في الباطن عنها".
(1)
8 -
أبو الحسن الماوردي (ت: 450 هـ) قال في أعلام النبوة:
"الوجه العشرون من أوجه إعجازه: الصَّرْفة عن معارضته، واختلف من قال بها: هل صرفوا عن القدرة على معارضته مع دخوله في مقدورهم .. ؟ على قولين:
أحدهما: - إنهم صرفوا عن القدرة، ولو قدروا لعارضوا.
والقول الثاني: - إنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم.
والصرفة إعجاز على القولين معًا
…
".
ثم يقول:
" فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها، صح أن يكون كل واحد منها معجزًا، فإذا سائرها كان إعجازه أقهر، وحجاجه أظهر، وصار كفلق البحر، واحياء الموتى، لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله"
(2)
ومثل ذلك يقوله في تفسيره النكت والعيون:
" فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه، إلى أن يقول: والثامن: أن إعجازه هو الصَّرْفة، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم تحركهم أنفة التحدي، فصبروا على نقص العجز، فلم يعارضوه، وهم فصحاء العرب، مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزًا لخروجه عن العادة كخروج سائر المعجزات عنها.
واختلف من قال بهذه الصَّرْفة على وجهين:
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني: - أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، فإذا جمعها القرآن، وليس اختصاص
(1)
- مقدمة جامع التفاسير: (ص: 104)، السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن: (1/ 5 ـ 6).
(2)
-الماوردي: أعلام النبوة: (ص: 85 ـ 86).
أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز".
(1)
9 -
أبو المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين (ت: 478 هـ) يقول في العقيدة النظامية:
"وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن، وتقطعوا فيه أيادي سبأ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة، خارج عن المعتاد في ذلك، ثم زعم زاعمون: أن
إعجازه في شرف جزالته، وذهب آخرون: إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر، والخطب، والأراجيز، ثم يقول: - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء، واللسن الفصحاء، فقد حاد عن مدرك الحق، ثم يقرر ويقول:
فتبين قطعًا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدًا وتأييدًا.
إلى أن يقول:
فإذا لم تجر المعارضة، لم يبق لامتناعها، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة، وشفاء الصدور في الحكم؟ فإن مثله من مقدورات الخلق، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم ".
(2)
10 -
أبو حامد الغزالي (ت: 505 هـ) والذي يقول في باب المحاجاة:
"فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن، ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به، والجواب: - إن ما ذكروه هوس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي، وشن الغارات، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات ".
(3)
(1)
الماوردي: تفسير النكت والعيون: (1/ 30 ـ 31).
(2)
- الجويني: العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية: (ص: 72 ـ 73).
(3)
- الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد: (ص: 129 ــ 130).
11 -
ابن حزم الأندلسي الظاهري (ت: 456 هـ) رحمه الله
-:
وممن قال بالصَّرْفة أيضًا الفقيه ابن حزم الأندلسي الظاهري، وكلامه في بالصَّرْفة مضطرب، فهو تارة يقول بها، وتارة يقول بغيرها فهو مضطرب في تلك المسألة، وتمشيًا مع القاعدة الأصولية "المثبت مقدم على النافي" فننقل كلام ابن حزم في القول بالصَّرْفة حيث إنه يرى أن القرآنَ ليس مُعْجِزًا في ذاتِهِ، بل لِأنَّ اللهَ صرفَ العربَ عن الإتيانِ بمثلِهِ، ويقول بعد إيرادهِ عدةَ آياتٍ من كتابِ الله عز وجل:
"
…
فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل غير معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلامًا له أصاره معجزًا ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاجُ إلى غيره" ..
وبمطالعة الباحث أقوال بعض الباحثين في عدد من المصادر وجد أكثرها أو جلها على هذا الرأي في ابن حزم رحمه الله، بأنه مضطرب ولم يحسم رأيه وقوله في المسألة، لأنه تارة يقول بها وتارة يقول بغيرها، ولكن كما قال ربنا:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)(يوسف: 81).
ثامنًا: القائلون بالصرفة من الشيعة الإمامية
والشيعة الإمامية هم حملة لواء القول بالصَّرْفة في العصور المتأخرة خاصة وأنهم ورثة الفكر الاعتزالي. وممن قال بها منهم:
أ- الشيخ المفيد: (ت: 339 هـ) في كتابه أوائل المقالات، وإن حكى عنه غيره.
ب- الشريف المرتضى: (ت: 355 هـ) في رسالة خاصة تحت عنوان: (الموضح من جهة إعجاز القرآن).
ج- الطوسي: نصر الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت: 385 هـ) في شرحه لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد).
د- ابن سنان الخفاجي: (ت: 466 هـ) في كتابه سرّ الفصاحة.
هذا قول من قال بالصَّرْفة من الشيعة الإمامية إجمالًا ونسوق أقوالهم بشيء من التفصيل على النحو التالي:
أ- الشيخ المفيد، أبوعبد الله، محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي العكبري، رئيس المذهب الشيعي الإمامي في وقته:(ت: 338 هـ) قال في جهة إعجاز القرآن:
" إنّ جهة ذلك هو الصَّرْف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظّام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في
مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان. وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال
…
".
(1)
ب- علي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (على بن الحسين بن موسى بن محمد)(ت: 355 هـ) نقل عنه الطوسي (نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن)(ت: 385: هـ) قوله: " إن
الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن، متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم ".
(2)
ج- نصير الدين الطوسي (ت: 385: هـ)
قال بالصَّرْفة في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام) وهو شرح لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد).
فقال: " وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنما كان معجزًا خارقًا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، ودون النظم بانفراده، ودون الصَّرْفة، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة، على ما كان يذهب إليه المرتضى من حيث شرحت كتابه، فلم يحسن خلاف مذهبه".
(3)
.
د-ابن سنان الخفاجي (ت: 466 هـ) عبد الله بن محمد بن سعيد الخفاجي الشاعر الأديب الشيعي في كتابه الشهير- سر الفصاحة- وهو من الكتب المعدودة في البلاغة، ألفه على طريقة الأدباء، حيث يقول:
" إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك
…
،
ويقول أيضًا:
إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف
…
ويقول في موضع آخر:
(1)
- جعفر السبحاني: الإلهيات ص 341 نقلا عن أوائل المقالات للشيخ المفيد: (ص: 31).
(2)
- الإلهيات للسبحاني نسخة إلكترونية ويُنظر: الاقتصاد للطوسي: (ص: 172).
(3)
- الإلهيات جعفر السبحاني- منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية- إيران: (ص: 341) نقلًا عن أوائل المقالات- للمفيد: (ص: 31)، نقلًا عن بحار الأنوار للمجلسيي:(92/ 137)، نقلًا عن الاقتصاد للطوسي:(ص: 172).
متى رجع الانسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه
…
!! ".
(1)
(2)
.
نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله تعالى الثبات على الحق، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8).
ومما سبق يتبين لنا أن الصَّرْفَةِ وإن كانت نشأت في بيئة المعتزلة على يد النَّظام ومن تابعه إلا أننا وجدنا طائفة من علماء أهل السنة، وبعض الظاهرية، والشيعة الإمامية، قالوا بها كذلك، وإن لم يوافقوا النَّظام على ما ذهب إليه.
تاسعًا: خلاصة القول بالصَّرْفَةِ
يمكننا أن نتعرف من أقوال القائلين بالصَّرْفَةِ على أنهم مذهبين:
المذهب الأول- مذهب النَّظام ومن تبعه، فقد ذهبوا إلى أن العرب صُرِفوا عن المعارضة أصلًا، ولم يتوجهوا إليها، ولو توجهوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن.
المذهب الثاني- وقال به الشريف المرتضى، وابن سنان الخفاجي، ومن تبعهما، فقد ذهبوا إلى أن الله سلب العرب علومهم التي يحتاجون إليها في معارضة القرآن، والإتيان بمثله، ولو توجهوا لمعارضته لما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن.
ولا شك في أن كل القولين مردود .. ولا يقوم على قدم، ولا يستوى على ساق، وسنسوق بين يديك مصداقًا من البرهان التفصيلي على انتقاض بنيان هذه القضية بأدلة منها:
1 -
إجماع الأمة قبل ظهور القول بالصَّرْفة على أن إعجاز القرآن ذاتي
…
وقد حكى القرطبي الإجماع في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، فقال بعد أن ذكر قول القائلين بالصرفة: " وهذا فاسد، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف: أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا: أن المنع و الصَّرْفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزًا، وذلك خلاف الإجماع، وإن كان كذلك، علم أن نفس القرآن هو المعجز، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة
(3)
، إذ لم يوجد كلام قط على
(1)
- ابن سنان الخفاجي: سرّ الفصاحة: (ص: 89 ـ 217).
(2)
- يُنظر: الصَّرْفة دلالتها لدى القائلين بها وردود المعارضين لها د. سامي عطا الجيتاوي: (صـ: 19) وما بعدها، من مبحث القائلين بالصَّرْفة من أهل السنة، وقصده بأهل السنة كل الفرق المخالفة للشيعة كما هو مقرر معلوم عندهم.
(3)
عبارة "خارق للعادة" من تعريف الأشاعرة. وهم قد انطلقوا من مصطلح «المعجزة» المفسر عندهم بخرق العادة، وزادوا قيودًا على هذا التفسير قصدوا بها تمييز المعجزة عن غيرها، وقد اختلفوا في ذلك اختلافًا واسعًا.
وفي محض الكلام عن أقوال متقدمي الأشاعرة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" هي الفعل الخارق للعادة المقترن بدعوى النبوة والاستدلال به وتحدي النبي من دعاهم أن يأتي بمثله وشرط بعضهم أن يكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه، هذه الأربعة هي التي شرط القاضي أبو بكر (الباقلاني) ومن سلك مسلكه ". يُنظر: النبوات، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(1/ 600).
هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفًا معتادًا منهم، دل على أن المنع والصَّرْفة لم يكن معجزًا ".
(1)
2 -
أن الله تعالى وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لاتصل إليها معجزات أخرى، فكانت هذه توجب أن إعجازه ذاتيًا، ولقد قال تعالى:(ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا)(الرعد: 31).
ويقول تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)(الزمر: 32).
وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التي وصفه الله بها منزله- سبحانه وتعالى أفيقال بعد ذلك أن الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهم إن هذا بهتان عظيم.
(2)
عاشرًا: ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها
أ- الرد على القائلين بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها
إذا رجعنا إلى المصدر الأصلي الذي أثبت إعجاز القرآن، وهو القرآن نفسه، واحتكمنا إليه في هذا؛ فإنا نجده يثبت الإعجاز لذات القرآن، لا للصرف عنه وذلك من أوجه كثيرة نذكر منها:
1 -
أن الله قد تحداهم أن يأتوا بمثله، كما في قوله:(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)(الإسراء: 88).
ومما ورد في سبب نزولها ما أخرجه ابْن إِسْحَاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس-رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُول الله-صلى الله عليه وسلم مَحْمُود بن سيحان ونعيمان بن أُصَي ومجزئ بن عمر وَسَلام بن مشْكم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد هَذَا الَّذِي جِئْت بِهِ حق من عِنْد الله فإنا لَا نرَاهُ متناسقًا كَمَا تتناسق التَّوْرَاة
فَقَالَ لَهُم: أما وَالله إِنَّكُم لتعرفون أَنه من عِنْد الله.
(3)
(1)
- الجامع لأحكام القرآن-لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: (ت: 671 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت 1993 م-المجلد الأول 1 - 2/ ص: 54
(2)
المعجزة الكبرى-القرآن- محمد أبو زهرة- دار الفكر العربي بالقاهرة: (ص: 74).
(3)
-يُنظر: تفسير الطبري: (15/ 158 - 159) واللفظ له، تفسير ابن كثير:(3/ 62)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور:(9/ 442). ولم يقف الباحث على شيء منه في كتب السنة في حدود بحثه الضيق.
"فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقًا لأتوا بمثله".
(1)
فـ " لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له ولا مثال له، ولا عديل له؟! ".
(2)
والاجتماع المذكور هنا في آية الإسراء إنما هو:
"اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد، وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن".
(3)
فإن الله تعالى نص على أن الإنسان والجن لو اجتمعوا ليعارضوه لم ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله. فلو كان الإعجاز بالصَّرْفَةِ لقيل: " لو اجتمعوا لما انعقدت لهم عزيمة على الإتيان بمثله أو لو اجتمعوا لما اتجهت هممهم ولا همة واحد منهم إلى هذا الأمر. ولم يرد مثل هذا بحال. وإنما نص القرآن على أنهم لا يأتون بمثله ولو تضافرت جهودهم وتآزرت مساعيهم، فدل على أن التحدي إنما وقع بنفس القرآن وأن الإعجاز قائم في ذاته.
قال السيوطي- (ت: 911 هـ) رحمه الله تعالى- بعد ذكره آية التحدي في الإسراء:
"فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزًا وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو أن الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله".
(4)
ونظير ذلك قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)(البقرة: 23 - 24).
(1)
تفسير البغوي: (5/ 127).
(2)
- تفسير ابن كثير: (5/ 117).
(3)
-التحرير والتنوير: (16/ 302).
(4)
الإتقان: (2/ 1006).
قال ابن كثير رحمه الله:
"ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين:(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)[البقرة: 23] يعني محمدًا
فأتوا بسورة من مثل ما جاء به:، إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص:(قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين)[القصص: 49] وقال في سورة سبحان: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)[الإسراء: 88] وقال في سورة هود: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين) [هود: 13] وقال في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)[يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضًا في المدينة فقال في هذه الآية:(وإن كنتم في ريب) أي شك (مما نزلنا على عبدنا) يعني محمدًا-صلى الله عليه وسلم (فأتوا بسورة من مثله) يعني من مثل القرآن، فتحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك".
(1)
فدلت هذه الآية ونظائرها على أن القرآن معجز بنفسه لمزايا وخصائص استقرت فيه، تقصر طاقة البشر وقدرتهم عن مضاهاتها، لذلك ورد التحدي بالقرآن ذاته.
2 -
لو كان العجز بالصَّرْفَةِ لكان مقتضى الحكمة إنزال القرآن في مستوى بلاغي قريب المتناول- لا في الدرجة القصوى من البلاغة والفصاحة - لتظهر عظمة المعجزة في المنع من مثله والصرف عنه. وهذا يخالف ما ورد في القرآن من أوصاف له تشيد بعظمة بيانه وسموه، فهو الكتاب المبين؛
والقرآن المجيد؛ وفيه الآيات البينات، وهو النور، والنور المبين؛ والكتاب المنير؛ وفيه الهدى والنور وشفاء لما في الصدور
…
3 -
ومن الدلائل التي تثبت إعجاز أسلوب القرآن ما ورد في القرآن نفسه من الآيات الدالة على قوة تأثيره في النفوس. وقد بلغ من تأثيره في نفوس الكافرين ما حملهم على التواصي على
(1)
- تفسير القرآن العظيم (1/ 59 - 60) بتصرف.
الإعراض عنه، كما ذكره الله عنهم (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: 26).
فقد نفد صبرهم عن الصمود لاستماعه لمبلغ تأثيره فيهم وخشيتهم منه على أتباعهم وأنفسهم.
ووصف الله تأثيره في نفوس المؤمنين فقال سبحانه: (الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)(الزمر: 23).
قال أحد زعماء المشركين وهو الوليد بن المغيرة: " فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجز ولا قصيدة مني ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. ووالله إن
لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته ".
(1)
وهذه دلالة واضحة على أن الإعجاز في القرآن نابع من نظمه وذاته من اعتراف بلغاء المشركين والفضل ما شهدت به الأعداء.
ومثل الوليد بن المغيرة فعل نده من المشركين عتبة بن ربيعة إذ قال لقومه: " إني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ
…
".
(2)
.
ولو لم يكن الإعجاز نابعًا من ذات القرآن وجهته، وليس من حائل خارجي يمسكهم عن القول إمساكًا ملزمًا، لما استعظموا القرآن هذا الاستعظام ووصفوه بما وصفوه، غير أنهم أحسوا أن القرآن فوق ما سمعوا وما يستطيعونه من الكلام روعة وجلالًا وجمالًا في ألفاظه ومعانيه.
(1)
- يُنظر: المستدرك على الصحيحين للنيسابوري - كتاب التفسير - تفسير سورة المدثر - مدح كلام الله من لسان الكافر: مسألة: (1506)، (3926)، قال النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.، ورواه الحاكم: في كتاب التفسير (3872) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، يُنظر: صحيح السيرة النبوية ص 159. وضعفه الذهبي وحكم عليه بالإرسال كما في تاريخ الإسلام: (1/ 154) وقال: روي مرسلاً، وضعفه كذلك مقبل بن هادي الوادعي في صحيح أسباب النزول: (1/ 262). ويُنظر: عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ: (جَنَى الخُرْفَةِ في إبطالِ القولِ بالصَّرْفةِ)(ص: 43)، جَنَى الخُرْفَةِ في إبطالِ القولِ بالصَّرْفةِ، تأليف: عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية- مجلة محكمة- العدد الستون، تاريخ النشر صفر 1442 هـ.
وثبوت الأثر عند الباحث محل نظر، لوجود اضطراب لدى المحققين في ثبوته وصحته.
(2)
- وأثر: عتبة بن ربيعة ضعيف: وقد أخرج قصة عتبة بن ربيعة ابن إسحاق فيما ذكر ابن هشام (1/ 293 - 294) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 204 - 205). حديث رقم: (536)، الاعتقاد إلى سبيل الرشاد للبيهقي: حديث رقم: (262). والأثر: إسناده ضعيف لأن به موضع إرسال، وفيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي وهو ضعيف الحديث.
ب- دلائل أخرى تنفي القول بالصَّرْفَةِ:
1 -
يلزم من قولهم إن العرب قد صرفوا عن هذا المستوى فحيل بينهم وبينه بحيث لم يحاولوه قط؛ أن حالهم في البلاغة والبيان وجودة النظم وشرف اللفظ قد تراجعت، فنقصت قرائحهم وأذهانهم وعدموا كثيرا مما كانوا يستطيعونه.
وبالتالي فإنه يلزم منه أيضًا أن أشعارهم التي قالوها وخطبهم التي قاموا بها وكل تعابيرهم بعد الوحي جاءت قاصرة عما سمع منهم من قبل، فضاق عليهم مجال كان متسعًا، ونضبت مواردهم التي كانت غزيرة، وخذلتهم قوى كانوا بها يصولون. وبناء عليه فلا بد أن تخرج أشعار شعراء النبي التي امتدحوه بها ونددوا بالمشركين ناقصة متقاصرة عن شعرهم الجاهلي!؟
وبالتالي فإن التساؤل يدخل على هؤلاء القوم في قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لحسان بن ثابت (اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك)
(1)
فكيف يكون مؤيدًا بعون الله في حين أن الله يعدمه كثيرًا من المواهب والقدرة التي كان يتمتع بها قبل!؟
وينبني على قولهم أن الرسول-صلى الله عليه وسلم قد تقاصرت بلاغته أيضًا والذي يحكم به علماء اللغة والأدب - وهو حقيقة لا مرية فيها - أن آداب العرب زمن بعثة محمد- صلى الله عليه وسلم لم تكن قاصرة عن آداب الجاهلية بحال. بل إن الأمر أكثر من هذا فقد نزل القرآن بلغة فيها من قوة البيان والبلاغة والفصاحة، ما أشرقت بها للعرب بيانهم، وارتقت بها بلاغتهم، وأثمرت ثمارًا طيبة لم يكن للعرب قبل الإسلام بها عهد.
2 -
إن إجماع المسلمين قد انعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، قبل خلاف المخالفين، فهذا دال على إجماعهم على أن الإعجاز نابع من ذات القرآن لا من أمر خارج عنه.
3 -
أنه خابت محاولات بعض الأدعياء لمعارضة القرآن، كالذي فعله مسيلمة الكذاب وسُجَاح
(2)
. وإذا كان كلامهم الذي أتوا به عُرَّةً في جبينهم أبد الدهر وخزيًا لهم؛ فإنه ينفي
الصَّرْفَةِ، لأنها تعني أنهم صرفت هممهم عن معارضة القرآن! وفي الواقع أن محاولة المعارضة قد حصلت!! فلو كان ثمة صرفة لما أظهر هؤلاء من الكلام ما زعموا أنه معارض للقرآن.
4 -
أنهم يوردون علينا استدلالًا على الصَّرْفَةِ: أن العرب بلغاء فصحاء، وكان بعضهم يتقن نظم كلمتين بديعتين في جملة كلامية تبلغان طبقة من البلاغة جد عالية فلو أن الواحد منهم ضم ما جادت به القريحة ثانيًا إلى الأول وهكذا .. يتكامل له بعد حين، قدر سورة من القرآن.
(1)
- رواه الشيخان: البخاري، كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، (7/ 107) وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (4/ 1933)، وغيرهما
…
(2)
سُجَاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان امرأة نجدية من بني تميم. ادعت النبوة في زمن الردة وتبعها قوم ثم صالحت مسيلمة وتزوجته ثم بعد قتله عادت إلى الإسلام فأسلمت وعاشت إلى خلافة معاوية ذكر ذلك صاحب التاريخ المظفري: (8/ 198). ويُنظر: الإصابة في تمييز الصحابة: رقم: (11361)(ص: 102).
والجواب: أن من قدر على الكلام البليغ العالي ليس لازمًا أن يقدر على معارضة أبلغ كلام على الإطلاق .. فإن الأمر يحتاج إلى ملكة في هذا المستوى العالي قادرة على السبك المبدع والتنسيق الفائق بحيث تبلغ المستوى القرآني، وهذا ما يتجاوز وسع المخلوقات. ثم إن التلفيق بين جمل متناثرة، جادة بها القرائح في موضوعات ودواعي مختلفة؛ لا يقدم أسلوبًا أدبيًا متماسكًا محكمًا يرضى عنه الأدباء، فكيف يسوغ الزعم بأنه معارض للقرآن!؟.
5 -
وإذا كان القول بالصَّرْفَةِ قد عُزي للنَّظام من المعتزلة، فليس من شك أن من أبلغ الردود لمذهب الصَّرْفَةِ ما ورد على لسان علم من مشاهير المعتزلة. وهو جواب القاضي عبد الجبار لمن زعم: أن الله قد منع العرب من هذا القدر من الفصاحة والبلاغة حين أنزل القرآن؛ قال:
"فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدر ما جرت به العادة من قبل، وإنما منعوا من مثله في المستقبل، ولو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن، لكونه مساويًا لكلامهم، ولتمكنهم من قبل من فعل مثله في قدر الفصاحة. وإنما كان يكون المعجز ما حدث منهم من المنع. فكان التحدي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن، حتى لو لم ينزل الله تعالى القرآن، ولم يظهر أصلًا، وجعل دليل نبوته امتناع الكلام عليهم على الوجه الذي اعتادوه، لكان وجه الإعجاز لا يختلف. وهذا مما نعلم بطلانه باضطرار، لأنه-صلى الله عليه وسلم تحدى بالقرآن وجعله العمدة في هذا الباب، على أن ذلك لو صح لم يقدح في صحة نبوته، لأنه كان يكون بمنزلة أن يقول-صلى الله عليه وسلم: " دلالة نبوتي أني أريد المشي في جهة فيتأتى لي على العادة وتريدون المشي فيتعذر عليكم.
فإذا وجد الأمر كذلك دل على نبوته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضًا للعادة".
6 -
على أنهم لو صُرفوا، كما زعم القائلون، فإن من كان قبلهم من أهل الجاهلية لم يخاطبوا بالتحدي ولم يصرفوا عما يعدل القرآن فصاحة وبلاغة وحسن نظم وروائع وصف، فهلا جاءونا
بشيء من أقوالهم يساويه في ذلك؟ فإذا عجزوا عن استخراج ذلك لعدم وجوده أصلًا، فقد انكشف أن قولهم بالصَّرْفَةِ فاضح البطلان.
(1)
7 -
ومن أهم الأدلة على بطلان القول بالصَّرْفَةِ أن أهل الصنعة البلاغية إذا سمعوا كلامًا يطمعون في مجاراته لم يخف عليهم ولم يشتبه لديهم، فلا بد أن يحاولوا مباراته! كيف وقد تضافرت
(1)
- حكى القرطبي أن بعض أصحاب الصرفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه، وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقًا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار. يُنظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 76
عليهم دوافع عديدة من سب آلهتهم وتسفيه عقول آبائهم ومطالبتهم بالإتباع مما يذهب بزعامتهم ومصالحهم .. !؟
وكيف يلزمون الصمت مع القدرة على المباراة؟ وقد تحداهم عشرين سنة بشيء من صناعتهم التي فاقوا بها وافتخروا، مع تقريعهم بالعجز مرارًا وتكرارًا، وهم مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم.
لو أنهم أحسوا بالحيلولة والحجز لدرأوا عن أنفسهم وصمة العجز، فإنه ليس معتادًا في بني الإنسان قاطبة - فضلًا عمن ذكرنا أوصافهم من العرب -أن يذعن الواحد لخصمه فيستكين له
ويلقي بيديه ويسكت عن التقريع بالعجز أمدًا بعيدًا. فلما لم يؤثر عنهم مثل ذلك التشكي والتضجر دل ذلك على أنه لا أصل لما انصرف إليه أصحاب الصرفة واهمين.
قال الجرجاني
(1)
-رحمه الله تعالى-:
" ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي له إن كانت العرب منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها؛ أن يعرفوا ذلك من أنفسهم كما قدمت. ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك. ولكانوا قد قالوا للنبي-صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به. ولكنك قد سحرتنا واحتلت في شيء حال بيننا وبينه. فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور كما لا يخفي. وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم. ويشكوه البعض إلى البعض ويقولوا مالنا قد نقصنا من قرائحنا وقد حدث كلول في أذهاننا .. فبقي أن لم يُرْوَ ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى لا ما قلَّ ولا ما كثر، دليل دليل [على] أنه قول فاسد ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل".
(2)
فهذا كله يجعل القول بالصَّرْفة باطلًا داحضًا يستوجب الانصراف عنه.
ثم يقول في موضع آخر رحمه الله:
"
…
لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله، لأنه معجِز فى نفسه إلا أن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم حال من أُعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظَمَهم؛ ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره، وتعجبهم منه، وعلى أنه قد بهرهم، وعظم كل العِظَم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذي دخل من العجز عليهم، ورأوه من تغير حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلاً، وأن سُدَّ دونهم باب كان لهم
(1)
- قال الإمام الذهبي: كان شافعيّاً، عالمًا، أَشعريّاً، ذا نسُكٍ ودين. سير أعلام النبلاء - (35/ ص 404).
(2)
- الرسالة الشافية، عبد القاهر الجرجاني:(ص: 135).
مفتوحًا، أرأيت لو أن نبيًا قال لقومه:(إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم)، وكان الأمر كما قال، ممَّ يكون تعجب القوم، أمِن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم؟. "
(1)
يقول الباقلاني:
"وأخيرا فإن الصَّرْفَةِ تصور القرآن معجزة حسية معقدة خفية. فلو كان المراد الإعجاز الحسي لما كان ثمة داع لجعله مصحوبًا بتلك الصورة الكلامية مع التحدي بها. فذلك نمط مُرْبِكٌ عسير
الإدراك، يُستغنى عنه بأهون شيء يقطع ما بين النبي- صلى الله عليه وسلم وقومه من جدل ومعاناة ".
(2)
حادي عشر: ذكر جملة من أشهر أقوال العلماء القائلين ببطلان القول بالصَّرْفَةِ
1 -
شيخ الإسلام بن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله
-
حيث يقول: "ومن أضعف الأقوالِ - أي في إعجاز القرآن - قول من يقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًا، مثل قوله تعالى لزكريا: (
…
آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويًا) (مريم: 10) وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادات بمنزلة من يقول: إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم، وأضربهم جميعهم، وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله، أو إلى ولي الأمر، وليس فيهم - مع ذلك - من يشتكي، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
ولو قدر أن واحدًا صنف كتابًا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرًا، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله، وتحداهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار، مأواكم النار، ودماؤكم لي حلال، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد. فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم: أنا رسول الله إليكم جميعًا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، ووجب
(1)
دلائل الإعجاز في علم المعاني: (ص: 390).
(2)
- إعجاز القرآن للباقلاني ص 29 - 30 وبيان إعجاز القرآن للخطابي ص 20 - 21. ويُنظر: إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 162).
عليهم كلهم طاعتي، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآن، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، وأنا أخبركم أن أحدًا لا يأتي بمثله.
فيقال: لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.
فإن كانوا قادرين، ولم يعارضوه، بل صرف الله دواعي قلوبهم، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل:
معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين، ثبت أنه خارق للعادة، فثبت كونه خارقًا على تقدير النقيضين; النفي والإثبات. فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر".
(1)
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية آنفًا يدل على أنه يرد القول بالصرفة ولا يقبله، بل ويعتبره من أضعف ما قيل في بيان أوجه الإعجاز، وهو في ضوء كلامه آنفًا لا يقبله إلا على سبيل التنزل مع المخالف.
ولذا قال في محض كلامه: (فهذا غاية التنزل، وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد- صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وسائر كلامه لكل من له أدنى تدبر
…
).
(2)
2 -
الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت: 774 هـ) رحمه الله
-
حيث يقول: " لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له ولا مثال له، ولا عديل له؟! ".
(3)
3 -
الباقلاني الأشعري (ت: 402 هـ) رحمه الله
-
حيث يقول: "وما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصَّرْفَةِ، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع معجزًا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وقال أيضًا: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه
(1)
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: (5/ 429).
(2)
المرجع السابق نفسه: (5/ 431)
(3)
- المرجع السابق: (5/ 117).
لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ولا بأعجب من قول آخرين، أن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكل هذا لا يعتد به".
(1)
.
وقال أيضًا:
"فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة.
ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد-صلى الله عليه وسلم، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله".
(2)
4 -
الخطابي (ت: 388 هـ) رحمه الله
-
أما الخطابي فقد رد القول بالصَّرْفة بعد أن بَيَّنَ معناها ووضَّح مفهومها ومقصدها عند من قال بها، ثم عقب ذلك بقوله:
"
…
لأن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله سبحانه (قُلْ لَئِنْ اجَتَمعَتِ الإنسُ والجِنُّ عَلى أَنْ يأتُوا بمثْلِ القُرآنِ لا يأتُونَ بمِثْلِهِ وَلوْ كانَ بَعْضُهمْ لبعضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء، 88]، فأشار في ذلك إلى
أمر طريقة التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصَّرْفَةِ التي وصفوها لا يلاءم هذه الصفة، فدل على أن المراد غيرها والله أعلم
(3)
.
والخطابي هنا يرد الصَّرْفة ويرد على القائلين بها بحجية آية التحدي في الإسراء، ومع ذلك فإن القائلين بها استدلوا بنفس الآية مع إنها حجة عليهم لا لهم، والخطابي حينما يستدل بآية الإسراء
(1)
إعجاز القرآن للباقلاني: (ص: 24). إعجاز القرآن للباقلاني المؤلف: أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب (المتوفى: 403 هـ) المحقق: السيد أحمد صقر الناشر: دار المعارف - مصر الطبعة: الخامسة، 1997 م عدد الأجزاء: 1
(2)
- المرجع السابق: (ص: 25).
(3)
- الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص 23.
التي هي عمدة الاستدلال كأنه يشير إلى أن الآية واضحة الدلالة وواضحة المعاني لا تحتاج لزيادة تأويل.
5 -
الإيجي (ت: 756 هـ) رحمه الله
-
حيث يقول: "لو سلبوا القدرة - أي العرب - كما قال به - الشريف الرضي - لعلموا ذلك من أنفسهم ولتناطقوا به عادة ولتواتر عنهم ذلك التناطق لجريان العادة بالتحدث بخوارق العادات لكنه لم يتواتر قطعًا".
(1)
.
6 -
الزركشي (ت: 794 هـ) رحمه الله
-
أما الزركشي فيقول في " البرهان " في محض كلامه عن إبطال الصَّرْفة والرد على النَّظام ما يلي:
"إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) (الإسراء: 88) فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزًا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز أن هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله وأيضا يلزم من القول بالصَّرْفة فساد آخر وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة".
(2)
7 -
القرطبي (ت: 671 هـ) حيث يقول في تفسيره رحمه الله
-:
" إن بعض أصحاب الصَّرْفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه، وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في
مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقًا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار".
(3)
8 -
الرافعي (ت: 1356 هـ) رحمه الله
-
(1)
- الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، دار الجيل - بيروت، (ط/ 1، 1997) تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، (ج 3، ص 397).
(2)
- الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم: (ج 2، ص 94).
(3)
- الجامع لأحكام القرآن: (1/ 76).
وعلى الجملة فإن القول بالصَّرْفة لا يختلف عن قول العرب فيه " حيث يقول:
(إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)(المدثر: 24)، وهذا زعم رده الله على أهله، وأكذَبهم فيه، وجعل القول به ضربًا من العمى .. (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) (الطور: 15)
فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد ".
(1)
وهذا القول: (يعني القول بالصَّرْفة) باطل من وجوه:
أولها: إنه لو صح لكان الإعجاز في الصَّرْفة لا في القرآن ذاته، وهو باطل بالإجماع
ثانيها: إنه لو صح لكان تعجيزًا لا إعجازًا؛ لأنه يكون بمثابة ما لو قطعنا لسان إنسان وكلفناه بالكلام، فهو من باب التعجيز وليس من باب العجز.
ثالثها: قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88)، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سُلِبوا
القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم فإنه يصبح بمنزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بالأمر الكبير الذي يُحتفل بذكره".
(2)
وإنَّ رواج تلك الفكرة يؤدي إلى أمرين
أولهما: إنَّ القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.
وثانيهما: الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته، أو في معانيه.
(3)
.
9 -
عبد القاهر الجرجاني (ت: 816 هـ) رحمه الله
-
والجرجاني ممن قال ببطلان الصَّرْفة في "الشافية"
و يرد على من حصر التحدي في إعجاز القرآن في النظم واللفظ والمعنى فحسب فيقول:
"
…
فإن قلت: فكيف الكلام عليهم، إذا ذهبوا في " الصَّرْفة " إلى الوجه الآخر، فزعموا أن التحدي كان أن يأتوا في أنفس معاني القرآن بمثل نظمه ولفظه؟ وما الذي دل على فساده؟ فإن على فساد ذلك أدلة منها قوله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات)[هود: 13]، وذاك أنا نعلم أن المعنى: فأتوا بعشر سور تفترونها أنتم وإذا كان المعنى على ذلك، فبنا أن ننظر في
الافتراء إذا وصف المعنى، وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى وجب أن يكون المراد: إن كنتم تزعمون
(1)
- إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 103).
(2)
يُنظر: محاضرات في علوم القرآن، لـ: أ. د. صلاح الصاوي ود. محمد سالم: (ص: 169)
(3)
-المعجزة الكبرى القرآن، محمد أبو زهرة:(ص: 8).
أني قد وضعت القرآن وافتريته، وجئت به من عند نفسي، ثم زعمت أنه وحي من الله، فعضوا
(1)
أنتم أيضًا عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن
(2)
، وفي موضع آخر يقول في رده على الشريف الرضي الشيعي بقوله:
"
…
أنه كان ينبغي لهم لو أن العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، كما قدمت، ولو عرفوا لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك، ولكانوا قد قالوا للنبي-صلى الله عليه وسلم:"إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك قد سحرتنا، واحتلت في شيء حال بيننا وبينه"، فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور، كما لا يخفى، وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكوه البعض إلى البعض، ويقولوا:"ما لنا قد نقصنا في قرائحنا، وقد حدث كلول في أذهاننا" ففي أن لم يرو ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى، لا ما قل ولا ما كثر، دليل [على] أنه قول فاسد، ورأى ليس من آراء ذوى التحصيل
(3)
.
وفي موضع آخر من "الشافية" في محض دفاعه عن إعجاز القرآن والرد على القائلين بالصَّرْفة بما جاء عن العرب في شأن القرآن من أخبار-يقول- أيضًا:
"ومنها الأخبار التي جاءت عن العرب في تعظيم شأن القرآن وفي وصفه بما وصفوه به من نحو: "إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر"
(4)
، وذاك أن محالًا أن يعظموه، وأن يبهتوا عند سماعه، ويستكينوا له، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون ما يوازيه، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم لأنهم لا يستطيعون مثله
(5)
.
ويقول في موضع آخر من "الشافية" في نهاية قوله بإبطال الصَّرْفة والرد على قائليها-أيضًا-:
(1)
"عضوا" من الاستعاضة- اِستِعاضة (اسم) مصدر اِسْتَعاضَ- يجب الاِسْتِعاضَةُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ آخَرَ: أَنْ تَجْعَلَ فِي مَكانِهِ شَيْئاً آخَر. يُنظر: معجم المعاني الجامع: مادة استعاضة.
(2)
- الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر، بن عبد الرحمن، الرسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل في أعجاز القرآن، دار المعارف - مصر، (ط: 3، 1976 م) (ت: محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام)، ص 150
(3)
- السابق، ص 148 - ص 149.
(4)
- يُنظر: المستدرك على الصحيحين للنيسابوري - كتاب التفسير - تفسير سورة المدثر - مدح كلام الله من لسان الكافر: مسألة: (1506)، (3926)، قال النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.، ورواه الحاكم: في كتاب التفسير (3872) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، يُنظر: صحيح السيرة النبوية ص 159. وضعفه الذهبي وحكم عليه بالإرسال كما في تاريخ الإسلام: (1/ 154) وقال: روي مرسلاً، وضعفه كذلك مقبل بن هادي الوادعي في صحيح أسباب النزول: (1/ 262). ويُنظر: عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ: (جَنَى الخُرْفَةِ في إبطالِ القولِ بالصَّرْفةِ)(ص: 43). وثبوت الأثر عند الباحث محل نظر، لوجود اضطراب لدى المحققين في ثبوته وصحته. وقد سبق تخريجه في مواضع عدة.
(5)
- السابق، ص 152.
"
…
ينبغي أن يقال: ما هذا الذي أخذتم به أنفسكم؟ وما هذا التأويل منكم في عجز العرب عن معارضة القرآن؟ وما دعاكم إليه؟ وما أردتم منه؟ أأن يكون لكم قول يحكى، وتكونوا أمة على حدة، أم قد أتاكم في هذا الباب علم لم يأت الناس؟
فإن قالوا: أتانا فيه علم.
قيل: أَفَمِنْ نظرٍ ذلك العلم أم خبر؟
فإن قالوا: من نظر.
قيل لهم: فكأنكم تعنون أنكم نظرتم في نظم القرآن ونظم كلام العرب ووازنتم فوجدتموه لا يزيد إلا بالقدر الذي لو خلوا والاجتهاد وإعمال الفكر، ولم تفرق عنهم خواطرهم عند القصد إليه، والمقصد له لأتوا بمثله؟
فإن قالوا: كذلك نقول.
قيل لهم: فأنتم تدعون الآن أن نظركم في الفصاحة نظر لا يغيب عنه شيء من أمرها، وأنكم قد أحطتم علمًا بأسرارها، وأصبحتم ولكم فيها فهم وعلم لم يكن للناس قبلكم.
وإن قالوا: عرفنا ذلك بخبر.
قيل: فهاتوا عرفونا ذلك، وأني لهم تعريف ما لم يكن، وتثبيت ما لم يوجد!
ولو كان الناس إذا عن لهم القول نظروا في موداه، وتبينوا عاقبته، وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر، وحذروا أن تجيء أعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذا لكفوا البلاء، ولعدم هذا وأشباهه من فاسد الآراء، ولكن يأتي الذي في طباع الإنسان من التسرع، ثم من حسن الظن بنفسه، والشغف بأن يكون متبوعًا في رأيه، إلا أن يخدعه وينسبه أنه موصى بذلك، ومدعو إليه، ومحذر من سوء المغبة إذا هو تركه وقصر فيه. وهي الآفة لا يسلم منها ومن جنايتها إلا من عصم الله. وإليه عز اسمه الرغبة في أن يوفق للتي هي أهدى، ويعصم من كل ما يوتع الدين، ويثلم اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه
(1)
.
وقال أيضًا رحمه الله:
"إنه لا يتصور الإعجاز بالصَّرْفة، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به، بل قبل نزوله، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصَّرْفة الواقعة بعد التحدي، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصَّرْفة".
(2)
.
(1)
- الجرجاني، الرسالة الشافية، ص 155
(2)
شرح المواقف: (8/ 249)
10 -
السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله
-:
يقول السيوطي مستدلا بآية التحدي في الإسراء:
"
…
فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة، لم تبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره،
…
".
(1)
11 -
الإجماع
ومن أقوى الأقوال والردود والحجج الواردة في إبطال القول بالصَّرْفة الإجماع الذي حكاه القرطبي وقد مر معنا في طيات البحث ولا حرج من إعادة ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه، والأمة لا تجتمع على ضلالة أبدًا كما صح الخبر بذلك عن خير البشر في قوله عليه الصلاة والسلام:(إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)
(2)
وإجماع الأمة إنما كان قبل ظهور القول بالصَّرْفة على أن إعجاز القرآن ذاتي
…
وقد حكى القرطبي الإجماع في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، وقد مر معنا ذكره آنفًا.
وممن قال بالإجماع واستدل به على بطلان الصَّرْفة كذلك علي بن محمد الجرجاني (ت: 812 هـ) في شرح المواقف
(3)
والألوسي في روح المعاني
(4)
.
وفي الجملة فإن الرد على القائلين الصَّرْفة يُعد من الأقوال كذلك، فلا يُظن أن أقوال العلماء منفردة في القول ببطلان الصَّرْفة فحسب، بل إن ردودهم تعد من أقوى أقوالهم كذلك، وهي وإن كانت كثيرة غير أنَّا تخيرنا أبرزها وأبينها على الدلالة ببطلان القول بالصَّرْفة، وقد مر بنا في طيات البحث بعض أقوال من العلماء المذكورة آنفًا وكان إعادة ذكر بعضها هنا من باب حصر أقوالهم في مبحث واحد ليسهل الرجوع إليها لمن يطلبها في مكان واحد، فهو من باب التسهيل والتقريب لا من باب الإعادة والتكرار فلينتبه.
ثاني عشر: أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة
1 -
إن القول بالصَّرْفة زعم لا دليل عليه من العقل أو النقل.
2 -
لقد انكشف نقض القول بالصَّرْفة وبطلانه بأدلة من القرآن والحديث والإجماع وبأدلة أخرى قوية حاسمة.
3 -
إن القول بالصَّرْفة دحضه الواقع وكذبه، فقد عرف تاريخ الدعوة الإسلامية أناسًا كذابين من العرب لم تنصرف هممهم عن محاولة معارضة القرآن بل بذلوا في ذلك كل همتهم وغاية
(1)
- الإتقان: (1/ 6 ـ 7).
(2)
- حسن بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة:(3/ 319).
(3)
- شرح المواقف: (8/ 249)
(4)
- روح المعاني: (1/ 27).
اهتمامهم. فكانت معارضتهم وصمة عار أبدية في جباههم، وازدادت البصائر إكبارًا للقرآن المجيد وخصائص إعجازه الذاتية.
(1)
.
وبذلك ينتهى الكلام عن مبحث الصَّرْفة.
(2)
ولعل فيما مضى معتبر لأهل البحث والنظر، ولا اعتبار لمن نظره وعقله عن وصوله إلى الحق قصر. والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: عناية النبي صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن وحفظ في صدره، ومعالجته أشد المعالجة حال تلقيه
.
ابتدأ الباحث الكلام عن المعنى الأول من معاني حفظ القرآن، ألا وهو حفظه وتقييده في الصدور في بداية هذا الفصل.
ويعود هنا إلى إكمال وإتمام هذا المعنى -الأول- من معاني حفظ القرآن، -ألا وهو حفظه وتقييده في الصدور- والكلام هنا عن معنى حفظ القرآن في صدره الشريف-صلى الله عليه وسلم.
عناية النبي صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن وحفظ في صدره الشريف-صلى الله عليه وسلم.
كان جبريل- عليه السلام كلما نزل على النبي-صلى الله عليه وسلم-يقرؤه القرآن ويعلمه ويدارسه إياه، فإنه-صلى الله عليه وسلم لشديد الحرص على تلقيه من فِيِ جبريل- عليه السلام وهو يدارسه، فيحرص على حفظه وضبطه واتقانه خشية أن يتفلت منه أي شيء، فيتلقاه
من فِيِ جبريل مباشرة، فكان صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه وعنايته بتلقيه يحرك به لسانه ويعالجه أشد المعالجة، حتى كان يجد من ذلك شدة؛ وما زال أمره-عليه الصلاة والسلام كذلك حتى نزل عليه قول ربه سبحانه:(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(القيامة: 16 - 19).
فكانت تلك الآيات المباركات بمثابة الشفاء والدواء، مع ما فيها من معاني الربط على فؤاده الطاهر-صلى الله عليه وسلم، وبمثابة الوعد بحفظ الله للقرآن في صدره الشريف لفظًا ومعنى.
ومن أظهر ما ورد في ذلك ما ثبت في الصحيحين عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ-رضي الله عنهما في قَوْلِهِ تَعالَى: (لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ)[القيامة: 16] قالَ: كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وكانَ ممَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ - فقالَ ابنُ عبَّاسٍ-رضي الله عنهما: فأنا أُحَرِّكُهُما لَكُمْ كما كانَ رَسولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُما، وقالَ سَعِيدٌ: أنا أُحَرِّكُهُما كما رَأَيْتُ ابْنَ عبَّاسٍ يُحَرِّكُهُما، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى:(لا تُحَرِّكْ به لِسانَكَ لِتَعْجَلَ به إنَّ عليْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ)[القيامة: 17] قالَ: جَمْعُهُ لكَ في صَدْرِكَ وتَقْرَأَهُ: (فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)[القيامة: 18] قالَ:
(1)
يُنظر: القول بالصَّرْفة - مقال عن موقع جامعة أم القرى. بتصرف يسير.
(2)
-وتم بحمد الله إخراج مبحث الصَّرْفة في كتاب مستقل تحت مسمى: "جَنَى الخُرْفَة في إبطال القولِ بالصَّرْفة" للباحث.
فاسْتَمِعْ له وأَنْصِتْ: (ثُمَّ إنَّ عليْنا بَيانَهُ)[القيامة: 19] ثُمَّ إنَّ عليْنا أنْ تَقْرَأَهُ، فَكانَ رَسولُ اللَّهِ-
صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذلكَ إذا أتاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمع فإذا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النبيُّ-صلى الله عليه وسلم كما قَرَأَهُ.
(1)
وكان من أهم الأسباب التي أعان الله سبحانه بها نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن وضبطه وتثبيته في قلبه معارضة جبريل-عليه السلام إياه بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، حتى كان العام الذي توفي فيه- صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل-عليه السلام إياه بالقرآن مرتين اثنتين، ففقه وفهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الأمر قرب انتهاء مهمته في الأرض بإبلاغ الحق للخلق، وأداء رسالات الله لعباد الله، ودنو أجله.
ومما يدلل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس-رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، كان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير مِن الريحِ المُرسَلة".
(2)
وما ثبت عند مسلم من حديث عائشة: " أن فاطمة رضي الله عنهما قالت: أخبرني [أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم](أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنِّي لَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ)
(3)
وفي رواية البخاري: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِ، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: (أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ) فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.
(4)
. والله تعالى قد تكفل له بفسره وبيانه، وتفصيل إجماله، وإزالة مبهمه وإشكاله، وهذا منه سبحانه بمثابة الكفالة والضمان له بتثبيته في قلبه وعدم نسيانه، وذلك بألا تتفلت كلمة أو حرف منه.
فكان القرآن شغله الشاغل صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وأحيانه، قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، في حضره وسفره، في خلوته وجلوته، في ليله ونهاره، في سره وجهاره، في صحته وسقمه، في منشطه ومكرهه، في عسره ويسره، لا يغيب كلام ربه عن قلبه طرفة عين ولا أدنى من ذلك، فيحل
(1)
- متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري، بدء الوحي- كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، (باب رقم: 4) (حديث رقم: 5)، صحيح البخاري، نشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422 هـ. -
(2)
- رواه البخاري (3/ 1177)(3048)، ومسلم 4/ 1803 (2308)
(3)
- رواه مسلم (2450).
(4)
- رواه البخاري (3624)
حلاله ويحرم حرامه، يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه، يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، ويتخلق بخلقه
كما وصفه ربه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم: 4)، وكذلك يتعظ بمواعظه، ويعتبر بعبره وقصصه وأخباره، ويقوم ببلاغه عن ربه حق البلاغ، تأدية للأمانة، وقيامًا بأعباء الرسالة.
وقد جمع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم محاسنَ الصفات، ومكارم الأخلاق كلها، وليس ثم كلمة هي أجمع لكريم صفاته وحسن شمائله وسجياه صلى الله عليه وسلم من الكلمة التي وصفَتْه بها أمُّ المؤمنين عائشة-رضي الله- عنها لَمَّا سُئلت عن خُلُقه صلى الله عليه وسلم، قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآنَ.
(1)
قال ابن الأثير رحمه الله:
أي متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن.
(2)
ولذا كان الصحابة الكرام-رضوان الله عليهم- يرجعون إليه في كل دقيق وجليل يتعلق بالقرآن وفهم معانيه ومقاصده ومراميه.
ثالثًا: عناية الصحابة رضي الله عنهم بحفظ القرآن في صدورهم
والكلام ما يزال متصلًا عن المعنى الأول، الذي هو حفظ القرآن وتقييده في الصدور.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه كتاب ربهم، فبمجرد نزول الوحي نضًا طريًا يسارع في أخذه عن جبريل-عليه السلام ويعجل بتعليمه لهم وتلقينهم ما أنزل إليه من ربه، ويحفظهم إياه، ويفقههم في معناه، ويلقنهم طريقة أدائه وآداب تلاوته، ويحثهم على تحسين أصواتهم به ويأمرهم بالتغني به، ويرغبهم فيه، ويبين لهم عظيم الأجر وجزيل الثواب المترتب على أخذ القرآن وفضل تعلمه وتعليمه، كل ذلك ترغيبًا لهم في تعلمه وتلقيه، وحتى يجمعوا بين حفظ اللفظ وفهم المعنى، وينقلوا ما تعلموه من كتاب ربهم من نور وحيز العلم، إلى واقع وصدق العمل.
ولقد أجل الصحابةُ- رضوان الله عليهم- كتابَ ربهم أيما إجلال، فأنزلوه في قلوبهم ونفوسهم وأرواحهم منزلة الروح من الجسد كما وصفه الله تعالى بقوله:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(الشورى: 52)
يقول مالك بن دينار: الروح هو القرآن، وسماه روحًا لأن فيه حياة من موت الجهل
(3)
.
(1)
- رواه مسلم 1/ 512 (746)، وهو طرف من حديث طويل.
(2)
-النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 70). النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: 5
(3)
-الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (16/ 53).
يقول ابن سعدي (ت: 1376 هـ) رحمه الله:
وهو هذا القرآن الكريم، سماه روحًا، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
(1)
فكان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون في تلقيه من فِيِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وها هو عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه يقول عن نفسه:
"والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت،
ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه".
(2)
عن شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: خطبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ-رضي الله عنهم فقَالَ:
"وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ".
قالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا، يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ.
(3)
وما قال ذلك إلا بعد تلقى القرآن من فِيِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وبلغ مبلغًا عظيمًا في العلم بكتاب الله، تلاوة وتفسيرًا، تجويدًا وتحبيرًا، وما يتعلق بأسباب نزوله، وفهم معانيه ومقاصده ومراميه.
وإذا أردنا أن تترسخ تلك المعاني في نفوسنا فلنتأمل إلى ما حسنه الألباني رحمه الله، وأصله عند أحمد في المسند من حديث زر بن حبيش-رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وهو بين أبي بكر وعمر، وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ النساء، فانتهى إلى رأس المائة. فجعل ابن مسعود يدعو، وهو قائم يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسأل تعطه، اسأل تعطه، ثم قال: من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد. فلما أصبح غدا إليه أبو بكر ليبشِّره، وقال له: ما سألت الله البارحة؟ قال: قلتُ: اللهم إني أسألك إيمانًا
(1)
- تفسير السعدي (7/ 1602).
(2)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن (4716)
(3)
- صحيح البخاري، كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ-بَاب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى، حديث رقم:(4641).
لا يرتدّ، ونعيمًا لا يَنْفد، ومرافقة محمد في أعلى جنة الخلد. ثم جاء عمر-رضي الله- عنه فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم الله أبا بكر، ما سبقته إلى خير قط، إلا سبقني إليه".
(1)
ولقد تلقى جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - القرآن غضًا طريًا من فِيِ رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسارعون ويسابقون لكتابته في السطور، وحفظه في الصدور، ومن ثَمَّ
تلقي ما أُشكل عليهم من فهم معانيه، ثم حرصوا-رضوان الله عليهم- على العمل بما تعلموه، ومن ثَمَّ ينقلوا ما تعلموه وتدارسوه، كما كان يفعل أهل الصفة، كانوا يحتطبون بالنهار ويتدارسوا القرآن بالليل، وتلك سمة بارزة تميز بها جيل الصحابة-رضوان الله عليهم-.
تنافس الصحابة رضي الله عنهم في حفظ القُرْآن
"كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في حفظ القُرْآن، ويتسابقون إلى مدارسته وتفهُّمه، ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه، وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارًا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام، حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويًّا كدوي النحل بالقُرْآن، وكان الرسول-صلى الله عليه وسلم يُذْكي فيهم روح العناية بالتنزيل، يبلغهم ما أنزل إليه من ربه، ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلِّمهم ويُقرِئهم، كما بعث مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلِّمانِهم الإسلام ويقرئانهم القُرْآن، وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء؛ "
(2)
.
مشاهد من همة الصحابة رضي الله عنهم في القيام بحق القرآن:
وإذا أردنا نتأمل ونطالع الهمة العالية عند شباب الصحابة وتنافسهم في هذا الميدان الفسيح فلننظر ونتدبر ما ثبت عند النسائي وغيره من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جمعت القُرْآن، فقرأت به في كل ليلة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لي:((اقرأ به في كل شهر))، فقلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال:((اقرأ به في كل عشرين))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فقال:((اقرأ به في كل عشر))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال:((اقرأ به في كل سبع))، قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فأبى؛
(3)
(1)
- مسند الإمام أحمد 7/ 359 رقم 4340. وقال شعيب الأرناؤوط ومن معه: " صحيح بشواهده، وهذا إسناد حسن ". وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة 5/ 379 رقم 2301.
(2)
-مناهل العرفان للزرقاني (1/ 241).
(3)
-فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/ 668)، وأصل الحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة، باب في كم يستحب يختم القرآن، سنن ابن ماجة ج 1 - ص 428، واللفظ له، وأحمد (6873)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8064)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه:(1114). وقد سبق تخريجه في مطلع هذا الفصل، عند المطلب الثاني: مفهوم الجمع في الاصطلاح.
وثبت في الصحيحين عن طريق قتادة، من حديث أنس-رضي الله عنه، قال: على عهد النبي-صلى الله عليه وسلم: أربعة، كلهم من الأنصار: أبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت، قلت لأنس: مَن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي؛
(1)
وثبت عند البخاري من أنس بن مالك قال: مات النبي-صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غيرُ أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (قيس بن السكن)، قال:(ونحن ورثناه)؛
(2)
قال الحافظ (ت: 852 هـ) رحمه الله في الفتح:
"هذا الحصر الموجود في هذا الحديث حصر نسبي، وليس حصرًا حقيقيًّا حتى ينفي أن يكون غير هؤلاء الأربعة قد جمعه على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله تعليقًا على حديث أنس بن مالك:
قُتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتل في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، وإنما خص أنس الأربعة بالذكر؛ لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم"؛
ويقول رحمه الله أيضًا:
قال المازري رحمه الله: لا يلزم من قول أنس-رضي الله عنه: لم يجمعه غيرهم، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده
وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك؛
(3)
ويتابع الحافظ رحمه الله ويقول:
"الذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القُرْآن في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ففي بداية بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم بنى أبو بكر مسجدًا بفِناء داره، فكان يقرأ فيه القُرْآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه، مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القُرْآن من النبي- صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة، وكثرة ملازمة كل
(1)
-البخاري: (3810)، مسلم (2465).
(2)
البخاري (5004).
(3)
فتح الباري لابن حجر العسقلاني (9/ 52)
منهما للآخر، حتى قالت عائشة في الهجرة: إنه-صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرةً وعشيةً، وقد صحح مسلم حديث:((يؤم القومَ أقرؤُهم لكتاب الله))
(1)
، وأمر-صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض، فيدل على أنه كان أقرأهم، وتقدم عن عليٍّ (ابن أبي طالب) أنه على ترتيب النزول عقب موت النبي- صلى الله عليه وسلم؛
(2)
وأصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم من السابقين والمسارعين إلى الخير، وإلى كل عمل صالح وبر، وكان من أعظم مشاهد تنافسهم وتسابقهم إلى الخير وعلو همتهم في ذلك حفظهم القرآن الكريم، والحرص على تعلمه وتعليمه، والعمل بأحكامه.
فكان تعلمهم أولًا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ثم صار بعضهم يعلم بعضًا، فمن فاته شيء من القرآن لم يتمكن من تلقيه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم، لأي سبب عارض من انشغاله بجهاد أو نحوه من أعمال البر سارع لتعلمه من غيره.
وأشتهر بتعليم القرآن من الصحابة بداية جمعٌ، من أبرزهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب-رضي الله عنهم أجمعين- -، فعلموا الكثير من صغار الصحابة، كما علموا من جاء من بعد جيل الصحابة ممن أدركهم من جيل التابعين.
وكان هذا دأب الصحابة-رضي الله عنهم حال انتشارهم في الأمصار تعليم كتاب الله.
يقول سُوَيْدُ بْن عَبْدِالعَزِيزِ التّنوخيِّ الدِّمشقيُّ (ت: 200 هـ) رحمه الله:
" كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفًا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك".
وعن مُسْلِم بن مِشْكَم الْخُزَاعِيُّ
(3)
قال:
" قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفًا وستمائة ونيفًا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ ".
(4)
والحفاظ من الصحابة جمع غفير وكثير، وهم لا يحصون كثرة، ولكن أهل العلم ذكروا أبرز الحفاظ من الصحابة، وكان ذكرهم لأبرز الحفاظ منهم على سبيل الاشتهار لا على سبيل الحصر.
(1)
صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أحق بالإمامة رقم: 1534
(2)
- فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/ 668).
(3)
- كان كاتب أبي الدَّرداء، وروى عن أبي الدرداء، ومعاوية، وروى عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر.، تُنظر ترجمته في: التهذيب (138/ 10) ترجمة (254)، تقريب التهذيب (247/ 2)، الكاشف (5524/ 3).
(4)
- معرفة القراء الكبار (ص: 20).
وفي نحو ذلك يقول الحافظ (ت: 852 هـ) رحمه الله في الفتح:
"ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقُرَّاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَدَّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وابن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَالِمًا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّائِبِ وَالْعَبَادِلَةَ، وَمِنَ النِّسَاءِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أَكْمَلَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وعد ابن أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَيْضًا:
تَمِيمَ بْنَ أَوْسٍ الدَّارِيَّ وَعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَمُعَاذًا الَّذِي يُكَنَّى أَبَا حَلِيمَةَ وَمُجْمِّعَ بْنَ حَارِثَةَ وَفَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ وَمَسْلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِنَّمَا جَمَعَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّنْ جَمَعَهُ أَيْضًا: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ)
(1)
، وَعَدَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْقُرَّاءِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَسَعْدَ بْنَ عَبَّادٍ وَأُمَّ وَرَقَةَ ".
(2)
وقد ذكر أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلَّام (ت: 224 هـ) رحمه الله
(3)
- القراءَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
-:
"فعَدَّ مِن المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدًا وابن مسعود وحذيفة وسالمًا وأبا هريرة وعبدالله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما
أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعَدَّ ابنُ أبي داود مِن المهاجرين أيضًا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر، ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذًا وَمُجْمِّعَ بْنَ حَارِثَة وَفَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ وَمَسْلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ وَغَيْرَهُمْ، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضًا أبو موسى الأشعري، ذكره أبو عمرو الداني".
(4)
(1)
هو: عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، ويعرف بابن الصيرفي، من الأئمة في علوم القرآن ورواياته وتفسيره، وهو من دانية بالأندلس، كانت ولادته عام 371 هـ (981 م) ووفاته في بلده عام 444 هـ (1053 م)، من مصنفاته: المقنع، والاهتداء في الوقف والابتداء، والبيان في عَدِّ آي القرآن، وغيرها. معرفة القراء الكبار: 1/ 406، غاية النهاية: 1/ 503، (الأعلام الزركلي:(4/ 366 - 367).
(2)
-فتح الباري (9/ 52)، ويُنظر: الإتقان للسيوطي (1/ 248 - 249).
(3)
- كان من مواليد هراة- إحدى الولايات الأفغانية اليوم - وكان عالمًا بالقراءات واللغة والغريب، وصنف كتبًا كثيرة في الفنون، أقام ببغداد مدة وتوفي بمكة سنة ثلاث وعشرين ومائتين. للاستزادة يُنظر: أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي. صفة الصفوة. تحقيق: فاخوري. ط 3: 1399 هـ، دار المعرفة بيروت، 4/ 130
(4)
- فتح الباري (8/ 669).
والصحابة-رضي الله عنهم لم يفصلوا بين الحفظ والفهم والعمل والتعليم بأي فاصل، بل قاموا بحق كتاب ربهم خير قيام، وأخذوه جملة، ولازموا بينه، تعلمًا وتعليمًا، علمًا وعملًا، عقيدة وعبادة، سلوكًا وأخلاقًا، ولذا ظهرت آثار تثور القرآن على عقائدهم وعباداتهم وأعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، فتمكن الإيمان من نفوسهم، وسكن سويداء قلوبهم، واستقر في أرواحهم؛ فانتفعوا به وعمروا به حياتهم وملأوا به أوقاتهم، وأناروا به دروبهم، فأحيوا به ليلهم، وآنسوا بتلاوته وتدبره في نهارهم، وجعلوه أنيسهم في مجالسهم ومحاريبهم، وفي حلهم وترحالهم، فصاغ ذاك العمل العظيم والأمر الجليل حياتهم، وأثمر جيلًا كان في طليعة خير أمة أخرجت للناس.
والحقيقة فإنَّ العزة والرِّفْعةَ، والنصر والتمكين، كل ذلك لم يتحقق لجيل الصحابة الكرام-رضي الله عنهم إلا بعد أن تمسكوا بدين الله علمًا وعملًا، وتمسكوا بِكتابِ ربهم حق التمسك واعتصموا به حق الاعتصام، فكان هذا هو منهجهم في تعلم القرآن وتلقيه وتدبُّرِه، وقد عرفوا لكتاب الله مكانته وقدروه حق قدره.
ونلخص أهم مظاهر عناية الصحابة بكتاب ربهم على النحو التالي:
الأمر الأول: معرفة الصحابة لمنزلةِ القرآن، وإدراكُهم لمقاصدِهِ ومراميه
لقد تلقِّي جيل الصحابة كلام ربهم فور نزولهِ بالمحبةِ والإجلال والتبجيل والتعظيمِ المصحوب بالإيمانِ به؛ وذلك من أبرز ما أدى إلى صدق تعامُلِهم معه، فمَن عَرَفَ قِيمةَ شيءٍ دعته تلك المعرفة للاعتناء والاهتمام به، وقد تجلت وظَهَرتَ أخلاق القرآن جلية في أقوالِهم وأفعالِهم، ومما أُثِرَ عنهم في جانب حبهم للقرآن،
قول عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه:
(مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعلَم أَنه يُحبُّ اللهَ ورسولَه فَليَنظُر: فإِنْ كان يُحبُّ القرآنَ، فهو يحبُّ اللهَ ورسولَه).
(1)
ومما أُثِرَ عنهم كذلك في الحث على تعلم القرآن والتمسك به ما أُثِرَ عنه- رضي الله عنه أيضًا في قوله: (إنّ هذا القرآنَ مأْدبةُ الله، فتعلَّموا من مَأدبتِه ما استطعتم، إنَّ هذا القرآنَ هو حَبلُ اللهِ الذي أَمَرَ به، وهو النور المبين، والشفاءُ النافعُ عصمةٌ لمن اعتصم به)
(2)
،
(1)
-أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن، ص:21.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 741 رقم 2040 وقال (صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وابن أبي شيبة 6/ 125 برقم 30008.
وما أُثِرَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كذلك في قوله: (ضَمِنَ اللهُ لمَن قَرَأَ القرآنَ لا يَضِلُّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قَرَأَ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123].
(1)
والمرادُ بالقراءةِ الاتِّباعُ، بدليلِ نَصِّ الآية.
وقال الإمام البخاري رحمه الله:
(لا يجدُ طَعْمَه ونَفْعَه إلا مَن آمَنَ بالقرآنِ، ولا يحملُه بحقِّه إلا الموقِن)
(2)
.
والأجيال المسلمة على مر الأزمان والعصور ومرور الأيام والدهور في أمس الحاجةٍ لفهم تلك المعاني التي تربى عليها الرعيل الأول من جيل المهاجرين والأنصار، وغَرْسَهَا في نفوسِ الناشِئة
منذ نعومة أظفارهم وحداثة أسنانهم، حتى تنشأ أجيال معظمة لله ولكتابه على غرار ما كان عليه أسلافهم.
الأمر الثاني: تميز منهج الصحابة في تلقي القرآن
كان منهجهم رضي الله عنهم تلقي وتعلُّم الإيمان قَبلَ القرآن.
لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم بقوة الإيمان المصحوب بصدق التوجه إلى الله وتعظيمه وإجلاله سبحانه، والتزام أوامرِهِ واجتناب نواهيه، ولذا فإنه قد سَهُلَ عليهم تَلَقِّي أحكامِ الله بالقبول والإذعان والتسليم، فأثمر ذلك المبادرة والمسارعة في الخيرات، وهذا كله من آثار تعلمهم الإيمان قبل القرآن وهو الجانب الرئيس والركيزة الأم في التربيةِ الإيمانية أولًا، ثم إتباعها بالتربية القرآنيةِ ثانيًا، والعهد المكي كان عهدًا تربويًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني التربية الكاملة الشاملة، كما أنها رسخت في نفوس الصحابة الكرام- رضي الله عنهم الإيمان بمعناه الكامل ولاسيما الإيمان بالله واليوم الآخر، فغرس عمق الإيمان وأصالته في سويداء قلوبهم حب القرآن وتعظيمه وإجلاله وإنزاله المنزلة التي أرادها الله منهم، كما هَيَّأَهم لِتَلَقِّي ما ورد فيه من تَوجيهاتِ، ولا سيما في القرآن المكي الذي يتَّسم بترسيخ الإيمان والأمر بتحقيق التوحيد ومقتضياتِه، ونبْذ معالم الشرك، وهدم أركانه، والتَّخلِّي عن مظاهرِه ومعطياته، وترْويض النُّفوس على طاعة الله ورسوله، وتهيئتها للانقياد لأوامره، وتهيئتها كذلك لقَبول التَّشريعات، والتحلي
بالصَّبر وتحمُّل الأذى والمشاق في ذات الله تعالى، كل ذلك كان بمثابة التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، والمعني هنا هو " تحقيق وترسيخ تعلُّم الإيمان قَبلَ تعلم القرآن".
(1)
- أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 413 برقم 3438.
(2)
- صحيح البخاري 24/ 410
والمقصودُ من ذلك كله: أنهم غُرِسَ في قلوبِهم حبُ القرآن، ومعرفةُ قدر كلام ربهم ومحبته؛ لأنَّهم عرفوا قدر ربهم، فعرفوا قدر كلامه، ومن جهل قدر الله تعالى جهل قدر كلامه، كما هو الشأن في حال عموم المشركين.
ولقد رَبَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه-رضي الله عنهم على هذا المنهج الرباني،
فعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:" كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا ".
(1)
قال السندي رحمه الله تعالى: (ت: 1138 هـ)
" (حَزَاوِرَةٌ) جمع الحَزْوَر، ويقال له: الحزوَّر بتشديد الواو؛ هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم. كذا في الصحاح، وفي النهاية: هو الذي قارب البلوغ قوله: (فازددنا به) أي بسبب القرآن ".
(2)
وأما كيفية تعلم الإيمان قبل القرآن؛ فالمقصود به: التربية على أصول الإيمان، وتعلم معانيه، تعلمًا عمليًا من النبي-صلى الله عليه وسلم، وأحواله، وأفعاله، وتلقيًا من سنته، وتعليمه لهم، وتأديبه إياهم بأدب الدين؛ فيتحصل لهم معرفة بمعاني القرآن، الذي يتعلمون ألفاظه بعد ذلك، وتربية على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وتأدب بأدبه الشريف، وهو كله من أدب القرآن، وخلقه؛ فيحصل لهم علم "مجمل" بمعاني القرآن، قبل أن يحصل لهم، أو لمن شاء الله منهم: العلم المفصل بتعلم حروفه وكلماته.
وقد لخّص هذا الحالَ؛ ابنُ عمر- رضي الله عنهما لمّا قال:
" لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ".
(3)
(1)
- أخرجه ابن ماجه 1/ 74 رقم 64 والتاريخ الكبير للبخاري 2/ 221 وسنن البيهقي الكبرى 2/ 49 رقم 5498 والطبراني في المعجم الكبير 2/ 225 رقم 1656 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 16 رقم 52
(2)
- حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 31).
(3)
-رواه الحاكم في "المستدرك"(1/ 35)، وقال:"هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً "، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان "(106)، والهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/ 170).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
"والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وهو معلم كل علم وواهبه فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود؛ فذكره والعلم به أصل لكل علم، وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل، فيزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة:" تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا ".
(1)
وقال أيضًا رحمه الله:
"التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول-صلى الله عليه وسلم أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه لا يناقضه وينافيه كما قال جندب وابن عمر: " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا ".
(2)
وقال أيضًا رحمه الله:
"الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر-رضي الله عنهم: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين ".
(3)
وتعلّم الصحابة للإيمان قبل استكثارهم من الحفظ، ساهم فيه أنّ أسس الإيمان مبثوثة في سور المفصّل؛ ولذا سمى ابن مسعود-رضي الله عنه سور المفصّل بلباب القرآن.
فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها، قالت: " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ
(1)
- مجموع الفتاوى (4/ 38).
(2)
- مجموع الفتاوى (10/ 401).
(3)
- جواب الاعتراضات المصرية: (ص: 12).
بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)(القمر: 46) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ ".
(1)
فالحاصل؛ أنّ الإيمان قبل القرآن؛ يتحصّل بأن يربّي المؤمن نفسه على العقائد والشرائع التي وردت في القرآن؛ ويأخذ ذلك بعزيمة وقوة؛ فإذا شرع بعد ذلك في الاستكثار من حفظ آيات القرآن؛ حفظه وهو يشعر أنه مخاطب بها؛ فيتمعن ويتدبر فيما يحفظ ويخاف أن يكون حجة عليه فيسارع للامتثال بما حفظ.
(2)
الأمر الثالث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به
لما تلقى الصحابة رضوان الله عليهم الإيمان قبل القرآن أثر ذلك في صلاح قلوبهم، وحرصوا على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به، ولم يفصلوا بينهما بفاصل، وفي نحو ذلك يقول ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
كان الفاضِلُ من أصحابِ النبيِّ في صَدْرِ هذه الأُمّةِ لا يحفظُ من القرآنِ إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العملَ بالقرآن، وإنَّ آخرَ هذه الأُمَّةِ يُرْزَقُون القرآنَ منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العملَ به".
(3)
.
ومما يصور تلك المعاني العظيمة في نفوس الصحابة وحرصهم على اقتران العلم بالعمل قصة بَيْرُحَاءَ -حديقة- أبي طلحة الأنصاري-رضي الله عنه.
فقد ثبت في الصحيحين واللفظ للبخاري منْ حديث أنس رضي الله عنه من طريق
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ- رَضِي اللَّه- يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(آل عمران: من آية: 92) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(آل عمران: من آية: 92) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
- رواه البخاري (4993).
(2)
-يُنظر: كيف تعلّم الصحابة الإيمان قبل القرآن؟ الإسلام سؤال وجواب. بتاريخ: 28/ 7/ 2018 م
(3)
-تفسير القرطبي (1/ 30).
بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ".
(1)
وكان حرصهم الشديد رضي الله عنهم على أن ينتقل علمهم بالقرآن إلى حيز وواقع العمل به، وعلى أن يعيش حامل القرآن ويحيى به، وأن تظهر وتتجلى أخلاق القرآن في فعاله كلها، وهم كما كانوا كذلك قولًا وعملًا، فقد كانت وصيتهم لأهل القرآن كذلك، وفي نحو هذا المعنى يوصي
علم من أعلام الصحابة من السابقين الأولين، يوصي أهلَ القرآن بتلك الوصايا الجامعة المانعة، ألا وهو ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه حيث يقول:
"ينبغي لحاملِ القرآنِ أَنْ يُعرفَ بليلِه إذا الناسُ ينامون، وبنهارِه إذا الناسُ يُفطرون، وبحزنِهِ إذا الناس يَفرَحون، وببكائِه إذا الناسُ يَضحكون، وبِصَمتِه إذا الناسُ يَخُوضُون، وبخشوعِه إذا الناس يختالون، وينبغي لحاملِ القرآن أَنْ يكونَ مُستكينًا لَيِّنًا، ولا ينبغي له أن يكونَ جَافيًا ولا مماريًا ولا صَيّاحًا ولا صَخّابًا ولا حديدًا".
(2)
ويقول- رضي الله عنه أيضًا:
" لا تَهُذُّوا القرآنَ هذ الشِّعْر، وتَنثروه نَثْرَ الدَّقَل، وقِفُوا عند عجائبِه، وحَرِّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم مِن السورة آخرَها ".
(3)
لذا كان تأثير الصحابة رضي الله عنهم في جيل التابعين رحمهم الله تأثيرًا عظيمًا
فقد غرزوا في نفوسهم ما تلقوه من نبيهم-صلى الله عليه وسلم-من حب القرآن وحب العمل به وامتثال ما ورد فيه، وتدبر آياته، وإجلاله، ولننظر بعين الاعتبار والاتعاظ لكلماتِ سطرها يراع رجل هو واحد من طليعة جيل التابعين،
إنه الحسنُ بن يسار البصري رحمه الله (ت: 110 هـ) حيث يقول في ذلك المعنى:
"إنَّ هذا القرآنَ قَرَأَه عبيدٌ وصبيانٌ لم يأخذوه مِن أوَّله، ولا عِلْمَ لهم بتأويلِه، إنَّ أَحقَّ الناسِ بهذا القرآنِ مَن رُئِي في عملِه، قال اللهُ عز وجل في كتابه:(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)(ص: 29) وإنَّما تَدبُّرُ آياتِه اتّباعُه بعملِه، أَمَا واللهِ ما هو بحفظِ حروفِهِ وإِضاعةِ حدودِهِ! حتى إنَّ أحدهم لَيقول: قد قَرَأْتُ القرآنَ كلَّه فما أَسْقَطتُ منه حرفًا؛ وقد واللهِ أَسقَطَه كلَّه! ما يُرَى له القرآنُ في خُلُقٍ ولا عمل! حتى إنَّ أحدَهم لَيقول: إني لأقرأُ السورةَ في نَفَسٍ واحدٍ، واللهِ
(1)
- أخرجه البخاري (1461) واللفظ له، ومسلم (998).
(2)
- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8/ 305
(3)
- مختصر قيام الليل للمروزي: (ص: 132)
ما هؤلاءِ بالقُرَّاءِ ولا العلماءِ ولا الحكماءِ ولا الوَرَعةِ! متى كانت القُرّاءُ تقولُ مثل هذا؟ لا أَكْثَرَ اللهُ في الناسِ مثلَ هؤلاء".
(1)
وهذا المنهجُ الرباني هو الذي خَرَّجَ تلك الأجيال وصَنَعَها، ولو عاد الخَلَفُ لما كان عليه السلف من تَلَقي القرآنَ على نفس منهجم في تلقيه لسادوا الدنيا وفتحوا البلاد، وما قَصرت بهم هممهم عن إزلال القياصرة، ولنهضت بهم قوتُهم فكسروا وحطموا ظهور الأكاسرة.
أهم دواعي حرص الصحابة- رضي الله عنهم على تعلم القرآن
لقد أقبل الصحابة- رضي الله عنهم على تعلم كتاب الله وحفظه وفهمه وتدبره وتثوره بصورة فريدة يصعب تكررها عبر الزمان، ومما رغبهم في تعلمه والإقبال عليه، هو ترغيب رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-وتحفيزه لهم على تعلمه وتعليمه ومدارسته وحفظه، وتتجلى تلك الحقيقة من خلال ما يلي:
أولًا: كثرة ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وحثهم على تعلمه
وقد وردت أحاديث كثيرة ترغبهم في ذلك وتحثهم عليه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 -
ما ثبت عند البخاري من حديث عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه".
(2)
وفي رواية عند البخاري من حديث عثمان أيضًا " أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"
(3)
.
2 -
ومنها ما ثبت عند مسلم من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِر
(4)
رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطَحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟، قَالَ: " قُلْنَا: كُلُّنَا يَا
رَسُولَ اللهِ يُحِبُّ ذَلِكَ "، قَالَ: فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ".
(5)
(1)
- الزهد والرقائق لابن المبارك ت أحمد فريد ج 6/ 610 رقم 742 ط دار المعراج.
(2)
- صحيح البخاري: ج 4/ ص 1919 ح 4739.
(3)
- رواه البخاري: (4667).
(4)
- عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا. روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. كان قارئَا عالمَا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا، كاتبَا، وهو أحد من جمع القرآن. مات عقبة في خلافة معاوية. يُنظر: الاستيعاب (ص: 561 ترجمة 1898)، والإصابة (4/ 520 ترجمة 5605).
(5)
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803).
3 -
ومنها ما ثبت عند مسلم كذلك من حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا نزلت عَلَيْهِم السكينَة، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده".
(1)
4 -
ومنها ما ثبت عند مسلم أيضًا من حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُحِبُّ أحدكُم إِذا أرجع إِلَى أَهله أَن يجد فِيهِ ثَلَاث خلفات عِظَام سمان؟ " قُلْنَا: نعم، قَالَ:"فَثَلَاث آيَات يقرأهن أحدكُم فِي صلَاته خير لَهُ من ثَلَاث خلفات سمان عِظَام".
(2)
5 -
ومنها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: (مثلُ المؤمنِ الَّذي يقرأُ القرآنَ كالأُتْرُجَّةِ طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّبٌ والَّذي
لا يقرأُ كالتَّمرةِ طعمُها طيِّبٌ ولا ريحَ لها ومثلُ الفاجرِ الَّذي يقرأُ القرآنَ كالرَّيْحانةِ ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ ومثلُ الفاجرِ الَّذي لا يقرأُ القرآنَ كمثلِ الحنظلةِ طعمُها مرٌّ وريحُها مرٌّ).
(3)
والأحاديث الواردة في هذا الصدد أكثر من أن تُحصى.
ثانيًا: إجلال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للقرآن وأهله
ويتجلى هذه المعنى بوضوح في المنهج التربوي للنبي-صلى الله عليه وسلم-وبيانه ذلك لأصحابه الكرام-رضي الله عنهم عمليًا ومن أبرز ذلك ما يلي:
1 -
تقديمه صلى الله عليه وسلم أقرأ الناس للإمامة
فكما أن الناس يقدمون خيرهم بين يدي ملوكهم، فقد علمهم-صلى الله عليه وسلم مكانة حامل القرآن وأحقيته في تقدمه غيره بين يدي رب العالمين ليؤم الناس في الصلاةـ فقد ثبت عند مسلم من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري- رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَكَ أَوْ بِإِذْنِهِ ".
(4)
2 -
وتعدى إكرامه-صلى الله عليه وسلم لحامل القرآن بتزويج من لم يملك الصداق بما معه من القرآن
(1)
- جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).
(2)
- أخرجه مسلم: حديث/ 802، 1/ 552.
(3)
- أخرجه البخاري (5020)، ومسلم (797).
(4)
- صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أحق بالإمامة رقم: 1534
فقد ثبت في الصحيحين منْ حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ-رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ المَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ:«وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:«اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا» ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:«مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» . قَالَ: مَعِي
سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ:"تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ".
(1)
3 -
تقديمه صلى الله عليه وسلم في اللحد لمن كان أكثر أخذًا للقرآن
كما أنه-صلى الله عليه وسلم كان يفاضل بين أكثر أصحابه أخذًا للقرآن حال حياته، فإنه كان يفاضل كذلك بينهم بالقرآن حال مماتهم فقد ثبت عند البخاري منْ حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ".
(2)
ولقد تسابق الصحابة- رضي الله عنهم في تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه وترتيله، تاركين خلفهم المتاع الفاني واللذائذ الفائتة الفانية من دفء فراش، ولذيذ نوم،
فقاموا به في هجيع الليل يناجون به ربهم، وحال لسانهم يقول: من أرادة السيادة فليهجر الوسادة، وقد ورد في وصف حالهم قولُ ربِهم:(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون)(السجدة: 16).
كما مدح ربُهُم قائمَهم بالليل بقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)(الزمر: 9).
(1)
البخاري (5030)، ومسلم (1425).
(2)
- البخاري- كتاب الجنائز- باب الصلاة على الشهيد، رقم: 1343
وقد وصف ربُهُم حالهم عند سماع كلامه جل في علاه بقوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(الأنفال: 2).
كما وصفهم جَلَّ في علاه بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(الزمر: 23).
حال الصحابة رضي الله عنهم مع القرآن في صلاتهم
كان حالهم في الصلاة يُظهر أثر انتفاعهم بالقرآن قراءة وتدبُّرًا وخشوعًا، ذلًا لله واستكانة وخضوعًا، ولربما غلب أحدهم البكاء فمنعه ذلك من إسماع المأمومين قراءته.
ونسوق أمثلة عن أحوالهم مع القرآن في الصلاة على سبيل المثال لا الحصر
المثال الأول: حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه
-
ثبت عند البخاري من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال:
لَمَّا اشْتَدَّ برَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وجَعُهُ قيلَ له في الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ البُكَاءُ، قَالَ: مُرُوهُ فيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ، قَالَ: مُرُوهُ فيُصَلِّي، إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ".
(1)
المثال الثاني: حال عمر رضي الله عنه
-:
يقول عبد الرّحمن بن أَبْزَى الخزاعيّ
(2)
:
"صليت خلف عمر- رضي الله- عنه فقرأ سورة يوسف حتى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: من الآية 84) فوقع عليه البكاء فركع".
(3)
المثال الثالث: حال ابنِ عباس (ت: 68 هـ) رضي الله عنهما
-
يقول ابنِ أبي مليكة:
(4)
(1)
- رواه البخاري (682).
(2)
-عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبزى الخزاعي، مولى نافع بْن عبد الحارث. (ت: 70 هـ). مختلف فِي صحبته، سكن الكوفة، واستُعمِلَ عليها، وهُوَ الذي استخلفه نافع بْن عبد الحارث عَلَى أهل مكة، حين لقي عُمَر بن الخطاب بعسفان، وَقَال: إنه قارئ لكتاب اللَّه، عالم بالفرائض. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 501).
قال الذهبي: له صحبة، ورواية، وفقه، وعلم. سير اعلام النبلاء:(3/ 202).
(3)
بدائع الفوائد: (3/ 606)
(4)
-عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، زهير بن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي. الإمام الحجة الحافظ أبو بكر وأبو محمد القرشي التيمي المكي القاضي الأحول المؤذن، ولد في خلافة علي أو قبلها، (ت: 117 هـ). سير أعلام النبلاء (5/ 89).
سافرتُ مع ابنِ عباس رضي الله عنهما مِن مكةَ إلى المدينةِ، فكان يَقومُ نصفَ الليلِ فيقرأُ القرآنَ حرفًا حرفًا، ثم يَبكي حتى تَسمعَ له نَشيجًا.
(1)
.
بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم -على العمل بكل ما أنزل من القرآن
ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: 284)، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرُكب فقالوا أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها.
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(البقرة: 285)، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل الله عز و جل:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (قال نعم) رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال نعم) رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (قال نعم) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (قال نعم)(البقرة: 286).
(2)
وفيه بيان فضل الصحابة رضى الله عنهم وإذعانهم وانقيادهم وتسليمهم لأمر الله تبارك وتعالى وامتثالهم لأمر رسوله صلى الله عليه و سلم، وذلك لما أمرهم بالتسليم والانقياد، فلما انقادوا للأمر كان من بركة ذلك الانقياد والإذعان مجازاتهم بالتخفيف والثناء عليهم من ربهم بقوله سبحانه في وصف استجابتهم وصبرهم على طاعة ربهم بأن قالوا:(سَمِعْنَا وَأَطَعْنا) فجاءتهم بشارة ربهم بنسخ ما سبق.
(1)
- مختصر قيام الليل للمروزي-باب الترتيل في القراءة حديث رقم (174)(ص: 131)
(2)
- أخرجه مسلم حديث (125)، وتفرد به عن البخاري، وأخرج الترمذي بنحوه في " كتاب التفسير" باب ومن سورة البقرة، حديث (2992).
وذلك من دلائل سعة رحمة الله لما رأى صبرهم على الطاعة رغم ما فيها من مشقة، فجزاهم ربهم بأنه لم يحملهم فوق قدرتهم واستطاعتهم.
ولم يكن منهج الصحابة- رضي الله عنهم مع القرآن تلقي آياته بالحفظ والتدبر واستنباط ما فيها من أحكام فحسب، بل تلقوا آياته على أنها رسائل من الله إليهم، فسارعوا للعمل بما تقتضيه سوره وآياته.
ولذا كان يشق عليهم أن تنزل آيات لا يمكنهم العمل بها، فهم هنا قد راجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شق عليهم من العمل بتلك الآيات، وهذه الواقعة ليست الوحيدة من نوعها، فدواوين السنة قد سطرت العديد من مثلها، ولكن سقناها هنا كواحدة من الأمثلة التي تبرهن عمليًا على حرص الصحابة رضي الله عنهم على العمل بكل ما نزل من القرآن.
وقد طال هذا المبحث جدًا (جمعه بمعنى حفظه في الصدور) لأنه هو الأصل.
ووجود الدواعي الملحة لتلك الإطالة مما يجدر الاعتذار به عن هذا العرض المستفيض.
المطلب الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه في السطور
بعد الاستطراد في الكلام عن معنى جمع القرآن وحفظه في الصدور، وذلك في المطلب الأول من هذا المبحث، وقد طال هذا المبحث لأهميته، ولكون المحفوظ في الصدور هو الأصل، ولأنه حاكم وقاض على المكتوب والمرسوم في السطور، ونورد هنا الكلام عن كتابته وتدوينه في السطور.
المعنى الثاني: بمعنى كتابته وتدوينه في السطور
لقد انتقل النبي- صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والقرآن كله محفوظ في الصدور، كما أنه كان كذلك محفوظًا في السطور، بمعنى أنه مجموع ومكتوب في الرقاع واللخاف والأكتاف والعسب، وهذه هي أدوات الكتابة التي توفرت في العهد النبوي، وذلك لحكمة أرادها الله، لكن القرآن جُمِعَ جمعًا مفرقًا، ولم يُجمَع ولم يرتب في مصحف واحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم.
وفي نحو ذلك يقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
" كان الصحابة يكتبون القُرْآن بأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم على العسب، وهي: جريد النخل، وعلى اللخاف، وهي: الحجارة الرقيقة، وعلى الرقاع، وهي: الأوراق، وقطع الأديم، وهي: الجلد وعظام الأكتاف، والأضلاع، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله- صلى الله عليه
وسلم-، وهكذا انقضى عهد النبوة ولم يُجمع في مصحف واحد، بل كُتب منثورًا بين قطع الجلد والعظام ونحوها".
(1)
ويرد هنا سؤال من الأهمية بمكان ألا وهو: لماذا لم يُجمع القرآن الكريم على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد؟
والجواب: أن لله الحكمة البالغة في ذلك، وأما عن الحكم الظاهرة في ذلك
فيقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
لم يُجمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم لأسباب كثيرة، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1 -
الكثير من الصحابة كانوا يحفظون القُرْآن في صدورهم، وكانت الفتنة في تحريف القُرْآن مأمونة
2 -
قلة توفر أدوات الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
3 -
كان النبي- صلى الله عليه وسلم بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله تعالى من الآيات
4 -
القُرْآن لم ينزل جملة واحدة، بل نزل مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث.
(2)
ولم يحرص النبي- صلى الله عليه وسلم على في مكان واحد لأن تنزيله لم يتوقف بعد، وكان صلى الله عليه وسلم يترقب تتابع الوحي بنزوله بين الفينة والفينة وذلك حتى لحوقه بالرفيق العلى.
فلو رتب نزول القرآن أولاً بأول، وكلما نزل منه شيء جمع في مكان واحد، أو بين دفتي مصحف واحد، لأدى هذا الفعل إلى كثرة تغيير أماكن الآيات والسور وتبديل أماكن ترتيبها كلما نزل منه شيء، ولا شك أن في هذا من العنت والمشقة والحرج ما فيه، وهو مع ذلك مأمون من الضياع لحفظه في صدور الرجال، ومن قبل ذلك كله فإن الله تعالى وعد بحفظه وقد تولى ذلك بذاته العلية، كما قال ربنا في محكم التنزيل:(إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون)(الحجر: 9)
و قد اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كُتَّابًا للوحي من خيرة أصحابه-رضي الله عنهم أجمعين- كما سيأتي بيان ذلك بالتفصيل في موضعه بإذن الله تعالى.
وهنالك أدلة قاطعة واضحة الدلالة على أن القرآن الكريم في عهد النبوة حفظ في السطور، إضافة إلى حفظه في صدور الرجال ومن أبين ما يدلل ذلك ما يلي:
(1)
-مناهل العرفان للزرقاني (1/ 247).
(2)
مناهل العرفان للزرقاني (1/ 249: 248).
أولًا: الأدلة من القرآن الكريم
1 -
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك فتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلمًا وزورًا)(الفرقان: 4)
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
وقوله تعالى: (وأعانه عليه قوم آخرون) قال مجاهد: يعني اليهود. وإنما يعنون بذلك القرآن، فدل ذلك على وجود كتاب بينهم.
(1)
2 -
كذلك قوله سبحانه: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)(الفرقان: 5)، ومعنى" الأساطير" الأباطيل والأحاديث العجيبة
(2)
و"الأساطير": أحاديثُ لا نظام لها.
(3)
يقول البغوي (ت: 516 هـ) رحمه الله:
"يعني النضر بن الحارث يقول: إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون، مثل رستم وإسفنديار، "اكتتبها" محمد من جبر، ويسار، وعداس، ومعنى "اكتتب" يعني طلب أن يكتب له، لأنه كان لا يكتب (فهي تملى عليه) يعني تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، (بكرة وأصيلًا)
غدوة وعشيًا. قال الله عز وجل ردًا عليهم: (قل أنزله) يعني القرآن (الذي يعلم السر) يعني الغيب (في السماوات والأرض إنه كان غفورًا رحيمًا) ".
(4)
ويقول الألوسي: (ت: 1270 هـ) رحمه الله:
"وقائلُ هذه المقولة هو النضر بن الحارث، وأمثاله ممَّن شايعه كعبدِالله بن أميَّة، ونوفل بن خويلد، وغلاة المشركين".
(5)
وإذا كان النضر بن الحارث قد تعلَّم قصص رستم وإسفنديار وأشعار العجم في ديارهم، ثم عاد بها إلى مكة ليقصَّ أساطيرهم وأكاذيبهم على الناس، فأين تعلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي علمه؟!، حتى يقولوا أساطير الأولين اكتتبها.
(1)
- حكاه الطبري، ولم يذكر غيره. وتُنظر سائر الأقوال في: البحر المحيط: 6/ 481، زاد المسير: 6/ 72 - 73. زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - هـ.
(2)
-المعجم الوجيز، ط 1، مادة (س ط ر 1)
(3)
- روح المعاني؛ للألوسي، (5/ 510).
(4)
تفسير البغوي: (3/ 361).
(5)
- روح المعاني للألوسي (10/ 319).
3 -
وقوله تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف: 2)
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
أي: " فلا يَضِقْ صدرُك- يا محمَّدُ- مِن إبلاغِ القُرآنِ، والإنذارِ به، ولا يكُنْ لديكَ شكٌّ واشتباهٌ في أنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ الله تبارك وتعالى، فلْيَنشرِحْ له صَدرُك ويتَّسِعْ، ولْتطمَئِنَّ به نفسُك، واصبِرْ على ما كُلِّفْتَ به مِن أثقالِ النُّبوَّةِ، وتَحمَّلِ الأذى، ولا تخشَ لائمًا، ولا مُعارِضًا ".
(1)
4 -
وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل: 89)
قال ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه: " قد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء ".
(2)
وفي الآية دلالة على وجود القرآن، وهو محفوظ في الصدور، ومكتوب في السطور.
ومما يدلل على ما ذُكِرَ آنفًا من السنة المطهرة كذلك ما يلي:
1 -
ما ثبت عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ
…
"
(3)
قال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم:
"
…
وَكَانَ النَّهْي حِين خِيفَ اِخْتِلَاطُهُ بِالْقُرْآنِ فَلَمَّا أَمِنَ ذَلِكَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَة، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ كِتَابَة الْحَدِيث مَعَ الْقُرْآن فِي صَحِيفَة وَاحِدَة; لِئَلا يَخْتَلِط، فَيَشْتَبِه عَلَى الْقَارِئ فِي صَحِيفَة وَاحِدَة".
(4)
2 -
وكذلك ما ثبت عند مسلم كذلك من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُ ".
(5)
وفي رواية-عَنْه- أيضًا-، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ".
(6)
(1)
- تفسير الطبري: (10/ 54 - 55).
(2)
- تفسير ابن كثير: (4/ 595).
(3)
- رواه مسلم في الزهد باب التثبت في الحديث .. (3004)
(4)
- شرح مسلم: (18/ 129 - 130).
(5)
- رواه مسلم في الإمارة باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار .. (1869).
(6)
-البخاري (4741 (، مسلم - الإمارة (1869).
وفي رواية-عَنْه- أيضًا، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، " أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ".
(1)
وقال النووي- رحمه الله أيضًا:
" فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون ".
(2)
ومما يدلل على ما ذُكِرَ كذلك كثرة وجود الصُّحُف التي بين أيدي الصحابة رضي الله عنهم والتي يعتزَّ بها كلٌّ منهم وأنه كتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم فيهم من أسلم مبكرًا في بداية البعثة النبوية، ويُعدُ من السابقين للإسلام كابن مسعود- رضي الله عنه، كما أنه يستحيل أن تكون كل هذه الصحف قد كُتِبَت في عهد الصديق- رضي الله عنه.
"وبهذا يطمئن القلب أن القرآن الكريم كله كان مكتوبًا في عهده النبي الكريم، وإن كان غير مجموع في موضع واحد".
(3)
وسيأتي معنا ذلك بشيء من التفصيل والإيضاح في موضعه، حين الكلام على في عهوده الثلاثة في الفصل الثاني، بإذن الله تعالى. وبهذا ينتهي الفصل الأول والحمد لله رب العالمين.
(1)
البخاري (4741)، مسلم - الإمارة (1869).
(2)
-شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 16، وانظر: إكمال إكمال المعلم للأبي، 6/ 590، وفتح الباري لابن حجر، 6/ 133، وعمدة القاري للعيني، 14/ 242، وشرح الزرقاني على موطأ مالك، 3/ 13.
(3)
- ذكره القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (7/ 446).
الفصل الثاني
مراحل جمع القرآن الكريم في عهديه الأول والثاني، وبيان مزايا وخصائص كل مرحلة من المرحلتين، وذكر الفرق بينها.
وفيه مبحثان:
تمهيد
لقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه بذاته العلية ولم يوكل ذلك لأحد من خلقه، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لمن دونهم في الرتبة والمكانة والمنزلة من عموم خلقه، فقال سبحانه:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[الحجر، 9].
وقوله: " (إنا نحن نزلنا الذكر) أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر.
وقوله: (وإنا له لحافظون) أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف مُحَرِّف معنىً من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم".
(1)
وقال سبحانه في الحديث القدسي مخاطبًا نبيه- صلى الله عليه وسلم: " وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تَقْرَؤُهُ نائمًا ويقظان".
(2)
وإن حفظ الله تعالى لكتابه الخاتم، المنزل على النبي الخاتم-صلى الله عليه وسلم، والذي هو المرجع الأول لتلك الشريعة الخاتمة، كل ذلك وغيره دفع المغرضين والحاقدين من أعداء الملة السمحة والرسالة الخاتمة للطعن والتشكيك في كتاب الله وبث شبهاتهم الواهية والتي هي أوهى من بيت العنكبوت وذلك لمحاولة زعزعة ثقة أهل الإسلام في صحة وسلامة كتاب ربهم.
ولقد تصدى لتلك الترهات والأكاذيب والمطاعن الساقطة أئمة الإسلام وسادات الأنام من أتباع النبي العدنان-صلى الله عليه وسلم، ولا يزال أهل العلم في كل زمان ومكان ينصبون منجنيق الأدلة وسهام الحق في وجوه المغرضين الحاقدين ويردوا ترهاتهم بواضحات الحجج ودامغات البراهين على سلامة وصحة كلام رب العالمين.
(1)
- تفسير ابن سعدي: (ص: 696). بتصرف يسير.
(2)
صحيح مسلم (2865).
وكذلك ما يزال الباحثون المخلصون في كل عصر ومصر ينافحون عن كتاب ربهم العظيم ويردون ما خرج من سلة مهملات الحاقدين بسهام الحق مظهرين عظمة كتاب ربهم جل في علاه ومبرزين لأوجه إعجازه وسلامته من كل عيب ونقص موضحين ومبينين دلائل حفظ الله لكتابه وأن حفظه باق إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
لما لا وقد وصفه ربنا بقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)) (فصلت: 40 - 41)
وإن إعادة ما سطره ودونه أعلام الإسلام المتقدمين وتجديد معالمه بالتدقيق والتحقيق والشرح والتنقيب والتقريب والتسهيل والتذييل لما كتبوه والرد على أعداء الملة والدين ورد شبهاتهم المتجددة بساطعات الحجج والبراهين لهو من أوجب الواجبات المتحتمات على المعنيين من أهل العلم ومن الباحثين والدارسين المختصين.
وإن كتاب الله تعالى قد لقى أوفر الحظ والنصيب من العناية والرعاية والاهتمام منذ بدء نزوله من قِبِلِ من أنزل اللهُ عليه القرآنَ-صلى الله عليه وسلم ومن قِبِلِ صحبه الكرام- رضوان الله عليهم أجمعين-، وكان هذا الاهتمام البالغ قد عم كل جوانبه ونواحيه، فقاموا بحفظه في الصدور وتدوينه في السطور والقيام بحقه تعلمًا وتعليمًا وعملًا، كما أنهم ائتمروا بأوامره وانتهوا عن نواهيه وانزجروا بزواجره واعتبروا بقصصه وأخباره فازدادوا به إيمانًا ويقينًا كما قال ربنا:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر: 31).
"وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنَزَّل عليها: قلب يفتتن به كفرًا وجحودًا، وقلب يزداد به إيمانًا وتصديقًا، وقلب يَتَيَقَّنه فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجب له حيرةً وعمىً فلا يدري ما يراد به".
(1)
.
(1)
- بدائع التفسير لما فسره الإمام ابن القيم: (3/ 216).
المبحث الأول: المرحلة الأولى: الجمع في العهد النبوي
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بواعثه وأسبابه ودواعيه
قد مر معنا في المبحث الأول من الفصل الأول بيان معنى الجمع ومفهومه في اللغة والاصطلاح فلا يناسب تكراره ها هنا وليرجع إليه عند الحاجة في مظان ذكره.
جمع القرآن الكريم وترتيبه في العهد النبوي:
كان القرآن الكريم يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة الأمين جبريل عليه السلام وكان- صلى الله عليه وسلم يسارع في تلقيه من فِيِ جبريل ليحفظه وقد مر بنا سلفًا مدى كانت معالجته أشد المعالجة حال تلقيه القرآن، ومدى عنايته بضبطه وحفظ في صدره.
وكان ترتيبه في هذا العهد المبارك يتمثل في سلوك واتباع منهجين اثنين ألا وهما:
المنهج الأول: حفظه في الصدور
المنهج الثاني: حفظه في السطور
أما عن المنهج الأول: حفظه في الصدور
فإن من أبرز خصائص القرآن الكريم أن حفظه كله من فروض الكفاية في حق هذه الأمة بحيث يحفظه العدد الوفير الذي يتحقق بهم التواتر الذي يفيد القطع واليقين على الوضع الذي هو عليه
من سلامته من الزيادة والنقصان والتحريف والتغير والتبديل، وبهذا الترتيب المصحفي الذي استقرت عليه المصاحف العثمانية وأجمع عليه الصحابة الكرام- رضي الله عنهم بلا معارض وهو ما يُعد إجماعًا سكوتيًا، وهو الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة، فإن لم يوجد من أفراد عموم الأمة العدد الكثير الذي يحفظه ويثبت به التواتر أثمت الأمة جميعًا، وإن قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
والقرآن الكريم لا يكتفى في تثبيت حفظه أن يُكتب في صحائف فحسب، وإنما محله حفظه الصدور والقلوب أولًا، ثم يُضم إلى الحفظ في الصدور كتابته في الصحف والسطور ليزداد حفظه توثيقًا وتأكيدًا ولتطمئن نفوس أهل الإيمان بحفظه بتلك الوسيلتين مجتمعتين جميعًا.
و"النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ من حرصه على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته وجبريل في هبوطه عليه بقوته. يفعل الرسول- صلى الله عليه وسلم كل ذلك استعجالًا لحفظه وجمعه في قلبه مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف. وما زال- صلى الله عليه وسلم كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه فقال له في سورة القيامة: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:
16 -
19) وقال له في سورة طه: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْمًا) (طه: 114). ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم-جامع القرآن في قلبه الشريف وسيد الحفاظ في عصره المنيف. ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن. وكان- صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل ويزين الصلاة. وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة. وعارضه إياه في العام الأخير مرتين. قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي"
(1)
.
(2)
"ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا يحثّ فيه على حفظ القرآن إلاّ فعله، فقد كان صلى الله عليه وسلم يفاضل بين أصحابه بمقدار حفظهم للقرآن، ويقدّم في الصّلاة أكثرهم حفظًا، ويعطي الرّاية في الحروب أكثرهم قرءانًا، ويقدّم في الدّفن أحفظهم لكتاب الله تعالى، ولربما زوّج الرجل على ما معه من القرآن، فضلًا عن كثرة الأحاديث الداعية لحفظ القرآن، ثم حفظه التابعون وتوارثته الأمة جيلًا بعد جيل، فلم ينقص منه حرف، ولم يتطاول على كتاب الله أحدٌ إلاّ رمته سهام الحفاظ فأردته طريحًا، ولقد وصل لنا بالسند العالي إلى ربّ العزة
عن طريق جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهيهات أن تجد أمة حفظ كتابها طريًا نقيا، شامخًا عليًا مثل أمتنا ولله الحمد والمنة".
(3)
وأما الصحابة: رضي الله عنهم فقد جمعوا القرآن الكريم بحفظهم له في صدورهم، ولقد كثر حفاظه فيهم كما مر معنا ذكر أشهرهم في ثنايا البحث.
"ولقد كان كتاب الله في المحل الأول من عنايتهم. يتنافسون في استظهاره وحفظه. ويتسابقون إلى مدارسته وتفهمه. ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه. وربما كانت قرة عين المرأة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القرآن يعلمها إياها زوجها. وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارًا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويًا كدوي النحل بالقرآن وكان
(1)
رواه البخاري: (3376).
(2)
مناهل العرفان: (1/ 240). بتصرف يسير.
(3)
- فضل القرآن الكريم ومراحل تدوينه، أبو سليمان المختار بن العربي مؤمن، مقال عن موقع الألوكة، بتاريخ: 8/ 9/ 1434 هـ.
الرسول صلى الله عليه وسلم يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل يبلغهم ما أنزل إليه من ربه. ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم كما بعث مصعب بن عمير وابن ام مكتوم رضي الله عنهما إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلمانهم الإسلام ويقرئانهم القرآن وكما أرسل معاذ بن جبل- رضي الله عنه إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء.
قال عبادة بن الصامت- رضي الله عنه:
كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا. "
(1)
و الصحابة- رضي الله عنهم في هذا العهد المبارك كان يعتمدون أكثر على حفظهم له في صدورهم أولًا كما أسلفنا، وقد وصف الله حالهم مع القرآن فقال سبحانه:(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(العنكبوت. 49).
" أي: هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا ".
(2)
ولاشك أن الصحابة رضي الله عنهم في طليعة علماء هذه الأمة، وهم أمة أمية والكتابة فيهم قليلة ونادرة وكان اعتمادهم على الحفظ أكثر من اعتمادهم على الكتابة، كما وصفهم ربهم بذلك في محكم آياته بقوله:(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم)(الجمعة: 2).
و"إنما سميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأميين، لأنه لم ينزل عليهم كتابًا; وقال جل ثناؤه:
(رسولًا منهم) يعني من الأميين وإنما قال: منهم لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان أميًا، وظهر من العرب ".
(3)
" ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه. خصوصًا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار. وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القرآن وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم، وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم، وحوافظهم دواوين
(1)
- مناهل العرفان: (1/ 241). بتصرف يسير.
(2)
- تفسير ابن كثير: (6/ 286).
(3)
- تفسير الطبري: (23/ 273).
أشعارهم ومفاخرهم. ثم نزل القرآن فبهرهم بقوة بيانه وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روحًا من أمر الله تعالى".
(1)
والعرب أمة حافظة لا تكاد تخطئ في حفظها، وأصحاب ذاكرة حاضرة لا يكاد يعزب عن ذاكرتها شيء، ولا سيما وأن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، وفصاحة من اللغة، ورفعة من البلاغة
والبيان، وقوة من التحدي و الإعجاز ما يرغب ويحث على العناية به والاهتمام بحفظه، ولذلك كثر فيهم حُفاظه صدرًا، وكُتابه سطرًا،
قال الباقلاني (ت: 430 هـ) رحمه الله:
وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلمًا عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله
(2)
في أحكامهم".
(3)
المنهج الثاني: حفظه في السطور
"بُعِثَ النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى أمَّةٍ أُمِّيَّة لا تكتب ولا تحسب ولا تعرف عن الخط والكتابة شيئًا؛ اللهم إلا نزرًا يسيرًا في جزيرة العرب كلها، وبضعة عشر رجلًا من قريش خاصة ونفرًا قليلًا من أهل المدينة، ومجاوريهم من اليهود عرفوا الخط والكتابة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل.
ومن أهل المدينة عمر بن سعيد، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، والمنذر بن عمرو، وكان بها يهودي يعلم الصبيان الكتابة ولقلة انتشار الكتابة في ربوع الجزيرة العربية وانحصارها في أفراد قلائل من أهلها صح التعبير عن الأمة العربية بأنها أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
والمشهور عن قدماء التاريخ أن أستاذ القرشيين في الكتابة والخط حرب بن أمية بن عبد شمس والد أبي سفيان الصحابي الجليل. لأنه كان رجلًا كثير الأسفار إلى البلاد بالتجارة فتعلم الكتابة والخط على يد أهل هذه البلاد. وعلَّمَها القرشيين فبدء الخط بمكة كان على يديه. واختلف المؤرخون في تعيين من علم حرب بن أمية فقيل هو عبد الله بن جدعان وقيل بشر بن عبد الملك. وإليك ما ورد في هذا.
ذكر الداني بسنده إلى زياد بن أنعم قال: قلت لعبد الله بن عباس معاشر قريش: هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع وتفرقون فيه ما افترق. هجاءًا بالألف واللام
(1)
- مناهل العرفان: (1/ 240). بتصرف يسير.
(2)
- الأولى أن يُقال: التحاكم والرجوع إليه بدلًا عن: استعماله. الباحث.
(3)
إعجاز القرآن: (ص: 16).
والميم والقطع والوصل وما يكتب به اليوم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم: "قال نعم. قلت فمن علمكم الكتابة؟ قال حرب بن أمية، قلت فمن علم حرب بن أمية؟ قال عبد الله بن جدعان. قلت فمن علم عبد الله؟ قال أهل الأنبار. قلت فمن علم أهل الأنبار؟ قال طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن من كندة. قلت فمن علم ذلك الطارئ؟ قال الخلجان بن الموهن كان كاتب هود نبي الله بالوحي عن الله عز وجل.
(1)
كتابة القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
قضى الله تعالى ألا ينزل القرآن جملة واحدة كغيره من الكتب السماوية السالفة بل أنزله منجمًا موزعًا على الحوادث مقسمًا على الأزمان. وذلك لحكم جلية ومصالح جمة منها أنه كان ينزل بحسب الوقائع والحوادث التي كانت تحصل في المجتمع في عهد التشريع فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها وبحسب الأسئلة التي كانت توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أو غيرهم فتنزل الآيات جوابًا عنها وبحسب الشبه التي كانت تختلج في صدور أعداء الإسلام فتنزل الآيات لدحضها بالحجج الدامغة وبحسب ما كانت تقتضيه حال المسلمين من تقرير عقائد الدين وشرائعه وأحكامه وفضائله ومنها أنه نزل تدريجيًا ليكون أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز ومنها أنه نزل كذلك للتدريج في تربية الأمة العربية تربية دينية وخلقية وإعدادها لمنزلة الخلافة في الأرض ومنها تيسير حفظه وفهمه والعمل بمقتضاه ومنها تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن الخصومة حتى لا يبرح به الحزن على عدم إسراع قومه إلى الهداية وليتفرغ لتبليغ الدعوة بعزيمة قوية وقلب مطمئن.
وكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظه ويبلغه للناس ويأمر كتاب الوحي بكتابته ويدلهم على موضع المكتوب من سورته فيقول لهم ضعوا هذه السورة بجانب تلك السورة وضعوا هذه الآية في الموضع الذي يذكر في كذا وكذا ومن الصحابة من يكتفي بتلقيه من فيه صلى الله عليه وسلم فيحفظه ومنهم من كتب السورة أو الآيات أو السور ومنهم من كتبه
كله وحفظه. والذين اشتهروا بكتابة القرآن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان ابن عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وغير هؤلاء من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين -. ولم ينقض عهده صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن الكريم مكتوب كله بَيِدَ أنه لم يكن مجموعًا في مكان واحد ولا مرتب السور، وإنما لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في مصحف واحد لأن اهتمام الصحابة إنما كان
(1)
- وهذا الخبر مما يُستأنس به فحسب، لأنه ثبوته محل نظر. الباحث.
بحفظه واستظهاره. وأيضًا لما كان يترقبه من ورود زيادة أو ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم وأمن توقع النسخ ألهَمَ اللهُ الخلفاءَ الراشدين جمعه في مكان واحد، وفاءًا بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة.
فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر كما سيأتي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعارض جبريل بالقرآن مرة في شهر رمضان من كل عام فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه به مرتين وقد سبق معنا ذكر ذلك.
والخلاصة:
أن القرآن كان مكتوبًا كله في العهد النبوي، ولكنه لم يكن مجموعًا في مصحف واحد ولا مرتب السور بل كان مفرقًا في العسب والرقاع وغيرها وكان محفوظًا في صدور الصحابة إلا أن منهم من كان يحفظه كله لملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الأربعة وغيرهم ومنهم من كان يحفظ معظمه ومنهم من كان يحفظ بعضه. والله أعلم".
(1)
الأدلة على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم
-:
لقد وردت أدلة كثيرة تدل على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم ومبادرته بالأمر بكتابته، ومن أبينها ما يلي:
1 -
إطلاق لفظ الكتاب على القرآن الكريم في مواضع عدة من القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى:(ذلك الكتاب لا ريب)(البقرة: 2).
فالكتاب يدل على أن القرآن مكتوب.
2 -
أن الكتابة من الصفات الثابتة للقرآن الكريم حيث قال عز وجل: (رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة)(البينة آيتا: 2 - 3).
قال الفخر الرازي (ت: 606 هـ) في تفسيره لهاتين الآيتين:
"فاعلم أن الصحف جمع صحيفة، وهي ظرف للمكتوب".
(2)
3 -
ما ورد من الأحاديث الدالة على وجود القرآن الكريم مكتوبًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:
أ- ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدو)
(3)
.
(4)
(1)
يُنظر: الكتابة العربية وقت الإسلام وبعده، عبد الفتاح القاضي، المصدر: مجلة كنوز الفرقان؛ العددان: (التاسع والعاشر)؛ السنة: (الرابعة)، رمضان وشوال 1371 هـ. بتصرف. ويُنظر: الأعمال الكاملة للعلامة المقرئ محمد بن علي الحداد شيخ عموم المقارئ المصرية: (ص: 513).
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 32 - ص 42.
(3)
البخاري الجهاد والسير (2828)، مسلم الإمارة (1869)، أبو داود الجهاد (2610)، ابن ماجه الجهاد (2880)، أحمد (2/ 7)، مالك الجهاد (979).
(4)
الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو صحيح البخاري ج 4 - ص 15، ومسلم في كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار. صحيح مسلم ج 3 - ص 1490.
ب- وفي لفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمنُ أن يناله العدو)
(1)
ج- ما ثبت عند البخاري من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(النساء: 95).، قال النبي- صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا وليجيء باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة، ثم قال: اكتب: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ)، وخلف ظهر النبي- صلى الله عليه وسلم عمرو ابن أم مكتوم الأعمى
(2)
رضي الله عنه، فقال:
يا رسول الله فما تأمرني؟ فإني رجل ضرير البصر، فنزلت مكانها:(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)
(3)
وسيأتي معنا ذكر هذا الحديث بطوله مرة أخرى بعد قليل حين الكلام عن أدوات الكتابة المستعملة في العهد النبوي بإذن الله تعالى.
وغير ذلك من الأخبار الدالة على أن القرآن الكريم كان مكتوبًا في عهده- صلى الله عليه وسلم والتي من أبرزها كذلك ما يلي:
1 -
إذنه- صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن الكريم، ثبت عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)
(4)
(5)
فهذا
(1)
البخاري الجهاد والسير (2828)، مسلم الإمارة (1869)، أبو داود الجهاد (2610)، ابن ماجه الجهاد (2880)، أحمد (2/ 7)، مالك الجهاد (979).
(2)
- خلاف في اسمه، قيل: عبد الله، ويقال: الأكثر في اسمه عمرو. الباحث.
(3)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (4704): 4/ 1909
(4)
مسلم الزهد والرقائق (3004)، الترمذي العلم (2665)، الدارمي المقدمة (450).
(5)
الحديث أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم. صحيح مسلم ج 4 - ص 2298.
الحديث يدل على نهي النبي- صلى الله عليه وسلم للصحابة عن كتابة شيء غير القرآن،
(1)
وأن القرآن كان مأذونًا لهم في كتابته.
(2)
2 -
ومنها ما ثبت عند مسلم من حديث أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ- رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ
…
".
(3)
ولاشك أن المقروء لابد أن يكون مكتوبًا. وهذا الحديث وأضرابه كثير جدًا.
3 -
ومنها ما ثبت عند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود-رضي الله عنه قَالَ: "بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلادِي أي: من قديم ما قرأته ".
(4)
ولاشك أنه- رضي الله عنه إنما قرأ هذه السور من لوح مكتوب كذلك.
والأدلة على ما يدل على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا ومعروفة.
وقد ساق الباحث ما يدلل عليها تجنبًا للإطالة ولعل في الإشارة ما يغني عن كثير من العبارة. والحمد لله رب العالمين.
ذلك ومع أن أدواة الكتابة في هذا العهد المبارك كانت بدائية للغاية لحكمة أرادها الله كما سيأتي معنا بيان ذلك بالتفصيل إلا أن النبي- صلى الله عليه وسلم-اتخذ كُتّابًا للوحي ينسخون ما يملي عليهم وما يحفظونه بين يديه- صلى الله عليه وسلم.
كُتّاب الوحي:
" وكُتَّاب جمع كاتب، والكاتب عند العرب هو العالم، ومنه قوله تعالى:(أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(الطور: 41)
(5)
.
وقد اتَّخذ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كُتَّاباً للوحي، منهم من كان يكتب أحيانًا، ومنهم من كان متفرِّغًا للكتابة ومتخصِّصًا لها، وكان هؤلاء الكُتّاب من خيرة الصَّحابة- رضي الله عنهم أجمعين- وقد مر معنا ذكر أبرزهم، وكانوا يكتبون على ما توفَّر عندهم من جريد النَّخل،
(1)
نهي النبي لكتابة الحديث النبوي كان هذا في أول الأمر خشية أن يلتبس القرآن بالسنة، أو لأجل أن يخص القرآن بالعناية.
(2)
- جمع القرآن الكريم حفظًا وكتابة، د. علي بن سليمان العبيد:(ص: 21) وما بعدها.
وسيأتي بعد قليل الكلام عن حديث أبي سعيد الخدري وتوجيهه.
(3)
- رواه مسلم برقم: (804).
(4)
رواه البخاري برقم: (4739).
(5)
- ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، صفحة 699، جزء 1. بتصرّف.
والحجارة، وقِطع الجلد، والرِّقاع من الورق، والعظام، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن الكريم كاعتنائه بحفظه؛ فلم يكتفِ بحفظه في صدور المسلمين، بل جمع مع ذلك حفظَه في السُّطور زيادةً في التَّوَثُّق والضَّبط والاجتهاد، وكلَّما نزل شيءٌ من القرآن الكريم أمر صلى الله عليه وسلم
صحابته بكتابته، فيقول:(ضَعُوا هؤلاءِ الآياتِ في السورةِ التي يُذْكَرُ فيها كذا وكذا)،
(1)
وذلك مبالغةً في الضَّبط والاحتياطِ لكتاب الله تعالى، ولم ينقضِ العهد النَّبويُّ إلا والقرآن مجموعٌ على هذا النَّمط.
(2)
والرواية سالفة الذكر وإن كانت ضعيفة إلا أن لها شواهد أخر صحيحة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما أخرجه أحمد في المسند بإسناد حسن عن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ ثُمَّ صَوَّبَهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْزِقَهُ بِالأَرْضِ قَالَ ثُمَّ شَخَصَ بِبَصَرِهِ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ-عليه السلام فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90).
(3)
.
ومنها كذلك ما ثبت عند البخاري من حديث ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إِلَى قَوْلِهِ (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(البقرة من آية: 240) قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ".
(4)
والمصنفات التي اعتنى فيها أصحابها بتراجم الأعلام عرفوهم بكتاب الوحي كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
(1)
- رواه ابن حجر العسقلاني، في موافقة الخبر الخبر، عن عثمان بن عفان، الصفحة أو الرقم: 1/ 44، "حسن". والحقيقة أنه ضعيف، ويُنظر: تحقيق الألباني: ضعيف، ضعيف أبي داود:(140)، عندنا برقم (168/ 786). ولكن له شواهد صحيحه تشهد له. الباحث.
(2)
- عبد الله شحاته، علوم القرآن، القاهرة: دار غريب، صفحة 20 - 21. بتصرّف.
(3)
المسند: (4/ 218). في سند الحديث ليث بن أبي سليم، وهو صدوقٌ اختلط جدًّا ولم يتميز حديثُه فتُرِكَ. يُنظر: تقريب التهذيب ص 542. وكأنه اشتبه عليه عثمانُ بن مظعون بعثمان بن أبي العاص.
قال في ابن كثير: "تفسيره": "هذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم". يُنظر: تفسير ابن كثير (4/ 220).
وقال الهيثمي: "إسناده حسن". يُنظر: مجمع الزوائد (7/ 49).
(4)
- رواه البخاري برقم: (4536)
وكان" الوحي إذا أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد الكتّاب كزيد أو غيره أن يكتب ذلك الوحي".
(1)
قال الباقلاني (ت: 430 هـ) رحمه الله:
"وما على جديد الأرض أجهل ممّن يظنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم أنّه أهمل القرآن أو ضيّعه، مع أنّ له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار".
(2)
وكان من أهداف تلك الكتابة زيادة التوثيق والاحتياط والحفظ والصيانة لكتاب الله تعالى بكتابته وتقييده في السطور إضافة إلى حفظه في الصدور، وكانت عادة العرب الحفظ لا الكتابة؛ إذ لم يحفظ عنهم كتابة أشعارهم إلا ما ندر، والشاذ والنادر لا يُقاس ولا يُعول عليه.
ولا شك أن هذا من أعظم البواعث على حفظه حتى لا يتفلت شيء منه أي شيء.
وقد مر معنا أيضًا بيان المنهجين والطريقين بشيء من الإيضاح، كما سيأتي بيان ما يحتاج بيانه بشيء من التفصيل في موضعه بإذن الله.
ويمكن إجمال أهم بواعث كتابة القرآن في العهد النبوي فيما يلي:
1 -
موافقة المكتوب في السطور للمحفوظ في الصدور فيحصل بهذا التوافق نوع ترابط ومعاضدة بين المحفوظ والمكتوب، وبذلك تقوى عوامل حفظ القرآن من الضياع ويبقى سليمًا محفوظًا من التحريف والتبديل والتغير والزيادة والنقصان، ولذا كان المعول عليه عند جمعه وكتابته- الجمع بين الحفظ في الصدور والكتابة في السطور.
2 -
حفظ القرآن مكتوبًا فيه نوع إعانة للنبي- صلى الله عليه وسلم-على تبليغه على الوجه الأكمل والأتم؛ فالاعتماد على حفظ الصحابة وحده غير كاف؛ فهم قد يعتريهم نسيان لأنهم بشر غير معصومين، وقد يموت أو يقتل كذلك حفاظه كما حدث في مقتل جمع من القراء في بئر معونة وكذلك يوم اليمامة، والكتابة لاشك في ثبوتها وبقائها.
لماذا لم يجمع النبي- صلى الله عليه وسلم-القرآن في مكان واحد؟
نذكر أهم أسباب ذلك إجمالًا فيما يلي:
أولًا: لأن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة كما هو معلوم، بل نزل منجمًا حسب الحوادث والنوازل على مدى ثلاث وعشرين سنة، ولم يكتمل نزوله إلا قبيل وفاته- صلى الله عليه وسلم بزمن يسير.
(1)
- دلائل النبوة للبيهقي: (ص: 241).
(2)
- الانتصار: (ص: 99).
ثانيًا: لترقبه- صلى الله عليه وسلم تتابع نزول الوحي والذي قد يرد فيه من النسخ ما يرد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله تعالى نسخه من الآيات، سواء كان هذا النسخ، نسخ حكم، أم نسخ تلاوة.
ثالثًا: وكذلك خشيته صلى الله عليه وسلم من اختلاط القرآن بغيره ولا سيما في بادئ الأمر.
(1)
رابعًا: أجاب البعض كذلك بأن خشية تحريف القرآن كانت مأمونة لأن جمهرة غير قليلة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون القرآن وهم خير هذه الأمة، والفتنة في ذلك مأمونة.
خامسًا: إضافة لما سبق ذكره فإن أدوات الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قليلة جدًا ونادرة، وإن عدم توافرها بكثرة قد يكون من أهم الدواعي والأسباب المؤدية لعدم جمعه في مكان واحد كذلك.
سادسًا: من المعلوم أن ترتيب آي القرآن وسوره كان مرتبًا بحسب تناسب الآي وترابطها ترتيبًا موضوعيًا وسببيًا، ولم يكن مرتبًا على حسب ترتيب النزول، فقد يكون نزول الآية أو السورة متقدمًا نزولًا ومتأخرًا ترتيبًا وعلى العكس من ذلك أيضًا، ونسوق لذلك مثالًا يتضح به المقال ألا
وهو: آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
(1)
- أما ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ". رواه مسلم (3004).
قال الحافظ في الفتح:
فإنه وإن كان في بداية الأمر؛ خشية أن يختلط الحديث بالقرآن الكريم، إلا أن بعض المحدثين: كالبخاري وغيره قد أعل الحديث بالوقف على أبي سعيد الخدري". يُنظر: فتح الباري: (1/ 208).
وأهل العلم يرون أن كتابة حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد مرت بمرحلتين:
الأولى: النهي عن كتابة الحديث، وكان ذلك في بداية الأمر؛ مخافة اختلاط القرآن الكريم بغيره. يُنظر: معالم السنن (4/ 184)، وفتح الباري (1/ 208).
الثانية: الإذن بكتابة الحديث، وذلك بعد أن استقرت الدعوة، وأمن النبي- صلى الله عليه وسلم من الالتباس بالقرآن الكريم، فالنهي عن الكتابة متقدم، وآخر الأمرين الإباحة. يُنظر: معالم السنن (4/ 184).
يقول ابنُ القيم - موضحًا هذا الأمر -:
" قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذنُ فيها، والإذنُ متأخرٌ، فيكون ناسخًا لحديث النهي". تهذيب مختصر سنن أبي داود (5/ 245).
بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 234) فإنها ناسخة لآية الاعتداد بحول كامل وهي قوله تعالى: (والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعًا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(البقرة: 240)
ولقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الأولى ناسخة للآية الثانية كما مر معنا آنفًا.
وقد كانت العدة حولًا كاملًا، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر هذه وإن كانت متقدمة تلاوة على آية الاعتداد بآية الحول، إلاّ أنها متأخرة عنها نزولًا فإن ترتيب المصحفي ليس ترتيبًا نزوليًا كما هو معلوم، وإنما هو ترتيب توقيفي.
هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم وجود نسخ في الآية، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما أُنقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخًا، إنما كانت تخفيفًا.
وفي تفنيد ذلك القول يقول القرطبي:
"وهذا غلطٌ بيّن، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرًا فهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء".
(1)
ذلك مع أن الآية الأولى كُتِبَت في المصاحف قبلها، وهي متأخرة نزولًا عنها بلا شك لوجوب تأخر الناسخ عن المنسوخ، ولو أن القرآن جُمِعَ كاملًا في مكان واحد لكان في ذلك من العنت والمشقة والتكلف والحرج ما الله به عليم لأنه عُرضة لتغير مواضع الآيات والسور خاصة مع تنجيم القرآن وتتابع نزوله في ثلاث وعشرين سنة، فكتابة القرآن مفرقًا في الجمع الأول في العهد النبوي ضرورة حتمية لا مفر منها أبدًا.
وقد مر معنا ذكر طرف من ذلك، وأعيد بيانه هنا لمسيس الحاجة لبيانه، وبأسلوب مغايرة وزيادة بيان وإيضاح.
المطلب الثاني: أدوات الكتابة المستخدمة في هذا الجمع
والكتابة في هذا العهد المبارك كانت بدائية للغاية لحكم جليلة وعظيمة فالأمة فتية الإيمان، منشرحة الصدر، مطمئنة النفس، والوحي يتنزل غضًا طريًا، وأنفسهم زكية وطاهرة ومقبلة على ربها طواعية، وخير معلم عرفته البشرية-صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي بين أظهرهم يعلمهم ويرشدهم كما قال ربنا:(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة من آية: 2) فهو يهديهم ويزكي أنفسهم بالكتاب وبالأعمال الصالحة التي تقربهم من ربهم وخالقهم ومعبودهم، ويشحذ هممهم ويرفع من معنوياتهم.
(1)
- تفسير القرطبي: (3/ 174)، البحر المحيط:(2/ 224).
أبرز أدوات الكتابة في العهد النبوي:
يقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
"كان الصحابة يكتبون القُرْآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على العسب، وهي: جريد النخل، وعلى اللخاف، وهي: الحجارة الرقيقة، وعلى الرقاع، وهي: الأوراق، وقطع الأديم، وهي: الجلد وعظام الأكتاف، والأضلاع، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وهكذا انقضى عهد النبوة ولم يُجمع القرآن في مصحف واحد، بل كُتب منثورًا بين قطع الجلد والعظام ونحوها".
(1)
ونسوق جملة من الأخبار الصحاح تبين لنا أنوعًا من تلك الأدوات البدائية المستعملة في هذا العهد المبارك، من ذلك:
ما ثبت عند البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(النساء: 95).، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا وليجيء باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة، ثم قال: اكتب: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ)، وخلف ظهر النبي- صلى الله عليه وسلم عمرو ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله فما
تأمرني؟ فإني رجل ضرير البصر، فنزلت مكانها:(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)
(2)
وعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: "فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ".
وفي رواية: "فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ".
(3)
وفي رواية: "ومن الأضلاع"، وفي رواية:"والأقتاب".
(4)
وعَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قال: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -فَقال: "ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ".
(5)
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 247).
(2)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (4704): 4/ 1909
(3)
- رواه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا (13/ 195) ح 7191.
(4)
رواهما ابن أبي داود في كتاب الْمصاحف ص 164 - 167
(5)
- رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (8/ 637 - 638) ح 4990.
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: " كُنَّا بِالْمرْبَدِ فَجَاءَ رَجُلٌ أَشْعَثُ الرَّأْسِ بِيَدِهِ قِطْعَةُ أَدِيمٍ أَحْمَرَ، فَقُلْنَا: كَأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؟ فَقَالَ: أَجَلْ. قُلْنَا: نَاوِلْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ الأَدِيمَ الَّتِي فِي يَدِكَ، فَنَاوَلَنَاهَا فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ
…
".
(1)
قال ابن الأثير:
"وحديث الزهري: والقرآن في الكرانيف. يعني أنَّه كان مكتوبًا عليها قبل جمعه في الصحف".
وكذلك ما أخرجه الحاكم عن زيد بن ثابت نفسه ووصفه بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين وهو عند الترمذي كذلك وهو في مجال كتابة وتأليف القرآن الكريم في العهد النبوي، قال زيد-رضي الله عنه:" كُنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-نؤلِّفُ القرآنَ منَ الرقاعِ".
(2)
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي- صلى الله عليه وسلم كُتِبَت عنده سورة النجم فلما بلغ السجدة سجد وسجدنا معه وسجدت الدواة والقلم.
(3)
(4)
ويقول أبو العباس القلقشندي
(5)
:
((وقد أجمع رأي الصحابة رضي الله عنهم: - على كتابة القرآن في الرق؛ لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حينئذٍ.
(6)
((وقد سمي رقًا؛ لجمْعه بين الرقة والمتانة وطول البقاء .. ))
(1)
- رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء بَاب مَا جَاءَ فِي سَهْمِ الصَّفِيِّ (3/ 153) ح 2999. الراوي: يزيد بن عبدالله، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح أبي داود
الصفحة أو الرقم: 2999، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
(2)
- الراوي: زيد بن ثابت، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترمذي
الصفحة أو الرقم: 3954، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
(3)
صحيح الترغيب والترهيب رقم 1443؛ قال الألباني: حديث حسن رواه البزار بإسناد جيد.
(4)
- قال الشيخ الألباني في الصحيحة (3035):
"واعلم أنه قد روي سجود الدواة والقلم في رؤيا رآها أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه حين قرأ فيها سورة (ص) في حديث رواه أحمد وغيره، وهو مخرج في "الصحيحة" (2710) و"صحيح أبي داود" تحت الحديث (1271)، فقد يقال: لعل ذكر سجود الدواة والقلم في حديث الترجمة وهم من بعض رواته؛ دخل عليه حديث في حديث. والله سبحانه وتعالى أعلم".
(5)
أبو العباس القلقشندي: (756 هـ=1355 م - 821 هـ=1418 م) هو القاضي شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد القلقشندى ولد بقلقشندة إحدى قري مدينة قليوب سنة (756 هـ=1355 م) ودرس بالقاهرة والإسكندرية على يد أكابر شيوخ العصر وتخصص في الأدب والفقه الشافعي وبرع في علوم اللغة والبلاغة والإنشاء، وقد عمل في ديوان الإنشاء سنة 791 هـ في عهد السلطان الظاهر برقوق واستمر فيه إلى آخر عهد الظاهر برقوق سنة 801 هـ، وتوفي سنة 821 هـ=1418 م. نقلًا عن المعرفة، ويُنظر: الأعلام للزركلي.
(6)
- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - القلقشندي ج 2/ 515
وقال الحارث المحاسبي (ت: 243 هـ) في كتاب "فهم السنن":
كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقًا في الرقاع، والأكتاف، والعسب، والقرطاس.
(1)
إذن فتبين من مجموع هذه النصوص أن الأدوات المستعلمة في كتابة القرآن في ذلك العهد هي كما يلى:
الرِّقَاع، وَالأَكْتَافِ، وَالْعُسُبِ، واللخاف، والأضلاع، والأقتاب، والأَلواحِ، وقطع الأديم، والكرانيف، القرطاس؛ الدواة؛ القلم؛ المداد؛ الحبر
شرح معاني أسماء تلك الأدوات المستخدمة في كتابة القرآن في ذلك العهد المبارك:
1 -
الرقاع: جمع رُقْعة، وهي التي يكتب فيها، وتكون من جلد أو كاغد.
2 -
الأكتاف: جمع كَتِف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدوابِّ، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.
3 -
العسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعف.
4 -
اللخاف: جمع لَخْفة، وهي صفائح الحجارة البيض الرقاق، فيها عرض ودقة، وقيل هي الخزف يصنع من الطين الْمشوي. وقد فسرها بعض الرواة بالحجارة
(2)
. و بعضهم وبعضهم بالخزف.
5 -
الأضلاع: هي عظام الجنبين، جمع ضِلَعٍ، وهو محنيَّة الجنب.
(3)
6 -
الأقتاب: جمع قَتَب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع ظهر البعير ليركب عليه.
7 -
الألواح: جمع لَوْح، وهو كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب، والكتف إذا كتب عليها سميت لوحًا.
(4)
8 -
الأديم: هو الجلد ما كان، وقيل الأحمر منه، وقيل هو الْمدبوغ.
9 -
الكرانيف: جمع كُرْنافة، وهي أصل السَّعَفة الغليظة.
(1)
- ينظر: البرهان: 1/ 238؛ والإتقان: 1/ 129.
(2)
يُنظر: كتاب الْمصاحف لابن أبي داود ص تحقيق محب الدين عبد السبحان واعظ 164
(3)
لسان العرب مادة (ضلع)(4/ 2598).
(4)
لسان العرب مادة (لوح)(5/ 4095).
10 -
القرطاس: القِرْطَاسُ بكسر القاف وشمها الذي يكتب فيه
(1)
و قال صاحب اللسان القِرْطاس معروف يُتَّخذ من بَرْدِيّ يكون بمصر.
11 -
الدَّوَاةُ: بالفتح المحبرة والجمع دَوَّى مثل نواة ونوى و دَوِيُّ.
(2)
12 -
المداد والحبر: سائل يكتب به وسمى المداد؛ لأنه يمدُّ القلم، أيْ يعينه، وكل شيء مددت به شيئًا فهو مداد؛ وسُمي الزيت مدادًا؛ لأن السراج يُمدّ به.
(3)
و بهذا يتبن أن الأدوات كان جد بسيطة وبدائية ومع ذلك لم تحط من عزيمة الصحابة رضي الله عنهم في كتب القرآن وحفظه من الضياع و التحريف.
والحمد لله الذي قيض أولئك الأخيار لجمع كتابه الكريم.
(4)
، وذلك رغم صعوبة استخدام تلك الوسائل البدائية وندرتها ومشقة الكتابة عليها، ولكنه محض فضل الله يؤتيه من يشاء:(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(آل عمران من آية: 87).
المطلب الثالث: خصائصه ومزاياه
كان الجمع في هذا العهد المبارك يتمثل في كتابة آي القرآن الكريم ووضع كل آية من آياته في المكان الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم من السورة التي تخصها؛ ولقد كانت كتابة آيات القرآن الكريم مكتوبة متفرقة بين تلك الأدوات البدائية التي مر معنا ذكرها.
و
من أبرز مزايا الجمع في العهد النبوي
ما يلي:
1 -
كان النبي- صلى الله عليه وسلم يحفظ القرآن كما كان جمهرة من صحبه الكرام- رضي الله عنهم يحفظونه كذلك، وإنما كان الجمع في السطور زيادة تّوثيق لما حفظوه في الصدور.
2 -
ومن أبرز مزاياه كذلك أنّ آياته وقد وُضِعت في ترتيبها المعهود الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة، أما في ترتيب سوره ففي ترتيبها خلاف مشهور.
وفي نحو ذلك يقول القسطلاني (ت: 923 هـ) رحمه الله:
"وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده صلى الله عليه وسلم، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور".
(5)
(1)
مختار الصحاح مادة (قرطس).
(2)
- مختار الصحاح مادة (دوى).
(3)
- يُنظر: صبح الأعشى (2/ 500)؛ تاج العروس من جواهر القاموس مادة (مدد).
(4)
مقال" أدوات كتابة القرآن فى عهد النبي صلى الله عليه و سلم"، لأم الفضل، عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 19/ 5/ 1434 هـ =30/ 3/ 2013 م. بتصرف يسير.
(5)
إرشاد الساري (7/ 446).
وإنما كان الأمر كذلك بسبب اختلاف وتنوع أدوات الكتابة التي كتب عليها القرآن الكريم وجُمِعَ وقُيِدَ فيها.
3 -
والجمع في هذ العهد لم يتم فيه جمع المصحف كاملًا في صحيفة واحدة في مكان واحد.
4 -
ومن أبرز خصائص هذا الجمع ومزاياه موافقة ما هو مكتوب في السطور لما هو محفوظ في الصدور، لا يزيد عنه ولا ينقص ولا يختلف منه شيء أبدًا لا في سورة، أو آية، أو كلمة، أو حركة منه ..
ومما يؤكد ذلك المعنى تمامًا ما رواه مسلم في صحيحه (810) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ قُلْتُ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: (وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ).
(1)
فقوله- صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ) يقصد به القرآن المحفوظ الذي جمعه أُبَيِّ رضي الله عنه في صدره.
يقول زيد بن ثابت الأنصاري (ت: 45 هـ) - رضى الله عنه -:
(2)
"كنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرّقاع".
(3)
. والتأليف هنا بمعناه اللغوي ألا وهو الجمع
قال ابن فارس (ت: 395 هـ) رحمه الله: -
"الهمزة، واللام، والفاء أصل واحد، يدلُّ على انضمام الشيء إلى الشيء، وكلُّ شيءٍ ضممتَ بعضَه إلى بعضٍ فقد ألفته تأليفًا".
(4)
وهو يعني جمع الشيء إلى مثيله ونظيره، وقد عرفه بعضهم بأنه:"جمع الأشياء المتناسبة".
(5)
قال البيهقي: (ت: 458 هـ) رحمه الله:
(1)
- رواه مسلم: (810).
(2)
- قيل إنّه تُوفّي في سنة خمس وأربعين للهجرة، وقيل في سنة خمس وخمسين للهجرة.
(3)
- يُنظر: الوجيز في فضائل الكتاب العزيز محمد بن أحمد الأندلسي القرطبي دار الحديث تحقيق علاء الدين علي رضا.
(4)
-مقاييس اللغة، مادة (ألف)(1/ 131).
(5)
- يُنظر: كتاب الكليات، وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - 1419 هـ - 1998 م، ص (440).
"يشبه أن يكون أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ".
(1)
وفي ذلك يقول زيد بن ثابت - رضى الله عنه -: "قُبِضَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء واحد".
وبهذا ينتهي المبحث الأول. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثاني: المرحلة الثانية: الجمع في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ويشتمل على خمسة مطالب:
المطلب الأول: بواعثه وأسبابه ودواعيه
ونبحث فيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: بداية فكرة الجمع في عهد الصديق- رضي الله عنه:
المسألة الثانية: موقف الصحابة-رضي الله عنهم من جمع أبي بكر-رضي الله عنه للقرآن:
المسالة الثالثة: أهم بواعث جمع أبي بكر-رضي الله عنه
فبعد موت النبي-صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه بُيع أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-بالخلافة وكانت مدة خلافته سنتين وبضعة أشهر، وذلك من عام (11 - 13 هـ)، وكانت وفاته في شهر جمادى الآخرة سنة 13 هـ.
ونسوق المسائل الثلاث بشيء من الإيضاح والتفصيل:
أما
المسألة الأولى فهي: بداية فكرة الجمع في عهد الصديق رضي الله عنه
-:
فقد كانت بداية فكرة في عهد أبي بكر- رضي الله عنه في أواسط خلافته: سنة 12 من الهجرة.
وذلك "حينما ارتدت العرب واستشرى القتل بالمسلمين وخاصة يوم اليمامة وقد استحر بقراء القرآن، جاء إليه عمر وقال له: إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القراءة والقرآن وإني أرى أن تجمع القرآن؛ وظل يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره لذلك؛ فكان أول من جمع القرآن ".
(2)
وإنما كان ذلك بعد أن بُيع أبو بكر الصديق- رضي الله عنه وآلة الخلافة إليه بتلك البيعة، بعدها ارتدت أحياء من العرب ومنعوا الزكاة، وقد وقع هذا الأمر الجلل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حينما ارتدَّت العرب عن الإسلام قيل إلا ثلاثة مساجد كما نقل ابن إسحاق، ألا وهي:
(1)
- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: (164/ 1).
(2)
الإتقان: (1/ 164)، ويُنظر: الوجيز في فضائل الكتاب العزيز: (ص: 163).
مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جواثا الذي يصلي فيه بنو عبد القيس، وذكر القاضي عياض أن أهل الردة في ذلك الوقت على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: صنف كفر بعد إسلامه وعاد لجاهليته، واتبع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وصدق بهما.
والصنف الثاني: صنف أقر بالإسلام إلا الزكاة فجحدها.
والصنف الثالث: صنف أقر بوجوبها لكنه امتنع عن دفعها لأبي بكر-رضي الله عنه وقالوا: إن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103).
فرأى أبو بكر والصحابة- رضي الله عنهم قتالهم جميعهم، الصنفان الأولان لكفرهم والثالث لامتناعهم، والامتناع مع الإقرار يختلف حكمًا من الامتناع مع الجحود ولا شك في ذلك أبدًا.
وقد ذكر أبو العباس القرطبي (656 ت: هـ) في "المفهم" رحمه الله:
أن الصنف الثالث هم الذين أشكل أمرهم على عمر وراجع فيهم أبا بكر حتى ظهر الحق. ولا يعتبرون كفارًا وإنما بغاة.
(1)
وهذا التقسيم الذي ذكره أبو العباس القرطبي قد ذهب إليه جمع من أئمة الإسلام، منهم الإمام الشافعي (ت: 240 هـ) حيث يقول-رحمه الله: -- بنحوه- في "الأم"
"وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: منهم قوم كفروا بعد الإسلام، مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات".
ثم أشار إلى أن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما كانا مجمعين على إن الصنف الثاني ليسوا كفارًا.
فيقول بعد أن ذكر ما دار بينهما من حوار:
"
…
معرفتهما معًا بأن ممَّن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان".
(2)
وممَّن قرر هذا التقسيم أيضًا الخطابيُّ (ت: 388 هـ) حيث يقول في "معالم السنن" رحمه الله:
"الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنفًا منهم ارتدَّ عن الدين، ونابذ الملة، وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة- رضي الله عنه بقوله: (وكفر من كفر من
(1)
يُنظر: شرح النووي لمسلم حديث (22، 20) ويُنظر: المفهم للقرطبي حديث (18، 17) باب يقاتل الناس إلى أن يوحِّدوا الله ويلتزموا شرائع دينه.
(2)
الأم، للشافعي:(9/ 204).
العرب)، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنفًا آخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي".
(1)
وممَّن قرر هذا التقسيم كذلك ابن حزم الأندلسي (ت: 456 هـ) في محض كلامه عن أصناف المرتدين حيث يقول-رحمه الله في "المحلى":
"
…
والقسم الثاني: قوم أسلموا، ولم يكفروا بعد إسلامهم، ولكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر رضي الله عنه فعلى هذا قوتلوا".
(2)
وقد قرر هذا التقسيم أيضًا جمع من العلماء الأعلام، منهم:
أبو عمر ابن عبد البرـ وابن المنذر، والماوردي صاحب التفسير، والقاضي عياض، وابن العربي المالكي، والبغوي، والنووي، وابن حجر، وغيرهم كثير.
(3)
وكذلك هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله، ولقد كان له بعض الأقوال والتقريرات التي يبدو ويظهر منها أنه يرى أن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا يفرّقون بين أصناف المرتدين، فيجعلون بعضهم كفارًا، كالمرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب، وبعضهم مسلمين بغاة لهم سائر أحكام أهل القبلة كما ذكر ذلك أبو العباس القرطبي في المفهم والنووي في
شرحه لمسلم، ومن تلك الأقوال والتقريرات: أنه جعل قتال مانعي الزكاة من جنس قتال أهل القبلة، فقال رحمه الله:
"والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يرى قتالاً علي يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم".
(4)
(1)
أعلام السنن، الخطابي (1/ 741).
(2)
المحلى، ابن حزم (11/ 193).
(3)
- يُنظر: الاستذكار، ابن عبد البر (9/ 266)، والإشراف على مذاهب أهل السنة، ابن المنذر (3/ 254)، والحاوي، الماوردي (13/ 211)، وشرح السنة، البغوي (5/ 489)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض (1/ 243)، وعارضة الأحوذي، ابن العربي (10/ 73)، وشرح صحيح مسلم، النووي (2/ 202)، وفتح الباري، ابن حجر (12/ 276)، وإكمال إكمال المعلم، الأُبي (1/ 173)، وغيرها كثير.
(4)
- يُنظر: مجموع الفتاوى: (28/ 515).
كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المرتدين
ومما يُستأنس به ها هنا أيضًا وبه نختم هذا المبحث الهام: كتاب أبي بكر- رضي الله عنه إلى المرتدين، فقد كتب إليهم كتابًا طويلاً حوى أمورًا شتى ومتنوعة في مضمونها وفحواها، وممَّا ورد في كتابه إليهم قوله- رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه
(1)
.
فهذا يدلُّ على إن بعض أهل الردة بقي على إسلامه ولم يخرج عنه، وكلامه قد وجهه إلى فئتين اثنتين، فيُؤخذ ويُفهم ويُستدلُّ منه على أن الذي ارتد عن الإسلام من الفئتين إنما هي فئة واحدة منهما لا الفئتين.
والشاهد الأول مما سبق ذكره:
أن الصديق الأول- رضي الله عنه قام مقام الجبال الرواسي الشامخات ليرد الأمة إلى دينها فحارب وقاتل المرتدين بشجاعة وثبات ورباطة جأش، فالموقف جد عصيب فقد ارتدت جموع غفيرة وأحياء كثيرة من العرب وقد عارضه في ذلك أول الأمر أقرب المقربين ومع هذا كله فقد ثبت رضي الله عنه ثبات الجبال الرواسي واستطاع بعد عون الله وتوفيقه أن يُعيد الأمة إلى رشدها، وأن يعيد للإسلام صولته وقوته ومكانته، فكان- رضي الله عنه للإسلام يوم الردة، كما كان الإمام أحمد للإسلام كذلك يوم المحنة.
ولنتأمل ما رواه البخاري رحمه الله من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إِلاَّ الله. فَمَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ الله فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ-رضي الله عنه: فَوَ الله مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ الله عز وجل قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ. فَعَرفتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
(2)
(1)
- يُنظر: نص الكتاب: كتاب الردة، الواقدي (71)، وتاريخ الطبري (3/ 250).
(2)
أخرجه البخاري في "كتاب الزكاة""باب وجوب الزكاة" حديث (1399)، وأخرجه مسلم حديث (20)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الزكاة" حديث (1556 و 1557)، وأخرجه الترمذي في "كتاب الإيمان""باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" حديث (2607)، وأخرجه النسائي في "كتاب الزكاة""باب مانع الزكاة" حديث (2442).
ولقد كلف الصديقُ-رضي الله عنه للقيام بهذه المهمة وهذا العمل العظيم - زيد بن ثابت الأنصاري-رضي الله عنه، ولنتأمل خبر تلك الواقعة العظيمة التي قيد الله لها الخليفتين الراشدين الجليلين صاحبي خير الخلق وحبيب الحق محمد- صلى الله عليه وسلم ولندع المجال للإمام
البخاري رحمه الله ليقص لنا الخبر على لسان من كُلِفَ بهذه المهمة الهامة الشاقة بنفسه ألا وهو الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري- رضي الله عنه حيث يقول:
" أَرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ، قالَ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: إنَّ عُمَرَ أتَانِي فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بقُرَّاءِ القُرْآنِ، وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ بالمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وإنِّي أرَى أنْ تَأْمُرَ بجمع القرآن، قُلتُ لِعُمَرَ: كيفَ تَفْعَلُ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ عُمَرُ: هذا واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لذلكَ، ورَأَيْتُ في ذلكَ الذي رَأَى عُمَرُ، قالَ زَيْدٌ: قالَ أبو بَكْرٍ: إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَ اللَّهِ لو كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ ما كانَ أثْقَلَ عَلَيَّ ممَّا أمَرَنِي به مِن جمع القرآن، قُلتُ: كيفَ تَفْعَلُونَ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، قالَ: هو واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أبو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ له صَدْرَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ- رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ واللِّخَافِ، وصُدُورِ الرِّجَالِ، حتَّى وجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مع أبِي خُزَيْمَةَ الأنْصَارِيِّ لَمْ أجِدْهَا مع أحَدٍ غيرِهِ، (لقَدْ جَاءَكُمْ رَسولٌ مِن أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ)
[التوبة: 128 - 129] حتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ رضي الله عنها".
(1)
وأما
المسألة الثانية فهي: موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:
الصحابة- رضي الله عنهم يدركون تمام الإدراك ويتيقنون كمال اليقين في أن الله تعالى وعده لا يتخلف أبدًا، وقد وعد سبحانه بحفظ كتابه من التغيير والتبديل ومن أن يزاد فيه أو يُنقص منه بقوله سبحانه:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9) وهم يدركون كذلك أن سنن الله
(1)
- البخاري، التفسير: 4311، فضائل القرآن: 4603، الأحكام: 6654، الترمذي، التفسير: 3028، أحمد، مسند العشرة: 72، جمال القراء: 1/ 86، ويُنظر: تخريجه مستوفىً في كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 169 - 179، ويُنظر: المقنع لأبي الداني: 2 - 3.
الكونية لها من الأسباب ما يقوم بها، ويدركون من خلال تلك السنن أيضًا أن هذا الدين لا يقوم بذاته بل لابد أن يكون له أنصار وأعوان من البشر يحملوا على عواتقهم هم نصرته وحمل رسالته والذب عن حياضه، ولهذا قاموا- رضي الله عنهم بواجبهم تجاهه ببذل الأسباب لحفظ كتاب ربهم من الذهاب والضياع، وهذا من قوة إيمانهم بالله ورسوله، ومن سعة علمهم بدين ربهم،
وفهمهم لشرعته ومنهاجه، ومن إدراكهم لعظم الأمانة التي في أعناقهم، ولضخامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم.
هل يُعد جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن من البدعة المحدثة في الدين
؟
مفهوم البدعة في اللغة:
لنعلم أولًا أن البدعة في اللغة: مأخوذة من البَدْع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[البقرة: 117].
أي مخترعها على غير مثال سابق، قوله تعالى:(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف: 9]. أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل.
ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدأ طريقة لم يسبق إليها.
والابتداع على قسمين:
القسم الأول: ابتداع في العادات
كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة.
والقسم الثاني: ابتداع في الدين
وهذا مُحرَّم؛ لأن الأصل فيه التوقيف، قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".
(1)
.
(2)
البدعة في المفهوم الاصطلاحي:
والبدعة في المفهوم الاصطلاحي كما عرفها الشاطبي (ت: 790 هـ) رحمه الله في الاعتصام هي:
" طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
(3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) - رحمه الله:
" البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب".
(4)
(1)
أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(2)
يُنظر: موسوعة توحيد رب العبيد، للشيخ الفوزان:(1/ 176). بتصرف يسير.
(3)
- الاعتصام (ص 28).
(4)
مجموعة الفتاوى: (4/ 107 - 108).
وإذا علمنا أن البدعة هي أمر محدث ومخترع في الدين يُضاهي الشرعية وهي ما لم يشرعه الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم يُقصد به التعبد والتقرب إلى الله، على غير مثال سابق، وقد علمنا كذلك أن القرآن قد سبق وأن جُمِعَ في صدور الرجال، وقد جُمِعَ كذلك في ألواحٍ عندهم، فاجتمع له جمعان: جمع في الصدور، وجمع في السطور.
لذا فلا يُعد في مكان واحد من الأمور المحدثة في الدين، وإن جمع أبي بكر-رضي الله عنه لم يكن من ذلك أبدًا، بدليل إجماع الصحابة- رضوان الله عليهم- على استحسانه، بل والمشارك فيه كذلك، وأن كل ما في الأمر أنه جمعٌ لما كُتِبَ مفرقًا في الجمع النبوي الأول فحسب.
قال الحافظ (ت: 852 هـ) في الفتح:
"وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أبي بكر بما فعله من في المصحف فقال: كيف جاز أن يفعل شيئًا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟
والجواب: أنه لم يفعل ذلك إلاّ بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم أَذِنَ في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلاّ بكتابة ما كان مكتوبًا.
ثم قال: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد من فضائله، وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله- صلى الله عليه وسلم " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها "
(1)
(2)
فما أحدٌ بعده إلاّ وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة".
(3)
وإن أبرز ما قيل في موافقة الصحابة-رضي الله عنهم-لهذا الجمع قول علي بن أبي طالب-رضي الله عنه:
"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمعه بين اللوحين.
(4)
(1)
- مسلم الزكاة (1017)، الترمذي العلم (2675)، النسائي الزكاة (2554)، ابن ماجه المقدمة (203)، أحمد (4/ 359)، الدارمي المقدمة (514).
(2)
- الحديث أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة. صحيح مسلم ج 2 - ص 705.
(3)
- فتح الباري ج 9 - ص 10.
(4)
-أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن: (ص: 155)، وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص: 5)، وأورده ابن كثير وقال عنه: إسناده صحيح، تفسير القرآن العظيم (فضائل القرآن)
(1/ 25). ويُنظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف: (ص: 45 - 47)، و:(ص: 94).
وقد ذكر الباقلاني (ت: 402 هـ) رحمه الله وجوهًا في فعل أبي بكر من أجودها خمسة:
الأول: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مصلحة، وفعله أبو بكر للحاجة.
الثاني: أن الله أخبر أنه في الصحف الأولى، وأنه عند محمد صلى الله عليه وسلم في مثلها بقوله:(يتلوا صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة)(البينة: 2 - 3)؛ فهذا اقتداء بالله وبرسوله.
الثالث: أنهم قصدوا بذلك تحقيق قول الله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9)؛ فقد كان عنده محفوظًا، وأخبرنا أن يحفظه بعد نزوله، ومن حِفظِه تيسير الصحابة- رضي الله عنهم لجمعه-، واتفاقهم على تقييده وضبطه.
الرابع: أن النبي-صلى الله عليه وسلم كان يكتُبه كَتَبَتُهُ بإملائه إياه عليهم، وهل يخفى على متصور معنى صحيحًا في قلبه أن ذلك كان تنبيهًا على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف، ولو كان ما ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بعد إخبار الله له بضمان حفظه، ولكن علم أن حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا.
الخامس: أنه ثبت: " أن النبي-صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو "
(1)
؛ وهذا تنبيه على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار.
قال أبو بكر بن العربي (ت: 543 هـ) رحمه الله: في أحكام القرآن هذا من أبين الوجوه عند النظار".
(2)
وقال الباقلاني (ت: 402 هـ) رحمه الله أيضًا:
وقد فهم عمر أن ترك النبي-صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك
…
(3)
كلام الباقلاني آنفًا كلام نفيس فيه من الدلائل الواضحات والحجج البينات الدامغات ما يرد به كل الشبهات الواردات. والحمد لله رب الأرض والسموات.
وقال الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله في الموافقات:
وحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتًا عنه في زمانه- صلى الله عليه وسلم.
(4)
(1)
رواه البخاري: (2990)، ومسلم:(1869)، من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما.
(2)
- يُنظر: أحكام القرآن: (2/ 612).
(3)
- فتح الباري: (8/ 629).
(4)
الموافقات: (3/ 41).
والصحابة- رضي الله عنهم خير هذه الأمة وأكثرها تعظيمًا لله ولدينه ولشرعه وأبعدها من الابتداع والإحداث في دينه الله ما ليس منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
"
…
فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستنير فهذا أصل أهل السنة".
(1)
ومشاركة جمع من الصحابة- رضي الله عنهم في هذا الجمع يُعد إجماعًا سكوتيًا لأنه ليس له أي معارض منهم أبدًا، وذلك وحده كاف في حسم القضية، لأنهم يستحيل اجتماعهم- رضي الله عنهم على ضلالة أبدًا.
والله تعالى قد أجار هذه الأمة من أن تجْتَمِع عَلَى ضَلالَة، ولقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن هذه العصمة باقية إلى قيام الساعة.
ولقد صحت السنة الثابتة عن المعصوم-صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد ثبت من حديث كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ (ت: 18 هـ) رضي الله عنه (أنه) قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ لِي عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ لا يَجُوعُوا وَلا يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلالَةٍ وَلا يستباح بيضة المسلمين".
(2)
ومن حديث ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ").
(3)
(1)
مجموع الفتاوى: (13 - 62 - 63).
(2)
- حسنه الألباني في الصحيحة (1331). قال الألباني بعد أن ساق للحديث عدة طرق: "ورجاله ثقات غير محمد بن إسماعيل بن عياش، قال أبو داود: لم يكن بذاك.
وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث عنه فحدث.
قلت (الألباني): فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. يُنظر: " الضعيفة "(1510) ".
(3)
- قال الألباني في صحيح الجامع الصغير: (صحيح)
…
[ت] عن ابن عمر. المشكاة 173، السنة 80، طب، ك، هق في (الأسماء) روي أيضًا موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.
وعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو الشَّيْبِانِيِ
(1)
قَالَ:
سَمِعْتُ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم-على ضلالة".
(2)
وهذا لاشك له حكم المرفوع، بل هو موافق له تمامًا.
وعصمة هذه الأمَّة المرحومة إنما هي عصمة عامة تمنعهم من الاجتماعِ على ضلالة؛ أي: إنهم لا يجتمعون على أمرٍ فيه ضلال واضح وبين مخالفٍ للسنَّة يقودُهم إلى الهلكة والضلالة والعمه.
وأما
المسالة الثالثة فهي: أهم بواعث جمع أبي بكر رضي الله عنه
-
وكان من أهم بواعث هذا الجمع وأسبابه ما يلي:
1 -
إن من أهم البواعث التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم لجمع القرآن هو
انقطاع الوحي من السماء بموت النبي صلى الله عليه وسلم ذاك المصاب العظيم والحدث الجلل الكبير والذي يُخشى على القرآن الضياع بسببه.
2 -
ومن أبرزها كذلك تحري القتل في قراء القرآن وحفاظه يوم اليمامة، ويُخشى بقتلهم ذهاب كتاب ربهم، وهم مع ذلك أيضًا معرضون للتفرق والانتشار في الأمصار للجهاد في سبيل الله، وللدعوة إلى الإسلام ونشره في أرجاء المعمورة، ولتعليم الناس أمر دينهم، لأنهم أمة بلاغ وأمة دعوة وجهاد، لا أمة نوم ورقاد.
ولذا كان من قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما:
"إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن". فذهاب بعض القراء قد يعني ذهاب الآخرين، فبهذا العمل أمكن تدارك الأمر منذ بدايته.
(3)
"ولقد كانت معركة اليمامة معركة حامية الوطيس استشهد فيها كثير من قراء الصحابة وحفظتهم للقرآن ينتهي عددهم إلى السبعين وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة من أجلهم سالم مولى أبي
(1)
يسير بن عَمْرو الشَّيْبَانِيّ وَيُقَال أَسِير بن عَمْرو وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ أَسِير بن جَابر يروي عَن بن مَسْعُود روى عَنهُ دَاوُد بن أبي هِنْد والعوام بن حَوْشَب كَانَ مولده فِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَات سنة خمس وَثَمَانِينَ. يُنظر: يسير بن عمرو الشيباني: موسوعة رواة الحديث.
(2)
- مصنف ابن أبي شيبة: (37192)، السنة لابن أبي عاصم:(85)، قال الألباني في ظلال الجنة:"إسناده جيد موقوف رجاله رجال الشيخين. "والحديث رواه الطبراني أيضًا من طريقين إحداهما رجالها ثقات كما في "المجمع" 5/ 219. "، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (ج 6، ص 322): "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ. "
(3)
- يُنظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف: (ص: 61)، و:
(ص: 91). وأصله مروي في البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وقد سبق تخريجه.
حذيفة. "
(1)
فتم "
…
تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعًا مرتبًا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه".
(2)
المطلب الثاني: خصائصه ومزاياه
وفيه أربع مسائل
المسألة الأولى: أبرز مزايا هذا الجمع
المسألة الثانية: بيان أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
المسألة الثالثة: عرض الأقوال الواردة في ترتيب السور مع الترجيح بينها
المسألة الرابعة: بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبيان مصدره
ويذكر الباحث المسائل الأربع بشيء من الإيضاح والتفصيل على النحو التالي:
أما
المسألة الأولى فهي: أبرز مزايا هذا الجمع
اتسم جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه بخصائص ومزايا عدة، والتي كان من أبرزها ما يلي إجمالًا:
أولها: دقته وسلامته
ثانيها: استيفائه لشروط الجمع المتفق عليها وموافقته العرضة الأخيرة
أبرز سمات وخصائص ومزايا جمع أبي بكر-رضي الله عنه تفصيلًا:
أولها: دقته وسلامته
فقد كان التحري والتدقيق والتثبت والاستيثاق لقرآنية كل ما يُجمع من سور القرآن وآياته وثبوت تواتره ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته فحسب، وتجريده عن كل ما ليس بقرآن، هو أبرز خصائص هذ الجمع، وذلك بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم ..
ثانيها: استيفائه لشروط الجمع المتفق عليها وموافقته العرضة الأخيرة
إن كل ما استوفت فيه شروط الجمع المتفق عليها فإنه يضم إلى صحيفة واحدة في مكان واحد وهو ما عِرِف بعد ذلك بالمصحف، وترتب آياته وسوره ترتيبًا مصحفيًا لا ترتيبًا نزوليًا، وذلك وفق
العرضة الأخيرة التي أُشِيعَ أن زيد بن ثابت
(3)
رضي الله عنه قد شهدها -، وذلك الجمع هو الموافق لما هو مثبتٌ في اللوح المحفوظ.
(1)
مناهل العرفان: (1/ 249).
(2)
المرجع السابق: (ص: 36)، الوحي والقرآن:(ص: 150).
(3)
وثبوت شهود زيد بن ثابت للعرضة الأخيرة محل نظر عند أهل التحقيق لضعف الروايات الواردة فيها، أما الثابت بأسانيد ثابتة صحاح فهو: شهود عبد الله بن مسعود لها، وأما شهود زيد لها فمشتهر فحسب، ومع اشتهاره فالباحث لم يقف على إسناد ثابت صحيح يُعول عليه في شهوده للعرضة الأخيرة إلا ما أشيع في مصنفات علوم القرآن وبعض كتب التفسير.
ولذا قال البغوي في " شرح السنة"(4/ 525) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي. فرواها بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
وما سيُذْكَرُ من شهود زيد للعرضة الأخيرة في طيات البحث فإنما يُذْكَرُ تمشيًا مع ما أشيع واشتهر واستفاض لا على ما ثبت واستقر، الباحث.
ثبت عند البخاري وغيره عن عائشة عن فاطمة- رضي الله عنهما أنها قالت:
"أسَرَّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جبريلَ كانَ يعارضُنِي بالقرآنِ كلَّ سنةٍ وأنهُ عارضَنِي العامَ مرَّتينِ ولا أراهُ إلا حضَرَ أجَلِي".
(1)
(2)
وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السُلميّ (ت: 74) رحمه الله:
قرأ زيد بن ثابت على رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.
(3)
وفي نحو ذلك يقول أبو عمرو الداني-رحمه الله في الأرجوزة المنبهة:
وكان يعرض على جبريل
…
في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة
…
بواحد من الحروف السبعة
(4)
حتى إذا كان بقرب الحين
…
عرضه عليه مرتين
(5)
ويقول القسطلاني (ت: 923 هـ) رحمه الله:
"وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده-صلى الله عليه وسلم، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور".
(6)
(1)
- البخاري المناقب (3426)، مسلم فضائل الصحابة (2450)، الترمذي المناقب (3872)، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1621)، أحمد (6/ 77).
(2)
- البخاري، فضائل القرآن: 6/ 101، المناقب، رقم: 3353، مسلم، فضائل الصحابة رقم: 2450، أبو داود رقم: 5217، مسند أحمد، رقم: 25209، وراجع فضائل القرآن لأبي الفضل الرازي، ص: 51، البرهان للزركشي: 1/ 232، لطائف الإشارات للقسطلاني: 1/ 23.
(3)
- رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/ 598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/ 7)، وكتاب المناقب (4/ 36).
(4)
- وهذا التفصيل لا يصح وهو محل نظر عند أهل التحقيق وقد قال به غير واحد من أهل العلم غير الداني. وإذا تأملنا في زمن الاستزادة من الأحرف السبعة تحقق لدينا أن ذلك كان في المدينة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة عام أو عامين اثنين على الأكثر، فكيف كان يعرض عليه في كل عام بحرف من الأحرف السبعة! وهي لم تنزل بعد! وهذا خلف من القول من عَلَمٍ كأبي عمرو الداني، ولكن جل من لا يسهو .. الباحث.
(5)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني، الأبيات رقم:(70 - 72)، (ص: 87).
(6)
يُنظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: (7/ 446).
وذلك لأن الدواعي إلى عدم جمعه في موضع واحد مفتقرة إلى ذلك، ولا توجد ضرورة ملحة إليه في ذلك الوقت لأسباب كثيرة مر معنا ذكرها في طيات مبحث في العهد النبوي.
وأما
المسألة الثانية فهي: بيان أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
وترتيب الآيات في السور أمر توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه البتة:
قال الزركشي (ت: 794 هـ) رحمه الله:
فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها.
(1)
وقال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
(2)
ويقول السيوطي (ت: 911 هـ) - أيضًا رحمه الله:
"والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله، هو الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شيئًا، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه، ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ولم يؤخر مقدم".
(3)
وقال الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
ولقد" انعقد إجماع العلماء على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم-عن الله عز وجل، وأنه لا مَجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعْلَم في ذلك مُخالفٌ".
(4)
وممن قال بالإجماع الذي حكاه السيوطي والزرقاني كذلك كل من:
1 -
ابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) حيث يقول رحمه الله:
(1)
- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار النشر بيروت، (د، ط)، ج 1، ص:256.
(2)
-السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1/ 211). ويُنظر: إعجاز القرآن للباقلاني (صـ 60). وأسرار ترتيب القرآن: (صـ 41). ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 347). وحاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي عنايه القاضي وكفاية الراضي: (1/ 25). وفتح البيان في مقاصد القرآن ـ أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (15/ 307).
(3)
المرجع السابق: (ص: 163).
(4)
مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 346).
ترتيب الآيات واجب؛ لأن ترتيبها بالنص إجماعًا.
(1)
2 -
وأبو جعفر الغرناطي (ت 708 هـ) حيث يقول رحمه الله:
اعلم أولاً أن ترتيب الآيات في سورها وقع بتوقيفه وأمره-صلى الله عليه وسلم، من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
(2)
3 -
والملا على القاري (ت 1014 هـ) حيث يقول رحمه الله:
ترتيب الآيات توقيفي، وعليه الإجماع.
(3)
4 -
وشهاب الدين النفراوي (ت: 1127 هـ) حيث يقول رحمه الله:
ترتيب الآيات توقيفي اتفاقًا.
(4)
وقد دل على ذلك أيضًا أدلة كثيرة من السنة الصحيحة الثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم-وهي أكثر من أن تُحصى ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 -
منها ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إِلَى قَوْلِهِ (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(البقرة من آية: 240) قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
(5)
وقد سبق ذكره في ثنايا البحث.
فردُ عثمانَ بن عفان على ابْن الزُّبَيْرِ يُفهم منه أنهم-رضي الله عنهم أجمعين- يعلمون أماكن ترتيب الآيات فتَرَكَهَا عثمان مكانها مثبتةً لأن القرينة تدل عليها، ولأنه هو الذي تعلموه وهو المعمول به لديهم.
2 -
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عمر قال ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال ألا تكفيك آية الصّيْف التي في آخر سورة النساء.
(6)
(1)
- كشاف القناع عن متن الإقناع: (1/ 344). ويُنظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 433). والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: (1/ 119).
(2)
- البرهان في تناسب سور القرآن ـ حمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، أبو جعفر:(صـ 182). البرهان فى تناسب سور القرآن المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708 هـ) تحقيق: محمد شعباني دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 1.
(3)
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ـ الملا علي بن سلطان محمد القاري: (4/ 1520).
(4)
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ـ أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم بن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري: 1/ 56، 66.
(5)
أخرجه البخاري في الصحيح برقم (4536).
(6)
رواه مسلم برقم (1617).
فآية الكلالة مكانها في نهاية سورة النساء وخواتيمها، ولما سأل عمرُ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أرشده إلى مكانها في آخر السورة.
ومن هنا يتبين لنا أمران:
الأمر الأول: أن آيات السورة مرتبة ومتتابعة من أولها وحتى آخرها.
والأمر الثاني: أن ترتيب الآيات كان مما يُعَلِّمه النبيُ صلى الله عليه وسلم أصحابهَ الكرام رضي الله عنهم.
3 -
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعًا من حفظ عشر آيات من أول الكهف عصم من الدجال وفي لفظ عنده من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف.
(1)
فقوله: (من أول الكهف) وقوله: (العشر الأواخر) واضح الدلالة على ترتيب آيات السورة كما هو شأن آيات القرآن قاطبة.
وكذلك" قراءته صلى الله عليه وسلم للسور المختلفة بمشهد من الصحابة يدلّ على أن ترتيب آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي- صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافة فبلغ ذلك مبلغ التواتر. "
(2)
4 -
ومنها ما ثبت عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، (أنها) قالت: سمع النبيُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في المسجد، فقال:"رحمه الله، لقد أَذْكَرَنِي كذا وكذا آية، أَسْقَطْتُهُنَّ من سورة كذا، وكذا"
(3)
.
فهذا الحديث وأضرابه مما يُستدل به على تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه- رضوان الله عليهم- أماكن الآيات وترتيبها في السور وأنه أمر توقيفي لا محيد عنه ولا محيص.
وهناك أدلة كثيرة جدًا تقرر هذه المسألة، فسماع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن من أصحابه مرتب الآيات وإقراره صلى الله عليه وسلم لقراءتهم، وكذلك صلاته بهم على مدار مرحلة نزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة وقد تكرر ذلك تكرارًا ومرارًا وهو معلوم في دواوين السنة، ففي الإشارة إليه غنية وكفاية.
ومن أراد زيادة فائدة في هذا الباب فليراجع فضائل قراءة بعض آيات من القرآن بعينها في مظانها من كتب السنة كفضل فاتحة الكتاب وهي أكثر من أن تحصى، وكفضائل الآيتين الآخرتين من
(1)
- رواه مسلم برقم (809).
(2)
- يُنظر: الإتقان: (1/ 62 ـ 65).
(3)
أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن باب من لم ير بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا 6/ 194 ح رقم 5042 ومسلم 33 كتاب صلاة المسافرين 33 - باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أنسيتها 1/ 543 ح رقم 788.
سورة البقرة
(1)
، وكفضل العشر آيات الأُول من سورة الكهف
(2)
وكذلك ما واظب رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم على قراءته لبعض سور القرآن ولم يغير في آياتها أي شيء، لا بتقديم ولا بتأخير، وذلك كقراءته لسور البقرة، والنساء، وآل عمران، وقراءته، لسورة "ق" في العيد.
(3)
وكذلك من فوق المنبر وفي الصلاة كذلك، كما كان يقرأ بـ"المنافقون" في الجمعة
(4)
.
والنبي صلى الله عليه وسلم مع مواظبته على قراءة هذه السور والآيات فقد واظب صلى الله عليه وسلم كذلك على ترتيبها، فإنه لا يُعلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه غيَّر شيئًا منها البتة.
ولا ريب أن فعله صلى الله عليه وسلم هذا من أوضح البراهين على أن هذا الترتيب هو ما وافق ترتيبه في اللوح المحفوظ والذي تلقاه عن جبريل-عليه السلام.
أدلة أخرى تؤكد على أن ترتيب الآيات توقيفي:
ومما يؤكد على أن ترتيب الآيات ترتيب توقيفي كذلك ويبرهن عليه نزول عدد من سور القرآن جملة ودفعة واحدة.
وفي تقسيم نزول سور القرآن يذكر السيوطي (ت: 911 هـ) النوع الثاني، وهو النوع الذي نزل جملة واحدة فيقول رحمه الله:
"
…
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْكَوْثَرِ وَتَبَّتْ وَلَمْ يَكُنْ وَالنَّصْرُ وَالْمُعَوِّذَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا. وَمِنْهُ سُورَةُ الصَّفِّ.
(5)
ونسوق بعض الأدلة الصحيحة الثابتة في نزول بعض السور جملة واحدة، فمن تلك السور التي نزلت جملة واحدة سورة براءة
فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ البَرَاءِ- رضي الله عنه، قَالَ:" آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ".
(6)
وقد رواه البخاري كذلك
(7)
بلفظ: " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ
…
"
دون لفظة " كاملة ".
(1)
يُنظر: مسلم في صحيحه برقم: 809، وغيرهم.
(2)
يُنظر: البخاري في صحيحه برقم: (5008 - 5009 - 5040)، ومسلم برقم:(807).
(3)
رواه مسلم برقم: (891)، وغيره.
(4)
-يُنظر: مسلم برقم: (877)، وغيره من حديث أبي هريرة.
(5)
الإتقان: (1/ 136 - 137). بتصرف.
(6)
رواه البخاري: (4364).
(7)
رواه البخاري: (4605).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن سورة براءة نزلت مفرقة ولم تنزل جملة واحدة مدعين عدم صحة لفظة "كاملة ".
قال بدر الدين العيني (ت: 855 هـ) رحمه الله:
"قَوْله: (كَامِلَة) قَالَ الدَّاودِيّ: لفظ: كَامِلَة، لَيْسَ بِشَيْء لِأَن بَرَاءَة نزلت شَيْئًا بعد شَيْء، قلت: وَلِهَذَا لم يذكر لفظ: كَامِلَة، فِي هَذَا الحَدِيث فِي التَّفْسِير، وَلَفظه هُنَاكَ: آخر سُورَة نزلت بَرَاءَة ".
(1)
ولكن الطاهر بن عاشور ذكر في "التحرير والتنوير" أنها نزلت دفعة واحدة وقد عزا هذا القول لجمهور العلماء.
(2)
ومن تلك السور التي نزلت جملة واحدة كذلك سورة الفتح:
فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)(الفتح: 1).
(3)
ومن تلك السور التي نزلت جملة واحدة كذلك سورة البينة:
فعَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَبَّةَ الْبَدْرِيَّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب)[البينة: 1] إِلَى آخِرِهَا، قَالَ جِبْرِيلُ-عليه السلام: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ
تُقْرِئَهَا أُبَيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ:(إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ) قَالَ أُبَيٌّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ.
(4)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة الْكَوْثَر:
فعن أنس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت علي آنفًا سورة" فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ
(1)
- عمدة القاري: (18/ 18).
(2)
- التحرير والتنوير: (10/ 97).
(3)
رواه البخاري: (4177).
(4)
رواه أحمد في المسند: (16001)، وقال محققوه): حديث صحيح لغيره (. و أصله في البخاري: (3809)، ومسلم:(799)، من حديث أنس.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر كاملة: 1 - 3).
(1)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة النصر:
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال لي ابن عباس: تعلم آخر سورة نزلت من القرآن، نزلت جميعًا؟ قلت:" نعم، إذا جاء نصر الله والفتح "، قال: صدقت.
(2)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة المسد:
ثبت في الصحيحين من حديث عَنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:(يَا صَبَاحَاهْ)، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟)
قَالُوا: بَلَى، قَالَ:(فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)(المسد: 1).
(3)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورتا المعوذتين:
فعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
(4)
والخلاصة فيما سبق:
أن نزول كثير من سور قصار المفصل نزلت جملة واحدة هو أمر ثابت بأدلة صحيحة صريحة، كالفاتحة والقدر والماعون والمسد والكوثر والفيل والنصر والكافرون والإخلاص والفلق والناس. وكذا الفتح.
وأما ما ذكره بعض أهل التفسير من أن سورًا عدة قد نزلت جملة واحدة كذلك ولا سيما من الطوال، فإن أغلب تلك الأقوال محل نظر واجتهاد والخلاف فيها معلوم لأنها أقوال اجتهادية لم تنهض بها حجة واضحة من دليل صحيح صريح ثابت، ولذا لم يذكر الباحث إلا ما ثبت لديه بالدليل الصحيح الثابت الصريح.
(1)
أخرجه مسلم في 4 - كتاب الصلاة 14 - باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة 1/ 300 ح رقم 400.
(2)
صحيح مسلم في صدر كتاب التفسير 4/ 2318 ح رقم 3024.
(3)
- رواه البخاري: (4801)، ومسلم:(208).
(4)
- أخرجه مسلم 6 - كتاب المسافرين وقصرها 46 - باب فضل قراءة المعوذتين 1/ 558 ح رقم 814.
هذا: ولابد أن يُعلم أن الأصل في القرآن الكريم أنه جُمع ورتب على أساس موافقته للعرضة الأخيرة، وقد استقرت العرضة الأخيرة على وفق ما هو مثبت وموافق ومطابق للقرآن المثبت في اللوح المحفوظ كذلك.
وأما
المسألة الثالثة فهي: عرض الأقوال الواردة في ترتيب السور مع الترجيح بينها
يقول السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله في "الإتقان" عن الخلاف في ترتيب السور:
وأما ترتيب السور على ما هي عليه الآن في المصحف، فقد اختلف فيه أهل هذا الشأن على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور الذي يرى أن ترتيب السور هو أمر توفيقي من اجتهاد الصحابة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم فوَّضَ ذلك إلى أمته من بعده. ومن أبرز من نحا إلى هذا الرأي الإمام مالك.
المذهب الثاني: يرى أن هذا الترتيب توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
المذهب الثالث: يجنح إلى أن ترتيب أغلب السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وعلم ذلك في حياته، وأن ترتيب بعض السور كان باجتهاد من الصحابة.
(1)
مر بنا آنفًا ما ذكره السيوطي من أقوال العلماء في القول بترتيب السور إجمالًا، والخلاف في هذه المسألة واسع جدًا وله أهميته الكبرى لتعلقه بأمر عظيم يتعلق بكلام الله تعالى، وقد ساق أصحاب كل قول أدلة ما يترجح لديهم القول به، ومن تكلم في هذه المسألة أئمة كبار ممن يُعتد برأيهم، والموضوع ليس بحثًا رئيسًا في موضوع بحثنا، والباحث لم يسق أدلة كل فريق لمناقشتها مخافة الإطالة في بحث هو جانبي عن موضوع البحث الرئيس، وإن كان من الأهمية الكبرى بمكان، لمكانته وقدره وقدر متعلقه ألا وهو كتاب الله تعالى.
والكثير من الأئمة يرى أن ترتيب سور القرآن الكريم كان ترتيبًا توقيفيًا كما كان ترتيب آياته كذلك، وقد ساقوا من الأدلة الواضحات والحجج الدامعات ما يجعل الباحث يقف عندها طويلًا ويعيد التأمل والبحث والنظر فيها كثيرًا،
ومن أبرز هذه الأقوال ما يلي:
القول الأول: قول الزركشي (ت: 794 هـ) في البرهان رحمه الله:
"قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا،
(1)
البرهان (1/ 258).
فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف
…
قلت: وهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي وهذا الراجح.
(1)
ولاشك أن مثل قول الزركشي له قيمته العلمية وله مكانته وقدره كذلك، لكونه قد ناقش أدلة كل فريق من جهة، ولتمكنه من هذا العلم من جهة ثانية.
القول الثاني: قول السيوطي (ت: 911 هـ) في الإتقان رحمه الله:
"ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلاءً "يعني متوالية" وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات وَلاءً، بل فصل بين سورها وفصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس" مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادًا لذكرت المسبحات وَلاءً، وأخرت "طس" عن القصص".
(2)
القول الثالث: قول أبي بكر الأنباري (ت: 328 هـ) حيث يقول رحمه الله:
"اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن".
(3)
القول الرابع: قول الكرماني: (ت: 893 هـ) رحمه الله:
"ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب".
(4)
القول الخامس: قول شرف الدين الطيبي (ت: 743 هـ) كذلك رحمه الله:
"أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقًا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ. ".
(5)
القول السادس: قول محب الدين النُّوَيْري (ت: 857 هـ) حيث يقول رحمه الله:
وإنما أمرهم-عثمان- بالنسخ من الصحف؛ ليستند مصحفه إلى أصل أبى بكر المستند إلى أصل النبي صلى الله عليه وسلم، وعيّن زيدًا لاعتماد أبى بكر وعمر عليه، وضم إليه جماعة مساعدة
(1)
البرهان في علوم القرآن (1/ 37). وانظر: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/ 56. والكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم: 10/ 76.
(2)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 63.
(3)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62.
(4)
-البرهان: الزركشي ج 1 ص 259، والإتقان للسيوطي ط 1 ص 62.
(5)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62
له، ولينضم العدد إلى العدالة، وكانوا هؤلاء؛ لاشتهار ضبطهم ومعرفتهم. وكتبوه مائة وأربعة عشر سورة، أولها "الحمد" وآخرها "الناس" على هذا الترتيب.
(1)
يتضح من كلام النويري أنه يرى بأن نسخ أبي بكر كان كاملاً مرتب الآيات والسور أيضًا، وأنه استند إلى المكتوب، والمحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين الآيات والسور في التوقيف، ولذا أمرهم-عثمان- بالنسخ منه.
القول السابع: قول أبي جعفر النحاس (ت: 338 هـ) حيث يقول رحمه الله:
"إن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم
(2)
.
القول الثامن: قول أبي الحسن ابن الحصَّار (ت: 620 هـ) حيث يقول رحمه الله:
"ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي".
(3)
القول التاسع: قول البغوي (ت: 516 هـ) حيث يقول رحمه الله:
إن الصحابة- رضي الله عنهم، جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن زادوا فيه، أو نقصوا منه شيئًا
…
فكتبوه كما سمعوا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير أن قدموا شيئًا أو أخروا
…
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة: 185)، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)
(4)
.
كلام البغوي في غاية الدقة، فهو يرى أن القرآن الذي في أيدينا ما زال كما كان في اللوح المحفوظ، فكان مرتبًا، ونزل مرتبًا إلى السماء الدنيا بكامل آياته وسوره، وأنه وإن نزل منجمًا بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جُمع بالوحي كما كان في اللوح المحفوظ، وكتبه الصحابة- رضي الله عنهم على هذا الجمع الذي تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
- شرح طيبة النشر (1/ 109).
(2)
-البرهان: الزركشي ج 1 ص 259، والإتقان للسيوطي ط 1 ص 62.
(3)
- الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62.
(4)
شرح السنة للبغوي: (4/ 521). ويُنظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود: 5/ 206.
القول العاشر: قول الملا علي القاري
(1)
حيث يقول رحمه الله:
مع أن الأصح أن ترتيب السور توقيفي أيضًا، وإن كانت مصاحفهم مختلفة في ذلك قبل العرضة الأخيرة
…
ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلَاءً، وكذلك الطواسين، ولم يرتب المسبحات وَلَاءً، بل فصل بين سورها، وكذا اختلاط المكيات بالمدنيات
(2)
.
وفي قول ودليل علي القاري، يتضح أن الترتيب وإن لم يرد فيه نص نظري لكنه كان أوكد من خلال التأمل في التطبيق العملي، الذي يوحي بما لا يدع مجالًا للشك بأن الترتيب كان توقيفيًا. وكلامه فحواه مقتبس من قول السيوطي. ولما سبق لم يتردد العلماء في ترجيح هذا الرأي القائل بالتوقيف، فقد قال أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي: والصحيح أن ترتيب السور والآيات أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه.
(3)
(1)
- الملا على القارئ: (ت. 1014 هـ - 1606 م)، هو الشيخ الفقيه المحدث المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن سلطان محمد، القارئ الهروي المكي المعروف بـ " الملّا علي القاري ". لقب بالقاري؛ لكونه عالمًا بالقراءات، والهروي: نسبة إلى مدينة هراة، من أمهات مدن خراسان، وهي ضمن جمهورية أفغانستان الحالية.
والمكي: نسبة إلى مكة أم القرى؛ لأنه رحل إليها وأخذ عن مشايخها واستوطنها حتى توفي بها.
ولد في مدينة هراة في حدود سنة 930 هجرية، وبها نشأ، وطلب العلم، وحفظ القرآن الكريم، وجوده على شيخه المقرئ معين الدين بن الحافظ زين الدين الهروي، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية عن شيوخ عصره.
ثم رحل إلى مكة، حيث استقر بها، ولازم بها العلماء سنوات طويلة، واستمر في التحصيل، حتى صار من العلماء المشهورين.
وكان رحمه الله حنفي المذهب، كما هو معروف من مصنفاته، وسيرة حياته، وأسهم في تحرير كثير من مسائل المذهب الحنفي، وتأييدها بالأدلة الشرعية.
وكان رحمه الله معروفًا بالتدين والتورع والتعفف، وكان يأكل من عمل يده، متقللاً من الدنيا، غلب عليه الزهد والعفاف والرضا بالكفاف.
وكان قليل الاختلاط بالناس، كثير العبادة والتقوى، وكان يكتب كل عام مصحفًا بخطه الجميل، ويهمشه بالقراءات والتفسير، فيبيعه ويكفيه قوتًا عامه كله.
وكان يرى أن التقرب إلى الحكام وقبول منحهم يضر بالإخلاص والورع.
وكان يقول: " رَحِمَ اللَّهُ وَالِدِي، كَانَ يَقُولُ لِي: مَا أُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، خَشْيَةَ أَنْ تَقِفَ عَلَى بَابِ الْأُمَرَاءِ". انتهى من "مرقاة المفاتيح"(1/ 311).
وللاستزادة من سيرته وأخباره يُنظر:
- الأعلام" للزركلي (5/ 12 - 13).
- التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح" للكاندهلوي (ص 6).
- التعليقات السنية" للكنوي (ص 8 - 9).
- الملا علي القاري فهرس مؤلفاته وما كتب عنه" لمحمد عبد الرحمن الشماع.
(2)
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ـ علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري:(4/ 1522).
(3)
- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد: أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي: 18/ 174. ويُنظر: فتح البيان في مقاصد القرآن ـ محمد صديق خان: 1/ 31 و 15، 307. وحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي: 1/ 25. وتفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن: المقدمة: 96. والتفسير من سنن سعيد بن منصور: 1/ 239. ومرعاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح: 7/ 334.
ومما نُظم وقيل في ذلك قولُ أبي الحسن بن الحصار (ت: 620 هـ) رحمه الله في كتابه "الناسخ والمنسوخ ":
يا سائلي عن كتاب الله مجتهدًا
…
وعن ترتيب ما يتلى من السور
وكيف جاء بها المختار من مضر
…
صلى الإله على المختار من مضر
(1)
فابن الحصار يشير إلى أن ترتيب السور جاء بها النبي-صلى الله عليه وسلم وهي إشارة واضحة الدلالة من كلامه بأن ترتيب السور توقيفي منه-صلى الله عليه وسلم
القول الحادي عشر: جملة من أقوال بعض المعاصرين
وقد رجح جمع من المعاصرين القول بالتوقيف كذلك، وهم على سبيل المثال لا الحصر على نحو التالي:
"جاء في التفسير الوسيط: ترتيب السور على ما جاء في المصحف الشريف بأمر الله عز وجل
(2)
.
1 -
قال صاحب التفسير الوسيط:
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها
(3)
.
2 -
وقال وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ (ت: 1436 هـ) رحمه الله:
ولا خلاف بين العلماء في أن ترتيب آيات السور توقيفي منقول ثابت عن النّبي صلى الله عليه وسلم، كما أن ترتيب السور أيضًا توقيفي على الراجح
(4)
.
وممن قال به كذلك من المعاصرين محمد عبد الله دراز، أحمد شاكر.
ومن أبرز ما استدل به بعض هؤلاء على توقيف الترتيب المصحفي ما يلي:
1 -
إجماع الصحابة-رضي الله عنهم على ترتيب السور في المصحف العثماني،
إذ لو كان هذا الترتيب ترتيبًا اجتهاديًا لما أجمعوا عليه ولتمسكوا بمصاحفهم ولما قدموها للحرق، ولما اجتمعوا على المصحف الإمام.
(1)
وللاستزادة ينظر: الإتقان للسيوطي (1/ 44).
(2)
- مجمع البحوث (10/ 2043).
(3)
التفسير الوسيط لـ محمد سيد طنطاوي (ت: 1431 هـ): (6/ 9)، وهذا التفسير تارة ينسب لـ"طنطاوي"، وتارة أخرى ينسب لمجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، كما هو الحال في طبعة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية الطبعة: الأولى، (1393 هـ = 1973 م) - (1414 هـ = 1993 م) عدد المجلدات: 10
(4)
- التفسير المنير للزحيلي (1/ 23). يُنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية: 14/ 181. وينظر: ترتيب آيات وسور القرآن الكريم-الدكتور محمد أبو زيد عن موقعه. بتصرف
ولقد" قام عثمان بن عفان- رضي الله عنه بإحراق المصاحف التي وقع فيها الاختلاف، وأبقى لهم المتفَق عليه، كما ثبت في العَرْضة الأخيرة".
(1)
وقد ثبت عند البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل
العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم- يعني ابتداءً-، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(2)
(3)
قال علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه:
" يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا ".
(4)
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يدل على أنهم قد أجمعوا عليه إجماعًا سكوتيًا-رضي الله عنهم أجمعين-.
(1)
البداية والنهاية: لابن كثير: (7/ 178).
(2)
رواه البخاري، حديث:(4987).
(3)
- قال عمر بن علي بن أحمد الشافعي، المعروف بابن الملقن:(ت: 804 هـ)
معنى (يغازي) يغزو، وإرمينية: بكسر أوله، وفتحه ابن السمعاني، وتخفف ياؤها وتشدد كما قاله ياقوت، وقال صاحبا "المطالع": بالتخفيف لا غير. وقال أبو عبيد: بلد معروف سميت بكون الأرمن فيها، وهي أمة كالروم، وقيل: سميت بأرمون بن لمطي بن يومن بن يافث بن نوح. قال أبو الفرج: ومن ضم الهمزة غلط، قال: وبكسرها قرأته عَلَى أبي منصور اللغوي؛ وقال: هو اسم أعجمي، وأقيمت -كما قال الرشاطي- سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان على يد سليمان بن ربيعة الباهلي. قال: وأهلها بنو الرومي بن إرم بن سام بن نوح.
وأذربيجان - بفتح أوله بالقصر والمد، وبفتح الباء وكسرها، وكسر الهمزة أيضًا، حكاه ابن مكي في "تنقيبه"- بلد بالجبال من بلاد العراق يلي كور إرمينينة من جهة المغرب. وقال أبو إسحاق البحيري: الفصيح ذربيجان. وقال الجواليقي: الهمزة في أولها أصلية، لأن أذر مضموم إليه الآخر. يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح: (24/ 20 - 25).
(4)
المصاحف،؛ لابن أبي داود صـ 96.
موقف ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه:
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
"روي عن عبدالله بن مسعود أنه غضب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلَّم في تقدُّم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، فكتب إليه عثمان بن عفان- رضي الله عنه يدعوه إلى اتِّباع
الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب عبدالله بن مسعود، وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة-رضي الله عنهم أجمعين-".
(1)
وكذلك إجاب ابن مسعود- رضي الله عنه إلى المتابعة في تقديم مصحفه للحرق تعزز ما ذكرناه آنفًا من قول على بن أبي طالب- رضي الله عنه تقوى وتؤكد وتعزز القول بالإجماع السكوتي من جهة، وتقرر الإجماع الفعلي من جهة أخرى كذلك، فرضي الله عنهم أجمعين.
وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه في الكلام عند مبحث الجمع العثماني بإذن الله تعالى.
وفي ذلك يقول الزرقاني- (ت: 1367 هـ) رحمه الله في "مناهله"- وهو يستعرض أدلة القائلين بالتوقيف:
"إن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول- صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب
المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع".
(2)
فلو سلمنا جدلاً أن ترتيب المصحف كان في أول أمره ترتيبًا اجتهاديًا لا توقيفيًا، لقلنا إن إجماع الأمة قد استقر على الترتيب المصحفي، حتى إن كُتب التفسير كلها على هذا الأمر لا نعلم منها أي مخالف عند السلف والخلف، لكن شذ عن ذلك ثلاثة نفر من المعاصرين
(3)
، فلا يجوز والحال
(1)
- البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 228). بتصرف يسير. البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: دار الفكر عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15.
(2)
- يُنظر: مناهل العرفان: (1/ 354)
(3)
أما الخلف: فقد أحدث ثلاثة نفر منهم خرقًا لهذا الإجمال، فكتبوا تفاسيرهم على الترتيب النزولي، تاركين الترتيب المصحفي الذي عليه عمل السلف واستقر عليه إجماع الأمة.
أما التفاسير الثلاثة فهي:
1 -
تفسير بيان المعاني: وهو "تفسير كتاب الله الحكيم حسب النزول لـ" عبد القادر ملا حويش".
2 -
التفسير الحديث: لـ" محمد عزة دروزة "
3 -
كتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ" عبد الرحمن حبنكة الميداني"
وسيأتي الكلام عنها بالفصيل في الصفحات التالية بإذن الله تعالى.
كذلك خرق هذا العمل الذي أجمعت الأمة عليه، وإنما المعنى بذلك هو كتب التفسير، لأن أمر المصاحف لا يتجرأ أحدُ على مخالفته البتة إلا مما نادى بعض المستشرقين كما سيأتي بيانه.
2 -
تحزيب الصحابة- رضي الله عنهم للقرآن
ومما استدلوا به كذلك على أن ترتيب السور توقيفي تحزيب القرآن وفي ذلك
يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) -رحمه الله تعالى:
"ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفيًّا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف
…
وفيه
…
فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم". ثم قال ابن حجر:"فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم ".
(1)
وهذا أيضًا دليل واضح جلي ذكره الحافظ في الفتح واستدل به على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الأن كان كذلك في عهد تنزله الأول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
النظم الترتيبي لبعض السور المتشابهة في مفتتحها، وفي ذلك يقول السيوطي -رحمه الله تعالى-:
"ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلاءً "يعني متوالية" وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات وَلاءً، بل فصل بين سورها وفصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس"
مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادًا لذكرت المسبحات وَلاءً، وأخرت "طس" عن القصص".
(2)
وقد مر ذكره عند عرض أقوال القائلين بتوقيف ترتيب السور.
وهذا الترتيب الدقيق الذي ذكره السيوطي للسور المتشابهات في مفتتحها ومطلعها وصفة ترتيبها وتتابعها بتك الدقة المتناهية من سور "آل حميم" وسور "آل طسم"، إذ إن سور "آل حم" السبع
(1)
- فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج 9 ص 42، 43.
(2)
- الإتقان: السيوطي ج 1 ص 63.
رتبت ترتيبًا متواليًا وكذلك سور "آل طسم" الثلاث، وأما سور المسبحات السبع فرغم تشابه مفتتحها فإنها لم تأت متوالية. وقوله:(وأخرت طس) يعني النمل المفتتحة بـ (طس) فقد أخرت عن القصص فجاءت بعدها، وقد وقعت بين سورتي الشعراء والقصص المتشابهتين في الافتتاح بـ (طسم)، فدلل بذلك على أن ترتيب السور توقيفي بلا شك، وهذا استدلال من السيوطي له قوته ووجاهته وحجيته.
وسور الحواميم هي: سور ذَوات "آل حم".
وسور الطواسين أو الطواسيم هي: السور ذَوات "آل طسم ". وقد جُمِعَتْ على غيرِ قِياس.
أما سور "آل حم": فهي سور "آل حم" السبع التي افتتحت بـ"حم" وهي سور:
1 -
غافر
2 -
فصلت
3 -
الشورى
4 -
الزخرف
5 -
الدخان
6 -
الجاثية
7 -
الأحقاف.
قال الكميت بن يزيد
(1)
:
وجدنا لكم في آل حاميم آية
…
تأوّلها منّا تقيّ ومعرب
(2)
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)) [غافر].
الثانية: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)) [فصلت].
الثالثة: (حم (1) عسق (2)) [الشورى].
الرابعة: (حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [الزخرف].
الخامسة: (حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [الدخان].
(1)
-الكميت بن زيد الأسدي وكنيته أبو المستهل، (60 هـ - 126 هـ) شاعر عرب من قبيلة بني أسد ومن أشهر شعراء العصر الأموي، سكن الكوفة واشتهر بالتشيع وقصائده في ذلك المسماة بالهاشميات. يُنظر الموسوعة الحرة-ويكيبيديا.
(2)
- البيت للكميت بن زيد الأسدي، مجاز القرآن لأبي عبيدة:(218 - 1) وديوانه طبعة الموسوعات بالقاهرة 18. وآل حاميم وذوات حاميم: السور التي أولها" حم" نص الحريري في درة الغواص، على أنه يقال: آل حاميم، وذوات حاميم، وآل طسم، ولا يقال: حواميم ولا طواسيم.
السادسة: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) [الجاثية].
السابعة: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) [الأحقاف]
"وقد تجعل "حم" اسمًا للسورة ويدخل الإعراب ولا يصرف".
(1)
وأما سور "آل طسم": فهي السور المفتتحة بـ (طسم) أو (طس)، وهي ثلاث سور:
1 -
الشعراء
2 -
والنمل
3 -
والقصص.
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء].
الثانية: (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ)(1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)) [النمل].
الثالثة: (طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [القصص].
أنشد أبو عبيدة:
وبالطّواسيم الّتي قد ثلّثت
…
وبالحواميم الّتي قد سبّعت
(2)
وهو يعني بقوله: " قد ثلّثت" أنها ثلاث سور، وبقوله:" قد سبّعت "أنها سبع سور.
وأما المسبحات فهي السور المفتتحة بالتسبيح، وهي سبع سور:
1 -
الإسراء.
2 -
الحديد.
3 -
الحشر.
4 -
الصف.
5 -
الجمعة.
6 -
التغابن.
7 -
الأعلى.
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ)(1)[الإسراء].
الثانية: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الحديد].
(1)
- يُنظر: زاد المسير: 7/ 204 - 205.
(2)
- يُنظر: زاد المسير: 7/ 204 - 205، جمال القراء: 1/ 34 - 36.
الثالثة: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الحشر].
الرابعة: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الصف].
الخامسة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(1)[الجمعة].
السادسة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1)[التغابن].
السابعة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)(1)[الأعلى].
وبعد بيان استعراض أقوال وأدلة القائلين بالقول بأن ترتيب السور توقيفي والحكم عليها يتبين لنا ما يلي:
أولًا: قوة أدلتهم وحجيتها ووجاهتها ورجحانها
ثانيًا: أن ترتيب السور المصحفي الذي استقر عليه المصحف الإمام هو الموافق لما هو مثبت في اللوح المحفوظ بلا شك وهو الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وتلقته الأمة بالقبول وعليه يجب التمسك والاعتصام والعمل به وعدم الحيد عنه سواء كان هذا الترتيب ترتيبًا توقيفيًا أم ترتيبًا اجتهاديًا، مع رد الدعوات المغرضة المنادية بإعادة ترتيب المصحف ترتيبًا نزوليًا أو ترتيبًا
موضوعيًا ورد أي دعوة مماثلة لتك الدعاوي الباطلة الهابطة كتلك الدعاوي التي صدرت من بعض المستشرقين الذين سيأتي ذكرهم ومن تأثر بهم وتابعهم ونادى بفكرتهم من بعض المعاصرين كذلك.
وأما
المسألة الرابعة فهي: بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبيان مصدره
لقد تَعرَّضَ لهذا الترتيب فئة من المستشرقين ولا غرابة في ذلك فهذا شأنهم وديدنهم، ولكن عندما يتعرض لهذا الترتيب فئة من بني جلدتنا وممن ينتمون لقبلتنا فمن هنا يأتي التعجب!.
فإن " كلٌ من الشيخ "عبد القادر ملا حويش"، والأستاذ "محمد عزة دروزة"، وهما (معاصريين) قد أقرا بأن ترتيب السور في المصحف توقيفي ولا يجوز مخالفة هذا الترتيب، لأنه كان بوحي من الله إلى جبريل إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم ".
(1)
ومع ذلك فقد خالفا الترتيب التوقيفي في تفسيريهما، وقد احتجا بأن طريقة تناول التفسير تختلف عن الترتيب المصحفي، وقد قدما أعذارًا لا تقوم بها حجة ولا تتضح بها محجة.
(1)
- يُنظر: بيان المعاني 1/ 3، والتفسير الحديث 1/ 9.، التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان: د. مصطفى مسلم. مقال عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 15/ 12/ 1432 هـ. بتصرف يسير لينتظم الكلام ويتآلف فحسب.
وقد أملى كل من "حويش" و"دروزة" تفسيرًا معاصرًا قد رتبه كل منهما ترتيبًا نزوليًا لا ترتيبًا مصحفيًا، و "حويش" هو رأس الحربة الذي ابتدأ هذا الأمر الجلل، إذ هو أول من أقبل على هذا العمل الذي خالف فيه ما درج عليه أئمة التفسير وسادات التحبير والتأويل سلفًا وخلفًا كما سيأتي بيان ذلك وإيضاحه في موضوعه، ثم تبعه "دروزة"، وقد تبعهما على هذا العمل كذلك الشيخ "حبنكة الميداني" كما سيأتي الكلام على تلك التفاسير بشيء من التفصيل والإيضاح والبيان.
وجميع هؤلاء بذلك قد خرقوا إجماع الأمة على اتباع الترتيب المصحفي والذي عليه عمل أئمة التفسير من السلف والخلف، وفي حدود علم الباحث واطلاعه الضيق أن هذا العمل لم يسبقهم إليه أحدٌ أبدًا من هذه الأمة، إلا ما كان من دعوة ونداء بعض المستشرقين لإعادة ترتيب القرآن ترتيبًا نزوليًا وذلك سعيًا منهم لبث الشبهات حول القرآن ولزعزعة الثقة في كتاب الله ولاسيما في نفوس الأجيال المقبلة،
ومن أبرز هؤلاء المستشرقين:
1 -
المستشرق الألماني غوستاف ليبرشت فْلوجِل: (ت: 1278 هـ).
2 -
والمستشرق الألماني اليهودي غوستاف فايل: (ت: 1306 هـ).
3 -
والمستشرق الألماني فريدريش شفالي: (ت: 1338 هـ)، وهو تلميذ تيودور نولدكه
4 -
وشيخ المستشرقين الألماني تيودور نولدكه: (ت: 1349 هـ).
وهو من أوائل المستشرقين الذين أثاروا مسألة إعادة ترتيب القرآن الكريم، "وفق ترتيب النزول". ولقد أفنى جزءًا كبيرًا من حياته، معتمدًا على كتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي من رجال القرن الخامس.
(1)
ويقال بأنه ندم في آخر حياته على الجهد الكبير الذي بذله في علم لا يمكن أن يصل فيه إلى نتائج قطعية بسبب اختلاف الروايات وتضاربها.
5 -
والمستشرق الإنجليزي ديفيد صموئيل مرجليوث: (ت: 1358 هـ).
6 -
والمستشرق الفرنسي ريجي بلاشير: (ت: 1393 هـ)
وقد قام "بلاشير"(زعمًا منه) بترجمة القرآن الكريم للفرنسية عام 1371 هـ-1950 م، والحقيقة أن الترجمة تمتنع تمامًا لأسباب كثيرة لا يسع المجال لذكرها، وإن الذي يمكن ترجمته إنما هو معاني القرآن فحسب.
(1)
- يُنظر: تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني: (ص: 71).
وقد رتب "بلاشير" تلك الترجمة المزعومة بحسب ترتيب النزول أول الأمر. ثم بعد سبع سنوات من تأمله ثبت لديه عدم صواب وجدوى طريقته الأولى التي استخدمها ألا وهي الترتيب بحسب ترتيب النزول فأعاد ترتيب ترجمته هذه بحسب الترتيب المصحفي.
ولقد تأثر بهؤلاء المستشرقين الكفرة بعض المعاصرين كذلك، ومن أمثال هؤلاء:
1 -
يوسف راشد الذي يقول:
"إن ترتيب القرآن في وضعه الحالي يبلبل الأفكار ويضيع الفائدة من تنزيل القرآن، لأنه يخالف منهج التدرج التشريعي الذي روعي في النزول. ويفسد نظام التسلسل الطبيعي للفكرة، لأن القارئ إذا انتقل من سورة مكية إلى سورة مدنية اصطدم صدمة عنيفة، وانتقل بدون تمهيد إلى جو غريب عن الجو الذي كان فيه. وصار كالذي ينتقل من درس في الحروف الأبجدية إلى درس في البلاغة".
(1)
وكذلك له رسالة تحت عنوان: "رتبوا القرآن كما أنزله الله".
وقد أقام اللهُ لها الدكتورَ/ محمد عبد الله دراز-رحمه الله فقام بالرد عليها بتقرير رفعه إلى إدارة الأزهر.
(2)
2 -
وميرزا باقر الأسكوئي الحائري الرافضي (ت: 1301 هـ)
3 -
والدكتور يوسف صديق التونسي (معاصر) من مواليد (1362 هـ)، هو فيلسوف وعالم انثروبولوجي.
4 -
وعائشة بنت عبد الرحمن المعروفة بـ "بنت الشاطئ"(ت: 1419 هـ) والتي لها التفسير البياني للقرآن، وقد صدر في جزئين تناولت فيه تفسير بعض سور القرآن.
المطلب الثالث: عرض ودراسة ومناقشة للتفاسير التي رُتِبَت على ترتيب النزول والرد عليها
والتَّفَاسِيرُ الثَّلَاثَةُ هي:
1 -
تفسير بيان المعاني: وهو "تفسير كتاب الله الحكيم حسب النزول لـ" حويش".
2 -
التفسير الحديث: لـ" دروزة "
(1)
- مقال: " النقد الفني لمشروع ترتيب القرآن الكريم حسب نزوله"، عبد الله دراز، مجلة الأزهر، رئيس التحرير: محمد فريد وجدي بكّ، تحت إدارة ديوان الإدارة للأزهر، والمعاهد الدينية، بالقاهرة، عدد شهر رمضان سنة (1370 هـ/ 1950 م، مجلد 22). مطبعة الأزهر، ص:784.
(2)
وقد نشر هذا الرد في مجلة " كنوز القرآن" في عدد أكتوبر 1951 م. يُنظر: الجمع الصوتي للقرآن: (ص: 359) وهامش (1).
3 -
كتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ" حبنكة الميداني"
مناقشة الباحث لـ "التَّفَاسِير الثَّلَاثَةُ" مناقشة "تفصيلية" على النحو التالي:
لابد من إلقاء نظرة توضيحية لتلك التفاسير التي خرقت جمع الأمة بهذا الشأن الجلل أولًا، ثم مناقشتها ثانيًا، وهي تأتي على النحو التالي:
أولًا: تفسير " بيان المعاني لـ "عبد القادر ملا حويش" (ت: 1398 هـ)
عرض ودراسة ومناقشة التفسير الأول: " بيان المعاني لـ " حويش"
وهو " تفسير كتاب الله الحكيم حسب النزول لـ" حويش". ويعد هذا التفسير هو الأول من نوعه حتى تاريخه في حدود ما نعلم، وفي حدود ونطاق ما وصلنا علمه.
وحويش هو: عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي (ت: 1398 هـ) العاني
(1)
الديرزوري
(2)
الفراتي.
(3)
وهو حنفي أشعري.
"واتُهِمَ بأنه كان "صوفيًا نقشبنديًا"، ولكن ابنه نفى ذلك وأخبر أنه كان يذهب إلى شيخ الطريقة النقشبندية ويستضيفه في بيتنا".
(4)
فحسب! .. !.
ولقد طُبِعَ كتابهُ طبعته الأولى في مطبعة الترقي بدمشق عام: 1382 هـ - 1965 م، في ثنتي عشر جزءًا مجموعة في ست مجلدات من الحجم الكبير. وليته ما طُبِع
وقد اعتمد في تفسيره على عدد من كتب التفسير منها:
1 -
تفسير الخازن: "لباب التأويل في معاني التنزيل" والخازن هو: علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (ت: 741 هـ).
2 -
تفسير النسفي: "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" والنسفي هو: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (ت: 710 هـ).
3 -
تفسير البغوي: "معالم التنزيل في تفسير القرآن"، والبغوي هو: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 510 هـ).
(1)
نسب إلى مدينة عانة العراقية المحاذية للحدود السورية، والتي هي مسقط رأسه.
(2)
نسبة لمدينة دير الزور السورية التي تعلم فيها، والتي تقع على الحدود الشرقية، من العراق.
(3)
الشيخ عبد القادر ملا حويش واعظ ومؤلف وفقيه وقاضي ومفسر للقرآن من أعلام علماء العراق، ينظر: الموسوعة الحرة "ويكيبيديا"، نقلًا عن الشاملة
(4)
- يُنظر: التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث. د فضل عباس حسن: (3/ 250).، دار النفائس-عمان-الأردن، ط 1، 1437 هـ.
4 -
تفسير النخجواني: "الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية والحكم الفرقانية"، والنخجواني هو: نعمة الله بن محمود النخجواني ويعرف بالشيخ علوان (ت: 920 هـ) ".
5 -
تفسير أبي السعود: " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، وأبو السعود هو: محمد بن محمد بن مصطفى العمادي (ت: 982 هـ).
6 -
تفسير روح البيان للخلوتي: " روح البيان في تفسير القرآن"، والخلوتي وهو: إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو الفداء (ت: 1127 هـ).
7 -
تفسير روح المعاني للألوسي: " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، والألوسي هو: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (ت: 1270 هـ).
8 -
تفسير البيضاوي: " أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، والبيضاوي هو: ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (ت: 685 هـ).
9 -
تفسير الكشاف للزمخشري المعتزلي: " الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل"، والزمخشري هو: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت: 538 هـ).
10 -
تفسير محي الدين بن عربي الصوفي: "عرائس البيان في حقائق"، وابن عربي هو: أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه الحاتمي الطائي الأندلسي (ت: 638 هـ).
ومن الكتب الفقهية التي اعتمد عليها:
1 -
المبسوط للسرخسي، والسرخسي هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت: 483 هـ).
2 -
رد المحتار على الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين، وابن عابدين هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (ت: 1252 هـ).
3 -
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، والجصاص هو: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت: 370 هـ)، والطحاوي هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي (ت: 321 هـ).
ومن كتب الصوفية التي اعتمد عليها:
1 -
عوارف المعارف لشهاب الدين عمر السهروردي (ت: 632 هـ).
2 -
البهجة السنية لمحمد بن عبد الله الخاني الخالدي النقشبندي (1279 هـ).
3 -
ونور الهداية والعرفان لأسعد الصاحب وهو: أسعد بن محمود الكردي الشهرزوري الدمشقي النقشبندي، (ت: 1374 هـ).
4 -
والإنسان الكامل لعبد الكريم الملقّب بـ "الجيلي أو الجيلاني"(ت: 826 هـ).
5 -
إحياء علوم الدين للغزالي (ت: 505 هـ).
6 -
الرسالة القشيرية في التصوف لأبي القاسم القشيري (ت: 465 هـ).
واعتمد في تحرير السور المكية والمدنية والقراءات على الكتب التالية:
1 -
كتاب عدد سور القرآن، وآياته وكلماته وحروفه وتلخيص مكيه من مدنيه لأبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي (ت: 400 هـ).
2 -
كتاب ناظمة الزهر للإمام ابن فِيْرُّه- بكسر الفاء وسكون التحتية وتشديد الراء- الشاطبي (ت: 590 هـ) وشرحه لأبي عيد رضوان المخللاتي (ت: 1311 هـ).
(1)
.
3 -
كتاب إرشاد القرّاء والكاتبين للمخللاتي أيضًا
(2)
.
طريقته في التفسير:
وطريقته في التفسير هو أن يبدأ باسم أول سورة نزولاً، ثم التي تليها بالترتيب الزمني من حيث النزول، ثم ذكر معناه والإشارة الى الأسماء الأخرى إن رُوِيَ لها أكثر من اسم، وعدد آياتها وعدد كلماتها وحروفها، وذكر ناسخها ومنسوخها، ثم الإشارة الى الكلمات التي بدأت أو ختمت بها السورة، وتكرارها، أو عدد تكرارها، ومكان نزولها وتاريخ نزولها والأقوال التي فيها ثم يدخل في تفسير الآية تفسيرًا بيانيًا تحليليًا.
منهجه في تفسير الآية:
وكان منهجه في تفسير الآية، تقسيم البحوث الى الموضوعات مجزأ، ونقل الأقوال معنونًا باسم الناقل؛ والاستشهاد بالمأثورات والأشعار مستندًا، ونقل كلمات العرفاء والصوفية مؤيدًا
(3)
.
أول دراسة حول هذا التفسير:
وقد قام باختصار هذا التفسير "بيان المعاني" علاء محمد سعيد، وطبع بإصدار مكتبة أبي أيوب الأنصاري بدمشق، ط 1، 1427 هـ-2006 م.
(4)
(1)
هو: رضوان بن محمد بن سليمان، أبو عيد، المعروف المخللاتي، من العلماء بالقراءات، ومن مؤلفاته: فتح المقفلات، وشفاء الصدور، والقول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز. توفي عام 1311 هـ =1893 م. (الأعلام للزركلي:(3/ 53)).
(2)
يُنظر: بيان المعاني، ج 1/ 4. بتصرف
(3)
للاستزادة يُنظر: بيان المعاني، ج 1/ 204 و 422 و 481
(4)
- للاستزادة يُنظر: المفسرون حياتهم ومنهجهم: محمد على أيازي: ج 1، ص 324 - 329. مع الانتباه والحذر الشديد لأن الكاتب "رافضي" وكذلك خرج كتابه مثل كاتبه، وفيه من الخلط والأباطيل ما الله به عليم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"والرافضة أمة مخذولة، ليس لها عقل صحيح، ولا نقل صريح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة". منهاج السنة (479/ 8).
وقال-رحمه الله أيضًا:
"أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر العقلاء من الكفار!!! ". درء تعارض العقل والنقل: (72/ 7).
وليته اقتصر على دراسته ونقضه وإعادة ترتيبه على وفق الترتيب المصحفي، بدلًا عن اختصاره.
انتقاد تفسيره:
وقد انتُقِدَ هذا التفسير انتقاضًا شديدًا وأُخِذَت عليه وعلى جامعه مآخذ كثيرة وكبيرة وطوام شديدة وإن كانت واحدة لكافية، والتي من أبرزها ما يلي:
1 -
تناقض أسلوبه وركاكته
2 -
مخالفته لصريح القرآن وصحيح السنة في كثير من المواضع من كتابه
3 -
إخراجه لكثير من النصوص عن دلالتها
4 -
استشهاده ببعض الإسرائيليات، كالتي يفتري فيها بنو إسرائيل على أنبيائهم
5 -
اعتقاده في صحة بعض القصص الواهية والموضوعة والمنكرة كقصة الغرانيق.
ولو أنه طالع بعض ما كتبه أحد أعلام الأمة في ذلك لكفاه.
(1)
6 -
إيراده للخرفات وإمعانه فيها بكثرة، وهذه سمة بارزة في تفسيره
7 -
تناقضه في إثبات رؤية الله عز وجل نفيًا وإثباتًا
8 -
تخبطه الواضح المصحوب بضعفه في الصناعة التفسيرية
9 -
جهله ببديهيات اللغة التي نزل بها القرآن
10 -
عدم معرفته للتاريخ وجهله به
11 -
الإغراب والإتيان بالعجائب
12 -
رده للإجماع
13 -
جهله بالسنة ورده لها، وتضعيفه للأحاديث الصحيحة الثابتة، واستشهاده بالموضوعات، وطعنه كذلك في صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أصحُّ الكتب المصنّفة واللذين تلقتهما الأمة بالقبول.
(2)
.
(1)
- ككتاب " نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" لمحدث العصر أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ) الناشر: المكتب الإسلامي.
(2)
- وللاستزادة يمكن الاطلاع على نقد قريب من هذا النقد وقد يزيد عليه فيما ذكره في نقد تفسيره، د. فضل عباس حسن في كتابه: التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث (3/ 245 وما بعدها)، وقد أشار لمواضع نقده في كتاب "بيان المعاني" لـ عبد القادر ملا حويش.
قال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله:
"وقد اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز صحيحا البخاري ومسلم، وقد تلقتهما الأمة بالقبول".
(1)
قال ابن طاهر القيسراني (ت: 507) رحمه الله:
" أجمع المسلمون على قبول ما أخرج في "الصحيحين" لأبي عبدالله البخاري، ولأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، أو ما كان على شرطهما ولم يخرجاه ".
(2)
وأخيرًا:
فـ" إن هذا التفسير الجامع المانع كما وصفه صاحبه والذي كان أبناء عصرنا في أمس الحاجة إليه.
من الحق أنه جامع حقًا، ولكن لكل ما هو غريب وضار ومنكر وموضوع.
وإنه لمانع كذلك، أعنى "مانعًا" لكل ما فيه لأهل هذا العصر من خير في دينهم ودنياهم، وأنه ينبغي أن يحال بين هذا الكتاب وأهل هذا العصر، والذي يطعن صاحبه في أصح الكتب بعد كتاب الله، ومع ذلك فقد ملأ كتابه بما هو بعيد كل البعد عن التفسير ومعناه.
التفسير لا يحتاج لتقيم:
وبعد فلا أرى داعيًا لتقيم هذا التفسير، فإن نصوصه هي خير مقيم له.
وإن كان الخازن كما يسميه البعض خازنًا للإسرائيليات كما قيل، فإن مفسرنا خزَّان لا للإسرائيليات فحسب، بل للأحاديث الموضوعة والمنكرة التي يتورع عن ذكر مثلها الخازن وغيره، وإن كان الثعالبي حاطب ليل كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ)، فإن مفسرنا حاطب في ليل دامس، وأخيرًا فإن مثل هذا التفسير يستدعى من العلماء العناية والرقابة حول ما يكتب حول كتاب الله، هذا ونسأل الله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل وأن يجعلنا من المتيقظين لهذا وأمثاله، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
(3)
ولاشك أن ملا حويش لم يفعل ذلك ويقدم عليه إلا لدوافع يراها ويقتنع بها،
فقد قال في مقدمة تفسيره بيان المعاني:
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 14).
(2)
- صفوة التصوف، نقلًا عن أحاديث الصحيحين بين الظن واليقين للشيخ ثناء الله الزاهدي (18/ 294 - ضمن مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد).
(3)
يُنظر: التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث (مرجع سابق). د فضل عباس حسن: (3/ 257)، 1437 هـ. بتصرف يسير.
"واعلم أن الخليفة عثمان-رضي الله عنه ومن معه من الأصحاب إنما لم يأخذوا برأيه- أي رأي الإمام علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-حيث كان قد رتب مصحفه على ترتيب النزول- لأن السور والآيات كانت مرتبة ومجموعة على ما هو في المصاحف الآن، وهو أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه، وليعلم أن تفسيره على رأي الإمام علي كرم الله وجهه
(1)
لا يشك أحد بأنه كثير الفائدة عام النفع، لأن ترتيب النزول غير التلاوة، ولأن العلماء رحمهم الله لما فسروه على نمط المصاحف اضطروا لأن يشيروا لتلك الأسباب بعبارات مكررة، إذ بين ترتيبه في المصاحف
وترتيبه حسب النزول بعد يرمي للزوم التكرار، بما أدى إلى ضخامة تفاسيرهم، ومن هذا نشأ الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأخذ والرد فيما يتعلق منهما.
وقد علمت بالاستقراء أن أحدًا لم يقدم تفسيره بمقتضى ما أشار إليه الإمام عليه السلام، ويكفي القارئ مؤنة تلك الاختلافات وتدوينها، ويعرف كيفية نزوله ويوفقه على أسباب تنزيله ويذيقه لذة معانيه وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة ميسرة، خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل، فعنّ لي القيام بذلك، إذ لا مانع شرعي يحول دون ما هنالك، وأراني بهذا متبعًا لا مبتدعًا، مؤملًا أن يكون عملي هذا سنّة حسنة
…
مبينًا أوَّل ما نزل إلى الفترة والفترة، وسببها ومدتها وأول ما نزل بعدها، وسبب وتاريخ كل منها، ومكانه وزمانه وقصصه وأخباره وأمثاله وأحكامه، والآيات المكررة وسبب التكرار، ونظائرها مما يناسبها باللفظ والمعنى، والكلمات التي لم تكرر فيه، (عدا ما كان بين سورة (ق) إلى (الحديد) وجزئي (تبارك) و (عم) لأن كثيرًا من كلماتها، لم تكرر لما هي عليه من السجع العجيب واللفظ الغريب. وما هو موافق لشرع من قبلنا منه
…
وخلاصة القصص المعقولة والغزوات المرموقة ".
(2)
.
(1)
- قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
قلت: وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي- رضي الله عنه بأن يقال: "عليه السلام " من دون سائر الصحابة أو " كرم الله وجهه "، وهذا وإن كان معناه صحيحًا لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم والشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه- رضي الله عنهم. -يُنظر: تفسير ابن كثير: (3/ 517 - 518).
و" تلقيب علي بن أبي طالب بتكريم الوجه وتخصيصه بذلك من غلو الشيعة فيه، ويقال إنه من أجل أنه لم يطَّلع على عورة أحد أصلاً، أو لأنه لم يسجد لصنم قط. وهذا ليس خاصّاً به بل يشاركه غيره من الصحابة الذين وُلدوا في الإسلام.
يُنظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، فتوى رقم:(3/ 289) ..
وكذلك تخصيص على بن أبي طالب رضي الله عنه وآل البيت بالسلام من خصائص الرافضة كذلك. فلينتبه. الباحث.
(2)
- يُنظر: مقدمة تفسير بيان المعاني 1/ 4.
ومما يردُ قوله بـ " أن عثمان لم يأخذ رأي علي والأصحاب
"
قول علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه نفسه:
"يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا".
(1)
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يدل على أنهم قد أجمعوا عليه إجماعًا سكوتيًا- رضي الله عنهم أجمعين-.
كما يرد قوله كذلك موقف ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه
-:
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
"روي عن عبدالله بن مسعود أنه غضب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلَّم في تقدُّم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، فكتب إليه عثمان بن عفان - رضي الله- عنه يدعوه إلى اتِّباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب عبدالله بن مسعود، وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة-رضي الله عنهم أجمعين-".
(2)
وكذلك إجاب ابن مسعود-رضي الله عنه إلى المتابعة في تقديم مصحفه للحرق تعزز ما ذكرناه آنفًا من قول على بن أبي طالب-رضي الله عنه تقوى وتؤكد وتعزز القول بالإجماع السكوتي من جهة، وتقرر الإجماع الفعلي من جهة أخرى كذلك، فرضي الله عنهم أجمعين.
والإشكال هنا أن الشيخ "حويش" ممن يرى أن ترتيب السور توقيفي، ولو قلنا أن عليًا أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- قد رتب مصحفه ترتيبًا نزوليًا، فالرد على ذلك يكون من جهتين:
الجهة الأولى: أن ذلك كان أول الأمر قبل الجمع البكري ثم الجمع العثماني
الجهة الثانية: ولو كتب أي منهم مصحفًا خاص به لأي سبب من الأسباب فهل يُعمم ذلك المصحف ويترك المصحف الإمام الذي أجمع عليه الصحابة كلهم بما فيهم علي بن أبي طالب-رضي الله عنهم أجمعين-، ولاشك أن المصاحف التي بين يدي الناس اليوم إنما هي منسوخة عن المصحف الإمام الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة، والعرضة الأخيرة موافقة لما هو مثبت في اللوح المحفوظ، وقد مر معنا ذكر ذلك، فأُعِيدَ ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه.
"
ويمكن تلخيص أبرز دوافع الشيخ "حويش" في النقاط التالية:
1 -
تجنب ما وقع فيه المفسرون من التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم.
(1)
المصاحف،؛ لابن أبي داود صـ 96.
(2)
-البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 228). وقد سبق تخريجه. بتصرف يسير.
2 -
تجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
3 -
لتعريف القارئ كيفية نزول القرآن وتوقيفه على أسباب نزوله.
4 -
ليتذوق القارئ معاني القرآن وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة يسيرة خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل.
مناقشة أهداف الشيخ "حويش
"
الهدف الأول: تجنب ما وقع فيه المفسرون من التكرار بما أدى إلى ضخامة تفاسيرهم.
لم يسق لنا الشيخ ملا حويش مقارنة بين تفسيره وتفاسير أخرى ورد فيها التكرار لكي نكون على بينة مما يقول. ثم كيف يتجنب المفسر- منهم ملا حويش- آيات وردت في المرحلة المكية مجملة كآيات سورة الإسراء وفيها الأمر بالالتزام بأمهات الأخلاق ثم وردت في سورة الأنعام المكية أيضًا وهي قريبة جدًا مما ورد في سورة الإسراء.
وقل مثل ذلك فيما ورد في سورة المعارج المكية وسورة المؤمنون من صفات وأعمال تكاد تكون متطابقة، وقد فسرها الشيخ ملا حويش نفسه هنا وهناك. وقل مثل ذلك في قصص الأنبياء التي تكررت مرات عديدة تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل وأخرى تناولت جانبًا من جوانب حياة الأنبياء أو أسلوبًا من أساليب دعوتهم. كقصة إبراهيم-عليه السلام وقصة نوح عليه السلام وقصة موسى عليه السلام، فالمفسر ليس أمامه إلا أن يسير مع الآيات ويعرض الأسلوب القرآني المعجز في عرض الأمر وينبه على الجانب الخاص المذكور في كل مرة وبإمكانه الإحالة على
الموضع المتقدم من التفسير كما يفعل أغلب المفسرين فهم يحيلون القارئ كثيرًا إلى بعض الجزئيات المتقدمة ويقول: وقد ذكرنا تفصيل هذا الأمر في سورة كذا عند الحديث عن كذا.
أما قول الشيخ بأن ضخامة تفاسير القدماء كان سببه التكرار، أقول إن سبب ضخامة التفاسير هو العلوم والمضامين التي تناولوها، والجوانب التي تعرضوا لها في تفسير الآيات من قضايا عقدية أو لغوية أو فقهية أو ردود على بعض الأقوال التي لم يرتضوها .. وهكذا. وليست قضية التكرار كما زعم الشيخ.
ثم إن تفسيره قد زاد على ثلاثة آلاف صفحة فهو مكون من ثنتي عشر جزءًا تقع في ست مجلدات كبار أليس هذا تفسيرًا ضخمًا؟!.
الهدف الثاني: تجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ:
لم أدرك ما قصده الشيخ بتجنب الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ فمن المعلوم أن ترد روايات في أسباب النزول بعضها صحيح وبعضها سقيم وعلى المفسر أن يدرس هذه الروايات ويأخذ بالرواية الصحيحة ويترك الأخرى، فما علاقة ذلك بترتيب النزول؟! وقد فعل
الشيخ ذلك، ولكن لم يفعله على الديمومةـ إنما كان يفعله في بعض الأحايين- فلم يلتزم بالأخذ بالصحيحة دائمًا وإنما أخذ بالرواية الضعيفة، وقد يترك الصحيحة منها أحيانًا.
ومثل ذلك في الناسخ والمنسوخ، فإن الأحكام التي ترد في بعض الآيات ولا يمكن الجمع بين هذه الآيات وعلمنا وقت نزول الآيتين فإننا نحكم بنسخ الآية المتقدمة في النزول، كما هو مدون في قواعد الترجيح لدى علماء التفسير وعلماء أصول الفقه.
وسواء كان تفسير القرآن على حسب ترتيب المصحف أو على حسب ترتيب النزول فإن دراسة الآيتين تأخذ بعدًا معينًا ومنهجًا محددًا في الدراسة والمقارنة، فآيتا عدة المتوفى عنها زوجها في سورة البقرة
(1)
، الآية الناسخة متقدمة في ترتيب الآيات، والآية المنسوخة متأخرة في الترتيب. ومع ذلك لم يكن هناك إشكال عند أي مفسر في ذكر الآية الناسخة وتحديد حكم المنسوخ، لأنه لابد من تفسير الآيتين وتحديد المتأخرة في النزول منهما ثم بيان التعارض وبالتالي الحكم بنسخ إحداهما.
أما الهدف الثالث: قول الشيخ ملا حويش: لتعريف القارئ كيفية نزول القرآن وتوقيفه على أسباب تنزيله:
وهذا الجانب أشبعه المفسرون بحثًا حيث ذكروا وقت نزول السورة والآيات وذكروا الروايات التي تحدد أسباب النزول. ولم يتركوا شاردة ولا واردة في ذلك إلا ذكروها. بل كان الشيخ ملا حويش ومن تبعه في التفسير حسب ترتيب النزول عالة على المفسرين السابقين في أخذ الروايات
التي ذكرت مكية السورة أو مدنيتها، وبينت أسباب النزول، ذكروا كل ذلك مع التزامهم بترتيب السور حسب ما وردت في المصحف.
أما الهدف الرابع: قول الشيخ ملا حويش: ليتذوق القارئ لذة معاني القرآن وطعم اختصار مبانيه بصورة سهلة يسرة ..
ما علاقة تذوق لذة معاني القرآن بالترتيب، إن تذوق المعاني يأتي في تفسير السورة بأسلوب بليغ جميل فما علاقة ذلك بالترتيب، ويتأتى ذلك من المنهجية التي اتبعها المفسر في كتابه من تفسير القرآن بالقرآن وبصحيح السنة النبوية بأقوال الصحابة الثابتة، وبفهم أوتيه المفسر وملكته الخاصة التي لا تنحرف بها الأهواء.
مادامت السورة هي الوحدة الكاملة التي يتناول تفسيرها، فلا علاقة لموقعها بالتفسير وتذوقه وسلامته من الطعن والعلل والخطأ والزلل.
(1)
- يُنظر: الآية الناسخة (234) البقرة، والآية المنسوخة (240) البقرة.
إن الأهداف والدوافع التي ذكرها ملا حويش وادعى أنها هي التي حملته على تفسير القرآن حسب ترتيب النزول تتحقق في كل تفسير بغض النظر عن ترتيب السور مادام المفسر متبعًا منهجًا سليمًا ذا أسلوب جميل صحيح في عرض معاني الآيات. "
(1)
ثانيًا: التفسير الحديث لـ "محمد عزة دروزة"(ت: 1404 هـ)
(2)
.
عرض ودراسة ومناقشة التفسير الثاني" التفسير الحديث" لـ " دروزة"
وهو ثاني تلك التفاسير التي سلك مصنفوها ونهجوا نهجًا خاصًا ليس عليه عمل السلف في ترتيب السور ترتيبًا نزوليًا لا ترتيبًا مصحفيًا.
وتفسيره قد حوى القرآن الكريم كله، وقد رتبه على ترتيب النزول، وصدرت له طبعتان: الأولى سنة: 1964 م- في القاهرة بمطبعة عيسى البابي الحلبي وهي طبعة جميلة ونفيسة، و الثانية وهي المنقحة المصححة عن نسخة المؤلف صدرت سنة 2000 م عن دار الغرب الإسلامي ببيروت،
وقد صدر في ثنتي عشر جزءًا مجموعة في ست مجلدات. وقد توفي رحمه الله في شوال سنة 1404 هـ.
حجة "دروزة"
هذا ولقد صدر الأستاذ "دروزة" مقدمة تفسيره ببعض الفتاوى التي استند إليها واستجاز بها صنيعه هذا، وهي فتوى الشيخ أبي اليسر عابدين والشيخ عبدالفتاح أبي غدة، وقد أفتياه بالجواز، مفرقين بين الترتيبين، مبينين أن الترتيب المصحفي من أجل التلاوة، وأن ترتيب التفسير يختلف عن ترتيب في التلاوة.
(1)
التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان د. مصطفى مسلم. بحث عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 15/ 12/ 1432 هـ. بتصرف.
(2)
محمد عزة بن عبد الهادي دَرْوَزَة: (21/ 6/ 1887 م-26/ 6/ 1984 م)، مفكر وكاتب ومناضل قومي عربي ولد في نابلس وتوفي في دمشق، إضافة إلى نضاله السياسي، كان أديبًا ومؤرخًا وصحفيًا ومترجمًا ومفسرًا للقرآن، هو أحد مؤسسي الفكر القومي العربي.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
مولد محمد عزة دروزة: موقع قصة الإسلام. تاريخ الولوج: 6/ 11/ 2009 م.
2 -
محمد عزة دروزة: الكاتب المناضل موقع إسلام أون لاين. تاريخ الولوج: 14/ 12/ 2009 م.
3 -
العهد الناصري والانتقال من التنظير إلى التطبيق جريدة الوطن. شاكر النابلسي، تاريخ: 25/ 11/ 2009 م. نقلًا عن الموسوعة الحرة.
وقد صدرهما "دروزة" تفسيره كما أسلفنا وهما على النحو التالي:
الفتوى الأولى: لمفتي سوريا "أبي اليسر عابدين"(ت: 1401 هـ)، ونصها:
" ليس التفسير بقرآن يُتلى، حتى يُراع فيه ترتيب الآيات، والسور، فقد يمكن للمفسر أن يفسر آية، ثم يترك ما بجانبها لظهور معناها، وقد يفسر سورة، ثم يترك ما بعدها اعتمادًا على فهم التالي، ولا مانع من تأليف تفسير على الشكل المذكور، والله أعلم".
والفتوى الثانية: لـ "عبد الفتاح أبي غدة (ت: 1417 هـ) "، جاء فيها:
"إن شبهة المنع لهذه الطريقة، آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف، ودفعها أن المنع يثبت فيما فيها لو كان هذا الصنيع سلوكًا من أجل أن يكون هذا الترتيب مصحفا للتلاوة
…
ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أَجِلَّةٌ من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم، ولم يعلم أن أحدًا أنكر عليهم ما صنعوا".
وكان يُتَحَتَم لزامًا على أبي غدة بيان من ذكرهم ممن سبق لهذا العمل من العلماء.
أما " دروزة " فقال:
ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 من الهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع "تأويل مشكل القرآن" على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن، ولا أشك أن هناك غيره من شاركه في هذه الطريقة من علماء عصره وما بعده، ممن لا يسعني الآن البحث عنهم، لضيق الوقت لدي.
(1)
.
الداعي عند" دروزة" وعند ابن قتيبة لا يتفقان:
فإن كتاب (تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة يُعد من أنفس ما كُتِبَ في الرد على الملحدين والزنادقة الذين طعنوا في القرآن ووصفوه بأنه يشتمل على أشياء مشكلة. وقد انبرى ابن قتيبة لعرض شبهاتهم ومطاعنهم ورد عليها ردًا علميًا مؤصلًا مقرونًا ببراهين ساطعات قاطعات وحجج
وبراهين دامغات مقرونة بأدلة نقلية وعقلية مفحمة مسكتة، فكان الدافع والباعث له على تصنيف كتابه هذا هو الذب عن حياض الكتاب العزيز.
و" لقد وضع ابن قتيبة كتابه "تأويل مشكل القرآن" للدفاع عن حمى القرآن الكريم ضد الشكوك التي تثار حوله، والمطاعن التي تسدد نحوه، وانتدب نفسه لدرئها، وتبيان اعوجاجها، ورد كيدها إلى نحر أصحابها، خشية أن يغتر بها الأغمار والأحداث، أو يفتتن بها خفاف العقول وضعاف
(1)
-المرجع السابق: (11/ 1).
الإيمان، وقد أعانه على الرد المفحم والجواب المحكم امتلاكه لزمام البيان المشرق الرصين، واقتداره على النقد العلمي المتين.
ويذكر ابن قتيبة (ت: 267 هـ) الباعث على تأليف هذا الكتاب في مقدمته فيقول:
" قد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة في اللحن، وفساد النظم، والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر، والحدث الغر، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور
…
فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيرة، والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون، فألّفت هذا الكتاب جامعًا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطًا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملًا ما أعلم فيه مقالًا لإمام مطلع على
لغات العرب، لأري المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته. وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وزدت في الألفاظ ونقصت، وقدّمت وأخّرت، وضربت لذلك الأمثال والأشكال، حتى يستوي في فهمه السامعون"
(1)
ثم إن ابن قتيبة قد استعرض في كتابه الآيات التي أورد الطاعنون عليها إشكالاتهم في مواضعها من سورها من القرآن، غير مراع للترتيب المصحفي، بل إنه يذكر ما يريد الكلام عليه من الآيات التي ورد عليها الإشكالات، ثم ينتقل إلى غيرها، وقد يعود للسورة السابقة بعد انتقاله لغيرها إن احتاج المقام الداعي إلى ذلك.
وهنا يرد سؤال هل يُعد كتاب ابن قتيبة كتاب تفسير خالص؟ أم أنه كتاب ورد في جانب من الجوانب ألا وهو الرد على افتراءات ومطاعن وشبهات في جانب معين ألا وهو جانب ما ظاهره الإشكال في القرآن، وابن قتيبة قد ذهب في سورة ويرجع إليها كذلك.
وهل يُقال بعد ذلك أنه كتاب تفسير محض؟ أم إن موضوعه كموضوع كتاب "دفع إيهام الاضطراب عن الكتاب" للشنقيطي، والذي قد جمع فيه ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ بها التعارض في القرآن الكريم، مُرتِّبًا لها على حسب الترتيبي المصحفي، لا النزولي، ولا
(1)
ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 هـ) المحقق: إبراهيم شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، (المقدمة: ص: 4). ويُنظر: نظرة حول كتاب " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة، مقال لـ" عبد العظيم أنفلوس " عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 18/ 3/ 1438 هـ
أعلم أن أحدًا من أهل العلم ولا غيرهم من الباحثين منذ زمن العلامة الشنقيطي حتى وقتنا الحاضر يذكر أن له كتاب تفسير سوى كتابه الشهير المعروف بـ " أضواء البيان".
وهناك أطروحة علمية "رسالة دكتوراه" بعنوان: (المؤلفات في مشكل القرآن الكريم ومناهجها) بالجامعة الإسلامية بالمدينة، وقد جمع الباحث
(1)
فيها ما أُلِف في مشكل القرآن وقد أوصلها إلى ستة وتسعين مصنفًا، ما بين مخطوط ومفقود ومطبوع، أما المطبوع منها فيزيد على الخمسين مصنفًا، وأما المخطوط فقرابة سبعة عشر مخطوطًا.
فهل أعد أهل العلم ما صُنِفَ في هذا الباب من بين الكتب الملحقة بكتب التفسير؟ أم ضمن مصنفات مشكل القرآن فحسب؟
وهل مصنفات مشكل القرآن تعالج ما تعالجه المصنفات في التفسير من الشمولية، أم أنها تعالج جانبًا واحدًا فحسب.
هذا ولقد اعتمد "دروزة" في تفسيره على الترتيب الوارد في مصحف " قدروغلي"، لأنه قد ذكر فيه أنه طبع تحت إشراف لجنة خاصة من ذوي العلم والوقوف حيث يتبادر إلى الذهن أن قد أشير إلى ترتيب النزول فيه (سورة كذا نزلت بعد سورة كذا) بعد اطلاع اللجنة على مختلف الروايات والترجيح بينهما.
(2)
ومصحف" قدروغلي" هو مصحف عثماني كبير كتبه الخطاط الشهير السيد مصطفى نظيف الشهير بـ " قدروغلي" والذي ولد عام: (1262 هـ) فى مدينة روس من أراضي بلغاريا، وهو في الأصل من القرم، وقد صحبه معه والده مصطفى أفندي إلى اسطنبول، فأدخل الى الإندرون
(3)
فكتبه. وكانت كتابته في شهر رمضان من عام (1309 هـ)، وذلك في عهد السلطان عبدالحميد الثاني-رحمه الله.
وكانت أول طبعة للمصحف الشريف طبعتها مطبعة الشمرلي الشهيرة-بالقاهرة-، هي طباعة تلك النسخة التي كُتبت بخط السيد مصطفى نظيف الشهير بـ " قدروغلي"، وكان قد خطها
عام 1891 م، وتم طباعتها في المطبعة العثمانية، ثم قامت مطبعة الشمرلي بإعادة طبعها عام 1944 م.
(1)
والباحث هو: عبدالرحمن بن سند بن راشد الرحيلي، يُنظر: قاعدة المنظومة للرسائل الجامعية.
(2)
- محمد عزت دروزة، مقدمة التفسير:(ص: 12 - 13).
(3)
-الإندرون: "جهاز تربوي تعليمي" كان تابعًا للسراي العثماني. يُنظر: الخطاط الحاج محمد نظيف وأعماله: عن موقع: شبكة المبدعين للمحاضرات والكراسات والمعارض الخطية. بتصرف.
وقد توفي " قدروغلي "رحمه الله عام 1313 هـ، ودفن فى مقابر يحيى أفندي فى حي " بشيكطاش " باسطنبول.
بيان أهم وأبرز الدوافع التي ساقت الأستاذ "دروزة" لترتيب تفسيره ترتيبًا نزوليًا:
"أما دوافع الأستاذ محمد عزة دروزة لاتباع هذا النمط من التفسير فقد بينه بقوله في مقدمة تفسيره في الطبعة الأولى:
" .. فإننا بعد أن كتبنا الثلاثة وهي: عصر النبي- صلى الله عليه وسلم وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم من القرآن، والدستور القرآني
(1)
في شؤون الحياة، انبثقت فينا فكرة كتابة تفسير شامل، بقصد عرض القرآن بكامله بعد أن عرضناه فصولاً حسب موضوعاته في الكتب الثلاثة، نظهر فيها حكمة التنزيل ومبادئ القرآن، ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين، متجاوبين مع الرغبة الشديدة الملموسة عند كثير من شبابنا الذين يتذمرون من الأسلوب التقليدي ويعرضون عنه، مما أدى إلى انبتات الصلة بينهم وبين كتاب دينهم المقدس، ويدعو إلى الأسف والقلق"، وعلق المؤلف على الكلام السابق في الطبعة الثانية بقوله: " ونزيد على ما قلناه في الطبعة الأولى
فنقول: إن الحاجة إلى ذلك تشتد يومًا بعد يوم بنسبة ازدياد ما يتعرض له شبابنا وناشئتنا من تيارات جارفة عاصفة من الإلحاد والتحلل من مختلف القيم والروابط الأخلاقية والاجتماعية والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة، والإقبال على قراءة المجلات والروايات الماجنة الخليعة التافهة .. "ا. هـ.
ويقول في موضع آخر مبررًا هذا المنهج:
"
…
لأننا رأينا هذا يتسق مع المنهج الذي اعتقدنا أنه الأفضل لفهم القرآن وخدمته، إذ بذلك يمكن متابعة السيرة النبوية زمنًا بعد زمن، كما يمكن متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق، وبهذا وذلك يندمج القارئ في جو نزول القرآن، وجو ظروفه ومناسباته ومداه ومفهوماته، وتتجلى له حكمة التنزيل".
(2)
"
إذًا يمكن تحديد دوافع "دروزة" بالنقاط التالية:
1 -
بيان حكمة التنزيل ومبادئ القرآن ومتناولاته عامة بأسلوب وترتيب حديثين.
2 -
التجاوب مع رغبة الشباب المتذمرين من الأسلوب التقليدي في التفسير.
(1)
- لا يجوز ولا يليق بكلام الله أن يُسمى دستورًا أبدًا. الباحث.
(2)
-التفسير المنير، وهبة الزحيلي، دار الفكر. (د. ص)
3 -
لانتشال الشباب والناشئة من التيارات الإلحادية المتحللة من القيم والأخلاق والتقليد الأعمى لكل تافه سخيف مخل بالدين والخلق والمروءة.
4 -
في هذا المنهج تسهيل فهم القرآن.
5 -
يمكن هذا المنهج من متابعة السيرة النبوية زمنًا بعد زمن.
6 -
كما يمكن هذا المنهج من متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق".
(1)
مناقشة دوافع "دروزة
":
الحقيقة إن المتأمل في تلك الدوافع التي ذكرها الأستاذ "دروزة"رحمه الله
يجد ما يلي
1 -
أنها غير مقنعة البتة، فلم يسق براهين ودوافع ذات معنى وثيق ولصيق بما ذهب إليه من هذا الخرق وشق عصا الجماعة بمخالفته لهذا الإجماع الذي تلقته الأمة بالقبول.
2 -
أنه لا علاقة لتلك الدوافع من قريب أو بعيد أبدًا بما نهجه من ترتيب كتابه على الترتيب النزولي
3 -
أن تحقيق تلك الأهداف والبواعث لا تعارض بينها وبين الترتيب المصحفي الذي أجمعت الأمة على قبوله والعمل به واستقر عليه أمرها، وسواء كان هذا الترتيب توقيفي أم اجتهادي.
4 -
وهل الشباب المتذمر يحتاج لتغير ما تلقته الأمة بالقبول والعمل، وهل هذا التغير سيريح ويصلح الشباب، أم أنه يحتاج لتعليم وتوجيه وإصلاح وتربية؟!!
5 -
كان عليه أن يبين ويبرهن كذلك علاقة هذا المنهج بتسهيل فهم القرآن.
فقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر)[القمر: 17] لا علاقة له بطريقة ترتيب القرآن. لأن معناه "فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه"؟.
(2)
6 -
وهل التيارات الإلحادية والتقليد الأعمى إلخ
…
كل ذلك يُعالَج بتغير ترتيب سور القرآن على هذا النمط؟ أم يُعالَج بالتوعية والتبصير والرد لمصادر التلقي وإبراز القدوات الصالحة التي يتأسى بها الشباب.
7 -
معرفة أسباب وتاريخ النزول فيه غنية في معرفة أطوار التنزيل ومراحله وقل كذلك في ترتيب متابعة السيرة.
(1)
- التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان د. مصطفى مسلم. بحث عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 15/ 12/ 1432 هـ
(2)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:(4/ 337).
وختامًا لهذه المناقشة:
فإن الأستاذ "دروزة" لم يقدم براهين واضحات ولا حجج دامغات على ما ذهب إليه من تغير الترتيب المصحفي والجنح إلى الترتيب النزولي.
طريقة "دروزة" في تفسيره:
وقد اتبع "دروزة" في تفسيره المنهج البياني والتحليلي، كما كان كثيًرا ما يتناول تفسير بعض الآيات بطريقة التفسير الموضوعي.
وقد رتبه ترتيبًا نزوليًا لا ترتيبًا مصحفيًا، وكان كتابه (القرآن المجيد) بمثابة مقدمة لتفسيره الموسوم بـ" التفسير الحديث".
وكان من أبرز مباحثه واهتماماته ما يلي:
1 -
فقد تكلم عن أساليب القرآن، كما تكلم عن أثره
2 -
ولقد تناول في تفسيره كذلك وتدوينه وقراءته ورسم المصحف وطريقة نظمه.
3 -
كما تناول الطريقة المثلي لتفسير القرآن، والسبيل المؤدي إلى فهمه
4 -
كما اهتم بإلقاء بعض النظرات على جملة من المصنفات في التفسير، وتكلم عن الطرق والمناهج التي سلكها مؤلفوها.
5 -
كما تناول كذلك بيان مناسبات القرآن وأسباب وتاريخ نزول الآيات.
6 -
كما اعتنى بالتعريف بالسور قبل تعرضه لتفسيرها تعريفًا شمل جوانب عدة يبينها ويجليها هو بقوله:
"وقد رأينا بالإضافة الى هذا من المفيد وضع مقدمة أو تعريف موجز للسور قبل البدء بتفسيرها، يتضمن وصفها ومحتوياتها وأهم ما امتازت به، وما يتبادر من فحواها من صحة ترتيبها في النزول
وفي المصحف، وما في السور المكية من آيات مدنية، وفي السور المدنية من آيات مكية حسب الروايات، والتعليق على ذلك حسب المقتضى. "
(1)
7 -
كان أحيانًا ما ينتبه ويتيقظ للقصص الإسرائيلي والأخبار اليهودية ويحذر منها كذلك، ومن أبين ذلك تعقيبه على قصة هاروت وماروت حيث يقول:
"ولقد أورد المفسرون القدماء روايات عديدة فيها العجيب الغريب، مختلفة في الصيغة والتفصيل، متفقة في الجوهر .. ولقد أورد ابن كثير رواية عجيبة مزورة الى أم المؤمنين عائشة .. ولقد ذكر
(1)
التفسير الحديث: (1/ 8).
القاسمي أن الرازي في تفسيره قرر بطلان الروايات من وجوه عديدة، وأن الإمام أبا مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليها من وجوه عديدة أيضًا لم نر طائلاً وضرورة الى إيرادها)
(1)
وكذا تعقيبه قصة سليمان عليه السلام حيث يقول:
"
…
ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وان مصدرها اليهود".
(2)
لكن مع هذا كله فقد أكثر من الاستشهاد بمثيلاتها من الإسرائيليات، ويكون بذلك قد جمع بين الضدين والنقيضين في آن واحد.
8 -
كما كان أحيانًا يتعرض لبعض الأحكام الفقهية عند وجود داع لذلك، مع استدلاله ونقله للأقوال والآثار، وبيان الحكم التشريعية وأسرارها.
9 -
كما كان له نقولات كثيرة عن مصادر أئمة التفسير وسادات التحبير قد اعتمد عليها في تفسيره مثل تفسير شيخ المفسرين- ابن جرير الطبري-، وتفسير البغوي، وابن كثير، وتفسير والخازن، والكشاف للزمخشري المعتزلي، والقاسمي والنيسابوري والنسفي وغيرها.
10 -
كما اعتمد النقل عن كتب اللغة والتاريخ وعلوم القرآن والعزو إليها، ككتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، وكتاب تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار، والإتقان للسيوطي وغيرها من المصنفات.
11 -
كما كان له موقف واضح يُحمد ويُشكر عليه ويحسب له ألا وهو نقده للشيعة ومعارضتهم وتكذيبهم وبيان عوارهم.
أهم بواعث ودواعي ترتيبه لتفسيره ترتيبًا نزوليًا:
يقول في ذلك:
"وقلّبنا وجوه الرأي حول هذه الطريقة، وتساءلنا عما إذا كان فيها مساس بقدسية المصحف المتداول، فانتهى بنا الرأي الى القرار عليها، لأن التفسير ليس مصحفًا للتلاوة من جهة، وهو عمل فني أو علمي من جهة ثانية، ولأن تفسير كل سورة يصح أن يكون عملاً مستقلاً بذاته لا صلة له بترتيب المصحف، وليس من شأنه أن يمس قدسية ترتيبه من جهة ثالثة)
(3)
.
(1)
- المرجع السابق: (7/ 217).
(2)
المرجع السابق: (2/ 322).
(3)
- يُنظر: محمد عزة دروزة وتفسير القرآن الكريم، دكتور فريد مصطفى سليمان. الرياض مكتبة الرشيد، رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، (ص: 485)، الطبعة الأولى، 1993 م - 1413 هـ.
وهذا الكلام له وجهاته إن كان تفسيرًا لسورة واحدة فحسب، لأنه وكما قال يصح أن يكون عملاً مستقلاً بذاته، أم جمعه لتفسير القرآن كله بهذه الطريقة فقد خالف بذلك ما عليه عمل الأمة سلفًا وخلفًا.
تقييم تفسيره:
" إن كل من يقرأ ما كتبه المفسر في مقدمة تفسيره وهو يلوم على المفسرين، ويبحث عن الثغرات في تفاسيرهم، حتى إنه لم يبرئ تفسيرًا قديمًا أو حديثًا من هذه الثغرات، أقول إن كل من يقرأ ذلك ترتسم في ذهنه ومخيلته صورته مشرقة عن التفسير الحديث. ولكن الحقيقة أن هذا التفسير-الذي أراد له صاحبه أن يكون جامعًا لمحاسن التفاسير، بريئًا في ثغراتها، حسبما رسم في خطته المثلى
للتفسير- كان بدعًا من التفاسير- لا من حيث ترتيبه فحسب- ولا من حيث منهجه كذلك- ولا من حيث ما ورد فيه من أفكار وآراء، ولكن من حيث هذه الحيثيات جميعًا.
لفد تكلم الأستاذ عن القصص القرآني، فكان التطبيق العملي الذي جاءنا به، كثرة الاستشهاد بالإسرائيليات، دون تميز بين ما يخالف العقيد الإسلامية، وإجماع الأمة على عصمة الأنبياء عليهم السلام، وهو الذي كان يعيب على المفسرين أقل مما ذكره، وحينما تكلم عن الآيات الكونية جردها من حقائقها، وحصرها في نطاق وعظي فحسب، وكان حريًا به أن يفعل بالقصص مثل هذا.
أما في آيات الأحكام فقد رأينا الرجل ينزلق انزلاقات خطيرة لا من حيث التناقض والخطأ في بعض المسائل، وإنما من حيث الاضطراب والتشويش اللذان ينعكسان على القارئ.
ولقد خلا التفسير بعد ذلك كله من الاصطلاحات العلمية الضرورية ومن مواطن الإشارة لبيان أسرار الإعجاز من عرض هدايات الآيات القرآنية عرضًا شيقًا اللهم إلا من بعض لفتات سجلناها له.
بهذا يكون التفسير على ما فيه من فوائد وعلى ما له من مزايا خلا من كثير من خصائص التفسير قديمها وحديثها.
إن التفسير الحديث من رأي له إيجابياته وسلبياته، ولكن لا يخلو من سلبيات، والرجل كان ذا حس مشكور في دفاعه عن الإسلام، وكان ذا ثقافة عامة، وتظهر في أثناء تفسيره غيرته على دينه، والعمل الإنساني معرض دائمًا للخطأ، فرحم الله صاحب التفسير الحديث وأجزل له المثوبة وجزاه الله خيرًا عما قدم".
(1)
.
عقيدة "دروزة" في صفات الرب -جل في علاه
-:
(1)
- يُنظر: التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث (مرجع سابق). د فضل عباس حسن: (3/ 240 - 241)، 1437 هـ. بتصرف يسير.
ومن الأهمية بمكان أن يُخْتَمَ الكلامُ هنا على عقيدة " دروزة " في صفات الرب- جل في علاه- في ضوء تفسيره.
ونسوق لذلك مثاليين واضحين من تفسيره:
المثال الأول: تأويله لصفة اليد الثابتة لله تعالى على الحقيقة على وجه يليق بذاته العلية تأويلًا واضحًا جليًا عند تفسيره لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(الفتح: 10).
وقد عزا للزمخشري المعتزلي في الكشاف قوله:
ولقد كان تعبير (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) موضوع أقوال تتصل بعلم الكلام وصفة الله من حيث نسبة الجوارح إلى الله تعالى.
(1)
ثم يقول - عفى الله عنه-:
ولسنا نرى التعبير والسياق يتحملان ذلك، فقد قصد به كما هو المتبادر شدة التوكيد على خطورة العهد والبيعة وكون الله شاهد عليها استهدافًا لقوة التلقين الذي أريد بثه في نفوس المسلمين.
ثم عقب ذلك بنقل عدة تأويلات لصفة اليد عن بعض أهل التأويل من المفسرين، ثم قال بعدها مؤيدًا لتلك التأويلات:
وفي هذه التأويلات سداد وتفيد أن الجملة حملت على المجاز.
ثم يختم كلامه هنا-عفى الله عنه- بتقرير عقيدته في صفات الرب- جل في علاه- قائلًا:
ولقد نبهنا في مناسبات سابقة على ما ينطوي من تعبيرات: يد الله، وجه الله، سمع الله، وما ينبغي أن يفهم من التقريرات القرآنية وسنة السلف الصالح، وقد عزا ذلك لتفسير سورة القصص.
(2)
يقول سماحة شيخنا الإمام ابن باز (ت: 1420 هـ) رحمه الله:
هذه الآية عند أهل السنة والجماعة تدل على أمرين:
الأمر الأول: إثبات اليد لله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه موصوفٌ باليد، كما قال جلَّ وعلا:(مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(ص: 75)، وقال سبحانه: (بَلْ يَدَاهُ
(1)
لم يقف الباحث على هذا القول عند الزمخشري المعتزلي كما عزاه " دروزة".
وإنما وجد عند الزمخشري قوله: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدًا على طريق التخييل فقال:
(يد الله فوق أيديهم) يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين: هي يد الله، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى:(من يطع الرسول فقد أطاع الله)(النساء: 80). يُنظر: تفسير الزمخشري: (10/ 512).
وكلام الزمخشري المعتزلي كذلك كله تأويل باطل يتنافى مع معتقد أهل السنة في صفات الرب جل في علاه.
(2)
- يُنظر: التفسير الحديث لـ " دروزة": (1/ 591).
مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: 64)، وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة ثابتٌ لله تعالى، صفة اليد لله ثابتةٌ عند أهل السنة والجماعة بالنصِّ وبالإجماع.
والأمر الثاني: أنه سبحانه يقرّ هذه البيعة ويرضاها، وأن يد رسوله- صلى الله عليه وسلم قائمةٌ مقام يده سبحانه في إنفاذ هذه البيعة، (يد الله فوق أيديهم)، والمراد بهذا إثبات أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم قائمةٌ مقام يد الله في إثبات هذه البيعة.
ففيه إثبات اليدين جميعًا: يد الله سبحانه التي هي قائمةٌ به سبحانه، وهو فوق العرش، فوق جميع الخلق، ويد الرسول التي بايعتهم بأمر الله وشرع الله ورضاه.
(1)
المثال الثاني: تأويه لصفة مجيء الرب جل في علاه عند تفسيره لقوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(الفجر: 22)
قال دروزة- عفى الله عنه-:
"
…
والمتبادر أن هذا مع وجوب الإيمان به وكونه في النص من قدرة الله ومع وجوب تنزيه الله عز وجل من مفهوم المجيء والرواح والوقوف والجلوس وغير ذلك من أفعال الخلق وصفاتهم قد استهدف التأثير بالسامعين لأنهم بخطورة المشهد القضائي الأخروي العظيم، قد اعتادوا في الدنيا عقد مجالس قضائية لمحاكمة المجرمين وعقوباتهم. وقد يكون الشأن في هذا هو مثل وصف الجنة والنار بأوصاف اعتادها الناس في الدنيا للتقريب والتمثيل والتأثير في السامعين على ما شرحناه قبل
…
".
(2)
ولا شك أن هذا التأويل الواضح لصفات الرب جل في علاه يجلى عقيدته فيها، وأنه سلك مسلك أهل التأويل من الأشاعرة ومن نحى نحوهم، وقد خالف بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات صفات الرب جل وعز على الحقيقة على الوجه الذي يليق بذاته- سبحانه-، بلا تأويل ولا
تعطيل ولا تشبيه ولا تكيف ولا تمثيل، كما قال ربنا:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ((الشورى: 11)
(1)
-. يُنظر: مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: (24/ 273). مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420 هـ) أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر عدد الأجزاء: 30 جزءًا
(2)
- التفسير الحديث: (1/ 545).
وأخيرًا: أبرز الدراسات حول هذا التفسير
1 -
جهود محمد عزة دروزة في تفسيره المسمى: (التفسير الحديث). لمحسن عبد الرحمن أحمد. القاهرة، كلية الآداب، جامعة عين الشمس، 1984 م، رسالة دكتوراه. (رسالة القرآن، العدد الثامن/ 208).
2 -
محمد عزة دروزة وتفسير القرآن الكريم، دكتور فريد مصطفى سليمان. الرياض مكتبة الرشد، رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، 485 ص، الطبعة الأولى، 1993 م - 1413 هـ.
3 -
التفسير الحديث للأستاذ محمد عزة دروزة. عبد الحكيم محمد أنيس. جامعة بغداد، العلوم الإسلامية، رسالة ماجستير، 1993 م.
(1)
.
ثالثًا: كتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ "عبد الرحمن حبنكة الميداني"(ت: 1425 هـ) عرض ودراسة ومناقشة التفسير الثالث كتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ "حبنكة الميداني
"
(2)
وكتابه هو ثالث تلك المصنفات في التفسير التي سلك مصنفوها ونهجوا نهجًا خاصًا ليس عليه عمل السلف في ترتيب السور ترتيبًا نزوليًا لا ترتيبًا مصحفيًا. وقد صدر الطبعة الأولى من هذا
الكتاب عن دار القلم بدمشق في خمسة عشر مجلدًا كبارًا، وقد مات قبل أن يكمله، فقد انتهى-رحمه الله من المكي ثم وافاه الأجل بعد بدايته في تفسير سورة البقرة.
التعريف بالمؤلف:
ومؤلفه هو: الشيخ عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني-رحمه الله
التعريف بالكتاب:
الكتاب هو: "معارج التفكر ودقائق التدبر"
(1)
يُنظر: المحتسب، اتجاهات التفسير في العصر الراهن/ 54 وهو نفس اتجاهات التفسير في العصر الحديث ولكن قد تغير اسمه في طبعة جديدة منقحة للمؤلف، د. أحمد عمر أبو حجر، الناشر: قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، 1991 م، التفسير العلمي للقرآن في الميزان/ 315. ويُنظر (الصفار، الجامع للرسائل، ص 27).
(2)
- وُلدَ الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني الدِّمشقي سنة 1345 هـ (1927 م)، في أحد أعرق أحياء دمشقَ، حيِّ المَيدان، لأُسرة علمٍ ودعوة وجهاد؛ فأبوه العلاَّمةُ المربِّي المجاهد حاملُ لواء الدَّعوة في الشام، الإمامُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني، عضوُ المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ، وتَرجعُ أُصولُ أسرة الشيخ إلى عَرَب بني خالد الذين تمتدُّ منازلُهم إلى بادية حَماة من أرض الشام.
وفي ليلة الأربعاء 25 من جُمادى الآخرة 1425 هـ قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني، عن 80 سنة، في إثْر مرض ألمَّ به.
للاستزادة: يُنظر: العلامة المفكر عبدالرحمن حبنكة الميداني-أيمن بن أحمد ذو الغني-مقال عن موقع الألوكة- بتاريخ: 19/ 3/ 1428 هـ.، ويُنظر "زوجي كما عرفته"-عائشة الجراح-دار القلم- دمشق.
بيان أهم دوافع وبواعث تأليفه:
هذا التفسير أقامه مؤلفه على ترتيب نزول القرآن الكريم،
حيث يقول مبينًا سبب اختياره هذا المنهج:
وقد رأيت بالتدبر الميداني للسور أن ما ذكره المختصون بعلوم القرآن الكريم من ترتيب النزول، هو في معظمه حق، أخذًا من تسلسل البناء المعرفي التكاملي، وتسلسل التكامل التربوي، واكتشفت في هذا التدبر أمورًا جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين، وحركة المعالجات التربوية الربانية للرسول- صلى الله عليه وسلم، وللذين آمنوا به واتبعوه، وللذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول مترددين، أو مكذبين كافرين.
وقد حاول المؤلف تطبيق ما ذكره في كتابه (قواعد التدبر الأمثل للقرآن الكريم) في كتابه هذا، يقول رحمه الله:
وبعد فقد فتح الله عز وجل علي خلال تدبري الطويل لكتابه المجيد، باستخراج أربعين قاعدة من قواعد التدبر الأمثل لكتابه، قابلة للزيادة عليها، وهذه القواعد تقدم للمتدبرين أصول التفسير الأقوم للقرآن، ولم أجد في المفسرين من اهتم بالتزام مضمونها، ولا بالتزام كثير منها.
وقد رأيت من الواجب علي أن أقدم ما أستطيع تقديمه من تدبر لسور هذا الكتاب العزيز المعجز، ملتزمًا على مقدار استطاعتي بمضمون القواعد التي فتح الله بها عليَّ، مع الاعتراف بأن التزامها التزامًا دقيقًا وشاملًا عسيرٌ جدًا، بل قد يكون بالنسبة إلى متدبر واحد متعذرًا.
(1)
.
أضواء جانبية على عقيدته:
يقول في كتابه "العقيدة الإسلامية وأسسها":
(2)
"النوع الثاني ـ من الوحي ـ ما كان بواسطة إسماع الكلام الإلهي من غير أن يرى السامع من يكلّمه، كأن يخلق الله الأصوات في بعض الأجسام من حجر أو شجر، ومن هذا النوع ما كان لموسى عليه السلام حين مناجاته ربه في جانب الطور، وهذا النوع الثاني هو ما أشار إليه الله بقوله في الآية: (أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ) (الشورى من آية: 51) أي: وحيًا من وراء حجاب بواسطة خلق الله الأصوات كما ذكرنا أو بصورة أخرى يختارها الله عز وجل".
قلت: ومناجاة موسى ربه من جانب الطور هو ما جاء في قوله تعالى:
(1)
يُنظر: التعريف بكتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ مجد مكي-دار القلم- دمشق-ط 1 - 1427 هـ.، ويُنظر: المقدمة العامة لكتاب معارج التفكر ودقائق التدبر: (1/ 5 - 6).
(2)
- يُنظر كتابه: العقيدة الإسلامية وأسسها: (2/ 249) الطبعة الأولى (1385 هـ)، ويُنظر نفس الكتاب تحت عنوان " النصوص المتشابهات في صفات الله تعالى " ص 246 ..
(فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين)[القصص: 30] ومعنى هذا عند حبنكة الأشعري أن الشجرة التي خلق فيها الصوت وهو القرآن، قالت لموسى: إني أنا الله رب العالمين!.
(1)
بل أين "الحبنكة"؟ من قوله سبحانه: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء: 164)، ومن قوله جل وعلا:(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)(الأعراف من آية: 143)
ولقد تأمل الباحث في بعض ما كتب الحبنكة رحمه الله فلم يجده واضحًا من جهة المنهج العقدي في انتصاره بوضوح وجلاء لاعتقاد السلف، ومما يؤيد ما ذكره الباحث هنا ما أجاب به أحد الأعلام المعاصرين والذين لهم عناية كبرى بمنهج السلف وإبراز عقيدة أهل السنة والجماعة
والدعوة إليها وعلى منهجها ألا وهو الشيخ "صالح آل الشيخ"، فقد سئل عن كتاب (أسس العقيدة الإسلامية) لـ " حبنكة"
فأجاب حفظه الله تعالى:
"ما تحتاج لكتب المعاصرين الآن، طالب علم تقرأ كتب السلف، كتب المعاصرين -الذين لا يبيِّنون عقيدة أهل السنة قصدًا ويوضِّحونها- ما تحتاجها في العقيدة، خاصة العقيدة، إياك، -يعني- حتى تضبط عقائد السلف بتفصيلاتها، ثم بعد ذلك يمكن أن تقرأ في بعض الكتب في ذلك، هذا الكتاب من جنس كتب الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني، هو عنده ميل إلى الأشعرية أو التصريح بها في مواضع، وله كتاب اسمه: (ضوابط المعرفة) كتاب فلسفي يعني المعرفة عند الفلاسفة".
(2)
انتهى
منهجه في كتابه:
كان من أبرز معالم منهجه في كتابه ما يلي:
لقد نهج الشيخ "حبنكة" في تفسيره التدبري نهجًا نجمله باختصار فيما يلي:
أولًا: لقد ذكر في مستهل كتابه أحكامًا تدبرية تتعلق بالاستعاذة والبسملة.
ثانيًا: يذكر المكي والمدني من السورة ثم يبين الأقوال الواردة فيها، ثم يرجح بينها ويبين ما ذهب إليه واختاره.
ثالثًا: يذكر السورة بطولها كاملة ثم يعرج على ذكر أوجه القراءات الواردة فيها.
(1)
من كتاب: الرد القويم البالغ على الخليلي الإباضي، للشيخ/ علي بن محمد بن ناصر الفقيهي:(1/ 283)، طبعة دار المآثر، الطبعة الثانية 1422 هـ.
(2)
شرح العقيدة الواسطية (1/ 259).
رابعًا: يذكر السورة وما ورد فيها من فضائل ولا سيما فيما يتعلق بموضوع بحثه مستدلًا بنصوص السنة وآثار السلف في ذلك.
خامسًا: سلك طريقة موضوعية في تقسيم السورة، ثم قام بدراستها دراسة موضوعية تحليلية، ثم أعقب ذلك بنظرة إجمالية على كل ما حوته السورة من موضوعات.
سادسًا: يتعرض للأحكام الفقهية وبعض المسائل البلاغية أحيانًا ولا سيما عند وجود داع لذكرها.
رأي الشيخ حبنكة رحمه الله في ترتيب السور:
قد مر معنا قول الشيخ "حويش"، والأستاذ "دروزة" في ترتيب السور وأنه عندهما توقيفي.
أما الشيخ "حبنكة"
فقدم على تفسير القرآن حسب ترتيب النزول، وهذا أمر جلل ليس له فيه إمام، إلا ما كان من صاحبيه الشيخ "حويش"، والأستاذ "دروزة" كما علمنا، ومع ذلك فقد قَدَّمَا حججًا ومبررات على ما قَدِمِا عليه من عمل وإن كانت كلها هاوية غير مقنعة، وقد مر معنا مناقشة ما قداماه من مبررات وتفنيده.
أما الشيخ "حبنكة": فإنه يرى أن ترتيب السور أمر اجتهادي خلافًا لـ "صاحبيه""حويش"، و" دروزة"، ولم يقدم حججًا ولا براهين كصاحبيه،
لذا كان لزامًا عليه أمورًا من أهمها ما يلي:
أولًا: عرض أقوال القائلين بتوقيف ترتيب السور وبيان حججهم وأدلتهم
ثانيًا: مناقشة أقوال وأدلة القائلين بالتوقيف، وبيان أدلة ما ذهب إليه وترجح لديه
ثالثًا: نقل إجماع الصحابة واستقرار رأيهم على المصحف الإمام وقبولهم وإذعانهم له.
رابعًا: نقل إجماع الأمة على قبول الترتيب التوقيفي للسور الذي استقر عليه المصحف الإمام ولا يزال العمل عليه من زمن الجمع العثماني إلى وقتنا هذا.
لكنه لم يفعل هذا رحمه الله.
وفي ضوء كلامه في صدر كتابه فإنه يمكن تحديد أهم دوافعه لانتهاج هذه الطريقة فيما يلي:
1 -
إن تدبره الطويل لكتاب الله، واستنباطه للقواعد التي ذكرها في كتابه
(قواعد التدبر الأمثل) كان من جملة ما دعاه إلى اتباع هذا المنهج.
2 -
إن هذا المنهج يحقق تسلسل البناء المعرفي التكاملي.
3 -
إن هذا المنهج يحقق تسلسل التكامل التربوي.
4 -
كشف هذا المنهج عن أمور جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين وحركة المعالجات التربوية الربانية الشاملة للرسول- صلى الله عليه وسلم.
5 -
الاستشراف إلى حكمة التدرج، ومعرفة الغاية من التكرير".
(1)
.
مناقشة دوافعه ومبرراته:
وبمناقشة دوافع ومبررات الشيخ "حبنكة، نقول: هل تحققت بهذا العمل الخارج عما درج عليه السلف والخلف من المفسرين الأهداف والمقاصد والمرامي المرجوة والمأمولة فيه؟
أولًا: هل الترتيبي المصحفي يمنع من التدبر حتى ننتقل إلى الترتيب النزولي؟
ثانيًا: ثم تلك الألفاظ الرنانة والمصطلحات الحادثة التي لم يدرج عليها أئمة السلف ولم يستخدموها في التفسير هي أقرب لكتب السلوك والتربية منها لكلام أئمة التفسير، وذلك مثل "تسلسل البناء المعرفي التكاملي"، "التكامل التربوي"، "والبناء المعرفي"، وأضرابها من تلك الألفاظ التي برز الشيخ بها مبرراته.
ثالثًا: تبرير ذلك بحجة "الاستشراف إلى حكمة التدرج" وهل هذه الحكمة كانت مختفية في الترتيبي المصحفي حتى يبرزها الترتيب التنزلي؟.
والدكتور محمد عبد الله دراز- رحمه الله يضرب لذلك مثلًا محسوسا في كتابه: "حصاد قلم" فيقول واصفًا ذلك بمن قامـ:
" بجلب سلعًا لبناء بيتًا لا يبالي بأن يشتري أجزاء العرش والسقف قبل الأسس والجدران، متتبعًا في ذلك فرصة توفر الثمن وتوفر تلك السلعة في السوق، ثم بنا بيته، أكان ذلك مخلًا بهندسة ذلك البيت، وبالقياسات التي وضعها المهندس؟؟ كذلك كان القرآن الكريم ينزل بحسب الوقائع، ثم رتب حسب ذلك (الترتيب)
(2)
الذي أراده الله تعالى له فكان منسجمًا متكاملًا آخذا بعين الاعتبار
التدرج في التعليم والفهم، والانتقال من جو إلى جو تدريجيان إما تصاعديًا أو تنازليَا، حسبما تقتضيه الضرورة
…
".
(3)
(1)
- يُنظر: التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان د. مصطفى مسلم. مقال عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 15/ 12/ 1432 هـ.
وهذا الدافع الأخير أخذته (د. مصطفى مسلم) من شرح الشيخ للقاعدة التاسعة في كتاب قواعد التدبر الأمثل ص 153.
(2)
هي في الأصل عند د. دراز "التصميم" فعدلها الباحث إلا المعنى المناسب ألا وهو: "الترتيب".
(3)
- حصاد قلم، الدكتور/ محمد عبد الله دراز، تحقيق، أحمد مصطفى فضيلة، تقديم الدكتور/ عبد الستار فتح الله سعيد، دار القلم، 2000 م، القاهرة: ص: 45 وما بعدها.
ومما لاشك فيه أبدًا أن الترتيب المصحفي هو ما استقرت عليه العرضة الأخيرة الموافقة لما هو مثبت في اللوح المحفوظ عند رب العزة في كتاب مكنون وقد مر بنا ذكر ذلك الأمر تكرارًا ومرارًا، والقرآن أنزل جملة على هذا الوضع وتلك الحالة التي استقر عليها إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نُجِّمَ بعد ذلك حسب الأحداث والوقائع.
وهذا الذي يعنيه الدكتور محمد عبد الله دراز- رحمه الله في كتابه- النبأ العظيم- بقول:
"لئن كان جمع عن تفريق، فقد فرّق عن جمع".
(1)
ثم إن علماء المناسبات استخرجوا للأمة دررًا من المناسبات بين الآيات والسورة مع إن الكثير منها تنزل منجم الآيات ولم يتنزل دفعة واحدة، بل إن السورة الواحدة قد تنزل آيات منها متقدمة وتكون في أواسط السورة أو في أواخرها وخواتيمها، وقد ينزل صدر السور متأخرًا عن خاتمتها والعكس من ذلك كذلك، وأنت تجد ذلك متحققًا في أطول سور القرآن ألا وهي سور البقرة وهي من أوائل القرآن المدني نزولًا، أليس كذلك؟، فهل نزلة جملة أم نجومًا نجومًا؟
الجواب يأتي في جواب أئمة التفسير عن آخر ما نزل من القرآن، فإن أكثرهم على أن آخر آية نزولًا هي قوله تعالى:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(البقرة: 281)
وهو مروي عن جمع من السلف، منهم: ابْن عَبَّاسٍ، أَبِي سَعِيد الخدريٍ، عِكْرِمَةَ، سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، كما أنه اختيار جمع من المتأخرين كذلك.
وفي ذلك يقول الحافظ (ت: 852 هـ) في الفتح- رحمه الله:
أصحّ الْأَقْوَالِ فِي آخِرِيَّةِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله)(البقرة من آية: 281).
(2)
ومع ذلك كله ترى الترابط النصي والوحدة الموضوعية وأغراض السورة مترابطة متناسقة وكأنها سبيكة واحدة ترابطًا ومعنى، وبلاغة وإعجازًا ولا تشعر أبدًا حين تأملك لها وتدبرك في آياتها أنها نزلت منجمة، وقد يكون بين ذلك التنجيم أزمانًا متباعدة.
وأخيرًا فهل تحققت الأهداف التي رامها مُفْتَتِحُو هذا الباب:
أولًا: لم تتحقق تلك الأهداف كما مر معنا، وكيف تتحقق في أمر عظيم جلل أجمع عليه جماهير العلماء سلفًا وخلفًا وقد خرقوا هذا الإجماع.
ثانيًا: كيف تتحقق تلك الأهداف ولم تقترن بأي مبررات مقنعة أو أي معالم ظاهرة أو حجج دامغة وبراهين ساطعة وأجوبة مسكتة.
(1)
يُنظر: النبأ العظيم: (ص: 154).
(2)
فتح الباري: (8/ 317).
وإنما الذي تحقق من الأهداف هو ما أراده مُؤسسو ومرجو هذا الفكرة أولًا من المستشرقين، بل إن أحدهم قد تراجع عن هذا العمل ألا وهو المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير:(ت: 1393 هـ) وقد مر معنا في طيات البحث ذكر خبر تراجعه عن ترتيب ترجمته للقرآن بحسب ترتيب النزول لما رأى خطأه، فأعاد ترتيب تلك الترجمة بحسب الترتيب المصحفي، هذا مع سوء نيته وخبث طويته.
فهل كان للثلاثة نفر الذين خرقوا هذا الخرق أن يتراجعوا عن فعلهم كما تراجع عن مثله ذلك المستشرق، ويؤبوا إلى ما أجمع عليه أسلافهم الصالحون، لأنهم بذلك قد أفسدوا نظم القرآن.
وقد قيل في نحو ذلك: "من قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن".
(1)
.
وَلَمَّا أنهم كانوا قد قضوا نحبهم وقضوا آجالهم فحق لأهل الحل والعقد من الجهات المعنية في الأمة أن يبرموا في ذلك أمر رشيدًا وأن يعملوا على رأب صدعهم بعد أن أفضوا إلى ربهم، فكان لزامًا عليهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم تجاه كتاب ربهم، ولقد عناهم الله بقوله:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)(آل عمران: 187).
قال ابن سعدي (ت: 1376 هـ) رحمه الله في تفسيره:
"الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه، ويوضح الحق من الباطل".
(2)
فلزمهم أن يقوموا بواجبهم تجاه كتاب ربهم ويردوا تلك المصنفات إلى ما أجمعت عليه الأمة وسارت عليه تلك القرون الطوال، كما يُرد المتشابه إلى المحكم، فإن من خصائص أهل الحق رد المتشابه إلى المحكم، كما إن من خصائص أهل الباطل اتباع المتشابه ورد المحكم.
طوام كبرى نخشاها:
هذا ونخشى أن يأتي على الأمة زمان يأتي فيه من يُنادي بإعادة ترتيب آيات القرآن ترتيبًا نزوليًا كما نادى المستشرقون بترتيب السور ترتيبًا نزوليًا كذلك، وهم يريدون بذلك الطعن في القرآن ليفقد بذلك أعظم دلائل بقائه وحفظه، من مصداقيته، وتحقق أوجه إعجازه، وجزالة لفظه، ودقة نظمه، وترابط نصه، ووحدة موضوعيته، ولكن كما قال الله تعالى:(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة من آية: 32)، فقد تولى الله تعالى حفظ كتابه بذاته العلية فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ
(1)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62. وعزاه لابن الأنباري.
(2)
تفسير ابن سعدي: (161/ 1).
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، ونخشى أن يتبعهم على ذلك من أعمى الله بصائرهم
عن لزوم الحق والتمسك به ممن لا خلاق لهم ولا حظ ولا نصيب من علم ولا ورع ولا تقوى من بني جلدتنا، والله تعالى وحده من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين.
بيان وجوب احترام الترتيب المصحفي وعدم التعرض له، والتصدي لمن تعرض له
والخلاصة فإن الأمر قد انتهى إلى أنه يجب احترام هذا الترتيب.
"وسواء أكان ترتيب سور القرآن اجتهاديًا (من الصحابة) أو توقيفيًا (من عند الله) فإنه يجب احترامه خصوصًا في كتابة المصاحف لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة. ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. ".
(1)
وبعد الانتهاء من عرض تلك الكتب الثلاثة التي خالف مؤلفُوها جماهير السلف والخلف في لزوم الترتيب المصحفي، والجنوح عنه إلى الترتيب النزولي ومناقشتها والحكم عليها فنرجع إلى أصل البحث هنا ألا وهو استعراض أقوال وأدلة القائلين بالقول بأن ترتيب السور توقيفي والحكم عليها، وقد تبين لنا أمورًا ذكرنا منها أمرين اثنين وننتقل إلى ما تبقى من تلك الأمور فيما يلي:
ثالثًا: إن كان في ترتيب آيات القرآن فيه من الإعجاز ما فيه، فإن ترتيب السور قد استخرج منه العلماء دررًا في علم المناسبات بين السور كذلك. فهو لا يقل شأنًا عن ترتيب آياته.
قال محمد بن سيرين (ت: 110 هـ) لعكرمة (ت: 107 هـ) أيّام الجمع الأول للقرآن:
"ألَّفوه كما أُنزل الأول فالأول، فقال عكرمة: لو اجتمع الإنس والجن على أن يألفوه ذلك التأليف ما استطاعوا ".
(2)
رابعًا: الأولى في تلاوة القرآن مراعاة الترتيب المصحفي سواء كان ذلك في الصلاة أم خارجًا عنها لأنه الأصل، وإن حاد عنه أحيانًا جاز له ذلك ولكنه ترك الأفضل والأولى والأحسن والأكمل والأتم، وذلك لأن ترتيب التلاوة أمر مندوب وليس بواجب بدليل فعله-عليه الصلاة والسلام ذلك في صلاته في بعض الأحايين.
ويلحق البعض بذلك تعليم الصغار من بداية قصار المفصل وذلك لحصول المشقة والعنت في حفظ السور الطوال بداية، بل ولامتناعه عليهم أيضًا، وقد جرى على ذلك عمل الكثير من الأوليين في تعليم الصغار، وقد يلحق بهم كذلك تعليم الأعاجم الذين لا يحسنون العربية، وكذلك من أسلم وكان حديث عهد بكفر، لوجود العنت والمشقة في البدء بحفظ السور الطوال، وكذلك كبار السن ومن لديه تعثر وثقل في اللسان، وكل من يلحقه عنت ومشقة في الحفظ وتعلم التلاوة
(1)
- الزرقاني: مناهل العرفان: (1/ 344).
(2)
السيوطيّ، الإتقان:(ص: 155).
من بداية السور الطوال، وذلك لاشتراكهم جميعًا مع الصغار في العلة والسبب على حد سواء، ووجه الجواز في ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا على غير الترتيب المصحفي مما يدلل على عدم وجوب ذلك تلاوة من- جهة-، كما يدلل على جوازه عند الحاجة التي يتعثر معها
الحفظ كالتي ذكرنا وما في نحوها كذلك من - جهة ثانية-، ولأن تلاوة كل فرد غير مثبتة في مصحف خاص لديه، بل إن كل منهم يتلو ويحفظ من مصحف واحد في ترتيبه المصحفي الذي أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا وجرى قبوله إجماعًا والعمل عليه ماض في الأمة عبر كل أجيالها، فتغير الترتيب المصحفي سالم ومأمون. والله أعلم.
ومما يدلل على ذلك ما ثبت عند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ذاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَح البقَرَةَ، فقلتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فقلتُ: يُصَلَّي بِهَا في ركْعَةٍ، فمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَح النِّسَاءَ فَقَرأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَها، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذا مَرَّ بِآيَةِ فِيها تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإِذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعوَّذ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ
…
الحديث.
(1)
وفي نحو ذلك يقول النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله في التبيان:
"قال العلماء رحمهم الله: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة ثم آل عمران، ثم النساء إلى أن يختم بـ (قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) سواء قرأ في الصلاة أم خارجًا عنها، ويستحب أيضًا إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها السورة التي تليها، ولو قرأ في الركعة الأولى:(قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) يقرأ في الثانية من البقرة
ودليل هذا: أن ترتيب المصحف لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ في الركعة الأولى:(ألم تَنزيل) وفي الثانية: (هَلْ أتَى) وصلاة العيدين (قاف) و (اقتربت).
ولو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ التي قبلها، أو خالف الموالاة فقرأ قبلها ما لا يليها جاز وكان تاركًا للأفضل، وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفقٌ على منعه وذمِّه؛ فإنه يُذهب بعض أنواع الإعجاز، ويزيل حِكمة الترتيب ".
(2)
وكما كان-صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة أحيانًا بـ الجمعة في "الأولى" والغاشية في "الثانية".
(1)
- رواه مسلم: (17/ 1176).
(2)
يُنظر: التحبير في علم التفسير: للسيوطي: (ص: 637).
خامسًا: بما أن الترتيب المصحفي قد أجمعت الأمة عليه سلفًا وخلفًا وجرى العمل عليه فلا يحق لأحد كائنًا ما كان خرق الإجماع الذي هو حجة في ذاته والحيد عنه إلى غيره من أنواع الترتيب، نزوليًا كان أو موضوعيًا أو تاريخيًا أو غير ذلك مما لم يجر عليه عمل من جمعوا القرآن في عهوده الثلاثة، ولم يجر عليه عمل أي أحد ممن اتبعوهم بإحسان، وسواء كان الترتيب المصحفي هذا ترتيبًا توقيفيًا، أم كان ترتيبًا اجتهاديًا، وذلك صيانة وحفظًا لكتاب الله تعالى من التبديل والتغيير
والتحريف، ولما يترتب على ذلك من مفاسد وطوام لا تحمد عقباها، وكذلك لما قد يفتح باب التجرؤ على العبث في كتاب الله تعالى الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42).
من هنا كان واجب التصدي لمثل هذا العمل وإبرازه للعباد بين الفينة والفينة انتصارًا لكتاب الله تعالى وردًا لمطاعن الطاعنين والمشككين في كتاب رب العالمين من سائر أعداء الملة والدين من الذين لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار ولا يتوقفون عن الطعن في كتاب الله تعالى ويعملون ويسعون في ذلك ليل نهار عبر الزمان والمكان، ورد سهامهم في نحورهم لينقلبوا إلى أهلهم خاسرين ويندحروا خاسئين ويرجعوا إلى جحورهم ذليلين وينقلبوا صاغرين.
نعم يقومون بذلك نصحًا لله تعالى ولكتابه كما قام الصديق الأول- رضي الله عنه وتصدى لمانعي الزكاة يوم الردة، وكما قام الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة رحمه الله لكتاب الله يوم المحنة.
فكان التصدي لهؤلاء وأمثالهم وأذنابهم جميعًا من أوجب الواجبات المتحتمات على المعنين بهذا الشأن العظيم من المرابطين على ثغور الإسلام وحماته ومن الغيور على دينهم وكتاب ربهم وممن يحبون أن يشملهم وصف ربهم لهم: (والذين اتبعوهم بإحسان) فيتحقق لهم وعده برضاه عنهم رضي الله عنهم في قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100).
وذلك كله سعيًا في تحقيق وعد ربهم الذي لا يتخلف ولا يتأخر ولا يتبدل ولا يتغير أبدًا، الذي قال فيه سبحانه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 109)
وختامًا لهذا المبحث نسوق لطيفة للألباني (ت: 1420 هـ) -محدث العصر رحمه الله
-:
وقد وُجِهَ إليه هذا السؤال:
ما الغاية من جمع القرآن ووضعه في المصحف وهل ترتيب السور في المصحف توقيفي أو اجتهادي.؟
فكان مما أجاب عنه بعد كلام طويل-رحمه الله: ما يلي:
"
…
ما أدري، لا أدري، هنا المسألة يقال فيها مسألة تعبدية لأن ترتيب القرآن ليس على حسب التاريخ، التاريخ النزولي الذي تشير إليه، هذه مسألة اختلف فيها العلماء هل هي توقيفية أم اجتهادية بعكس لما تنظم آية فتوضع في سورة، فهذا توقيفي يقينًا، أما ترتيب السور تقديمها وتأخيرها فمثلا اقرأ باسم ربك المفروض حسب السؤال المطروح آنفا أنها توضع في أول ما نزل فهي قد وضعت في آخر ما نزل، اختلفوا في هذا الترتيب للسور وليس في ترتيب الآيات في السور، ترتيب الآيات في السور توقيفي بدون أي تردد، أما ترتيب السور كما هو الآن في المصحف
اختلفوا فمنهم من يقول هذا توقيفي أيضًا من الرسول-عليه السلام ومنهم من يقول لا هذا باجتهاد من بعده، أما أنا شخصيًا ليس عندي رأي قاطع في الموضوع ولكن أقول إذا كان الراجح أنه توقيفي فهنا يأتي جواب السؤال السابق الله أعلم، وإذا كان هو باجتهاد ممن جمعوا القرآن بعد الرسول-عليه السلام وصنفوه من بعده على هذا التصنيف فأنا ما عرفت ما هي الحكمة، ولذلك فأكل العلم إلى عالمه".
(1)
فلنتأمل كيف بعلم من الأعلام وسيد من سادات الأنام يقول مثل هذا الكلام، (ما أدري، لا أدري،
…
فأنا ما عرفت ما هي الحكمة،
…
ولذلك فأكل العلم إلى عالمه)
فرحم الله الألباني ذاك العالم الرباني.
وقد طال بنا البحث والتطواف فيما مضى ذكره لعظم الخطب.
المطلب الرابع: بيان شروط جمع أبي بكر- رضي الله عنه والصفة التي تم بها
وفيه سبع مسائل:
وهي إجمالًا على النحو التالي:
المسألة الأولى: التعريف بـ " زيد " المكلف بالجمع
المسألة الثانية: أبرز المقومات الداعية لاختيار " زيد "
المسألة الثالثة: أسباب اختيار " زيد " لهذه المهمة إجمالًا
المسألة الرابعة: الدواعي لهذا الجمع
المسألة الخامسة: مميزات جمع أبي بكر- رضي الله عنه
المسألة السادسة: منهج أبي بكر الذي وضعه لـ " زيد بن ثابت " في جمع وتدوين القرآن الكريم
المسألة السابعة: مصير صحف أبي بكر- رضي الله عنه
(1)
- سلسلة الهدى والنور: (257). بتصرف يسير جدًا في الألفاظ لأنها وردت مسجلة، فعدلت ألفاظ يسيرة جدًا ليستقيم المعنى كتابة.
وهي تفصيلًا على النحو التالي:
المسألة الأولى: التعريف بـ "زيد" بالمكلف بالجمع رضي الله عنه
-
أما المكلف بالجمع فهو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي (ت: 45 هـ)، من كتَّاب الوحي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم وكان مشهورًا بالصدق والأمانة، وتفقَّه في الدين حتى أصبح رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض على عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكان يُعدُّ من الراسخين في العلم، تُوفِّي سنة 45 هـ، ولمَّا تُوفِّي رثاه حسان بن ثابت-
رضي الله عنه، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:"اليوم مات حبر هذه الأمَّة وعسى الله أن يجعل في ابن عبَّاس منه خلفًا"
(1)
ولقد " ولد في المدينة، ونشأ بمكة، وقتل أبوه وهو ابن ست سنين، وهاجر مع النبي- صلى الله عليه وسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة، تعلم السريانية في سبعة عشر يومًا ".
(2)
وإنما اختصه النبي صلى الله عليه وسلم بتعلم لغة اليهود، ليكتب النبي- صلى الله عليه وسلم إليهم وليقرأ له ما يكتبون.
(3)
ولقد عُرِفَ زيدٌ واشتهر بكمال الدين والعلم مع حسن السيرة والعدالة، وكان من أصحاب الفتوى الستة من الصحابة رضي الله عنهم.
وحفظ القرآن الكريم كله عن ظهر قلب في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم وكان من أبرز كتاب الوحي بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم، كما عرف أنه كان ممن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كذلك، وغير ذلك من المناقب العظيمة.
ولقد بوب الإمام البخاري- رحمه الله في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب " مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه. "
(4)
(1)
- تذكرة الحفاظ: 1/ 29، تهذيب التهذيب: 3/ 399، غاية النهاية: 1/ 296، الإصابة: 1/ 561، طبقات ابن سعد: 2/ 273، الأعلام: 3/ 57.
(2)
- يُنظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 156، ت: د محب الدين واعظ.
(3)
- الكامل 2: 176 والطبري 2: 561 وسيأتي الكلام حوله وراجع الصحيح من السيرة 5 المخطوط والمستدرك للحاكم 3: 421 و 422 وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 446 وثقات ابن حبان 1: 264 والمعرفة والتاريخ 1: 484 وكنز العمال 15: 8 و 9 والمنتظم 3: 206.
(4)
- للاستزادة يُنظر: باب: مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه، صحيح البخاري:
(3 - 47) رقم: (3599).
المسألة الثانية: أبرز المقومات الداعية لاختيار "زيد
"
لقد تحلى زيدٌ رضي الله عنه وتجمل بمحاسن الصفات الذاتية والمقومات الإيمانية العالية التي تؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة وتحمل مسؤوليتها، وذلك من النشاط والقوة والحيوية المصحوبة برجاحة العقل والورع والأمانة والتقوى المقرونة بالجُرأة في الحق مع تعظيم شعائر الله، إضافة إلى تحمله للمسؤولية ومعرفة ضخامة المهمة، كل ذلك مع اتقانه وحفظه للقرآن المقرون بتوافر الخبرة السابقة في أداء المهمة نفسها، ألا وهى كتابة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك في أن تلك الصفات التي تحلى بها تعينه على دقة التحرِّي في جمع الكريم على الوجه المطلوب والذي يليق بمكانة كتاب الله تعالى سعيًا في تحقيق وعد الله تعالى الذي لا يتخلف الذي قال فيه سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
ولنتأمل ما ثبت في الجامع الصحيح في الحديث المشهور الذي رواه البخاري بسنده عن زَيْد بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجمع القرآن، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَ اللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جمع القرآن. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة: 128) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ- رضي الله عنه.
(1)
وبدأ زيد بن ثابت رضي الله عنه في مهمته الشاقة، معتمدًا على المحفوظ في صدور القراء والمكتوب لدى الكُتَّاب، وقد راعى غاية التثبت؛ فمع كونه حافظًا لم يكتفِ بمجرد وجدانه الآيات مكتوبة حتى يشهد بها من تلقاها سماعًا،
(1)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن حديث رقم 4986.
قال ابن شامة (ت: 665 هـ) رحمه الله:
وكان غرضهم ألا يكتب إلا عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.
(1)
لقد اختاره أبو بكر-رضي الله عنه لهذه المهمَّة العظيمة والخطب الجسيم، لما تفرس فيه من الأمانة ورجاحة العقل، وقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتماده- صلى الله عليه وسلم، عليه.
ويقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله في ذلك:
" اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن، ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفاظ القرآن، ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العرضة الأخيرة
(2)
للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم، وكان فوق ذلك معروفًا بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه
(3)
.
المسألة الثالثة: أسباب اختيار "زيد" لهذه المهمة إجمالًا
يمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:
1 -
أنه من الحفاظ الذين اشتهروا بحفظ القرآن واتقانه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
2 -
توفر عنصر القوة والنشاط والحيوية فيه، وإنما يؤخذ ذلك من قول أبي بكر-رضي الله عنه له:"إنك رجل شاب"؟ والشاب له من القوة والنشاط ما ليس لغيره.
والشباب له ميزة قد تخفى غالبًا، ألا وهي أنهم علموا ما نسخ مما بقيت تلاوته بخلاف الكثير من الكبار الذين تقدم إسلامهم، والذين قد يخفى على البعض منهم ما نسخ، وذلك بخلاف الشباب، والله أعلم.
3 -
اتصافه بالذكاء والفطنة ورجاحة العقل وسرعة البديهة وهي مقومات تعينه على حسن التصرف ولا سيما عند تشابك وتشابه الأمور، ولاشك أن ذلك أدعى لكمال العمل وإتمامه وإحسانه، وإنما يؤخذ ذلك من وصف أبي بكر- رضي الله عنه له بأنه:"عاقل"، ومما يدلل على ذلك أيضًا صدوره عن رأي أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما ورجوعه إليه بعد أن علم أنه الحق.
(1)
- مباحث في علوم القرآن 127.
(2)
- سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة.
(3)
- مناهل العرفان: 1/ 250، وراجع الفتح: 9/ 13، والمقنع:124.
ويتبين ذلك من قوله: " فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما"، فما كان تردده- رضي الله عنه وتوقفه في بادئ الأمر إلا عن رجاحة عقلٍ وإعمال فكرٍ.
4 -
ما ناله من اطمئنان وتزكية أبي بكر- رضي الله عنه له من خلوه من الموانع القادحة كخوارم المروءة ومما يشين من الصفات، فلا تتوجس النفس منه ولا ترتاب ولا تشك فيه، وبذلك لا تلحقه أدنى تهمة قادحة في دينه تمنع من قبول عمله وأداء مهمته الجسيمة، ويستنبط ذلك من قوله له:" لا نتهمك ".
5 -
وجود الخبرة السابقة لديه في نفس المهمة التي سيقوم بها ألا وهي كتابة الوحي للنبي- صلى الله عليه وسلم، مع ما قيل واشتهر من شهوده للعرضة الأخيرة، وهي ما يشبه ما يسمى بـ" شهادة الخبرة " في عصرنا الحالي.
ذلك لأن زيدًا- رضي الله عنه قيل أنه شهد العرضة الأخيرة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم والتي بيَّنَ لهم فيها ما نُسِخ من القرآن وما استقر بقاؤه، فأمَر- صلى الله عليه وسلم بإبقاء الناسخ وتركِ المنسوخ، وقرأ-صلى الله عليه وسلم القرآن على الحالة التي استقر عليها على زيدٍ، فكان- رضي الله عنه يؤمُّ الناس به حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن تلك ميزة تميز بها زيدٌ لم تجتمع لأحد من الصحابة- رضي الله عنهم سواه، إلا ما كان من ابن مسعود رضي الله عنه.
ولقد روى البَغَويُّ (ت: 516 هـ) عن أبي عبدالرحمن عبد الله بن حبيب السُّلَمِي (ت: 74 هـ) أنه قال:
قرأ زيد بن ثابت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين
…
إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه: " شهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتبة المصاحف- رضي الله عنهم أجمعين - ".
(1)
.
"وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة ".
(2)
(1)
- شرح السنة: البغوي ج 4 ص: 525 - 526، والبرهان للزركشي، ج 1 ص: 237، والإتقان للسيوطي ج 1، ص 59. سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة .. ، ولذا يُذكر ذلك بصيغة التمريض، كما ذكرها البغوي. الباحث.
(2)
-المرشد الوجيز ص 96.
6 -
تحليه بالتقوى وتعظيم شعائر الله. ويؤخذ ذلك أيضًا من قوله- رضي الله عنه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن بطال (ت: 449 هـ) رحمه الله:
" إنما نفر أبو بكر أولًا، ثم زيد بن ثابت ثانيًا، لأنهما لم يجدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول- صلى الله عليه وسلم".
(1)
.
ولا شك أن ذلك من شواهد تقوى الله- تعالى- وتعظيم شعائره.
7 -
جُرأته في الحق، ويتبين ذلك من قوله لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟!، فلم يمنعه قول ذلك لأكبر رأسين في الأمة لمَّا ظنَّ أنهما على غير صواب، وهذا من أبين المقومات التي تؤهله للقيام بهذه المهمة الجسيمة بلا مجاملة ولا محابة لأحد أبدًا.
8 -
حرصه على الاتباع وخشيته من الابتداع وحرصه على لزوم حدوده الله، ويؤخذ ذلك من رفضه القيام بالمهمة أول الأمر وتردده في قبولها، فما لبث أن شرح الله صدره لما شرح له صدر أبي بكر وعمر- رضي الله عنهم أجمعين-.
9 -
تحمله للمسؤولية ومعرفة ضخامة المهمة وعظم شأنها وجليل قدرها، ويتبين ذلك من قوله- رضي الله عنه:" فَوَ اللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ ".
المسألة الرابعة: الدواعي لهذا الجمع
إن جمع أبي بكر الصِّدِّيق للقُرْآن كان بسبب خشيته أن يذهب من القُرْآن شيء بذهاب حَمَلتِه؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
المسألة الخامسة: مميزات جمع أبي بكر رضي الله عنه
-
أما عن مميزات هذا الجمع فيُجملها الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله في مناهله فيما يلي:
أولًا: على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلمِ أصول التثبت العلمي.
ثانيًا: اقتصر المصحف على ما لم تنسخ تلاوته.
ثالثًا: ظفر المصحف بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.
(1)
- فتح الباري: (9/ 11).
(2)
المصاحف لابن أبي داود: (11/ 16).
ولا يطعن في ذلك التواتر أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة؛ فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبًا إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظًا عند كثرة من الصحابة بلغت حد التواتر، وكان المعتمد عليه وقتئذ هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر.
(1)
وهذا الجمع كان مرتب الآيات في مواضعها في السور، ولم يُكتب منه إلا نسخة واحدة من القرآن، وقد حظى هذا الجمعُ على إجماع الصحابة ومن ثم على الأمة قاطبة، كما أجمعوا على تواتر ما فيه.
وفي نحو ذلك يقول ابن أبي داوود رحمه الله (ت: 316 هـ) في كتاب المصاحف:
" ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على صحته ودقته وأجمعوا على سلامته من الزيادة أو النقصان وتَلقَّوه بالقبول والعناية التي يستحقها
حتى قال عليّ بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه:
"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين ".
(2)
المسألة السادسة: منهج أبي بكر الذي وضعه لزيد بن ثابت في جمع وتدوين القرآن الكريم
لقد نهج الصديق-رضي الله الله عنه- نهجًا محكمًا وطريقة متقنة بلغتا مبلغًا عظيمًا من الدقة والإحكام والإتقان في جمع القرآن الكريم، ثم أمر زيدًا- رضي الله الله عنه - بجمعه القُرْآن وفق الخطة والطريقة التي وضعها له والتي فيها من أخذ الحيطة ووضع الضمان والأمان لصيانة كتاب الله ولوزم الحذر والدقة والتأني والتثبُّت، فلم يكتفِ- رضي الله عنه بما حفظ في صدره ولا بما سطره بيده ولا بما سمع بأذنه، بل جعل يتتبع ويستقصي كل أسباب التحري والدقة والإتقان والحيطة، آخذًا على نفسه الاعتماد فيه على مصدرين رئيسين:
المصدر الأول: المكتوب في السطور، وهو ما كتب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. -
والمصدر الثاني: المحفوظ في الصدور، وهو ما كان محفوظًا في صدور الصحابة رضي الله عنهم.
فلا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد له شاهدان عدلان أنه كُتب بين يدَيْ رسول الله- صلى الله عليه وسلم وذلك لأخذ الحيطة والحذر والتأكد من إنه كُتِبَ فعلًا بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 253). بتصرف.
وفي اشتمال مصحف أبي بكر على الأحرف السبعة خلاف مشهور، وهو كذلك في مصحف عثمان، وقد سبق الإشارة لذلك. وسيذكر في موضعه بشيء من التفصيل والإيضاح الباحث.
(2)
- المصاحف: لابن أبي داود السجستاني: (ص: 11).
روى ابن شبة عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب (ت: 104 هـ) قال:
أراد عمر- رضي الله عنه أن ي، فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم شيئًا من القُرْآن فليأتِنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان.
(1)
المراد بالشاهدين:
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله: المراد بالشاهدين: الحِفظ والكتابة.
ويبين السخاوي (ت: 902 هـ)
(2)
رحمه الله المراد بالشاهدين فيقول:
المراد بهما رجُلان عدلان يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتب بين يدَيْ رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ولم يعتمد زيدٌ على الحفظ وحده؛ ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري: إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة؛ أي: لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيدًا كان يحفظها، وكان الكثير من الصحابة يحفظونها، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادةً في التوثُّق، ومبالغة في الاحتياط، وعلى هذا المنهج الرشيد تم بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، وللصحابة في المعاونة والإقرار".
(3)
وما ختم به السخاوي - رحمه لله- كلامه آنفًا يُكتب بماء العين.
المسألة السابعة: مصير صحف أبي بكر رضي الله عنه
-
يبين السخاوي مصير صحف أبي بكر رضي الله عنه فيقول:
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بن ثابت بما تستحق من عناية فائقة؛ فحفِظها أبو بكر عنده، ثم حفظها عمرُ بعده، ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر، حتى طلبها
(1)
تاريخ المدينة لابن شبة صـ 705. تاريخ المدينة لابن شبة المؤلف: عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد (المتوفى: 262 هـ) حققه: فهيم محمد شلتوت طبع على نفقة: السيد حبيب محمود أحمد - جدة عام النشر: 1399 هـ.
(2)
- شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي -نسبة إلى سخا شمال مصر- الشافعي (ت: 902)، هو مؤرخ كبير وعالم حديث وتفسير وأدب شهير من أعلام مؤرخي عصر المماليك. ولد وعاش في القاهرة، ومات بالمدينة المنورة سافر في البلدان سفراً طويلاً وصنف أكثر من مائتي كتاب أشهرها الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع ترجم نفسه فيه بثلاثين صفحة. الموسوعة الحرة "ويكيبيديا".
(3)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 253: 252).
منها خليفة المسلمين عثمان بن عفان- رضي الله عنهم أجمعين-، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القُرْآن، ثم ردها.
(1)
ويؤكد أبو شامة المقدسي (ت: 665 هـ) رحمه الله مصير تلك الصحف فيقول:
بعد أن أتمَّ زيد- رضي الله عنه في المصحف سَلَّمَه لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه فحفظه عنده حتى وفاته ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين- رضي الله عنها لأن عمر- رضي الله عنه جعل أمرَ الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان- رضي الله عنه لنسخه بعد ذلك ثم أعاده إليها، ولما توفِّيت حفصة رضي الله عنها أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليُرْسِلَنَّ بها فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان- رضي الله عنه.
(2)
وهكذا جمع القرآن في عهد أبي بكر- رضي الله عنه-الجمع الثاني على قطع متناسقة متساوية في الحجوم، مرتب الآيات والسور، بطريقة توثيقية لم يعرف التاريخ البشري لها مثيلاً من حيث الضبط والإتقان، يقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه: أعظم الناس أجرًا في المصحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
(3)
المطلب الخامس: تاريخ وزمن هذا الجمع وأبرز نتائجه
وفيه مسألتان:
لاشك أن الدافع لهذا الجمع هو خوف ذهاب حملته إبان مقتل سبعين من القراء يوم اليمامة، وكان بداية جمعه بعد تلك المعركة أي في قرابة نهاية السنة الحادية عشرة من الهجرة تقريبًا، وانتهت مهمة الجمع قبل وفاة أبي بكر-رضي الله عنه في منتصف السنة الثالثة عشرة من الهجرة.
فإن فترة خلافته-رضي لله عنه- كانت من: الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11 هـ إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 13 هـ.
وقيل إن فترة الجمع قد استغرقت خمسة عشر شهرًا، وقيل غير ذلك أيضًا.
والحقيقية أن هذا الكلام تقريبي ولا يمكن الجزم به لعدم الوقوف على شيء ثابت موثق يثبت ويؤكد تلك المدة بالتحديد تمامًا. والله أعلم.
وفي ختام الكلام عن هذا الجمع نبحث مسألتين هامتين:
(1)
- نفس المرجع السابق.
(2)
-المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي، ص 52.
(3)
يُنظر: مباحث في علوم القرآن لمناع القطان، ص 132.
المسألة الأولى: أبرز نتائج جمع أبي بكر رضي الله عنه
-
أولًا: لقد تم هذا الجمع بإجماع من الصحابة الكرام-رضي الله عنهم أجمعين-.
ثانيًا: حصل بجمعه نوع اطمئنان من الخوف من ضياعه أو تفلت من توثيقه بكماله وتمامه أي شيء.
ثالثًا: تم هذا الجمع على أوثق طرق الجمع والحيطة لكتاب الله تعالى، فقد جمع بطريقي الحفظ- صدرًا وسطرًا- ثم دون كل ما جُمِعَ في مكان واحد بناء على ذلك، ولم يقبل تدوين أي شيء فيه إلاّ ما أجمع الصحابة-رضي الله عنهم-على أنه قرآن وتواترت روايته كذلك.
رابعًا: أصبح هذا الجمع هو النسخة الوحيدة الموثوقة والمقيدة والتي أجمع الصحابة كلهم- رضي الله عنهم أجمعين- على صحتها وسلامة كل ما فيها من الزيادة والنقصان.
خامسًا: بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم واتفاقهم على هذا الجمع زالت كل شبهة ولاسيما شبه التبديع والإحداث في الدين.
وختامًا: فإنه قد تبين معنا في ثنايا البحث:
"أن جمع أبي بكر الصديق للقرآن كان بسبب خشيته أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم".
(1)
وبهذا يتبين الفرق بين الجمع في عهديه: الأول، والثاني.
المسألة الثانية: أوّل من سمى القرآن بالمصحف
قال الزركشي رحمه الله في البرهان: " ذكر المظفري (ت: 642 هـ) في تاريخه:
لَمَّا جَمعَ أبو بكر القرآنَ قال: سَمُّوهُ. فقال بعضُهم: سَمُّوهُ إِنْجيلًا. فَكرهوه. وقال بعضُهم: سَمُّوهُ السِّفْرَ. فكرهوه مِن يهود. فقال ابنُ مَسعودٍ: رأيتُ للحَبَشَةِ كِتَابًا يدعونهُ المُصْحَفَ، فسمُّوهُ بهِ ".
(2)
والحقيقة أن رواية مثل هذه لا يُعتمد عليها لأن ليس لها أي سند يُعتمد عليه، وقد رويت مرسلة بغير عزو ولا إسناد، وهي مغايرة لما ثبت من حديث أنس- رضي الله عنه عند البخاري وقد ذكر فيه الصحف في قوله:
فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف
…
إلى أن قال:
(1)
-المصاحف لابن أبي داود ص 11: ص 16.
(2)
- البرهان: (1/ 377).
ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(1)
.
وهناك آثار أخر كالتي ذكرها المظفري- كذلك- لكنها لا ترتقي لدرجة الثبوت واليقين.
"
المصحف" كلمة عربية:
وكلمة صَحيفة اسم: والجمع: صَحيفات وصَحائفُ صِحَاف وصُحُف، الجمع: صَحِيفٌ، والصَّحِيفَةُ: ما يكتب فيه من وَرَقٍ ونحوه ويطلق على المكتوب فيها والجمع: صُحُفٌ.
(2)
فالكلمة إذًا عربية بحتة، وعلى فرض ثبوت ما نُسِب من استعمال الحبشة لها - كذلك، فلعلها من مشترك الألفاظ بين اللغتين.
ضبط كلمة "مصحف" وبيان معناها في اللغة:
والأصل المشهور في ضبط كلمة: "مُصْحَفُ" بضم الميم، ويجوز "مِصْحَفُ" بكسرها، وهي لغة تميم.
والمصحف: اسمٌ لكلِّ مجموعة من الصُّحُف المكتوبة ضُمَّت بين دفَّتين، وجاء في (اللِّسان) عن الأزهري- رحمه الله:"وإنَّما سُمِّي المصحفُ مصحفًا؛ لأنه أُصْحِفَ، أي جُعل جامعًا للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفتَّين".
(3)
ومقتضى كلام الفيروز آبادي رحمه الله:
أنَّ المُصحف (بالضم): اسم مفعول من أصْحَفَه إذا جمعه. والمَصحف (بالفتح): موضع الصُّحُف، أي: مجمع الصَّحائف. والمِصحف (بالكسر): آلة تَجْمع الصُّحف.
وقال الشهاب الخفاجي (ت: 1069 هـ):
"المصحف بضم الميم وكسرها ونقل فيه التثليث وهو مجمع الصحف من أصحف إذا جمع وهو مخصوص بالقرآن".
(4)
قال الفراء (ت: 207 هـ):
"وقد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسرت ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل ومجسد؛ لأنها في المعنى مأخوذة من أصحف جمعت فيه الصحف
…
".
(5)
(1)
رواه البخاري، حديث:(4987).
(2)
- يُنظر: تعريف و معنى صحيفة في معجم المعاني الجامع
(3)
يُنظر: لسان العرب (7/ 290 - 291)، مادة:(صحف).
(4)
- يُنظر: نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ص 554:
(5)
- يُنظر: إصلاح المنطق ص 120، وأدب الكاتب ص 555، وتهذيب اللغة 4/ 254:
قال أبو إسحاق الوهراني المعروف بابن قُرْقُول (ت: 569 هـ):
"والمصحف مأخوذ من الصحيفة".
(1)
وقال المطرزي (ت: 610 هـ):
"والمصحف الكراسة وحقيقتها مجمع الصحف".
(2)
وقال السمين الحلبي (ت: 756 هـ):
"والمصحف هو الجامع للصحف المكتوبة
…
وغلب على ما كتب من القرآن".
(3)
والمصحف اصطلاحًا:
وأما المصحف في اصطلاح العلماء رحمهم الله فهو اسمٌ للمكتوب فيه كلام الله تعالى بين الدَّفتَّين.
(4)
ويصدق المصحف على ما كان حاويًا للقرآن كلِّه، أو كان ممَّا يُسمَّى مصحفًا عُرفًا ولو قليلًا كحزب، على ما صرَّح به القليوبي رحمه الله، أو أقلَّ من ذلك كورقة فيها بعض سورة، أو لوحًا، أو كتفًا مكتوبة.
(5)
"وقيل للقرآن مصحف؛ لأنَّه جُمِعَ من الصَّحائِف المتفرِّقة في أيدي الصَّحابة، وقيل: لأنَّه جَمَعَ وحَوَى - بطريق الإجمال - جميعَ ما كان في كتب الأنبياء، وصُحُفِهم، (لا) بطريق التَّفصيل".
(6)
.
و" المصحف "اسمٌ للمكتوبِ من القرآن الكريم، المجموع بين الدَّفَّتين، و"القرآن" اسمٌ لكلامِ الله تعالى المكتوبِ في المصاحف.
(1)
- يُنظر: مطالع الأنوار 4/ 264:
(2)
- يُنظر: المغرب في ترتيب المعرب 1/ 467
(3)
يُنظر: عمدة الحفاظ 2/ 371
(4)
- يُنظر: الموسوعة الفقهية، لمجموعة من الباحثين (38/ 5). الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءًا، طبع الوزارة.
(5)
- يُنظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 125)؛ حاشية القليوبي على منهاج الطالبين (1/ 35).، ويُنظر: الفرق بين القرآن والمصحف-د. محمود بن أحمد الدوسري، مقال عن موقع الألوكة بتاريخ: 11/ 7/ 1439 هـ.
(6)
يُنظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/ 87).
وفي نحو ما سبق يقول القسطلاني (ت: 923 هـ) رحمه الله:
" والفرق بين الصحف والمصحف: أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر، وكانت سورًا مفرقة، كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت، ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفًا ".
(1)
ونختم هذ المبحث الهام ببعض نظم أبي عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في الأرجوزة المنبهة:
القَوْلُ فِي المَصَاحِفِ وَجَمْعِ القُرْءَانِ فِيهَا
وَاصْغَ إلى قَوْلِيَ فِي المَصَاحِفِ
…
وَمَا أَنُصُهُ عَنْ الأسَالِفِ
مِنْ شَأنِهَا فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ
…
وَالمُرْتَضَى عُثْمَانَ ذِي التَوْفِيقِ
لَمَّا تُوُّفِيَّ رَسُولُ اللَّهِ
…
صَلَى عَلَيهِ دَائِمَاً إلَهِي
وَوَلِيَ الصِّدِّيقُ أمْرَ الأُمَّه
…
مِنْ بَعْدِ مَا جَرَتْ أُمُورٌ جَمَّه
ارْتَدَّتْ العْرَبُ فِي البُلْدَانِ
…
وَأعْلَنَتْ بِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ
وَمَنَعَتْ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ
…
وَفَرْضُهَا قُرِنَ بِالصَّلاةِ
رَأى خَلِيفَةُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى
…
جِهَادَهُم فَرِيضَةً وَشَرَفَا
فَجَيَّشَ الجُيُوشَ وَالعَسَاكِرَا
…
نَحْوَهُمُ وَوَجَّهَ الأَكَابِرَا
مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ
…
مُرْتَجِيًا لِنُصْرَةِ القَهَّارِ
فَحَقَقَ الإلَهُ مَا رَجَاهُ
…
وَرَضِيَ الرَأيَ الَّذِي رَءَاهُ
وَأُيِّدَ الجَيْشُ الَّذِي أعَدَّهِ
…
فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا المُرْتَدَّه
وَلَجَأَ البَعْضُ إلى الحُصُونِ
…
وَصَالَحُوا عَلَى التِزَامِ الدِّينِ
وَذَاكَ بَعْدَ مِحْنَةٍ وَشِدَّه
…
جَرَتْ عَلَى الصَّحْبِ مِنَ اهْلِ الرِدَّه
وَاسْتُشْهِدَ القَرَأَةُ الأَكَابِرُ
…
يَوْمَئذٍ هُنَاكَ وَالمَشَاهِرُ
وَوَصَلَ الأمْرُ إلى الصِّدِّيقِ
…
فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى التَوْفِيقِ
وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الفَارُوقُ
…
مَقَالَةً أيَّدَهَا التَوْفِيقُ
إنِّي أرَى القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّا
…
بِحَامِلِي القُرْءَانِ وَاسْتَمَرَّا
وَرُبَّمَا قَدْ دَارَ مِثْلُ ذَاكَا
…
عَلَيهِمو فَعُدِمُوا بِذَاكَا
فَاسْتَدْرِكْ الأمْرَ وَمَا قَدْ كَانَا
…
وَاعْمَل عَلَى أنْ تَجْمَعَ القُرْءَانَا
وَرَاجَعَ الصِّدِّيقَ غَيْرَ مَرَّه
…
فَشَرَحَ اللَّهُ لِذَاكَ صَدْرَه
(1)
لطائف الإشارات: (1/ 106).
فَقَالَ لابْنِ ثَابِتٍ إذْ ذَاكَا
…
إنِّي لِهَذَا الأمْرِ قَدْ أرَاكَا
قَدْ كُنْتَ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ
…
تَكْتُبُ وَحْيَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ
فَأنْتَ عِنْدَنَا مِنَ السُّبَّاقٍ
…
فَاجْمَعْ كِتَابَ اللهِ فِي الأَوْرَاقِ
فَفَعَلَ الَّذِي بِهِ قَدْ أَمَرَه
…
مُعْتَمِدًا عَلَى الَّذِي قَدْ ذَكَرَه
وَجَمَعَ القُرْءَانَ فِي الصَّحَائِفِ
…
وَلَمْ يُمَيْزْ أَحْرُفَ التَخَالُفِ
(1)
بَلْ رَسَمَ السَّبْعَ مِنَ اللُّغَاتِ
…
وَكُلَّ مَا صَحَّ مِنَ القِرَاتِ
فَكَانَتْ الصُّحُفُ فِي حَيَاتِه
…
عِنْدَ أبِي بَكْرٍ إلى مَمَاتِه
ثُمَّةَ عِنْدَ عُمَرَ الفَارُوقِ
…
حِينَ انْقَضَتْ خِلافَةُ الصِّدِّيقِ
ثُمَّةَ صَارَتْ بَعْدُ عِنْدَ حَفْصَه
…
لَمَّا تُوُّفِيَّ كَمَا فِي القِصَّه.
(2)
وبانتهاء المبحث الثاني ينتهي الفصل الثاني. و الحمد لله رب العالمين.
(1)
- واشتمال جمع أبي بكر رضي الله عنه على الأحرف السبعة أمر يصعب الجزم، به إذ ليس عليه دليل قطعي الثبوت عند أهل التحقيق، ولذا فإن أصح الأقوال أنه لا يحتوي على الأحرف السبعة، وسيأتي معنا في ختام الكتاب عند مبحث علاقة الأحرف السبعة بجمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما بشيء من التفصيل. الباحث.
(2)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمر الداني- (مرجع سابق)، الأبيات من رقم:(178 - 155)، (ص: 105 - 110).
الفصل الثالث
المرحلة الثالثة من مراحل جمع القرآن الكريم: جمعه وتدوينه في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه- "المصاحف العثمانية"
وفيه خمسة مباحث:
وهي إجمالًا على النحو التالي:
المبحث الأول: المصحف العثماني
المبحث الثاني: انفاذ المصاحف العثمانية
المبحث الثالث: قضايا مهمة حول المصاحف العثمانية ومصيرها
المبحث الرابع: الرسم العثماني
المبحث الخامس: المرحلة الرابعة ل الكريم:
وهي مرحلة الجمع الصوتي للقرآن الكريم، أي "تسجيله تسجيلًا صوتيًا"
وفيه خمسة مباحث:
وهي تفصيلًا على النحو التالي:
المبحث الأول: المصحف العثماني
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: التعريف به وبيان بواعث جمعه وأسبابه ودواعيه
أولًا: التعريف بالمصحف العثماني (الإمام)
المفهوم الاصطلاحي:
أ- المَصَاحِفُ العُثْمَانِيَّةُ
هي المَصَاحِفُ التِّي نُسِخَتْ في خِلَافَةِ عثمان رضي الله عنه بِأَمْرِهِ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بسببِ كثرةِ الاختلافِ في القراءاتِ وعدمِ إدراكِ بعضِ النَّاسِ لمنشأِ الاختلافِ، فنسخها ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى كُلِّ بَلَدٍ مُصْحَفًا لِيَكونَ مَرْجِعًا لَهُمْ عِنْدَ الاخْتِلَافِ، وَمع كل مصحفٍ منها قارئًا، وَعَدَدُ هَذِهِ المَصَاحِفَ ستَّةٌ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَهِيَ: المصحفُ المَدَنِيُّ الخَاصُّ وَيُسَمَّى الإمامَ، لأن عثمانَ- رضي الله عنه احْتَفَظَ بِهِ لنفسِهِ، وَالمصحفُ المدنيُّ العَامُّ، الذي كان بأيدي أهلِ المدينةِ، وَالمصحفُ الشاميُّ، وَالمصحفُ الكوفيُّ، وَالمصحفُ البصريُّ، وَالمصحفُ المكِّيُّ.
اطلاقات المصطلح:
يَرِدُ مُصْطَلَحُ (المَصَاحِفِ العُثْمَانِيَّةِ) فِي أَبْوابٍ أُخْرَى مِنْ عُلُومِ القُرْآنِ: كَبَابِ الرَّسْمِ العُثْمَانِي، وَبَابِ، وَبَابِ تَرْتِيبِ السُّوَرِ، وَبَابِ القِرَاءَاتِ وَالقُرَّاءِ، وَغَيْرِهَا.
(1)
ب- المصحف الإمام
يقول صاحب "تاريخ القرآن":
والمراد بالمصحف العثماني مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي أمر بكتابته وجمعه وكانوا يسمونه "المصحف الإمام"، وسبب هذه التسمية "الإمام" هي مقولة عثمان (
…
يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا).
(2)
ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان رضي الله عنه في أي مصر من الأمصار، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة فحسب.
(3)
فقبيل أُفُول شهر ذي الحجة من عام 23 هـ بأيام قلائل قدم الشقي أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه-على قتل أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الرشدين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه وهو يصلى بالناس صلاة الفجر، وكان ذلك إثر دعاء عمر بحُسْنَ الختام بأيام قلائل، وذلك في آخر حجة حجها عام 23 هـ أي من نفس العام.
فعن سعيدٍ بن المسيِّب (ت: 94 هـ) - رحمه الله تعالى-:
" أنَّ عمرَ لما أفاض من مِنى، أناخ بالأبْطِحْ، فكوَّم كومةً من بَطْحَاءَ، وطرح عليها طَرَف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرَتْ سنِّي، وضعفتْ قوَّتي، وانتشرتْ رعيَّتي؛ فاقبضني إليكَ غير مضيِّعٍ ولا مفرِّط". قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجَّة حتى طُعِنَ ".
(4)
وهو الذي كانت الشهادة من قبل من أعز مطالبه وأغلى أمانيه رضي الله عنه
فعن زيد بن أسلم (ت: 136 هـ) عن أبيه عن عمر (ت: 23 هـ) رضي الله عنه قال:
"اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك"، وجاء في رواية:"اللهم قتلًا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك". فقال عمر- رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟!! قال: يأتي به الله إذا شاء.
(1)
يُنظر: الحجة للقراء السبعة: (9/ 1) - الإتقان في علوم القرآن: (176/ 1) - النشر في القراءات العشر: (31/ 1) - الحجة للقراء السبعة: (8/ 1) - الإتقان في علوم القرآن: (176/ 1).، موسوعة المصطلحات الإسلامية المترجمة.
(2)
- تاريخ القرآن الكريم - للكردي: (ص: 3)، مطبعة الفتح - جدة. ط 1365. 1 هـ.
(3)
- رسم المصحف - لغانم قدوري، ص 189 - 190 (اللجنة الوطنية - بغداد. ط 1402. 1 هـ).
(4)
- يُنظر: حلية الأولياء (1/ 54) والطبقات (2/ 255)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 107)، وفضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 398)، تاريخ المدينة لابن شبة، وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب (3/ 872).
قال ابن المِبْرَد:
"وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت، فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيرًا، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيدًا، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه".
(1)
لما لا وقد بشره النبي- صلى الله عليه وسلم بالشهادة من قبل:
فقد ثبت عند البخاري وغيره من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه-أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا، وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمَانُ فَرَجَفَ بهِمْ، فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّما عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وصِدِّيقٌ، وشَهِيدَانِ.
(2)
. والصِّدِّيقُ هو أبو بكرٍ، والشَّهيدانِ هما عُمرُ وعثمانُ؛ فكِلاهما قُتِلَ شَهيدًا ومظلومًا-رضي الله عنهم أجمعين-.
مبايعة عثمانُ (ت: 35 هـ) رضي الله عنه بالخلافة:
وفي مطلع شهر الله المحرم من سنة 24 للهجرة وإثر مقتل عمر-رضي الله عنه شهيدًا بُويِعَ عثمانُ رضي الله عنه بالخلافة.
وفي عهد عثمان- رضي الله عنه كثُرت الفتوحات الإسلامية، واتسعت رقعة الدولة المسلمة في زمنه واتسع إثر ذلك العمران، وتفرق المسلمون في أرجاء تلك البقعة من بلاد الإسلام المترامية الأطراف والأقطار، وانتشر الصحابة- رضي الله عنهم في الأمصار يعلمون الناس آي التنزيل، ودخل فئام من الناس في دين الله، وطال عهد الناس بالرسول والرسالة، وفي إثر ذلك نشأ جيل جديد لم يشهد عهد التنزيل وكان منهم الأعجمي الذين لا يحسن العربية ولا يعرف وجوهها، وكان منهم من هو بعيد عن مهبط الوحي ومهد الرسالة زمانًا ومكانًا، وكان كل معلم ومقرئ من
الصحابة-رضي الله عنهم يُقرئ الناس ويعلمهم القراءة بالحرف الذي تلقاه وتعلمه من فِيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.
ولذا كان أهل كل مصر من تلك الأمصار يقرأ بالقراءة التي تعلمها وتلقاها من الصحابي الذي علمه، فكان بين وجوه القراءة التي يقرآ بها كل واحد منهم من الاختلاف والتباين في حروف الأداء حسب القراءة التي تلقاها وتعلمها ممن أخذ عنه من الصحابة- رضي الله عنهم، وتلك الأجيال التي دخلت في الإسلام ولم تشهد عهد التنزيل لا يعرفون أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن أي حرف قُرئ به فهو شاف كاف، فحدث عندهم من جراء ذلك نوع استغراب وتعجب واختلاف
(1)
- الطبقات لابن سعد (3/ 331) إسناده حسن، تاريخ المدينة (3/ 872). محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن المِبْرَد (3/ 791).
(2)
- رواه البخاري (3675)
حتى أضحوا وقد خطأ بعضهم البعض حتى إن كان الواحد من هؤلاء ليقول هذه قراءة فلان وهذه قراءة فلان، حتى كادت أن تقع بينهم فتنة عظيمة لولا أن الله تعالى الذي وعد بحفظ كتابه وتولى ذلك بذاته العلية ولم يكِل ذلك لأحد من خلقه لطف بهم سبحانه وتعالى وبكتابه كما ورد وعده بذلك في قوله سبحانه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
ثانيًا: بيان بواعث وأهم أسباب ودواعي هذا الجمع
لما وقع الخلاف وخطأ بعض المتعلمين بعضهم بعضًا بسبب اختلاف أوجه القراءة كما مر معنا، وقد وقف حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه على هذا الخلاف بنفسه في فتوحات أرمينية وأذربيجان بين جندي العراق والشام فأفزعه ما رأى وتحقق من خطورة الأمر بنفسه وانتبه له-
رضي الله عنه -وهو صاحب رأي حاذق وبصيرة نافذة، لما لا وهو صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين-، فقد رأى أمرًا جللًا وخطرًا عظيمًا يحدق بكتاب الله تعالى؛ فهاله ما رأى فعزم على سد تلك الثلمة وإخماد نار تلك الفتنة قبل تطاير شرارها، وإيصاد بابها قبل انفتاحه في وجه الأمة، فعزم على التوجه إلى خليفة المسلمين لإبلاغه واطلاعه على هذا الأمر الجلل فركب إلى المدينة ليخبر عثمان- رضي الله عنه بالأمر الذي رآه وهاله وأشار عليه في أن يتدارك الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأجاب عثمان- رضي الله عنه نداء حذيفة رضي الله عنه في تدارك الأمر وعزم على جمع الأمة على مصحف واحد إمام يجتمع عليه المسلمون.
وقد أخرج البخاري-رحمه الله هذه الواقعة في صحيحه من حديث أنس بن مالك-رضي الله عنه-أن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه قدِمَ على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزَعَ حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقالَ حذيفةُ لعثمان:" يا أميرَ المؤمنينَ أدركْ هذه الأمةَ قبلَ أن يختلِفُوا في الكتابِ اختلافَ اليهودِ والنصارى". فأرْسَلَ عثمان إلى حفصة- رضي الله عنها أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحفِ ثم نردُّها
إليكِ. فأرسلتْ بها حفصة إلى عثمان، فأمَرَ زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
(1)
قال ابن أبي داود رحمه الله (ت: 316 هـ) في كتاب "المصاحف":
(1)
- البخاري، فضائل القرآن، رقم: 4604، الترمذي، أبواب تفسير القرآن، برقم: 3029، وانظر كتاب المصاحف: 1/ 204، والفتح لابن حجر: 9/ 11.
"وكان عثمان - رضى الله عنه - (قد) لمس هذا الاختلاف من قراء المدينة أنفسهم فقام خطيبًا وقال: " أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشدّ فيه اختلافا وأشدّ لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمّد، واكتبوا للنّاس إمامًا ".
ولذا قال علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه:
"يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف .. فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا جميعًا، قال: ما تقولون في هذه القراءة، قد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى، قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت .. قال على: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل".
(1)
المطلب الثاني: صفة جمعه وكيفيته وخطواته وتوقيته وزمنه
أولًا: صفة الجمع العثماني وكيفية
لما استجابت أم المؤمنين حفصة بنت عمر- رضي الله عنهما لنداء عثمان- رضي الله عنه وبعثت إليه بالصحف التي جُمِعَت على عهد أبي بكر-رضي الله عنه وهي التي تعد المصدر الرئيس والوحيد الذي ستقوم لجنة الجمع في الاعتماد عليه والنسخ منه، سُلِمت تلك الصحف للجنة الجمع العثماني والتي سيأتي الكلام عنها بشيء من
الإيضاح بعد قليل.
فجمع عثمان- رضي الله عنه أهل الرأي من الصحابة كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين- فاستشارهم، فأشاروا عليه بجمعه على حرف واحد حتى لا يختلف الناس؛ فأمر- رضي الله عنه، بجمعه مكونًا تلك اللجنة الرباعية بقيادة ورئاسة زيد بن ثابت- رضي الله عنه، فقاموا بجمعه على حرف واحد، وكتبه وأرسل نسخ منه إلى الأقاليم والأمصار لاعتماده وحتى يقطع ويحسم بذلك العمل العظيم مادة النزاع والشقاق والخلاف، وكتب مصاحف الأمصار وفق قراءة كل مصر، وأرسل مع كل مصحف قارئًا يقرأ بنفس الحرف المرسل به المصحف لهذا المصر غالبًا، وسيأتي بيان ذلل بشيء من التفصيل والإيضاح في موضعه بإذن الله تعالى ..
(1)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: (1/ 17).
وقد ثبت عند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه: أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: " إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا.
(1)
قال الزهري (ت: 124 هـ) رحمه الله:
فاختلفوا (الصحابةُ) يومئذ في (التابوت والتابوه) فقال القرشيون "التابوت"، وقال زيدٌ:(وهو مدني)"التابوه" فرُفعَ اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه "التابوت" فإنه نزل بلسان قريش"
(2)
.
هل شارك عثمان- رضي الله عنه العمل مع لجنة الجمع؟
يقول ابن جزىّ الكلبي (ت: 741 هـ) رحمه الله في "التسهيل":
الذي " يبدو أن الخليفة كان يشارك بشكل كبير فى عملية النسخ ولم يقتصر دوره
على إبداء الرأي والنصيحة وحسم الخلافات بين أعضاء اللجنة فحسب ".
(3)
هذا "وقد استمرت عملية نسخ صحف القرآن بلغة قريش حتى تم تجميع القرآن فى مصحف واحد، وعرف ذلك المصحف بـ "المصحف الامام" أو بـ "مصحف عثمان"، وبعدها قام عثمان برد الصحف الى حفصة وأرسل الى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ".
(4)
ثانيًا: توقيت وزمن هذا الجمع
عزم عثمان - رضى الله عنه - في أواخر سنة 24 هـ وأوائل سنة 25 هـ على جمع القرآن الكريم في مصحف سمي بالإمام بعد ذلك كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله وقال أيضًا: "وغفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر له مستندًا ".
(5)
(1)
- البخاري، فضائل القرآن، رقم: 4604، الترمذي، أبواب تفسير القرآن، برقم: 3029، ويُنظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 204، والفتح لابن حجر: 9/ 11.
(2)
- التابوت والتابوه: أي اختلفوا في كتابتها بالتاء المجرورة أو المربوطة، ولا يذكر في التاريخ من اختلافهم إلا في هذه الكلمة الوحيدة.
يُنظر: الترمذي، أبواب تفسير القرآن، (5/ 266) رقم: 3029 (3029).، وكتاب المصاحف لابن أبي داود - باب جمع عثمان- رضي الله عنه-القرآن في المصاحف (ص: 26)، وفتح الباري (8/ 635)، تفسير الطبري:(1/ 62).
(3)
- محمد بن أحمد بن جزى الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل، جـ 1، صـ 7
(4)
ابن كثير، فضائل القران، صـ 67
(5)
- جمع الكريم في عهد الخلفاء الراشدين، أ. د. فهد الرومي ص 19. من أهم المراجع التي أخذت منها.
ولم تذكر المدة التي استغرقتها اللجنة في كتابة المصحف، وقد رضي الصحابة - رضى الله عنهم - ما صنعه عثمان - رضى الله عنه - وأجمعوا على صحته وسلامته، وقال زيد بن ثابت - رضى
الله عنه - "فرأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".
(1)
ثالثًا: أبرز معالم هذا الجمع
لقد حدد عثمان-رضي الله عنه مع أعضاء لجنة الجمع معالم هامة في نسخ المصاحف العثمانية لا يحيدون عنها بحال من الأحوال والتي كان من أبرزها ما يلي:
1 -
عدم نسخ وكتابة أي شيء إلا بعد تحقق وثبوت قرآنيته، مع تجريد الصحف من النقط والشكل ومن كل ما ليس بقرآن.
2 -
التأكيد على عدم نسخ وكتابة إلا ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهو الموافق لما أُثْبِتَ في اللوح المحفوظ
3 -
التأكد من أن ما يكتب لم تنسخ قراءته، وترك وإهمال كل ما ثبت نسخه، والمنسوخ هوما يسمى: بـ "القراءات الشاذة" عند المتأخرين.
والقراءة الشاذة عند الجمهور هي ما لم يثبت بطريق التواتر.
(2)
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله: -
فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحًا، فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها.
(3)
والبعض يسميها قراءة تفسيرية وفي ذلك يقول ابن كثير رحمه الله:
وهذه "القراءات الشاذة" إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد أو تفسيرًا من الصحابة، وهو في حكم المرفوع.
(4)
(1)
غرائب القرآن للنيسابوري (1/ 27). غرائب القرآن ورغائب الفرقان المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850 هـ) المحقق: الشيخ زكريا عميرات الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت الطبعة: الأولى - 1416 هـ.
(2)
- البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدُّرة - القراءاتُ الشاذةُ وتوجيهها من لغة العرب، (ص: 407). المؤلف: عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي (المتوفى: 1403 هـ)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان-عدد الأجزاء: 1
(3)
-المنجد لابن الجزري (ص: 16 - 17).
(4)
- تفسير ابن كثير (2/ 86).
4 -
عدم كتابة ونسخ أي شيء إلا بعرضه على حملة القرآن من كبار قراء الصحابة وبموافقتهم جميعًا رضي الله عنهم.
5 -
عند وقوع خلاف في كتابة شيء من القرآن يرجعوا للسان وحرف قريش، فبلسانها نزل-أي ابتداءً-، ومثال ذلك: قوله تعالى: (التَّابُوتُ)(البقرة من آية: 248)، فإن لغة أهل المدينة "التابوه" بالهاء، ولغة قريش "التابوت" بالتاء، " فاختلفوا (الصحابةُ) يومئذ في (التابوت والتابوه) فقال
القرشيون "التابوت:، وقال زيدٌ: (وهو مدني) "التابوه" فَرُفِعَ اختلافُهُم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش"
(1)
. وقد مر معنا ذكره آنفًا أيضًا.
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله في تفسيره:
"اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ؛ كقولك: هلم وتعالَ، باتفاق المعاني، لا باختلاف معانٍ موجبة اختلاف أحكام، وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف".
(2)
6 -
لا يكتبون إلا ما تواترت قراءته، وعدم كتابة غيرها مما لم تتواتر قراءته كالذي ثبت بطريق الآحاد
7 -
كل لفظ لم يرد فيه وجه من وجوه القراءات فإن رسمه يكون بشكل واحد، وعلى هذا أغلب وأكثر القرآن، ومن أمثلة الكلمات التي لا تقرأ ولا ترسم إلا بوجه واحد قوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة: 5).
8 -
كل لفظ ورد فيه أوجه عدة من القراءات فإن رسمه لابد أن يُكتب بطريقة تحتمل كل ما ورد فيه من تلك القراءات، فيُكتب اللفظ خاليًا من أيّة علامة تقصر النّطق به على قراءة واحدة
فمثال ما أمكن رسمه على أكثر من حرف، كل مما يلي:
أ- رسم قوله تعالى: (ملك يوم الدين)(الفاتحة: 4) فقد جاء رسمها هكذا (مَالِكِ) بإثبات ألف الإلحاق الصغيرة لتعريف القارئ أنها تُقرأ هكذا (مَالِكِ) وذلك في قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، أما عند باقي القراء فتقرأ هكذا على أصلها (مَالِكِ) بعدم إثبات ألف الإلحاق، وهما قراءتان متواترتان.
وقد قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مدًا أي بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل (مَالِكِ) فيقرؤونها هكذا: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(الفاتحة: 4) وهي كذلك مروية عن عثمان وعلي
(1)
- التابوت والتابوه: أي اختلفوا في كتابتها بالتاء المجرورة أو المربوطة، ولا يذكر في التاريخ من اختلافهم إلا في هذه الكلمة الوحيدة. وقد مر بنا آنفًا بيان ذلك.
(2)
تفسير الطبري: (1/ 45).
وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير-رضي الله عنهم، رواها الترمذي في كتابه وقال: إن النبي-صلى الله عليه وسلم قرأَ بها وصاحباه أيضًا، وهي بالمد مشتقة من الملك، وتدل على ملك الأعيان، كما تدل على القدرة على التصرف في المملوكات من تلك الأعيان، وقرأ الباقون من القراء العشرة بغير ألف قصرًا (مَالِكِ). فيقرؤونها هكذا:(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(الفاتحة: 4). وهي بالقصر: (مَالِكِ). مشتق من المُلكِ، فتكون بمعنى السلطان والقوة والتدبير والحكم والقهر.
وقد رُسمت بالميم واللام والكاف مع إثبات ألف الإلحاق الصغيرة هكذا (مَالِكِ) قصرًا، لاحتمال القراءتين جميعًا.
ب- وكذلك رسم: كلمة (عِبَادُ) في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)(الزخرف: 19) رسمت هكذا (عىد) فأصبح رسمها في الآية في قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عىد الرحمن إناثًا)(الزخرف: 19) هكذا (عىد) بدون تنقيط لكي تحتمل كل القراءات الواردة في هذه الكلمة.
فتصح أن تقرأ (عِبَادُ) أو (عند)، وهما قراءتان متواترتان.
و (عِبَادُ) بوضع نقطة تحت النبرة تُقرأ باءً، وعلى حرف الباء ألف صغير وهي التي تُسمى ألف الإلحاق، بِكَسْرِ العَيْنِ وباءٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَها ألِفٌ وضَمِّ الدّالِ، جَمْعُ عَبْدٍ، كَقَوْلِهِ:{وَعِبادُ الرَّحْمَنِ} الآيَةَ (الفرقان: 63). قرأ بها أبو عمرو البصري والكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي وخلف.
و (عند)، بوضع نقطة فوق النبرة، تُقْرَأ نونًا هكذا (عِنْدَ الرَّحْمَنِ)، قرأ بها الباقون وهم: نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ، بِسُكُونِ النُّونِ وفَتْحِ الدّالِ، ظَرْفٌ، كَقَوْلِهِ تَعالى:{إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (الأعراف: 206)
ولا تَعَارُضَ بين الرسم في الكلمتين، لأن كليهما وَحْيٌ من الله تعالى، وكُلِّ قراءة من القراءتين لها معنى لا يَتَعَارَضُ ولا يَتَصَادَمُ مع المعنى الآخر، بل إن المعنيين يُكمّل بعضهما البعض ويوضح
بعضه البعض، فقد أخبر الله تعالى أن الملائكة هم (عِبُادُ الرحمن)(عِبَادُ)، وهذا للرد على الكُفّارَ الذين افْتَرَوْا عَلى المَلائِكَةِ ووصفوهم بأنَّهم إناثٌ، زاعِمِينَ بذلك أنَّهم بَناتُ اللَّهِ، لأن كلمة (عِبَاد) جَمْعُ مُذَكَّر- من "عَبْد"، فجاء الوصف للملائكة بالعبودية، وأخبر الله تعالى أن هؤلاء الملائكة مكانهم عند الله، أي في السماء في قوله:(عند) الظرفية المكانية، وفيها رد على الذين ينكرون صعود الملائكة عند الله من أهل البدع. ومع ذلك فالقراءتان فيهما إعجاز في الرسم العثماني كما هو واضح في معنيهما.
وفي ذلك يقول الشوكاني (ت: 1250 هـ) رحمه الله في فتح القدير:
قرأ الكوفيون: (عِبَادُ)، بالجمع، وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون:(عند الرحمن) بنون ساكنة، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله إنما كذبهم في قوله: إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عباده، ويؤيد هذه القراءة قوله:(بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ)(الأنبياء: 26)، واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال: وتصديق هذه القراءة قوله: (إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ)(الأعراف: 206) أي الملائكة.
(1)
وبنفس قول الشوكاني قال غير واحد من أهل التفسير.
ج- وكذلك رسم: (فتبينوا) في قوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(الحجرات: 6) فقرئت (فَتَبَيَّنُوا) وقرئت (فتثبتوا)، وكلتا القراءتين قراءة صحيحة متواترة عن النبي-صلى الله عليه وسلم وهما متقاربتا المعنى، وهما بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحة الخبر، ولا تعجلوا بقبوله حتى تتبينوا وتتثبتوا منه.
فأما قراءة (فَتَبَيَّنُوا) فقرآ بها: نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب الحضرمي.
وأما قراءة (فتثبتوا) فقرأ بها: حمزة والكسائي وخلف العاشر، وقد ذُكر أنها في مصحف ابن مسعود- رضي الله عنه منقوطة بالثاء المثلثة.
د- وكذلك رسم: (نُنْشِزُهَا) في قوله تعالى: (وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا)(البقرة: 259)، قرأ بها ابن عامر والكوفيون بضم النون والزاي معًا، وقرأ الباقون (نُنْشِرُهَا) بالراء، بضم النون والراء المهملة بدل الزاي ولم يختلفوا في محل السكون منها وإنما اختلفوا في إبدال الراء زايًا، وهي قراءة عامة أهل المدينة.
9 -
وأما أي لفظ تختلف فيه أوجه القراءات ولا يمكن رسمه في الخط محتملاً لتلك الأوجه جميعًا فإنهم يكتبونه في النسخ التي بين أيديهم تارة برسم وخط يوافق بعض تلك الأوجه في نسخة، وتارة يكتبونه برسم وخط يوافق الوجه الآخر في نسخة أخرى، ومن أمثلة ذلك كلمة:(وَوَصَّى) في
قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)(البقرة: 132) فقرئت (وَوَصَّى) وقرئت (وَأوصى).
فقرأ نافع وابن عامر (وَأوصى) هكذا بالألف، وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون (وَوَصَّى) هكذا بغير ألف بالتشديد، وهو كذلك في مصاحفهم، والمعنى واحد إلا أن في قراءة (وَوَصَّى) دليل على المبالغة والتكثير.
(1)
- فتح القدير: (1/ 2 ج 2 - 628).
ومن أمثلة ذلك أيضًا قراءة (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ)(التوبة: 100)، رُسمت بحذف لفظ:(من) قبل (تحتها)، أو بزيادتها.
وقرأ ابن كثير بزيادة (من) وكسر التاء من (تحتِها)، وهي كذلك في المصاحف المكية، والباقون بحذفها وفتح تاء (تحتَها).
(1)
10 -
ومن أبين وأظهر وأشهر تلك المعالم العظام في جمع عثمان-رضي الله عنه ترتيبه آيات القرآن وسوره وتلقى الأمة له بالقبول وبقاء تلك المصاحف "العثمانية" على الوجه المعروف والمعهود منذ عهد جمعه إلى زماننا الحاضر، بل وإلى ما شاء الله أن يكون القرآن بين يدي عباد
الله، وإلى أن يرفعه اللهُ عز وجل في آخر الزمان من الأرض فلا تبقى منه آية مكتوبة في السطور ولا آية محفوظة في الصدور.
فإن القرآن سـ "
…
يسرى به فى آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى فى الصدور منه كلمة، ولا فى المصاحف منه حرف".
(2)
وفي نحو ذلك يقول ابن مسعود (ت: 32 هـ): رضي الله عنه:
" لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآن من بين أظهركم، قيل له: يا أبا عبد الرحمن: كيف يُنتزع وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسْرَى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء، ويصبح الناس كالبهائم " ثم قرأ قول الله تعالى: (ولئن شئنا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا)(الإسراء: 86).
(3)
وختامًا:
فإن معالم جمع عثمان- رضي الله عنه وضعت وفق أسس وأساليب علمية محكمة ومعاير دقيقة بلغت فيها الحيطة لكتاب الله أعلاها وأدقها وأسلمها وأكملها وأحسنها وأتمها.
المطلب الثالث: أعضاء لجنة هذا الجمع، ودواعي اختيارهم، ومنهج جمعهم
أولًا: أعضاء لجنة هذا الجمع
لقد وقع خلاف في عدد أعضاء لجنة الجمع، فذهب البعض إلى أنهم اثنا عشر رجلًا، وقال البعض بأنهم خمسة رجال، وذهب البعض إلى أنهم أربعة رجال،
(1)
يُنظر: النشر: 2/ 280، الإتحاف: 2/ 97.
وأما الكلمات التي لابد أن تكتب مرتين، ولا يمكن كتابتها في رسم الخط احتمالاً، فسيأتي الاستزادة من بيان ذكر أمثلة لها بتوسع في مبحث الأحرف السبعة في نهاية البحث بإذن الله. الباحث.
(2)
- مجموع الفتاوى: (3/ 198)
(3)
- رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (8698)، قال الحافظ في الفتح:(13/ 16): سنده صحيح ولكنه موقوف. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7/ 329): رجاله رجال الصحيح، غير شداد بن معقل وهو ثقة. وهذا الحديث حكمه حكم المرفوع، لأنه لا يُقال في مثله بالرأي.
فاجتمع لدينا بذلك ثلاثة أقوال هي بالتفصيل على النحو التالي:
القول الأول: أنهم اثنا عشر رجلًا فيهم:
1 -
أبي بن كعب
2 -
وزيد بن ثابت
وهو مروي عن محمد بن سرين عن كثير بن أفلح، وذكره ابن أبي داود السجستاني في كتاب "المصاحف".
(1)
القول الثاني: أنهم خمسة رجال على النحو التالي:
1 -
زيد بن ثابت الأنصاري
2 -
عبد الله بن الزبير
3 -
عبد الله بن عباس
4 -
عبد الله بن عمرو بن العاص
5 -
عبد الرحمن بن الحارث.
وهو مروي عن أبي عمرو الداني في كتاب " المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار".
(2)
القول الثالث: أنهم أربعة رجال وهم على النحو التالي:
1 -
زيد بن ثابت
2 -
عبد الله بن الزبير
3 -
وسعيد بن العاص
4 -
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام
(3)
وأشهر هذه الأقوال وأرجحها القول الأخير وهو ما عليه الجمهور.
وهو أنهم أربعة نفر: زيد والثلاثة القرشيون، وهم الذين ورد ذكر خبرهم عند البخاري من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه والذي قال فيه: "
…
فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط
(1)
- كتاب المصاحف: 1/ 217.
(2)
- يُنظر: المقنع: (ص: 4). "المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" لـ" أبي عمرو الداني" وهو: أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي الداني الأندلسي، المعروف في زمانه بابن الصيرفي (ت: 444 هـ). تحقيق: د. عزة حسن.
(3)
- يُنظر: الفتح: 9/ 11، كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 205، لطائف القسطلاني: 1/ 57 - 58.
القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم".
(1)
.
و الروايات السابقة قد تجتمع جميعًا:
وهذه الروايات قد تجتمع من جانب آخر ألا وهو: أن هؤلاء الأربعة هم أعضاء لجنة الجمع والكتابة الذين كُلفوا بالجمع أولًا، وأن باقي المذكورين كانوا مساعدين ومعاونين ينضمون إلى معاونة أعضاء اللجنة المسؤولين عن الجمع كمعاونين ومساعدين لهم في بعض الأحايين.
بل حتى أعضاء اللجنة الأربعة كانت الأعمال توزع بينهم كذلك ومما يدل على ذلك سؤال عثمانَ الصحابةَ-رضي الله عنهم أجمعين-:
"من أكتب الناس، قالوا: كاتب رسول الله زيد بن ثابت، قال فأي الناس أعرب، قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان فليمل سعيد وليكتب زيد".
(2)
يقول ابن كثير (ت: 774 هـ): رحمه الله مبينًا موقف الصحابة من فعل عثمان-رضي الله عنهم أجمعين-:
"واستحسن أصحاب الرسول-صلى الله عليه وسلم هذا العمل".
(3)
، فدل ذلك على أن تقسيم الأعمال بينهم كان جاريًا، وأنه كان على حسب ما تميز به كل عضو وبرز فيه واشتهر به وأتقنه، وهذا ما فعله عثمان واستحسنه الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين.
ولم يترجم الباحث لأعضاء لجنة الجمع لسببين اثنين:
السبب الأول: لاشتهارهم، وقد جرى عمل الباحثين على تراجم الأعلام غير المشاهير فحسب.
السبب الثاني: لأن أغلب الباحثين في هذا العمل "" قد ترجموا لهم مشكورين مأجورين، فلا حاجة للإعادة والتكرار، ولاسيما أن تراجمهم معروفة ومشهورة ولا تخفى، وقد جرى التعريف بزيد-رض الله عنه- دونهم لوجود الداع لذلك ألا وهو كونه رئيس لجنة الجمع.
ثانيًا: دواعي اختيار أعضاء لجنة الجمع وبيان منهج جمعهم
يبين الزرقاني ذلك بعد أن ذكر منهج جمعهم وهو ما مر بنا آنفًا ذكره بالتفصيل مع سياق الأمثلة في محض الكلام عن "أبرز معالم هذا الجمع". وذكر هنا أسبابًا عظام اتصفوا بها كانت من مقومات اختيارهم ل فقال: "
…
إنهم تلقوا القرآن عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم بجميع وجوه
(1)
- رواه البخاري: (4987).
(2)
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: (9/ 19).
(3)
تفسير ابن كثير: (7/ 446).
قراءاته، وبكافة حروفه التي نزل عليها ".
(1)
، ولا شك أن في تلك المقومات من المؤهلات الكافية للقيام بهذه المهمة الجليلة.
وهذا في حقهم جملة، إضافة لما تميز به بعضهم بصفات وخصائص خاصة ولا سيما زيد-رضي الله عنه وقد مر معنا في طيات البحث كثيرًا ذكر دواعي اختياره في الجمع البكري، وهي كثيرة ومشهورة.
ثالثًا: منهجهم في الجمع
الأسس والقواعد التي انطلقت منها ونهجتها لجنة الجمع:
1 -
اتحاد المصدر "المجموع منه"، والمصدر "الجامع له".
* وذلك بأن لجنة الجمع اتخذت الصحف البكرية التي أجمع عليها الصحابة-رضي الله عنهم مصدرًا أصيلًا ووحيدًا يعتمد عليه وينسخ منه القرآن.
* كما اعتمدت اللجنة ترتيب الصحف البكرية للآيات والسور والتي رتبت وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة.
فهذا هو المصدر المجموع منه الصحف العثمانية.
* والذي رأس لجنة الجمع في العهدين هو زيد بن ثابت- رضي الله عنه وهو المصدر الجامع له.
2 -
اعتماد لسان وحرف قريش عند الاختلاف في أحرف ووجوه القراءة وقت النسخ من الصحف البكرية، فبلسانها نزل القرآن.
3 -
اعتماد ونسخ ما نقل بالتواتر وإهمال ما اختلف فيه من وجوهِ القراءة وما كانت روايته آحادًا.
4 -
كل لفظ منقول بالتواتر يحتمل قراءته على أكثر من وجه يبقى خاليًا من النقط والشكل ومن أي علامة تقصر القراءة به على وجه واحد.
5 -
المراجعة والضبط بعد الانتهاء من النسخ، ثم المقابلة بالصحف البكرية للتأكد من سلامة النسخ وصحة النقل، وذلك صيانة للعمل وإتمامًا له على وجه تبرأ به الذمة ويُصان به كلام الله تعالى.
وفي نحو ذلك يُعرج الزرقاني على منهجهم في الجمع فيقول:
"
…
فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها، حتى لا يقال: إنهم أسقطوا شيئًا من قراءاته، أو منعوا أحدًا من القراءة بأي حرف شاء على حين أنها كلها منقولة نقلاً
(1)
- يُنظر: مناهل العرفان: (1/ 259).
متواترًا عن النبي- صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا".
(1)
(2)
وختامًا:
"فإن القرآن لم يُنقَلْ في الصحف والكتب فحسبُ، وإنما ظَاَهَرَ نقل الكتب والصحف حفظُ القرآن والتلقي بالمشافهة والعرض بالسماع، وقد وجد القرَّاء أحيانًا أن الكتابة لا تضبط اللفظ، فكانوا ينصُّون أن ذلك الحرف لا يُضبَط إلا بالمشافهة كقراءة حمزة (الصراط) في فاتحة الكتاب بين الصاد والزاي، وليس في الكتابة العربية رمز يمثِّلها؛ لذلك نجد ابنَ مجاهد (ت: 324 هـ)
(3)
يقول: ولا يضبطها الكتاب، ويقول في قراءة أخرى: ولا تضبط إلا باللفظ، وقد بلغ حرص القرَّاء على إتقان الرواية أنه إذا تقدَّمت السن بالقارئ توقَّف عن الإقراء خشية التحريف؛ أي: تحريف الصوت، لا اللفظ العام أو الكتابة، فكان سليمان بن مِهران الأعمش (ت: 765 هـ) يُقرِئ الناس،
ثم ترك ذاك في آخر عمره، فالقرآن الكريم نقل إلينا كتابة وحفظًا في الصدور بلفظه ومعناه وصوته؛ ذلك أن هذه القراءات نُقِلت مشافهةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادًا أو استنباطًا من رسم الخط؛ لأن الرسم سنةٌ متَّبعة قد توافقه التلاوة، وقد لا توافقه، فمِن رسم الكلمات في المصحف:(وجائ)[الزمر: 69]، وتقرأ: وجيء، و (لأ اذبحنه) [النمل: 21] بكتابة ألف بعد (لا)، وتقرأ:(لأذبحنَّه)، ومثل ذلك (ولأ اوضعوا) [التوبة: 47]، وتقرأ:(ولأ وضعوا)، ومثل هذا كثير يُقرَأ بخلاف ما رسم.
وقد أجمع القرَّاء المسلمون واتَّفقوا جميعًا على أنه لا رأيَ في القراءة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما ثبت عنه، ولا قَبول إلا بما قرأ به أو أقرَّه أو علَّمه. "
(4)
المطلب الرابع: علاقة هذا الجمع بجمع أبي بكر- رضي الله عنه، وبيان الفرق بين الجمعين
(1)
- أخرجه أحمد (4/ 205، رقم 17855). قال الهيثمي (7/ 150): رجاله رجال الصحيح إلا أنه مرسل. ويُنظر: السلسلة الصحيحة: (1522)، إسناده صحيح على شرط مسلم، وهو مروي عن: أبي قيس مولى عمرو بن العاص.
(2)
- يُنظر: مناهل العرفان: 1/ 259.
(3)
- هو أبو بكر أحمد بن مجاهد البغدادي. وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. للاستزادة يُنظر: سير أعلام النبلاء، 15/ 272.
(4)
- يُنظر: إن علينا جمعه وقرآنه، د. عبدالجبار فتحي زيدان، مقال عن موقع الألوكة، بتاريخ: 22/ 12/ 1334 هـ.
أولًا: الجمع في العهد البكري كان مقصده حفظ القرآن وخشية ضياع شيء منه بمقتل وموت حفاظه، وكان الباعث عليه ما خشاه عمر بعد تحري القتل في الحفاظ، في قتال المرتدين في معركة اليمامة.
ثانيًا: الجمع في العهد البكري كان العمل فيه على في مكان واحد فحسب، وذلك بجمعه من الأماكن التي كتب فيها، من الرقاع واللخاف وعسب النخل وغيرها، ثم ترتيب سوره وآياته وفق العرضة الأخيرة التي نزل بها القرآن، مقتصرًا في إثبات وكتابة ما لم تنسخ تلاوته فحسب، وإهمال المنسوخ منها، ونتج من جراء ذلك جمع نسخة واحدة وحفظها عند خليفة المسلمين.
ثالثًا: لم يلزم أبو بكر- رضي الله عنه-الناس بما في الصحف التي جمعها ولم يحملهم عليها، ولذا كان بعض الصحابة يقرأ ببعض ما نُسخ من القرآن دون أن يعلم بالنسخ، والسبب في ذلك أنه لم يشهد العرضة الأخيرة.
رابعًا: أما الباعث على الجمع العثماني فكان حسم مادة التنازع والشقاق الذي حدث ووقع في الفتوحات ووقف عليه حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه ورد هذا التنازع للسان ولغة قريش من بين سائر اللغات لأنه نزل بلسانها-ابتداءً-، وجمع الأمة عليه.
خامسًا: الجمع العثماني لم يكن جمعًا لنسخة واحدة كالجمع البكري، وذلك لأن الباعث هنا اختلف عن الباعث هناك، وكان هنا أيضًا وفق العرضة الأخيرة مشتملًا على ما لم تنسخ تلاوته من الأحرف السبعة، وجمعت ورسمت الصحف العثمانية على طريقة تحتمل تلك الأوجه جميعًا تسهيلًا على الأمة ورفعًا للحرج والمشقة، ثم نسخت منها نسخ عدة وزعت على الأمصار وذلك حسمًا لمادة الخلاف ونزعًا لفتيل الفتنة والشقاق، وحمل الأمة على مصحف واحد وقراءة
واحدة، مع شمول رسمه لكل الحروف التي نزل بها القرآن وإلزام الناس في جميع الأمصار بما في تلك الصحف المنسوخة، والتي رسمت بطريقة يمكن معها قراءة القرآن بجميع الأوجه وفق ما تحققت قراءته وثبت عدم نسخه من الأحرف السبعة التي نزل بها، والتي استقرت عليها العرضة الأخيرة.
المطلب الخامس: أبرز نتائج وفوائد هذا الجمع
1 -
بمجرد قيام عثمان- رضي الله عنه بتلك المهمة وجمع المسلمين على مصحف إمام واحد خمدت فتنة عظيمة
2 -
إجماع الصحابة-رضي الله عنهم وإعانتهم لعثمان- رضي الله عنه على هذا العمل منحه الثقة والاعتماد والقبول، وفيه أيضًا إشارة إلى عنايتهم جميعًا- رضي الله عنهم بكتاب ربهم وإجلالهم له وحرصهم على سلامته من كل آفة.
3 -
إهمال المنسوخ وكتابة ما ثبتت قرآنيته فحسب، وقد فتح هذا العمل آفاقًا علمية جديدة خاصة لمن لم يشهد العرضة الأخيرة التي استقر عليها هذا الأمر.
4 -
كتابة تلك الصحف ورسمها بطريقة تحتمل جميع أوجه القراءة وفق الأحرف
(1)
السبعة التي نزل بها القرآن فَتَحَ بابًا للتعرف عليها وعلى ثبوتها واعتمادها ولاسيما لمن لم يكن يعلم ذلك من قبل، وهو الأمر الذي أشعل تلك الفتنة أول الأمر فأخمدها الله بهذا الجمع، والذي لم يهمل رسمه تلك الأوجه جميعًا، مما اشتملت عليه واستقرت عليه العرضة الأخيرة.
وبهذا العمل العظيم اجتمعت كلمة المسلمين وتآلفت قلوبهم واجتمعت كلمتهم على كتاب ربهم.
5 -
نشر تلك الصحف في الأمصار من قبل الخليفة الراشد يُعد بمثابة قرارًا رسميًا
باعتمادها وإهمال كل ما سواها، وبذلك يُحسم النزاعُ ويُرفع الشقاقُ نهائيًا حول الاختلاف الذي حدث في حروف الأداء ووجوه القراءة.
6 -
تلقت الأمة سلفًا وخلفًا الصحف العثمانية بالقبول والاعتماد، والمضي على العمل بالمصحف الإمام ووجوب التزام رسمه واتباعه، سواء كان هذا الرسم اجتهاديًا أم توقيفيًا، وإن
كان الجمهور على أنه توقيفي، يجب على الأمة اتباعه، ولا تجوز مخالفته، كما سيأتي بيان ذلك تفصيلًا في موضعه بإذن الله تعالى.
المطلب السادس: الكلمات التي اختلف رسمها في المصاحف العثمانية
من المعلوم أن الصحف في هذا الجمع كُتِبَت على حرف واحد وقراءة واحدة ولسان واحد، هو حرف ولسان قريش الذي نزل به القرآن وذلك وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة.
و كُتِبَت تلك الصحف بخط يحتمل وجوه القراءات وذلك بتجريدها من الشكل والنقط والحركات، وكان من نتاج ذلك وجود كلمات يختلف رسمها وحرفها، فجرى العمل على أن كل لفظ لا يحتمله الرسم يُفَرِّق ويوزع على المصاحف التي ترسل إلى الأمصار، وكان من جراء ذلك أن خصصت بعض المصاحف برسم والأخرى برسم آخر يختلف في حرف أو حرفين حتى لا يكتب في مصحف واحد مرتين، ثم وزعت تلك المصاحف بعد ذلك على الأمصار.
وقد حُصِرَت تلك الكلمات في علم الرسم عند البعض في سبع وثلاثين كلمة، حَصرها من صنفوا في علم الرسم كأَبي عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) في "فضائل القرآن" وابن أبي داود السجستاني (ت: 316 هـ) في "كتاب المصاحف"، وأبي عمرو الداني (ت: 444 هـ) في كتابه الشهير
(1)
- قال العلامة اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي في "معجم العين": "وكل كلمة تقرأ على وجوه من القراءات تسمى حرفًا".
" المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" ولعل كتاب "الداني"-هذا- يُعدُ من أشهر تلك المصنفات لجودته.
وقد اختلف هجاء عدد من الكلمات في المصاحف العثمانية بنقصانِ حرف أو زيادة حرف كما مر معنا بيان ذلك. وقد فُرِقت أوجه القراءات الصحيحة كلها في نسخ هذه المصاحف، والأئمة الذين كتبوا وصنفوا في هذا العلم حصروا تلك الكلمات وحددوها في سبع وثلاثين كلمة كما تقدم معنا، ومما صُنِفَ في اختلاف أوجه القراءات في المصاحف ما أملاه ابن عامر الشامي اليحصبي (ت: 118 هـ) في كتابه"اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق".
ومما يجدر التنبيه إليه هنا:
أ- التنبيه إلى وجوب التمييز بين نوعين من اختلاف الكلمات في المصاحف العثمانية، فهناك بعضُ الكلمات رُسِمت بخطَّين مختلفينِ، لكن دون أن يترتب عليه اختلاف في اللفظ مثل قوله تعالى:(بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(البقرة: 93)، في بعض المصاحف مقطوع، وفي بعضها (بئسما) موصول.
ب- التنبيه على أن هناك قسمٌ آخر من الاختلاف في هجاء الكلمات يشمل زيادة حرفٍ أو نقصه، مما يترتب عليه تغيير في طريقة اللفظ، وقد أثبتت المصادرُ الأولى أن هذا الاختلاف يرجعُ إلى المصاحف الأئمة التي أُرسِلت من المدينة إلى الأمصار في زمن عثمان رضي الله عنه أو أنها وجدت في المصاحف القديمة التي نُسِخت من تلك المصاحف المرسلة.
وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852) رحمه الله:
والحق أن الذي جُمِع في المصحف العثماني هو المتَّفَق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم واشتمال المصحف العثماني على عدد قليل من الأحرف السبعة محمول على أنه نزل بالأمرين معًا، وأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابتِه لشخصين، أو أعلَمَ بذلك شخصًا واحدًا، وأمره بإثباتها على الوجهين.
ج- التنبيه على أن تلك الأوجه المختلفة لا يمكن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال أبدًا، وإنه لابد من تفريقها بين مصاحف الأمصار.
فكانت هذه الأوجه التي أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابتها مما خالفت خط المصحف، علم على أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غيرُ ممكن إلا بإعادة الكلمة مرَّتين، ففرقتها اللجنة في المصاحف؛ لذلك جاءت بوجه في مصحف، وبوجه آخر في مصحف آخر من المصاحف العثمانية؛ لكي تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما سمِعَت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها بين يديه، فهذا سبب اختلافها في الأمصار.
د- التنبيه على أن القرآن لم يُنقَلْ في الصحف والكتب فحسبُ، وإنما ظاهر نقل الكتب والصحف حفظُ القرآن والتلقي بالمشافهة والعرض بالسماع، وقد وجد القرَّاء أحيانًا أن الكتابة لا تضبط
اللفظ، فكانوا ينصُّون أن ذلك الحرف لا يُضبَط إلا بالمشافهة كقراءة حمزة (الصراط) في فاتحة الكتاب بين الصاد والزاي، وليس في الكتابة العربية رمز يمثِّلها.
لذلك نجد ابنَ مجاهد (ت: 324 هـ) رحمه الله يقول:
طولًا يضبطها الكتاب، ويقول في قراءة أخرى: ولا تضبط إلا باللفظ، وقد بلغ حرص القرَّاء على إتقان الرواية أنه إذا تقدَّمت السن بالقارئ توقَّف عن الإقراء خشية التحريف؛ أي: تحريف الصوت، لا اللفظ العام أو الكتابة، فكان سليمان بن مِهران الأعمش (ت: 765 هـ) يُقرِئ الناس، ثم ترك ذاك في آخر عمره، فالقرآن الكريم نقل إلينا كتابة وحفظًا في الصدور بلفظه ومعناه وصوته؛ ذلك أن هذه القراءات نُقِلت مشافهةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادًا أو استنباطًا من رسم الخط.
هـ - التنبيه على أن الرسم سنةٌ متَّبعة قد توافقه التلاوة، وقد لا توافقه، فمِن رسم الكلمات في المصحف:(وجائ)[الزمر: 69]، وتقرأ: وجيء، و (لأاذبحنه) [النمل: 21] بكتابة ألف بعد (لا)، وتقرأ:(لأذبحنَّه)، ومثل ذلك (ولأاوضعوا) [التوبة: 47]، وتقرأ:(ولأوضعوا)، ومثل هذا كثير يُقرَأ بخلاف ما رسم.
و- التنبيه على أن القرَّاء قد أجمع واتَّفقوا جميعًا على أنه لا رأيَ في القراءة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما ثبت عنه، ولا قَبول إلا بما قرأ به أو أقرَّه أو علَّمه. وقد مر معنا ذكر ذلك آنفًا قُبَيل قليل.
ز- التنبيه على أن المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه قد كُتِب خاليًا من النَّقط والشكل كما أسلفنا؛ لأن المسلمين الأُوَل كانوا يضبطونه قراءةً من دون حاجة إلى ذلك، إلا أنه بعد انتشار الأعاجم، والخشية من عدم ضبط قراءة القرآن من قِبَل الأتباع، رأى الغيورون على هذا الدين ضرورةَ وضع علامات على الرسم القرآني من النقط والشكل؛ كعلامات الضمة، والفتحة، والكسرة، والشدة، وهمزة القطع والوصل، ونحو ذلك، ووضع النقاط للتفريق مثلاً بين الجيم والحاء، والتاء والباء، دون أن يغيروا في صورة الكلمة التي رسمت في مصحف عثمان رضي الله عنه
ح- التنبيه على أن أبا الأسود الدُّؤَلي (ت: 69 هـ) تلميذ علي بن أبي طالب أوَّلَ مَن دعا إلى وضع مثل هذه العلامات، ثم تم ذلك على يدِ نصر بن عاصم الليثي (ت: 89 هـ) ويحيى بن يعمر العدواني
(ت: 90 هـ)، وهو من النحاة والقرَّاء المشهورين في عهد عبدالملك بن مروان (ت: 86 هـ)؛ ذلك ليصل إلينا كتاب الله بالصورة التي هي بين أيدينا اليوم؛ ليتحقق وعد الله - سبحانه -: {إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17)، ووعده سبحانه:(إنا نحن نزل الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9)
ط - التنبيه على أن الطريقة التي جُمع بها القرآن، والحالة التي انتهى إليها، هي التي أرادها الله أن تكون، فقد أراد - جل شأنه - أن يُحفَظ كتابُه ويُجمَع ويُتلَى بقراءاته المنزَّلة، ولعل من حِكَمِ ذلك تيسيرَ قراءة القرآن على الأمة، أو إرادة معاني هذه القراءات جميعها؛ لمعنى من المعاني البلاغية، أو إرادة أحكامها مجتمعة.
(1)
ك- التنبيه على أن الرسم العثماني الأصل في كتابته أن كل حرف يكتب حسب ما ينطق به دون أن يزاد فيه أو ينقص منه، وهذه قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ عَامَّةٌ، غير أن بعض الألفاظ خرجت عن عموم هذه القَاعِدَةٌ العَامَّةٌ، فكتبت وفق ما تضمنه علم "الرسم العثماني" ورسمت بالزيادة أو الحذف أو الإبدال، أو بغيرها مما اقتضاه علم هذا الرسم، وقد حصرها علماء الرسم في ستة أمور:
1 -
الحذف
2 -
والزيادة
3 -
والهمز
4 -
والبدل
5 -
والفصل والوصل
6 -
وما فيه قراءتان متواترتان وكتب اللفظ المختلف رسمه فيها، على رسم إحداهما.
ومن أمثلة تلك الكلمات التي فيها قراءتان ورسم على إحداهما: ما ورد في قراءة أهل المدينة والشام كلمة (وأوصى) في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) في مصاحفهم (وأوصى) وأما قراءة (وَوَصَّى) التي فيها معنى المبالغة والتكثير، فقد قرأ بها "الباقون" وكتبت في مصاحفهم حسب قراءة كل منهم.
وقد وردت هذه المسائل وبسطت ووضحت مع أمثلة ما تدل عليه في مصنفات علم الرسم بالتفصيل، ولقد اكتفى الباحث هنا بالإشارة عن كثير من العبارة.
وسيأتي معنا بيان ذلك بشيء من التفصيل والإيضاح في موضعه.
(2)
ومن أراد زيادة في العبارة فليراجعها في مظانها من كتب الرسم.
(1)
- إن علينا جمعه وقرآنه، د. عبدالجبار فتحي زيدان، مقال عن موقع الألوكة، بتاريخ: 22/ 12/ 134 هـ.
(2)
ألا وهو: قواعد الرسم العثماني، وهو المطلب الثاني من المبحث الثالث من هذا الفصل
ومن أشهر المصنفات في علم الرسم:
وقد صنفت مصنفات كثيرة في علم الرسم قديمًا وحديثًا كالتي مر ذكرها أنفًا، ولعل من أبرزها كذلك منظومة "عقيلة أتراب القصائد" للإمام أبي محمد القاسم بن فِيرُّه - بكسر الفاء، بعدها ياء
مثناة تحتية ساكنة، ثم راء مشددة مضمومة- بن خلف بن أحمد الرُّعَينِيِّ - بضمِّ الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وبعدها نون؛ نسبة إلى ذي رُعَيْن، أحد أقيال اليمن-الضرير (ت: 590 هـ)، -وقد شُرِحَت عدة شروح، من أفضلها:"تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد بشرح عقيلة أتراب القصائد" للعلامة علي بن عثمان بن محمد بن القاصح (ت: 810 هـ) وأيضًا شرح العلامة السخاوي (ت: 643 هـ) - تلميذ الشاطبي، وقد حققه وخرج أحاديثه جمال السيد رفاعي الشايب، وراجعه عند مثوله للطبع السادات السيد منصور أحمد، نشر عام 1429 هـ، ومنها كذلك متن "مورد الظمآن في رسم القرآن" لمحمد الأموي الشريشي أبي عبد الله الشهير بالخراز، ومن شروحه: شرح الشيخ أحمد المارغني التونسي المالكي (ت: 1349 هـ) نشر: دار الحديث- القاهرة جزء: 1، وكذلك "التبيين لهجاء التنزيل" لأبي داود سليمان بن نجاح الأموي (ت: 496 هـ) وهو تلميذ أبي عمرو الداني، نشر: مجمع الملك فهد - المدينة النبوية، في خمس مجلدات،. ومن ذلك أيضًا كتاب أبي عيد رضوان المخللاتي (ت: 1311 هـ) "مخطوط إرشاد القراء والكاتبين إلى معرفة رسم كتاب الله المبين"، وهو ما يزال مخطوطًا
(1)
، وكتاب "سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين" للشيخ علي بن محمد الضبَّاع (ت: 1380 هـ)،
تحقيق: محمد مصطفى بلال، نشر: دار الفضيلة، ط، 1434 هـ، والكتاب جيد في بابه حسن في ترتيبه وتأصيله وتقعيده للمسائل، وما كتب تحت عنوان" تتعين كتابة المصحف على الرسم العثماني" للشيخ عبد الفتاح القاضي (ت: 1403 هـ) ولم يقف الباحث على نسخة له مطبوعة سوى ما نشر في بعض المجلات كمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
كما اتسعت رقعت التصنيف في هذا الباب من جمع من الباحثين المعاصرين ومما كتب فيه كذلك "رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة" للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، صدر عن دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع: 1433 هـ، وكتاب" رسم المصحف
(1)
- والكتاب في حدود علم الباحث ما يزال مخطوطًا، نسخه محمد حسن العقاد في يوم السبت الموافق للثالث من ربيع الأول 1302 هـ. عدد الأوراق: 224، مصدر المخطوط: المكتبة الأزهرية خاص (241) عام (22248).
دراسة لغوية تاريخية " للدكتور. غانم قدوري الحمد، نشر: اللجنة الوطنية للنشر-العراق، عام: 1402 - 1982، ط 1، في مجلد واحد، وغيرها كثير.
يقول الدكتور صبحي الصالح (ت: 1407 هـ) رحمه الله:
والذي يعلمُه علمَ اليقين كلُّ باحث مثقف أن كتابًا غير القرآن لم يحظَ بالعناية التي أُحِيط بها، ولم يصل إلينا كما وصل، فجاء - كما قال شفالي
(1)
: - أكمل وأدق مما يتوقعه أي إنسان
(2)
، وقد استنسخ المسلمون من المصحف العثماني آلاف النسخ جيلاً بعد جيل، وقد بقي المصحفُ
العثماني نفسُه على الرغم من انتفاء الحاجة إليه حتى سنة 1310 هـ؛ حيث كان محفوظًا في مقصورة في مسجد بدمشق وله بيت من خشب.
وختامًا:
فإن ذلك كله يشير إلى تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ولا يتأخر ولا يتبدل والذي قال الله فيه وهو أصدق القائلين: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثاني: انفاذ المصاحف العثمانية
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: عدد المصاحف المنسوخة التي كتبها عثمان ووجه بها إلى الأمصار
أولًا: اتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهد عثمان
لقد بلغت الخِلافةُ الرَّاشِدة أوج اتساعها خلال عهد ثالث الخلفاء الراشدين-عُثمان بن عفَّان-رضي الله عنه، فامتدت أراضيها من شبه الجزيرة العربيَّة إلى الشام
فالقوقاز وأرمينية وأذربيجان شمالًا، ومن مصر إلى تونس غربًا، ومن الهضبة الإيرانيَّة إلى آسيا الوسطى والصين شرقًا، وبهذا تكون الدولة قد استوعبت كافَّة أراضي الإمبراطوريَّة الفارسيَّة الساسانيَّة وحوالي ثُلثيّ أراضي الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة.
وقد وقعت أغلب الفتوحات الإسلاميَّة في عهد الخليفة الراشد الثاني عُمر بن الخطَّاب-رضي الله عنه، وأخذت القبائل العربيَّة تتوطن في البلاد الجديدة وتعمل على نشر الإسلام بين أهلها، فأصابت في ذلك نجاحًا كبيرًا حيث اعتنقت الأغلبيَّة الساحقة من أهالي تلك البلدان الإسلام.
(3)
(1)
- المستشرق الألماني فريدريش شفالي: (ت: 1338 هـ)، وهو تلميذ تيودور نولدكه
(2)
مباحث في علوم القرآن، نقلاً من مصدر أجنبي 89.
(3)
يُنظر: دولة الخلفاء الراشدين، مقال عن: الموسوعة الحرة. بتصرف.
ثانيًا: انتشار الصحابة في الأمصار لتعليم القرآن زمن الفتوحات
وأما عهد الخليفة الراشد ذي النورين-عثمان بن عفان- رضي الله عنه فقد اتسعت فيه الفتوحات الإسلامية وترامت أطراف الدولة بصورة عظيمة كبيرة ليس لها مثيل من ذي قبل كما مر معنا، ونتج عن إثر ذلك اتساع في العمران وتفرق المسلمين في تلك الأقطار التي فتحوها، وانتشر الصحابة في تلك الأقطار فاتحين للبلاد، داعين ومعلمين للعباد، فانتشروا يقرؤون القرآن ويعلمون الناس آي التنزيل، وانتشر بينهم من معلمي القرآن الكريم أجيال، وكان من هذه الأجيال من تتلمذ على أيدي الصحابة الذين ابتعثهم أمير المؤمنين عمر في الأقطار الإسلامية من قبل لتعليم القرآن، وكان أهل كل إقليم من تلك الأقاليم يأخذون القرآن ويتعلمونه بقراءة من اشتهر بينهم من قراء الصحابة ومعلميهم.
فأهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، وقراءة أبي الدرداء، إلى أن بعث إليهم عثمان- بعد انتهائه من إنفاذا المصاحف إلى الأمصار- بالمصحف الشامي مع المغيرة بن أبي شهاب، وأهل الكوفة
يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرأون بقراءة أبي موسى الأشعري، وكان لهؤلاء الأعلام أثراً بالغًا الإقراء في تلك الأقطار.
وكان كل صحابي يقرئ أهل الإقليم الذي حل فيه بالقراءة والحرف الذي تلقاه فِيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في قراءتهم من التباين والاختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بحسب ما تلقى كل منهم، والمتعلمون يومئذ لا يعلمون أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف تسهيلًا وتيسيرًا على الأمة، ولا يعلمون كذلك أن أي حرف قرئ به من تلك الحروف فهو شاف كاف، ومن جراء ذلك فُتِحَ بابُ الشقاق والتنازع في قراءة القرآن بسبب تلك الحروف المتغايرة والمتباينة بين معلم وآخر، والناس يومئذ ليس بين أيديهم أي مصحف جامع مكتوب يرجعون إليه حين الاختلاف في تلك الأحرف، فنتج من جراء ذلك الشقاق والخلاف بسبب اختلاف تلك الحروف وأوجه الأداء.
فهدى الله الخليفة الراشد- عثمان- لتدارك الأمر فشرح صدره وهدى قلبه وأنار بصيرته وأرشده إلى رأي سديد وعمل صالح رشيد يتدارك به هذا الأمر الجلل ليئد به تلك الفتنة وهي في مهدها، ويستأصل الداء من أصله قبل انتشاره، فجمع أهل الرأي والمشورة من أعلام الصحابة وأكابرهم وأهل الرأي والبصيرة فيهم من المهاجرين والأنصار ليستشيرهم ويعرض عليهم ما عزم عليه من وضع حد لهذا الاختلاف والتنازع ليحسم به مادة هذا النزاع ويستأصل شأفتها من جذورها فيجمع
الأمة على مصحف إمام ويأمر الناس في جميع الأمصار بتحريق المصاحف التي بين أيديهم، فوافقوا رأيه وأيدوه وأجمعوا أمرهم جميعًا على ما قرره عثمان.
ثالثًا: القرار الحكيم الراشد من الخليفة الراشد
وقد قرر عثمان ما يلي:
1 -
استنساخ مصاحف من المصحف العثماني "الإمام"
2 -
بعث نسخ مما استنسخه من المصحف "الإمام" إلى الأمصار
3 -
بعث معلم مع كل نسخة من المصحف "الإمام" إلى الأمصار ليقرئ الناس بالحرف الذي كتب في تلك النسخة التي يحملها بين يديه
4 -
أمر أهل الأمصار باعتماد المصحف "الإمام" وحرق كل ما عداه من المصاحف الخاصة التي بين أيدي الناس، وعدم اعتماد أي مصحف سواه.
رابعًا: عدد المصاحف العثمانية التي أرسلت إلى الأمصار
لقد اختلف العلماء اختلافًا واسعًا في عدد المصاحف المنسوخة التي كتبها عثمان ووجه بها إلى الأمصار، وإن أصحّ ما روي في هذا الباب ما ثبت عند البخاري وغيره من طريق الزهري عن أنس
بن مالك- رضي الله عنه أنَّ عثمان " أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
(1)
ونلحظ على أثر-أنس- رضي الله عنه أمرين:
الأمر الأول: أنه يشير إلى كثرة عدد المصاحف المرسلة إلى الأمصار حيث قال:
"أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ" من غير تحديد عدد معين.
الأمر الثاني: ليس هناك ما يدل على أن إرسال تلك المصاحف إلى الأمصار كان دُفعةً واحدةً وفي وقت واحد.
و
الخلاف في عدد المصاحف المنسوخة والمرسلة إلى الأمصار على أقوال، من أبرزها:
(2)
القول الأول: أنها خمسة نسخ
وقد وجهة نسخة إلى كل من:
1 -
مكة
2 -
المدينة
3 -
الكوفة
4 -
الشام
5 ـ المصحف الإمام الذي كتبه عثمان أمسكه عنده لنفسه
(1)
البخاري: (6/ 183) حديث: (4987)، سنن الترمذي:(4/ 347)، تحقيق أحمد شاكر وآخرون، طبعة دار التراث العربي، بيروت، النسائي: السنن الكبرى: (6/ 7).
(2)
-والقول في عددها قيل فيه أقوال أخر، وهذه أشهرها وأبرزها.
القول الثاني: أنها سبعة نسخ
وزادة على القول الأول نسخة إلى كل من:
1 -
اليمن
2 -
البحرين
3 -
البصرة
غير المصحف الإمام
القول الثالث: أنها ستة نسخ
فوجه نسخة إلى كل من:
1 -
مكة
2 -
الشام
3 -
الكوفة
4 -
البصرة
5 -
نسخة أبقاها بالمدينة، وهو ما يسميه البعض بالمصحف (المدني العام)
6 -
نسخة أمسكها عنده خاصة لنفسه، وهذه النسخة هي: المصحف الإمام الذي كتبه، وهو ما يسميه البعض بالمصحف (المدني الخاص) أي خاص بعثمان- رضي الله عنه.
إمامة المصحف الإمام
وإذا كان "الإمام" هو أصلٌ لكل هذه المصاحف فيجب القول بأنه لا اختلاف بينها لأنه الحكم وأنها صورة لنسخة واحدة
(1)
، ويكون "الإمام" هو المرجع الأول في الدولة، ترجع إليه كل المصاحف وهو الحاكم عليها.
(2)
خامسًا: وصف المصاحف العثمانية
ومن أشهر ما قيل في وصف ما كتبت عليه المصاحف العثمانية:
قيل إنها: " كانت كلها مكتوبة على الورق (الكاغد) إلا المصحف الذي خص به نفسه
فقد قيل: إنه على رق الغزال ".
(3)
وهو قول يحتاج إلى تحقيق، لأنه لا مستند له.
(4)
(1)
يستثنى من ذلك الكلمات التي لا يمكن أن تقرأ بجميع الأوجه برسم واحد مثل وصى، وأوصى، وقد سبق ذكر ذلك مرارًا في طيات البحث.
(2)
- المعجزة الكبرى محمد أبو زهرة: (ص: 30). بتصرف
(3)
سمير الطالبين على محمد الضباع: (ص: 16). سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين" للشيخ علي بن محمد الضبَّاع (ت: 1380 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى بلال، نشر: دار الفضيلة، ط، 1434 هـ
(4)
في حدود علم الباحث.
سادسًا: أشهر أسماء مصاحف الأمصار عند أهل الرسم
والمصاحف المدنية والمكية تسمي بالمصاحف الحجازية عند أهل الرسم، والكوفي والبصري هما المرادان بالمصاحف العراقية عند أهل الرسم أيضًا والسادس هو المصحف الشامي.
(1)
وكلمة الرسم القرآني إنما تطلق على طريقة الكتابة القرآنية التي تناولها كَتَبَتُ المصحفِ الإمام، وقد غاير الرسمُ القرآني المخطوط في المصحفِ الإمام الذي نسخت منه المصاحف العثمانية بعض أصول الرسم الإملائي القياسي في بعض الكلمات لما اقتضته القواعد الإملائية وليس بمتطابق مع اللفظ المنطوق.
وإنما تعود هذه التسمية- الرسم القرآني-، أو- العثماني- إلى المصاحف التي نسخها عثمان، وبعث بها إلى الأمصار، وقد كتبت تلك المصاحف بطريقةٌ خاصّة مجردة من النقط والشكل بحيث يحتمل رسمها كل القراءات القرآنية المتواترة التي استقرت في العرضة الأخيرة ولم تنسخ تلاوتها.
وقد نسبت تلك التسمية إلى عثمان لأنه هو الذي أمر بنقل هذا الرسم ونسخه في المصاحف التي استنسخها عن المصحف الإمام وبعث بها مع القراء إلى الأمصار.
سابعًا: أبرز التقريرات في عدد المصاحف العثمانية
التقرير الأول:
قال أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله:
أكثر العلماء على أنها كانت أربعة، أرسل واحدًا منها للكوفة، وآخر للبصرة، وآخر للشام، وترك واحدًا عنده.
وقال ابن أبي داود:
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: لما كتب عثمان المصاحف حين، كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.
والراجح أنها ستة، أرسلت أربعة منها إلى مكة، والشام والكوفة، والبصرة، وأبقي واحد منها بالمدينة، ويسمى: المدني العام، وأمسك عثمان واحدًا منها لنفسه، ويسمى المدني الخاص، أو المصحف الإمام
(2)
.
(1)
- جامع البيان في معرفة رسم القرآن على إسماعيل السيد هنداوي: (ص: 21)(دار الفرقان -الرياض، 1410 هـ).
(2)
- يُنظر: الإتقان للسيوطي: (1/ 198)، كتاب المصاحف لابن أي داود:(1/ 241 - 242).
التقرير الثاني:
قال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
أُختُلف في عدة المصاحف التي أَرسلَ بها عثمان إلى الآفاق، المشهور أنها خمسة وأخرج ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات قال: أرسلَ عثمان أربعة مصاحف، ثم ذكر السيوطي قول ابن أبي داود في " كتاب المصاحف" سالف الذكر.
(1)
ثامنًا: القول الراجح في عدد المصاحف
وقد ذكرت أقوال أخر غير هذه الأقوال، فقيل أنها أربعة، وقيل إنها ثمانية، وبذكر هذين القولين تصبح الأقوال الواردة في عدد النسخ التي كتبها عثمان وبعث بها إلى الأمصار خمسة أقوال، ولعل أرجح هذه الأقوال وأقواها وأولاها بالقبول أنها ستة.
ويميل جمهور الباحثين إلى الأخذ بالرأي القائل بأن المصاحف كانت ستة،.
وهو القول الراجح والمشهور عند علماء القراءات، وكذلك عليه الأكثرون.
وهذه النسخ هي:
1 -
المصحف الإمام (المدني الخاص)
2 -
المصحف المدني (العام)
3 -
المصحف الشامي
4 -
المصحف الكوفي
5 -
المصحف البصري
6 -
المصحف المكي وقد اختلف فيه.
تاسعًا: المصاحف التي عليها مدار خلاف العدد
كما أن هناك إجماع من المؤرخين القدامى والمحدثين على أن أربعة مصاحف اختصت بها المدينة ودمشق والكوفة والبصرة، وأن هناك خلاف على مصاحف اليمن والبحرين ومكة ومصر.
المطلب الثاني: طريقة عثمان رضي الله عنه في إنفاذ المصاحف وبعثها إلى الأمصار وتعين القراء
.
بعد انتهاء عمل اللجنة المكلفة بالجمع وقيامها بنسخ الصحف العثمانية من الصحف البكرية وكتابتها، أمر الخليفة الراشد عثمان- رضي الله عنه بكتابة نسخ منها وعزم على بعثها إلى
(1)
- الإتقان جلال الدين السيوطي: (1/ 132)(الكتب العلمية - بيروت ط 1415. 3 هـ).
الأمصار، فعزم رضي الله عنه على الجمع بين النسخ لما في السطور ونقله من السطور إلى الصدور، فاجتمع بذلك أمران:
الأمر الأول: نسخ المكتوب في السطور
الأمر الثاني: نقل المكتوب في السطور بعد النسخ إلى الصدور، وكان ذلك بإرسال القراء الكبار مع المصاحف المنسوخة عن المصحف الإمام.
فقد بعث عثمان- رضي الله عنه مع كل نسخة من تلك النسخ المنسوخة قارئًا متقنًا يقرئ من أرسل إليهم على أن توافق قراءته القراءة التي في مصحفه الذي أرسل به، فبعث زيد بن ثابت (ت: 45 هـ) رضي الله عنه وأمره أن يقرئ بالمدني، وبعث عَبْدَ اللهِ بْن السَّائِبِ بْن أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيّ الْعَائِذِيّ الْقَارِئ (ت: 63 هـ)
(1)
رضي الله عنه وأمره أن يقرئ بالمكي، وبعث المغيرة بن أبي شهاب عبد الله بن عمرو بن المغيرة بن ربيعة المخزومي (ت: 91 هـ) رحمه الله وأمره أن يقرئ بالشامي وبعث أبا عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي رحمه الله (ت: 74 هـ) وأمره أن يقرئ بالكوفي، وبعث عامر بن عبد القيس التميمي العنبري البصري-رحمه الله
(2)
وأمره أن يقرئ بالبصري، فجمع-رضي الله عنه بذلك بين الموافق لما كُتِبَ في السطور لما هو محفوظ في الصدور، وذلك لأن المعول عليه الأول في تلقي القرآن هو الأخذ بالرواية والتلقي والمشافهة لا على المكتوب في المصاحف فحسب، فتلقى عنهم أهل الأمصار وتعلموا منهم حتى أضحى منهم أئمة أعلام يُتلقى عنهم القرآن، وأصبحت تلك المصاحف تنسب لقراء
تلك الأمصار لما اشتهروا به من الضبط والإتقان لتلك القراءة التي أرسل بها القارئ حتى زماننا الحاضر، فكان فِعْلُ عثمان- رضي الله عنه ببعث المصاحف إلى الأمصار مع القراء لا يُقال في مثله إلا أنه من إرهاصات تحقق وعد رب البريات الوارد في قوله جل في علاه:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9)، وهذا من التمهيد لحفظه إلى الأبد، إلى أن يُرفع في آخر الزمان.
وفي نحو ذلك يقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله في مناهل العرفان:
وبهذا يُعرف كيفية انتشار هذه المصاحف لأن الاعتماد في نقل القرآن على التلقي من صدور الرجال ثقةً عن ثقةٍ وإمامًا عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك اختار عثمان حفاظًا يثق بهم وانفذهم إلى الأقطار الإسلامية واعتبر هذه المصاحف أصولاً ثواني - ثانوي- مبالغة في
(1)
- مات في زمن عبد الله بن الزبير
(2)
تُوُفِّيَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه.
الأمر، وتوثيقًا للقرآن ولجمع كلمة المسلمين فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه مع من يوافق قراءته في أكثر الأغلب.
(1)
ويقول رحمه الله في مناهله:
بعد أن تم نسخ المصاحف العثمانية، أمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي الله عنه بإرسالها إلى الأقطار الإسلامية الشهيرة، وأرسل مع كل مصحف مقرئًا من الذين توافق قراءته في أغلبه
قراءة أهل ذلك القطر، وذلك لأن التلقي أساس في قراءة القرآن، وأمر أن يحرق كل ما عداها من الصحف أو المصاحف الشخصية الموجودة لدى الصحابة مما تخالفها، ليستأصل بذلك سبب الخلاف والنزاع بين المسلمين في قراءة كتاب الله، فاستجاب لذلك الصحابة- رضي الله عنه، فجمعت المصاحف والصحف وحرقت أو غسلت بالماء
(2)
فاستجاب الصحابة جميعًا- رضي الله عنهم، وبذلك يكونوا قد "اجتمعوا جميعًا على المصاحف العثمانية، حتى عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه، الذي نقل عنه أنه أنكر أولًا مصاحف عثمان، وأنه أبى أن يحرق مصحفه، رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة، حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية، واجتماع الأمة عليها، وتوحيد الكلمة بها".
(3)
مصير الصحف البكرية بعد الجمع العثماني
بعد أن بعث الخليفة الراشد عثمان- رضي الله عنه بالمصاحف المنسوخة إلى الأمصار أمر أن ترد الصحف البكرية إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر- رضي الله عنهما وأمر بتحريق كل الصحف المنتشرة في الأقطار حسمًا لمادة الخلاف والنزاع، وقد أخرج البخاري في فضائل القرآن من- جامعه الصحيح- هذا الخبر- فقال-رحمه الله:
"حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحفِ ردَّ عثمانُ الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
(4)
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 330).
(2)
- مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 259، 261. بتصرف يسير.
(3)
- المرجع السابق: (1/ 261).
(4)
البخاري: فضائل القرآن، رقم:4604.
المطلب الثالث: مواقف الصحابة رضي الله عنهم من المصاحف العثمانية
الأمر بتحريق الصحف في الأمصار:
لما انتهى الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه من نسخ وكتابة الصحف العثمانية أمر ببعثها ونشرها في الأمصار، وكان ذلك وفق ما ثبت في العرضة الأخيرة، وأمر بترك ما سوى ذلك، ثم أمر الناس أن يحرقوا ما في أيديهم من صحف وأن يعتمدوا الصحف المرسلة إليهم، وكان ذلك الأمر بمثابة أمر وقرار من أمير المؤمنين علي أهل الأمصار امتثاله والإذعان له والعمل بمقتضاه. وقد لاقى هذا الأمر تأييد الصحابة واستجابتهم، فقاموا بتحريق الصحف التي بين أيدهم، وأما ما كان من إنكار عبد الله بن مسعود فإنه كان في أول الأمر فحسب و لم يلبث أن ثاب ورجع وأقر فعل
عثمان؛ وما أجمع عليه أمر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين - وتأييدهم لفعله ورضاهم عنه وثنائهم عليه، ولزم أمر جماعة المسلمين.
"فلم يُنقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل الخليفة عثمان بن عفان، إلا ما روي من معارضة عبد الله بن مسعود، ولم تكن معارضته بسبب حصول تقصير في الجمع أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة نسخ المصاحف، ولهذا قال: "أُعزل عن نسخ المصاحف وتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صُلب رجلٍ كافرٍ".
(1)
وعن تراجع ابن مسعود-رضي الله عنه يقول الحافظ ابن كثير- رحمه لله-:
روي عن عبدالله بن مسعود أنه غضب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلَّم في تقدُّم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، فكتب إليه عثمان بن عفان-رضي الله عنه يدعوه إلى اتِّباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب عبدالله بن مسعود، وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين-.
(2)
ومِمَّا يدل على أن ابن مسعودٍ- رضى الله عنه- قد رجع إلى رأي الجماعة أن قراءته قد رواها عاصم وحمزة والكسائي
(3)
، وقراءة هؤلاء الأئمة موافقة للمصاحف العثمانية كما هو معلوم.
وفي نحو ذلك يقول أبو محمد بن حزم الأندلسي (ت: 456 هـ) رحمه الله:
وأما قولُهم إن مصحف عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- خلاف مصحفنا فباطلٌ وكذبٌ وإفكٌ. مصحف عبد الله بن مسعود إنَّما فيه قراءته بلا شكٍّ، وقراءتُه هي قراءة عاصمٍ المشهورة عند جميع
(1)
- تفسير القرطبي: (1/ 52).
(2)
-البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 228). وقد سبق تخريجه. بتصرف يسير.
(3)
يُنظر: مبحث الحفاظ من الصحابة، وهو المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول
أهل الإسلام في شرق الأرض وغربِها، نقرأ بِها كما ذكرنا، كما نقرأ بغيرها مما صحَّ أنه كل منَزلٌ من عند الله تعالى.
(1)
وقد عقد أبو بكر ابن أبي داود السجستاني (ت: 316 هـ) رحمه الله في كتاب "المصاحف" بابًا أسماه:
"باب رضاء عبد اللّه بن مسعودٍ لجمع عثمان-رضي الله عنه المصاحف"، وقد روى بسنده عن فلفلة الجعفيّ قال: فزعت فيمن فزع إلى عبد اللّه في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجلٌ من القوم: إنّا لم نأتك زائرين، ولكنّا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: (إنّ القرآن أنزل على
نبيّكم من سبعة أبوابٍ على سبعة أحرفٍ -أو حروفٍ-، وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل- من بابٍ واحدٍ على حرفٍ واحدٍ، معناهما واحدٌ.
(2)
وفي فعل عثمان يقول الحافظ ابن كثير (ت: 774 هـ) - رحمه لله-:
قام عثمان بن عفان بإحراق المصاحف التي وقع فيها الاختلاف، وأبقى لهم المتفَق عليه، كما ثبت في العَرْضة الأخيرة.
(3)
و في ذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (ت: 852 هـ) رحمه الله أيضًا:
وبعد أن أنفذ عثمان بن عفان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يحرق، وبعث إلى أهل الأمصار إني قد صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم.
وعن إجماع الصحابة ورضاهم عن فعل عثمان يقول النيسابوري-رحمه الله في غرائب القرآن ورغائب الفرقان:
وقد رضي الصحابة ما صنع عثمان وأجمعوا على سلامته وصحته، وقال زيد بن ثابت:" فرأيت أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".
(4)
ومما يدلل على إجماع الصحابة كذلك قول علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه:
لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا، فَوَ اَللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا (جميعًا)، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِك، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا. قُلْنَا: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: نَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اِخْتِلَافٌ. قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْت.
وقال- رضي الله عنه أيضًا: لَو لَم يَصْنَعْه عُثْمَان لَصَنْعَتُه
(5)
(1)
- الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 212).
(2)
-المصاحف: (ص: 82)
(3)
- البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 178).
(4)
- غرائب القرآن ورغائب الفرقان، النيسابوري:(1/ 27).
(5)
المصاحف،؛ لابن أبي داود صـ 96.
وقال رضي الله عنه أيضًا-: "لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان
(1)
وعن إعجاب الناس بفعل عثمان ورضاهم عنه يروي أبو بكر بن أبي داود السجستاني في كتاب المصاحف عن مصعب بن سعد أنه قال:
"أدركت الناس متوافرين حين حرَّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك وقال: لم يُنكر ذلك منهم أحد".
(2)
ولقد بلغ أهلَ الأمصارِ ما فعل عثمانُ- رضي الله عنه فتلقوا تلك الصحف بالقبول والرضا والثناء الحسن، ولاسيما وأنهم قد علموا بإجماع الصحابة-رضي الله عنه وقبولهم لها وثنائهم على هذا العمل العظيم.
وهذه مشاهد ومواقف وبراهين تبين موقف الصحابة- رضي الله عنهم ومواقف التابعين- رحمهم الله-كذلك- وتأييدهم بوضوح وجلاء لفعل عثمان-رضي الله عنه.
المطلب الرابع: الشبهات الواردة حول الجمع العثماني ودحضها
ما فتئ وما برح وما انفك أعداء الدين ومبغضوا الْمِلَّةِ على تنوع مذاهبهم ومشاربهم من محاولة الطعن والتشكيك في كتاب الله تعالى على مر العصور والأزمان وذلك كمدخل وذريعة للطعن في الإسلام ولتوهين وإضعاف ثقة المسلمين في دينهم وفي كتاب ربهم، ومن جملة تلك المطاعن الباطلة مطاعنهم في الصحف العثمانية ورسمها مستندين في ذلك إلى اعتراضات باطلة هي أوهن من بيت العنكبوت الذي جاء وصفه في قوله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت: 41).
وقد تزعم هذا المطاعن ثلة من قساوسة المستشرقين الذين جمعوا بين ميداني الفكر والثقافة، وميدان العمل والتربية، فالميدان الأول يبحث فيه المستشرقون، والثاني هو ميدان عمل المنصرين؛ فدور الاستشراق يقوم على تقديم الشبهات والترهات والخرفات والأوهام، ودور
التنصير يقوم على نشرها بكل وسيلة ممكنة ومتاحة، ظاهرة كانت أم خفية؛ والعمل بينهما مشترك، بل إن منهم من يعمل في المجالين في آن واحد، ذلك لأن أهدافهم ومقاصدهم ومراميهم واحدة كما قال ربنا في وصفهم ووصف أمثالهم:(تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)(البقرة: 118)
(1)
- تفسير القرطبي: (ص: 54) دار الكتب المصرية، ط 3، 1967 م.
(2)
-المصاحف لابن أبي داود: (ص: 19).
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
"أي: أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو".
(1)
وهؤلاء جميعًا لاشك يدخلون في الآية ضمنًا، لتشابه قلوبهم في الحقد على الإسلام وأهله ولاجتماعهم وتواطؤهم على الطعن في كتاب الله تعالى.
وممن تزعم هذا الأمر كذلك شرذمة من الزنادقة والملحدين الذين يرون أن القرآن مليء باللحن والتحريف والتغير والتبديل.
وممن تبع هذه الشرذمة على هذه المطاعن كذلك بعض طوائف الغلاة المبتدعين، وهم جميعًا يريدون بذلك حجب ضوء الشمس بأيديهم حتى لا تشرق على الدنيا، وأنى لهم ذلك وقد وصف الله تعالى هؤلاء وأمثالهم بقوله:(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(الصف: 8)، وبقوله سبحانه:(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة: 32)، فـ "قوله:(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) في إضافةِ النُّورِ إلى
اسمِ الجلالةِ بقولِه: (نُورَ اللَّهِ) إشارةٌ إلى أنَّ مُحاولةَ إطفائِه عَبَثٌ، وأنَّ أصحابَ تِلك المحاولةِ لا يَبلُغون مُرادَهم".
(2)
و (نُورَ اللَّهِ) وهو ما بعث اللهُ تعالى به رسولَه من الهدى ودين الحق الذي وعد بإظهاره على الدين كله.
فهؤلاء: حالهم كـ" حالِ مَن يُريدُ أنْ يَنْفُخَ في نُورٍ عَظيمٍ مُنبَثٍّ في الآفاقِ، يُريدُ اللهُ أنْ يَزيدَه ويُبلِغَه الغايةَ القُصْوى في الإشراقِ أو الإضاءةِ؛ ليُطْفئَه بنَفخِه ويَطْمِسَه "
(3)
وفي قوله: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) وقوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) وعدٌ من الله تعالى متحقق لا يتخلف أبدًا بإعلاء دينه، وإظهار كلمته، وإتمام هذا الحقّ الذي بعث به سبحانه رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقد توعدهم الله تعالى جميعًا فقال فيهم وفي أمثالهم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(البقرة: 79)، والآية نزلت في أهل الكتاب
(4)
.
(1)
- تفسير ابن كثير: (1/ 149).
(2)
- تفسير ابن عاشور: (172/ 10).
(3)
- الكشاف: (2/ 265)، تفسير ابن عاشور:(171/ 10).
(4)
- قاله ابن عباس: يُنظر: خلق أفعال العباد للبخاري: (ص: 54)، قال مقبل بن هادى الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول - بتحقيقه - (ص: 17) - الطبعة الرابعة - الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبدالرحمن بن علقمة وقد وثقه النسائي وابن حبان والعجلي وقال ابن شاهين قال ابن مهدي كان من الأثبات الثقات ا. هـ. تهذيب التهذيب.
فهم" يريدون ليبطلوا الحق الذي بعث الله به محمدًا-صلى الله عليه وسلم
…
وهو "نور القرآن"
…
والله مظهر دينه، وناصر رسوله، ولو كره الكافرون بالله. ".
(1)
فـ "النُّورُ الْقُرْآنُ، أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوا الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَكْذِيبًا".
(2)
ولا شك في أنها تشمل كل من اتصف بوصف أهل الكتاب وفعل فعلهم، وهؤلاء الذي طعنوا في كتاب الله ممن فعل فعلًا مشابهًا لفعلهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 725 هـ) رحمه الله لما ذكر هذه الآيات:
"فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة، على ما أصله من البدع الباطلة
…
ومتناول لمن كتابًا بيده مخالفًا لكتاب الله لينال به دنيا وقال هذا من عند الله".
(3)
وقال سبحانه وتعالى: (وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران: 78).
يقول الواحدي (ت: 468 هـ) رحمه الله في" الوجيز في تفسير الكتاب العزيز":
(وإنَّ منهم) أَيْ: من اليهود (لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب) يحرِّفونه بالتَّغيير والتَّبديل والمعنى: يلوون ألسنتهم عن سنن الصَّواب بما يأتونه به من عند أنفسهم (لتحسبوه) أَيْ: لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به (من الكتاب).
(4)
وهذا الوصف الذي نزل في اليهود يشمل كل من تعرض لكتاب الله بالطعن والقاء الشبهات يريد بذلك تبديله وتغييره وتحريفه، وهؤلاء لاشك ينطبق عليهم تمامًا ما وصف الله به اليهود في الآية. وأوجه ما يقُال في ذلك من أوجه الشبه بين هؤلاء وهؤلاء: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وهذه الاعتراضات الهاوية إما أن ترجع إلى روايات مكذوبة وباطلة سندًا ومتنًا، وإما إلى فهم عقيم يدل على عقل سقيم، وقد قيض الله لهذه الشرذمة سادة كرامًا وأئمة أعلامًا من فضلاء ونبلاء علماء الإسلام، فقاموا بواجبهم تجاه كتاب ربهم خير قيام، فبروا نبالهم وأحكموا نصلهم ورموا
بها في نحورهم فأصابوا منهم كل مقتل، فأصابت جروحهم لتثعب دمًا عفنًا، وأخرجت منها قيح
(1)
- يُنظر: تفسير الطبري: (360/ 23). بتصرف يسير.
(2)
قَالَه الْكَلْبِيُّ يُنظر: تفسير البغوي: (4/ 39).
(3)
- تعارض العقل والنفل: (1/ 45).
(4)
- الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: (1/ 94).
صديدهم، فتعفنت من جراء ذلك أجساد بنات أفكارهم، لتأكلها السباع والوحوش الضارية من أمثالهم ومن بني جلدتهم، فهي كالْمَيْتَةِ وَالْدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، والتي هي من جنس الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وذلك لأنها ممَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فتُلقى بعد ذلك ولا يتناولها إلا السَّبُعُ الضاري والوحش والبهيم الأعجم الذي لا يعقل ولا يعي فحسب، وهي مما لا يحل لمسلم عاقل تناوله أبدًا، وقد خاطب الله أهل الإسلام بذلك فقال جل في علاه:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ)(المائدة من آية: 3)، وهذه المحرمات في الآية "حسية حقيقية"، وتلك التي أرادوها وأوردوها محرمات "معنوية تشبيهية"، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد أحسن علماء الإسلام وأجادوا وأفادوا في تفنيد هذه الشبهات في مصنفاتهم التي خصوا بعضها لبيان غريب القرآن وكشف مشكله، كما تعرض بعض المفسرين لكثير من موارد سوء الفهم لبعض آي القرآن الكريم، فبينوا معانيها ووضحوا مقاصدها ومراميها.
ومن هؤلاء ابن قتيبة الدينوري (ت: 276 هـ) الذي قد عقد في "تأويل مشكل القرآن" بابًا للرَّد علي هؤلاء وأمثالهم وعنونه بـ "باب ما ادّعي على القرآن من اللَّحْن " قال فيه:
"وقد اعترض كتابَ الله بالطَّعن ملحدون ولَغَوْا فيه وهجروا، واتّبعوا (مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران من آية: 7)، بأفهام كليلة، وأبصار عليلةٍ، ونظرٍ مَدْخُول؛ فحرَّفوا الكلامَ عن مواضعه، وعدلوه عن سُبُله. ثم قَضَوْا عليه بالتناقُض، والاسحالة، واللَّحْن، وفساد النَّظْم، والاختلاف ".
(1)
وكذلك قد رد الباقلانيّ على مطاعنهم وفندها ورد سهامهم في نحورهم في كتابه الشهير "الانتصار للقرآن"؛ فوضع بابًا للرد على هؤلاء وأمثالهم وعنونه
بـ "باب الكلام عليهم فيما طعنوا على القُرآن، ونحلوه من اللحْن ".
كما كتب الكثير من علماء الإسلام وردوا على تلك الشبهات والافتراءات منهم أبو بكر ابن الأنباري- (ت: 328 هـ) -، في كتابه:"الرد على من خالف مصحف عثمان"، وأبو عمرو الداني- (ت: 444 هـ) -، في "المقنع"، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) في "مجموع الفتاوى"، والسيوطي (ت: 911 هـ) في "الدر المنثور"، وفي "الإتقان" كذلك، ومن الكتابات الموفقة
(1)
يُنظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري: (ص: 4).
والمسددة للمعاصرين ما سطره يراع الشيخ عبد الفتاح القاضي في رده العلمي المفصل المؤصل على: (المستشرق اليهودي: جولدزيهر): الذي حاول الطعن من كتاب الله، فرد الله كيده في نحره
على يد الشيخ: " عبد الفتاح القاضي" رحمه الله، في كتابه القيم:(القراءات في نظر المستشرقين والملحدين)، وغيرهم من علماء الإسلام.
يقولُ الشيخُ عبد الفتاح القاضي (ت: 1403 هـ) رحمه الله معتذرًا عمن نقل هذه الشبهات من العلماء عن غير قصد:
ولقد "ذكر بعض العلماء هذه الروايات في كتبهم بحسن قصدٍ، من غير تحرّ ولا دقة؛ فاتخذها أعداءُ الإسلام من المارقين والمستشرقين ذريعة للطعن في الإسلام، وفي القرآن، ولتوهين ثقة المسلمين بكتاب ربهم
(1)
وإن من أهم المهمّات وأوجب الواجبات المتحتمات على طلاب العلم عمومًا وعلى المتخصصين في علوم القرآن خصوصًا أن يكونوا على دراية وإلمام تام بهذه الشبه وبالرد الكافي الوافي الذي تُكشف به الشبهاتُ وتُرفع به الإشكالاتُ وتزال به العقباتُ، وبذلك تزول عندهم أي شبه تُعرض عليهم ويستطيعوا دحضها وردها، ويتمكنوا بذلك من الذب عن حياض الدين وحمى جناب كتاب رب العالمين
وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة الدينوري (ت: 276 هـ) رحمه الله في محض كلامه عن شُبَه الطاعنين في لغة القرآن العظيم -:
"
…
وأدْلَوْا في ذلك بعلل ربَّما أمالت الضعيف الغُمْر، والحدَث الغِرّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدَحت بالشّكوك في الصّدور
…
".
(2)
وسيسوق الباحث هنا جملة من تلك الشبه ويعقبها بالرد الكافي الوافي، مراعيًا الاختصار المقرون بإيضاح الحق مع الانتصار.
من أبرز الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني ما يلي:
الشبهة الأولى: حول نسبتهم لعثمان قوله: "في القرآن لحن وستقيمه العرب بألسنتها
".
مضمون الشبهة الأولى:
ومن الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني، نسبتهم لعثمان قوله:" في القرآن لحن وستقيمه العرب بألسنتها".
(1)
- نقله الزرقاني عن القاضي في مناهل العرفان: (1/ 186).
(2)
- يُنظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري: (ص: 4).
فقد اعترضوا على تلك الصحف وعلى توقيف الرسم العثماني الذي أُثبت فيها وأجمع عليه الصحابة ونال ثقتهم، وأن عثمان- رضي الله عنه الذي أمر بجمعها قد أقر بلسانه بأن في القرآن لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها.
ومن حججهم في ذلك ما أخرجه ابن أبي داود في كتاب" المصاحف":
فقد روى بسنده عن يحيى بن يعمر العدواني البصري، قال: قال عثمان-رضي الله عنه: " في القرآن لحن وستقيمه العرب بألسنتها".
(1)
وهذا الأثر قد رواه عن عثمان رواة أربعة، وهم:
1 -
عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي
2 -
عكرمة الطائي
3 -
قتادة بن دعامة السدوسي.
4 -
يحيى بن يعمر العدواني البصري.
وقد رُوِىَ هذا لأثرُ بألفاظ مختلفة ومتقاربة المعنى والفحوى.
وروايات هذا الأثر ينقلها السيوطي عن ابن أبي داود كما في كتابه" المصاحف" فيقول في الدر المنثور:
الرواية الأولى: عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي
قال: "أخرج ابن أبي داود، عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر القرشي قال:
لمّا فرغ من المصحف اُتي به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها.
قال ابن أبي داود:
وهذا عندي يعني بلغتها فينا وإلاّ فلو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعًا لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرؤونه.
الرواية الثانية: عن عكرمة الطائي
قال: وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة قال: لمّا اُتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئًا من لحن، فقال: لو كان المملي من هُذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.
(2)
(1)
المصاحف لابن أبي داود: (ص: 227).
(2)
يُنظر: ابن أبي داود في " المصاحف "(1/ 235، رقم/ 110)، وسيأتي تخريجه وعزوه بتوسع أكثر بعد قليل.
الرواية الثالثة: عن قتادة بن دعامة السدوسي
قال: وأخرج ابن أبي داود عن قتادة: أنّ عثمان لمّا رفع إليه المصحف قال: إنّ فيه لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها.
الرواية الرابعة: عن يحيى بن يعمر العدواني البصري
قال: وأخرج ابن أبي داود عن يحيى بن يَعمر قال:
قال عثمان: إنّ في القرآن لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها".
(1)
جواب الشبهة الأولى:
وجواب هذه الشبهة يكون من جهات ثلاث:
أما الجهة الأولى: فمن جهة السند
فالسند في هذا الأثر سند منقطع ومضطرب، وهو مرسل كذلك لأن الرواة جميعًا لم يلقوا عثمان ولم يسمعوا منه
1 -
فـ "عبد الأعلى" لم يدرك عثمان ولم يره.
2 -
وعكرمة كذلك لم يسمع من عثمان شيئًا بل ولم يره أيضًا ومات متأخرًا وهو مجهول الحال ومن شدة جهالته قال بعضهم أنه عكرمة مولى ابن عباس، والصواب أنه عكرمة الطائي، ولذا لم يُوقف له على ترجمة
3 -
وأما قتادة فقد رواه عن عثمان كذلك مرسلًا
4 -
ويحي كذلك لم يسمع من عثمان شيئًا بل ولم يره وقد مات قبل سنة تسعين للهجرة.
وبعد الكلام عن الروايات الأربع ناسب الكلام على الرواة الأربعة أنفسهم وأثر كل منهم:
أما الراوي الأول: فـ "عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي"
(2)
وأثر عبد الأعلى رواه ابن الأنباري في " الرد على من خالف مصحف عثمان " كما ذكره السيوطي في " الإتقان ".
(3)
وهو سند ضعيف فيه علل:
العلة الأولى: الانقطاع فإن عبد الأعلى هذا ذكره ابن حجر في الطبقة الخامسة من التابعين وهم الذين لم يثبت لهم السماع من بعض الصحابة فهو من صغار التابعين لا يتسنى له إدراك عثمان-رضي الله عنه-فضلًا عن السماع منه.
(1)
- الدر المنثور: (2: 745).
(2)
- تُنظر ترجمته في " تهذيب التهذيب "(6/ 87) وليس فيها توثيق له من أحد من أهل العلم.
(3)
- يُنظر: الإتقان: (ص/ 1240).
العلة الثانية: أن عبد الأعلى المذكور مقبول يعني حيث يتابع وإلا فلين.
العلة الثالثة: النكارة في المتن.
قال شيخ الاسلام: خبر باطل
(1)
و قال السيوطي في الإتقان: إسناد ضعيف مضطرب منقطع.
(2)
ونقل عن الأنباري قوله: لا تقوم بها حجة لأنها منقطعة غير متصلة
و قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: والصواب أنها موضوعة.
(3)
وأما الراوي الثاني: فـ "عكرمة الطائي"
(4)
قال:
" لما كتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها؛ فإن العرب ستغيرها - أو قال ستعربها بألسنتها - لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف".
(5)
وعكرمة لم يلق عثمان ولم يسمع منه فهي رواية مرسلة ضعيفة كذلك.
وأما الراوي الثالث: فـ "قتادة بن دعامة السدوسي"
ولفظ هذا الأثر: " أن عثمان رضي الله عنه لما رفع إليه المصحف قال: إن فيه لحنًا، وستقيمه العرب بألسنتها ".
(6)
وفي السند إليه إبهام بقول أحد الرواة: حدثنا أصحابنا.
يقول السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
"نقول الرواية ضعيفة ولا تصح عن عثمان فإن إسنادها ضعيف مضطرب منقطع رواه قتادة عن عثمان مرسلًا ورواه نصر بن عاصم عنه مسندًا ولكن فيه عبد الله بن فطيمه وهو مجهول ".
(7)
وأما الراوي الرابع: فـ"يحيى بن يعمر العدواني البصري ":
(8)
(1)
- وقد نقله عن شيخ الإسلام ابن هشام في شرح شذور الذهب: (ص: 50)
(2)
يُنظر: الإتقان: (ص/ 1240).
(3)
مستفاد من: تحقيق الشيخ سليم بن عيد الهلالي، لكتاب المصاحف لابن أبي داود- نشر مؤسسة غراس للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1427 هجري - 2006 م.
(4)
وقيل هو عكرمة مولى ابن عباس.
(5)
رواه أبو عبيد في " فضائل القرآن "(2/ 103، رقم/ 562)، وابن أبي داود في " المصاحف "(1/ 235، رقم/ 110)، وعزاه السيوطي في " الإتقان " (ص/ 1239) لابن الأنباري في كتاب:" الرد على من خالف مصحف عثمان "، ولابن أشتة في كتاب:" المصاحف "، وهما كتابان مفقودان.
(6)
رواه ابن أبي داود في " المصاحف "(1/ 227).
(7)
- الاتقان: (2/ 270).
(8)
- تُنظر ترجمته في " تهذيب التهذيب "(11/ 305).
ورواية يحي عن عثمان رواية مرسلة، إذ إن يحيى لم يدرك عثمان ولم يره.
(1)
وقد حكم البخاري عليه بالانقطاع كما في " التاريخ الكبير "
(2)
ثم إن في سنده اضطرابًا، فمرة يروى عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن فطيمة أو ابن أبي فطيمة، وتارة بالعكس، فيروى عن ابن فطيمة عن يحيى بن يعمر، كما في " تاريخ المدينة "
(3)
.
وقتادة يروي مرة عن نصر بن عاصم عن يحيى، وتارة يروي عن يحيى مباشرة ولا يذكر نصرًا، وقد يكون بينه وبين يحيى راويان كما في الموضع السابق من تاريخ المدينة، وقد نبه على هذا الاختلاف الباقلاني في " الانتصار للقرآن ".
(4)
والاضطراب واضح في هذا السند كما مر معنا آنفًا.
وأسانيد تلك الآثار كلها لا تصح ولا تصلح للاحتجاج لضعفها واضطرابها ولما فيها من إرسال وإيهام.
أما الجهة الثانية: فمن جهة المتن
فهذا المتن ظاهره البطلان، ويستحيل أن يجتمع فحول العربية من أعرب العرب الأقحاح من قريش ومن شاركهم في جمعه من المدنيين كأبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم على لحن كهذا أبدًا ثم يتركه عثمان ويقول:"ستقيمه العرب بألسنتها" بل ويقوم بنشره وبعثه في الأمصار، فهل يُقبل أو يُعقل مثل هذا أبدًا؟.
ولجنة جمع الصحف العثمانية الذين كتبوا المصاحف ونسخوها من الصحف البكرية كانوا ممن تمكن من اللسان العربي، ولاسيما الثلاثة القرشيون فكتبوا تلك الصحف على أصول اللسان العربي وقواعده معتنين بأوجه القراءات، ولم يخالفوا القواعد والأصول التي وُضِعت لتسير عليها لجنة الجمع وتعمل في نطاقها، فقامت تلك اللجنة بواجبها خير قيام، وقد تلقت الأمة الصحف العثمانية بالقبول، وهل بعد ذلك ترى خطأ أو لحنًا وتنتظر من العرب أن تقيمه بلسانها، إذا فما هو دورهم؟ وما هي مهمتهم؟.
ثم نقول إن لم يكن هؤلاء القرشيُّون المكيون ومن معهم من المدنيين من الصَّحابة هم من أفصح العرب فمن إذًا يكون؟!
(1)
- والأثر رواه ابن أبي داود في " المصاحف "(1/ 233)، وابن أشتة في " المصاحف " كما ذكر ذلك السيوطي في " الإتقان "(ص/ 1240)
(2)
يُنظر: التاريخ الكبير: (5/ 170)
(3)
يُنظر: تاريخ المدينة: (3/ 1013).
(4)
- يُنظر: الانتصار للباقلاني: (2/ 136 - 137).
ويقرر ذلك العلامة اللغوي ابن فارس (ت: 395 هـ) رحمه الله ويجلي ويظهر معرفة الصحابة وتمكنهم من اللغة فيقول:
"ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية: كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز، والمد والقصر، فكتبوا ذوات بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل "الخبء" و"الدفء". و"الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره من العلماء ترك اتباع المصحف من كره.
فحدثني عبد الرحمن بن حمدان عن محمد بن الجهم السمري عن الفراء قال: اتباع المصحف -إذا وجدت له وجهًا من كلام العرب- وقراءة القرآن أحب إلي من خلافه".
(1)
وهذا الخبر المنسوب لعثمان لا يصحّ عنه أبدًا، وهو خبر معلول الإسناد منكر المتن، وقد ردَّه وأنكره جمع من أهل العلم إنكاراً شديدًا، وطعنوا في إسناده، وممن ردَّه وأنكره كل من: أبو بكر بن الأنباري: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن (ت: 328 هـ)، وأبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت: 444 هـ)، ومكيّ بن أبي طالب القيسي القيرواني (ت: 437 هـ)، وشيخ الإسلام
ابن تَيميّة: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحرّاني الدمشقي (ت: 728 هـ)، ومحمد الطَّاهر بن عاشور التونسي (ت: 1393 هـ)، وشهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي- (ت: 1270 هـ) -في تفسيره.
يقول الألوسي- (ت: 1270 هـ) رحمه الله عن هذا الأثر في تفسيره:
وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا،
فقد قال السخاوي: (ت: 902 هـ) رحمه الله:
إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان جعل للناس إمامًا يقتدون به
(2)
، فكيف يرى فيه لحنًا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلًا إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم
(3)
كيف يقيمه غيرهم؟
وقال ابن الأنباري (ت: 328 هـ) رحمه الله، في كتابه: الرد على من خالف مصحف عثمان:
الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك لا تقوم بها حجة، لأنها منقطعة غير متصلة، وما يشهد عقل بأن عثمان وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو
(1)
- الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها ص 18 ط. دار الكتب العلمية.
(2)
- يعني بذلك المصحف الإمام
(3)
- يعني في المكانة والفضل والديانة والتحري للحق ولزومه والعمل به والحرص عليه. الباحث.
الإمام فيتبين فيه خللًا، ويشاهد في خطه زللًا فلا يصلحه! كلا والله ما يتوهم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنه أخر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده.
(1)
وهذا الأثر كما أسلفنا روي بعدة أسانيد وهي كلها ضعيفة ومعلولة ومضطربة وفيها جهالة بعض الرواة، كما أن فيها انقطاع كذلك، وهي كذلك من جهة المتن فيها نكارة، كما أن الرواة قد اضطربوا في ألفاظ هذا الأثر بين (سنقيمه بألستنا) وبين (ستقيمه العرب بألسنتها).
وفي مناقشة وتوجيه أثر عثمان-رضي الله عنه يقول أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في "المقنع":
" فإن سأل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف، قلت: السبب في ذلك عندنا: أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما في المصاحف، ونسخها على صورة واحدة، وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها، مما لا يصحّ ولا يثبت: نظرًا للأُمّة واحتياطًا على أهل الملّة، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة، ومن رسول- الله صلى الله عليه وسلم مسموعة، وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير متمكّن إلا بإعادة الكلمة مرتّين، وفي رسم ذلك كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم: ما لا خفاء به، ففرقها في المصاحف، لذلك: جاءت مثبتة في بعضها، ومحذوفة في بعضها، لكي
تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما سُمعت من-رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار.
" فإن قال قائل: فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة
(2)
مولى ابن عباس عن عثمان- رضي الله عنه: إن المصاحف لما نسخت عُرضت عليه فوجد فيها حروفًا من اللحن فقال: اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها. إذ يدل على خطأ في الرسم؟
قلت: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل، من جهتين:
أحدهما: أنه مع تخليط في إسناده، واضطراب في ألفاظه: مرسل؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئًا، ولا رأياه.
وأيضًا: فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان- رضي الله عنه، لما فيه من الطعن عليه، مع محلّه من الدين، ومكانه من الإسلام، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة، فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأتقياء الأبرار نظرًا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنًا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده
(1)
- تفسير الألوسي- روح المعاني: (1/ 190).
(2)
قيل هو عكرمة الطائي، وهو مجهول لم يُوقف له على ترجمة.
ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحل لأحد أن يعتقده.
فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان رضي الله عنه؟
قلت: وجهه أن يكون عثمان-رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم، إذ كان كثير منه لو تُلي على رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة، وتغيرت ألفاظها، ألا ترى قوله (أو لأاذبحنه) و (لاأوضعوا) و (من نبأي المرسلين) و (سأوريكم) و (الربوا) وشبهه مما زيدت الألف والياء والواو في رسمه، لو تلاه تالٍ لا معرفة له بحقيقة الرسم على صورته في الخط
…
ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله، فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه، مع كون رسم ذلك كذلك جائزًا مستعملًا، فأعلم عثمان-رضي الله عنه إذ وقف على ذلك أن من فاته تمييز ذلك، وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده، سيأخذ ذلك عن العرب، إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم، فيعرِّفونه بحقيقة تلاوته، ويدلّونه على صواب رسمه، فهذا وجهه عندي. والله أعلم.
فإن قيل: فما معنى قول عثمان- رضي الله عنه في آخر هذا الخبر: (لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد هذه الحروف)؟
قلت: معناه: أي توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك، إذ كانت قريش ومَن ولي نَسْخ المصاحف مِن غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة، وسلكوا فيها تلك الطريقة، ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك، فلو أنهما وليتا
من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لَرَسَمَتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجدها في المنطق دون المعاني والوجوه، إذ ذلك هو المعهود عندهما، والذي جرى عليه استعمالها، هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجّة وبالله التوفيق.
(1)
. فما أحسنه من جواب لكن (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(ق: 37)
و
أما الجهة الثالثة: فهي من جهة العقل والرأي والنظر الصحيح
وهذه الشبهة تُرُد كذلك من جهة العقل والرأي والنظر الصحيح السديد من جوانب عدة.
أما الجانب الأول: فهو جانب صحة دين الصحابة وقوة إيمانهم بالله تعالى
وقد مر بنا آنفًا بيان بعض هذا الأمر في كلام أبي عمرو الداني- رحمه الله
ومن تأمل صحة إيمان الصحابة وقوة وسلامة دينهم وسبقهم لكل خير وفضل وبر وترغيبهم فيه، ونفورهم من كل مكروه وشر وتحذيرهم منه، وهم الذين توافرت هممهم على ونقله، وقد بذلوا في ذلك الههم العوالي والمهج الغوالي، كل ذلك يقضي بتعذر رؤيتهم للحن أو خطأ في كتاب الله
(1)
- المقنع، لأبي عمرو الداني:(118 - 119).
ثم لا يصلحونه ولا يقيمونه، بل كيف يقر لهم قرار على لحن رأوه في كتاب ربهم ويقرونه ويسكتوا عنه سكوتًا جماعيًا، بل ويتركونه للأجيال من بعدهم ليقيمونه، كيف يكون ذلك وقد رأينا موقف حذيفة رضي الله عنه وغيرته وركوبه للخليفة ليدرك الأمة قبل أن تختلف في الكتاب اختلاف
اليهود والنصارى، هل بعد هذا الموقف وأمثاله يصح منهم رؤية اللحن في كتاب ربهم والسكوت عنه مع إمكان إنكاره وإصلاحه بلا حرج ولا كلفة وعنت ولا مشقة، وقد مر معنا تكرارًا ومرارًا إجماع الصحابة وإقرارهم لفعل عثمان بل ومشاركتهم فيه كذلك- رضي الله عنهم أجمعين-.
وأما الجانب الثاني: فمن جانب استحالة اجتماع الصحابة على ضلالة على وجه العموم.
فإن الصحابة-رضوان الله عليهم- لن يجتمعوا على ضلالة أبدًا كما أخبر بذلك المعصوم- صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)
(1)
، وهم خير هذه الأمة فكيف يرون اللحن ويقروه مكتوبًا في مصاحفهم ولا يغيرونه، وإن الاجتماع على ضلالة ممتنعًا في حقهم شرعًا، كما هو ممتنع في حقهم عقلًا.
وأما الجانب الثالث: فمن جانب استحالة امتناع ذلك في حق عثمان- رضي الله عنه على وجه الخصوص
وقد تقدم معنا ما جاد به قلم أبي عمرو الداني رحمه الله في كلامه عن عثمان-رضي الله عنه في هذا الصدد، فهل يعقل في حق من حرق المصاحف وجمع الأمة على مصحف إمام ليئد به فتنة ويرفع به نزاعًا ويدفع به شرورًا عن الأمة ويقوم ببعثه ونشره في الأمصار يدع فيها شاردة أو واردة ولا يقوم بإتمام وإتقان هذا الجمع على أكمل الوجوه وأحسنها وأتمها، وقد قال لهم: "إذا اختلفتم
في شيء في شيء فاكتبوه بلسان قريش أي: بحرفها، فبلسانها نزل"، وهل العرب التي ستقيم هذا اللحن من بعده هى وحدها ستقرأ القرآن دون العجم!!؟، وقد رأى بعينيه كثرة دخول العجم في الإسلام إثر الفتوحات الإسلامية التي كثرت في عهده، ولا شك في أن تصديق هذا الخبر مخالف للنظر الصحيح، ومصطدم مع العقل السوي السليم.
وقال ابن الأنباري (ت: 328 هـ) رحمه الله في كتاب " الرد على من خالف مصحف عثمان " في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك:
(2)
لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متصلة، وما يشهد عقل بأن عثمان - وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم - يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبين فيه خللًا، ويشاهد في خطه زللًا فلا يصلحه، كلا والله ما يتوهم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز، ولا يعتقد أنه أخر الخطأ
(1)
- حسن بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة:(3/ 319).
(2)
- وقد سبق ذكر كلام ابن الأنباري مقتضبًا، وهنا يساق بطوله وكماله.
في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه، والوقوف عند حكمه، ومن زعم أن عثمان أراد بقوله أرى فيه لحنًا، أرى في خطه لحنًا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب فقد أبطل ولم يصب؛ لأن الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كَتْبِهِ فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادًا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كَتْبٍ ولا نطقٍ، ومعلوم أنه كان مواصلًا لدرس القرآن متقنًا لألفاظه، موافقًا على ما
رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي، ثم أيد ذلك بما أخرجه أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن مبارك، حدثنا أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري، مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها:(لم يتسن)، وفيها:(لا تبديل للخلق)، وفيها:(فأمهل الكافرين)، قال: فدعا بالدواة فمحا أحد اللامين فكتب لخلق الله، ومحى فأمهل، وكتب فمهل، وكتب لم يتسنه، ألحق فيها الهاء.
قال ابن الأنباري (ت: 328 هـ) رحمه الله:
فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادًا فأمضاه وهو يوقف على ما كتب ويرفع الخلاف إليه الواقع من الناسخين ليحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده انتهى.
قلت: (السيوطي) ويؤيد هذا أيضًا ما أخرجه ابن أشته في المصاحف قال: حدثنا الحسن بن عثمان، أنبأنا الربيع بن بدر، عن سوار بن شبيب قال: سألت ابن الزبير عن المصاحف فقال: قام رجل إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن الناس قد اختلفوا في القرآن! فكان عمر قد هم أن ي على قراءة واحدة، فطعن طعنته التي مات بها، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجل فذكر له، فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة، فجئت بالصحف فعرضناها عليها حتى قومناها، ثم أمر بسائرها فشققت.
فهذا يدل على أنهم ضبطوها وأتقنوها ولم يتركوا فيها ما يحتاج إلى إصلاح ولا تقويم.
(1)
وأما الجانب الرابع: فمن جانب قول عثمان- رضي الله عنه لَمَّا فُرِغ من كتابة المصحف:
"أرى شيئًا مِن لحنٍ ستقيمه العربُ بألسِنتِها"، وقد علَّق الأئمة على ذلك فقالوا:
"لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعًا لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرؤونه".
(2)
وإنَّ هذا لقولٌ قاطعٌ كلَّ قول، يصحُّ فيه المثَل القائل:(قطعَت جَهيزةُ قولَ كلِّ خطيبِ)
(3)
، إذ ليس معقولًا ولا منطقيًّا أن يَرى عثمانُ-رضي الله عنه في القرآن خطأً نحويًّا أو صرفيًّا، فلا
(1)
- نقله عن ابن الأنباري وعلق عليه السيوطي في الإتقان: (ص/ 1241 - 1247).
(2)
الدر المنثور: (2/ 246). بتصرف يسير.
(3)
وهو مثل عربي أصْلُهُ أنَّ قَومًا اجتَمَعوا يَتَشاوَرونَ في صُلحٍ بَينَ حَيّينِ، قَتلَ أحدُهُما مِن الآخَر قتيلًا، ويحاولون إقناعَهم بِقَبولِ الدِّية. وبينما هُم في ذلك جاءَت أمَةٌ اسمُها "جهيزة" فَقَالت: إنَّ القاتلَ قَد ظَفِرَ به بعضُ أولياءِ المقتولِ وقتلوه! فَقَالوا عند ذلك: "قَطَعَتْ جهِيزةُ قولَ كلِّ خَطيبٍ". أي: قد استُغنى عَن الخُطَب. ويُضرَبُ هذا المثل لِمن يَقطعُ على النّاسِ ما هُم فيه بأمرٍ مُهمٍ يأتي به. يُنظر: توضيح شواهد جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: (103). الباحث.
يُصلحه ولا يقوِّمه، بل يُرسله على ما فيه من الخطأ إلى أقطار الدولة الإسلامية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، قائلًا: إنَّ العرب ستقيمه بألسِنتِها؟! وكيف يجوز ذلك؟ وهل من إقامة العرب اللحنَ بألسنتها أن تجعل المرفوع مجرورًا أو منصوبًا؟! وتجعلَ المجرور منصوبًا أو
مرفوعًا؟! وتجعلَ الألف والنون من المثنى، ياءً ونونًا؟! وهل من ذلك أن تغير العرب إعرابَ المفردات؟؟
إنَّ هذا ونحوه، لا يكون، ولا يُظَنُّ ولو في الخيال أن يكُون. ومع ذلك يظل المرء بين يوم وآخر، يسمع قائلًا يقول: إنَّ في القرآن لحنًا، أي: خطأً، كما يَظُن!! ويستدلُّ على ذلك بقول عثمان- رضي الله عنه: أرى في المصحف شيئًا مِن لحن؟!.
(1)
وأما الجانب الخامس: فمن جانب الاضطراب والتناقض الواضح الجلي بين صدر أثر عثمان-رضي الله عنه وعجزه، ففي صدره مدح عمل الكُتَّاب فقال لهم:"أحسنتم وأجملتم! "، وفي عجزه قال لهم:" في القرآن لحن وستقيمه العرب بألسنتها .. "، فكيف به يمدح عملهم أولًا: ثم هو ينقض بعض ما فيه آخرًا فيصف تلك الصحف المنسوخة بأن فيها لحنًا .. !.، وعمومًا هل يعقل أن يقول عثمان إذا رأى في تلك الصحف لحنًا: أحسنتم وأجملتم!؟. ولا شك أن هذه وحدها لشافية كافية.
وإن قدر عثمان وسبقه للإسلام وصدق إيمانه وبذله الأموال وسبقه لكل خير وفضل وبر وموقفه من هذا الجمع موقف الرجال .. كل هذا يؤكد ويبرهن على استحالة صدور ذلك عنه، وقد أثبت
ذلك التناقض البين الواضح بين صدر الكلام وبين عجزه نكارة المتن واضطرابه وأن صدور ذلك عن مثل عثمان أمر محال.
هذا
…
وقد أفرد الشيخ سليم بن عيد الهلالي دراسة لأثر-عثمان- هذا- في صفحات عدة في تحقيقه المتميز لكتاب "المصاحف" لابن أبي داود، وناقشه وتناول روايته وطرقه وقدم دراسة وافية وكافية لسنده ومتنه ونقل وقيد فيه أقول المحققين من أهل العلم، وبين ضعف سنده ونكارة
(1)
يُنظر: فرية اللحن في القرآن، يوسف الصيداوي، مقال عن موقع الألوكة، بتاريخ: 2/ 4/ 1431 هـ.
متنه، وذكر ما فيه من علل وتخبط واضطراب، وقد أجاد وأفاد فجزاه الله خيرًا، ومن أراد التوسع في دراسة هذه الآثار فليراجعها ثم هناك.
(1)
وبهذا ينتهى عرض الشبهة الأولى وجوابها. والحمد لله رب العالمين
الشبهة الثانية: دعوى الخطأ على الكُتَّاب في المصاحف العثمانية
مضمون الشبهة الثانية:
ومن الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني، دعوى الخطأ على الكُتَّاب في المصاحف العثمانية.
فقد ادَّعى بعض الطاعنين على نقل القرآن الكريم أن هذا النقل قد حصل فيه خطأ من الكُتَّاب والقراء عند كتب المصاحف العثمانية، وتعلَّقوا في ذلك بآثارٍ رويت عن بعض الصحابة في ذلك، منها:
الأثر الأول:
عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه أنه سأل
(2)
عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)(النساء من آية: 162). وعن قوله: تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ)(المائدة من آية: 69). وعن قوله: (إنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)(طه من آية: 63)، فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكُتَّاب، أخطأوا في الكتاب.
(3)
.
الأثر الثاني:
عن أَبي عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّه دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها فَقَالَ: جِئْتُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ
كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا. فَقَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ فَقَالَ: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا)، (المؤمنون من آية: 60) أَوِ (الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا) فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لإِحْدَاهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا، أَوِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَتْ: أَيَّتُهُمَا؟ قُلْتُ: (الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا). قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
للاستزادة يُنظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود تحقيق الشيخ الهلالي، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1427 هجري - 2006 م.
(2)
وفي بعض الروايات سألت عائشة عن لحن القرآن، عن قول الله
…
الحديث.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 25)، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب اختلاف ألحان العرب في المصاحف ص 43، وذكره السيوطي في الإتقان (2/ 269)، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين.
كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. أَوْ قَالَتْ: أَشْهَدُ لَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ.
(1)
الأثر الثالث:
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقرأ: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)، (النور من آية: 38) قال: وإنَّما (تستأنسوا) وَهمٌ من الكُتَّاب.
(2)
الأثر الرابع:
عن ابن عباس أنه قرأ: (أَفَلَمْ يتبيَّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا)(النور من آية: 27)، فقيل له: إنَّها في المصحف: (أَفَلَمْ يَيْأَس)، (الرعد من آية: 31). فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.
(3)
.
الأثر الخامس:
عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ)(الإسراء من آية: 23) إنَّما هي (ووصى ربُّك)، التزقت الواو بالصاد.
(4)
الأثر السادس:
عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:(ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياءً)،
(5)
ويقول: خذوا هذا الواو واجعلوها هنا: (والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)
(6)
الأثر السابع:
عن ابن عباس في قوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)(النور من آية: 35)، قال:
هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنَّما هي:(مثل نور المؤمن كمشكاة).
(7)
(1)
رواه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار (7/ 138) ح 24120، (7/ 208) 24591، وفيه أبو خلف مولى بني جُمَحٍ، وهو مجهول. يُنظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/ 366).
(2)
- رواه الطبري في تفسيره (18/ 109 - 110).
(3)
- أخرجه ابن الأنباري، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (2/ 275)، ورواه الطبري أيضًا في التفسير (13/ 154) بنحوه.
(4)
- رواه سعيد بن منصور، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (2/ 275)، وروى نحوه الطبري في التفسير عن الضحاك بن مزاحم (15/ 63).
(5)
والآية في المصحف: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً)، (الأنبياء من آية: 48)
(6)
رواه سعيد بن منصور وغيره، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (2/ 276)، والآية في المصحف:(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)، (آل عمران من آية: 173)
(7)
أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/ 276).
فزعموا أن هذه الآثار دلت على أن كتاب المصاحف قد أخطأوا وجه الصواب في كتابة المصاحف، وانبنى على تلك الأخطاء قراءة القراء بعد ذلك.
ويُجاب عن هذه الشبهة بطريقين:
أولاً: الأجوبة العامة:
فقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث في الجملة بوجوه عامة، منها:
الجواب الأول:
جنح ابن الأنباري وغيره إلى تضعيف هذه الروايات، ومعارضتها بروايات أخرى عن ابن عباس وغيره بثبوت هذه الأحرف في القراءة.
(1)
ويدل على ضعف هذه الروايات كما سبق في الشبهة السابقة إحالة العادة خفاءَ الخطأ في مثل القرآن، الذي توافرت الْهمم على نقله وحفظه، وعدمَ انتباه الصحابة إليه، وتركَه إذا انتبهوا إليه دون تصحيح لِما زُعم فيه من الخطأ.
قال الزمخشري (ت: 538 هـ):
وهذا ونحوه مِمَّا لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتًا بين دفتي الإمام
(2)
، وكان متقلبًا في أيدي أولئك الأعلام
المحتاطين في دين الله، المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصًا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، هذه -والله- فريةٌ ما فيها مريةٌ.
(3)
الجواب الثاني:
ما سبق في ردود الشبهة السابقة من أن الصحابة لم يكتبوا مصحفًا واحدًا، بل كتبوا عدة مصاحف، وأن أحدًا لم يذكر أي المصاحف الذي كان فيه الخطأ، ويبعد اتفاق جميع المصاحف على ذلك الخطأ المزعوم.
(4)
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
فلو كان ذلك خطأً من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف -غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه- بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أُبَيٍّ
(1)
- الإتقان في علوم القرآن (2/ 276).
(2)
الزمخشري يعني بقوله (الإمام) أي المصحف الإمام، وهو مصحف عثمان، وسمي بذلك لقول عثمان- رضي الله عنه: اجتمعوا يا أصحاب محمّد، واكتبوا للنّاس إمامًا. يُنظر: المصاحف لابن أبي داود (29). الباحث.
(3)
تفسير البحر المحيط (5/ 383 - 384).
(4)
- يراجع الرد الثالث على الشبهة السابقة، ويُنظر الإتقان في علوم القرآن (2/ 270).
في ذلك ما يدل على أن الذي في مصحفنا من ذلك صوابٌ غير خطأٍ، مع أن ذلك لو كان خطأً من جهة الخط، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنُوه للأمة على
وجه الصواب، وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً على ما هو به في الخط مرسومًا أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب.
(1)
الجواب الثالث:
إذا سلمنا صحة تلك الروايات، فإننا نردُّها برغم دعوى صحتها، لأنَّها معارضةٌ للقاطع المتواتر من القرآن الكريم، ومعارض القاطع ساقط، لا يلتفت إليه، والقراءة التي تخالف رسم المصحف شاذَّةٌ لا يلتفت إليها، ولا يُعوَّل عليها.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
ومن زعم أن الكاتب غلط، فهو الغالط غلطًا منكرًا؛ فإن المصحف منقولٌ بالتواتر، وقد كتبت عدة مصاحف، فكيف يُتَصَوَّرُ في هذا غلطٌ.
(3)
الجواب الرابع:
وتُدفع الروايات الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما بوجهٍ عامٍّ بأنه قد أخذ القرآن عن زيد بن ثابت وأُبَيِّ بن كعبٍ، وهما كانا في جمع المصاحف في زمن عثمان، وكان زيدٌ هو الذي بأمر أبي
بكر-رضي الله عنهم أجمعين- أيضًا، وكان كاتبَ الوحي، وكان يكتب بأمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وإقراره، وابن عباس- رضي الله عنهما كان يعرف له ذلك، فمن غير المعقول أن يأخذ عنهما القرآن، ويطعن في ما كتباه في المصاحف.
(4)
ويدل على ذلك أن عبد الله بن عباس كان من صغار الصحابة، وقد قرأ القرآن على أبي بن كعب، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، ـ
(5)
وقد روى القراءة عن عبد الله بن عباس أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وغيرهم من القراء، وليس في قراءتِهم شيءٌ مِمَّا تعلق به هؤلاء، بقراءته موافقة لقراءة الجماعة.
(1)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)(6/ 26 - 27).
(2)
يُنظر: مناهل العرفان (1/ 389).
(3)
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (15/ 255).
(4)
- مناهل العرفان (1/ 392).
(5)
- يُنظر: النشر في القراءات العشر (1/ 112، 178)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 45، 57).
ثانيًا: الجواب عن كل أثرٍ على حدة
جواب الأثر الأول: أن الرواية الواردة عن عائشة في ذلك ضعيفة لا تثبت:
(1)
قال أبو حيان في قوله تعالى: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ): وذُكِر عن عائشة وأبان بن عثمان أنَّ كَتْبَهَا بالياء من خطأ كاتب
المصحف، ولا يصح عنهما ذلك؛ لأنَّهما عربيان فصيحان، وقطع النعوت مشهورٌ في لسان العرب.
(2)
وقال الزمخشري: (ت: 538 هـ):
ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنًا في خط المصحف، وربَّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب،
(3)
ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وخفي عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همةً في الغيرة على الإسلام، وذبِّ الْمطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثُلمةً يسدها من بعدهم، وخرقًا يَرْفُوهُ من يلحق بِهم.
(4)
أنه مِمَّا يدل على ضعف الرواية عن عائشة رضي الله عنها في تخطئة الكاتب في رسم (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)(طه من آية: 63) أن المصاحف العثمانية اتفقت على رسم (هذان) بغير ألف، ولا
ياء،
(5)
ليحتمل أوجه القراءة المختلفة فيها، وإذًا فلا يُعقل أن يُقال أخطأ الكاتب، فإن الكاتب لم يكتب ألفًا ولا ياءً. ولو كان هناك خطأٌ تعتقده عائشة- رضي الله عنها ما كانت لتنسبه إلى الكاتب، بل كانت تنسبه إلى من قرأ بالتشديد في (إنَّ) مع القراءة بالألف في (هذان).
(6)
أنه لم ينقل عن عائشة تخطئة من قرأ: (وَالصَّابِئُونَ)(المائدة من آية: 69) بالواو، ولم ينقل عنها أنَّها كانت تقرؤها بالياء، فلا يعقل أن تكون خطَّأت من كتبها بالواو.
(7)
أننا إذا سلَّمنا بصحة هذا
(1)
- مرَّ بنا أن السيوطي رحمه الله قال في الإتقان (2/ 269): صحيحٌ على شرط الشيخين. ولا يخفى أن صحة السند لا تكفي ليصح الحديث، إذ يشترط إلى ذلك سلامة الحديث متنًا وسندًا من العلة القادحة، يُنظر: نزهة النظر في شرح نخبة الفكر ص 29، ولا يخفى أن متن هذه الرواية فيه عدد من العلل، منها هذه، وهي الطعن في فصاحة الصحابة ومعرفتهم بوجوه كلام العرب، والعلة الثانية التي تأتي في الجواب التالي، وهي أنه في قوله تعالى:(إن هذان) لم يكتب الكاتب ألفًا ولا ياءً حتى ينسب إليه خطأٌ في ذلك، وهذا كافٍ -إن شاء الله- في إثبات ضعف هذه الرواية.
(2)
- تفسير البحر المحيط (3/ 411).
(3)
قال أبو حيان: يريد كتاب سيبويه رحمه الله. البحر المحيط (3/ 412).
(4)
- الكشاف (1/ 590)، وانظر تفسير البحر المحيط (3/ 411 - 412).
(5)
يُنظر: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص 15، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 304.
(6)
مناهل العرفان (1/ 393).
(7)
- مناهل العرفان (1/ 394).
الخبر، فإنه يحتمل أن سؤال عروة لعائشة لم يكن عن اللحن
(1)
في الكتاب الذي هو الخطأ والزلل والوهم، وإنما سألها عن الحروف المختلفة الألفاظ، المحتملة للوجوه على اختلاف اللغات، وإنما سمَّى عروة ذلك لحنًا، وأطلقت عليه عائشة الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار، وطريق المجاز في العبارة، إذ كان ذلك مخالفًا لمذهبهما، وخارجًا عن اختيارهما، وكان خلافه هو الأولى عندهما.
(2)
أنه يحتمل أيضًا أن قول عائشة: " أخطأوا في الكتاب" أي في اختيار الأولى من
الأحرف السبعة لجمع الناس عليه. أي أن الوجه الظاهر المعروف في هذه الحروف غير ما جاء به المصحف، وأن استعماله على ذلك الوجه غامضٌ أو غلطٌ عند كثير من الناس، ولحن عند من لا يعرف الوجه فيه، لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأٌ خارج عن القرآن، والدليل على ذلك أن غير الجائز من كلِّ شيءٍ مردودٌ بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه.
(3)
جواب الأثر الثاني:
أن كلام عائشة في قوله تعالى: (يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا)(المؤمنون من آية: 60) ليس فيه إنكار هذه القراءة المتواترة، وإنما غاية ما فيه أن ما قرأت هي به كان مسموعًا عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم منَزَّلاً من عند الله. أن قولَها:"وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ" يحتمل أن يكون المراد به أنه ألقي إلى الكاتب هجاءٌ غيرُ ما كان الأولى أن يُلْقَى إليه من الأحرف السبعة. أنه يحتمل أيضًا أن يكون مأخوذًا من الحرف، الذي هو بمعنى القراءة واللغة، وأنَّها أرادت أن هذه القراءة المتواترة التي رُسم بِها المصحف لغةٌ ووجهٌ من وجوه أداء القرآن الكريم.
(4)
جواب الأثر الثالث:
أن هذه الرواية غير ثابتة عن ابن عباس. قال أبو حيان: ومن روى عن ابن عباس أن قوله: (تستأنسوا) خطأ، أو وهم من الكاتب، وأنه قرأ:(حتى تستأذنوا)، فهو طاعنٌ في الإسلام، ملحدٌ في الدين، وابن عباسٍ بريءٌ من هذا القول، وتستأنسوا متمكنةٌ في المعنى، بيِّنَةٌ الوجه في كلام العرب.
(5)
(1)
- كما جاء في بعض الروايات: سألت عائشة عن لحن القرآن، عن قوله
…
الأثر، كما مرَّ.
(2)
يُنظر: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار ص 121 - 122.
(3)
الإتقان في علوم القرآن (1/ 273)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 129 - 130، الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403 هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت الطبعة: الأولى 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2
(4)
مناهل العرفان (1/ 395).
(5)
تفسير البحر المحيط (6/ 410)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (2/ 276).
أن ابن عباس قرأها (تستأنسوا) وفسرها بالاستئذان. فعن ابن عباس في قوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)
(النور، من آية: 27)، قال: الاستئناسُ: الاستئذانُ.
(1)
جواب الأثر الرابع:
أن الرواية بذلك عن ابن عباس غير ثابت، قال أبو حيان: وأما قول من قال: إنَّما كتبه الكاتب وهو ناعسٌ، فسوَّى أسنان السين، فقول زنديقٍ ملحدٍ.
(2)
أنه يحتمل أن قول ابن عباس: "كتبها وهو
ناعس"، بِمعنى أنه لم يتدبر الوجه الذي هو أولى من الآخر، وهذا الرد محتمل في كثير من تلك الروايات.
جواب الأثر الخامس:
أنه قد استفاض عن ابن عباس أنه قرأ (وقضى)(الإسراء من آية: 23) وذلك دليل على أن ما نسب إليه في تلك الروايات من الدسائس التي لفَّقها أعداء الإسلام.
(3)
قال أبو حيان: والمتواتر هو: (وقضى)، وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة.
(4)
جواب الأثر السادس:
في قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً)(الأنبياء من آية: 48)
فالرواية الواردة عن ابن عباس في تغيير موضع الواو ضعيفة، لا تصح.
(5)
.
جواب الأثر السابع:
أنه لم ينقل أحدٌ من رواة القراءة أن ابن عباس كان يقرأ: (مثل نور المؤمن)، وهذا يدل على عدم صحة هذا النقل عنه، إذ كيف يقرأ ما يعتقد أنه خطأ ويترك ما يعتقد أنه الصواب. على أنه قد روي
أن أُبَيًّا كان يقرأ: (مثل نور المؤمن)، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصاحف، وينبغي أن تحمل على أنه أراد تفسير الضمير في القراءة المتواترة، أو على أنَّها قراءة منسوخة.
(6)
(1)
رواه الطبري في تفسيره (18/ 110).
(2)
- تفسير البحر المحيط (5/ 383 - 384)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (2/ 276).
(3)
مناهل العرفان (1/ 391).
(4)
- تفسير البحر المحيط (6/ 23).
(5)
- يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (2/ 276).
(6)
يُنظر: البحر المحيط (6/ 418)، ومناهل العرفان (1/ 392).، ويُنظر: جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث، محمد شرعي أبو زيد، (ص: 293 - 305) رسالة ماجستير، نوقشت في كلية بجامعة الكويت، سنة 1419 هـ.، عن الشاملة بتاريخ: 1/ 2/ 2011 م.
انتهى الكلام عن الشبهة الثانية وجوابها والحمد لله.
الشبهة الثالثة: دعوى تغيير الحجاج بن يوسف (ت: 95 هـ) مصحف عثمان
ادعى بعض الطاعنين في القرآن الكريم أن الحجاج بن يوسف الثقفي غيَّر حروفًا من مصحف عثمان، وأسقط حروفًا كانت فيه، وأنه كتب ستة مصاحف وجه بِها إلى الأمصار، وجمع المصاحف المتقدمة، وأغلى لَها الخل حتى تقطعت، وأنه قصد بذلك التزلف إلى بني أمية بإثبات خلافتهم، وإبطال خلافة ولد عليٍّ والعباس
(1)
.
وتعلقوا في ذلك بنحو ما روي عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيَّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفًا، قال:
كانت في البقرة: (لم يتسنَّ وانظر)، بغير هاء، فغيَّرها) لَمْ يَتَسَنَّهْ ((البقرة من آية: 259) بالهاء.
(2)
وكانت في المائدة: (شريعة ومنهاجًا)، فغيَّرها:) شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
(3)
وكانت في يونس:) يَنْشُرُكُم (، فغيَّرها:) يُسَيِّرُكُمْ
(4)
وكانت في يوسف: (أَنَا آتِيكُم بِتَأْوِيلِهِ)، فغيَّرها:) أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ
(5)
وكانت في المؤمنين: (سيقولون لله، لله، لله)، ثلاثتهن، فجعل الأخريين:(الله، الله)
(6)
.
(1)
- مناهل العرفان (1/ 264).
(2)
وقد قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف بحذف الهاء في الوصل، ولا خلاف في إثباتها وقفًا لثبوتها في الخط. يُنظر: النشر في القراءات العشر (2/ 142)، وإتحاف فضلاء البشر ص 163.
(3)
سورة المائدة من الآية 48، ولم يقرأ أحدٌ من القراء (شريعة) بالياء، ولو شاذًّا!
(4)
- سورة يونس من الآية 22، وقد قرأها أبو جعفر وابن عامر:(يَنْشُرُكُمْ)، من النشر، قال ابن الجزري: وكذلك هي في مصاحف أهل الشام وغيرها، وقرأ بقية القراء:(يُسَيِّرُكُمْ)، من التسيير، قال ابن الجزري: وكذلك هي في مصاحفهم، وكذلك روى أبو عمرو الداني في المقنع، في باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام. والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا فرق في الخط بين القراءتين، ففيها أربع أسنان، فتكون عند أبي جعفر وابن عامر واحدة للنون وثلاث للشين، وعند الباقين ثلاث للسين وواحدة للياء. انظر النشر في القراءات العشر (2/ 282)، وإتحاف فضلاء البشر ص 248، والمقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار ص 108، ويُنظر: تنبيه الخلان إلى شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 448.
(5)
سورة يوسف من الآية 45، وفي مصحف أبي بن كعب (أنا آتيكم بتأويله)، وهي قراءة شاذة، وقد قرأ بها الحسن. يُنظر: تفسير البحر المحيط (5/ 314).
(6)
- سورة المؤمنين من الآية 85، ومن الآية 87، ومن الآية 89. وقد اتفق القراء على قراءة الموضع الأول (لله) بغير ألف؛ (لأن قبله لمن الأرض ومن فيها)، فجاء الجواب على لفظ السؤال، وقرأ أبو عمرو ويعقوب البصريان في الموضعين الأخيرين (الله) بالألف، وهكذا رسما في المصاحف البصرية، نص على ذلك الحافظ أبو عمرو، وقرأ باقي القراء (لله) بغير ألف، وكذا رسما في مصاحف الشام والعراق. يُنظر: النشر في القراءات العشر (2/ 329). فأي تغيير ذلك الذي فعله للحجاج في هذه الآيات، وقد رسمتا على الوجهين كليهما.
وكانت في الشعراء، في قصة نوح: عليه السلام (مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، وفي قصة لوط عليه السلام:(مِنَ الْمَرْجُومِينَ)، فغيَّر قصة نوح عليه السلام:(مِنَ الْمَرْجُومِينَ)،
(الشعراء من آية: 116) وقصة لوط عليه السلام:) مِنَ الْمُخْرَجِينَ ((الشعراء من آية: 167).
وكانت في الزخرف: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعَايِشَهُم)، فغيَّرها) مَعِيشَتَهُمْ
(1)
وكانت في الذين كفروا
(2)
: (مِن مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ)، فغيَّرها:) مِن مَاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ
(3)
وكانت في الحديد: (فالذين آمنوا منكم واتقوا لهم أجرٌ كبير)، فغيَّرها:) وَأَنْفَقُوا ((الحديد من آية: 7)
وكانت في إذا الشمس كُوِّرَتْ): وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ (،
(4)
فغيَّرها:) بِضَنِينٍ
(5)
.
وهذه شبهة باردة لا تستحق الردَّ؛ فإنَّها تحمل في طيَّاتِها أمارات بطلانِها وردها، ولكن نذكر ما أجاب به أهل العلم عن هذه الكذبة، وهي أجوبة كثيرة، منها:
الجواب الأول: أن الروايات التي تعلقوا بِها في هذه الشبهة في غاية الضعف، ولا تقوم بمثلها حجة، فهذا الأثر المروي عن عوف بن أبي جميلة ضعيف جدًّا، ففيه عبّاد بن صهيب، وهو متروكٌ، ضعيف الحديث، وكان قدريًّا داعيةً،
(6)
وكذلك عوف بن أبي جميلة، وإن كان ثقةً، إلا أنه متهم بالقدر والتشيع، وهذا الأثر -إن ثبت عنه- مما يؤيد دعوى الشيعة وقوع التحريف في القرآن، فهو متهم فيه.
(7)
الجواب الثاني: أنه لو حصل مثل ذلك لنقل إلينا نقلاً متواترًا، لأنه مِمَّا تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. فلما لم ينقل إلينا بالنقل الصحيح، علم أنه كذب لا أصل له.
(1)
سورة الزخرف من الآية 32، وقرأ ابن مسعود وابن عباس والأعمش (معايشهم)، وهي قراءة شاذة. يُنظر: تفسير البحر المحيط (8/ 14).
(2)
يعني بها سور محمد المفتتحة بقوله سبحانه: (الذين كفروا)(محمد من آية: 1)
(3)
سورة محمد من الآية 15، وذكر فيها أبو حيان قراءة شاذة (ياسن) بالياء، ولم ينسبها لأحد. يُنظر: تفسير البحر المحيط (8/ 79).
(4)
سورة التكوير من الآية 24، وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير بالظاء المشالة، وقرأ الباقون بالضاد، ولا فرق بينهما في الرسم، إذ لا مخالفة بين الضاد والظاء إلا تطويل رأس الظاء على الضاد، وهي في جميع المصاحف العثمانية بالضاد، وفي مصحف ابن مسعود بالظاء. يُنظر: النشر في القراءات العشر (2/ 398 - 399)، وإتحاف فضلاء البشر ص 434.
(5)
- رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب ما كتب الحجاج بن يوسف في المصحف ص 59، وباب ما غيَّر الحجاج في مصحف عثمان ص 129.
(6)
- يُنظر: لسان الميزان (3/ 279 - 280).
(7)
وقد أخرج له البخاري في الصحيح. يُنظر: تقريب التهذيب (2/ 89)، وهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 455.
الجواب الثالث: أنه من الْمحال عقلا وعادةً سكوت جميع الأمة عن تغيير شخص لكتابِها الذي تدين الله به، وأئمة الدين والحكم إذ ذاك متوافرون، فكيف لا ينكرون، ولا يدافعون عن كتاب ربِهم.
الجواب الرابع: أن الحَجاج لم يكن إلا عاملاً على بعض أقطار الإسلام، ومن المحال أن يقدر على جمع المصاحف التي انتشرت في بلاد المسلمين شرقها وغربِها، فذلك مِمَّا لا يقدر عليه أحدٌ لو أراده.
الجواب الخامس: أن الحجاج لو فرض أنه استطاع جمع كل المصاحف وإحراقها، فإنه من المحال أيضًا أن يتحكم في قلوب الآلاف المؤلفة من الحفاظ، فيمحو منها ما حفظته من كتاب الله.
(1)
ويدل على ذلك أن أكثر المواضع التي ادُّعي أن الحجاج غيَّرها هي في جميع المصاحف على تلك الصورة التي زعموا أن الحجاج غيرها إليها، وقرأها القراء بِهذا الوجه، وبعضها رسم على الصورتين في المصاحف وقرئ بقراءتين، كما نقله إلينا القراء وعلماء الرسم العثماني، كما أن جل هذه المواضع لم ينقل إلينا نقلاً متواترًا قراءة أحد من القراء بِما يوافق الوجه الذي يزعمون أنه كان ثم غُيِّر، مثل:(شريعة ومنهاجًا)، و (أَنَا آتِيكُم بِتَأْوِيلِهِ)، و (مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، في قصة نوح عليه
السلام، و (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) في قصة لوط عليه السلام، و (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعَايِشَهُم)، فلو صحَّ هذا النقل لنُقِل إلينا من القراءات في هذه المواضع ما يوافق ما كانت مكتوبةً به أوَّلاً.
الجواب السادس: أنه بفرض أن الحجاج كان له من الشوكة والمنعة ما أسكت به جميع الأمة على ذلك التعدي المزعوم على الكتاب الكريم، فما الذي أسكت المسلمين بعد انقضاء عهده.
(2)
الجواب السابع: أنه يحتمل أن الحجاج إنَّما غيَّر حروفًا من بعض المصاحف التي تخالف مصحف عثمان، فقد روي أنه لَمَّا قدم العراق وجد الناس يكتبون في مصاحفهم أشياء، كانوا يكتبون:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)، و (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج) وأشياء غير هذا، فبعث إلى حفاظ البصرة وخطاطها، فأمر نصر بن عاصم وأبا العالية وعليَّ بن أصمعَ ومالك بن دينار والحسن البصري وأمرهم أن يكتبوا مصاحف ويعرضوها على مصحف عثمان.
(3)
(1)
- يُنظر: نكت الانتصار لنقل القرآن ص 399.
(2)
مناهل العرفان (1/ 273 - 274).
(3)
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 396.
وقد كان - فيما روي- من أشد الأمراء نظرًا في المصاحف، وكان شديد الحرص على أن يتَّبع الناس مصحف عثمان، فوكَّلَ عاصمًا الجحدري وناجية ابن رُمْحٍ وعليَّ بن أصمعَ بتتَبُّع
المصاحفِ، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحفٍ وجدوه مخالفًا لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهمًا.
(1)
الجواب الثامن: أن الحروف التي زعموا أن الحجاج غيَّرها ليس فيها حرفٌ واحد في إثبات خلافة بني أمية وإبطال خلافة بني العباس.
(2)
وبهذا ينتهى الكلام عن الشبهة الثالثة وجوابها والحمد لله.
الشبهة الرابعة: حول قول عمر رضي الله عنه: "كنت أقرأ (فامْضوا إلى ذكر الله) بدلاً من (فاسعوا) في سورة الجمعة
(الجمعة من آية: 9) ".
(3)
وقد ورد في الفصل الخامس من كتاب "تدوين القرآن" لـ " علي الكوراني العاملي الرافضي"(معاصر)
(4)
تحت عنوان "قراءات شخصية ومحاولات تحريف قراءات للخليفة لم يطعه فيها المسلمون"
قال عليه من الله ما يستحق:
1 -
فامضوا إلى ذكر الله! اتفقت مصادر إخواننا السنة
(5)
على أن الخليفة عمر كان يقرأ فاسعوا إلى ذكر الله في الآية التاسعة من سورة الجمعة (فامضوا إلى ذكر الله) حتى في صلاته، وأنه كان يصر على ذلك ويأمر بمحو (فاسعوا) ويقول إنها منسوخة!! فما هو سبب ذلك؟ ثم ما هو السبب في أن جميع المفسرين وفقهاء المذاهب السنية لم يطيعوا الخليفة ولم يكتبوها في المصاحف، ولم يقرؤوا بها، مع أنهم يتعصبون لأقوال الخليفة عمر ويتشبثون بها؟!
جواب هذه الشبهة:
قراءة عمر- رضي الله عنه لآية سورة الجمعة (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ الله) قد رواها الإمام البخاري عنه في صحيحه معلَّقة بصيغة الجزم، ورواها مسندةً الإمامُ ابن جرير الطبري بإسناد صحيح، وهي
(1)
- يُنظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 51 - 52، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 397.
(2)
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 399. ويُنظر: جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث، محمد شرعي أبو زيد، (ص: 306 - 312).
(3)
الدر المنثور: (6: 219).
(4)
- تدوين القرآن" لـ " علي الكوراني العاملي الرافضي، الفصل الخامس قراءات شخصية ومحاولات تحريف (1/ 139). يُنظر: المكتبة الشيعية التابعة لمؤسسة آية الله العظمى الميلاني لإحياء الفكر الشيعي.
(5)
- هذه من التَّقِيَّة التي بنوا عليها دينهم، وعداؤهم وبغضهم لأهل السنة تترجمه دماء أهل السنة المهراقة في أرجاء الدنيا على مر العصور والأزمان، وعصرنا الحاضر خير شاهد.
ليست موافقة لرسم المصحف العثماني، وليست قراءة سبعية، وقد ذهب بعض العلماء إلى عدِّها وجهًا تُقرأ به الآية، وقال آخرون إنها قراءة تفسيرية، وأنه أراد تفسير " السعي " في الآية وأنه ليس " المشي بسرعة "، وقد وُجد في مصاحف بعض الصحابة مثل هذا فكانوا يفسرون بعض ألفاظ الآية بشرح تفسيري لها، ويرويها بعض تلامذتهم على أنها قراءة للآية، وإن كان الأظهر في هذه أنها قراءة لعمر رضي الله عنه، كان يقرأ بها الآية، وصح إسنادها إليه؛ لكن ذلك لا يعني أنها بدل عن الآية التي أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على إثباتها في مصحف عثمان، وتواتر النقل بها بين المسلمين تواترًا ضروريًا قطعيًا، بل هي حرف كان يقرأ به عمر، مع أنه لا ينكر ما سواه، وما أثبت في المصحف هو حرف آخر في الآية، وكل شاف واف، لكن المثبت في المصاحف هو المقطوع بنقله وثبوته.
(1)
.
وللقراءة الصحيحة المتواترة شروط معتبرة متفق عليها عند أئمة القراءات:
شروط القراءة المتواترة:
يشترط في القراءة المتواترة تحقق ثلاثة شروط متفق عليها:
الشرط الأول: صحة السند واتصاله وتواتره.
الشرط الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
الشرط الثالث: موافقة العربية ولو بوجه.
فالقراءة الصحيحة إذًا هي:
ما صح سنده، ووافق العربية ولو بوجه، ووافق الرسم العثماني ولو احتمالًا.
وإنما تسمى القراءة الشاذة اليوم كذلك، لكونها شذت عن رسم المصحف العثماني المجمع عليه وإن كان إسنادها صحيحًا.
وشروط القراءة المتواترة قد ذكرها ابن الجزريِّ (ت: 833 هـ) رحمه الله، في طيِّبةِ النشر حيث يقول:
فَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ نَحْوِ
…
وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالاً يَحْوِي
وَصَحَّ إسْنادًا هُوَ الْقُرآنُ
…
فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ الأَرْكَانُ
(1)
الجواب عن إشكالات توهَّم السائل أنها تدل على أن القرآن غير محفوظ، الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 11/ 6/ 2012 م. بتصرف يسير.
وحَيثُما يَخْتَلَّ رُكْنٌ أَثْبِتِ
…
شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبعَةِ.
(1)
أركان القراءة الصحيحة فيقول في " النشر"- أيضًا: ثم هو يفصل ويجلي عن
"كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو
شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه".
(2)
ويستحيل وجود قراءة متواترة تتناقض مع قراءة أخرى أبدًا، بل تتكامل في معناها.
وفي ذلك يقول ابن الجزريِّ (ت: 833 هـ) رحمه الله في طيِّبةِ النشر أيضًا:
" مع كثرة اختلاف القراءات وتنوعها، لم يتطرق إليه [أي القرآن الكريم] تضاد ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضًا، ويُبيِّن بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض. على نمط واحد، وأسلوب واحد. وما ذاك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع، على صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم".
(3)
ومما يدلل على ذلك ويؤكده ويؤيده أن القراءات المتواترة معلومة ومبيَّنة في كل ما كتبه المتقدمون والمتأخرون، ومع كثرة بحوث ودراسات الطاعنين في القرآن على اختلاف مذاهبهم
ومشاربهم على مر العصور والدهور، إلا أنهم لم يتمكنوا من إظهار قراءة واحدة متواترة، تتناقض مع قراءة أخرى مثلها أبدًا.
ومع ذلك فإن كل قراءة لها سند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأسانيد متواترة ثابتة ومعلومة، لجمع من الرواة معروفين ومشتهرين ومجتمعين، يستحيل تواطؤهم جميعًا على الكذب.
(1)
- يُنظر: مَتْنُ «طَيِّبَةِ النَّشْرِ» فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْر تأليف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ) المحقق: محمد تميم الزُّعْبي، الناشر: دار الهدى، جدة الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
(2)
- النشر في القراءات العشر: (1/ 10).
(3)
طيبة النشر: (1/ 28).
وفي نحو ذلك يقول ابن حزم الأندلسي (ت: 456 هـ) رحمه الله:
أما قولهم: إننا مختلفون في قراءة كتابنا، فبعضنا يزيد حروفًا وبعضنا يسقطها فليس هذا اختلافًا، بل هو اتفاق مِنَّا صحيح؛ لأن تلك الحروف وتلك القراءات كلها مبلَّغ بنقل الكوافِّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نزلت كلها عليه، فأيُّ تلك القراءات قرأنا فهي صحيحة، وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة لا زيادة فيها ولا نقص، فبَطُل التعلُّق بهذا ..
إلى أن يقول رحمه الله:
بل الأحرف السبعة كلها موجودة عندنا، قائمة كما كانت، والحمد لله رب العالمين.
(1)
وكان أولى لـ" على الكوراني العاملي" أن تتوجه مطاعنه على ما كتبه بنو جنسه
كالطبرسي الذي ألف كتابه: " فَصْلُ الخِطابِ في إِثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ "، كالطبرسي هو: ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي: (ت: 1320 هـ) وكان قد فرغ من كتابه هذا في النجف في ختام شهر جمادى الأخرى من عام 1292 هـ، وكان ذلك عند القبر المنسوب لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه -وقد جمع فيه الطبرسي الهالك مئات النصوص عن علماء الرافضة ليثبت اعتقادهم بوجود النقص والتحريف التغير والتبديل في القرآن الكريم، وقد طبع كتابه هذا في إيران عدة طبعات.
(2)
وهو يقول في مستهل كتابه ما نصه:
"هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان نسميه: " فصلَ الخِطابِ في إِثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ ".
ثم هو يؤيد فعله وجرمه فيعدد كُتبًا قد شاركته في نفس الجريمة الشنعاء النكراء ويذكرها مرتبة على النحو التالي:
1 -
كتاب: "التحريف. "
2 -
كتاب: "التنزيل والتغيير".
3 -
كتاب: "التنزيل من القرآن والتحريف".
(1)
يُنظر: الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم:(2/ 64 - 65). وشروط القراءة الصحيحة المتواترة قد يرد ذكرها في أكثر من موضع من البحث لمسيس الحاجة لذكرها في موضعها، دون الإحالة على موضع ذكرها في موضع آخر. الباحث.
(2)
- وهي ما تسمى بالطبعة الحجرية، وهناك صور كثيرة جدًا عنها، مصورة عن الكتاب مبثوثة في الشبكة العنكبوتية، منها على سبيل المثال لا الحصر نسخة عن مكتبة: مهنا حمد المهنا.
4 -
كتاب: "التحريف والتبديل".
5 -
كتاب: "التنزيل والتحريف".
(1)
وبعد طبع كتابه وظهوره قامت ضجة كبيرة من علماء الرافضة حوله، ولم تقم إلا تَّقِيَّة ليبقى الطعن في القرآن أمرًا خفيًا مكتومًا، وليبقى كما هو مبثوثًا ومفرقًا في كتبهم المعتبرة عندهم، وليس مجموعًا في كتاب واحد، حتى لا يُدانوا به وتقوم به الحجة عليهم.
ورغم الردود التي توالت عليه من بني جلدته فقد ازدادًا طغيانًا وعنادًا وبهتانًا فألف
كتابًا آخر وسمه بـ " رد بعضِ الشبهاتِ عَنْ فصلِ الخِطابِ في إِثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ " دافع فيه عن ما أودعه في كتابه السابق " فصل الخِطابِ "، و قد كتب هذا الكتاب قبل هلاكه بسنتين فقط.
(2)
.
وأما " على الكوراني العاملي":
فقد ازدادًا زورًا وبهتانًا فشارك اثنين هو ثالثهما من الرافضة في التقديم لكتاب مشابه لكتاب الطبرسي، لمؤلف من القوم وهو معاصر، والكتاب هو:" فصل الخِطابِ في تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ" لمؤلفه: "محمد زكريا اللامِردي"،
وقد قدمه له بالترتيب على النحو التالي كل من:
1 -
على الكوراني العاملي
2 -
حمزة حسن الحواج
3 -
رفيق لطف الموسوي.
(3)
.
مصحف فاطمة خير شاهد:
وما مصحف فاطمة عنا ببعيد، ويعتقد الشيعة الإثنا عشرية بأنه كتاب أملته الملائكة على فاطمة وأنه كان موجودًا لدى أئمتهم الاثني عشر متناقل لديهم حسب ما دلت عليه الروايات المروية عنهم أي أنه الآن عند المهدي ولا يملكه أي أحد آخر.
(4)
(1)
- يُنظر: فصل الخِطابِ في إِثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ: (ص: 29)، الطبعة الحجرية المخطوطة وهي متوفرة بصيغة:" بي دي إف". والكتاب له عدة طبعات في إيران، لم يقف الباحث على شيء منها.
(2)
- للاستزادة عن الكتاب يُنظر: الطهراني، محمود بن أبي القاسم، كشف الارتياب عن تحريف كتاب رب الأرباب، نسخة مخطوطة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي، رقم الكتاب: IR 10 - 45695، تاريخ 17/ جمادى الآخرة/ 1302 هـ.، الخميني، روح الله، أنوار الهداية، مطبعة مكتبة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1413 هـ.، جعفريان، رسول، أكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنة، مطبعة سلمان الفارسي، ممثلية السيد الخامنئي في الحج، 1413 هـ.
(3)
- وكتاب اللامِردي يحتوي على 116 صفحة، نقلًا عن موقع شبكة الفكر.
(4)
- يُنظر: الموسوعة الحرة.
وتصديقًا لما نقوله ما ثبت في كتاب الكافي للكليني حيث يروي ويقول:
- عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن الحجال، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام:
…
وإن عندنا لمصحف فاطمة-عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة-عليها السلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم قال: إنه لعلم وما هو بذاك
…
(1)
.
ونختم بكلام الكليني في أصح كتاب عند الرافضة ألا وهو كتاب" الكافي".
وبهذا ينتهى الكلام عن الشبهة الرابعة وجوابها والحمد لله.
الشبهة الخامسة: دعوى الطاعنين بالقول بنقص القرآن على وجه العموم
،
ومن تلك الدعاوى الباطلة الزائفة: الدعوى بأن القرآن ليس كاملاً، وأن هناك ما يثبت ذلك، ومنه ما يلي:
1 -
ما كان من قول عمر في السقيفة: " كان القرآن 102700 حرفًا ".
(2)
2 -
وما كان من قول عمر كذلك: " لا يدّعيّن أحدٌ أن القرآن مكتمل لأنه قد فُقد معظمه ".
(3)
وقد نُسِبَ عزو ذلك القول للسيوطي في الإتقان.
وجواب هذه الشبهة على النحو التالي:
وأما نسبة هذا القول لعمر في السقيفة: " كان القرآن 102700 حرفًا ".
فباطل من وجهين: وهما: الخطأ والتدليس
أما الوجه الأول: فهو من جهة الخطأ فيه
فأما الخطأ فيه: ففي كتابة عدد حروف القرآن، حيث أن الوارد في عددها هو:
" مليون وسبعة وعشرون ألف حرف ".
أما الوجه الثاني: فهو من جهة التدليس فيه
وأما التدليس: فمن جهتين- كذلك -
أما الجهة الأولى: فمن جهة زيادة كلمة " كان " في المتن
(1)
- يُنظر: الكافي للكليني: (1/ 238 - 242).
(2)
يُنظر: الإتقان " للسيوطي: (ص 88).
(3)
- يُنظر: تفسير: الدر المنثور، للسيوطي:(1/ 104).
فإن ذكر المتن بزيادة لفظة " كان " لتوهم وجود نقصان في القرآن، وبذكر الخبر بصيغة توهم أن السيوطي رحمه الله نقل هذا وأيَّده أو صححه، وهو خلاف الواقع، بل إن الرواية عن عمر مكذوبة وقد تكلم السيوطي نفسه على إسنادها ناقلاً نقد الذهبي لها.
وقد قال الذهبي في ميزان الاعتدال: عن الخبر أنه: " خبر باطل ".
(1)
ووافقه الحافظ ابن حجر العسقلاني في: " لسان الميزان "- كذلك -.
(2)
- ولم يكن ثمة حاجة لتفسير الخبر وهذه حاله.
أما الجهة الثانية: فمن جهة نكارة المتن نفسه
وأما عن نكارة متنه: فهي غاية في النكارة؛ فإن عدَّ حروف القرآن لم يثبت في حديث، ولا كان من عمل الصحابة رضي الله عنهم.
قال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعًا: "القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابرًا محتسبًا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين". رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس تكلم فيه الذهبي لهذا الحديث ".
(3)
وقال الألباني (ت: 1420 هـ) رحمه الله:
لوائح الوضع على حديثه ظاهرة، فمثله لا يحتاج إلى كلام ينقل في تجريحه بأكثر مما أشار إليه الحافظ الذهبي ثم العسقلاني؛ من روايته لمثل هذا الحديث وتفرده به!.
(4)
وفي أصل مسألة عد حروف القرآن قال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
" وقد قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة؛ لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان، والقرآن لا يمكن فيه ذلك ".
(5)
وأما قول عمر بن الخطاب (ت: 23 هـ) رضي الله عنه: " لا يدّعيّن أحدٌ أن القرآن مكتمل لأنه قد فُقد معظمه ".
(6)
(1)
ميزان الاعتدال للذهبي: (3/ 639).
(2)
لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني:(5/ 276).
(3)
يُنظر: الإتقان للسيوطي: (1/ 242، 243).
(4)
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، للألباني:(9/ 71).، المؤلف: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، دار النشر: دار المعارف، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ/ 1992 م-عدد الأجزاء 14.
(5)
- يُنظر: الإتقان للسيوطي: (1/ 242).
(6)
- تفسير: الدر المنثور، للسيوطي:(1/ 104).
فالرد عليه وجوابه:
أنه لا أصل لهذه الجملة بهذا اللفظ في كتاب السيوطي " الإتقان " ولا في غيره من كتب المسلمين، وأصل ورود هذه الجملة فيما رواه سعيد بن منصور في " تفسيره " قال:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: " لا يقولن أحدكم: أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن يقول: أخذنا ما ظهر منه ".
(1)
والمقصود من كلام ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
أنه لا يستطيع أحد الجزم بإحاطته بحفظ كل ما نزل من القرآن؛ لأنه ثمة آيات نزلت ثم رفعت، وهو ما يسمى " نسخ التلاوة "، وقد صرَّح ابن عمر بذلك بنفسه في قوله:" كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله؛ إنَّ منه قرآنًا قد رُفع " كما في رواية " ابن الضرِّيس " عنه، ولذا فقد روى هذا الأثر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم وبوَّب عليه:" باب ما رُفع من القرآن بعد نزوله ولم يثبت في المصاحف "، وذكره السيوطي في كتابه " الإتقان " في " باب نسخ التلاوة".
(2)
وأثر ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
إنما يُستدل به على أن ما نُسِخَ من القرآن يسمى قرانًا، وأما قوله:" قد ذهب منه قرآن كثير" فإنما قصد بـ " القرآن" - هنا- المنسوخ منه، أي قد رُفِعَ منه قرآن كثير بالنسخ ..
ولقد أورد صاحب "الإتقان" أثر ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما في باب "ما نسخ تلاوته دون حكمه"،
حيث يُوضح ويقول رحمه الله:
الضَّرْبُ الثَّالِثُ مَا نُسِخَ: تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِهِ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُؤَالًا وَهُوَ مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَهَلَّا بَقِيَتِ التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابِ تِلَاوَتِهَا:
(1)
سنن سعيد بن منصور- تحقيق الدكتور سعد بن عبد الله الحميد - ج 2 ص 432 - 433
(2)
الجواب عن إشكالات توهَّم السائل أنها تدل على أن القرآن غير محفوظ، الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 11/ 6/ 2012 م. بتصرف يسير.
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُونِ:
بِأَنَّ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ وَالْمَنَامُ أَدْنَى طَرِيقِ الْوَحْيِ وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ.
وختام القول في أثر ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
أنه يتعلق بالنسخ كما بينه صاحب" الإتقان"، ولاشك أن النسخ له أحكامه المعروفة، وقد سطر علماء وأئمة أهل السنة والجماعة أحكامه وأملوها مفصلة في مصنفاتهم، وللاستزادة من أحكامه مفصلة فليرجع إليها في مظانها.
وبهذا ينتهى الكلام عن الشبهة الخامسة وجوابها والحمد لله.
الشبهة السادسة: دعوى الطاعنين بالقول بنقص القرآن على وجه الخصوص
ومن تلك الدعاوى الباطلة الزائفة: دعوى وجود سورتي الخلع والحفد عند أُبَيِّ بنِ كعبٍ (ت: 30 هـ) رضي الله عنه
فقد وردت بعض الآثار التي توحي بأن أُبَيَّ بنَ كعبٍ كان يقرأ دعاء القنوت المعروف بسورتي أُبَيِّ بن كعبٍ على أنه من القرآن: وهما سورتا "الخلع والحفد"
وأما قول أبيّ بن كعب أن لديه في مصحفه سورتين زائدتين، " الخَلع " و "الحَفد".
(1)
وفيما يلي نبين ما يُقصد بسورتي " الخَلع " و " الحَفد ":
أما المقصود بما يسمَّى سورة " الخلع " فهو دعاء:
" بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجُرك "
أما المقصود بما يسمَّى سورة " الحفد " فهو دعاء:
" بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلحِق "
ومعنى " وإليك نسعى ونحفِد " أي: نُسرع في طاعتك.
كما ورد أن بعض الصحابة كان يقنت بِهاتين السورتين:
(1)
الإتقان: للسيوطي: (2/ 66).
فعن الأعمش (ت: 147 هـ): رحمه الله أنه قال:
في قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك.
(1)
اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك بالكفار ملحِق.
(2)
كما ورد أنه كان يكتبهما في مصحفه.
فعن ابن سيرين (ت: 110 هـ) رحمه الله قال:
كتب أُبَيُّ بن كعبٍ في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعودٍ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين.
(3)
وعن أُبَيِّ بن كعبٍ (ت: 30 هـ) رضي الله عنه:
أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه.
(4)
وعن عَبْدَ الرَّحمنِ بنَ أبْزَى (ت: 70 هـ) رحمه الله أنه قال:
في مصحف ابن عباس قراءةُ أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. وفيه: اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد. نخشى عذابك ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحِق.
(5)
وعن عطاءٍ (ت: 114 هـ) رحمه الله:
أنَّه سمِعَ عُبيدَ بنَ عُمَيرٍ يأثُرُ عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ في القنوتِ (في الوتر) أنَّه كان يقولُ: (
…
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللهمَّ إنَّا نَستعينُك ونَستغفِرُك، ونُثني عليكَ ولا نَكفُرك، ونَخْلَعُ ونَترُك مَن
يَفْجُرك، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللهمَّ إيَّاك نَعبُد، ولكَ نُصلِّي ونَسجُد، وإليك نَسعَى ونَحفِد، نَرجو رَحمتَك ونخافُ عذابَك؛ إنَّ عذابَك بالكفَّارِ مُلحِق)
(6)
وهو مروي كذلك عن عُروةَ بنِ الزُّبَير (ت: 94 هـ) رحمه الله بلفظ:
(1)
قال ابن الأثير: أي: يعصيكَ ويُخالِفكَ. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 414).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف، باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/ 106) ح 7030.
(3)
رواه أبو عبيد، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 184).
(4)
أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 185).
(5)
رواه ابن الضريس، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 185).
(6)
رواه عبد الرزاق في المصنف: (3/ 111)، والبيهقي في السنن الكبرى، باب دعاء القنوت:(2/ 210)، (3268) قال البيهقي: صحيح موصول، وقال ابن المُلَقِن في تحفة المحتاج:(1/ 410) صحيح أو حسن، روي بعضه مرفوعًا مرسلًا، وصححه موقوفًا ابن حجر في نتاج الأفكار:(2/ 158). وابن أبي شيبة في المصنف باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/ 106) ح 7031، وفيه أيضًا عن عبد الملك بن سويد الكاهلي أن عليًّا قنت في الفجر بِهاتين السورتين، فذكرهما، ح 7029.
كان الناسُ يقومون أوَّلَه، وكانوا يَلْعَنونَ الكَفرةَ في النِّصفِ:
…
الحديث بطوله، إلى أن ذكر الدعاء بقوله: (
…
اللهمَّ إيَّاك نَعبُدُ، ولك نُصلِّي ونَسجُد، وإليكَ نَسعَى ونَحفِد، ونرجو رحمتَك ربَّنا، ونخاف عذابَك الجِدَّ؛ إنَّ عذابَك لِمَن عاديتَ مُلحِق)
(1)
.
قال ابن جريج
(2)
رحمه الله:
حكمة البسملة أنَّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة
(3)
.
فزعم بعض الطاعنين أن ما روي من إثبات أُبَيٍّ القنوت في مصحفه يطعن على جمع الصحابة للقرآن، ويدل على أنَّهم نقصوا منه، وزعموا أن اشتباه القنوت بالقرآن عند أُبَيٍّ دليلٌ على عدم اشتهار أمر القرآن وعدم انتشاره، وإمكانية التباسه بغيره من الكلام، إذ قد التبس على أُبَيِّ بن كعبٍ، مع كونه من أعلم الناس به، وأحفظهم له.
(4)
ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه:
الوجه الأول: أن الروايات التي وردت عن أُبَيٍّ في أمر القنوت غير مسلَّم بصحتها، وهي معارَضة بِما عُرِف من فضل أُبَيٍّ، وعقله، وحسن هديه، وكثرة علمه، ومعرفته بنظم القرآن.
(5)
الوجه الثاني: أن القنوت ليس من القرآن، لأنه لو كان منه لأثبته الرَّسُول-صلى الله عليه وسلم وأظهره. ولأن نظمه قاصر عن نظم القرآن، يعلم ذلك أهل البلاغة والفصاحة، فلعل أبيًّا إن كان قال ذلك أو كتبه في مصحفه، إنَّما قاله أو كتبه سهوًا، ثم استدرك وأثبت أنه ليس من القرآن.
وقد يعترض على هذا بأن يقال كيف يُشْكِل على أُبَيٍّ أمر هذا الدعاء، وبأنه يلزم من ذلك أنه لم يكن على معرفةٍ بوزن القرآن من غيره من الكلام.
ويجاب عن ذلك بأنه: قد يكون قد ظنَّ أن القنوت- وإن قصر عن رتبة باقي السور في الجزالة والفصاحة، إلا أنه يجوز أن يكون قرآنًا، وأنه يبعد أن يُؤتى بمثله، وإن كان غيره من القرآن أبلغ منه، كما قيل: قد يكون بعض القرآن أفصح من بعضٍ.
(6)
(1)
- رواه ابن خزيمة: (1100)، وأصله في البخاري:(2010)، وحسن إسناده ابن حجر: في التلخيص الحبير: (2/ 515) وصحح إسناده الألباني في تخريجه لـ "صحيح ابن خزيمة": (2/ 155). وهو مروي عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ- رضي الله عنه.
(2)
- أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم. (80 هـ-150 هـ) ويلقّب بابن جريج قال عبد الرزاق الصنعاني: كان له كنيتان أبو الوليد وأبو خالد، أحد العلماء الفقهاء وقرّاء القرآن ورواة الحديث عند أهل السنة والجماعة. وهو من تابعي التابعين. للاستزادة يُنظر: التاريخ الأوسط - البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة (طبعة دار الوعي ومكتبة دار التراث: ج 2 ص 98)، تهذيب الأسماء واللغات - أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (طبعة شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية: ج 2 ص 297).
(3)
يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 185).
(4)
- يُنظر: نكت الانتصار لنقل القرآن ص 79، ومناهل العرفان (1/ 264).
(5)
- نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80.
(6)
- يُنظر: تأويل مشكل القرآن ص 47، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 79 - 81، ومناهل العرفان (1/ 271).
الوجه الثالث: أنه مِمَّا يدل على ضعف هذا الخبر عن أُبَيٍّ ما عُلِم من أن عثمان تشدد في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه، وتحريقها، والعادة توجب أن مصحف أُبَيٍّ كان من أول ما يُقبض، وأن تكون سرعة عثمان إلى مطالبته به أشدَّ من سرعته إلى مطالبة غيره بِمصحفه؛ لأنه كان مِمَّن شارك في ذلك الجمع.
(1)
وقد صحت الرواية بِما يدل على أن عثمان قد قبض مصحف أُبَيٍّ:
فعن محمد بن أُبَيٍّ أن ناسًا من أهل العراق قدموا إليه، فقالوا: إنَّما تحمَّلْنا إليك من العراق، فأخْرِجْ لنا مصحفَ أُبَيٍّ. قال محمدٌ: قد قبضَه عثمان. قالوا: سبحان الله! أخْرِجْه لنا. قال: قد قبضَه عثمان.
(2)
الوجه الرابع: أن ما روي عن أُبَيٍّ ليس فيه أن دعاء القنوت قرآنٌ منَزَّل، وإنَّما غاية ما فيه أنه أثبته في مصحفه.
فإن صحَّ أنه أثبته في مصحفه، فلعله أثبته لأنه دعاءٌ لا استغناء عنه، وهو سنة مؤكدة يجب المواظبة عليه، وأثبته في آخر مصحفه أو تضاعيفه لأجل ذلك، لا على أنه قرآن منَزل قامت به الحجة، وقد كان الصحابة يثبتون في مصاحفهم ما ليس بقرآن من التأويل والمعاني والأدعية، اعتمادًا على أنه لا يُشكل عليهم أنَّها ليست بقرآن.
(3)
الوجه الخامس: أنه يحتمل أن يكون بعض هذا الدعاء كان قرآنًا منَزلاً، ثم نُسخ، وأُبيح الدعاء به، وخُلط به ما ليس بقرآنٍ، فكان إثبات أُبَيٍّ هذا الدعاء أولاً فنُقِل عنه.
(4)
.
وممن رجح النسخ السيوطي (ت: 911 هـ) حيث يقول- رحمه الله: " قال الحسين بن المنادي في كتابه " الناسخ والمنسوخ ":
" ومما رُفع رسمُه من القرآن ولم يُرفع من القلوب حفظه سورتا " القنوت في الوتر " وتُسمَّى سورتي الخلع والحفد ".
(5)
وممن رجح النسخ كذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
(1)
يُنظر: نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80.
(2)
- رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 32 - 33.
(3)
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80، مناهل العرفان (1/ 271)، وتأويل مشكل القرآن ص 47، والبرهان في علوم القرآن (1/ 251).
(4)
مناهل العرفان (1/ 271)، ومعجم القراءات القرآنية (1/ 25).
(5)
الإتقان للسيوطي: (2/ 68).
" ومثال نسخ الكتاب بالسنَّة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكماً بالسنة المتواترة، ونسخ سورة " الخَلع " وسورة " الحَفد " تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة، وسورة الخلع وسورة الحفد: هما القنوت في الصبح عند المالكية، وقد أوضح صاحب " الدر المنثور "، وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نُسختا ".
(1)
الوجه السادس: أنه على فرض التسليم بأن أُبَيًّا كان يرى أن القنوت من القرآن، وأنه استمر على ذلك الرأي، فليس ذلك بِمطعنٍ في صحة نقل القرآن، فإنه على هذا الفرض كان منفردًا بذلك الرأي، ويدل على ذلك عدم إثباته في صحف أبي بكر، ولا في مصاحف عثمان، إذ كانت كتابة
القرآن في عهد أبي بكر في غاية الدقة والالتزام، بحيث لم تقبل قراءة إلا بشاهدين، فلما كانت قراءته? فردية لم تقبلْ، كما رُدَّت قراءة عمر في آية الرجم.
(2)
فلو سلَّمنا أن أُبَيًّا ظنَّ دعاء القنوت قرآنًا، فأثبته في مصحفه، فإن ذلك لا يطعن في تواتر القرآن، لأنه انفرد به، وقد حصل الإجماع على ما بين الدفتين وتواتره، فلا يضر بعد ذلك مخالفة من خالف.
الوجه السابع: أننا لو سلَّمنا أن أُبَيًّا كان يعتقد أن القنوت من القرآن، فقد ثبت أنه رجع إلى حرف الجماعة، واتفق معهم، والدليل على ذلك قراءته التي رواها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وغيرهم، وليس فيها سورتا الحفد والخلع -كما هو معلوم، كما أن مصحفه كان موافقًا لمصحف الجماعة.
قال أبو الحسن الأشعري (ت: 324 هـ) رحمه الله:
قد رأيت أنا مصحف أنسٍ بالبصرة، عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خطُّ أنسٍ وإملاء أُبَيٍّ.
(3)
.
وخلاصة ما يُقال في سورتي الحفد والخلع:
أولًا: قد ثبت ضعف الروايات الواردة في خبر أُبَيٍّ في شأن القنوت، وإن عدم التحقق من صحتها وثبوتها كاف شاف في نفي قرآنية الدُعَاءَيْنِ. ذلك لأن تحقق ثبوتها محل نظر، والقول بثبوتها يفتقر لنقل بإسناد ثابت صحيح.
ثانيًا: إن مما يؤيد ويؤكد نفي قرآنية الدُعَاءَيْنِ عدم إثبات النبي صلى الله عليه وسلم له وعدم إظهاره وتعليمه على أنه من القرآن كذلك.
(1)
أضواء البيان: (2/ 451).
(2)
يُنظر: الإتقان للسيوطي: (1/ 167 - 168)، ومعجم القراءات القرآنية (1/ 25).
(3)
- نكت الانتصار لنقل القرآن ص 81. ويُنظر: جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث، محمد شرعي أبو زيد، (ص: 274 - 288). بتصرف يسير.
ثالثًا: الإعجاز اللفظي لكلمات القرآن وجزالة أسلوبه واضح وجلى في كل سوره وآياته، ومن تأمل الدُعَاءَيْنِ ونظمهما وجدهما قاصرين عن نظم القرآن، ويعلم ذلك أهل البلاغة والبيان.
رابعًا: إن إثبات أُبَيٍّ للدُعَاءَيْنِ في مصحفه لا يدل على أنهما قرآنٌ منَزَّل، لأن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا يثبتون في مصاحفهم ما يحتاجون إليه من إيضاح مبهم، أو بيان غامض، وما يحتاجون إليه من معاني التفسير على مصاحفهم الخاصة كذلك، معتمدين على عدم وقوع إشكال لديهم في أن ما أثبتوه ليس بقرآن.
خامسًا: أم دعوى النسخ فقد يُقال بها حين اعتبار ثبوت ما نُسِب لأُبَيٍّ بن كعب أنه عدَّ دعاءي "الحفد والخلع" سورتين من القرآن.
سادسًا: إن مما يؤيد ويؤكد نفي قرآنية الدُعَاءَيْنِ كذلك عدم إثباتهم في الصحف البكرية، ولا في الصحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة- رضي الله عنهم ووافقة العرضة الأخيرة، الموافقة لما هو مثبت في اللوح المحفوظ.
سابعًا: إن مما يؤيد ويؤكد نفي قرآنية الدُعَاءَيْنِ رجوع أُبَيٍّ إلى حرف الجماعة،
وقد ثبت أن مصحفه كان مساويًا لمصحف الجماعة.
ثامنًا: أضف إلى ذلك أن الأعمش أحد رواة هذا الأثر مدلس كما سيأتي بيان ذلك بالتفصيل عند الكلام على الشبهة الثامنة والأخيرة بإذن الله تعالى.
تاسعًا: قول ابن سيرين: "
…
وتركهن ابن مسعودٍ"
فابن سيرين لم يدرك ابن مسعود ولم يسمع منه
(1)
، فهو أثر مرسل، وفيه انقطاع، وذلك لأن ابن سرين لم يدرك ابن مسعود، وسيأتي بيان ذلك بشيء من الإيضاح والبيان عند الكلام على الشبهة الثامنة والأخيرة بإذن الله تعالى.
يقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
" قال صاحب " الانتصار " ما نصه: " إن كلام القنوت المروي أن " أبيّ بن كعب " أثبته في مصحفه: لم تقم الحجة بأنه قرآن منزَّل، بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنًا لنُقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته ".
ثم يتابع- رحمه الله ويقول:
" ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآنًا منزلاً ثم نسخ، وأبيح الدعاء به وخلط بما ليس بقرآن.
(1)
يُنظر: سنن الدارمي: (1 (1924)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:(4/ 352)، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار:(2/ 36)، الغرر البهية في شرح منظومة البهجة الوردية (6/ 37)، فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي:(1/ 155)، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث:(ص: 86).
ولم يصح ذلك عنه، إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل ا. هـ.
وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية، وبعضهم ذكر أن أبيًّا- رضي الله عنه كتبه في مصحفه وسماه سورة " الخَلع والحَفد " لورود مادة هاتين الكلمتين فيه، وقد عرفت توجيه ذلك.
وختامًا:
فإن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلاً لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن، أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك، وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن، ولكن ندرة أدوات الكتابة، وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم، هوَّن عليهم ذلك؛ لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره،
فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن، مع أن الحقيقة ليست كذلك، إنما هي ما علمت ".
(1)
.
وبهذا ينتهى الكلام عن الشبهة السادس وجوابها والحمد لله.
الشبهة السابعة: المطاعن الوارد بشأن استنكار ابن مسعود تولي زيد الجمع دونه
زعموا أن اختيار الصديق لزيد بن ثابت ل قد أثار حَفِيظَةَ ابن مسعود وأغضبه، وكان هذا الاختيار بتقديم زيد عليه هو منطلق طعن الطاعنين على اعتراض ابن مسعود، وقد ارتكز الطاعنون واعتمدوا على روايات عدة.
أولًا: معرفة قدر ابن مسعود (ت: 32 هـ) ومكانته رضي الله عنه:
قبل رد هذه الشبهة لابد أولًا من معرفة قدر ومكانة ابن مسعود-رضي الله عنه وعلمه عمومًا، وعلو قدره وعلمه بالقرآن خصوصًا
(2)
.
(1)
مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 271).
(2)
- وابن مسعود هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الإمام الحبر فقيه الأمة أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري حليف بني زهرة.
سبقه للإسلام:
كان من السابقين الأولين ومن النجباء العالمين شهد بدرًا وهاجر الهجرتين وكان يوم اليرموك على النفل ومناقبه غزيرة روى علمًا كثيرًا. يُنظر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي (المتوفى: 748 هـ) دار الحديث - القاهرة ص 380.
سمته وهديه ودله:
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشَبَّهُ بِعَبْدِ اللهِ. يُنظر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي (المتوفى: 748 هـ) دار الحديث ص 297.
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ يَزِيْدَ قَالَ: قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَخْبِرْنَا بِرَجُلٍ قَرِيْبِ السَّمْتِ وَالدَّلِّ بِرَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَلْزَمَهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَداً أَقْرَبَ سَمْتًا وَلَا هَدْيًا وَلَا دَلاًّ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى =
ثانيًا: عرض الشبهة
= يُوَارِيَهُ جِدَارُ بَيْتِهِ مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ وَلَقَدْ عَلِمَ المَحْفُوْظُوْنَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ أَقْرَبِهِم إِلَى اللهِ زُلْفَةً. يُنظر: يُنظر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي (المتوفى: 748 هـ) دار الحديث ص 297.
هجرته وجهاده:
هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وصلى إلى القِبْلتين، وشهد بدرًا، وأُحُدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذى أجهز على أبى جهل يوم بدر.، يُنظر: التفسير والمفسرون، الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (المتوفى: 1398 هـ)، مكتبة وهبة- القاهرة ص 63 المجلد الأول.
سعة علمه عمومًا:
عن أبي البختري، قال: قالوا لعلي: أخبرنا عن ابن مسعود قال: "عَلِمَ القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا" وشهد له من التابعين: مسروق بن الأجدع من خيار التابعين وفضلائهم قال: وجدت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد، والإخاذ يروي الاثنين، والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم وإن عبد الله بن مسعود من تلك الإخاذ.
الإخاذ: بكسر الهمزة الموضع الذي يحبس الماء كالغدير. أي لرجعوا وهم مرتوون جميعًا. يُنظر. الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403 هـ) مكتبة السنة، ص 59.
سعة علمه بالقرآن خصوصُا:
وفي صحيح البخاري عن مسروق، قال: ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو - يعني ابن العاص، فقال: لا أزال أحبه بعد ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خُذُوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب". يُنظر: صحيح البخاري، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(8/ 663) ح (4713).
وقد كان من أعلم الناس بتفسير القرآن الكريم، بل كان يرى نفسه أنه أعلم الناس بكتاب الله. يُنظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403 هـ) مكتبة السنة، ص 58.
ولقد أفرد له البخاري-رحمه الله بابًا في كتاب الفضائل وأسماه باب مناقب عبد الله بن مسعود، وهذا بالتأكيد لفضله وسعة علمه ومكانته في الأمه-رضي الله عنه وأرضاه-. وما يدل على ذلك ما جاء عن الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ قَرَأتُ مِنْ فِيِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-بضعًا وسبعين سورة وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تبلغنيه الإبل لأتيته. يُنظر: التفسير والمفسرون، الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (المتوفى: 1398 هـ)، مكتبة وهبة- القاهرة:(1/ 62).
وعن سفيان الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ خُمَيْرِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَقَدْ قَرَأْتُ من فِي رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعِيْنَ سُوْرَةً وَزَيْدٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ يَلْعَبُ مع الغلمان.
وعن جابِرُ بنُ نُوْحٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ وَفِيْمَا نَزَلَتْ الحَدِيْثَ. يُنظر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي (المتوفى: 748 هـ) دار الحديث ص 288.
ومما يدلل على علو قدره ومكانته وعلمه بالقرآن كذلك:
ما أخبر به هو عن نفسه رضي الله عنه حيث قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقرَأْ عليَّ القرآن)، قلتُ: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: (إني أحبُّ أن أسمَعَه من غيري
…
). يُنظر: صحيح البخاري (6/ 195). ولقد كان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتابة الله وأعلمهم به.
وبالجملة:
فابن مسعود كما قيل: "من" أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، وقصصه وأمثاله، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرَّم حرامه، فقيه فى الدين، عالِم بالسُّنَّة، بصير بكتاب الله. يُنظر: التفسير والمفسرون، الدكتور محمد السيد حسين الذهبي (المتوفى: 1398 هـ)، مكتبة وهبة- القاهرة:(1/ 62).
وتوفي رضي الله عنه بالمدينة سنة 32 هـ.
وكانت هذه الماحة سريعة ونبذة مختصرة عن مكانته وقدره وعلمه، وليست ترجمة، وإن كانت في معناها. فلينتبه.
ورد أن بن مسعود- رضي الله- قال: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتَوَلاَّهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.
(1)
ثالثًا: رد الشبهة
إن مكانة وقدر ابن مسعود - رضي الله- عنه وسبقه للإسلام وعلمه بكتاب الله وتفسيره وأسباب نزوله، ومكانته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-عمومًا، ومن الصّحابة خصوصًا لا تخفى
اعتراض ابن مسعود لتولية أمر الجمع لزيد بن ثابت:
كان ابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة حين شرع عثمان في جمع المصحف، وكان عثمان قد اقتدى بالشّيخين قبله أبي بكر وعمر- رضي الله عنهم أجمعين- في اختيار زيد بن ثابت لهذه المهمّة، لكن أغضب ذلك عبد الله بن مسعود، حتّى قال: على قراءة من تأمرونّي أقرأ؟ لقد قرأت على رسول الله-صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة وإنّ زيدًا لصاحب ذؤابتين يلعب مع الصّبيان.
وفي رواية عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسديّ (ت: 82 هـ) رحمه الله، قال:
لمّا أمر عثمان-رضي الله عنه في المصاحف بما أمر به، قام عبد الله بن مسعود خطيبًا، فقال: أتأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ فو الّذي نفسي بيده، لقد أخذت من فِيِ رسول الله-صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة وزيد بن ثابت عند ذلك يلعب مع الغلمان، ثمّ استحيا ممّا قال، فقال: وما أنا بخيرهم، ثمّ نزل.
قال شقيق: فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وغيرهم، فما سمعت أحدًا ردّ ما قال
(2)
.
فهذا الخبر واضح في غضب ابن مسعود-رضي الله عنه من تقديم زيد بن ثابت عليه في هذه الوظيفة، وأنا أحيل غضب ابن مسعود-رضي الله عنه
(1)
- يُنظر: فتح الباري: (10/ 19)، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي:(6/ 188). وأخرجه الترمذي (3104) وقال: "هذا حديث حسَن صحيح"، وصححه ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 608).
(2)
حديث صحيح. أخرج الرّواية الأولى منه: النّسائيّ (رقم: 5063) من طريق هُبَيْرَةُ بْنُ يَرِيمَ، عن ابن مسعود.
قلت: وإسناده صحيح.
وأخرج الرّواية الثّانية: الطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 5595) من طريق عبد الواحد بن زياد، حدّثنا سليمان الأعمش، عن شقيق، به.
قلت: وإسناده صحيح.
وأصله في «الصّحيحين» : رواه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم: 2462) من طريقين آخرين عن الأعمش، نحوه.، يُنظر: المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله بن يوسف الجديع:(ص: 118) وما بعدها.
على أمرين مهمّين:
أوّلهما: ما يعلمه من نفسه من العناية بالقرآن كما يدلّ عليه قوله المذكور، مع التّزكية النّبويّة له في ذلك.
فتقدّم ذكره في الحديث فيمن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن من أصحابه
(1)
، وكذلك ما ثبت عن علقمة بن قيس النّخعيّ، قال:
جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه وهو بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلًا يملي المصاحف عن ظهر قلبه، قال: فغضب عمر وانتفخ حتّى كاد يملأ ما بين شعبتي الرّحل، وقال: ويحك، من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فو الله ما زال يطفأ ويذهب عنه الغضب حتّى عاد إلى حاله الّتي كان عليها، ثمّ قال: والله ما أعلم من النّاس أحدًا هو أحقّ بذلك منه، وسأخبركم عن ذلك، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر اللّيلة كذلك في الأمر من أمور المسلمين، وأنّه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فلمّا دخل المسجد إذا رجل قائم يصلّي، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته، فما كدنا نعرف الرّجل، قال رسول الله- صلى
الله عليه وسلم-: «من سرّه أن يقرأ القرآن رطبًا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» وذكر بقيّة الحديث
(2)
.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكّي قراءته، وهذا عمر من بعده يعدّه أولى النّاس بإقراء القرآن يومئذ.
(1)
- وهو ما روي عن مسروق، قال: ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو - يعني ابن العاص، فقال: لا أزال أحبه بعد ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خُذُوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب". صحيح البخاري، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(8/ 663) ح (4713). وقد سبق تخريجه آنفًا.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 175) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 8257)
وابن خزيمة في «صحيحه» (رقم: 1156) ويعقوب بن سفيان في «المعرفة» (2/ 538 - 539) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 5592، 5593) والطّبراني في «الكبير» (9/ 64، 65) والحاكم (رقم: 2893) وأبو نعيم في «الحلية» (رقم: 376) والبيهقيّ في «الكبرى» (1/ 452 - 453) من طرق عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة.
يزيد بعضهم ذكر طريق أخرى عن عمر.
وإسناده صحيح، جاء عن عمر من غير وجه، وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصّحابة، بعضهم يذكر القصّة، وبعضهم يكتفي بالمرفوع منها.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة (ت: 82 هـ) رحمه الله:
خطبنا عبد الله بن مسعود، فقال: والله، لقد أخذت من في رسول الله- صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم
(1)
.
فهذه التّزكية والقبول عند النّبيّ- صلى الله عليه وسلم وعامّة أصحابه أعطى ابن مسعود الحقّ في الاعتراض: أن يختار زيد بن ثابت ويقدّم عليه، وقد أسلم ابن مسعود وحفظ عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم-الكثير من القرآن وزيد يومئذ صبيّ لم يعرف الإسلام بعد فضلًا عن القرآن.
وثانيهما: شهوده العرضة الأخيرة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. -
فعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: أيّ القراءتين تعدّون أوّل؟ قالوا: قراءة عبد الله، قال: لا، بل هي الآخرة (وفي رواية: قراءتنا القراءة الأولى، وقراءة عبد الله قراءة الأخيرة)، كان يعرض القرآن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم في كلّ عام مرّة، فلمّا كان العام الّذي قبض فيه عرض عليه مرّتين، فشهده عبد الله، فعلم ما نسخ منه وما بدّل
(2)
.
ورد هذه الشبهة يكون من وجوه كثيرة، من أبرزها ما يلي:
الوجه الأول:
إن ابن مسعود- رضي الله عنه لم يشك في جمع زيد ولا في أهليته لذلك، ولا في الصحف العثمانية، وكل في ما في الأمر أنه يرى أهليته لذلك، ولم يطعن في أهلية زيد وقدره ومكانته، وقد أمضى الخليفتان أهليته لذلك وقَرَّرَاها.
واعتراضه- رضي الله عنه-لا ينافي عدم أهلية زيد لهذه المهمة، ولاشك في إصابة اختيار الخليفتين لزيد، وقد علما مؤهلاته وقدراته التي أهلته لتلك المهمة.
(1)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم: 2462)،
واللّفظ للبخاريّ.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 3422) وابن أبي شيبة (رقم: 30279) وابن سعد في «الطّبقات» (2/ 342) والبخاريّ في «خلق أفعال العباد» (رقم: 382) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7994، 8258) وأبو يعلى (رقم: 2562) والطّحاويّ في «شرح المعاني» (1/ 356)
و «شرح المشكل» (رقم: 286، 5590) وابن عساكر في «تاريخه» (33/ 140) من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاس، به.
والرّواية الأخرى لأبي يعلى. قلت: وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد (رقم: 2494، 2999) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 287) من طرق عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، بنحوه.
قلت (الجديع) وكذا سابقتها: وهذه متابعة صالحة.
لكن ابن مسعود رضي الله عنه يرى في نفسه كمال وتمام الأهلية لذلك.
و ابن مسعود- رضي الله عنه لم يكن اعتراضه على الجمع نفسه وعلى طريقته، وإنما كان على عدم إشراكه وقيامه به مع أهليته لذلك كما أسلفنا.
الوجه الثاني:
أن زيد لم ينفرد بمهمة الجمع وحده، بل شاركه فيها القرشيون الثلاثة وشارك فيه جمع غفير من جمهور الصحابة-رضي الله عنهم-كذلك، وقد تم ذلك كله تحت إشراف مباشرة من الخليفة الراشد- عثمان- رضي الله عنه.
الوجه الثالث:
ولو سلمنا جدلًا وافتراضًا للطعن الوارد في هذه الشبهة، من أنه كان على الجمع نفسه لا على اختيار زيدِ، فإنه ثبت بما لا يدع مجال للشك رجوعه- رضي الله عنه لرأي الجماعة ولزومها ويؤيد ذلك أمران:
الأمر الأول: تقديم مصحفه للحرق وذلك لما علم أنه الحق، ورجوعه لإجماع الصحابة- رضي الله عنهم على فعل عثمان في تحريق المصاحف وجمعهم على المصحف الإمام، وسيأتي ذلك بتفصيل وإيضاح أكثر في موضعه من المبحث القادم بإذن الله.
الأمر الثاني: ومما يؤيد رجوعه لو كان ذلك الطعن في الجمع نفسه كما افترضنا ذلك جدلًا، قراءة عاصم بن أبي النَّجود المنقولة بالتواتر، فقد ثبت تواترها عن ابن مسعود من طريق أصحابه من
أهل الكوفة، فإنه- رضي الله عنه قد أقرأ بالكوفة زمنًا، وقد تلقى هذه القراءة أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش وأبي عمرو سعد بن إياس الشيباني عن ابن مسعود رضِى الله عنه-.
ونسوق سند قراء عاصم بن أبي النَّجود من طريق "النشر" لابن الجزري:
فقد قرأ عاصم بن أبي النَّجود على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلميّ الضرير، وأبي مريم زِرِّ بن حُبَيْش بن حُباشة الأسديّ، وأبي عمرو سعد بن إياس الشيباني، وقرأ هؤلاء الثلاثة على عبد الله بن مسعود.
(1)
ولا شك في أن سند قراءة عاصم المتواترة والتي ينتهي سنده فيها إلى ابن مسعود- رضي الله عنه دليل ساطع قاطع على رجوعه ولزومه أمر الجماعة، هذا إن ثبت الطعن في الجمع نفسه كما افترضنا ذلك جدلًا.
(1)
- يُنظر سند رواية حفص عن عاصم من كتاب: (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري: (1/ 140).
الوجه الرابع:
إن في عهديه الثاني والثالث- البكري والعثماني- قد ثبت تواتره، وقد أقره جمع غفير من الصحابة- بل كلهم- وهم يستحيل تواطؤهم على الكذب، وإن هذا التواتر يكفي قطعًا بصحته وثبوته، فلو طعن طاعن أو قدح قادح في هذا الجمع الذي ثبت بالتواتر فإنه لا يؤثر أبدًا كائنًا من كان، وقد ثبت هذا التواتر في عهدي رجلين هما من خيرة طليعة هذه الأمة وهما خليفتا رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وكان في طليعة المشاركين بالقول الرشيد والرأي السديد في الجمع الأول الخليفة الراشد الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وذلك بإجماع خير هذه الأمة من المهاجرين والأنصار ومن شاركهم من خير جيل التابعين-رضي الله عنه أجمعين-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
والقرآن الذي بين لوحي المصحف متواتر؛ فإن هذه المصاحف المكتوبة اتفق عليها الصحابة، ونقلوها قرآنا عن النبي-صلى الله عليه وسلم-وهي متواترة من عهد الصحابة، نعلم علمًا ضروريًا أنها ما غيرت، والقراءة المعروفة عن السلف الموافقة للمصحف تجوز القراءة بها بلا نزاع بين الأئمة، ولا فرق عند الأئمة بين قراءة أبي جعفر ويعقوب، وخَلَف، وبين قراءة حمزة والكسائي، وأبي عمرو ونعيم، ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن القراءة مختصة بالقراء السبعة.
(1)
وقال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله:
"
…
فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة من السبع متواترة، هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، ومن قال غيره فغالط أو جاهل ".
(2)
وقال ابن النجار الفتوحي (ت: 972 هـ) رحمه الله:
" وَالْقِرَاءاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ "الْغَايَةِ"، وَقَالَ: قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: آحَاد ".
(3)
وقال الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
" والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة، وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري ".
(4)
(1)
- مجموع فتاوى ابن تيمية: (3/ 137).
(2)
المجموع للنووي: (3/ 392).
(3)
شرح الكوكب المنير: (2/ 127).
(4)
مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 441).
الوجه الخامس:
لما رأى حذيفة- رضي الله عنه من اختلاف القراء في العراق وقت فتح إرمنية وأذربيجان، ركب إلى المدينة وأخبر الخليفة الرشد عثمان لتدارك الأمر، فقال:
يا أمير المؤمنين أدرك الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
وقد روى البخاري هذا الخبر بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك- رضي الله عنه حدثه: " أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمنية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
…
".
(1)
فهذا الأمر الجلل قد هال الخليفة الراشد وأفزعه وسارع لتدارك الأمر، وهو بالمدينة وابن مسعود يومئذ بالكوفة، فالأمر جلل لا يحتمل التأخير لحضور ابن مسعود، فلتعجيل الأمر وانقاذًا لكتاب الله من اختلاف القراء وتنازعهم في أوجه القراءة عجل عثمان لتدرك الأمر بتكليف زيدِ لهذه
المهمة العظيمة والتي هو خليق لها، فقد حمل زيد مقومات عظيمة أهلته لهذه المهمة الجسيمة وقدمته على غيره، وكان من أبرز تلك المقومات ما يلي:
1 -
أنه كان من كتاب الوحي
2 -
قيل أنه كان ممن شهد العرضة الأخيرة
3 -
أنه هو الذي قام بمهمة الجمع الشاقَّة الأولى في عهد الصديق رضي الله عنه.
4 -
فقد توافر الدواعي الداعية لاختياره للقيام بالمهمة المنوطة به على الوجه المطلوب وذلك لتحقق الخبرة السابقة المطلوبة فيه من الجهات السابق ذكرها كلها.
(1)
- ينظر: صحيح البخاري: (4/ 1908) ح (4720).
الوجه السادس:
نؤكد هنا على أن اعتراض ابن مسعود- رضي الله عنه لم يكن أبدًا على حرف زيد وقد تلقى من فِيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، فكيف يترك حرفه لحرف غيره، وليس في فعله وقوله هذا أي طعن على حرف زيد.
وفي نحو ذلك يقول الباقلاني (ت: 403 هـ) رحمه الله:
ليست شهادة عبد الله لحرفه وأنه أخذه من فم رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم طعنًا على حرف غيره، ولكنه عنده حجةٌ في أنه لا يَجِب عليه تركه، وتحريق مصحف هو فيه.
(1)
الوجه السابع:
إن مكانة ابن مسعود من القرآن لا يختلف فيها اثنان، وأما كونه أعلم الصحابة- رضي الله عنهم بكتاب الله على الإطلاق، كما أخبر هو بذلك عن نفسه، فهو محل اجتهاد منه- رضي الله عنه وذلك لما نال من تزكيات النبي-صلى الله عليه وسلم ولسبقه في هذا الفضل العظيم، وهذا لاشك اجتهاده منه له وجهته ووجاهته لعظيم قدره وفضل سبقه وعلمه بكتاب الله تعالى.
وفي نحو ذلك يقول الباقلاني (ت: 403 هـ) رحمه الله:
أن قول ابن مسعود: وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. ليس قطعًا على أنه ليس فيهم من هو أعلم منه بكتاب الله، وإنما هو اعتقاد ابن مسعود، وهو غير معصوم في هذا الاعتقاد.
(2)
فهو- رضي الله عنه قد ذكر ما أداه إليه اجتهاده، ونقول ذلك تأدبًا مع إمام من أئمة الهدى ومصباح من مصابيح الدجى، ولكونه من طليعة خيرة أمة أخرجت للناس ومن السابقين الأولين،
ولكونه من خيرة علماء الصحابة ومن حملة الوحي وحفاظه، ولكونه في طليعة من نالوا تزكية الرب العظيم جل في علاه المذكورة في قوله سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).
وأخيرًا فلاشك في:
أن الاستنكار المروي عن ابن مسعودٍ- رضي الله عنه لم يكن طعنًا في زيد، ولا استنكارًا لفعل الصحابة، وإنَّما كان استنكارًا لاختيار من يقوم بِهذا الجمع، إذ كان يرى في نفسه أنه الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، طمعًا في هذا الفضل العظيم والأجر الجزيل والثواب العميم، مع كمال ثقته في زيدٍ وأهليتِه للنهوض بِما أسند إليه.
(1)
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
(2)
نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
ومسألة اختيار من يقوم بالجمع تقديرية، ولا شكَّ أن تقدير عثمان، ومن قبله أبو بكر وعمر أن زيدًا أكفأ من غيره للقيام بِهذا العمل -أصدق من تقدير ابن مسعودٍ له، كما مرَّ بنا قريبًا في تصويب اختيار عثمان زيدًا على غيره.
(1)
وبهذا ينتهى عرض الشبهة السابعة وجوابها. والحمد لله رب العالمين.
الشبهة الثامنة: موقف ابن مسعود (ت: 32 هـ) رحمه الله: رضي الله عنه من الفاتحة والمعوذتين
وسنتناول في ضوئها ثمان محاور رئيسة على النحو التالي:
المحور الأول: مضمون هذه الشبهة وفحواها:
وهي شبهة: خلو مصحفه من فاتحة الكتاب، وقوله بأن المعوذتين ليستا من القرآن الكريم.
وحول فحوى هذه الشبه يقول الزُّرْقاني (ت: 1376 هـ) رحمه الله في "مناهله":
طعن بعض الطاعنين على بأن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه أنكر أن المعوذتين من القرآن، وكان يَمحوهما من المصحف، وأنه لم يكتب فاتحة الكتاب في مصحفه، وزعموا أن في ذلك قدحًا في تواتر القرآن.
(2)
المحور الثاني: القول بأنَّ المعوذتين دُعَاءٌ تَعَوَّذَ بهِما ولَيْسَتَا مِن القرآنِ ورد هذه الشبهة خاصة
ذكر جملة من تلك الأقوال ومناقشتها:
القول الأول: قول المَاوَرْدِيُّ: وهو: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبيبٍ المَاوَرْدِيُّ (ت: 450 هـ)
قال: وزَعَمَ ابنُ مسعودٍ أنَّهما دُعَاءٌ تَعَوَّذَ بهِ ولَيْسَتَا مِن القرآنِ، وهذا قولٌ خالَفَ به الإجماعَ مِن الصحابةِ وأهلِ البيتِ ..
(3)
القول الثاني: قول السَّخَاوِيُّ: وهو: علمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ)
قال: وَهَاتَانِ السُّورَتانِ منَ القُرآنِ بإجْمَاعِ الأمَّةِ، وَيُرْوَى عنِ ابنِ مَسْعودٍ أنَّه كانَ يَحُكُّهُمَا مِنَ المصَاحِفِ وَيقُول:(لا تزيدوا في كِتَابِ اللهِ ما ليسَ منه)، فإنْ كانَ هذَا صَحِيحًا عنهُ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بهمَا سِبْطَيهِ فَظَنَّ أنهما عُوذَتانِ. والمسلمون كلهم على خلاف ذلك.
(4)
القول الثالث: قول العزُ بن عَبْدِ السلامِ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ السُّلَمِيُّ (ت: 660 هـ)
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 283).
(2)
نفس المرجع السابق: (1/ 275).
(3)
- النكت والعيون: (6/ 373).
(4)
- جمال القراء: (1/ 203 - 204).
قال: وَخَالَفَ ابنُ مسعودٍ-رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ- الإِجماعَ بقولِهِ: هُمَا عُوْذَتَانِ، وَلَيْسَتَا مِن القرآنِ الكريمِ.
(1)
رد هذه الشبهة خاصة:
أولًا: ما الذي يمنع من التعوذ بالمعوذتين مع كونهما من القرآن؟!
ثانيًا: هل التعوذ بها ينفي كونهما من القرآن، وقد قال الله تعالى:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)(الإسراء: 82)
ثالثًا: صح عند النسائي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه قال:
كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ من عينِ الجانِّ، وعينِ الإنسِ، فلما نزلتِ المُعوِّذتانِ، أخذ بهم، وترك ما سوى ذلك.
(2)
وقوله: (فلما نزلتِ المُعوِّذتانِ، أخذ بهم، وترك ما سوى ذلك) فلم ينف قرآنيتهما مع كونهما عوذتين.
رابعًا: لا يستدل بهذا الحديث وما في نحوه على أنه- صلى الله عليه وسلم ترك كل ما كان يتعوذ به من التعوذات الشرعية الدالة على توحيد الله تعالى وحسن الظن به سبحانه والثقة به والتوكل عليه والإنابة إليه سبحانه؛ اكتفاء بالمعوذتين.
خامسًا: إن التعوذ بهما يُحمل على أنه مقدم على ما سوهما، تعظيمًا لشأنيهما وما ورد فيهما، ولكونهما من القرآن الذي هو كلام الله تعالى، وفضل كلام الله على سائر الكلام لا يخفى.
سادسًا: أن الإعجاز اللفظي وجزالته وحسن البيان والتماسك النصي الظاهر في المعوذتين يكفي لتأكيد قرآنيتهما.
وفي نحو ما سبق تقريره يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله:
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الأول: أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
الثاني: وَأَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.
الثالث: وَأَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَلْ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
(1)
- تفسير القرآن: (3/ 509).
(2)
- رواه الترمذي: (2058) وحسنه، والنسائي:(5494)، وابن ماجة (3511)، وصححه الألباني في صحيح النسائي، برقم:(5509).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله: (فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا) يدل على أنهما أولى من غيرهما في التعوذ من الجان وعين الإنسان خاصة، لا في مطلق الاستعاذة.
(1)
وفي نحو قول الحافظ يقول الشوكاني (ت: 1250 هـ) رحمه الله أيضًا:
فِي الحَدِيث دَلِيل على أن الِاسْتِعَاذَة بِهَاتَيْنِ السورتين: أولى من الِاسْتِعَاذَة بِغَيْرِهِمَا، لَكِن لَا فِي مُطلق الِاسْتِعَاذَة، بل فِي التَّعَوُّذ من الجان وَعين الْإِنْسَان.
(2)
وهذا التوجيه الذي عزاه الحافظ لبعض أهل العلم، توجيه له وجاته وقوته، وإن لم يكن الأرجح ولذا أخره الحافظ، وَذِكْرُ الشوكانيِ له هنا كذلك، يقويه ويعلى مناره.
ووما يؤكد ما سبق ذكره وما ضُم إليه قولي الحافظ، والشوكاني، فإنه-صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بهما سبطيه، كما كان يعوذهما بغيرهما كذلك، ما ثبت عند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: (إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.
(3)
يقرر الباحث فيقول:
إن في القول بمكية المعوذتين خلاف مشهور، وقد قال به جمع من أهل العلم، وهو قول له قوته واعتباره، وبعد البحث والتنقيب تميل النفس إليه ولا تجزم به.
(4)
فعلى القول بمكتيهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عوذ سبطيه بغيرهما، وكان ذلك بعد نزولهما، وإن سبطيه قد ولدا بعد الهجرة بالمدينة، فقد ولد الحسن في السنة الثالثة من الهجرة، وولد الحسين بعده بسنة واحدة.
والرد والمناقشة هنا كان على اعتبار القول بأنهما عوذتين- فحسب- وسيأتي الرد الشافي الكافي الوافي بالتفصيل والتأصيل في رد عموم الشبهة الوارد في شأن القول بأن المعوذتين ليستا من القرآن الكريم.
المحور الثالث: أبرز الآثار الواردة في شبهة الفاتحة والمعوذتين ومناقشتها:
وفي صدد الطعن الوارد في مصحف ابن مسعود وخلوه من الفاتحة والمعوذتين فقد وردت في ذلك آثار وروايات كثيرة ومتعددة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
الأثر الأول: ما رواه الأعمش (ت: 147 هـ): عن إبراهيم
(5)
أنه قال:
(1)
- فتح الباري: (10/ 195). بتصرف يسير.
(2)
- تحفة الذاكرين: (ص: 415).
(3)
- صحيح البخاري (3371)
(4)
- وللاستزادة من بحث نزول المعوذتين، يُنظر: تفسير القرطبي: (20/ 251)، التحرير والتنوير:(30/ 624)، وزاد المسير:(4/ 510)، فتح القدير:(5/ 642).
(5)
- هو: إبراهيم النخعي، وستأتي ترجمته.
قيل لعبد الله بن مسعود: لِمَ لمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة.
(1)
.
فإن قيل: لو كانت الفاتحة من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، ولمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن.
قلنا: يجيب عن هذا المعنى ويجليه ابن الأنباري حيث يقول رحمه الله:
يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها، فقال: اختصرتُ بإسقاطها، ووثقتُ بحفظ المسلمين لها، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة إذا كانت تتقدمها في الصلاة.
(2)
الأثر الثاني: ما رواه أبو عُبيدٍ القاسم بن سلاّم (ت: 224 هـ) عن ابن سيرين قال: كتب أُبَيُّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب، وتركها ابن مسعود.
(3)
الأثر الثالث: ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبي شَيْبَةَ العَبْسيُّ (ت: 235 هـ):
قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَال: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لا يَكْتُبُ المُعَوِّذَتَيْنِ.
(4)
الأثر الرابع: ما رواه عليُّ بنُ أبي بكرِ بنِ سُليمَانَ الهَيْثَميُّ (ت: 807 هـ):
عن عبدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ - يعني: النَّخَعِيَّ- قالَ: كانَ عبدُ اللهِ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِن مَصاحِفِه ويقولُ: إِنَّهُما ليسَتا مِن كِتاب اللهِ تبارك وتعالى.
(5)
وقد رواه كذلك أحمد في المسند من طريق أبي إسحاق السبيعي والأعمش كذلك.
(6)
المحور الرابع: أبرز رواة الآثار الواردة في هذه الشبهة في الميزان:
أولًا: الراوي الأول: الأعمش
الكلام على الأعمش: الأعمش هو: سليمان بن مهران الأسدي.
(7)
(1)
- يُنظر: تفسير القرطبي: (1/ 81)، تفسير ابن كثير (1/ 10)، وفي سنده انقطاع؛ فإن إبراهيم النخعي لم يدرك ابن مسعود. كما في:(تهذيب التهذيب (1/ 155).
(2)
- تفسير القرطبي (1/ 81).
(3)
ذكره السيوطي في الإتقان (1/ 205، 249)، وصحح إسناده.
(4)
- المصنف: (10/ 540).
(5)
- رَوَاهُ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ والطبرانيُّ، ورِجالُ عبدِ اللهِ رِجالُ الصحيحِ، ورِجالُ الطبرانيِّ ثِقَاتٌ:(مجمع الزوائد: 7/ 149).
(6)
رواه أحمد في المسند: (5/ 129)، وغيره من طريق أبي إسحاق السبيعي والأعمش، وكلاهما ثقة مدلس من رجال الصحيحين، وقد اختلط السبيعي بأخرة. فإذا أتيا بالرواية معنعنة تصير معلولة:(العلل للدار قطني). وهذه الرواية معلولة بالعنعنة.
(7)
- الأعمش هو: سليمان بن مهران أبو محمد الأسدي الكاهلي، وكان مولده يوم =
وهو وإن كان أحد الحفاظ الأعلام إلا أنه موصوف بالتدليس.
وهو- موصوف بالتدليس عند النسائي والدار قطني كما في " طبقات المدلسين ".
(1)
.
وقال ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ) في "الجرح والتعديل:
وسُئل أبي عن الأعمش ومنصور فقال: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن، لا يدلس ولا يخلط.
(2)
وقال سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الشَّاذَكُوْنِيّ (ت: 234 هـ):
(3)
من أراد التديّن بالحديث، فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة، إلا ما قالا: سمعناه.
(4)
.
والشَّاذَكُوْنِيُّ: يعني أنه لا يأخذ عنه إلا إذا صرح بالتحديث بصيغة سمعنا أو ما يقوم مقامها، وأنه إذا عنعن دلس.
= استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب وذلك يوم عاشوراء في المحرم سنة ستين للهجرة، وأعده أصحاب الطبقات من الطبقة الرابعة من التابعين. وعاش الأعمش في الكوفة، وكان محدثها في زمانه.
أدرك الأعمش جماعة من الصحابة وعاصرهم ورأى أنس بن مالك وسمعه يقرأ ولم يحمل عنه شيئًا مرفوعًا وأرسل عن ابن أبي أوفى، وتعلم من أبي إسحاق وأبي صالح ومن زيد بن وهب، وسمع من المعرور بن سويد وأبا وائل شقيق بن سلمة وعمارة بن عمير وإبراهيم التيمي وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبير وإبراهيم النخعي والإمام الزهري.
يعتبر سليمان بن مهران الأعمش من الطبقة الخامسة من طبقات رواة الحديث النبوي التي تضم صغار التابعين ورتبته عند أهل الحديث وعلماء الجرح والتعديل وفي كتب علم التراجم يعتبر ثقة حافظ عارف بالقراءات، ورع، لكنه يدلس، وعند الإمام شمس الدين الذهبي الحافظ، أحد الأعلام. ولد في عام 61 هـ وتوفي في عام 147 أو 148 هـ.
للاستزادة يُنظر: سير أعلام النبلاء، المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، 1405 هـ/ 1985 م.، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تأليف: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي (المتوفى: 742 هـ)، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى، 1400 - 1980.
(1)
طبقات المدلسين: (ص/ 33)
(2)
- الجرح والتعديل: (8/ 178)
(3)
- العَالِمُ، الحَافِظُ، البَارعُ، أَبُو أَيُّوْبَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ بنِ بِشْرٍ المِنْقَرِيُّ، البَصْرِيُّ، الشَّاذَكُوْنِيُّ، أَحَدُ الهَلْكَى، سير أعلام التابعين:(9/ 70)، وللاستزادة من ترجمته يُنظر: ما يلي:
ترجمته في الضعفاء الكبير للعقيلي "2/ ترجمة 610"، والجرح والتعديل "4/ ترجمة 498"، والكامل لابن عدي "3/ ترجمة 765"، وتاريخ بغداد "9/ 40"، والأنساب للسمعاني "7/ 238"، واللباب لابن الأثير "2/ 172"، والعبر "1/ 416"، وتذكرة الحفاظ "2/ ترجمة 503"، وميزان الاعتدال "2/ 250"، ولسان الميزان "3/ 84"، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي "2/ 80" ..
(4)
- معرفة علوم الحديث: (1/ 107)
تقسيم تدليس الأعمش:
قسم الذهبي تدليس الأعمش في "ميزان الاعتدال" فقال:
وهو- الأعمش - يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: أخبرنا فلان- فلا كلام-، ومتى قال:"عن" تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
(1)
والذهبي هنا: يتفق تمامًا مع الشَّاذَكُوْنِيُّ أنه إذا حدث بالتصريح بصيغة أخبرنا فلان، أو بما يقوم مقامها من صيغ التصريح بالتحديث- فلا كلام-، يعني: أن حديثه مقبول، وهو يعني كذلك: أنه إذا عنعن دلس كذلك.
والبخاري قد أعل خبرًا للأعمش:
والإمام البخاري قد أعل في "التاريخ الصغير" خبرًا رواه الأعمش عن سالم، يتعلق بالتشيع، فقال رحمه الله:"والأعمش لا يُدرَى سمع هذا من سالم أم لا؛ قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش أنه قال: نستغفر الله من أشياء كنا نرويها على وجه التعجب، اتخذوها دينًا".
(2)
موقف شعبة بن الحجاج الأزدي (ت: 160 هـ)، من مرويات المدلس:
وهذا شعبة بن الحجاج الأزدي إمام المحدثين في العراق: يرد جميع مرويات المدلس التي لم يصرّح فيها بالسماع ولو كان قتادة.
فيقول رحمه الله:
"كنتُ أتَفَطَّن إلى فَمِ قتادة: فإذا قال "حدَّثَنا "، كتبتُ. وإذا قال "حَدَّثَ"، لم أكتب".
(3)
وقد أسند ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت شعبة يقول: «كنتُ أنظرُ الى فم قتادة: فإذا قال للحديث "حدَّثنا" عنيت به، فوقفته عليه. وإذا لم يقل "حدثنا" لم أعْنَ به".
(4)
(1)
ميزان الاعتدال" (3/ 316).
(2)
- التاريخ الصغير، للبخاري:(ص 68)، وكتاب: التاريخ الصغير ويُسمّى: التاريخ الأوسط وسبب هذا الاختلاف في تسميته هو أن: الإمام البخاري لم يُسمِّ كتابه هذا. وقد قال في المقدمة: كتاب مختصر من تاريخ النبي-صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وطبقات التابعين لهم بإحسان ومن بعدهم ووفاتهم وبعض نسبهم وكناهم ومن يرغب في حديثه وقد استفاض أنساب قوم عند أهليهم فتداولوها وعرفها الناس بشهرتها فإن تنازعوا في شيء منها احتج حينئذ إلى البيان والحجة.
(3)
- يُنظر: تاريخ ابن معين: (رواية عثمان الدارمي)(1/ 192).
(4)
-الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (1/ 169).
ولذا قال البيهقي (ت: 458 هـ) رحمه الله في "معرفة السنن والآثار":
روينا عن شعبة قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبي إسحاق وقتادة".
(1)
ولهذا قال الحافظ ابن حجر في: " تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس":
"فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة: أنها إذا جاءت من طريق شعبة، دَلّت على السماع ولو كانت معنعنة"
(2)
.
ثانيًا: الراوي الثاني: أبو إسحاق السبيعي
(3)
الكلام على أبي إسحاق السبيعي:
وأبو إسحاق السبيعي هو: عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني.
مشهور بالتدليس وهو تابعي ثقة، وثقه النسائي وابن معين وقال عنه العجلي: كوفي تابعي ثقة.
قال عنه ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ) رحمه الله:
ثقة: وهو أحفظ من أبي إسحاق الشيباني، ويشبه الزهري في كثرة الرواية واتساعه.
وقال ابن حِبَّان الدارمي، البُستي (ت: 354 هـ) رحمه الله في كلامه عن الطبقة الثالثة من المدلسين:
"الثقات المدلسون الذين كانوا يدلسون في الأخبار مثل
…
والأعمش وأبو إسحاق و
…
ومن أشبههم ممن يكثر عددهم من الأئمة المرضيين وأهل الورع في الدين كانوا يكتبون عن الكل ويروون عمن سمعوا منه فربما دلسوا عن الشيخ بعد سماعهم عنه عن أقوام ضعفاء لا يجوز
الاحتجاج بأخبارهم، فما لم يقل المدلس وإن كان ثقة حدثني أو سمعت فلا يجوز الاحتجاج بخبره ..
(1)
يُنظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، أبواب الطهارة- باب: 1، (1/ 20).
(2)
يُنظر: طبقات المدلسين- تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس- للحافظ ابن حجر: (1/ 58):
(3)
- أبو إسحاق السبيعي: (33 هـ - 127 هـ) تابعي وأحد رواة الحديث النبوي، وعالم أهل الكوفة ومحدثها في زمانه.
وأبو إسحاق السبيعي هو: عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبد الله بن علي الهمداني الكوفي الحافظ، شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها لم أظفر له بنسب متصل إلى السبيع، وهو من ذرية سبيع بن صعب بن معاوية بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان. وكان رحمه الله من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين.
يُنظر: سير أعلام النبلاء: (5/ 939).
قال يعقوب بن سفيان الفسوي الفارسي (ت: 277 هـ) رحمه الله:
أبو إسحاق رجل من التابعين وهو ممن يعتمد عليه الناس في الحديث هو والأعمش إلا أنهما وسفيان يدلسون، والتدليس من قديم.
(1)
وقال أيضًا:
حديث سفيان وأبي إسحاق، والأعمش، ما لم يعلم أنه مدلَّس، يقوم مقام الحجة.
(2)
وقال يعقوب بن شيبة السدوسي (ت: 262 هـ) رحمه الله:
سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يقل " حدثنا "؟ قال:
إن كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول: حدثنا.
(3)
وابن المديني: كذلك يصرح أن المدلس لا يُقبل حديثه ولا يكون حجة إلا إذا صرح بصيغة من صيغ التصريح بالتحديث كـ"حدثنا" ونحوها، وهكذا سائر الأئمة.
اختلاط أبي إسحاق:
وقد سطر اختلاط أبي إسحاق أكثر من واحد من النقاد، منهم:
1 -
الحافظ ابن حجر في: مقدمة "الفتح"، وفي " تقريب التهذيب ".
(4)
2 -
وبرهان الدين الحلبي في: " الاغتباط بمعرفة من رمي بالاختلاط".
(5)
3 -
والكيال في: "الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقاة ".
(6)
.
وأبو إسحاق، والأعمش- قد عنعنا- هنا- في هاتين الروايتين ولم يصرحا بالتحديث، ومع ذلك فهي مخالفة للرواية الأصح! وهي رواية البخاري التي ليس فيها التصريح بإنكار المعوذتين، وسيأتي معنا نص رواية البخاري وتوجيهها بإذن الله تعالى.
(1)
للاستزادة يُنظر: المعرفة والتاريخ (2/ 633، 637)، (3/ 75، 76)، تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1212)، علل الحديث لابن أبي حاتم (279)، المجروحين (1/ 92)، سنن البيهقي الكبرى (1/ 201)، معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 86)، تهذيب الكمال (5/ 431)، الميزان
(5/ 326)، سير أعلام النبلاء (5/ 394، 398)، شرح علل الترمذي (2/ 710، 711)، تهذيب التهذيب (6/ 172)، التقريب (ص: 739)، تعريف أهل التقديس (ص 42).
(2)
المعرفة والتاريخ: (2/ 637).
(3)
- يُنظر: الكفاية: (362).
(4)
يُنظر: مقدمة فتح الباري: (431)، تقريب التهذيب:(639).
(5)
يُنظر: الاغتباط (ص: 87) ترجمة رقم: (85) ط: دار الكتاب العربي
(6)
يُنظر: الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقاة ": (ص: 84) ط: دار الكتب العلمية.
ثالثًا: الراوي الثالث: ابن سيرين
.
(1)
الكلام على ابن سيرين (ت: 110 هـ) وأثره:
أما ابن سيرين والأثر المروي عنه: فابن سيرين لم يدرك ابن مسعود ولم يسمع منه
(2)
، فالأثر مرسل، وبينه وبين ابن مسعود انقطاع، وهذه علة قادحة فيه.
فابن سيرين ولد في آخر سنتين من خلافة عثمان- رضي الله عنه.
وفي ذلك يقول-أخوه- أنس بن سيرين (ت: 118 هـ) رحمه الله:
ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وولدت بعده بسنة قابلة.
(3)
. وبهذا يتبنين عدم صحة أثر ابن سيرين. والحمد لله.
المحور الخامس: إيراد رواية إثبات قرآنية المعوذتين عند البخاري
عن زِرُّ بنُ حُبَيشٍ قال: سَأَلْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، قُلتُ: يا أبَا المُنْذِرِ إنَّ أخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يقولُ كَذَا وكَذَا، فَقالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقالَ لِي: قيلَ لي فَقُلتُ قالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كما قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(4)
فقول أُبَيٌّ: "سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، يعني عن المَعوِّذتَين، هل هُما مِن القُرآنِ؟! وقوله:"قيلَ لي"، فقلتُ، أي: رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: قالَ: أي: قال لي أي:
(1)
ابن سيرين هو: أبو بكر محمد بن سيرين الإمام وشيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأَنَسِي، البصري، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله-صلى الله عليه وسلم. -
كان أبوه من سبي جرجرايا، (جرجرايا: هي بلد من أعمال النهروان، بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي، يُنظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت
الطبعة الثانية، 1995 م، 2/ 123.
تملَّكه أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم كَاتَبَه على أُلُوفٍ من المال، فوفَّاه وعجل له مال الكتابة قبل حلوله، فتمنَّع أنسٌ من أخذه لمَّا رأى سيرين قد كثر ماله من التجارة، وأمل أن يرثه، فحاكمه إلى عمر- رضي الله عنه، فألزمه تعجيل المؤجَّل.
الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحقِّقين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ= 1985 م، 4/ 606.
وفاة ابن سيرين-رحمه الله تعالى-:
اتَّفق المؤرخون على أنَّ ابن سيرين تُوفِّي بالبصرة سنة عشر ومائة (110 هـ) بعد الحسن البصري بمائة يوم، قال حمَّاد بن زيد: مات الحسن أول رجب سنة عشر ومائة، ومات ابن سيرين لتسعٍ مضين من شوال سنة عشر ومائة. يُنظر: النووي: تهذيب الأسماء واللغات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1/ 84، والذهبي: تاريخ الإسلام، 3/ 159.
(2)
يُنظر: سنن الدارمي: (1 (1924)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:(4/ 352)، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار:(2/ 36)، الغرر البهية في شرح منظومة البهجة الوردية (6/ 37)، فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي:(1/ 155)، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث:(ص: 86).
(3)
- يُنظر: سير اعلام النبلاء: (ص: 607).
(4)
- صحيح البخاري: (4977).
جِبريلُ: قال إنَّهما مِن القُرآنِ، فقُلتُ كما قالَ لي جِبريلُ؛ وقول أُبَيٌّ "فنَحنُ نَقول كما قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، أي: نقول كما قال له جبريل أن المَعوِّذتَينِ مِن القُرآنِ.
وإن صح أن ابن مَسعودٍ رضي الله عنه لم يثبت المعوذتين في مُصحَفِه، فإن ذلك لا يعني إنكاره لقرآنيتهما.
المحور السادس: جواب هذه الشبهة في ضوء رواية البخاري نفسها:
إذا تأملنا رواية البخاري هذه تحقق لدينا ما يلي:
أولًا: أن هذا الأثر قد رواه جمع من الأئمة غير البخاري، منهم الإمام أَحْمَد وَابْن حِبَّان وغيرهما، إذا فالرواية ليست مما تفرد البخاري بروايته.
ثانيًا: أن البخاري صرح بقول أُبَيّ ولم يبهمه.
ثالثًا: أن البخاري أبهم قول ابن مسعود ولم يصرح به كما صرح بقول أُبَيّ، بل رواه مبهمًا، وذلك والله أعلم مما يدلل على إنكار البخاري لهذا القول لكونه مخالفًا لما ثبت من تواتر قراءة ابن مسعود التي أقرأ بها، وهي لا شك تشتمل على المعوذتين، كما أن إنكار المعوذتين كذلك مخالف لما عليه جماهير المسلمين وإجماعهم.
رابعًا: فعل البخاري هذا يدل على فقهه وسعة علمه.
ومما يدلل على ما سبق ذكره- قول الحافظ رحمه الله في الفتح-:
هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ مُبْهَمًا، وَكَأَنَّ بَعْض الرُّوَاة أَبْهَمَهُ اِسْتِعْظَامًا لَهُ .. إلى أن قال: وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَابْن حِبَّان مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بِلَفْظِ: إِنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود كَانَ لَا يَكْتُب الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفه، وَأَخْرَجَ أَحْمَد عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم بِلَفْظِ: إِنَّ عَبْد اللَّه يَقُول فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِبْهَام، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد فِي زِيَادَات الْمُسْنَد وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَحُكّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفه، وَيَقُول: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب اللَّه، قَالَ الْأَعْمَش: وَقَدْ حَدَّثَنَا عَاصِم عَنْ زِرّ عَنْ أُبَيِّ بْن كَعْب فَذَكَرَ نَحْو حَدِيث قُتَيْبَة الَّذِي فِي الْبَاب الْمَاضِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّار، وَفِي آخِره يَقُول: إِنَّمَا أُمِرَ النَّبِيّ-صلى الله عليه وسلم-أَنْ يَتَعَوَّذ بِهِمَا".
(1)
فالبخاري أراد الاستدلال بقول أُبَيّ لا برأي ابن مسعود، ولذا لم يصرح به فأورده عرضًا لَمَّا ساق إسناده، وإن دل هذا على شيء ظاهر، فإنما يدل على أمرين:
الأول: فقهه الإمام البخاري من جهة.
والثاني: على عدم إقراره بذلك من جهة أخرى.
(1)
- فتح الباري: (8/ 742).
ومما يجلي ويعاضد رواية البخارية رواية ودراية ومعنى كذلك ما رواه حَيْدَرُ بْنُ عَلِيٍّ القَاشِيُّ (ت: 776 هـ):
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لا يَكْتُبُ المُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ قَال: قُلْ (أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) فَقُلْتُهَا، فَقَال:(قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) فَقُلْتُهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
المحور السابع: أقوال العلماء فيما رُوي عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين
الفاتحة والمعوذتان من سور القرآن بإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، ولا يشك في ذلك إلا أهل الكفر والجحود والنكران، أو من رفعت عنه التكاليف لذهاب عقله، فلا يدري ما ركوع وما سجود وما قرآن.
وقد ظهر لنا جليًا الحكم على الآثار الواردة في هذا الصدد، ولا حاجة في إعادته هنا، ومع ذلك نقول:
أما فاتحة الكتاب:
1 -
فإن دعواهم عدم كتابة ابن مسعود لفاتحة الكتاب في مصحفه لا يدل على إنكارها.
2 -
وهل يَظُن خفاء قرآنية الفاتحة على مثله، وهو من هو في علمه وفضله وسبقه للإسلام، وتعلمه وتعليمه للقرآن.
3 -
أضف إلى ذلك قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها في كل صلاة، وقوله لأصحابه، بل ولأمته: (لا صَلَاةَ إِلاَّ بِقِرَاءةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
(2)
، وهكذا كل الأئمة من بعده- صلى الله عليه وسلم-وقد عايشهم-رضي الله عنه زمنًا حتى وفاته عام 32 هـ، ولا شك في أنه واحد منهم.
4 -
وقد علم المسلمون أن قراءة الفاتحةِ ركنٌ مِن أركانِ الصَّلاةِ للإمامِ والمنفردِ ولا تتم الصلاة إلا بها، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بفاتحةِ الكِتابِ، فهي خِداجٌ)
(3)
، وقد اشتهر ذلك الحكم بين المسلمين، ومما يجلي هذا الأمر كذلك
(1)
- المعتمد في المنقول: (2/ 510).
(2)
- رواه البخاري: (756)، ومسلم:(394)، ورواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (1/ 216) ح 820.
(3)
- رواه مسلم: (1874)(395).
حديث أنس- رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). (الفاتحة: 1)
(1)
.
5 -
فهل يخفى ذلك كله على أمثال أحد السابقين الأوليين، وهو سادس من أسلم.
6 -
وأضف إلى ذلك تواتر قراءة عاصم عنه- رضي الله عنه وفيها فاتحة الكتاب، 7 - وأضف إلى ذلك أيضًا كثرة الأحاديث الصحاح الواردة في فضائلها والتي لا يخفى مثلها على مثله ..
وأما دعوى إنكاره المعوذتين:
فقد سبق معنا بيان ضَعف ما ورد في ذلك من آثار، ومع ذلك نقول:
1 -
إن عدم كتابته- رضي الله عنه للمعوذتين لا يلزم إنكارهما، أو أنهما ليستا من القرآن، فهو لم يجحد كونهما قرآنًا يُتلى، وإنما ظن أنهما دعاءٌ وعوذة فحسب، هذا على افتراض صحة ذلك، مع أن لا يمكن ان يعتقد أنهما عوذتين وليستا من القرآن مع تضمنهما أوجه الإعجاز الظاهر الجلي الذي لا يخفى على أي أحد فضل عن مثله رضي الله عنه.
2 -
وإنه قد صح وثبت تواتر قراءة عاصم عنه- رضي الله عنه وهي متضمنة للفاتحة والمعوذتين، ولو كانت قراء عاصم خالية منهما لعلمنا ذلك بالنقل الصريح، ولما لم يُنقل ذلك تيقنا كذبه وافتراءه، وإقرائه القرآن وتعليمه لطلابه وهو متضمن- للمعوذتين- كما أسلفنا- كافيًا وحده في رد هذه الشبهة وبيان فسادها وبطلانها.
3 -
وثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم قد قرأ بهما في صلاته ورغب كثيرًا في قراءتهما، وقد أُثبتتا في المصحف الإمام.
4 -
وإجماع الصحابة مُنْعَقِد على أن المعوذتين من القرآن الكريم، والمُصحف الإمام، إمامُ لكلِّ المصاحف بإجماع الصحابة كلهم-رضي الله عنهم أجمعين-
5 -
وهل تابعه على هذا الكلام أحد من الصحابة- رضي الله عنهم؟! - بل لو أنهم علموا ذلك لأنكروه، ولنقل للأمة إنكارهم وشاع خبره وذاع.
6 -
وقول القائل: إنه كان يَحكهما، ويقول:" لا تخلطوا به ما ليس منه ". يعني المعوذتين، فهذا تفسير من الراوي، ويحتمل أنه كان يَحكُّ الفواتح والفواصل.
(2)
، بدليل قوله- رضي الله عنه: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه.
(3)
(1)
- رواه البخاري: (2/ 265) رقم: (743).
(2)
- نكت الانتصار لنقل القرآن ص 93.
(3)
- رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة الفواتح والعدد في المصاحف ص 154.
ولو فرضنا ذلك جدلًا- يعني أنه حكَّ المعوذتين-، فنقول:
لعله رآها كُتِبَت على غير وجهها الصحيح، أو أنها وُضِعَت في غير ترتيبها المصحفي الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة، والتي وافقها المصحف الإمام.
7 -
وأخيرًا فإن رجوعه- رضي الله عنه لمصحف الجماعة يبطل كل قول، ويدحض كل شبهة، ويرد كل فرية.
والحمد لله الذي له- سبحانه- وحده الأمر من قبل ومن بعد.
ولذا فقد أنكر جمعٌ غفيرٌ من أهل العلم ثبوت أي شيء عن ابن مسعود (ت: 32 هـ) بصدد ذلك.
ومن أبرز من أنكر ذلك إجمالًا كل من:
1 -
أبو محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت: 276 هـ)
2 -
أبو بكر أَحمد بن عمرو بن عبد الخالق الْبَزَّار (ت: 292 هـ)
3 -
أَبو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ (ت: 375 هـ)
4 -
أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر القاضي الباقلاني (ت: 402 هـ)
5 -
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْمٍ الأندلسي (ت: 456 هـ)
6 -
أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ الشافعي (ت: 477 هـ)
7 -
الفخر الرازي: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الطبرستاني (ت: 606 هـ)
8 -
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)
9 -
مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان القِنَّوْجِيُّ (ت: 1307 هـ)
10 -
محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (ت: 1376 هـ)
11 -
عَطِيَّة بن مُحَمَّد سَالِم (ت: 1420 هـ)
12 -
عبد الرحمن بن محمد القماش (م)
13 -
عبيدِ بن عبدِ اللهِ بنِ سُلَيمانَ الجابريّ (م)
وننقل أقوال الأئمة دحضًا لتلك الشبهة، وتجلية للأمر وإثباتًا لعدم نفي ابن مسعود لقرآنية الفاتحة والمعوذتين، بشيء من التفصيل والإيضاح على النحو التالي:
القول الأول: قول أبي محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت: 276 هـ)
القول الأول: قول ابن قتيبة- (ت: 276 هـ) رحمه الله-
قال ابن قتيبة رحمه الله:: وأما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روي عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظًا فليس يجوز لمسلم أن يظن به الجهل بأنها من القرآن، وكيف يظن به ذلك وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وأحد الستة الذين انتهى إليهم العلم
…
، ولكنه ذهب فيما يظن أهل النظر إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها، فلما أمن عليها العلة التي من أجلها كتب المصحف؛ ترك كتابتها، وهو يعلم أنها من القرآن.
(1)
.
ولا شك أن توجيه ابن قتيبة رحمه الله من أجل التوجيهات، لموافقته للحق من جهة، ولعلو كعبه في التأدب مع الصحابي الجليل-ابن مسعود- رضي الله عنه من جهة أخرى.
القول الثاني: قول أَبي بكر أَحمد بن عمرو بن عبد الخالق الْبَزَّار (ت: 292 هـ)
قال أبو بكر الْبَزَّار رحمه الله:
وَلَمْ يُتَابِع اِبْن مَسْعُود عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَة. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَهُمَا فِي الصَّلَاة .. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ (ت: 402 هـ) فِي كِتَاب الِانْتِصَار وَتَبِعَهُ عِيَاض وَغَيْره مَا حُكِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ: لَمْ يُنْكِر اِبْن مَسْعُود كَوْنهمَا مِنْ الْقُرْآن، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتهمَا فِي الْمُصْحَف، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ لَا يَكْتُب فِي الْمُصْحَف شَيْئًا إِلَّا إِنْ كَانَ النَّبِيّ-صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي كِتَابَته فِيهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْإِذْن فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَذَا تَأْوِيل مِنْهُ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا.
(2)
وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ وَابْنُ مَرْدُويَهْ عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ: إِنِّي أُصَلِّي بقَوْمٍ فَأَقْرَأُ بـ (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) فَقَالَ: اقْرَأْ بهِمَا فَإِنَّهُمَا مِن القُرْآنِ.
(3)
.
وصحة هذا الأثر تغني عن كل خبر.
القول الثالث: قول أَبي اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ (ت: 375 هـ)
قال السَّمَرْقَنْدِيّ-رحمه الله:
ورَوَى أبو مُعاوِيَةَ، عن عُثمانَ بنِ واقِدٍ قالَ: أَرْسَلَنِي أبي إلى مُحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ أَسألُه عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ: أَهُمَا مِن كتاب اللهِ تعالى؟
قالَ: مَن لم يَزْعُمْ أنهما مِن كتاب اللهِ تعالى فعَلَيْهِ لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجمعينَ.
(4)
(1)
تأوي مشكل القرآن، ص:(35).
(2)
- يُنظر: فتح الباري لابن حجر: (8/ 743).
(3)
الدر المنثور: (15/ 785).
(4)
- بحر العلوم: (3/ 529).
وقول ابنِ المُنْكَدِرِ-هنا- يظهر جليًا فيه شدة الإنكار من جهة، وبيان حكم إنكارهما من جهة أخرى.
القول الرابع: قول أبي بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر القاضي الباقلاني (ت: 402 هـ)
وقد أحسن الباقلاني (ت: 403 هـ) رحمه الله: في تقريره، حيث يقول:
ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا، لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه؟! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الإجماع المقرر، والاتفاق المعروف.!.
(1)
وتوجهيه الباقلاني (ت: 403 هـ) -هنا- من أحسن ما قيل في ذلك، وقد تضمن كلامه ما يلي:
1 -
الإجماع السكوتي من الصحابة رضي الله عنهم على سلامة القرآن وكماله وعدم نقصانه، إذ لو أنكر ابن مسعود- رضي الله عنه المعوذتين - وحاشاه- لتصدوا لمناظرته، ولمَّا لم يكن ذلك، دل هذا على كماله وتمامه.
2 -
أن إنكار المعوذتين أمر يوجب التكفير والتضليل، وإن الصحابة عمومًا بمنأى عنه، فكيف بعلمائهم وفضلائهم وسابقيهم كابن مسعود- رضي الله عنه.
3 -
أن الشبهات والمطاعن في خلو مصحف ابن مسعود- رضي الله عنه من المعوذتين، إنما هي أقول شاذة مخالفة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
القول الخامس: قول أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْمٍ الأندلسي (ت: 456 هـ)
وقد أنكر اَبْنُ حَزْمٍ رحمه الله: ما نسب لابن مسعود بقوله:
كُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَأُمَّ الْقُرْآنِ لَمْ تَكُنْ فِي مُصْحَفِهِ؛ فَكَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ؛ وَإِنَّمَا صَحَّتْ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ.
(2)
واَبْنُ حَزْمٍ رحمه الله تابع قَولُهُ ووافق أقوالَ من سبقه من العلماء المنصفين.
القول السادس: ما نقل عن أبي نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ الشافعي: (ت: 477 هـ)
(3)
بعد كلامه عن مانعي الزكاة:
(1)
- إعجاز القرآن للباقلاني: (ص: 183 - 184).
(2)
يُنظر: المحلى لابن حزم: (1/ 13).
(3)
- ابن الصباغ الشافعي هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر أبن الصباغ البغدادي، أبو نصر، ابن الصباغ فقيه شافعي.
مولده ووفاته في بغداد سنة (400 هـ - 477 هـ/ 1010 م - 1084 م). ولى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت. وعمي في آخر عمره. قال ابن خلكان: كان فقيه العراقيين في وقته.
يُنظر: عبد مخلف جواد الفهداوي، فقه الإمام أبي نصر ابن الصبَّاغ الشافعي في الطهارة، دراسة فقهية مقارنة من خلال كتاب "حلية العلماء".، مجلة جامعة الأنبار للعلوم الإسلامية جامعة الأنبار:(ص: 169).
قال ابن الصباغ رحمه الله:
وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.
وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي، فقال: إن قلنا: إن كونهما من القرآن كان متواترًا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما، وإن قلنا: إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة.
وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعود، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلت العقدة بعون الله تعالى.
(1)
القول السابع: قول الفخر الرازي: وهو: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الطبرستاني (ت: 606 هـ)
وقال الرازي رحمه الله: مكذبًا ومبطلًا لتك الشبهة:
الأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود، نقل كاذب باطل.
(2)
القول الثامن: قول أبي زكريا يحيى بن شرف النووي: (ت: 676 هـ)
قال النووي رحمه الله: في "المجموع ":
أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئًا منه كفر، وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه قال ابن حزم في أول كتابه المجاز هذا كذب على ابن مسعود موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عن ابن مسعود، وفيها الفاتحة والمعوذتان.
(3)
وردُّ النوويِ كذلك ردٌ قيمٌ مقنعٌ، وفيه التأدب مع ابن مسعود- رضي الله عنه وإنزاله
منزلته.
(1)
يُنظر: فتح الباري: (9/ 590). ط. دار الفكر، نسخة مصححة على عدة نسخ، منها النسخة التي حقق أصولها وأجازها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
(2)
- مفاتيح الغيب: (1/ 178).
(3)
- المجموع للنووي: (3/ 350).
وقد أحسن النووي واختصر، وجمع فأوعى في أمور ثلاثة:
الأول: أنه حكى فيه الإجماع بقوله: " أجمع المسلمون ".
والثاني: أنه قد شدد النكير في ذلك وحذر بقوله: "وأن من جحد شيئًا منه كفر".
والثالث: أنه قد رد هذه الشبهة وأبطلها، بقوله:"وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه".
القول التاسع: قول مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان القِنَّوْجِيُّ (ت: 1307 هـ)
قال القِنَّوْجِيُّ رحمه الله:
وَقَالَ بعضُ الناسِ: لمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ المعوذتَيْنِ؛ لأنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِنَ النسيانِ فَأَسْقَطَهُمَا وَهوَ يَحْفَظُهُمَا، كما أَسْقَطَ فاتحةَ الكتاب مِنْ مُصْحَفِهِ.
(1)
هذا القول: مجمل، وقد مر معنا تفصيل ذلك ولله الحمد.
القول العاشر: قول محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (ت: 1376 هـ)
قال الزُّرْقاني رحمه الله:
يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته كان قبل علمه بذلك، فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما
من القرآن، قال بعضهم: يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي-صلى الله عليه وسلم، ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما، وإنما لم ينكر ذلك عليه لأنه كان بصدد البحث والنظر، والواجب عليه التثبت في هذا الأمر، ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس؛ لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود رضي الله عنه ثبت فيها المعوذتان والفاتحة، وهي صحيحة، ونقلها عن ابن مسعود صحيح، وكذلك إنكار ابن مسعود رضي الله عنه للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر؛ إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعًا بين الروايتين.
(2)
(1)
فتح البيان في مقاصد القرآن للقِنَّوْجِيُّ: (15/ 453 - 454)
(2)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 276).
نقول قد أحسن الزُّرْقاني رحمه الله ولكن يجاب عما نقل من أقوال بطريقة "الفنقلة" بما يلي:
(1)
:
1 -
قوله: يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته كان قبل علمه بذلك.
قلنا بأنه: كيف يحتمل ذلك من أعلم الناس بكتاب الله.
2 -
قوله: فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما من القرآن.
قلنا بأنه: لو صح ذلك لثبتت تلك الشبهة وهذا الطعن ولو في أول الأمر، وقد مر معنا تفنيد هذه الشبهة وضعف الآثار المروية فيها.
3 -
وقوله: قال بعضهم: يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي-صلى الله عليه وسلم.
قلنا بأنه: كيف لم يسمعهما مع ما مر بنا من سعة علمه ومكانته وفضله وسبقه وحرصه وملازمته لرسول الله-صلى الله عليه وسلم.
4 -
وقوله قال بعضهم: ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما.
قلنا بأنه: كيف لم تتواتر عنده وسنده المثبت لهما بقراءة عاصم خير شاهد- وقد أجاب الزرقاني بذلك-
5 -
وقوله عن بعضهم "كان بصدد البحث والنظر".
قلنا إنه: أمر مستبعد تمامًا من مثله- رضي الله عنه ولا نعلم قرينة تدل عليه، فهل ثبتت قرآنيتهما عند الصحابة ولم يثبت ذلك عنده بعد حتى يبحث وينظر في شأن قرآنيتهما.
6 -
وقوله: ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس.
قلنا إنه: رحمه الله مؤيد للردود والاحتمالات السابق ذكرها-على فرض صحة ما ذُكِر من الشبه-، ولم يسند تلك الجوابات لقائليها.
7 -
وقوله: وإنكار ابن مسعود رضي الله عنه للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر.
(1)
و"الفنقلة" معناها "إذا قلتم كذا قلنا كذا".
ولقد جرى المحققون على "التفصيل" و "الفنقلة"، و"الفنقلة" عندهم منحوتةٌ، من قولهم:(فإن قيلَ، قلنا)، كالبسملة والحيعلة. وهي من أحسن الطرق في نفي الشبهة عن جواب المفتي والمدرّس، وتجدها عند أبي العباس وتلميذه ـ رحمهما الله ـ، ومن المعاصرين شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
وقد قلتُ في ذلك:
إذا سطرْتَ جوابًا في مُساءلةٍ
…
فحرِّرِ القولَ فيها وفصّلِ
وبيِّنِ الحكمَ فيها ولا تدَعْ
…
تعقيبَ هذا باحترازٍ وفنقِلِ.
التفصيل والفنقَلَة، مقال لأبي عبد الله النجدي نقلًا عن موقع أهل الحديث. (د ت)
قلنا: كان عليه رحمه الله أن يثبت هنا أمرين:
الأمر الأول: إثبات ما نقله عن الحافظ-ابن حجر- من تصحيحه لأثر إنكار ابن مسعود رضي الله عنه للمعوذتين-.
فقد اكتفى رحمه الله بقوله هذا، ولم يسند هذا القول، بل عزاه فقط لابن حجر دون ذكر أي مصدر له.
الأمر الثاني: كان عليه في حال ثبوت هذا الأثر لديه، التحقيق والنظر والتأمل فيه ومناقشته ومدارسته وتفنيده ودحضه وإبطاله.
ولكنه اكتفى بقوله: إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعًا بين الروايتين.
وقد مر بحمد الله معنا إثبات حجتين منافيتين لما ذكره الزُّرْقاني رحمه الله:
الحجة الأولى: تعليق الحافظ -ابن حجر- نفسه- في جوابه عن رواية حديث المعوذتين عند البخاري، بقوله:" هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ مُبْهَمًا "، وقوله:" وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِبْهَام ". وقول الحافظ هذا مناف لما نسبه إليه الزرقاني له هنا.
الحجة الثاني: كما أنه قد مر معنا ولله الحمد كذلك مناقشة أبرز تلك الآثار والكلام على رواتها ومروياتهم، وقد تأكد لدينا ولله الحمد بطلان نسبة ذلك كله لابن مسعود رضي الله عنه ولو احتمالًا.
وكان المأمول من الزُّرْقاني رحمه الله في مثل هذا الصدد ما يلي:
أ- عرض الآثار الواردة في هذا الصدد أولًا، - فهو- قد اكتفى بالإشارة فحسب ولم يذكر الآثار.
ب- عقد مناقشة لتلك الآثار رواية ودراية، ومناقشتها في ضوء ما سبق ذكره ومناقشته لمثلها مما سبق بيانه ومدارسته وتفنيده لتك الآثار الواهية.
وكررنا الأمر هنا ليتقرر.
ولو اكتفى الزُّرْقاني رحمه الله بما صَدَّرَ به كلامه بقوله: "على فرض صحته"، -وله كلام بعده نفيس جدًا لم ننقله لطوله- فلو انتهى إلى ذلك لكان حسنًا منه، وقد قيل:"قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ".
(1)
القول الحادي عشر: قول العلامة عَطِيَّة بن مُحَمَّد سَالِم رحمه الله (ت: 1420 هـ)
(1)
- وهو من كلام سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" لـ " حصين بن عبد الرحمن، في محاورته حول الحديث المشهور الذي ذكر فيه "
…
هذِه أُمَّتُكَ ومعهُمْ سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ"، والحديث رواه مسلم في صحيحه: برقم: (220).
قال العلامة عَطِيَّة سَالِم رحمه الله:
يَذْكُرُ المُفَسِّرُونَ، عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كانَ يَرَاهُما مُعَوِّذَتَيْنِ مِن غيرِ القرآنِ، ولكنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ قالَ: أَشْهَدُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخْبَرَنِي: ((أنَّ جِبريلَ عليه السلام قالَ له: (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) فقُلْتُها، وقالَ:(قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) فقُلْتُها. فنَحنُ نقولُ ما قالَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَه ابنُ كَثِيرٍ عن الإمامِ أحمدَ.
وذَكَرَ نحوَه عن البُخَارِيِّ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ قد رَجَعَ عن قولِه إلى قولِ الجماعةِ؛ فإنَّ الصحابةَ- رضي الله عنهم أثْبَتُوهُما في المَصاحِفِ الأَئِمَّةِ، ونَفَذُوهَا إلى سائرِ الآفاقِ.
ورُوِيَ عن الإمامِ أحمدَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بهما في الصلاةِ، وساقَ عِدَّةَ طُرُقٍ في إثباتِ أنَّهما قُرآنٌ؛ ممَّا يَنْفِي أيَّ خِلافٍ بعدَ ذلك في إثباتِهما.
وقد اعْتَذَرَ القُرْطُبيُّ عن ابنِ مَسعودٍ بأنَّه لم يَسْمَعْهُما مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم-على أنَّهما قُرآنٌ، وسَمِعَهما فظَنَّهُما أنَّهما دُعاءٌ مِن الأَدْعِيَةِ؛ كقولِه صلى الله عليه وسلم:((أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ))
(1)
. ولَمَّا بَلَغَه إثباتُهما عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-رجَعَ إلى قولِ الجُمهورِ.
(2)
.
والشيخ عطية سالم رحمه الله قد جَلَّى الأمر، ورد جُلَّ الشبهِ الواردة حول المعوذتين بأبلغ عبارة وأقصر إشارة.
القول الثاني عشر: قول عبد الرحمن بن محمد القماش (م) صاحب "الحاوي في التفسير"
قال القماش:
المسألة الخامسة عشرة: هل أنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن؟
نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن، وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن، واعلم أن هذا في غاية الصعوبة، لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلًا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذٍ كان ابن مسعود عالمًا بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل، وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلًا في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة
(1)
- مسند أحمد: ط الرسالة: (24/ 200)، وصححه الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (2/ 495).
(2)
تتمة أضواء البيان: (9/ 337).
يقينية، والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة، والله الهادي للصواب.
(1)
.
ولم يقف الباحث على عزو من القماش في كتابه "الحاوي في التفسير"، ولكن قد مر معنا قبل قليل كلام الرازي وقوله" الأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود، نقل كاذب باطل"
(2)
، وهو من كلام الرازي، لكن الباحث لم يقف على عزو له عند القماش، فلذا جرى التنبيه.
القول الثالث عشر: قول الشيخ عبيدِ بن عبدِ اللهِ بنِ سُلَيمانَ الجابريّ (م):
قال الشيخ الجابريّ:
قوله: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عاصِمٍ وعَبْدَةَ، عَنْ زِرٍّ بْنِ حُبَيْشٍ قالَ:" سَالتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ سالتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. فنَحْنُ نَقُولُ كما قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. "
فيهِ ثلاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأُولَى: قَوْلُهُ: " سَالتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ " في الرِّوَايَةِ الآتيةِ "سَالتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: يا أَبَا المُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وكَذَا وأَبُو المُنْذِرِ كُنْيَةُ أُبَيٍّ- رضي الله عنه، ولَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى وهي أَبُو الطُّفَيْلِ. "
وقولُهُ: " كَذَا وَكَذَا " هَكَذَا وَقَعَ هذا اللفظُ مُبْهَمًا عِندَ البُخَارِيِّ والنَّسَائِيِّ في التَفْسيرِ وغَيْرِهِمَا، وكَأَنَّ بَعضَ الرُّوَاةِ أَبْهَمَهُ استِعْظَامًا له، وقدْ صَرَّحَ بهِ سُفْيَانُ عِندَ أَحْمَدَ، ولَفْظُهُ:(قُلْتُ لأُبَيٍّ: إِنَّ أَخَاكَ يَحُكُّهَا مِنَ المُصْحَفِ)، وقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ في المسند
(3)
وابنُ حِبَّانَ: في صحيحه
(4)
، كِلاهُما مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ عاصِمٍ، عَنْ زِرِّ قالَ قُلْتُ: لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لا يَكْتُبُ في مُصْحَفِهِ المُعَوِّذَتَيْنِ.
المسألة الثانيةُ: قولُهُ: "سَالتُ رسولَ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:(قِيلَ لِي فَقُلْتُ) وفي رِوَايَةِ عاصِمٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِي جِبْرِيلُ: (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ)، فَقُلْتُهَا، وَقَالَ لِي:(قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ)، فَقُلْتُهَا.
(1)
- الحاوي في تفسير القرآن الكريم: (ص: 279).
(2)
- مفاتيح الغيب: (1/ 178).
(3)
- المسند: (5/ 130).
(4)
صحيح ابن حِبَّانَ: (3/ 77).
المسألة الثالثةُ: قَوْلُهُ: " فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: "فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم".
قُلْتُ: وقدْ أَخْرَجَ مسلمٌ في باب فَضْلِ قِرَاءةِ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ كتاب صَلاةِ المُسافِرِينَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ، لمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ:(قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) زادَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ)، وعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَأْ يَا جَابرُ)) قالَ: قُلْتُ: ما أَقْرَأُ بأَبي وأُمِّي أَنْتَ؟ قالَ: (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ)، وَ (قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ)، فَقَرَأْتُهُما، فقَالَ صلى الله عليه وسلم:((اقْرَأْ بهِمَا وَلَنْ تَقْرَأَ بمِثْلِهِمَا)) قُلْتُ: فَصَحَّ بهَذَا أَنَّ المُعَوِّذَتَيْنِ سُورَتَانِ مِنْ سُوَرِ القُرْآنِ.
(1)
.
قال العلامة ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله في "الكافية الشافية":
ورَسولُه قد عَاذ بِالكلماتِ مِن
…
لَدْغٍ ومِن عينٍ ومِن شيطانِ
أيُعاذُ بِالمخلوق؟! حاشاهُ مِنَ الـ
…
إشراكِ وهو مُعَلِّمُ الإيمانِ
بل عَاذ بالكلماتِ وهي صفاتُه
…
سبحانه ليست مِن الأكْوانِ".
(2)
.
المحور الثامن: وقفات هامة مع العرضة الأخيرة
العرضة في المفهوم اللغوي:
والعرضة: من العرض، وهو مأخوذ من المعارضة:
و من معاني العرض: الإبراز والظهور، ويقال: عَرَضَ الجُنَدَ: جعلهم يمرون عليه واحدًا واحدًا، وعَرَضَ له من حقه شيئًا: أعطاه إياه مكان حقه، وَعَرَضَ القومَ على النارِ: أَحْرَقَهُمْ بِهَا.
(3)
أما المعارضة: فهي: من المفاعلة: عارض الشيء معارضة، قابله، يُقال: فلان يعارضني أي: يباريني.
(4)
قَالَ ابْنُ الأَثير (ت: 606 هـ) في بيان معنى المُعارَضةِ:
أَي كَانَ يُدارِسُه جمِيعَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ المُعارَضةِ المُقابلةِ. ومنه عرضتُ الكتابَ بالكتابِ أي قبلتُه به.
(5)
.
(1)
إمداد القاري بشرح كتاب التفسير من صحيح البخاري، لعبيد الجابري:(4/ 483). بتصرف يسير.
(2)
- مِن "الكافية الشافية": (الأبيات: 558 - 560).
(3)
يُنظر: كتب اللغة مادة عرض، ((المفردات للراغب)) (ص: 330)، ((أساس البلاغة)) (ص: 298)، و ((معجم الألفاظ والأعلام القرآنية)) (ص: 337).، الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 815
(4)
لسان العرب مادة: (عرض): (10/ 100).
(5)
- النهاية في غريب الحديث: (3/ 349).
ومنه ما يقوم به الباحثون من مقابلة نص كتاب على نص كتاب آخر، ومقابلة النسخ بين بعضها البعض، وأكثر ما يكون ذلك في مقابلة النسخ المطبوعة على نسخ أخرى مخطوطة.
وأما المدارسة: فهي: من المفاعلة: - كذلك- ودارستُ الكُتُبَ وتَدَارَسْتُها، أي: دَارَسْتُها، وأصلُ الدِرَاسةِ الرياضة والتَّعَهُدُ للشيء.
(1)
ففي المفهوم اللغوي: نجد أن العرضة مأخوذة من المعارضة التي هي على وزن مُفَاعَلَة، وهي بذلك تتضمن معني المبادلة والمقابلة والمدارسة بين جانبين، وهي مُفَاعَلَة - يعني من طرفين-أو بين طرفين.
مفهوم المُعارَضةِ في الاصطلاح:
فيكون معنى المُعارَضةِ فيما نحن بصدده ههنا من جهة الاصطلاح هو "المقابلة":
وهو: مقابلة كل ما نزل به جبريل من القرآن الذي أوحاه الله إليه، على كل ما سبق نزوله به على رسول الله-صلى الله عليه وسلم، فتكون المقابلة على ما سبق نزوله من الوحي الذي أوحاه الله إليه، فهي بمثابة المراجعة الخاتمة والأخيرة لتأكيد تثبيت حفظ القرآن في صدره الشريف-صلى
الله عليه وسلم- وهذا في رمضان من كل عام، وكانت المقابلة والمعارضة في آخر رمضان مرتين، لكونها المراجعة النهائية والمدارسة الختامية التي ليس بعدها مراجعة أو مدارسة.
وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) في " الفتح ":
والمعارضة مفاعلة من الجانبين، كأن كلا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع
(2)
و لفظ المعارضة يدل على المشاركة كذلك.
وأما العرضة "الأخيرة" فسميت بذلك لكونها المعارضة الأخيرة بالقرآن بين جبريل-عليه السلام-وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
والعرض عند أهل الإقراء والإتقان والتحمل والأداء هو:
تلاوة القرآن على شيخ، وهو أحد أنواع التحمل والأخذ عن المشايخ.
(3)
وهو أن يعرض الطالب قرأته على شيخٍ ومُعَلِمٍ متقنٍ، كما درج على ذلك سلف الأمة، لأن القراءة سنة ماضية يأخذها الآخر عن الأول، وذلك هو المتبع منذ نزول القرآن إلى وقتنا، وإلى ما شاء الله.
(1)
لسان العرب مادة: (درس): (5/ 422).
(2)
- فتح الباري: (9/ 43).
(3)
- معجم المصطلحات في علمي التجويد والقراءات، د. ابراهيم بن سعيد الدوسري:(ص: 75).
والحفظ والتلقي والعرض من خصائص هذه الأمة:
وفي نحو ذلك يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
"ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط الْمصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة".
(1)
ولذا نجد أهل الصدر الأول يحذرون من تشيخ الصحيفة:
قال بعض السلف: " من أعظم البليَّة تشيُّخ الصَّحيفَة ".
(2)
وفي هذا الصدد يقول سليمان بن موسى الأشدق (ت: 119 هـ) رحمه الله:
"لا تأخذوا الحديثَ عن الصُّحُفيِّين، ولا تقرؤوا القرآنَ على الْمُصْحَفِيِّين".
(3)
وفي مثله يقول سعيد بن عبد العزيز التَّنُوخِيّ (ت: 167 هـ) رحمه الله:
" لا تأخذوا العلم عن صُحُفِيٍّ، ولا القرآن مِنْ مُصْحَفِيٍّ ".
(4)
وفي نحوه يقول الوليد بن مسلم القرشي (ت: 195 هـ) رحمه الله:
" لا تأخذوا العلم من الصُّحُفيِّين ولا تقرؤوا القرآن على الْمُصَحَفِيِّين؛ إلا مِمَّن سمعه مِن الرجال وقرأَ على الرجال.
(5)
.
أما معنى "الصُّحُفيِّين": فهم الذين يشيخون الصحيفة ويأخذون العلم عنها مكتفين بها عن العلماء.
وأما معنى "الْمُصَحَفِيِّين": فهم الذين يلحنون في القول فيغيرون القول عن معناه المراد، وهذا يشمل القرآن، كما يشمل ما سواه من العلوم.
وأصل التصحيف هُوَ: تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط
(6)
.
وحول مفهوم التصحيف يقول الحافظ السخاوي (ت: 902 هـ) رحمه الله:
هو تحويل الكلمة عن الهيئة المتعارفة إلى غيرها.
(7)
(1)
- يُنظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: (1/ 6).
(2)
يُنظر: تذكرة السامع والمتعلم، لابن جماعة الكناني، الباب الثالث في آداب المتعلم:
(ص: 87).
(3)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (2/ 31)، والمحدث الفاصل للرامهُرْمزي:(ص: 211).
(4)
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (2/ 31).
(5)
- تاريخ دمشق لابن عساكر: (63/ 292)، وتهذيب الكمال للمزي:(3/ 98).
(6)
يُنظر: تصحيفات الْمُحَدِّثِيْنَ: (1/ 39).
(7)
- فتح المغيث: (3/ 72)
يقول أبو شامة المقدسي (ت: 665 هـ) رحمه الله:
روينا عن
…
- وذكر جملة من الصحابة والتابعين-
…
قالوا: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول فاقرؤوا كما علمتموه.
ولذلك كان الكثير من أئمة القراءة كنافع وأبي عمرو يقولون لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرأت لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا ".
(1)
، ولهذا حذر السلف من هذا وأمثاله.
ويقول الحافظ السخاوي (ت: 902 هـ) رحمه الله:
" والأخذ للأسماء والألفاظ من أفواههم - أي العلماء بذلك، الضابطين له ممن أخذه أيضًا عمن تقدم من شيوخه وهلم جرَّا - لا من بطون الكتب والصُّحُف من غير تدريب المشايخ: أَدْفَع للتَّصحيف، وأَسْلَم من التبديل والتحريف
…
".
(2)
ومن أمثلة ونماذج العرض على أهل الإقراء والإتقان والتحمل والأداء الذي هو من خصائص هذه الأمة:
قراءة مُجاهِد بْن جَبْر (ت: 104 هـ) رحمه الله على الحبر ابن عباس- رضي الله عنهما.
وفي ذلك يقول مُجاهِد رحمه الله:
"عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها
(3)
. وثلاث عرضات أي: ثلاث ختمات
وقد أخذه عن ابن عباس- رضي الله عنهما كذلك- جماعة من التابعين، غير مجاهد، كسعيد بن جبير، وعكرمة، وطاووس اليماني وغيرهم.
وَأَخْذُ الآخرِ عن الأولِ يكون وفق ضوابط وشروط يجب توافرها فيمن يُؤْخَذُ عنه، وهي معروفة عند أهل الأداء ومبسوطة في مظانها.
وقد أشار إلى جملة من تلك الشروط أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) في "أرجوزته المنبهة" فقال رحمه الله:
وقيّد الجميعَ بالمعاني وبَذَلَ المجهود في البيانِ
عن كل أصلٍ ظاهرٍ جلِي وكلِّ فرعٍ غامضٍ خفي
من غير إطنابٍ ولا إكثارِ ولا تكلُّفٍ ولا تَكرارِ
(1)
- يُنظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: (1/ 17)
(2)
- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، للسخاوي:(2/ 262).
(3)
- يُنظر: مصنف أبي شيبة، درس القرآن وعرضه- من باب فضل القرآن:(10/ 559). مجموع الفتاوى، لابن تيمية:(13/ 936).
على الذي رواهُ عن أيمَّته من مُدُنِ المشرقِ وقتَ رحلتهِ
من مُقرئٍ منتصبٍ إمام وعالمٍ بالنحو ذي تمامِ
وماهرٍ في العلم بالتأويلِ وقدوةٍ في مُحكم التنزيلِ
وفي العُقُودِ وأصولِ الدينِ والفقهِ والحديثِ ذي تمكينِ
وباصرٍ بالنقلِ والرواية مُشهَّر بالفهم والدراية
وضابطٍ للأحرفِ المشهورةِ وحافظٍ للطرق المنشورة
وصادقِ اللهجةِ غيرِ مُتَّهمْ لسُنن الماضينَ قبلُ ملتزِمْ.
(1)
تعريف مصطلح "العرضة الأخيرة
":
ويقصد بمصطلح "العرضة الأخيرة": آخر قراءة أقرأها جبريلُ-عليه السلام رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم، في رمضان الذي هو آخر رمضان أدركه-صلى الله عليه وسلم ولم يدرك رمضان بعده حتى لحق بالرفيق الأعلى.
ويمكن ان يُقال أن العرضة الأخيرة:
1 -
هي القراءة الأخيرة التي أقرأها جبريلُ-عليه السلام رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم، في آخر رمضان أدركه-صلى الله عليه وسلم في حياته من عمره المبارك.
2 -
وهي القراءة التي جُمِعَ عليها المصحفُ الإمام ووافقها، وهي القراءة التي أجمع عليها الصحابة- رضي الله عنهم.
3 -
وهي القراءة الموافقة والمطابقة لما هو مثبتٌ في اللوح المحفوظ.
4 -
وهي القراءة التي نقلت بالتواتر عن جمع كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة.
5 -
وهي القراءة التي أجمع عليها السلف والخلف.
6 -
وهي القراءة المحفوظة في صدور الأولين والآخرين.
7 -
وهي القراءة المثبتة في المصاحف التي بين أيدي الناس حتى اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، والتي لا يختلف فيها حرف واحد في أي منها عن الآخر، وذلك إلى أن يُرفعَ القرآنُ في آخر الزمان، فلا يبقى منه حرف مكتوبٌ في السطور، ولا آية محفوظةٌ في الصدور، وذلك تحقيقًا لوعد الله تعالى الذي لا يتخلف أبدًا، الذي قال فيه سبحانه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
8 -
وهي القراءة التي رفع منها ما نسخ، وبقى منها ما ثبت قرآنيته من كل ما نزل به الوحي ولم ينسخ.
(1)
الأرجوزة المنبهة، لأبي عمرو الداني:(ص: 66 - 77).
9 -
وهي القراءة التي ثبت في الصحيحين خبرها من حديث أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها:
" أن فاطمة رضي الله عنها قالت: أخبرني (أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم)(فَأَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنِّي لَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ).
(1)
وهذه رواية مسلم.
وفي رواية البخاري: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي) فَبَكَيْتُ، فَقَالَ:(أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ) فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.
(2)
.
وثبت عند البخاري-أيضًا-: من حديث منْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.
(3)
مكانة العرضة الأخيرة وعظم قدرها:
كان جبريلُ-عليه السلام يُعارض رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، فلما عارضه مرتين في آخر عام من عمره المبارك، شعر النبيُ-صلى الله عليه وسلم بدنوا أجله، فكانت العرضة الأخيرة كالتوديع للوحي لِيُرفع ما نسخ منه، ويبقى ما ثبت قرآنيته من كل ما نزل به الوحي ولم ينسخ، وليبقى محفوظًا في صدره الشريف، وليبقى ما شاء الله بقاءه منه لآخر الزمان.
وفي نحو ما تقرر آنفًا يقرر ابن كثير (ت: 774 هـ) ذلك فيقول رحمه الله:
والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقي ما بقي، ويذهب ما نسخ، توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره -عليه
الصلاة السلام-، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فَهِمَ-عليه السلام اقتراب أجله، وعثمانُ-رضي الله- عنه جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة.
(4)
ويُجلي الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) الحكمة من المعارضة فيقول-رحمه الله تعالى-:
جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما: تعاهده.
(1)
رواه مسلم: (2450).
(2)
رواه البخاري: (3624)
(3)
- رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم (8/ 659) ح 4998.
(4)
- تفسير ابن كثير: (1/ 51).
والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ.
(1)
فكانت تلك العرضة المباركة:
1 -
بمثابة وداع للوحي الذي آنس به-صلى الله عليه وسلم في حياته، وعاش من أجل القيام بحقه فيما بينه وبين ربه سبحانه أولًا، ثم فيما بينه وبين أمته ثانيًا.
2 -
وكانت العرضة الأخيرة بمثابة كمال وتمام أدائه-صلى الله عليه وسلم لأمانة البلاغ عن ربه-عز وجل، حيث أمره ربه بذلك في قوله سبحانه:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(المائدة: 67). وذلك بتثبيت القرآن في صدره، ليعييه قلبه، ويحفظه له في صدره تحقيقًا لوعده سبحانه:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)
(القيامة: 17 - 19) وهي المعارضة والْمراجعة والمُدَارَسَة الختامية للوحي المنزل، والتي عُرِضَ فيها القرآنُ الكريم مرتين اثنتين.
3 -
العرضة الأخيرة أُثبِتَتْ فيها جميع أوجه القراءة الثابتة المتواتر التي لم تنسخ، وتُرِكَت كلُ قراءةٍ منسوخة، وهذا لا يعني أنها كانت على أكثر من حرف، بل المعني هو مراجعة كل ما نزل وبقي، ورفع كل ما نسخ مما أراد الله تعالى رفعه ونسخه ..
4 -
كل ما ثبت في العرضة الأخيرة فهو: القرآن الكريم، الذي هو كلام الله تعالى
(2)
المُنَزَّل على نبيِّه-محمَّد-صلى الله عليه وسلم-المعجِز بلفظه، المتعبَّد بتلاوته، المُتحدى به، المنقول إلينا
(1)
- فتح الباري: (9/ 5).
(2)
والقرآن عند أهل السنة هو كلام الله تعالى حقيقة، وأنه سبحانه تكلم به بحرف وصوت، وسمعه جبريل، وقد تكلم السلف في الحرف والصوت وذكروا أدلته، وتكلموا في حكم من أنكره.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البخاري:
سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبَيَّنُ الْمُثَبَّتُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ، قَالَ اللَّهُ تعالى:(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(العنكبوت من آية: 48).
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَأَمَّا الأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا؟. "
يُنظر: خلق أفعال العباد: (2/ 70).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ، فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا، الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6) وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "(زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ). صححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 270). ويُنظر تخريجه في البدر المنير (9/ 637).
يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (12/ 98)، ونفس المصدر:(12/ 53).
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله في "الكافية الشافية":
"واللهُ رَبِّي لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا
…
وكَلامُه المسموعُ بالآذانِ
صِدقًا وعَدْلاً أُحْكِمَتْ كَلماتُه
…
طَلَبًا وإخبارًا بلا نُقصانِ
مِن "الكافية الشافية": (البيتان: 556 - 557).
بالتواتر، المكتوب في المصاحف والسطور، المحفوظ في القلوب والصدور، المفتتح بأول سورة "الفاتحة المختتم بسورة "الناس.
5 -
كل ما لم ثبت في العرضة الأخيرة فهو إما أن يكون منسوخًا، وإما أنه ليس من القرآن الذي أنزله الله وتعبدنا به سبحانه.
وكلاهما ليس له حكم القرآن: من جهة التعبد، ومن جهة الإعجاز على حد سواء.
وعلى هذا فأي وجه من أوجه القراءة لم يثبت في العرضة الأخيرة علمنا نسخه، وما ثبت فيها علمنا أنه القرآن الذي تعبدنا الله به.
6 -
كذلك لابد أن يُعلم أن العرضة الأخيرة كانت على حرف واحد فيما يعلم الباحث،
ومن قال غير ذلك فليأت بدليل قاطع وبرهان ساطع، لأن العرضة الأخيرة كانت لتأكيد الحفظ وإثبات مالم ينسخ من بعض آي القرآن، وليس وراء ذلك من شيء أبدًا.
وقد سبق معنا كلام الحافظ في الفتح عن الحكمة من العرضة الأخيرة حيث قال: وفي ذلك حكمتان،
إحداهما: تعاهده، والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ.
(1)
ولا يُعلم في ذلك قول له اعتباره قام على الحجة والبرهان وساطع البيان يخالف قول الحافظ ومن وافقه.
وَفي صدد ما تقرر لدينا آنفًا يقرر - ذلك - عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ
(2)
رحمه الله بقوله:
القراءة التي عُرِضَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه- هي القراءة التي يقرأها الناس.
(3)
ومن أحسن ما قيل في وجهة التناسب بين كون العرضة من كل عام في رمضان، وبين بدء نزوله فيه كذلك، قول أبي شامة (ت: 665 هـ) في "المرشد الوجيز"،
حيث يقول رحمه الله:
وكأنه نَزَّلَ عرضه وإحكامه في رمضان من كل سنة منزلة إنزاله فيه، مع أنه قد لا ينفك من إحداث إنزال ما لم ينزل أو تغيير بعض ما نزل بنسخ أو إباحة تغيير بعض ألفاظه.
(4)
(1)
- فتح الباري: (9/ 5). وقد سبق تخريجه في موضعه كذلك.
(2)
عبيدة السلماني الفقيه الْمُرادي الكوفي، أحد الأعلام، أسلم عام الفتح، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود، وكان يقرئ الناس، ويفتيهم. توفي سنة 72 على الصحيح. سير أعلام النبلاء (4/ 40)، وشذرات الذهب (1/ 78).
(3)
- رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/ 155 - 156).
(4)
- المرشد الوجيز، لأبي شامة:(ص: 24)
وقد وافق قولُ ابن كثير قولَ أبي شامة، حيث يقول رحمه الله:
وخص بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه، ومن ثم اجتهاد الأئمة فيه في تلاوة القرآن.
(1)
نزول القرآن بعد العرضة الأخيرة:
وأما ما نزل بعد رمضان الأخير من زمن النبي-صلى الله عليه وسلم وهو رمضان سنة عشر من الهجرة، وتوفي النبي-صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وقد نزل قرآن فيما بعد ذلك الرمضان، فكأن الذي نزل بعد تلك العرضة لَمَّا كان قليلاً اغتفر أمر معارضته.
(2)
وقد شهد العرضة الأخيرة من الصحابة، عبد الله بن مسعود، وقيل زيد بن ثابت-رضي الله عنهما.
فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُلميّ رحمه الله
(3)
قال:
قرأ زيد بن ثابت على رَسُول اللهِ-صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ-صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.
(4)
ويقول السُلميّ رحمه الله أيضًا:
كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة
(5)
كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم-على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصحف.
(6)
(1)
تفسير ابن كثير: (1/ 51).
(2)
- فتح الباري: (8/ 660).
(3)
- هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي، تابعي جليلٌ، ولد في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن على عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو مقرئ الكوفة، ظل يقرئ الناس بمسجدها الأعظم أربعين سنة. يُنظر: معرفة القراء الكبار (1/ 52 - 53)، وشذرات الذهب (1/ 92).
شرح السنة للإمام البغوي (4/ 525 - 526)، ويُنظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 237).
(4)
- شرح السنة للإمام البغوي (4/ 525 - 526)، ويُنظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 237). سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة.
(5)
- ذكره المنذري في كنز العمال (2/ 591). وعزاه لابن الأنباري في المصاحف.
(6)
- يُنظر: شرح السُّنة للبغوي (4/ 525)، المرشد الوجيز (68 - 69)، للزركشي:(1/ 330).
وفي نحو قول السُلميّ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها.
(1)
.
وإنما عنيا: -السُلميّ، وشيخ الإسلام- بقراءة زيد هنا " حرف زيد ".
والباحث: لا يعلم دليلًا صحيحًا صريحًا يدلل على أن المعارضة كانت بأكثر من حرف.
ولاشك في أن من أبين مظاهر ودواعي العرضة الأخيرة تثبيت حفظ القرآن في صدره الشريف-صلى الله عليه وسلم وفق ما أوحاه الله إليه بواسطة جبريل، ونسخ ما أراد الله نسخه، وتثبيت ما أراد الله بقاءه. وهذا ما عليه عامة أهل العلم، ولا نعلم صوابًا سواه، وقد تكرر ذلك ليتقرر.
ولذا قال ابن قتيبة (ت: 267 هـ) رحمه الله: في "تأويل مشكل القرآن":
"فيحدث الله من ذلك ما يشاء وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء".
(2)
ويؤكد نفس المعنى أبو شامة في "المرشد الوجيز" فيقول رحمه الله:
ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل وهي التي بُيِّن فيها ما نسخ وما بقي.
(3)
والعرضة الأخيرة كانت كالعرضة من كل عام، غير أنها كانت في العام الأخير مرتين، وقد سبق معنا بيان أنها -العرضة الأخيرة- مما أستدل به النبي- صلى الله عليه وسلم على دنوا أجله وانتهاء مهمته في الأرض.
وقد روى البخاري رحمه الله: بسنده في "خلق أفعال العباد" قال:
حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبدالله. قال: لا، إِنَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم كان يُعرَضُ عليه القرآنُ في كل رمضان مرةً إلا العام الذي قُبض فيه فإِنَّه عُرِضَ عليه القرآنُ مرتين فحَضَرَهُ عبدُالله فشهدَ ما نُسِخَ وما بُدِّلَ.
(4)
.
(1)
- يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (13/ 395).
(2)
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص (94)
(3)
- المرشد الوجيز، لأبي شامة:(ص: 69). سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة.
(4)
- يُنظر: خلق أفعال العباد، للبخاري:(2/ 201).
وهذا الأثر أخرجه النسائي في السنن الكبرى في فضائل القرآن 5/ 7، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 362، وسعيد بن منصور في سننه 1/ 240 من طرق عن الأعمش عن أبي ظبيان به، وقال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيحٌ، ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين (حرف زيد بن ثابت وحرف عبدالله بن مسعود) فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما. يُنظر: فتح الباري: (9/ 45).
وقد سبق معنا التحقق من تدليس الأعمش إذا عنعن، وقد عنعن هنا، وبعد تتبع طرق هذا الأثر تبين ضعفه، ولكن له طرق أخرى يتقوى بها ويشهد لذلك تصحيح الحافظ ابن حجر في "الفتح" بقوله: إسناده صحيحٌ.
(1)
ولذا يقول ابن مسعود عن نفسه: "لو أعلمُ أحدًا أعلمَ بالعرْضة الأخيرة منِّي لأتيتُه.
(2)
إن ثبت هذا الأثر، فلا شك إنه إن دل على شيء فإنما يدل على حرصه واجتهاده- رضي الله عنه ولما يعلم هو من نفسه.
لما لا وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خُذوا القرآنَ من أربعة: مِن ابن أمِّ عبد
…
)، فبدأ به.
(3)
وفي نحو ذلك يقول أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في " أرجوزته المنبهة":
وعن نبي الله قد أتانا
…
بأنه قال خذوا القرانا
من نفر أربعة قراء
…
من ابن مسعود أخي العلياء
ومن أُبَيّ ومعاذ بن جبل
…
وسالم يَهْنِيهِمُ هذا المحل
إذ خصهم نبيهم بذاكا
…
ولم يسم غيرهم إذ ذاكا
وليس من أصحابه إنسان
…
إلا وقد فضله الرحمن
وكلهم أئمة في الدين
…
وفي الكتاب المنزل المبين
(4)
وأخيرًا: المصحف الإمام وموافقته للعرضة الأخيرة
يجب أن يُعْلَمَ أن استقرار أمر المصحف الإمام على موافقة العرضة الأخيرة:
1 -
كان عن علم وإجماع من الصحابة- رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين-.
2 -
وإن البعض منهم كان له مصحفه الخاص به، ومصاحفهم الخاصة هي تلك المصاحف التي كتبوها، أو كُتِبَتْ لهم، قبل أن يجمع عثمانُ الناسَ على المصحف الإمام، وإذا كانت خاصة فلابد وأنها غير متطابقة تمام التطابق مع المصحف الإمام، فالقرآن المنزل كان محلا للنسخ، هذا من
(1)
- و طريق أبي ظبيان، يرويه عنه الأعمش. أخرجه المصنف هنا من طريق أبي معاوية عن الأعمش. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 342، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 559 رقم 10337)، والبخاري في "خلق أفعال العباد"(ص 122 رقم 382)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 196)، وابن عساكر في "تاريخه"(39/ 91).
وهو مروي كذلك من طريق مجاهد، عن ابن عباس، ومن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، والحديث يتقوى بمجموع هذه الطرق والله أعلم
(2)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (1/ 280)، وذكره أبو عبدالله في إيضاح القراءات (10/ ب).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب أُبي بن كعب (779) رقم الحديث (3808)، والترمذي في جامعه، كتاب المناقب، باب: مناقب عبدالله بن مسعود (864) برقم (3810)، وقال:"حديث حسن صحيح"، وأحمد في مسنده (2/ 163).
(4)
- الأرجوزة المنبهة، لأبي عمرو الداني:(ص: 8).
جهة، ومن جهة أخري فإن القرآن نزل على سبعة أحرف، وقد يكون أحدهم مصحفه على حرف من تلك الأحرف المنزل بها القرآن والمرخص في القراءة بها.
3 -
وقد كانت مصاحفهم عندهم ليرجع أحدهم لمصحفه الخاص من أجل ذلك، وكل منهم له اجتهاده في حدود ما بلغه علمه من تلك الأحرف.
4 -
لما جمع عثمانُ الصحابةَ على المصحف الإمام وأمر الناس بتحريق المصاحف كان ذلك الأمر من الخليفة الراشد الحاكم والآمر لزامًا عليهم جميعًا الاستجابة له ولأمره، وذلك لأمرين اثنين:
أما الأمر الأول: فلأنه الحق الذي أجمعوا عليه جميعًا وتم بمشورتهم ومشاركتهم، فلا يحل لأحد منهم مخالفته.
وأما الثاني: فلأن الذي فعل ذلك وجمع الناس عليه هو الخليفة الراشد حاكم المسلمين والقائم على أمرهم، فلا يحق لأحد شق عصى الطاعة والخروج عن لزوم أمره الموافق لإجماع الصحابة أجمعين.
5 -
ومما يدلل على ما سبق ذكره إجمالًا: ما ثبت عند البخاري من حديث أنس بن مالك-رضي الله عنه:
أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: " أَنْ
أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ"، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْر، وَسَعِيدَ بْنَ العَاص، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: " إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ"، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ.
(1)
.
وبهذا يتبين لنا ما يلي:
1 -
أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم مصاحفهم الخاصة.
2 -
كما يدل على أنه تم إحراق تلك المصاحف جميعًا.
(1)
- رواه البخاري- كتاب بدء الوحي، باب، حديث (4987).
3 -
كما يدل ضمنًا على إجماعهم، فلم يمتنع أحد منهم على تقديم مصحفه للحرق، إلا ما كان من ابن مسعود رضي الله عنه-أول الأمر، فما لبث أن ثاب إلى أمر الجماعة.
4 -
كما يدل أخيرًا على أن:
" العرضة الأخيرة للقرآن الكريم كانت هي المرجع والأساس لقراءة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانت الفيصل بينهم إذا تنازعوا في شيء من كتاب الله تعالى، ولَمَّا أرادوا الكريم
كانت هي أيضًا أساس هذا الجمع، فقد اتفقوا على كتابة ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.
(1)
وسيأتي معنا في المبحث الرابع الذي يلي هذا المبحث، الكلام على تحريق المصاحف الأخرى غير المصحف الإمام بشيء من الإيضاح والتفصيل، بإذن الله تعالى.
وقد طال بنا التطواف مع هذه الشبهة ومناقشتها ومدارستها والرد عليها وإبطالها وتفنيدها وتكذيبها، وذلك أمرين:
الأول: لعظم خطبها وخطورة شأنها
الثاني: لكثرة ما ورد حولها من مطاعن وشبه قد تلتبس على بعض طلاب العلم المتخصصين فضل عن غيرهم.
وختامًا لمبحث الشبه الواردة على المصحف العثماني:
وبعد عرض نماذج منها ومناقشتها ودحضها وتكذيبها وبيان زيفها وبطلانها بحجج دامغات واضحات، وأجوبة صحيحة مسكتات، لا يسع الباحث إلا أن يحمد الله تعالى ويشكره، راجيًا أن يكون قد وفق لما كان يرجوه ويأمله من الذب عن حياض دينه عمومًا، ودفاعًا عن كتاب ربه خصوصًا، راجيًا وآملًا أن يشمله رَبُهُ الكريمُ الرحمنُ الرحيمُ بعفوه ومغفرته ورحمته التي وسعت
كل شيء، وأن يجعل هذا العمل مما يُتزلف به لديه سبحانه وحده، وأن يجعله مما تُرفع به الدرجات، وتُضاعف به الحسنات، وتُقال به العثرات، ويُعفى به عن السيئات، إنه قريب مجيب.
ويصلى ويسلم على من قام بواجب البلاغ عن ربه- نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم، ويسأله- سبحانه-أن يجزي أصحابه الكرام- خير أصحاب لخير رسول- رضي الله عنهم الجزاء الأوفى على ما قاموا به من حق كتاب ربهم عليهم، فلقد كفَوْا الأمة بعدهم الخَطْب العظيم في حفظهم لكتاب الله الكريم بكل ما تحمل كلمة الحفظ من معانٍ كبيرةٍ عظامٍ، وجزى الله علماء الإسلام سلفًا وخلفًا عما قدموا لدينهم عمومًا ولكتاب ربهم خصوصًا ولا سيما في سد ثلمة الدفاع عن
(1)
- الإتقان في علوم القرآن (1/ 142).
كتاب ربهم المجيد، الذي:(لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(فصلت: 42).
وبهذا تنتهي الشبهة الثامنة ودحضها وإبطالها، وبها ينتهي المطلب الرابع: الشبهات الواردة حول الجمع العثماني ودحضها. والحمد لله رب العالمين.
المطلب الخامس: تحريق المصاحف الأخرى غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه، وبيان دواعي ذلك
أولًا: تحريق المصاحف الأخرى غير المصحف الإمام
بعد أن أنهت لجنة الجمع العثماني عملها برئاسة زيد بن ثابت ومشاركة الرهط القرشيين الثلاثة- رضي الله عنهم أجمعين-، وقامت بنسخ المصاحف التي سترسل للأمصار، والتي كانت كتابتها موافقة لما استقرت عليه العرضة الأخيرة التي - قيل- شهدها زيد، والتي هي موافقة لما هو مثبت في اللوح المحفوظ وترك ما سوى ذلك، عزم عثمان- رضي الله عنه على تحريق المصاحف التي في أيدي الناس وجمع الأمة على مصحفٍ إمام واحد يجتمع عليه المسلمون في كل الأقاليم الإسلامية درءًا للفتنة وهي في مهدها.
ولذا فإنه لما حدث اختلاف فى قراءة القران بين الغلمان والمتعلمين فى المدينة فى زمن عثمان- رضي الله عنه، قام خطيبًا في الناس فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إمامًا.
(1)
"حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحفِ ردَّ عثمانُ الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
(2)
"واجتمعوا جميعًا على المصاحف العثمانية، حتى عبد الله بن مسعود الذي نقل عنه أنه أنكر أولًا مصاحف عثمان، وأنه أبى أن يحرق مصحفه، رجع وعاد إلى
حظيرة الجماعة، حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية، واجتماع الأمة عليها، وتوحيد الكلمة بها".
(3)
ثانيًا: موقف الصحابة من تحريق المصاحف
استشار عثمان الصحابة في ذلك فأيَّدوه وعاضدوه وناصروه واستجابوا له وأثنوا على فعله واستجابوا لندائه وأمره وأعانوه وأقروا ما عمله-عثمان-؛ واتفقت كلمتهم على فعله، فحرقوا
(1)
المصاحف لابن أي داود: (1/ 204).
(2)
البخاري: فضائل القرآن، رقم:4604.
(3)
- يُنظر: مناهل العرفان: 1/ 261.
مصاحفهم استجابة منهم لهذا الفعل العظيم، صيانة لكتاب الله وجمعًا لكلمة الأمة على أمر سواء، وقد مر معنا ذكر ذلك مرارًا في ثنايا البحث.
ومن أبرز ذلك قول علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه:
"يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف .. فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا جميعًا، .. إلى أن قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف
…
، قلنا: فنعم ما رأيت .. قال على: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل".
(1)
وقد مر عنا ذكر هذا الخبر قبل قليل بطوله فناسب ذكره هنا مقتضبًا.
ويقول- رضي الله عنه أيضًا:
دعانا-عثمان-فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافًا. قلنا: فما ترى؟ قال: أن أجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت.
(2)
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص (ت: 103 هـ) قال:
أدركت الناس متوافرين حين حرّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك- أو قال- لم ينكر ذلك منهم أحد.
(3)
وإن إقرار جميع الصحابة- رضي الله عنهم لفعل عثمان يُعد إجماعًا منهم، وإقرار على بن أبي طالب، وبعده قول مصعب بن سعد يقرر الإجماع السكوتي كذلك. ويكفي أن عثمان-رضي الله عنه قد فعل ذلك والصحابة متوافروِن، فلم ينكر عليه أحد منهم أبدًا.
والأهم من هذا كله أن بعض الصحابة ممن كان له مصاحف خاصة كأبي بن كعب وابن مسعود وعلى بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري والمقداد بن الأسود وأبي الدرداء وابن عباس وغيرهم- لم يعترض منهم أي أحد-، بل إنهم قد أجمعوا على صحة فعل عثمان في تحريق المصاحف، و تمت ذلك أمام أعين كبراء الصحابة وفضلائهم- رضي الله عنهم أجمعين-.
وقد رضي الصحابة - رضى الله عنهم - ما صنعه عثمان - رضى الله عنه - وأجمعوا على صحته وسلامته، وقال زيد بن ثابت - رضى الله عنه - "فرأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".
(4)
(1)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: (1/ 17).
(2)
يُنظر: المصاحف لابن أبي داود: (ص 96).
(3)
ابن حجر في الفتح 8/ 682
(4)
- غرائب القرآن للنيسابوري (1/ 27).
ثالثًا: بواعث تحريق عثمان للمصاحف
لابد وأن يُعلم أولًا:
أن كلمة: " المُصحف" في الصدر الأول لم يكُن يُقصد بها "القرآن الكريم" وإنما يُقصد بها مجموع الصحف التي كتب فيها القرآن، ولِذا حين يُقال أن عُثمان قد حرق المصاحِف فلا يعني ذلك أنه قد حرق القرآن، بل حرق الصحف التي كُتب فيها.
ولقد أمر عثمان- رضي الله عنه بتحريق المصاحف لمصالح كبرى وعظمى والتي كان من أبرزها ما يلي:
الباعث الأول: المصحف الإمام مصحف جامع للأمة قاطبة، وسائر المصاحف مصاحف فردية، كتبها كل واحد لنفسه فحسب، والصحابة ربما لم يُدوِّن أحدهم القرآن الكريم كامِلاً في مصحفه وإنما دوّن ما يحتاج إلى حِفظِهِ ومراجعته، لذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام.
الباعث الثاني: المصحف الإمام نال عناية ودقة فائقة في الضبط والتحري والاستيثاق وإجماع الصحابة، والمصاحف الأخرى حظها من هذا الإتقان والتحري والدقة دون ذلك، لذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام.
الباعث الثالث: المصحف الإمام لم يجمع عثمان بين دفتيه إلا ما كان قرآنًا فحسب، أما المصاحف الأخرى فقد حوت زيادات أُخر من بيان لمعان مبهمة أو تفسير لبعض الآيات، أو بيان لناسخ ومنسوخ، أو نحو ذلك، وذلك لأن تلك المصاحف الّتي عند الناس إنما انتسخوها لأنفسهم، والصحابة حفظة مهرة لا يخشى عليهم من التباس القرآن بغيره مما احتاجوا لكتابته، وقد تقع تلك المصاحف الخاصة بين أيدي أحد من غيرهم ممن يأتي بعدهم فيعتقد أنها قرآن، لذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام مجرد من كل ما ليس قرآنًا، وقد مر معنا في طيات البحث ذكر طرف من هذا فلا حاجة لإعادته هنا.
الباعث الرابع: المصحف الإمام كان على حرف ولسان قريش ابتداءً، كما أنه جمع باقي الأحرف الثابتة في العرضة الأخيرة، والمصاحف الأخرى حوت أحرفًا أخرى يختلف بعضها عن بعض، وذلك بحسب الحرف الذي تلقاه الصحابي من رسول الله-صلى الله عليه وسلم فحسب، فقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم يُقرِئ كل صحابي القرآن بحرف ولسان قومه ولهجتهم، فبعضهم قد أثبت في مصحفه هذا الحرف الذي تلقاه وسمِعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وهو يختلف عن الحرف الآخر الذي تلقاه وأثبته غيره في مصحفه، وجائز على تلك المصاحف الاختلاف، بسبب اختلاف الحر ف المكتوب فيها وهو الحرف الذي بلغ كل منهم من القرآن
وتلقاه وتعلمه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم فأثبته في مصحفه، لذا فقد كتب عثمان تلك المصاحف ورسمها بطريقة تحتمل جميع أوجه القراءة وفق جميع الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن وذلك بعدم إعجامها وشكلها، وتم توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد، فوجب حينئذ اجتماعهم جميعًا على مصحف واحد، لذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام.
الباعث الخامس: المصحف الإمام اعتمد فيه ما ثبت قرآنيته وفق العرضة الأخيرة وتُرِكَ وأُهْمِلَ ما نسخت تلاوته ولم يستقر فيها، وأما المصاحف الأخرى فقد حوت ما لم ينسخ من الآيات لأنها مصاحف خاصة، فجائز الاختلاف عليها، فلذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام يتضمن ما ثبت قرآنيته وفق العرضة الأخيرة المعتمدة التي أُثْبِتَ فيها ما تحقق قرآنيته مما لم ينسخ، وترك وإهمال كل ما نسخ، والاقتصار على ما ثبت بالتواتر فحسب، وإهمال ما كانت روايته آحادًا كذلك.
وإن بقاء هذه المصاحف الخاصة بين أيدي الصحابة وفيها ما نسخت تلاوته يُخْشى من وقوعها بين يدي من لم يطلع على النسخ فيعتقد قرآنيته وهي ليست من القرآن، فاحتيجت للحرق، ولذا احتاج الناس لمصحف واحد إمام.
وبانتهاء المطلب الرابع: تحريق المصاحف الأخرى غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه، وبيان دواعي ذلك. ينتهي المبحث الثاني. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثالث: قضايا مهمة حول المصاحف العثمانية ومصيرها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أهم نتائج جمع هذه المصاحف وفوائد جمعها
كان لجمع عثمان للمصحف الإمام ونسخه وبعثه للأمصار آثار عظيمة ومنافع جمة كشف الله بها الغمة ونفع بها عموم الأمة.
وكان من أبرز ما نتج عن صدور المصحف الإمام ما يلي:
1 -
نتج عن صدور المصحف الإمام وأد الفتنة التي وقعت وقطع دابرها في مهدها، وحسم مادة الخلاف التي وقعت بسبب اختلاف المتعلمين في أوجه القراءة
2 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- اجتماع كلمة المسلمين على أمر سواء
3 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أن منحه صفة الاعتماد الشرعية الصادرة عن خليفة المسلمين وأمير المؤمنين
4 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أن ألغيت كل المصاحف فيما سواه، فلا يلتفت لغيره أبدًا
5 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أن أصبح محل الثقة والقبول عند عموم أهل الأمصار
6 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أن بمجرد وصوله للأمصار تم اعتماد الطريقة العثمانية في الرسم بما يوافق ما تتحمله من أوجه القراءات
7 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أنه لما أُثْبِتَت الوجوهُ الثابتة من الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية علم الناس أن سبب الفتنة التي وقعت كان بسبب عدم معرفتهم بتلك الحروف، فتعلموها واتقنوها
8 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- أن المصاحف الخاصة التي كانت بين أيدي الصحابة فيها بعض ما نسخ من القرآن، لم يكن لبعضهم معرفة بنسخها، فلما صدر المصحف الإمام بإثبات واعتماد ما ثبت قراءته بالتواتر ووافق العرضة الأخيرة، وإهمال كل ما نسخ، تعرف الناس من جراء ذلك على وجوه وآيات متعددة منسوخة التلاوة.
9 -
ومما نتج عن صدوره - كذلك- إضافة لما سبق ذكره، وبغيره، يكون عثمان- رضي الله عنه بحسن صنيعه هذا قد حصَّن القرآن، وحفظه الله - تعالى- به من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والنقصان أو التحريف والتغير والتبديل على مر العصور وتعاقب الأزمان.
المطلب الثاني: وجود هذه المصاحف بين الناس في الزمن الحاضر
أين المصاحف العثمانية الآن في الزمن الحاضر؟
لقد تلقى أهلُ الأمصار المصاحفَ العثمانية بالقبول والرضا والتسليم، لعلمهم بعظم وقدر ما بذل فيها من جهد وتحقيق وتدقيق، ولما اشتملت عليه من مزايا وخصائص، ولعلمهم بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم وتلقيهم لها بالقبول، وثنائهم على فعل عثمان- رضي الله عنه ومشاركتهم له فيها وتأييدهم ومعاضدتهم ومناصرته له، ولذا كان للمصاحف العثمانية مكانة خاصة عند عموم المسلمين، وقد مر بنا مرارًا ثناء الصحابة رضي الله عنهم على صنيع عثمان-رضي الله عنه في المصاحف
ومن ذلك قول عليّ- رضي الله عنه: لو لم يَصنَعه عثمان لصنعتُه.
(1)
.
وكذلك ما روي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص (ت: 103 هـ) أنه قال:
أدركتُ الناسَ متوافِرين حين حرق عثمان المصاحفَ، فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منهم أحد.
(2)
وأما " المصاحف التي كتبها عثمان "فـ" لا يكاد يوجد منها مصحف واحد اليوم. والذي يُرْوَى عن ابن كثير في كتابه "فضائل القرآن" أنه رأى واحدًا منها بجامع دمشق بالشام، في رقّ يظنه من
(1)
يُنظر: المصاحف لابن أبي داود: (ص: 67).
(2)
- المرجع السابق: (ص: 68).
جلود
الإبل، ويُرْوَى أن هذا المصحف الشامي نُقِلَ إلى إنجلترا بعد أن ظل في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد فترة، وقيل أنه احترق في مسجد دمشق سنة (1310) هجرية".
(1)
.
فلنتأمل فيها ما يلي:
أ- تكرار عبارة: "يُرْوَى" بصيغة التمريض
ب- وكذلك عبارة: "قيل".
يتبين لنا أن كون ذلك من أضراب الظن والتخرص أقرب إلى كونه من أمر التحقيق.
وفي نحو ذلك يقرر الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله فيقول:
" ليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن، فضلا عن تعيين أمكنتها، وقصارى ما علمناه أخيرًا أن ابن الجزري رأى في زمانه مصحف أهل الشام، ورأى في مصر مصحفًا أيضًا.
أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال عنها إنها مصاحف عثمانية: فإننا نشك كثيرًا في صحة هذه النسبة إلى عثمان- رضي الله عنه؛ لأن بها زركشة ونقوشًا
موضوعة كعلامات للفصل بين السور، ولبيان أعشار القرآن، ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا، ومن النقط والشكل أيضًا.
نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى عثمان- رضي الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم، مع تجويف حروفه وسعة حجمه جدًا، ورسمه يوافق رسم المصحف المدني أو الشامي، حيث رسم فيه كلمة:(من يرتدد) من سورة المائدة بدالين اثنين مع فك الإدغام، وهي فيها بهذا الرسم.
فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من المصاحف العثمانية على رسم بعضها.
وكذلك المصحف المحفوظ بتلك الخزانة، ويقال إن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه كتبه بخطه، يلاحظ فيه أنه مكتوب بذلك الخط الكوفي القديم، بَيِدَ أنه أصغر حجمَا، وخطه أقل تجويفَا من سابقه، ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية حيث رسمت فيه الكلمة السابقة:(من يرتد) بدال واحدة مع الإدغام، وهي في غيرهما كذلك.
فمن الجائز أن يكون كاتبه عليًا، أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة.
(2)
(1)
- مباحث في علوم القرآن: (ص: 168).
(2)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 404 - 405).
ثم يقرر رحمه الله ويقول:
ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئًا، ما دام المعول عليه هو النقل والتلقي ثقة عن ثقة، وإمامًا عن إمام، إلى النبي- صلى الله عليه وسلم، وذلك متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن.
على أن المصاحف العثمانية نسخت على غرارها الآلاف المؤلفة في كل عصر ومصر، مع المحافظة على الرسم العثماني.
(1)
و" مسألة مصير المصاحف العثمانية الأصلية، وهل من المحتمل أن يكون قد بقي منها شيء: هي مسألة تاريخية كبيرة، ليس من اليسير - هنا - الإلمام بكل جوانبها، ونكتفي بالإشارة إلى أن العلماء قد رووا- في وقت مبكر - ذهاب تلك المصاحف، ولا شك أن من روى ذلك كانت روايته بقدر ما عرفه، ولا ينفي أن تكون المصاحف العثمانية قد بقيت لعدة قرون بعد ذلك:
فبينما نجد الإمام مالك بن أنس (ت: 179 هـ) يسأله ابن وهب عن مصحف عثمان-رضي الله عنه، فيقول: بأنه ذهب، نجده يخرج لهم مصحفًا قديمًا كان قد كتبه جده إذ كتب عثمان المصاحف.
ويُروى أن أبا عبيد قال: إنه رأى الإمام- مصحف عثمان-، استخرج له من بعض خزائن الأمراء، وأنه رأى فيه أثر دمه.
ويشير الداني (ت: 444 هـ) كثيرًا إلى تتبعه بعض الحروف في المصاحف العتق، فيقول- مثلا - إنه رأى مصحفًا جامعًا عتيقًا كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة عشر ومائة كان تاريخه في آخره.
كذلك يَروي ابن كثير (ت: 774 هـ) وابن الجزري (ت: 833 هـ) أنهما رأيا بعض المصاحف القديمة المكتوبة على الرق في جامع دمشق وفي مصر كذلك.
فهذه الروايات تشير إلى احتمال أن تكون المصاحف العثمانية الأصلية قد ظلت موجودة دهرًا طويلًا في المساجد الجامعة، خاصة إذا تصورنا ما حظيت به تلك المصاحف من الرعاية والاحترام، فهي المصاحف الأئمة التي نسخ الناس عنها مصاحفهم في الأمصار بعد إجماع الأمة على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان- رضي الله عنه.
ومن الملاحظ أن أئمة رواية الرسم كثيرًا ما يقولون إنهم رأوا كلمة معينة في المصحف الإمام-مصحف عثمان-، كالذي يروى عن أبي عبيد، وعاصم الجحدري، ويحيى بن الحارث، وأبي حاتم، ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان- رضي
(1)
- المرجع السابق نفسه: (1/ 405).
الله عنه- في أي مصر من الأمصار، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة
فحسب، وربما تشمل أيضًا المصاحف الكبيرة التي كانت توضع في المساجد الجامعة للقراءة أو لنسخ المصاحف منها، والتي نسخت من المصاحف العثمانية الأصلية، ولعل ذلك يفسر لنا أيضًا ما يكتب في آخر بعض المصاحف من أنه بخط الخليفة عثمان، أي بنفس الهجاء الذي كتبت عليه المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان- رضي الله عنه.
وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف القديمة، أو قطع منها قد كتبت على الرق، وبالخط الكوفي القديم، مجردة من النقط والشكل، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آيها وغير ذلك، بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليها المصاحف الأولى.
ويثار السؤال القديم مرة أخرى في الوقت الحاضر، وهو: هل يمكن أن يكون واحد من هذه المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية؟
إن أغلب الباحثين أَمْيَل إلى استبعاد ذلك، إذ من المتعذر اليوم العثور على مصحف كامل كتب في القرن الهجري الأول أو الثاني وعليه تاريخ نسخه أو اسم ناسخه، وكذلك فإنها في الغالب غير مجردة تمامًا من العلامات التي أدخلت في وقت متأخر، إلى جانب أن إقرار ذلك يحتاج إلى أدلة تاريخية ومادية واضحة وقوية، ودراسة متعددة الوجود، وهو ما لم يتح للدارسين بعد القيام بها.
ومهما كان الرأي في تلك المصاحف فإنها - دون شك- قديمة ترجع إلى القرون الهجرية الأولى، بل ربما إلى القرن الأول بالذات، خاصة حين لا يظهر فيها أي أثر للإصلاحات التي أدخلت على الخط العربي في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، إلا بعض العلامات النادرة أحيانا، فهي بذلك أقرب إلى الفترة التي يحتمل أن تكون المصاحف العثمانية موجودة فيها، وربما نسخت منها أو من مصحف نسخ من أحدها، وهي لذلك خير ما يمثل واقع الرسم الذي نسخت به المصاحف العثمانية.
وتملك مكتبات التراث الإسلامية في مصر خير مجموعة من تلك المصاحف القديمة، كذلك يروى أن أحد تلك المصاحف القديمة كان موجودًا في الحرم النبوي في المدينة النبوية حتى الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918 م)، حيث نقله العثمانيون إلى الآستانة مع خروجهم من أراضي الحجاز، ويقال إنه انتقل إلى ألمانيا.
ومنها مصحف محفوظ الآن في مدينة طشقند في تركستان الإسلامية في روسيا، وقد قامت بنشره- في مطلع هذا القرن - جمعية الآثار القديمة الروسية، وطبعت منه خمسين نسخة، ومع ذلك فإن الدراسات عن تلك المصاحف القديمة وعددها في مكتبات العالم لا تزال قليلة ".
(1)
(1)
رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، للدكتور/ غانم قدوري:(ص/ 188 - 191).
وهذا الكلام قد يكون أقرب للصواب والتحقيق من غيره بكثير، لأن الجزم بزمان ومكان هذه المصاحف أمر فيه من التخرصات والتكهنات الشيء الكثير الذي يحتاج معه التحقيق والتدقيق والتثبت وذكر براهين ساطعات وحجج واضحات دامغات كوضوح الشمس في ربيعة النهار.
وقد كُتِبَت وسطرت في ذلك أبحاث يمكن الاستزادة منها في هذا المبحث الهام، وإن كانت تلك البحوث ما تزال تفتقر إلى تحقيق وتدقيق بصورة تليق بموضوع البحث ومكانته وأهميته.
(1)
المطلب الثالث: ظهور طباعة المصحف العثماني وانتشاره في الآفاق في عصرنا الحاضر
المصحف الشريف ذلك الكتاب المعظم، ذو الحلة القشيبة والخط المزخرف، الذي يعكف المسلمون على قراءته وتدبره، لا شك أنه لم يصل إلينا بحلته البديعة وزخارفه المنمقة على طريق من الورد، وإذا كنا اليوم نحمل مصاحف مفسرة على هواتفنا المحمولة، ونستطيع أن نحصل على نسخة من المصحف الشريف في كل مكان وزمان، ونوقن تمامًا بأن جميع نسخ المصاحف اليوم في العالم كله مضبوطة ضبطًا تامًا ومطابقة لبعضها تمام المطابقة، لا تزيد حرفًا ولا تنقص حرفًا،
وإذا كنا اليوم نعرف المصحف على هذه الحالة فعلينا أن نعلم أنه مر بكثير من المراحل عبر عصور الإسلام الطويلة حتى وصل إلى هيئته المألوفة لنا.
ولكن ما هو مألوف ومعتاد لنا اليوم كان في زمن مضى مقصدًا يسعى المسلمون إلى تحقيقه، فهل نتخيل مقدار العناء والمشقة التي وجدها المسلمون الأوائل في تدوين القرآن الكريم حين كانت وسائل التدوين غير ميسورة، فكانت كتابتهم له في الجلود والعظام واللخاف، بحيث إذا أرادوا أن يحتفظوا بنسخة واحدة من القرآن الكريم -كما يقول الشيخ طاهر الكردي رحمه الله المكتوب بالخط الكوفي الغليظ على هذه الأشياء الثقيلة لاحتاجوا إلى مكان واسع حتى يمكن حفظها فيه!
وهل نتصور أنه منذ أكثر من مائة عام -وهو عهد قريب في تاريخ المصاحف- كانت الجهات الرقابية في مصر تمنع دخول أي مصحف من خارج البلاد، نظرًا لوجود كثير من المصاحف المملوءة بالأخطاء في ذلك الوقت! وأنه منذ قرابة الستين عامًا كانت محاولات تحريف المصاحف لا تزال قائمة، خاصة في بعض البلاد الإسلامية النائية!
إنها رحلة طويلة مر بها المصحف الشريف حتى انتهى إلى صورته المشرقة وحلته القشيبة التي نعهده عليها اليوم، وهي رحلة تثبت تحقق الوعد الإلهي بحفظ القرآن الكريم، كما قال ربنا الكريم:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
(1)
منها كتاب: " أضواء على مصحف عثمان بن عفان- رضي الله عنه ورحلته شرقًا وغربًا " للدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم، طبع مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1991 م.
فما من عصر مر على هذا الكتاب إلا وقد استخدم الله فيه طائفة من المسلمين وغيرهم لخدمة القرآن وتحقيق الوعد الإلهي بحفظه، فكيف بدأت هذه الرحلة وإلى أين انتهت؟.
(1)
هذا ما يحاول الباحث بيانه عبر تلك السطور.
أول طبعات للمصحف الشريف:
إن اكتشاف عالم الطباعة عبر تلك الآلات الحديثة
(2)
يُعد من أجل النعم التي سخرها الله لعباده المؤمنين ليستعينوا بها على طباعة ونشر كتابه الكريم في أرجاء الدنيا.
ولقد كان في طليعة طباعة المصحف الشريف ثلاث طبعات أوروبية، وكانت تلك الطبعات ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين وهي على النحو التالي:
الطبعة الأولى: طبعة "البندقية" بإيطاليا
وقيل أنها كانت عام 1537 م- أو 1538 م، وقيل غير ذلك، كما اختلف في مكان طبعها فقيل البندقية
(3)
، وقيل روما، كما اختلف في القائم على أمر طباعتها
(4)
وهذه صورة من أول نسخة مطبوعة من القرآن الكريم، بمدينة البندقية في إيطاليا حيث كان أول مصحف مطبوع في العالم. ولم يبق من نُسَخِهِ غير نسخة واحدة محفوظة في دير سانت ميشل بالبندقية في إيطاليا، كما هي في شكل (1)
(5)
(1)
- تاريخ المصحف، حسام طاهر، ملتقى أهل التفسير، بتاريخ: 22/ 9/ 1437 هـ. بتصرف يسير.
(2)
قيل: يوحنا جوتنبرج (1397 هـ-1468 م) وهو اسم لمع في مدينة (ماينز) بألمانيا، وارتبط باختراع فن المطابع، وذلك عام 840 هـ/ 1436 م، وقيل كان تطويرها على يد الألماني: يوهان غنزفلايش تسر لادن تسوم غوتنبرغ (بالألمانية)(Johannes Gutenberg):
(1398 م - 1468 م) وهو: مخترع ألماني قام في سنة 1447 م بتطوير قوالب الحروف التي توضع بجوار بعضها البعض ثم يوضع فوقها الورق ثم يضغط عليه فتكون المطبوعة.
مطورًا بذلك علم الطباعة الذي اخترع قبل ذلك في كوريا في سنة 1234 مم، وهو يعتبر مخترع الطباعة الحديثة. نقلًا عن الموسوعة الحرة.
(3)
- وهي مدينة فينسيا حاليًا، المعروفة بالمدينة العائمة بإيطاليا.
(4)
فقيل: باغنين وقيل: بافاني وقيل باجانيني. ورغم ما يتردد من شك حول اكتشاف نسخة من هذه الطبعة في مكتبة الدير الفرنسسكاني القديس ميخائيل بالبندقية على يد أنجيلا نيوفو Angela Novo (وذلك في دراسة نشرتها عام 1987 م في دورية La Bibliofila بعنوان IL corano Arabo ritravato، ترجمة في العدد المزدوج 53، 54 من المجلة التاريخية المغربية عام 1989 م.) إلا أن هناك اتفاقًا على أن هذه الطبعة أتلفت بأمر من البابا و إذا كان هناك من الباحثين من يرجع سبب إتلافها إلى رداءة طباعتها و عدم تقيدها بالرسم الصحيح للمصحف حسب ما اتفق عليه علماء المسلمين مما جعل المسلمين يحجمون عن اقتنائها إلا أن تدخل البابا و أمره بإتلافها يوحي بأن هناك دافعًا دينيًا أيضًا وراء إتلاف هذه الطبعة.
(5)
- يُنظر: تأريخ طباعة القران
|
صورة من أول نسخة مطبوعة من القرآن الكريم، بمدينة البندقية في إيطاليا
شكل: (1)
الطبعة الثانية: طبعة "هامبورغ" بألمانيا
وقيل أنها كانت عام 1694 م، فقد قام بها مستشرق ألماني ينتمي إلى الطائفة البروتستنتية
(1)
وقد حدّد أن هدفه من هذه الطبعة ليس نشر الإسلام بين البروتستانت وإنما التعرف على العربية والإسلام فحسب، هكذا زعم.
وهذه صورة لأول مصحف طبع في هامبورغ بألمانيا عام 1694 م، كما هي في شكل:(2)
(1)
- هو إبراهام هنكلمان: (Ebrahami hincklmani). توفي عام 1965 م.
|
صورة لأول مصحف طبع في هامبورغ بألمانيا عام 1694 م
شكل: (2)
الطبعة الثالثة: طبعة "بتافيا
"
(1)
وقيل أنها كانت عام 1698 م. وقد صدرت هذه الطبعة على قسمين:
أما القسم الأول: فيضم نص القرآن الكريم
وأما القسم الثاني: فالترجمة
(2)
والتعليقات.
وقد قام بإعداد هذا القسم راهب إيطالي
(3)
وقد تميزت طبعة "بتافيا"- هذه- عن سابقتيها بتطور حروفها.
(4)
(1)
- لم يقف الباحث على مكان مدينة" بتافيا" إلا في إندونيسيا وهذا بعيد جدًا، ولعلها في إيطاليا لأن المشرف على طبعتها راهب إيطالي، وهو أقرب ما يكون للصواب والله أعلم.
وطبعة بتافيا: صدرت هذه الطبعة من مطبعة السمناريين عام 1698 م، وهي على قسمين: القسم الأول يضم نص القرآن الكريم، وترجمته، وتعليقات، وقد قام بإعداد هذا القسم الراهب الإيطالي لود فيكو مراشي Ludvico marracei Lucersi، وتمتاز هذه الطبعة بتطور حروفها قياسًا بالطبعتين السابقتين. المرجع الأساس في هذه الفقرة، الدكتور يحيى محمود جنيد في بحثه ((تاريخ طباعة القرآن الكريم باللغة العربية في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين)) مجلة عالم الكتب، م 15، ع 5 الربيعان 1415 هـ، سبتمبر-أكتوبر 1994 م، 516 - 525.
(2)
ترجمة القرآن تمتنع عقلًا وشرعًا، والذي يمكن من ذلك إنما هو ترجمة معاني القرآن فحسب.
(3)
والراهب الإيطالي هو: لود فيكو مراشي Ludvico Marracei Lucersi
(4)
- صدرت هذه الطبعة من مطبعة السمناريين عام 1698 م.
، ويُنظر: الدكتور صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، ط 8/ 1990 م، دار العلم للملايين ببيروت، 99، بتصرف وترتيب واختصار من الباحث، الذي صاغها بأسلوبه.
وقد توالت بعد الطبعات الأوروبية الثلاث طبعات عدة منها:
الطبعة الرابعة: الطبعة الروسية: بـ "سانت بترسبورغ
"
ففي روسيا طبع المصحف الشريف في سانت بترسبورغ عام 1787 م وأشرف على هذه الطبعة مولاي عثمان و في عام 1848 م ظهرت طبعة أخرى في قازان أشرف عليها محمد شاكر مرتضى أوغلي
(1)
التزم فيها بالرسم العثماني ولم يلتزم بذكر أرقام الآيات وكتبت علامات الوقف فوق السطور وقد ألحق بهذه الطبعة قائمة بما فيها من الأخطاء و بيان الصواب فيها.
الطبعة الخامسة: طبعة المستشرق الألماني "فلوجل" في مدينة "ليبزيغ" الألمانية
ففي عام 1834 م ظهرت طبعة خاصة للمصحف الشريف في مدينة ليبزيغ أشرف عليها فلوجل
(2)
ورغم اهتمام الأوروبيين بها وإقبالهم عليها إلا أنها لم تحظ بعناية المسلمين لمخالفتها قواعد الرسم العثماني الصحيح.
الطبعة السادسة: الطبعة الإيرانية
ففي إيران طبع المصحف طبعتين حجريتين في كل من طهران عام 1244 هـ (1828 م) و تبريز عام 1248 هـ (1833 م).
كما ظهرت طبعات أخرى في الهند و في الآستانة اعتبارًا من عام 1887 م.
إلا أن الملاحظ على جميع تلك الطبعات عدم التزامها بقواعد الرسم العثماني الذي حظي بإجماع صحابة رسول الله- صلى الله عليه و سلم- و جرت على قواعد الرسم الإملائي الحديث إلا في نزر يسير من الكلمات كتبت بالرسم العثماني.
(3)
تنيه هام جدًا:
(1)
وتقع في 466 صفحة بمقياس 351 في 198 مم.
(2)
- Flugel.
(3)
عبدالفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة،:(ص: 99). يُنظر: طور كتابة المصحف الشريف وطباعته، محمد سالم العوفي:(ص: 10)، وينظر: الدكتور يحيى محمود جنيد في بحثه (تاريخ طباعة القرآن الكريم باللغة العربية في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين) مجلة عالم الكتب، م 15، ع 5 الربيعان 1415 هـ، سبتمبر-أكتوبر 1994 م، 516 - 525.
مع وجوب التنبيه إلى أن أغلب تلك الطبعات ليست لها أي قدر أو أي قيمة شرعية، كالطبعات الأوروبية الثلاث، وكذلك طبعة" فلوجل"، ومن سار على دربهم من بني ملتهم، وذلك لأسباب كثيرة.
ولعل من أبرزها ما يلي:
1 -
أن الأيدي التي قامت عليها ليست يدًا أمينة، فالقائم عليها ما بين راهب ومستشرق وتاجر، ولاشك في جهل هؤلاء جميعًا، وكذلك فإن سلامتها من التحريف غير مأمون البتة
2 -
أن النسخ التي قُوبِلَت عليها تلك الطبعات مجهولة
3 -
وجود أخطاء جمة في تلك الطبعات
4 -
أن تلك الطبعات جرت على قواعد الرسم الإملائي، وقد خالفت كتابتها قواعد الرسم العثماني إلا في نزر يسير من كلمات معدودات.
الطبعة السابعة: طبعة مصحف" المخللاتي"(ت: 1311 هـ)
واستمر الوضع على ذلك حتى عام (1308 هـ- 1890 م) عندما قامت المطبعة البهية بالقاهرة، لصاحبها (محمد أبو زيد) بطبع المصحف الذي كتبه الشيخ المحقق"رضوان بن محمد" الشهير بالمخللاتي، والتزم فيه بخصائص الرسم العثماني، واعتنى بأماكن الوقوف مميزًا كل وقف بعلامة دالة عليه، التاء للوقف التام، والكاف للكافي، والحاء للحسن، والصاد للصالح، والجيم للجائز، والميم للمفهوم، كما قدّم له بمقدمة ذكر فيها أنه حرر رسمه وضبطه على ما في كتاب "المقنع " لأبي عمرو الداني، وكتاب "التنزيل " لأبي داود
(1)
، ولخص فيها تاريخ كتابة القرآن في العهد النبوي، وجمْعه في عهدَي أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، كما لخص فيها مباحث الرسم والضبط ..
(2)
.
عُرف هذا المصحف بمصحف المخللاتي، وكان المقدم على غيره من المصاحف، إلا أن رداءة ورقه، وسوء طباعته الحجرية، دفع مشيخة الأزهر إلى تكوين لجنة تضم: الشيخ محمد علي خلف الحسيني، الشهير بالحداد، والأساتذة: حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري؛ للنظر فيه، وفي ما ظهر من هنات في رسمه وضبطه، فكُتب مصحف بخط الشيخ محمد علي خلف الحسيني، على قواعد الرسم العثماني، وضُبط على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، على حسب
(1)
هو: سليمان بن نجاح، من علماء التفسير، ولد ونشأ في قرطبة بالأندلس، وتنقل بين دانية وبلنسية، من مؤلفاته: البيان في علوم القرآن، والتبيين لهجاء التنزيل، وكانت ولادته عام 413 هـ (1022 م) ووفاته عام 496 هـ (1103 م). الأعلام للزركلي: مرجع سابق: (3/ 200).
(2)
عبدالفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف، مرجع سابق، 91 - 92.
ما ورد في كتاب الطراز على ضبط الخراز
(1)
للتَّنَسي
(2)
، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة، بعلامات الخليل بن أحمد وتلاميذه من المشارقة، وظهرت الطبعة الأولى منه عام 1342 هـ (1923 م)، فتلقاها العالم الإسلامي بالرضا والقبول.
(3)
وبعد نفاذ هذه الطبعة كوِّنت لجنة بإشراف شيخ الأزهر، وعضوية عدد من علمائه: الشيخ عبد الفتاح القاضي، والشيخ محمد علي النجار، والشيخ علي محمد الضبّاع، والشيخ عبد الحليم بسيوني، راجعت المصحف على أمهات كتب القراءات والرسم والضبط والتفسير وعلوم القرآن، وصححت ما في الطبعة الأولى من هنات في الرسم والضبط، وطبع طبعة ثانية مدققة ومحققة
(4)
وهذه صورة لمصحف المخللاتي، وهو أول مصحف مطبوع في العالم العربي، وقد طبع في عام 1890 م بالقاهرة. كما هي في شكل:(3)
(1)
هو: محمد بن محمد بن إبراهيم، أبو عبد الله الشريشي، الشهير بالخراز، من علماء القراءات، وهو من أهل فارس، وأصله من شريش، من مؤلفاته: مورد الظمآن في رسم أحرف القرآن، توفي عام 718 هـ (1318 م). الأعلام للزركلي: مرجع سابق: (7/ 262)، وغانم قدوري، مرجع سابق، 179 - 182).
(2)
هو: محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التَّنَسي، أبو عبد الله، ينسب إلى تنس من أعمال تلمسان، فقيه وأديب، من مؤلفاته: نظم الدرر والعقيان في دولة آل زيان، توفي عام 899 هـ (1494 م). الأعلام للزركلي: مرجع سابق: (7/ 116).
(3)
- عبدالفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف، مرجع سابق، 92 - 94، وصبحي الصالح، مرجع سابق، 100، وغانم قدوري: مرجع سابق، 100.
(4)
عبدالفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف: مرجع سابق، 94.
|
صورة مصحف المخللاتي
شكل: (3)
الطبعة الثامنة: طبعة الملك فؤاد (ت: 1355 هـ)
وفي عهد الملك فؤاد طُبِع المصحف مرة أخرى عام 1918 م وقام على تصحيحه وتدقيقه الشيخ محمد خلف الحسيني؛ شيخ المقارئ المصرية، تحت إشراف مشيخة الأزهر الشريف، وتمت مراجعته في م 1918، وتم جمعه وترتيبه في المطبعة الأميرية، وطبع في مصلحة المساحة عام 1924 م.
وكانت تلك هي الطبعة الأولى، وسمي بالمصحف الملكي المصري، وجاء على أحسن وجه من حيث ترقيم الآيات وعلى أساس علمي قويم، فقد اُتبعت في عد الآيات طريقة الكوفيين عن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي بن أبي طالب، وبحسب ما ورد في كتاب «ناظمة الزهر» للشاطبي.
وبحسب ما جاء في مؤلفات هؤلاء العلماء تم تحديد عدد آيات القرآن بـ (6236 آية)، والدائرة المُزخرفة بوسطها رقم الآية من السورة. عدد صفحاته 826.
- ولكن في عهد الملك فاروق، وجد علماء الأزهر أخطاء في المصاحف التي طُبعت في عهد أبيه؛ فمنها أخطاء في الرسم العثماني وأخطاء في ضبط أواخر الكلمات في بعض السور القرآنية وكذلك
في الوقوف؛ حيث وجد العلماء أن هناك أخطاء واضحة في أكثر من ثمانمائة موضع، ثم طُبعت نسخ أخرى وقام بمراجعتها الشيوخ المصححون أنفسهم، وبالتالي وقعوا في الأخطاء السابقة نفسها، بالإضافة إلى طباعة مصاحف أخرى في المطابع الأهلية سواء كانت مطابع آلية أم حجرية على النسخة السابقة بمعرفة الشيخ محمد علي خلف الحسيني، وبموافقة اللجنة المعينة بقرار الملك فؤاد الأول بكل ما فيها من أخطاء سابقة.
- فلما تقررت إعادة طبع ذلك المصحف في عهد الملك فاروق، تألفت لجنة للمراجعة والتدقيق من الشيخ علي محمد الضباع؛ شيخ المقارئ المصرية، والشيخ عبد الفتاح القاضي المشرف على معهد القراءات، ومحمد علي النجار من كلية العلوم، والشيخ عبد الحليم بسيوني المراقب في الأزهر الشريف، فأتمت مراجعة المصحف وتصحيحه تحت إشراف مشيخة الأزهر وراجع عملها الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الجامع الأزهر وتم إعداد المصحف وطبعه بمصلحة المساحة، أما ترتيبه فتم في مطبعة دار الكتب المصرية، وكانت تلك الطبعة الثانية للمصحف الشريف وصدرت العام 1371 هـ/ 1952 م وكانت أصح وأجمل الطبعات.
ثم توالت الطبعات في المطابع الأميرية وغيرها حتى اليوم، وعُرِف بمصحف بولاق، أو المصحف الأميري، أو المصحف المصري، أو مصحف دار المساحة، أو مصحف دار الكتب، فهي مسميات لمصحف واحد وهو الذي كتب حروفه الخطاط جعفر بك رحمه الله.
وتمت كتابته وضبطه بما يوافق رواية حفص عن عاصم وأُخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها الخليفة عثمان بن عفان إلى البصرة والكوفة والشام ومكة ومصحف المدينة المنورة ومصحفه.
(1)
وهذه صورة لأول مصحف معتمد في العالم العربي: مصحف الملك فؤاد، عام 1923 م كما هي في شكل:(4)
(1)
تاريخ المصحف المطبوع، الحلف السنّي الشّامي، منير الدين المحاسني، بتاريخ: 21/ 2/ 2015 م.
|
صورة مصحف الملك فؤاد، عام 1923 م
شكل: (4)
الطبعة التاسعة: طبعة مصحف "مكة المكرمة
"
وهي مرحلة جديدة من طباعة المصحف الشريف في بلاد الحرمين الشريفين، مهبط الوحي ومهد الرسالة "المملكة العربية السعودية 0"
وتعود بداية طباعة المصحف الشريف في المملكة العربية السعودية إلى عام 1369 هـ عندما ظهر المصحف المعروف بمصحف مكة المكرمة، الذي طبعته شركة مصحف مكة المكرمة.
(1)
الطبعة العاشرة: طبعة مصحف مدينة "جدة
"
وبعد ثلاثين عامًا من ظهور مصحف مكة، ظهر مصحف آخر في مدينة جدة، وذلك في عام 1399 هـ، بمطابع الروضة، بعد مراجعته والموافقة عليه من الجهة المخولة بذلك في المملكة العربية السعودية.
(2)
.
(1)
- مجلة المنهل: عدد: 1312، الجمعة 2 شعبان 1369 هـ (19 مايو 1950 م).
(2)
- عبد القدوس الأنصاري: افتتاحية المنهل م 40 ذي القعدة وذي الحجة 1399 هـ/ أكتوبر ونوفمبر 1979 م.
وهذه صورة لأول مصحف طبع في الهند، وذلك عام 1856 م، كما هي في شكل:(5)
|
صورة لأول مصحف طبع في الهند
شكل: (5)
وهذه صورة لأول مصحف مفسر مطبوع ملون في العالم. عام 1964 م، كما هي في شكل:(6)
|
أول مصحف مفسر مطبوع ملون
شكل: (6)
ثم توالت طبعات المصحف الشريف في مدن مختلفة من العالم الإسلامي مع تطور آلات الطباعة وانتشارها، بما فيها المغرب العربي، الذي لم يتأخر كثيرًا في طباعة المصحف الشريف عن
المشرق، وإن لم يُعرف على وجه الدقة تاريخ بدء الطباعة فيها، إلا أنها التزمت في علامات الضبط بما جاء عند الخراز
(1)
.
مسك الختام:
الطبعة الحادية عشر: طبعة مصحف "المدينة النبوية
"
(2)
بـ "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" بالمملكة العربية السعودية.
لقد أصبح لعناية المملكة العربية السعودية واهتمامها بطباعة القرآن الكريم ونشره في أرجاء المعمورة منهجًا وسبيلًا متميزًا جديرًا بالتقدير والإجلال والإكبار؛ لما امتاز به من أسس واضحة المعالم، ومظاهر كثيرة متعددة.
ففي شهر المحرم من عام 1405 هـ (1984 م) أُعلن في المملكة العربية السعودية عن افتتاح أعظم وأكبر مطبعة في العالم لم يشهد التاريخ مثلها على مر العصور تقوم على خدمة القرآن الكريم في المدينة النبوية، وهو أول عمل حكومي رسمي لطباعة القرآن الكريم، وفتح عظيم نفع الله به ملايين المسلمين في مختلف بقاع الأرض.
ويُعَدُّ إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية من أجلّ صورة العناية بالقرآن الكريم حفظًا، وطباعةً، وتوزيعًا على المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة.
كما يُعد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة النبوية أكبر أحد المعالم المشرقة التي تقدمها المملكة العربية السعودية لخدمة الإسلام والمسلمين في مختلف أرجاء العالم.
فقد وضع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله حجر الأساس للمجمع عام 1403 هـ وافتتحه عام 1405 هـ. وتبلغ طاقة المجمع الإنتاجية 18 مليون نسخة سنويًا موزعة بين مصاحف كاملة وأجزاء وترجمات وتسجيلات وكتبٍ لعلوم القرآن وغيرها، وقد أنتج أكثر من 361 إصدارًا و 300 مليون نسخة حتى عام 1440 هـ. ويجري المجمع دراسات وأبحاثًا مستمرة لخدمة الكتاب والسنة ويضم أحدث ما وصلت إليه تقنيات الطباعة في العالم.
(3)
وكان من أهم أهداف المجمع ما يلي:
1 -
طباعة المصحف الشريف بالروايات المشهورة في العالم الإسلامي.
(1)
غانم قدوري: مرجع سابق، 605.
(2)
- اتفق على تسميته بذلك، وهو مصحف مجمع الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله.
(3)
- يُنظر: موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الموسوعة الحرة.
2 -
تسجيل تلاوة القرآن الكريم بالروايات المشهورة بأصوات مشاهير القراء.
3 -
ترجمة وطباعة معاني القرآن الكريم وتفسيره إلى أهم وأوسع اللغات انتشارًا.
4 -
العناية بعلوم القرآن الكريم.
5 -
العناية بالسنة والسيرة النبوية.
6 -
العناية بالبحوث والدراسات الإسلامية.
7 -
الوفاء باحتياجات المسلمين في داخل المملكة وخارجها من إصدارات المجمع المختلفة.
8 -
نشر إصدارات المجمع على الشبكات العالمية
اللَّجنة العلميَّة لمراجعة المصحف الشَّريف "مصحف المدينة النبوية":
لقد وضعت إدارة المجمع لجنة علمية متخصصة مكونة من أبرز كبار علماء العصر الثقات الأثبات المتخصصين في القراءات وعلوم القرآن.
وتعنى هذه اللجنة بمراجعة المصاحف حال خط خطاط المجمع
(1)
لها وخلال الضبط وبعده على أمهات كتب القراءات، والرسم، والضبط، والفواصل، والوقف، والابتداء، والتفسير. وتظل المراجعة مستمرة من قبل اللجنة العلمية في جميع مراحل الإعداد والتحضير حتى تأذن اللجنة بالبدء بطباعة المصحف، كما تبدي رأيها في المصاحف المخطوطة والمطبوعة التي ترسل إلى المجمع من الجهات الرسمية.
المصاحف "الأصول" التي أنتجها المجمع
تُعنى اللَّجنة العلميَّة في المجمع بمراجعة المصاحف التي انتاجها خطوة بخطوة.
وللمجمَّع أربعة عشر مصحفاً أصولاً، نبينها فيما يلي:
أولًا: منها ما هو بخطِّ خطَّاط المجمَّع د. عثمان طه.
ثانيًا: ومنها ما هو معالجٌ.
وقد أُعدَّت كلُّها في المجمَّع، وروجعت من قبل اللَّجنة العلميَّة لمراجعة المصحف الشَّريف بالمجمَّع.
ثالثًا: ثلاثةٌ منها "أي من هذه المصاحف" وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي، وهي على النحو التالي:
أ- واحد منها تنتهي صفحاته بنهاية الآية
(2)
(1)
- وهو الخطاط الماهر: د. عثمان طه، الذي اصطفاه الله تعالى من بين خطاطي الدنيا كله ليتشرف ويقوم بهذا العمل الجليل.
(2)
- والمصحف الذي تنتهي صفحاته بنهاية الآية يسمونه في فن الطباعة بـ"المصحف الموجه".
ب- والثَّاني لا تنتهي صفحاته بنهاية الآية
ج- والثَّالث معالج بالمجمَّع.
رابعًا: واثنان "منها" وفق رواية ورش عن نافع المدني،
وهي على النحو التالي:
أ- أحدهما مخطوطٌ لا تنتهي صفحاته بنهاية الآية
ب- والآخر معالجٌ بالمجمَّع وتنتهي صفحاته بنهاية الآية.
خامسًا: ومصحفان وفق رواية قالون عن نافع المدني، على النحو التالي:
أ- أحدهما تنتهي صفحاته بنهاية الآية
ب- والآخر لا تنتهي صفحاته بنهاية الآية.
سادسًا: وثلاثة مصاحف وفق رواية الدُّوري عن أبي عمرو البصري،
وهي على النحو التالي:
أ- أحدها لا تنتهي صفحاته بنهاية الآية
ب- والآخر تنتهي صفحاته بنهاية الآية
ج- والثالث معالجٌ بالمجمَّع تنتهي صفحاته بنهاية الآية.
سابعًا: ومصحف وفق رواية شعبة عن عاصم الكوفي، تنتهي صفحاته بنهاية الآية.
ثامنًا: كما تم إصدار مصحف وفق رواية السوسي عن أبي عمرو البصري، تنتهي صفحاته بنهاية الآية.
تاسعًا: كما تمَّ أيضًا إصدار المصحف الحاسوبي، وهو على النحو التالي:
أ- المصحف الحاسوبي الأول وفق رواية البزي عن ابن كثير المكي
ب- المصحف الحاسوبي الثاني وفق رواية قنبل عن ابن كثير المكي، وكلٌّ منهما معالج بالمجمَّع، وتنتهي صفحاتهما بنهاية الآية.
أسلوب العمل في كتابة مصحف المدينة النَّبويَّة:
تُكتب مصاحف المدينة النَّبويَّة بيد خطَّاط متمرِّس، مشهود له بالتَّفوق في كتابة المصاحف، هو الخطَّاط الدُّكتور عثمان طه. -كما أسلفنا- وتشرف على كتابة المصاحف وطبعها لجنة علميَّة مختارة بعناية من المختصِّين في علوم التَّجويد، والقراءات، والرَّسم، والضَّبط، وعدِّ الآي، والوقوف، والتَّفسير، والفقه، واللُّغة، والنَّحو والصَّرف-كما مر معنا ذكر ذلك إجمالًا-، وهي برئاسة فضيلة الشَّيخ الدُّكتور علي بن عبد الرَّحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النَّبوي
الشَّريف، وعضويَّة أصحاب الفضيلة: الشيخ عبد الرَّافع رضوان علي، والشَّيخ محمَّد الإغاثة ولد الشيخ، والشَّيخ محمد عبد الرحمن أطول عمر.
وتسير اللَّجنة في عملها وفق خطَّة دقيقة، وتراجع العمل خطوةً خطوةً، فكلُّ عضو فيها يطالع نسخة من أصل المصحف المخطوط على انفراد، ويقرؤها ويدقِّق فيها آيةً آيةً، وكلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا، وحركةً حركةً، إضافةً إلى المصطلحات والرُّموز، مستعينًا في ذلك بآلة تكبير حسب الحاجة، ويدوِّن ما يقف عليه من ملحوظات في بيان معدّ لذلك، ويوقِّع عليه باسمه، ثمَّ تجتمع اللَّجنة لمناقشة ما دُوِّن في البيانات، وتُصاغ الملحوظات في بيان واحد بعد حذف المكرَّر، ثمَّ
يجتمع أعضاء اللَّجنة لمناقشة هذا البيان بكلِّ جزئياته، فما أُجمع عليه يُوقَّع من الجميع، ويعتمد عليه في تصحيح الأصل، الذي يُعاد مرَّة أخرى للَّجنة، وتتبع الأسلوب نفسه حتى تطمئنَّ اللَّجنة على سلامة ما كُتب. ثمَّ تأذن اللَّجنةُ بالبدء بالتَّحضير للطِّباعة، وتقوم بمراجعة العمل في هذه المرحلة بدقَّة متناهية، حتَّى تطمئن على سلامة التَّحضير للطباعة النِّهائية للمصحف الشَّريف.
الضوابط الدقيقة لعمل اللَّجنة:
وتتلخَّص الضَّوابط التي تسير عليها اللَّجنة في مراجعتها للمصحف الشَّريف فيما يلي:
أولًا: اشتراط الإجماع في كلِّ خطوة، والمصادر الأساسيَّة من كتب المتقدِّمين وكتب المتأخِّرين هي المرجع في حسم أي خلاف.
ثانيًا: التَّمسك بالحجَّة إن ظهرت، وإسقاط ما عداها، والحجَّة مبنيَّة على الرِّواية وكلام الأئمَّة، ولا دخل للرَّأي والاستحسان فيها.
ثالثًا: اتباع قواعد الرَّسم العثماني الذي حظي بإجماع الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين.
رابعًا: تجريد المصحف ممَّا عدا القرآن الكريم لقوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ)
(1)
وذلك خشية اختلاط نص القرآن بغيره والتباس ذلك على النَّاس، ممَّا قد يكون مدخلاً وسببًا للتَّحريف والزِّيادة، متأسِّية في ذلك بما
سار عليه الصَّحابة رضي الله عنهم في تجريد المصاحف العثمانيَّة ممَّا سوى القرآن الكريم، ممَّا لم يَحظَ بالتَّواتر والقطع واليقين كترقيم السُّور، وعدد آياتها وبيان المكي والمدني منها، ممَّا هو داخلٌ في نطاق النَّص القرآني، إذ يمكن تفصيل الأقوال فيه وبيان الرَّاجح من المرجوح في كتب التَّفسير، وعلوم القرآن الكريم.
أمَّا أسماء السُّور، ورموز الوقوف، والنقْط والشَّكل، فقد دعت الحاجة إلى إثباتها؛ لالتصاقها بالنَّص القرآني. أمَّا ما هو خارج نطاق النَّص القرآني في حواشي الصَّفحات؛ كاسم السُّورة، ورقم
(1)
- رواه مسلم (الزهد والرقائق/ 5326)
الجزء، أو في جانب الصَّفحات؛ كرموز الأجزاء، والأحزاب، والأرباع، والأعشار، والأخماس، ورموز السجدات والسكتات، فلقلّة المحذور فيها؛ لبعدها عن مجال النَّص القرآني أُثبتت بإخراج طباعي يختلف عن النَّص القرآني.
انفراد المجمع بنظام دقيق للمراقبة متعدد المراحل:
تعدّ مراقبة الإنتاج المحور الرئيس للتأكد من سلامته، وينفرد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف باتباع أسلوب رقابي متميز على إصداراته لا يوجد في أي مؤسسة طباعية إنتاجية أخرى في العالم، إذ تشمل مراقبة الإنتاج كلاً من:
1 -
مراقبة النص
2 -
المراقبة النوعية
3 -
المراقبة النهائية
4 -
مراقبة قسم التفتيش.
أولًا: مراقبة النص:
تتم مراقبة النص عن طريق لجنة مستقلة مختصة في علوم القرآن من تجويد وقراءات ورسم وضبط.
ثانيًا: المراقبة النوعية:
وهي المسؤولة عن اكتشاف أية أخطاء محتملة على خطوط الإنتاج المختلفة من طباعة وتجميع، وخياطة، وتجليد، ومراحل الإنتاج الصوتي ومعالجتها في حينه.
ثالثًا: المراقبة النهائية:
والمراقبة النهائية بالإضافة إلى وجود رقابة علمية مستمرة من لجنة مراقبة النص للتأكد من سلامة النص القرآني، ووجود مراقبة نوعية ترافق كافة مراحل العمل، يوجد أيضًا جهاز كامل للمراقبة النهائية يزيد عدد العاملين به على 400 مراقب نهائي يبدأ عمله من حيث تنتهي عمليات تجليد المصاحف.
رابعًا: مراقبة قسم التفتيش
يُعد قسمُ التفتيش في المجمع هو المحطة النهائية والمرحلة الختامية التي تراقب عمل المراقبة النهائية، ويُعد قسم التفتيش بمثابة أعلى هيئة رقابية على أعمال المصحف في المجمع، إذ هو آخر المراحل التي يتم فيها متابعة مراقبة المصحف الشريف حتى يخرج إلى المسلمين في أقطار المعمورة.
(1)
أسلوب المجمع في اختيار إصداراته:
(1)
ولقد شرف الله تعالى الباحث في العمل في قسم التفتيش بالمجمع عام 1407 هـ.
يراعى المجمع في اختيار إصداراته المطبوعة أو المرتلة، وإنتاجها، وتوزيعها المواءمة بين حاجات المسلمين إليها، وبين الاستفادة القصوى من الإمكانات الكبيرة التي أمر بتوفيرها للمجمع خادم الحرمين الشريفين، فالمجمع يضم تجهيزات حديثة، وإمكانات متقدمة في مجال الإعداد للطباعة، والطباعة ذاتها، والتجليد، والمراقبات المختلفة.
(1)
ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة الإشارة:
خطا المجمع خطوات أساسية لترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة الإشارة لتكون الأولى من نوعها في العالم، فدرس مختلف جوانبها وهيَّأ لذلك الإمكانات العلمية والفنية اللازمة، آخذًا في الاعتبار طبيعة فئة الصم ولغة الإشارة.
وأنهى المجمع تصوير وتسجيل ومونتاج سورة الفاتحة والعشر سور الأخيرة من جزء عم من ترجمة وتفسير معاني القرآن الكريم إلى لغة الإشارة، وبعد التأكد من كفاءة العمل سيشرع في ترجمة باقي سور جزء عم تباعًا.
بداية الطباعة:
وقد طُبع المصحف الشريف في المجمع برواية حفص عن عاصم، وهي الرواية التي يُقرأ بها في معظم بلاد العالم الإسلامي، وكُتب هذا المصحف على قواعد الرسم العثماني، وضُبط على ما قرره علماء الضبط مع الأخذ بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة، وعدد آياته 6236 آية وفقًا للعدد الكوفي، ومجموع صفحات 604 صفحة تنتهي كل صفحة بآية، وقد طبع بأحجام مختلفة.
(2)
طباعة المصحف الباكستاني:
كما طبع مصحف بخط "نسخ تعليق"- وهو "الرسم الباكستاني"- برواية حفص عن عاصم، على حسب قواعد الرسم والضبط المتعارف عليها في باكستان وما جاورها.
(3)
(1)
كما أنشأ المجمع مصنعًا متكاملاً خاصًا به للأقراص المدمجة (CD) يشمل التصنيع، والطباعة، والتغليف، بطاقة إنتاجية قدرها (840 قرصًا في الساعة)
(2)
- والطبعات هي: الجيب، والثمن، والربع، والعادي 75 جم، والعادي 45 جم، والممتاز، والجوامعي العادي 75 جم والجوامعي العادي 45 جم، والجوامعي الخاص، والجوامعي الفاخر، والملكي الفاخر، إضافة إلى طبعه مجزأ: جزء عم، وجزء تبارك، وجزء قد سمع، والعشر الأخير، وربع يسن، ومصحف بكامله مجزأ على ستة أقسام.
(3)
- وعدد آياته 6236 آية وفقًا للعدد الكوفي، وعدد صفحاته 611 صفحة، وطبع بالحجم العادي 75 جم.
وهذا المصحف "الباكستاني" كتب بالخط الباكستاني النسخ الدارج في التعليم عندهم في-باكستان وفي شبه القارة الهندية-، وذلك وفق قواعد الرسم العثماني، وهذا لا حرج فيه البتة، وذلك لأن اختلاف نوع الخط غير معتبر، مادام قد كتب موافقًا للرسم العثماني.
والمصاحف المطبوعة في باكستان وكذلك في شبه القارة الهندية إنما طبعت وفق منهج أبي عمرو الداني شيخ ابن نجاح غالبًا، ولا سيما في الكلمات التي اختلف فيها حذفًا وإثباتًا.
وقد أذيعت ندوة خاصة عن رسم المصاحف الباكستانية في إذاعة "نداء الإسلام" بمكة المكرمة، وكان ضيف الحلقة الدكتور محمد شفاعت رباني (الباحث العلمي بمركز الدراسات القرآنية في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، وكان ذلك في 5/ صفر 1436 هـ، وكان كلامه منصبًا على رسم المصاحف الهندية الباكستانية، ومناهجها، فذكر أنها التزمَتْ بمنهج الإمامين:
الداني والشاطبي في الرسم.
للاستزادة يُنظر: رسم الكلمات في المصاحف العثمانية لأحمد مجدى عبدالله، موقع أهل التفسير، بتاريخ: 1/ 6/ 1433 هـ.، موقع الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 21/ 5/ 20018 هـ.
ثم توالت بعد ذلك الطبعات بشتى القراءات المتواترة المشتهرة في الأقطار الإسلامية
توزيع إصدارات المجمع:
بدأ المجمع توزيع إصداراته من المصاحف، والتسجيلات، والأجزاء، وربع يس، والعشر الأخير، والترجمات، والكتب منذ عام 1405 هـ، ويتم ذلك على المسلمين داخل المملكة وخارجها في مختلف أرجاء العالم، وبلغت الكميات الموزعة مئات الملايين.
(1)
هدايا الحجاج والمعتمرين والزوار:
كما توزع ملايين النسخ من إصدارات وإنتاج المجمع المنوعة سنويًا على الحجاج والمعتمرين والزوار وقاصدي بيت الله الحرام بمكة المكرمة وزوار مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وذلك عبر المنافذ الجوية والبرية والبحرية للمملكة العربية السعودية.
هذا ويستقبل مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف يوميًا آلاف الزوار من جميع أنحاء العالم حيث يبلغ المعدل الشهري 60 ألف زائر شهريًا.
الباحث شاهد عيان داخل المجمع:
مشاهدة العالم لهذا الحدث الجلل والعمل والإنجاز الكبير:
لقد أحدث هذا العمل الجليل نقلة "نوعية" عظيمة في طباعة المصحف وتحقيق وعد الله بحفظه، فهيأ له من يقوم بحفظه، وقد اصطفى الله تعالى هذه البلاد المباركة وجعل لها قدم السبق في هذا الميدان، كما اصطفاها من بين بقاع الأرض ليجعل فيها بيته العتيق قبلة المسلمين، وكما اصطفاها بأن جعلها مهبطًا للوحي ومهدًا للرسالة، وجعل فيها مبعث ومهاجر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
(1)
- للاستزادة يُنظر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، صرح إسلامي شامخ لخدمة القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، بقلم الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف: الأستاذ الدكتور محمد سالم بن شديد العوفي، عن مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، ربيع الثاني 1434 هـ = فبراير، مارس 2013 م، العدد: 4، السنة:37. بتصرف يسير.، وللاستزادة يُنظر: موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
وحينما بدأ تكثيف إنتاج إصدار المجمع من المصاحف وطباعتها بكميات كبيرة ضخمة تتناسب مع رسالة المملكة من تغطية حاجة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لمصحف موثق ومأمون عقدة لجنة علمية ذات مكانة مرموقة وموثوقة في القاهرة برئاسة الشيخ العلامة عبد المتعال منصور عرفة (ت: 1413 هـ) رحمه الله في مطلع عام 1407 هـ ممثلًا لمجمع الملك فهد لاختيار نخبة مختارة من خريجي جامعة الأزهر- أعرق جامعة إسلامية عرفها التاريخ- ليكونوا في طليعة من يتشرف بالعمل على المراحل الختامية لهذا العمل الجليل، فتقدم لهذا العمل أعداد غفيرة وتم اختيار نخبة من صفوتهم لينالوا هذا الشرف المروم.
ولقد تفضل الله تعالى وامتن على الباحث ذاك العبد الضعيف الفقير إلى عفو ربه كاتب هذه السطور ليتشرف بمكانة لا يستحقها ولكنها من محض فضل ربه الكريم أن يكون مع هؤلاء القوم راجيًا أن يكون جليس القومِ الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى
بهِمْ جَلِيسُهُمْ)
(1)
، فاختير ليكون في طليعة من تشرف بالإشراف على آخر مرحلة عمل في مصحف المدينة النبوية في "قسم التفتيش" في مجمع الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، ولقد شاهد بأم عينيه ضخامة هذا العمل العظيم وما أنفق عليه من أموال طائلة وجهود علمية وعملية وإدارية وتنظيمية جبارة تعجز الكلمات عن وصفها والأقلام عن تسطيرها، وقد وقف على ذلك بنفسه.
مقارنة بين جمع القرآن في صدر الإسلام وطباعته في مجمع الملك فهد رحمه الله
-:
وبمقارنة تاريخية بين جمع القرآن الكريم في صدر الإسلام وبين آخر عهدنا المعاصر، وبعقد مقارنة تاريخية بين جمع القرآن في عهوده الثلاثة وبين عمل مجمع الملك فهد يتبين له ما يلي:
أولًا: ما تميز به في عهوده الثلاثة
1 -
قوة وعمق إيمان الصحابة الكرام- رضي الله عنهم الذي أدي إلى عنايتهم البالغة بكتاب ربهم
2 -
علو همتهم المتمثلة في الجهود الجبارة التي قاموا بها تجاه القرآن الكريم وجمعه في السطور وحفظه في الصدور
3 -
المشقة البالغة والمعاناة الشديدة التي واجهتهم في مع ندرة أدوات الكتابة وكونها بدائية للغاية
4 -
تخطي كل العقبات والأزمات والأحوال والملابسات التي عايشوها وقت الجمع في عهوده الثلاثة
(1)
- رواه مسلم (2689).
5 -
دقة وعمق وغزارة علمهم بكتاب ربهم وإجلالهم للقرآن وتعظيمهم لشعائر الله
6 -
الأمانة العلمية التي تحلو بها مصحوبة بالورع الشديد وعدم المجاملة في حق الله تعالى وحق كتابه الكريم.
ثانيًا: عمل مجمع الملك فهد
1 -
لقد تميز مصحف " المدينة النبوية" المطبوع في مجمع الملك فهد رحمه الله بمميزات ولعل من أبرزها ما يلي:
2 -
استقطاب أبرز علماء العصر الأثبات الثقات المتخصصين، والإفادة من علمهم وخبراتهم في إخراج المصحف بالمكانة اللائقة به.
3 -
التحقيق والتدقيق في إخراج المصحف بصورة موثقة وصحيحة وخالية من أي نوع من أنواع الخطأ لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ.
4 -
العناية الفائقة بقيام أمهر الخطاطين للقيام بهذا العمل
5 -
توفير أعلى تقنية للطباعة الحديثة في العالم وتوفير أمهر الطباعين من ذوي الخبرة الطويلة والمهارة الفائقة في الطباعة للقيام على هذه المهمة الجليلة، مع توفير أعلى الخامات المستخدمة "جودة ومتانة".
6 -
متابعة اللجنة العلمية المشرفة على العمل بمتابعة عمل الخطاط بدقة ورقابة علمية ومتابعة مستمرة من قبل لجان مختصة بمراقبة النص القرآني للتأكد من سلامته مع وجود مراقبة نوعية ترافق كافة مراحل العمل ومتابعة مهماته ومتطلباته، ثم متابعة ذلك بمراقبة نهائية تشرف على كل ما مضى من أعمال وتراقبه وتتابعه
7 -
وجود قسم " التفتيش" الذي يمثل أعلى هيئة رقابية في المجمع تشرف على المرحلة الختامية والنهائية بعد تلك المراحل الكبيرة التي تمر بها مراقبة العمل على إخراج المصحف بدقة متناهية سليمًا من أي خطأ أو خلل.
8 -
كل ما سبق ذكره لن يكون بعد توفيق الله إلا ببذل الأموال الطائلة من قبل حكومة المملكة العربية السعودية- حفظها الله- وتقديمها رخيصة أمام أعظم وأجل عمل عرفته البشرية عبر تاريخها الطويل خدمة لكتاب الله تبارك وتعالى، لتنال بذلك وسام السبق في مضمار خدمة كتاب الله طباعةً ونشرًا في أرجاء المعمورة بصورة لم يسبق لها مثيل، بحيث لا يخلو منه مسجد ولا مركز
إسلامي ولا بيت ولا مدرسة ولا مؤسسة تعليمية على وجه البسيطة، والواقع خير من يشهد بذلك.
وقد أطال الباحث البيان عن الطبعة العاشرة "مصحف المدينة النبوية" المطبوع في مجمع الملك فهد لأسباب.
ولعل من أبرزها ما يلي:
1 -
أنها الطبعة الخاتمة الموثقة والمأمونة التي انتشرت في الآفاق
2 -
لما لاقته تلك الطبعة من قبول واستحسان لدى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
3 -
لما بذل فيها من جهود مضنية وتوفير امكانات متنوعة هائلة- مادية، وبشرية، ومعنوية- لتكون مثالًا يحتذى في خدمة كتاب الله.
4 -
لإبراز دور بلاد الحرمين في خدمة كتاب الله تعالى.
5 -
ولكون الباحث قد شرفه الله تعالى في العمل الختامي على هذه الطبعة فهو شاهد عيان على هذا العمل الجليل الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية جمعاء.
6 -
لزيادة الاستيثاق بتلك الطبعة الميمونة المباركة ورد سهام المغرضين من أعداء الملة والدين وسائر المشككين في كتاب الله الخاتم" القرآن الكريم".
وبهذا ينتهي المبحث الثالث. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الرابع: الرسم العثماني
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الرسم العثماني
أولًا: مفهوم الرسم في اللغة:
الرسم في اللغة بمعنى: الأثر.
قال ابن فارس (ت: 395 هـ) في مقاييس اللغة: " الراء والسين والميم أصلان: أحدهما الأثَر، والآخر ضربٌ من السير. فالأوّل الرّسْم: أثَرُ الشَّيء. ويقال ترسَّمْتُ الدّار، أي نظرتُ إلى رسومها. قال غيلان:
أأَنْ ترسَّمْتَ مِن خَرقاءَ منزِلَةً
…
ماءُ الصَّبابةِ من عينَيْكَ مسجومُ
وناقةٌ رَسومٌ: تؤثِّر في الأرض من شِدّة الوطْء. والثَّوب المرسَّم: المخطَّط. "
(1)
فالرسم في المفهوم اللغوي إذًا بمعنى المرسوم، وأصله: الأثر كما ذكر ابن فارس، والمقصود معنا هنا: أثر الكتابة في اللفظ.
(1)
معجم مقاييس اللغة. أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر بيروت 1399 هـ - 1979 م، ج 2 ص 393
ويرادفه الخط، وهو في اللغة: الطريقة المستطيلة في الشيء، وجمعه أخطاط وخطوط، ويرادفه كذلك الكَتْبُ بالقلم.
ومن مرادفات الرسم: الخطّ والكتابة والزَبْرُ والسطر والرقم والرشم بالشين المعجمة والوشم والنقش، وإذا كانت هذه الألفاظ تختلف من حيث الاستعمال لأنّها تدل على رسم خاص إمّا باعتبار آلته أو المادة المكتوب عليه أو موضوعه أو غيرها من القرائن والأحوال لتندرج هذه الفروق ضمن قاعدة اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات
…
ولكنّها من حيث العموم تدل على ماهية واحدة هي الكتابة
…
ثانيًا: مفهوم الرسم في الاصطلاح:
الرسم في الاصطلاح: هو: تصوير الكلمة بحروف هجائها على تقدير الابتداء بها والوقف عليها.
(1)
ثالثًا: مفهوم اصطلاح "الرسم العثماني
":
اما الرسم العثماني: فهو الذي يصطلح عليه البعض بالرسم الاصطلاحي أو التوقيفي
(2)
والمقصود به الرسم الذي كتب به المصحف الشريف وأجمع عليه الصحابة على عهد الخليفة الراشد عثمان- رضي الله عنهم أجمعين-، وهو المقصود بالبحث ها هنا.
وقيل هو: الرسم المصحفي، أو الرسم السَّلَفي؛ (لأنه يتبع فيه الاقتضاء السَّلَفي)، وقد أطلق العلماء على هذا الرسم عدة تعاريف؛ منها: هو علم يبحث ويُعنَى بصور كلمات القرآن على ما هي به في المصاحف الأولى التي دُوِّنت بأقلام الصحابة.
ونسبة هذا الرسم إلى عثمان- رضي الله عنه ليست نسبةَ اختراع؛ وإنما نسب إليه لأنه هو الذي أذاعه في الآفاق وعمَّمه، بعد أن نقله من صحف أبي بكر الصديق- رضي الله عنه ومما مع الصحابة، مع وفرة الشهود الذين شهِدوا بأن ما معهم كُتِب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكل ذلك لتكون كتابة المصحف على قاعدة كتابة النسخة الأولى النبوية إلى ما شاء الله.
رابعًا: مفهوم الرسم العثماني عند السلف
إن إطلاق مفهوم " الرسم العثماني" عند السلف لم يكن مشتهرًا بهذا المسمى، بل غلب على استعماله عبارات أخر، كـ" هجاء السنة" و"هجاء المصاحف" و"الهجاء، والسنة" و" علم مرسوم الخط" ونحو ذلك.
(1)
- دليل الحيران ص 25
(2)
دليل الحيران ص 25
ومن أقدم ما وُقِفَ عليه فيما ما ورد في تسميته بـ " الرسم العثماني " ثلاث رسائل:
الأولى: "رسالة في بيان رسوم المصاحف العثمانية الستة" لـ" محي الدين محمد بن بير على بن اسكندر البِرْكِلي، الرومي الحنفي "(ت: 981 هـ) الملقب بالإمام، وقد قام بتحقيقها في رسالة "
ماجستير: الباحث/ صالح بن أحمد العماري بالجامعة الإسلامية بالمدينة، بإشراف الدكتور/ محمد بن سيدي محمد الأمين، عام 1433 هـ.
الثانية: "الجواهر اليراعية في رسم المصاحف العثمانية" لـ "محمد بن أحمد المسيري، العوفي"(ت: 1049 هـ)، وقد قام بتحقيقها في رسالة " ماجستير: الباحث/ مهدي عبد الله قاري محمد صديق، بإشراف الدكتور/ حلمي بن عبد الرؤوف بن عبد القوي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، عام 1422 هـ. في جزئين.
الثالثة: "الفوائد اللطيفة والطريفة في رسوم المصاحف العثمانية" لـ"حسين بن علي الأماسي" إمام جامع السلطان محمد الفاتح أتمها في سنة 1064 هـ.
وهي: مخطوطة عن نسخة بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، رقم الحفظ (1616).
أبرز ما صنفه علماء الإسلام في مرسوم وهجاء المصاحف:
1 -
كتاب: "مرسوم الخط" لـ "يحي بن يعمر" وهو: الفقيه العلامة المقرئ أبو سليمان يحيى بن يعمر العدواني البصري (ت: 90 هـ).
2 -
كتاب: "اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق"، "مقطوع القرآن وموصوله" و كلاهما لإمام أهل الشام "ابن عامر الشامي" وهو: عبدالله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي (ت: 118 هـ).
3 -
كتاب: "اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة"، لـ" الإمام الكسائي" وهو: أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الكسائي
(ت: 189 هـ).
4 -
كتاب: "الرد على من خالف مصحف عثمان"، وكتاب "مرسوم الخط"، وكتاب "الهجاء"، وكتاب "المقطوع والموصول"، وكلها لـ"أبي بكر بن الأنباري" وهو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري (ت: 327 هـ).
5 -
كتاب: "المحرر" وكتاب "علم المصاحف" و كلاهما لـ" ابن أشتة" وهو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن أشتة الأصفهاني (ت: 360 هـ) بمصر، وقد أكثر العلماء النقل عن كتاب ابن أشتة، ومن أبرز من نقل عنه السيوطي في " الإتقان".
6 -
هجاء مصاحف الأمصار لـ"أبي العباس المهدوي" وهو: أبو العباس أحمد بن عمار بن أبي العباس الإمام أبو العباس المهدوي (ت: 430 هـ).
7 -
كتاب: "هجاء المصاحف" لـ"مكي بن أبي طالب القيسي" وهو: أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني (ت: 437 هـ).
8 -
كتاب: "المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" لـ" أبي عمرو الداني" وهو: أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي الداني الأندلسي، المعروف في زمانه بابن الصيرفي (ت: 444 هـ).
9 -
كتاب: "مختصر التبيين في هجاء التنزيل" لـ" سليمان بن نجاح"، وهو:
أبو داود، سليمان بن نجاح بن أبي القاسم الأموي بالولاء، الأندلسي (ت: 496 هـ).
10 -
"القصيدة الرائية، المسماة بـ"عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد لـ"لإمام الشاطبي"، وهو: أبو القاسم، أو أبو محمد، القاسم بن فِيرُّة بن خلف بن أحمد الشاطبي الرُّعيني الأندلسي الضرير (ت: 590 هـ) بالقاهرة، وقد نظم فيها مسائل المقنع لأبي عمرو الداني، وزاد عليه أحرفًا يسيرة جملتها ست كلمات، وقد أهتم العلماء بهذه القصيدة وكتبوا عليها شروحًا كثيرة، ونظم كثير منهم على منوالها قصائد زادوا فيها عليها.
11 -
كتاب "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل"، لـ" ابن البناء المراكشي" وهو: أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان المراكشي، الشهير بـ"ابن البناء "(721 هـ). وقد ألفه في توجيه ما خالف قواعد الخط من رسم المصحف ومنهجه أقرب إلى منهج الصوفية الباطنية.
وقد أُلِفَت في هذا الفن رسائل علمية جامعية، منها:
1 -
رسالة عن "رسم المصحف ونقطه" تقدَّمَ بها إلى كلية أصول الدين جامعة الأزهر، عبد الحي حسين الفرماوي لنيل درجة العالمية "الدكتوراه"، سنة "1975 م"، ناقش فيها الحكم الشرعي في التزام الرسم العثماني في طبع المصاحف ونسخها، وتعرَّض لدراسة ظواهر الرسم العثماني
في المبحث الثالث في الفصل الثالث، ولم يخرج في مناقشته للموضوع عَمَّا روي عن أبي العباس المراكشي في تفسير ظواهر الرسم من تعليلات.
2 -
وخير كتاب أُلِّفَ في هذا الفن في العصر الحديث كتاب "رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية" للأستاذ: غانم قدوري الحمد، المدرس في كلية الشريعة بجامعة بغداد.، وهو في الأصل رسالة علمية أُعِدَّتْ في قسم علم اللغة بكلية دار العلوم، بجامعة القاهرة، وقد نال كاتبها درجة الماجستير بتقدير "ممتاز"، وأوصت اللجنة بطبعها وتبادلها مع الجامعات. وطبعته اللجنة الوطنية بالجمهورية العراقية سنة "1402 هـ-1982 م".، وهو وافٍ في موضوعه، سهلٌ في أسلوبه، جامعٌ لما تفرَّق من مسائل هذا العلم، في ترتيب بديع.
(1)
المطلب الثاني: قواعد الرسم العثماني
أولًا: المراد بالرسم العثماني
والرسم العثماني: هو الكيفية التي كُتبت بها حروف وكلمات المصاحف العثمانية التي بعثها عثمان- رضي الله عنه في الأمصار. وقد خالية من الشكل والنقط على هيئة مخصوصة مغايرة لقواعد الرسم الإملائي القياسي. وقد سبق معنا تعريف الرسم العثماني في المطلب السابق.
وفي بيان المراد بالرسم العثماني يقول الزرقاني رحمه الله:
رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان- رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقًا تمام الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير. لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفًا لأداء النطق وذلك لأغراض شريفة.
(2)
والتي سيأتي معنا ذكرها وبيانها مع التمثيل.
ثانيًا: أسانيد علماء الرسم
تنتهي أسانيد الأئمة في هذا العلم وما يتحدَّثون به عن حذف أو إثبات، أو حروف مفصولة أو موصولة، وغير ذلك - إلى رؤية بالعين، أو الرواية عن راءٍ؛ إما في الأصول الأولى؛ يعني المصاحف العثمانية القديمة، أو ما نُسخ منها.
ثالثًا: مواضيع الرسم العثماني
ومواضيع الرسم العثماني هي: حروف المصاحف مِن حيث ما يَعرض لها من الحذف والإثبات، والزيادة والنقص، والفصل والوصل، وما كُتِب على قراءة ويَحتمل الأخرى، ويندرج تحت كل
(1)
للاستزادة يُنظر: دراسات في علوم القرآن، محمد بكر إسماعيل. (1/ 122 - 123)
(2)
مناهل العرفان للزرقاني: (ص: 369).
موضوع منها بحثٌ وشرح، وقد تكلَّمَتْ عنها كتبُ رسم المصاحف بالتفصيل، وأنا أكتفي هنا بالتلميح وزيادة قليلة عليه، فمن أراد الزيادة في المعرفة وحصر مواضع الخلاف، فليرجع إلى كتب رسم المصحف، والله المستعان، ونطلب منه العون وحسن العرض والبيان.
(1)
رابعًا: صفة كتابة الرسم العثماني
والرسم العثماني: الأصل في كتابته أن كل حرف يكتب حسب ما ينطق به دون أن يزاد فيه أو ينقص منه، وهذه قَاعِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ عَامَّةٌ، غير أن بعض الألفاظ خرجت عن عموم هذه القَاعِدَةٌ العَامَّةٌ،
فكتبت وفق ما تضمنه علم "الرسم العثماني" ورسمت بالزيادة أو الحذف أو الإبدال، أو بغيرها مما اقتضاه علم هذا الرسم، وقد حصرها علماء الرسم في ستة أمور:
1 -
الحذف
2 -
والزيادة
3 -
والهمز
4 -
والبدل
5 -
والفصل والوصل
6 -
وما فيه قراءتان متواترتان وكتب اللفظ المختلف رسمه فيها، على رسم إحداهما.
وهذه القواعد هي التي أجملها العلامة محمد العاقب بن مايابى الجكني الشنقيطي
(ت: 1312 هـ) في كتابه: " رشف اللَّمي عن كشف العَمَى" في علمي الرسم
الضبط (حسب قراءة الإمام نافع من روايتي قالون وورش)
بقوله: الفصل الرابع: في ذكر قواعد الرسم
الرَّسْمُ فِي سِتِّ قَوَاعِدِ اسْتَقَلْ
…
حَذْفٌ زِيَادَةٌ وَهَمْزٌ وَبَدَلْ
وَمَا أَتَى بِالْفَصْلِ أَوْ بَالْوَصْلِ
…
مُوَافِقًا لِلَّفْظِ أَوْ لِلْأَصِّلِ
وَذُو قِرَاءَتَيْنِ مِمَّا قَدْ شُهرْ
…
فِيهِ عَلَى إِحْدَاهُمَا قَدِ اقْتُصِرْ
وَمَا سِوَى هَذَا مِنَ الْمَزِيدِ
…
فَبِخِطَابِ الْفَدْمِ وَالْبَلِيدِ
(2)
(1)
لطائف البيان في رسم القرآن شرح مورد الظمآن؛ للشيخ أحمد محمد أبو زيتحار، القسم الأول، ص 14، ط/ قطاع المعاهد الأزهرية.، ويُنظر: رسم المصاحف العثمانية، صلاح بن سمير محمد مفتاح، موقع الألوكة، بتاريخ: 16/ 6/ 1438 هـ
(2)
- وهي الأبيات من: (54 - 57).، ويُنظر: تاريخ القرآن الكريم، محمد طاهر الكردي (1/ 94). مطبعة الفتح، ط 1، جدة، السعودية، 1946.
فقوله: "وما أتى بالفصل أو بالوصل" جعلهما على التخيير أمرًا واحدًا
كما أن هناك منظومة للشاطبي في رسم المصحف.
وهي: المنظومة الرائية في رسم المصحف وشروحها، الموسومة بـ " قراءة الموروث المبكّر المفقود من خلال اللاحق والمتأخّر. ".
وقد افتتحها الشاطبي الرعيني الأندلسي (ت: 590 هـ) رحمه الله بقوله:
الحمد لله موصولا كما أمرا مباركا طيِّبا يستنزلُ الدِّرَرا
وقد اختتمها وأتمها بقوله:
تُضاحِكُ الزَّهرَ مسرورًا أسِرَّتُها مُعَرَّفًا عَرْفُها الآصالَ والبُكرا
عددُ أبياتها ثمانيةُ وتسعون ومئتا بيت، كما نصّ على ذلك بقوله:
تَمّتْ عقيلةُ أتراب القصائدِ في أسنى المقاصدِ للرسمِ الذي بهَرا
تسعونَ مَعْ مَائَتين مَعْ ثمانيةٍ أبياتها يَنْتَظِمْنَ الدُّرُّ والدِّرَراَ
خامسًا: التفصيل في بيان الألفاظ التي خرجت عن القَاعِدَةٌ العَامَّةٌ فكتبت وفق ما تضمنه علم "الرسم العثماني" في القواعد الست سالفة الذكر
.
القاعدة الأولى: قاعدة الحذف
وخلاصة قاعدة الحذف: أن الألف تحذف من ياء النداء نحو "يأيها الناس"، ومن ها التنبيه نحو "هأنتم" ومن كلمة "نا" إذا وليها ضمير نحو "أنجيناكم" فكتبت "أنجينكم" ومن لفظ الجلالة "الله" والأصل كتابتها "اللاه" ومن كلمة "إله" والأصل "إلاه" ومن لفظي "الرحمن، وسبحان" وبعد لام نحو كلمة "خلائف" وبين اللامين في نحو "الكلالة" ومن كل مثنى نحو "رجلان" ومن كل جمع تصحيح لمذكر أو لمؤنث نحو "سماعون، المؤمنات" ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو "المساجد، والنصارى" ومن كل عدد نحو "ثلاث".
ومن البسملة، ومن أول الأمر من "سأل" وغير ذلك إلا ما استثني من هذا كله.
وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعًا وجرًا نحو: "غير باغ ولا عاد" ومن هذه الكلمات "أطيعون، اتقون، خافون، ارهبون، فأرسلون، واعبدون" إلا ما استثني.
وتحذف الواو إذا وقعت مع واو أخرى في نحو: "لا يستوون، فأووا إلى الكهف"، وتحذف اللام إذا كانت مدغمة في مثلها نحو:"الليل، والذي" إلا ما استثني.
وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة كحذف الألف من كلمة "مالك" وكحذف الياء من "إبراهيم" وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: "ويدعو الإنسان، ويمحو الله الباطل، يوم يدعو الداع، سندعو الزبانية".
القاعدة الثانية: قاعدة الزيادة
وخلاصة قاعدة الزيادة: أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع أو في حكم المجموع نحو "ملاقوا ربهم، بنوا إسرائيل، أولوا الألباب".
وبعد الهمزة المرسومة واوًا نحو "تالله تفتأ" فإنها ترسم هكذا "تالله تفتؤا".
وفي كلمات "مائة ومائتين والظنون والرسول والسبيل" في قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)(الأحزاب: 10)، و (أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (الأحزاب: 66)، و (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (الأحزاب: 67).
وتزاد الياء في هذه الكلمات "نبأ، آناء، من تلقاء، بأيكم المفتون، بأيد من قوله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ) (الذاريات: 47)، وتزاد الواو في نحو "أولو، أولئك، أولاء، أولات".
القاعدة الثالثة: قاعدة الهمز
وخلاصة قاعدة الهمز: أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها نحو "ائذن - أؤتمن - البأساء" إلا ما استثني.
أما الهمزة المتحركة فإن كانت أول الكلمة واتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقًا سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة نحو "أيوب - أولو- إذا - سأصرف، سأنزل - فبأي" إلا ما استثني.
وإن كانت الهمزة وسطًا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو "سأل، سئل - تقرؤه" إلا ما استثني.
وإن كانت متطرفة كتبت بحرف من جنس حركة ما قبلها نحو "سبأ، شاطئ- لؤلؤ" إلا ما استثني، وإن سكن ما قبلها حذفت نحو "ملء الأرض، يخرج الخبء" إلا ما استثني، والمستثنيات كثيرة في الكل.
القاعدة الرابعة: قاعدة البدل
وخلاصة قاعدة البدل: أن الألف تكتب واوًا للتفخيم في مثل "الصلاة والزكاة والحياة" إلا ما استثني، وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو "يتوفاكم، يا حسرتا - يا أسفا" وكذلك ترسم الألف ياء في هذه الكلمات "إلى، على، أنى بمعنى كيف، متى، بلى، حتى - لدى" ما عدا "لدى الباب" في سورة يوسف فإنها ترسم ألفًا، وترسم النون ألفًا في نون التوكيد الخفيفة وفي كلمة "إذن".
وترسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة "رحمت" بالبقرة والأعراف وهود ومريم والروم والزخرف.
وفي كلمة "نعمة" بالبقرة وآل عمران والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور.
وفي كلمة "لعنة الله" وفي كلمة "معصية" بسورة قد سمع، وفي هذه الكلمات "إن شجرة الزقوم، قرة عين، جنة نعيم، بقية الله" وفي كلمة "امرأة" أضيفت إلى زوجها نحو "امرأة عمران، امرأة نوح" وفي غير ذلك.
القاعدة الخامسة: قاعدة الفصل والوصل
وخلاصة قاعدة الفصل والوصل: أن كلمة "أن" بفتح الهمزة توصل بكلمة "لا" إذا وقعت بعدها، ويستثنى من ذلك عشرة مواضع: منها: "أن لا تقولوا، أن لا تعبدوا إلا الله".
وكلمة "من" توصل بكلمة "ما" إذا وقعت بعدها، ويستثنى "من ما ملكت أيمانكم" في النساء، والروم، و "من ما رزقناكم" في سورة المنافقين.
وكلمة "من" توصل بكلمة "من" مطلقًا، وكلمة "عن" توصل بكلمة "ما" إلا قوله سبحانه "عن ما نهوا عنه" وكلمة "إن" بالكسر توصل بكلمة "ما" التي بعدها إلا قوله سبحانه "وإن ما نرينك".
وكلمة "أن" بالفتح توصل بكلمة "ما" مطلقًا من غير استثناء.
وكلمة "كل" توصل بكلمة "ما" التي بعدها إلا قوله سبحانه (كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ)(النساء: 91)، و (مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (إبراهيم: 34).
وتوصل كلمات "نعما، وربما، وكأنما، ويكأن" ونحوها.
القاعدة السادسة: قاعدة ما فيه قراءتان متواترتان وكتب اللفظ المختلف رسمه فيها، على رسم إحداهما
.
وخلاصة قاعدة ما فيه قراءتان: أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي: "مالك يوم الدين، يخادعون الله، وواعدنا موسى، تفادوهم" ونحوها، وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها.
وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي: "غيابة الجب، "أنزل عليه آية" في العنكبوت، "ثمرة من أكمامها" في فصلت، "وهم في الغرفة آمنون" في سبأ.
وذلك لأنها جمعاء مقروءة بالجمع والإفراد، وغير هذا كثير، وحسبنا ما ذكرناه للتمثيل والتنوير.
(1)
ومن أمثلة تلك الكلمات التي فيها قراءتان ورسم على إحداهما: ما ورد في قراءة أهل المدينة والشام كلمة (وأوصى) في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) في مصاحفهم (وأوصى) وأما قراءة (وَوَصَّى) التي فيها معنى المبالغة والتكثير، فقد قرأ بها "الباقون" وكتبت في مصاحفهم حسب قراءة كل منهم.
سادسًا: مزايا الرسم العثماني:
للرسم العثماني مزايا وأغراض عديدة، منها:
(2)
1 -
أنّ الرسم العثماني يدل على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة، ولتوضيح ذلك، رسمت:(تَكَادُ السَّماوات)(الشورى من آية: 5) هكذا (تَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) من غير ضبط ولا نقط، فهي برسمها هكذا تحتمل قراءة نافع والكسائي بالياء:(يكاد السموات) كما تحتمل قراءة الباقين من السبعة بالتاء (تكاد) وقراءة حفص والكسائي (يتفطَّرن) - بالتاء وفتح الطاء مشددة- وقراءة الباقين بالنون وكسر الطاء مخفّفة.
2 -
إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، وذلك نحو قطع كلمة (أمْ) في قوله تعالى:(أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)(النساء من آية: 109)، ووصلها في قوله تعالى (أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك من آية: 22)، إذ كتبت هكذا (أمّن) بإدغام الميم الأولى في
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 255 - 258). بتصرف يسير في ترتيب الزرقاني ..
(2)
يُنظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 373 وما بعدها. ويُراجع رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات: د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ص 114 وما بعدها، ط. دار نهضة مصر سنة 1380 هـ، تجد مزيدًا من التفصيل.
الثانية وكتابتها ميمًا واحدة مشدّدة، فقطع (أمْ) في الآية الأولى في الكتابة للدلالة على أنَّها (أمْ) المنقطعة التي هي بمعنى (بلْ)، ووصل (أمْ) الثانية للدلالة على أنها ليست كذلك!
3 -
الدّلالة على معنى خفي دقيق، كزيادة الياء في كتابة كلمة (أيْد) من قوله تعالى:(وَالسَّمَآء بَنَيْناهَا بِأَيْدٍ)(الذاريات من آية: 47)
(1)
- بياءين- وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بني بها السماء وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة: (زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى).
ومن هذا القبيل: حذف الواو من قوله: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ)(الإسراء من آية 11)(وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ)(الشورى من آية: 24)، للدلالة على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل، للتأثر به في الوجود.
4 -
إفادة بعض اللغات الفصيحة، مثل قوله سبحانه وتعالى:(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(هود من آية: 105) كتب بحذف الياء هكذا (يَأْتِ) للدلالة على لغة هذيل.
5 -
حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال، ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة.
وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان:
المزية الأولى: التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده، فإنّ ذلك لا يمكن أنْ يعرف على وجه اليقين من المصحف، مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته، فقد تخطئ المطبعة في الطبع، وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده، كالقلقة والإظهار والإخفاء والإدغام والإشمام ونحوها، فضلًا عن خفاء تطبيقها.
ولهذا قرّر العلماء:
أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها، بل لابدّ من التثبت في الأداء والقراءة، بالأخذ عن حافظ ثقة.
وإن كنت في شك فقل لي بربّك:
هل يستطيع المصحف وحده بأيّ رسم يكون، أن يدل قارئًا أيًا كان على النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة، مثل: كهيعص، حم، عسق، طسم؟ ومن هذا الباب الرّوم والإشمام في قوله سبحانه:(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ)(يوسف من آية 11).
(1)
- بأيد يعني بقوة، قال الطبري: يقول تعالى ذكره: والسماء رفعناها سقفًا بقوة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. يُنظر: تفسير الطبري: (11/ 472).، وقال ابن كثير:) بأيد) أي: بقوة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والثوري، وغير واحد.، يُنظر: تفسير ابن كثير: (4/ 260). وهذا ما عليه جماهير المفسرين من السلف ولا يعلم له مخالف، وذلك لأن الآية خرجت عن مخرج آيات الصفات، فليست من التأويل في شيء، وعليه جرى التنبيه. الباحث.
المزية الثانية: اتصال السند برسول الله- صلى الله عليه وسلم، وتلك خاصيّة من خواصِّ هذه الأمة الإسلاميّة التي امتازت بها على سائر الأمم.
(1)
المطلب الثالث: تطور الرسم العثماني
أولًا: نسبة الرسم العثماني نسبة شهرة لا نسبة ابتداء
لابد أن يُعلم أنَّ رسم المصحف المُعَبَّر عنه والموسوم بـ"الرسم العثماني" المكتوب في عهد الخليفة الراشد عثمان- رضي الله عنه هو عين الرسم الذي جُمِعَ وكُتِبَ ورُسِمَ به المصحف في الجمع في عهديه الأولين-عهد النبوة، وعهد الصديق- وإنما نُسِبَ رسمُ المصاحف لعثمان-رضي الله عنه لأنه هو الذي جمع الأمة على تلك المصاحف وبعث بها في الأمصار وأدًا للفتنة.
إذًا فهي نسبة شهرة لا نسبة ابتداء وتلك التحسينات التي أدخلت على الرسم لم تمس أصل رسم وهجاء القرآن الذي جُمِعَ في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم وكُتِبَ بأمره بين يديه وكان يمليه على كُتَّاب الوحي من الصحابة ويرشدهم ويوجههم في كتابته، وكان ذلك بأمر الله الذي أوحاه إليه بواسطة جبريل عليه السلام، واستمر على هذا السبيل جمع الصديق- رضي الله عنه كذلك.
ثانيًا: الصفة والهيئة الأولى للرسم العثماني
المرحلة الأولى: خلو المصاحف من النقط والشكل
كُتبت مصاحف عثمان خالية من النقط والتشكيل، حتى تحتمل قراءتُها الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع، ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل، واستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة، وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام، فتفشت العجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف.
(2)
ولقد خلا الرسم العثماني من النقط والضبط أو الشكل اعتمادًا في القراءة على السليقة العربية التي لا تحتاج إلى مثل هذه النقط والتشكيلات، وظلت هكذا حتى دخلت العجمة بكثرة الاختلاط،
(1)
يُنظر: الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف، بقلم: أ. د/ محمد السيد علي بلاسي، مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، المحرم - صفر 1438 هـ = أكتوبر - نوفمبر 2016 م، العدد: 1 - 2، السنة: 41
(2)
- يُنظر: عبدالفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف: مرجع سابق، 73.
وتطرق اللحن إلى اللسان العربي، عندئذ أحسّ أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصاحف بالتنقيط والشكل والحركات، مما يساعد على القراءة الصحيحة.
(1)
وهنا يورد الباحث أنموذجًا "تقريبيًا" للطريقة التي كُتب بها المصحفُ ودُوِّنت بها كلماتُ القرآن وآياتُهُ وسورُهُ في الجمع الأول في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم-وذلك في أوّل الأمر كما هو في شكل: (7).
|
ضبط بالشكل "تقريبي" لكلماتِ القرآنِ وآياتهِ وسورهِ في الجمع الأول
شكل: (7)
المرحلة الثانية: مراحل تطور النقط والشكل الذي طرأ على الرسم العثماني
.
استمر الوضع على ما كان عليه أمر المصاحف العثمانية حتى تولى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه الخلافة، فشكا أبو الأسود الدؤلي إلى علي هذه الظاهرة فعلمه مبادئ النحو، وقال له: الاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى، والحرف ما ليس هذا ولا ذاك، ثم انح على هذا النحو.
(2)
و"كان المسلمون في الصدر الأول من الإسلام يكرهون إضافة شيء على المصحف الإمام ولو بقصد الإصلاح، ولكن ضرورة المحافظة على القرآن أجازت وقوع هذا الأمر الذي يكرهونه"،
حيث كُلّف أبو الأسود الدؤلي
(3)
لشكل أواخر الكلمات في المصحف، فاستخدم النقط بلون مخالف للون الكتابة؛ حيث جعل النقطة على آخر الحرف تدل على الفتح، والنقطة تحته تدل على الكسرة، والنقطة بين يدي الحرف (أمامه) تدل على الضم، والنقطتين فوق بعضهما تدل على التنوين، وكان هذا أول إصلاح يطرأ على المصحف الإمام، إلى أن جاء عهد عبد الملك بن مروان
(4)
حين قام يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم بوضع الإعجام للحروف، بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي؛ حيث طلب منهما تمييز الحروف المتشابهة بعلامات؛ فنقّطا الحروف
(1)
يُنظر: شعير، عبد المنعم كامل: الاعجاز القرآني في الرسم العثماني، د. ت. ص 15
(2)
- يُنظر: القرآن الكريم
…
أول من وضع نقطه وأول من شكله، إسلام ويب، مركز الفتوى، بتاريخ، 27/ 8/ 2015 م.، سيبويه وأبو الاسود الدؤلي، جامعة أم القرى، بتاريخ: 30/ 8/ 2015 م.
(3)
- قيل: كان ذلك بتكليف من زياد بن أبيه أمير العراق عام 67 هـ 676 م
(4)
- وقيل: عهد: مروان بن الحكم.
المتشابهة، وميّزاها بمداد من نفس لون الكتابة، إلى أن جاء الإصلاح الأخير، في العصر العباسي الأول حيث اضطلع الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري، بمهمة إبدال نقط أبي الأسود الدؤلي بالحركات المعروفة اليوم، من فتحة وكسرة وضمة وتنوين وشدّ وهمزة وعلامة ألف الوصل، وعلامة المدّ، "ثم تدرج الناس في وضع الرموز التي تشير إلى رؤوس الآيات، وعلامة الوقف إلى غير ذلك من وجوه التحسين".
كلام أئمة التابعين في نقط المصحف:
وقد تنازع العلماء في عصر التابعين وتابعيهم في كراهية نقط المصاحف وتشكيلها على قولين مشهورين هما: روايتان عن أحمد
(1)
، وقد رويت كراهية ذلك عن ابن سيرين الإمام مالك
(2)
، وروي جوازه عن الحسن البصري وابن أبي ليلى
(3)
، والقول بجوازه هو الأشهر، حتى لقد نقل أبو عمرو الداني اتفاق المسلمين عليه.
(4)
وهذا ضبط بالشكل "تقريبي" لحروف كلمات القرآن وآياته في عهد رابع الخلفاء الراشدين-علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما هو في شكل:(8)
|
ضبط بالشكل "تقريبي" لحروف كلمات القرآن وآياته في عهد رابع الخلفاء الراشدين شكل: (8)
المرحلة الثالثة: وضع النقط على الحروف
وهذا ضبط بالشكل "تقريبي" لوُضع النقاط على حروف الكلمات والآيات، وكان ذلك في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت: 86 هـ)، كما هو موضح في شكل:(9).
(1)
- ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (12/ 102).
(2)
ينظر: المحكم في نقط المصاحف لأبي عمرو الداني: (ص: 11، 15). المحكم في نقط المصاحف المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ) المحقق: د. عزة حسن الناشر: دار الفكر - دمشق الطبعة: الثانية، 1407 عدد الأجزاء: 1
(3)
- ينظر: المرجع السابق: (ص 12، 13).
(4)
- ينظر: كتاب النقط المطبوع مع المقنع: (ص 130)، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي:(ص: 189، 190). ويُنظر: كتابة القرآن الكريم بنظام برايل للمكفوفين، عن موقع المسلم، بتاريخ: 13/ 10/ 1427 هـ.
|
ضبط بالشكل "تقريبي" لوُضع النقاط على حروف الكلمات والآيات، في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان شكل:(9)
المرحلة الرابعة: تطور الرسم العثماني إلي ما استقر عليه أمر تطور الطباعة الحديثة في الزمن الحاضر
وقد امتن الله على عباده المؤمنين بتلك الآلات الحديثة، فسهل تطورها إلى أحدث ما توصلت إليه البشرية في عالم الطباعة عبر التاريخ، بداية من أول طباعة للمصحف الشريف في طبعة " البندقية" 1537 م- أو 1538 م، ومرورًا بطبعة "سانت بترسبوغ"، وقد طبعت في روسيا، عام 1787 م، ثم تلتها طبعة "الآستانة" الشهيرة عام 1877 م، ثم تتابعت الطبعات بعد ذلك وتطورت حتى وصلت ذروتها في الزمن الحاضر لتخرج طباعة المصحف الشريف في أبهى حلة قشيبة مرت عبر التاريخ من قبل، لتليق بكلام الله العزيز الحميد وكتابه المجيد.
وهكذا رُسمت حروفُ وكلماتُ وآياتُ المصحف الشريف لتصل لأكمل ما انتهت إليه البشرية في عالم الطباعة، كما هو موضح في شكل:(10).
|
حروفُ وكلماتُ وآياتُ المصحف الشريف في أكمل ما وصلت إليه البشرية في عالم الطباعة شكل: (10)
وهكذا بقيت المصاحف التي بين أيدي الناس اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، وستبقى بإذن الله تعالى إلى أن يُرفع القرآن في آخر الزمان، وذلك كله تحقيقًا لوعد الله الذي لا يتخلف، كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9)
وها هي الآية كاملة كما هي في مرسوم المصاحف الآن:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(الحشر: 18).
فالحمد لله الذي لا شريك له، والحمد لله الذي أرسل إلينا خير رسول أرسله-صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي أنزل علينا خير كتاب أنزله، والحمد لله الذي جعل أمتنا الأخيرة الأوله.
المطلب الرابع: الرسم العثماني توقيفي أم اصطلاحي
؟
(1)
أولًا: بيان المقصود بعبارتي: توقيفي، واصطلاحي
أ- إنَّ المقصود بعبارة توقيفي هنا:
هو أنَّ الرسم العثماني كُتِبَ على سند قائم من الشرع، فلا يجوز مخالفته وتخطيه إلى غيره، فهو توقيفي: فلا يجوز ولا يصح عليه تغيير ولا تبديل، لأنه تنزيل من التنزل على هيئته المعهودة والمكتوبة في المصاحف كسائر سور القرآن وآياته المنزلة، سواء بسواء.
وقد مضى في عهوده الثلاثة وهو على هذه الكَتْبَة بهذا الرسم المصحفي ولم يحدُث فيه أي تغيير ولا أي تبديل. وقد أجمعت الأمة عليه وتلقته بالقبول.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر كُتَّاب الوحي بطريقة الرسم المصحفي للقرآن، وكانت كتابته بين يديه، ثم كان الجمع في عهد الصديق رضي الله عنه على هذا الرسم كذلك، ثم جَمَعَ عثمانُ رضي الله عنه الأمةَ على الإمام واستنسَخ منه تلك الصحفَ التي بعث بها في الأمصار على نفس تلك الكَتْبة، وأقره جماهير الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، وهم يومئذ أكثر من (اثني عشر
ألف صحابي)، ثم صار أمر الرسم كذلك في زمن التابعين وتابعي التابعين، فلم يخالِفه أحدٌ منهم ولم يُنقل أن أحدًا منهم أقدم على استبداله وتغييره أبدًا، بل ولم يُذكر أن أحدَا منهم فكر حتى في استبداله بأي برسم آخر من الرسوم بل بقي هذا الرسم محترمًا متبعًا كما كان عليه عمل الكَتْبة الأولى، فلا يقرب منه أحد بتغير أو تبديل، ولا يُمَسُّ له جناب.
ومن هنا يتبين لنا أن الرسم الهجائي للقرآن كان معروفًا في عهود جمعه الثلاثة، كما أنه كان مضبوطًا منذ بداية تنزله وتدوينه عي عهد النبوة، وكان كتاب الوحي متمكنين من قواعده وأصوله، لأنه كتبوه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه وإقراره.
ولنا أن تتأمل فيما أخرجه ابن أشته في المصاحف، عن زيد بن ثابت: أنه كان يكره أن تكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) ليس لها سين.
وأخرج عن يزيد بن أبي حبيب: أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب (بسم الله) ولم يكتب لها سينا، فضربه عمر؛ فقيل له؛ فيم ضربك أمير المؤمنين؟ قال: ضربني في سين.
وأخرج عن ابن سيرين أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف، عن ابن سيرين: أنه كره أن يكتب المصحف مشقا. قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصًا. ومعنى المشق: سرعة الكتابة.
(2)
(1)
- لعلّ اختلاف هذه المسميات من باب اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات.
(2)
يُنظر: الاتقان للسيوطي، النوع السادس والسبعون، في مرسوم الخط وداب كتابته (2/ 656).
قال أبوشامة المقدسي (ت: 665 هـ) رحمه الله:
وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ.
(1)
وقول أبي شامة يجلي المعنى المقصود بعبارة توقيفي، ألا وهو قوله:"عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ب- والمقصود بعبارة اصطلاحي هنا:
هو أنَّ أمر رسم المصحف أمر اجتهادي، أي أنَّ الشرع تركه للاجتهاد، فلم يأمر به، ولم يلزم اتباعه ويوصي به.
ثانيًا: هل الرسم العثماني توقيفي أم اصطلاحي
؟
قد اختلف العلماء في طريقة رسم المصحف: هل هو توقيفي أم اصطلاحي؟
فمن العلماء، من يرى:
أن الرسم العثماني توقيفي عن رسول صلى الله عليه وسلم حيث أمر صلى الله عليه وسلم كُتَّابَ الوحي بكتابته وأقرهم عليه.
ومنهم من يرى:
أنه اصطلاحي، ولا يوجد ما يمنع من مخالفته وكتابته بالرسم الإملائي الحادث.
ثالثًا: آراء العلماء في الرسم العثماني
وللعلماء في مسألة الرسم المصحفي ثلاثة آراء
الرأي الأول: أن الرسم المصحفي توقيفي
أي: توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز مخالفته، كما أن الترتيب المصحفي للسور والآيات في مواضعها توقيفي يحرم مخالفته- كذلك-.
وهذا الرأي: قد حُكِيَ فيه الإجماعُ، وعليه أكثر العلماء سلفًا وخلفًا.
ومن أبرز حجج وبراهين أصحاب هذا الرأي ما يلي:
1 -
أن الرسم المصحفي في الجمع الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موثق بطريقي الحفظ والكتابة، فكان التوثيق والمراجعة للمحفوظ والمكتوب على حد سواء.
والمكتوب في هذا العهد كان على الرسم المصحفي الذي هو عليه الآن.
(1)
- يُنظر: فضائل القرآن للمستغفري: (ص: 10).
2 -
ومما لا مرية فيه أن القرآن الكريم سطره كُتَّاب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الرسم المصحفي وقد أقرهم صلى الله عليه وسلم علي كتابته، وإقراره صلى الله عليه وسلم، حجة في حد ذاته، فلو وجد صلى الله عليه وسلم خطأ فيما كتبوه لما أقرهم عليه.
3 -
الرسم المصحفي ليس لأحد كائنًا من كان تغيره ولا تبديله، لأن الآمر بكتابته هو النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو المبلغ عن ربه جل في علاه، وقد أمره الله تعالى بتبليغه لأمته، فأمر كُتَّاب الوحي أن يكتبوه في الرِّقَاع، وَالأَكْتَافِ، وَالْعُسُبِ، واللخاف، والأضلاع، والأقتاب، والأَلواحِ، وقطع الأديم، والكرانيف على الهيئة المعروفة التي نزل بها، وهي الطريقة التي أوحاها الله إليه بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، وقد مضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة، لم يحدث فيه أي تغيير ولا تبديل.
4 -
إن استمرار خليفتي النبي صلى الله عليه وسلم من بعده على العمل بنفس الرسم المصحفي الذي عليه الجمع الأول يدل على أن الرسم المصحفي توقيفي ليس لأحد تغيره ولا تبديله.
5 -
يُعد تلقي أهل الأمصار المصاحفَ العثمانية بالرضا والقبول وعدم اعتراض أحد منهم على فعل عثمان رضي الله عنه، وفيهم جماهير مجمهرة من الصحابة، قيل إنهم يومئذ اثني عشر ألف صحابي، والتابعون كذلك منتشرون في الأمصار بأعداد يصعب حصرها لكثرتهم وانتشارهم، فكان رضاهم واستحسانهم لفعل عثمان وتأييده ومناصرته له، والثناء على ما فعل إجماعًا منهم جميعًا على صحة المصاحف العثمانية وسلامتها وعدم جواز مخالفتها، وعليه صار عمل الأئمة المجتهدين من بعدهم على ذلك في كل عصر ومصر.
وفي نحو ذلك يقول أبو بكر اللبيب- (ت: قبل 736) - في " الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة ": فما فعله صحابي واحد فلنا الأخذ به والاقتداء بفعله والإتباع لأمره فكيف وقد اجتمع على كتاب المصاحف حين كتبوه نحو اثني عشر ألفًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؟!.
(1)
ويقول الشيخ عبد الفتاح القاضي (ت: 1403 هـ) رحمه الله:
"
…
وبناء على هذا يجب على كاتب المصحف وطابعه وناشره أن يتحرى كل منهم كتابته على قواعد الرسم العثماني، ولا يخل بشيء منها، ولا يغير فيها شيئًا ما، بزيادة أو نقص، أو إثبات أو حذف، حفظًا لهذا العمل الخالد، واقتداء بالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأعلام الإسلام في سائر الأعصار والأمصار، لا فرق في ذلك بين المصاحف الكاملة، والمصاحف الصغيرة
(1)
- الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة، لأبي بكر بن عبدالله اللبيب:(ص: 30)، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - قطر- الطبعة الأولى 1432 هـ، تحقيق: عبد العلي أيت زعبول، عدد الأجزاء: 1
"الأجزاء" التي يتعلم فيها الصغار ومن في حكمهم من الكبار، ليتعرفوا على قواعد الرسم منذ طفولتهم، ونعومة أظفارهم، وعلى معلمي القرآن -حيث كانوا- ألا يدخروا وسعًا في تعليم أبنائهم تلك القواعد من الصغر، حتى يشبوا وقد وقفوا عليها، وأحاطوا بها خبرًا، وأصبحت القراءة في المصحف ميسورة عليهم وسجية لهم"
(1)
ومن أبرز ما استدل به أصحاب الرأي الأول ما يلي:
أ- الإجماع الذي حكاه القاضي عياض (ت: 544 هـ) رحمه الله في "الشفا" حيث يقول: وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جمعه الدفتان من أول "الحمد لله رب العالمين" إلى آخر " قل أعوذ برب الناس" أنه كلام الله، ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدًا لكل هذا -أنه كافر- عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(فصلت: 41 - 42)
(2)
.
ب- اتفاق العلماء الذي حكاه ابن حزم (ت: 456 هـ) رحمه الله في "مراتب الإجماع" على: أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفًا من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفًا، أو بدل منه حرفًا مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمدًا لكل ذلك عالمًا بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر
(3)
.
ج- وما أجاب به الإمام مالك (ت: 179 هـ) - وقد سئل رحمه الله:
"هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال" لا إلا على الكتبة الأولى"
(4)
.
د- وما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ) رحمه الله بقوله:
"تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو، أو ياء أو ألف أو غير ذلك
(5)
.
هـ- وما رواه أبو عمرو الداني بإسناده عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال:
(1)
تاريخ المصحف الشريف للقاضي: (ص 104 - 105).
(2)
-الشفا، للقاضي عياض:(2/ 304).
(3)
مراتب الإجماع: (ص: 270).
(4)
المقنع، لأبي عمرو الداني:(ص: 9).
(5)
يُنظر: البرهان للزركشي: (1/ 379).، الإتقان للسيوطي:(4/ 146).
أدركت الناس حين شقق عثمانُ رضي الله عنه المصاحفَ فأعجبهم ذلك أو قال "لم يَعِب ذلك أحد.
(1)
و- ما روي عن أنس بن مالك- (ت: 93 هـ) رضي الله عنه:
أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفًا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أُرسل إليهم
(2)
.
ز- إجماع الأمة المعصوم من الخطأ بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين على تلقِّي ما نُقِل في المصاحف العثمانية التي أرسلها إلى الأمصار بالقبول، وعلى ترك ما سوى ذلك.
(3)
ح- وهو كذلك اختيار جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الفقهية الأربعة.
(4)
ط - وقد حكاه أيضًا جمع من العلماء
وقد حكى هذا الإجماع- كذلك- غير واحد من العلماء، منهم:
1 -
الجعبري: (732 هـ (وهو: أبو محمد إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري، وقد نقل الجعبري وغيره إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع مرسوم المصحف العثماني
(5)
.
2 -
والطحاوي: (ت: 238 هـ) وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزديّ الطحاوي، يقول في شرح الطحاوية: "ينبغي لمن أراد كتابة القرآن أن ينظم الكلمات كما هي في مصحف عثمان رضي الله عنه، لإجماع الأمة على ذلك.
(6)
3 -
وأبو عمرو الداني: (ت: 444 هـ)، وهو عثمان بن سعيد بن عثمان الداني الأموي مولاهم، القرطبي، في:" المقنع في رسم مصاحف الأمصار"،
(7)
(1)
- المقنع، لأبي عمرو الداني:(ص: 8)
(2)
- مناهل العرفان، للزرقاني:(/ 371).
(3)
الكواكب الدرية على متممة الأجرومية: (ص: 34).
(4)
يُنظر قول الحنفية في: مناهل العرفان، للزرقاني:(1/ 379).، نقلًا عن: المحيط البرهاني.
ويُنظر قول المالكية في: المقنع: (ص: 9 - 10 - 28)، القسطلاني:(1/ 279)، الشفا للقاضي عياض:(2/ 305).
ويُنظر قول الشافعية في: حاشية الجمل على شرح المنهج، للشيخ سليمان الجمل:(3/ 44)، ويُنظر قول الحنابلة في: البرهان في علوم القرآن (1/ 379)، والسيوطي الإتقان (4/ 146).
(5)
يُنظر: سمير الطالبين، للضباع:(ص: 19 - 20).
(6)
يُنظر: المرجع السابق نفسه.
(7)
- المُقنع لأبي عمرو الداني: ص: (10 - 19)، الإتقان، للسيوطي:(4/ 146).
4 -
والزمخشري: (ت: 538 هـ) المعتزلي في: "الكشاف"، والزمخشري: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري.
حيث يقول في تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ)(الفرقان: 7):
"وقعت اللام في المصحف مفصولة عن "هذا" خارجة عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف سنة لا تغير".
وفي شعب الإيمان للبيهقي
(1)
: "من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئًا، فإنهم أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم".
(2)
5 -
والدمياطي، المعروف بـ"ابن البنا":(ت: 1118 هـ)، وهو: شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي، في "إتحاف فضلاء البشر".
(3)
.
وقد مرت العصور المتتالية على المسلمين وهم يكتبون مصاحفهم وفق المصاحف العثمانية لا يخالفونها ولا يحيدون عنها، ولم يؤدِّ ذلك إلى أي تحريف أو تغير أو تبديل في القرآن لا مكتوبًا ولا منطوقًا.
وقد مر معنا ذكر إجماع سلف وخلف الأمة، وإجماع علمائها وفقهائها على ما تضمنته هذه المصاحف وعلى ترك كل ما خالفها.
ولذا فقد نص الأئمة على أن من شروط صحة القراءة وقبولها موافقة الرسم العثماني ولو احتمالاً، والمقصود بموافقة القراءة للرسم العثماني أن تكون القراءة موافقة للمصحف الإمام الذي أجمع عليه الصحابة وتلقته الأمة بالقبول، وهذا الشرط يجعل المصاحف العثمانية هي الأساس في القراءات القرآنية، ولذا فأي قراءة تخالف رسم المصحف الإمام تعد من القراءات الشاذة.
الرأي الثاني: أن الرسم المصحفي ليس توقيفيًا
أي: لا يوجد دليل صريح يمنع من رسمه وكتابته بالرسم الإملائي الحادث، فمن ادعى وجوب اتباع هذا الرسم وجب عليه إقامة البرهان والحجة والبيان على صدق دعواه.!!
وقد مال لهذا الرأي بعض المتقدمين، وتبعهم عليه بعض المعاصرين، منتصرين فيه لآراء بعض من سبق، ومتأثرين به.
(4)
(1)
- شعب الإيمان: فصل في تنوير موضع القرآن ج 2 ص 548 تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول ط. دار الكتب العلمية.
(2)
- يُنظر: الكشاف للزمخشري: (3/ 82).
(3)
- إتحاف فضلاء البشر: (1/ 319)، تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل.
(4)
- ينظر: فتاوى محمد رشيد رضا 6/ 2541، 2542، ودراسة حول القرآن الكريم لمحمد حسين الجلالي ص 167، ومدخل إلى تفسير القرآن وعلومه د. عدنان زرزور ص 132.
ومن أبرز من قال به من المتقدمين:
1 -
القاضي الباقلاني (ت: 430 هـ) في" الانتصار"
2 -
ومال إليه واختاره الزركشي (ت: 794 هـ) في " البرهان"
(1)
، وهو أحد قوليه، كما سيأتي معنا بيانه.
3 -
وابن خلدون (ت: 808 هـ) في " تاريخه"
ومن أبرز من تبعهم عليه من المتأخرين والمعاصرين- كذلك- كل من:
1 -
الشوكاني (ت: 1250 هـ) في: " فتح القدير "
(2)
2 -
والشيخ محمد مصطفى المراغي: (ت: 1364 هـ) في "مقدمة تفسيره"
3 -
ومحمد طاهر الكردي (ت: 1400 هـ)، في " تاريخ القرآن".
4 -
والدكتور صبحي الصالح (ت: 1406 هـ) في" مباحث في علوم القرآن "
(3)
5 -
والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي (م) في: " رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات".
ونسوق بعضًا من أقوالهم بشيء من الإيجاز:
أولًا: القاضي الباقلاني:
يقول الباقلاني في "الانتصار للقرآن":
ولم يؤخذ على كتبة القرآن وحُفَّاظِ المصاحف رَسْمًا بعينه دون غيره
…
بل السُّنَة دَلَّتْ على جواز كَتْبِهِ بأي رسم سَهُلَ وسَنَحَ للكاتب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه وإثباته على ما بيناه سالفًا، ولا يأخذ أحدًا بخط محدود ورسم محصور، ولا يسألهم عن ذلك، ولا يُحفظ فيه حرف واحدٌ.
(4)
ثانيًا: ابن خلدون
يقول ابن خلدون في " تاريخه" في فصل "أن الخط والكتابة من عداد الصنائع البشرية:
(1)
- ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: (2/ 14).
(2)
ينظر: فتح القدير للشوكاني: (1/ 295).
(3)
- مباحث في علوم القرآن د. صبحي الصالح: (ص: 280). مباحث في علوم القرآن المؤلف: صبحي الصالح الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الطبعة الرابعة والعشرون كانون الثاني/ يناير 2000 عدد الأجزاء: 1.
(4)
- الانتصار للقرآن: (2/ 547 - 548).
"وكانت كتابة العرب بدوية، فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبُعدهم عن الصنائع،
وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركًا
(1)
بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله، كما يقتفي لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركًا ويتبع رسمه خطأً أو صوابًا".
(2)
ثالثًا: الشيخ محمد مصطفى المراغي:
حيث يقول في "مقدمة تفسيره": وقد جرينا على الرأي الذي أوجبه العز بن عبد السلام في كتابة الآيات في أثناء التفسير لعلة التي ذكرها وهي في عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور.
(3)
رابعًا: محمد طاهر الكردي
يقول الكردي: لو كان الرسم توقيفيًا لما اختلف الرسم في المصاحف التي أرسلها عثمان-رضي الله عنه إلى الأمصار.
(4)
ويُرد على الكردي بأن الخلاف لم يكن في المرسوم وإنما كان في اختلاف الأداء لأوجه القراءة كما هو معلوم.
(1)
هذا القول من" ابن خلدون" فيه نوع تجاوز في التبرك بخطوط الصحابة، فآثار المخلوقين لا يُتبرك بها ولو كانوا صحابة، فلا يجوز اتخاذ مخلوقًا أو أثرًا من آثاره للتبرك به، بل هذا من المنكرات العظيمة ومن الوسائل المؤدية للشرك الأكبر، فالتبرك بالآثار وسيلة للشرك وعبادة غير الله كما حدث لقوم نوح عليه السلام. فإن البركة تطلب من الله تعالى وحده، وهو سبحانه الذي يملكها، ولا يملكها سواه- سبحانه- فلا يصح ولا يجوز طلبها أو التماسها من غيره- جل في علاه-. الباحث.
(2)
مقدمة ابن خلدون: (ص: 248).
(3)
- يُنظر: مقدمة تفسير المراغي: (1/ 15).
(4)
- "تاريخ القرآن" لمحمد طاهر الكردي: (ص: 101).
خامسًا: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي
(1)
يقول الدكتور شلبي: إن كل دعوة لإضافة أيّ جديد للرسم العثماني كانت تتلقى بالتحرّج أولًا، ولكنها - على الرغم من ذلك - أخذت طريقها إلى الرسم؛ إيمانًا من القائمين بها بأنّ فيها بيانًا وتوضيحًا
…
لقد كان المصحف خاليًا من النقط، ولما اتجه بعضهم إلى نقطه رأينا من يقف دون ذلك ويقول: جرّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، ثم كان أن ترخص العلماء فيه، وقالوا: العجم نور الكتاب، وأنه لا بأس به ما لم تبغوا.
وبدأ أبو الأسود الدؤلي بالنقط في الحركات والتنوين لا غير، وجعل الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام، وقَفَا الناس في ذلك أثرهما، واتبعوا فيه سنتهما.
(2)
ودليل هؤلاء أن هذه الخطوط والرسوم ليست إلا علاماتٍ وأَمارات، فكل رسم يدل على الكلمة ويفيد قراءتها، فهو رسم صحيح، وكاتبه مُصيب.
(3)
ومما يُستدل ويُنتصر به لهذا الرأي أيضًا ما أورده أبو عمرو الداني وعزاه بإسناده إلى عامر الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ فقالوا "من أهل الحيرة، وقالوا لأهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من الأنبار.
(4)
وما رواه" الداني" يؤكد:
أن دعوى "ابن خلدون": من قلة الكتابة وندرتها وعدم إجادتها واستحكامها في جيل الصحابة أمر غير مسلم البته، وذلك لأن عدد كتاب الوحي بلغ قربة أربعين كاتبًا، والكتابة قبل الإسلام كان لها رواج في مكة، ومكة تعد يومئذ مركزًا للتجارة يتلقى أهلُها التجارةَ الوافدة من الشام واليمن وغيرها من البلدان، والمدينة- كذلك - كثر الوفود إليها بعد ظهور الإسلام، وزادت حركة الوافدين إليها للتجارة وغيرها مما يلزم من شؤون السياسة والاقتصاد التي تحتاجها الدولة المسلمة، مما زاد من احتكاك أهلها بهم، فشاع فيم أمر الكتابة وذاع.
(1)
عبد الفتاح شلبي، من أعلام المحققين والمصححين المعاصرين
نشأته: ولد الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي في العام 1925 م في كفر البطيخ بمحافظة دمياط، بمصر، عمل تاجراً للحبوب والغلال، اشتغل بعلوم اللغة وعلوم القرآن حتى بزغ نجمه، واشتهر بتحقيق كتب اللغة والتراث، وبخاصة كتب القراءات القرآنية، وله كثير من الكتب المحققة الصادرة عن دار الكتب والوثائق المصرية. عن موقع مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.
(2)
- رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات: (ص: 121).
(3)
يُنظر: مناهل العرفان للزرقاني: (ص: 312).
(4)
المقنع لأبي عمرو الداني: (ص: 9).، المحكم في نقط المصاحف. لأبي عمرو الداني:(ص: 25)، تحقيق: د. عزة حسن. الصف التصويري: دار الفكر - دمشق. التنفيذ الطباعي: المطبعة العلمية.
ومع ذلك كله فلا علاقة بين إحكام الخط وإتقانه وبين الإقرار بتوقيفيته.
ومع ذلك كله فإن قول ابن خلدون: حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة"، وفي هذا كفاية لرد زعم ابن خلدون
ومن أبرز ما قيل في أن الرسم المصحفي ليس توقيفيًا:
أن وجوب التزام رسم معين إنما يعرف بالنص، وليس في الكتاب العزيز، ولا في السنة المطهرة، ولا في إجماع الأمة، ولا في القياسات الشرعية ما يحتم التزام الرسم العثماني، بل ظهر من أدلة السنة جواز كتابته بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجهًا معينًا، ولا نهى أحدًا عن كتابته بأي وجه، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، ومن ادعى أنه يجب على الأمة التزام رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك.
(1)
جواب أهل الرأي الثاني:
وجواب أهل هذا الرأي قد سبق بيانه وذكره بالتفصيل مقرونًا بالحجج والبراهين والأدلة النقلية والعقلية، ثم ختم بإجماع جمهور الفقهاء، ثم بنقل أقوال من حكى الإجماع كذلك، إضافة لما سيأتي بيانه من فتاوى المعاصرين (المجامع الفقهية) وهو يشبه الإجماع في وقتنا الحاضر.
ومن أبرز ما يجاب عنه في جواب أهل الرأي الثاني إضافة لما سبق بيانه- كذلك-، جواب عبد العزيز الدباغ، حيث يقول:
هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة، فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يتابع ويقول- أيضًا-:
ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أراهم أن يكتبوا على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول .. فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرف بحرف)
(2)
الرأي الثالث: إبقاء الرسم العثماني على ما هو عليه لينتفع به العلماء خاصة
مع جواز كتابته بالرسم الإملائي لعموم الأمة حسب ما تقتضيه قواعد الرسم الإملائي المتعارف عليها بين الناس في أي زمان، وقد حكى هذا القول صاحب البرهان، وعزاه للعز بن عبد السلام (ت: 660 هـ) - كذلك-، ونص عبارة العز بن عبد السلام كما حكاها صاحب التبيان بقوله: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من
(1)
- الانتصار للباقلاني 1/ 375، وينظر: مناهل العرفان للزرقاني 1/ 312.
(2)
- ينظر: الإبريز: (ص: 113)، وسمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين:(ص: 18).
الجهال"
(1)
، وعقب الزركشي على العز بن عبد السلام بقوله: ولكن لا ينبغي إجراء هذا على
إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته العلماء لا يترك مراعاة للجهال، ولن تخلو من قائم بحجة".
(2)
.
والزركشي رحمه الله يكون بقوله ذاك-آنفًا- قاصدًا التوسط في الأمر،
بمعنى: أنه يريد الجمع بين الأمرين:
الأمر الأول: إبقاء الرسم العثماني الذي عليه الأمر الأول.
الأمر الثاني: جواز كتابته بالرسم الإملائي لينتفع به عموم الأمة.
وأهل هذا الرأي-عمومًا-: قصدهم بذلك حفظ القرآن الكريم من اللحن الذي قد يقع ممن يجهل الرسم العثماني ولا يحسن قراءته، وفي ذلك من درء المفاسد الكبرى التي يخشى وقوعها عند تلاوة القرآن ممن لا يحسن قراءة الرسم العثماني من عموم الأمة، وفي هذا إعمال للقاعدة الأصولية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
جواب أهل الرأي الثالث:
وجواب أهل الرأي الثالث إضافة لجواب أهل الرأي الثاني باختصار شديد:
1 -
فإن الواقع المشاهد يرد هذا الرأي جملة وتفصيلًا، فإنك ترى الأعجمي الذي لا يحسن العربية يتقن قراءة القرآن ويحفظه بطلاقة أفضل من كثير من أهل اللسان العربي، وترى صغار
الولدان في الكتاتيب والمحاضر يقرأون ويحفظون القرآن مما كتبوه بأيديهم على الألواح بالرسم المصحفي بمهارة وإتقان يفوق أقرانهم بل ومن فوقهم ممن تلقوا التعليم في المدارس النظامية التقليدية، بل وترى الأطفال الصغار يتعلمون الرسم المصحفي بطرق التهجي التعليمية في دور القرآن في وقتنا الحاضر، وهي كثيرة ومتنوعة لكنها ترجع إلى الرسم المصحفي.
(3)
، وكذلك ترى كبار السن ومن تقدم بهم العمر وهم يتعلمون القرآن في مراحل متأخرة من أعمارهم يقرأون القرآن من المصاحف ويرتلونه بلا كلفة ولا مشقة.
2 -
وهل من أجل جهل الجاهل يغير رسم المصحف ويُرد من أجله إجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أم أن الجاهل يتعلم؟!.
3 -
ولو سلمنا لهم جدلًا وتنزلًا إلى ما ذهبوا إليه، فإن التعلم في الأمة يضمحل ويذهب.
(1)
- البرهان للزركشي: (1/ 379).
(2)
-البرهان للزركشي: 1 (/ 379)، فتح الباري، لابن حجر العسقلاني:(1/ 279).
(3)
- وهي كثيرة ومتنوعة، ومن أمثالها: برامج: نور البيان، ورياض القرآن، وغيرها.
ولا يخفى على أحد أن مرسوم القواعد الإملائية عرضة للتغير من زمان لآخر، بل ومن مكان لآخر- كذلك-. فلو أخضع الرسم الهجائي للقرآن لتلك القواعد الإملائية لأصبح القرآن عرضة للتحريف والتغير والتبديل.
4 -
إن الرسم المصحفي لا يُوقع الناس في الحيرة والالتباس أبدًا؛ لأنه ثابت لا يتغير ولا يؤثر في تغيره زمان ولا مكان، والمصاحف التي بين أيدي الناس الآن مطبوعة وظاهرة وجلية للناظرين،
وهي الآن أمام أعينهم على أوضح صورة، وقد كُتِبَتْ مشكلة و منقوطة لا التباس فيها؛ وقد وضعت فيها علامات واضحة المعالم تدل على الحروف الزائدة، أو الملحقة بدلًا عن الحروف المحذوفة، فالوقوع في الاضطراب والالتباس والحيرة أمر غير واقع ولا متوقع البتة لمن تعلم القرآن، ويكفينا في ذلك قول ربنا:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر: 17).
قال ابن كثير (ت: 774) رحمه الله:
أَيْ: سَهَّلْنَا لَفْظَهُ، وَيَسَّرْنَا مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَهُ، لِيَتَذَكَّرَ النَّاسُ
(1)
.
5 -
وبإجابة أهل هذا الرأي يُفتح على الأمة بابُ شر وفتنة لا يعلم قدرها إلا منزل الكتاب وهازم الأحزاب، وأكبر شاهد على ذلك تلك الفتنة التي كادت أن تحدث في صدر الإسلام في اختلاف أوجه القراءة، فأخمدها الله بثالث الخلفاء الحنفاء رضي الله عنهم أجمعين، فقام لله ووقف موقف الجبال الراسيات ليرد الأمة لرشدها ويجمعها على كتاب ربها بـ" مصحف إمام".
6 -
وهذه الدعوات وأمثالها تفتح أمام أعين أعداء الملة بابًا يلجون منه لينالوا من القرآن طعنًا وتشكيكًا، فإذا كان هناك رسم وهجاء عثماني وآخر إملائي يتمايز أحدهما عن الآخر قالوا أيهما الصحيح الذي أُنْزِلَ من السماء؟!، ولا شك أن في هذا من المفاسد ما لا يخفى.
7 -
ومما يؤكد ما سبق ذكره من جواب أهل هذا الرأي ما حدث منذ سنوات من كتابة القرآن لا أقول بالرسم الإملائي بل باللغة الإنجليزية بزعم تسهيل تلاوته على الناطقين بالإنجليزية من غير العرب، بحيث يتلوه بحروف اللغة الإنجليزية فيُقرا وكانه منطوق بالعربية.
هذا- ولقد ظهر في غينيا رجل مسلم له نشاط غريب في هذا الميدان، كان يقوم ولا يزال بكتابة القرآن بالحروف اللاتينية! بعد أن وجد هناك في إفريقية سوقًا رائجة لما يكتب، ويقوم اليوم في باريس ناشر مسلم بطبع كتبه تلك وعرضها في الأسواق في رداءة طبع، وإخراج فني ممجوج!
(1)
- تفسير ابن كثير: (7/ 478).
وفي السبعينات قام رجل في مصر يدعى " لبيب الجمال " يهفو ويدعو إلى كتابة القرآن بحروف غير عربية! وتسمع " هيأة التمويل الدولية " بالمشروع فتتحمس له ولصاحب الفكرة وترصد له مليون دولار!
(1)
.
وقد ظهر مثل هذا في فرنسا وإندونيسيا وغيرها من البلاد.
ففي فرنسا: صدر الجزء الأخير من القرآن " جزء عم " بأكمله بالحروف الفرنسية! وهناك طبعات أخرى في المكتبات تتفاوت كما وكيفًا، وهناك من يفكر في إخراج المصحف كله بالفرنسية!
وفي إندونيسيا: - البلد المسلم - ظهرت فيه هو كذلك طبعة للقرآن الكريم كله بالحروف الإندونيسية! يتداولها الناس هناك في رضا! -وقد- رفع تقريرًا عنها مبعوث رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية- إليها-.
(2)
.
فهل يُنتظر من أهل هذا الرأي أن يقع نحو من هذا؟!.
وقد عُرِض بهذا الصدد استفتاء على سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن كتابة القرآن بلغة غير اللغة العربية، فأحاله- سماحته- إلى هيئة كبار العلماء، وسيأتي معنا جواب اللجنة في عرض قرارات المجامع الفقهية حول الرسم العثماني فيما يلي:
رابعًا: قرارات وفتاوى المجامع الفقهية ومراكز الفتوى حول الرسم العثماني:
القرار الأول: قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول: (كتابة القرآن بلغة غير اللغة العربية)
عُرِض على سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز (ت: 14230 هـ) -رحمه الله تعالى- استفتاء عن كتابة القرآن بلغة غير اللغة العربية، وأحاله- سماحته- إلى هيئة كبار العلماء،
وكان جواب اللجنة على النحو التالي:
بعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه، قرر المجلس بالإجماع: تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، أو غيرها من حروف اللغات الأخرى،
(1)
- مجلة «الاعتصام» القاهرية العدد 104 (1396 هـ/ 1976 م).
(2)
- وللاستزادة يُنظر: تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربية، صالح علي العود، تقديم محمد بن عبد الوهاب أبياط الطبعة: الأولى، الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية، تاريخ النشر: 1416 هـ- عدد الأجزاء: 1
وذلك للأسباب التالية:
1 -
إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين، حروفه ومعانيه، قال تعالى:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 192 - 195)، والمكتوب بالحروف اللاتينية لا يسمى قرآنًا؛ لقوله تعالى:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)(الشورى: 7)، وقوله:(لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(النحل: 103).
2 -
إن القرآن كتب حين نزوله، وفي جمع أبي بكر، وعثمان، رضي الله عنهما إياه بالحروف العربية، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم وأجمع عليه التابعون، ومن بعدهم إلى
عصرنا، رغم وجود الأعاجم، وثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم أنه قال:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
(1)
فوجبت المحافظة على ذلك، عملاً بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم وعملًا بإجماع الأمة.
3 -
إن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها، فهي قابلة للتغيير مرات بحروف أخرى، فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح، ويخشى أن تختلف القراءة تبعًا لذلك، ويحصل التخليط على مر الأيام، ويجد عدو الإسلام مدخلًا للطعن في القرآن للاختلاف والاضطرابات، كما حصل بالنسبة للكتب السابقة، فوجب أن يمنع ذلك محافظة على أصل الإسلام، وسدًا لذريعة الشر والفساد.
4 -
يخشى إذا رخص في ذلك أو أُقِرَ: أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي الناس، فيقترح كلٌ أن يكتبه بلغته، وبما يجد من اللغات، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع، فيجب أن يصان القرآن عن ذلك صيانة للإسلام وحفظًا لكتاب الله من العبث والاضطرابات.
5 -
إن كتابة القرآن بغير الحروف العربية يثبط المسلمين عن معرفة اللغة العربية، التي بواسطتها يعبدون ربهم، ويفهمون دينهم، ويتفقهون فيه، هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء.
(2)
.
(1)
- صححه الألباني في صحيح الجامع، برقم:(2549) يُنظر: شرح حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، رقم:(70785).
(2)
- وقد وُجِهَ هذا السؤالُ لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية،، فتفضل بعرضه على هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة عشر المنعقدة بالطائف، في شوال (1399 هـ).، يُنظر: كتاب: "تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربية"، تأليف: صالح علي العود، تقديم محمد بن عبد الوهاب أبياط:(1/ 36). مرجع سابق.
يوضح الباحث ويقول:
هذا: وإن كان الموضوع هو "كتابة القرآن بغير العربية" إلا إن أوجه التشابه متقاربة- لما نحن بصدد بحثه- إن لم تكن متطابقة من حيث الدواعي والبواعث الداعية إليه، ومن حيث عواقبه وما يُتوقع حدوثه وما يترتب على الإقدام على مثل هذا العمل.
القرار الثاني: قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول: (كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال إلى الحادي والعشرين فيه، نظر المجلس فيما رفعه حسين حمزة صالح مدرس العلوم الدينية بمدرسة الإمام أبي حنيفة الابتدائية بمكة .. إلى جلالة الملك يطلب فيه المعونة في كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية، والمحال إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3/ ص/ 22035 في 22/ 9/ 1398 هـ. واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في: "حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية
وإن خالف ذلك الرسم العثماني".
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه تبين للمجلس أن هناك أسبابًا تقتضي بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي:
1 -
ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)
(1)
.
فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة، وعملا بإجماعهم.
2 -
إن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليًا بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر .. وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها
(1)
صححه الألباني في صحيح الجامع، برقم:(2549) يُنظر: شرح حديث العرباض بن سارية-رضي الله عنه رقم: (70785).
فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم، وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن.
3 -
ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وبناء على هذه الأسباب اتخذ المجلس القرار التالي:
يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني، ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة؛ محافظة على كتاب الله من التحريف، واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء.
(1)
القرار الثالث: قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
" فإن " مجلس المجمع الفقهي الإسلامي " المنعقد بمكة المكرمة، في ربيع آخر 1404 هـ قد أطلع على خطاب الشيخ هاشم وهبة عبد العال من جدة الذي ذكر فيه موضوع " تغيير رسم المصحف العثماني إلى الرسم الإملائي "، وبعد مناقشة هذه الموضوع من قبل المجلس، واستعراض قرار " هيئة كبار العلماء " (المذكور آنفًا) بالرياض رقم (71)، وتاريخ 21/ 10/ 1399 هـ، الصادر في هذا الشأن، وما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف
بالرسم العثماني، -ثم ذكر- مجلس المجمع الفقهي - نفس القرارات الثلاث الي أجمع عليها أعضاء هيئة كبار العلماء سالفة الذكر آنفا-.
ثم قرر- مجلس المجمع الفقهي فقال:
وبعد اطلاع " مجلس المجمع الفقهي الإسلامي " على ذلك كله قرر بالإجماع تأييد ما جاء في قرار " مجلس هيئة كبار العلماء " في المملكة العربية السعودية من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني، ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه، ليكون حجة خالدة على عدم تسرب أي تغيير، أو تحريف في النص القرآني، واتباعًا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
(1)
- يُنظر: أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، إعداد الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، المجلد السابع، الطبعة الأولى، 1423 هـ/ 2002 م، ص 338، قرار الهيئة رقم (17)، وتاريخ 21/ 10/ 1399 هـ.
أما الحاجة إلى تعليم القرآن وتسهيل قراءته على الناشئة التي اعتادت الرسم الإملائي الدارج: فإنها تتحقق عن طريق تلقين المعلمين، إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلم، فهو يتولى تعليم الناشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في قواعد الإملاء الدارجة، ولا سيما إذا لوحظ أن تلك الكلمات عددها قليل، وتكرار ورودها في القرآن كثير ككلمة (الصلوة) و (السموات)، ونحوهما، فمتى تعلَّم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني: سهل عليه قراءتها كلما تكررت في المصحف، كما يجري مثل ذلك تمامًا في رسم كلمة (هذا) و (ذلك) في قواعد الإملاء الدارجة أيضًا.
رئيس مجلس المجمع الفقهي: سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
نائب الرئيس: د. عبد الله بن عمر نصيف.
(1)
القرار الرابع: قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة -أيضًا
-
كما قرر مجمع الفقهي الإسلامي-كذلك- في دورته المنعقد في الفترة الثانية في شعبان 1388 هـ.
القرار التالي:
يقرر المؤتمر وجوب المحافظة على رسم مصحف عثمان رضي الله عنه في طبع القرآن الكريم في مصحف كامل، أو في طبع أجزاء منه
…
ونص هذا القرار مجتزأ من عدة قرارات أخر للمجمع.
القرار الخامس: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء - بـ "المملكة العربية السعودية
"
قال أعضاء اللجنة: قد أجمع المسلمون على وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني، وأنه لا تجوز مخالفته إلى غيره من أنواع الرسم؛ ولهذا اعتنى العلماء بقواعد الرسم وضوابطه في مباحث من كتب علوم القرآن مثل: الإتقان للسيوطي رحمه الله وفي كتب مفردة للرسم مثل: إيقاظ
الأعلام بوجوب اتباع رسم مصحف الخليفة عثمان الإمام للشيخ محمد الخضر حسين المالكي رحمه الله تعالى.
(2)
.
القرار السادس: قرار مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر - بالقاهرة:
ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر هو أحد المؤسسات العلمية الرسمية التابعة للجامع الأزهر، وهو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، وقرارته يشرف عليها نخبة من صفوة علماء الأزهر.
(1)
مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد الرابع، السنة الثانية، 1410 هـ 1989 م:(ص: 485 - 486).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة: فتوى رقم: (16709)، برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.
ولا يخفى على أحد دور الأزهر في الدفاع عن القرآن خصوصًا، حتى أصبح غصة في حلوق أعداء الإسلام ولاسيما في رد الشبهات والترهات والمطاعن التي يدفع بها أعداء الملة محاولين زعزعت إيمان أهل الإسلام وتشكيكهم في أعز مقدساتهم- القرآن الكريم-.
وقد ناقش المجمع بحثًا بعنوان: "رسم المصاحف العثمانية"
وبعد دراسته اتخذ المجمع عدة قرارات تتعلق بالقرآن الكريم، وكان في طليعتها ما يتعلق ببحثنا ألا وهو:"رسم المصاحف العثمانية"
ونصه ما يلي: يوصي المؤتمر بأن يعتمد المسلمون على الرسم العثماني للمصحف الشريف، حفظًا له من التحريف".
(1)
.
القرار السابع: قرار فتوى دار الإفتاء المصرية، وقرار مجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر -كذلك
-
وهي فتوى دار الإفتاء المصرية الصادرة سنة 1956 م، وعليها قرّر مجمع البحوث الإسلاميّة في دور انعقاده الرابع سنة: 1968 م الالتزام بالرسم العثماني،
…
وهذا القرار من مجمع البحوث الإسلاميّة غير القرار السابق، وهو أقدم منه بلا شك.
القرار الثامن: قرار لجنة الفتوى بالأزهر
وقد سُئلت لجنة الفتوى بالأزهر سنة: (1335 هـ -1936 م) عن حكم التزام الرسم العثماني.
فأجابت بأن الجمهور من العلماء على التزام الرسم العثماني، وحرمة مخالفته،، واستدلُّوا على ذلك بإجماع الصحابة على الصِّفة التي كتب عليها عثمان، ولم يُرو عن واحد منهم أنه كتب القرآن على غير هذه الصفة. وذكرت اللجنة ما نُقل عن مالك وأحمد والبيهقي ممّا سبق ذكره هنا نقلًا عن السيوطي في "الإتقان". انتهى ملخص الفتوى ..
(1)
- وكان عنوان البحث: "رسم المصاحف العثمانية" وكان من البحوث التي تم بحثها ومناقشتها بحث بعنوان: "هل الرسم العثماني توقيفي أم اجتهادي؟ " وهو بحث مقدم من الدكتور/ محمد محمد أبو شهبة -عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر- فرع أسيوط، وكان ذلك ضمن أعمال المؤتمر السادس المنعقد في الفترة من الثلاثين من شهر محرم لعام:(1391 هـ): إلى الخامس من شهر صفر لعام: (1391 هـ).، والبحث مكون من ثمان فقرات، وهو منشور بتمامه تحت عنوان:"بحوث قرآنية": (ص: 147 - 172)، وذلك ضمن مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية. وللاستزادة: يُنظر: مجمع البحوث الإسلامية، تاريخه وتطوره 1403 هـ 1983 م:
(ص: 425 - 426).
ومن أحسن ما قيل في ذلك قول أبي عبد الله محمد العبدري الفاسي المالكي المشهور بـ" ابن الحاج "(ت: 737 هـ) في " المدخل":
"ولا يلتفت إلى اعتلال من خالف بقوله: إن العامة لا تعرف مرسوم المصحف، ويدخل عليهم الخلل في قراءتهم في المصحف إذا كتب على المرسوم، لأن من لا يعرف المرسوم من الأمة يجب عليه ألا يقرأ في المصحف إلا بعد أن يتعلم القراءة على وجهها أو يتعلم مرسوم المصحف، فإن فعل غير ذلك فقد خالف ما اجتمعت عليه الأمة، وحكمه معلوم في الشرع الشريف، فالتعليل المتقدم ذكره مردود على صاحبه، لمخالفته للإجماع المتقدم، وقد تعدت هذه المفسدة إلى خلق كثير من الناس في هذا الزمان، فليتحفظ من ذلك في حق نفسه وحق غيره، والله الموفق".
(1)
ومن أحسن ما نُظِمَ في ذلك ما سطره مُحَمَّدٌ العاقِبُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَايَابِي الجَكَنِيُّ الشنقيطي (ت: 1312 هـ) في "كشف العمى والرين عن ناظري مصحف ذي النورين":
رَسْمُ الْقُرَانِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
…
كَمَا نَحَا أَهْلُ الْمَنَاحِي اْلأَرْبَعَهْ
لأِنَّهُ إِمَّا بِأَمْرِ الْمُصْطَفَى
…
أوْ بِاجْتِمَاعِ الرَّاشِدِينَ الْخُلَفَا
وكُلُّ مَن بَدَّلَ مِنْهُ حَرْفاَ
…
بَاءَ بِنَارٍ أوْ عَلَيْهَا أَشْفَى
والْخَطُّ فِيهِ مُعْجِزٌ لِلنَّاسِ
…
وَحَائِدٌ عَن مُّقْتَضَى الْقِيَّاسِ
لَا تَهْتَدِي لِسِرِّهِ الْفُحُولُ
…
وَلَا تَحُومُ حَوْلَهُ الْعُقُولُ
قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَهْ
…
دُونَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَهْ
لِيَظْهَرَ اْلإعْجَازُ في اْلمَرْسُومِ
…
مِنْهُ كَمَا في لَفْظِهِ الْمَنْظُومِ.
(2)
خامسًا: القول الراجح
والقول الراجح: هو الرأي الأول وهو أن الرسم العثماني توقيفي ولا يجوز مخالفته، وهو ما عليه جمهور العلماء، وذلك للأسباب التالية:
1 -
لأنه هو المعول عليه، وعليه عموم الأدلة
2 -
كما أن عليه إجماع الأمة سلفًا وخلفًا
(1)
المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، ابن الحاج/ أبو عبد الله محمد العبدري الفاسي المالكي:(2/ 300)، 1 - 2 الطبعة الكاملة.
(2)
- يُنظر: كتاب: كشف العمى والرين عن ناظري مصحف ذي النورين المؤلف: مُحَمَّدٌ العاقِبُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَايَابِي الجَكَنِيُّ الشنقيطي، الفصل الثالث: في كون الرسم توقيفيًا يجب اتباعه، الأبيات من 37: 43: (ص: 80)، عدد الأبيات: 417، نسخة لشاملة.
3 -
إن إجماع المجامع الفقهية بمثابة إجماع الأمة في الزمن الحاضر، والأمة لا تجتمع على ضلالة أبدًا
4 -
هذا الإجماع موافق لعموم الأدلة التي احتج بها أهل الرأي الأول وعليه عمل المسلمين منذ نزول القرآن وحتى زماننا الحاضر.
5 -
ويضاف إلى ذلك أيضًا ما تقرر لدينا مما سبق بحثه وتقريره من أن الرسم المصحفي توقيفي، وذلك لأنه من السنة العملية التقريرية؛ لأنَّه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطره كُتَّاب الوحي بأمره صلى الله عليه وسلم.
والباحث كان قد عزم على إفراد أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني بمبحث خاص، ولكن ما مضى ذكره في هذا البحث فيه غنية وكفاية، فقد مر معنا ذكر الثلاثة آراء، وأدلة كل فريق منها، وكذلك مناقشتها والرد عليها، وبيان القول الراجح منها، ولا حاجة للإعادة والتكرار.
تنبيه هام:
ألا وهو: أن قضية الاختلاف في الرسم العثماني، هل هو توقيفي أو اصطلاحي؟،
لا تعارض بينها وبين أقوال العلماء بوجوب التزام بالرسم العثماني الذي أجمعت عليه الأمة - سلفًا، وخلفًا ..
ويختم الباحث بأحسن ما قيل في ذلك ألا وهو:
ما روي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى في قوله: سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر من بعده سننًا، الأخذُ بها اتباعٌ لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرُها ولا تبديلها، ولا النظر في شيءٍ خالفها، مَن اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومَن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولَّاه الله ما تولى، وأصْلاه جهنم وساءت مصيرًا.
(1)
.
ولعل فيما مضى من الكفاية والمعتبر، ما يكفى أهلَ البحث والتحقيق والنظر، ومن ترك سبيل المؤمنين فقد تعثر وضل السبيل. والحمد لله رب العالمين.
المطلب الخامس: موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية
تمهيد وتنبيه:
قبل الخوض في موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية يجب التنبيه إلى
(1)
- يُنظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة؛ لأبي القاسم اللالكائي، (المتوفى: 418 هـ).
أن دين الرافضة مبني ومؤسس على الزور والكذب والبهتان وقد غلفوا ذلك بغلاف مُبطن أسموه " التقيّة "، ومن هنا كان لزامًا على الباحث بيان مفهوم معنى التقيّة وتجليته للعيان، وهذا يتضمن أمورًا من الأهمية بمكان:
الأمر الأول: بيان مفهوم معنى التقيّة في اللغة والاصطلاح
وببيان مفهوم التقيّة في اللغة والاصطلاح يتضح لنا معناها ويبين لنا فحواها
أ- مفهوم التقيّة في اللغة
التقيّة لغة: الحذر والحيطة من الضرر، والاسم: التقوى، وأصلها: إوتَقى، يُوتَقي، فقُلبت الواو إلى ياء للكسرة قبلها، ثمّ اُبدلت إلى تاء واُدغمت، فقيل: اتّقى، يتَّقي.
(1)
ب- مفهوم التقيّة في الاصطلاح
ونتناول أولًا مفهوم التقيّة عند علماء أهل السنة:
يقول السرخسي: (ت: 490 هـ): والتقيّة: أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره، وإن كان يضمر خلافه.
(2)
. والسرخسي قد قيدها باتقاء العقوبة.
ويقول محمّد رشيد رضا (ت: 1354 هـ): والتقيّة: ما يقال أو يُفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر.
(3)
. ورشيد رضا قيدها بتوقّي الضرر.
ويقول محمد مصطفى المراغي (ت: 1364 هـ): التقيّة، بأن يقول الإنسان، أو يفعل ما يخالف الحقّ، لأجل التوقّي من ضرر الأعداء، يعود إلى النفس، أو العِرض، أو المال.
(4)
. وكذلك المراغي قيدها بتوقّي ضرر الأعداء.
ويلاحظ أن تعريف التقيّة عند علماء الإسلام من أهل السنة مقيد بخوف الضرر، واتقاء العقوبة، وقيد ذلك أيضًا بالخوف من الأعداء، وذلك من أجل حفظ الضرورات والكليات الخمس التي جاءت بها مقاصد الشريعة، وأمرت بحفظها.
وهذه الضرورات هي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسب (العرض)، حفظ المال.
(1)
- تاج العروس، الزبيدي 10: 396 ـ " وقي ".
(2)
- المبسوط، السرخسي 24:45.
(3)
- تفسير المنار، محمّد رشيد رضا 3:280.
(4)
- تفسير المراغي: (3/ 137).
ويُجلي الغزَّالي مقاصد الضرورات الخمس في "المستصفى" فيقول:
إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
(1)
ويُعلل ابن الأزرق رحمه الله الاهتمام بالضرورات الخمس في "بدائع السلك" فيقول:
لأن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انحرفت لم يبق للدنيا وجود من حيث الانسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها .. فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى. ولو عدم الإنسان لعدم من يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التدبير. ولو عدم النسل لم يمكن البقاء عادة. ولو عدم المال لم يبق عيش.
(2)
ومن هنا يُتأكد أن التقيّة شُرعت في الإسلام في أضيق الحدود، وبضوابط شرعية، وفي حال الخوف على ضرورة من تلك الضرورات وعلى حفظها فحسب.
لذا فإن التقيّة عند أهل السنة أمر اضطراري عارض بسبب دفع بلاء شديد مِمَّا لا تطيقه النفس البشرية ويَشُقُّ عليها احْتِمَالُهُ، كما أنه لا يترخص بِالتَّقِيَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ مخرج لا يرتكب فيه محرمًا، كل ذلك مصحوبًا بسلامة الباطن وعمارته بالإيمان.
فـ" مَذْهَبُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ أَنَّ الأْصْل فِي التَّقِيَّةِ هُوَ الْحَظْرُ، وَجَوَازُهَا ضَرُورَةٌ، فَتُبَاحُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالتَّقِيَّةُ لَا تَحِل إِلاَّ مَعَ خَوْفِ الْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الإْيذَاءِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُنْقَل مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فِيمَا نَعْلَمُ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
(3)
وفي نحو ذلك يقول ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله: -
التقيّة أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم التقيّة.
(4)
.
والأصل في ذلك عند أهل السنة قوله سبحانه: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(النحل: 106).
(1)
-المستصفى، الغزَّالي،، ص:174. المستصفى المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ) تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1413 هـ.
(2)
- بدائع السلك في طبائع الملك، ابن الأزرق:(1/ 194 - 195).
(3)
-الموسوعة الفقهية (13/ 186 - 187).
(4)
- أحكام أهل الذمة (2/ 1038).
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله: -
قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان) (النحل: 106 (فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهًا، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
(1)
وقال أبو بكر الجصاص (ت: 370 هـ) رحمه الله: -
هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه.
(2)
وقال أبو بكر ابن العربي (ت 543 هـ) رحمه الله: -
لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به.
(3)
فإذا لم يؤاخذ اللهُ المكرهَ في النطق بالكفر حال الإكراه، فبلا أدنى ريب أن ما دونه أولى بذلك، ولذا يُعد هذا أصل أصيل في العذر بالإكراه في أصول الشريعة وفروعها.
وأما عن مستند أهل السنة في "التقيّة" فقوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)(آل عمران: 28).
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله: -
قوله: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته؛ كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال:" إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".
(4)
وأما مفهوم التقيّة عند الرافضة:
فهي كما يقول الشيخ المفيد: (ت: 413 هـ) هي عبارة عن: كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرًا في الدين والدنيا.
(5)
.
فالمفيد- من الرافضة- يعرف التقيّة بأنها الكتمان للاعتقاد خشية الضرر من المخالفين - وهم أهلُ السنة كما هو الغالب في إطلاق هذا اللفظ عندهم - أي هي إظهار مذهب أهل السنة (الذي يرونه باطلاً)، وكتمان مذهب الرافضة الذي يرونه هو الحق، من هنا يرى بعض أهل السنة: أن
(1)
- تفسير ابن كثير (2/ 587).
(2)
- أحكام القرآن للجصاص (3/ 192).
(3)
- أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1180).
(4)
- تفسير ابن كثير (2/ 30).
(5)
- صحيح الاعتقاد، الشيخ المفيد:66.
أصحاب هذه العقيدة هم شر من المنافقين؛ لأن المنافقين يعتقدون أن ما يبطنون من كفر هو
باطل، ويتظاهرون بالإسلام خوفًا، وأما هؤلاء فيرون أن ما يبطنون هو الحق، وأن طريقتهم هي منهج الرسل والأئمة.
(1)
وفي ضوء بيان مفهوم التقية في اللغة والاصطلاح يتبين لنا أنها- التقيّة- تعني عندهم: إظهار خلاف ما يبطن الإنسان تديّنًا؛ وهم-الرافضة- بتلك العقيدة الفاسدة ينسبون هذا الكذب والبهتان والخداع لدين الله ظلمًا وزورًا وبهتانًا وعدوانًا، فهم كما قال الله تعالى في وصف المنافقين:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(النساء: 147).
الأمر الثاني: التقيّة أصل من أصول دين الرافضة
يجب أن يُعلم أن التقيّة أصل أصيل من أصول دين الرافضة " الشيعة الاثني عشرية" التي يبنون عليها دينهم وعقائدهم، فتراهم يكذبون ويتحرون الكذب في كل أمورهم حتى في العقائد، ثم يجعلون ذلك دينًا وقربى من أجل وأعظم القُرب، ويخالفون بها جماهير المسلمين من أهل السنة والجماعة ويخرجون بها عن صراط الله العزيز الحميد.
الأمر الثالث: مكانة التقيّة عند الرافضة
للتقية في دين الرافضة مكانة عظيمة، ومنزلة كبيرة، فهي تُعدُ-عندهم- أصلاً من أصول دينهم لا يسع أحدٌ الخروج عنه البتة، وقد دونوها في مصنفاتهم، وبينوا ما يتعلق بها من فضائل وأحكام، كما بينوا-فيها- ما يترتب على من لزمها وعمل بها من عظيم الأجر وجزيل الثواب.
ويتجلى ذلك في أوضح وأجل وأعظم مصادرهم ألا وهو كتاب "الكافي" للكليني الذي يقابل صحيح البخاري عند أهل السنة.
حيث يروي-الكليني (ت: 329 هـ) - في " الكافي":
عن أبي عبد الله أنه قال: خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية.
(2)
ولاشك أن هذا هو النفاق بعينه.
ويروى الكليني- أيضًا- عن محمد بن خلاد قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاء فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له.
(3)
. لذا فهي أساس دينهم المبني على النفاق الكذب.
(1)
- يُنظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية (2/ 805).
(2)
الكافي (2/ 175).
(3)
- الكافي (2/ 174).
بل وصل اعتناؤهم بالتقيّة إلى حد تأويل الآيات عليها، مثل قوله تعالى:(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ)(فصلت: 34) قال أبو عبد الله - كما زعم الكليني -: (الحسنة: التقية: والسيئة: الإذاعة).
(1)
. وهكذا يؤكد الرافضة أن دينهم مبني على الزور والبهتان وتحريف النصوص لأهوائهم.
الأمر الرابع: إذا كانت الكرامة عند الله بالتقوى، فهي عند الرافضة بالتقيّة
قال القمي: وقد سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13) قال: أعلمكم بالتقيّة.
(2)
فهم على إثر تفسيرهم العقيم-هذا- تصبح الكرامة بالتقيّة لا بالتقوى، ويصبح أكرم الخلق أكذبهم لا أتقاهم ..
الأمر الخامس: غلو الرافضة في التقيّة
ترك التقيّة عندهم كفر ككفر ترك الصلاة، وتركها قبل خروج المهدي خروج على دين الله.
لقد غَاَلَىَ
(3)
الرافضة في التقيّة وأوجبوها وأنزلوها منزلة الصلاة من الدين- أي إن من ترك التقية فقد كفر، ككفر تارك الصلاة سواء بسواء، وهذا قول أئمتهم.
قال القمي: وهو علي بن إبراهيم القمّي (ت: 307 هـ): التقيّة واجبة، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة.
(4)
وكذلك- أيضًا- هو قول قال ابن بابويه: وهو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المشهور بالشيخ الصدوق (ت: 381 هـ) في كتابه "الاعتقادات".
(5)
.
وقال الصادق: لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقًا.
(6)
وقال القمي مغاليًا- أيضًا-:
التقيّة واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم
(7)
، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج على دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة.
(8)
(1)
- الكافي (2/ 173).
(2)
- الشيعة والسنة (ص 157).
(3)
-غَالَى فِي الأَمْرِ: بَالَغَ فِيهِ، يُنظر: تعريف و معنى غالى في معجم المعاني الجامع
(4)
الشيعة والسنة (ص 157).
(5)
- الاعتقادات (ص 114).
(6)
- جامع الأخبار (ص 110)، بحار الأنوار (75/ 412، 414).
(7)
قائم آل محمد هو لقب يستخدمه الشيعة الإثنا عشرية للإشارة بـ " محمد بن الحسن العسكري- المهدي- "الذي هو الإمام الثاني عشر -عندهم-"، الذي يعتقدون أن رجعته ستكون في آخر الزمان حين يخرج من السرداب-بزعمهم-، وذلك ليقتلَ غيرَ الشيعة .. ، فيصلب أبا بكرٍ وعمر على شجرةٍ رطبة، ويقيم الحد على عائشة!.
وللاستزادة يُنظر: "المسائل الناصرية للسيد المرتضى" .. وكتاب "حق اليقين" للمجلسي. بتصرف يسير.
(8)
الشيعة والسنة (ص 157).
ومن كتم التقيّة عندهم أعزه الله ومن أظهرها أذله الله
روى الكليني عن سليمان بن خالد قال:
قال أبو عبد الله: يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله.
(1)
ولقد بلغ من غلوهم في التقيّة أن جعلوا تَرْكَهَا مساو للشرك في عدم المغفرة،
فقد رووا عن عليّ بن الحسين الإمام الرابع أنه قال:
يغفر الله للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين، ترك التقيّة، وترك حقوق الإخوان.
(2)
الأمر السادس: القول في التقيّة عند بعض منصفي الرافضة، هذا إن كان فيهم منصفٌ، ونخشى أن تكون من التقيّة أيضًا:
يقول الدكتور موسى الموسوي (م):
لقد أراد بعض علمائنا رحمهم الله أن يدافعوا عن التقيّة، ولكن التقيّة التي يتحدث عنها علماء الشيعة وأمْلَتْها عليها بعض زعاماتها هي ليست بهذا المعنى إطلاقًا، إنها تعني أن تقول شيئًا وتضمر
شيئًا آخر، أو تقوم بعمل عبادي أمام سائر الفرق وأنت لا تعتقد به، ثم تؤديه بالصورة التي تعتقد به في بيتك.
(3)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
الرَّافِضَة أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ، وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، حَتَّى يَرْوُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي، و" التَّقِيَّةُ " هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ.
(4)
لا نتعجب من قول شيخ الإسلام، فهم قبل كذبهم على أئمتهم يكذبون على رب الأنام وعلى النبي عليه الصلاة والسلام.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله أيضًا: -
وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد وتعمد الكذب كثير فيهم، وهم يقرون بذلك حيث يقولون: ديننا التقيّة، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق،
(1)
الكافي (2/ 176).
(2)
- الشيعة والسنة (ص 158).
(3)
- الشيعة والتصحيح (ص 52).
(4)
- مجموع الفتاوى (13/ 263).
ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة، ويصفون السابقين الأولين بالردة
والنفاق! فهم في ذلك كما قيل: رمتني بدائها وانسلّت
(1)
، إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم.
(2)
.
وَيقول - أَيْضًا-:
" وَقْدْ رَأَيْنَا فِي كُتِبِهِمْ مِنَ اْلكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصحَابَتِهِ، وَقَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْنَا مِنَ الْكَذِبِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
(3)
.
وَيقول - أَيْضًا-:
وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَة إِمَّا مُنَافِقٌ أَوْ جَاهِلٌ، فَلَا يَكُونُ رَافِضِيٌّ وَلَا جَهْمِيٌّ إِلاَّ مُنَافِقًا أوْ جَاهِلاً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
(4)
وقد أحسن من نَظَمَ في نفاقهم فقال:
يا من خدعت بتقيّة ونفاق
…
سلمت أمرك للعدا السراق
إن الروافض يكذبون بقولهم
…
وفعالهم تنبي عن الفساق
والشر كل الشر في تمكينهم
…
مستعصم ينبيك!! هل من راق؟.
(5)
كانت هذه المقدمة الهامة بمكان بين يدي قول أئمة الرافضة في المصاحف العثمانية،
ولم يعرج الباحث على قولهم في القرآن باستطراد وإطالة-عمومًا- لكونه معروف ومشهور عنهم ومبثوث في كتبهم ومصادرهم الأصلية والأصيلة-عندهم-، وكذلك حتى لا يطول بنا المقام، فإن قولهم بتحريف القرآن أمر متواتر عنهم ومشتهر ومبثوث في مصادرهم وهي أكثر من يحصيها مقال، ونسوق مثاليين- فقط - يشيرا إلى ذلك بإيجاز.
المثال الأول: قول محمد باقر المجلسي: (ت: 1110 هـ)
إنّ كثيرًا من الأخبار صريحة في نقص القرآن وتغييره، ومتواترة المعنى! ..
(6)
المثال الثاني: قول نعمة الله
(7)
الجزائري: (ت: 1112 هـ)
(1)
- قال أبو عبيدٍ: "ويحكى عن المفضل أنه كان يقول: هذا المثل قيل لرهمٍ بنت الخزرج من كلبٍ، وكانت امرأة سعد بن زيد مناة بن تميمٍ، وكان لها ضرائر، فسابَّتها إحداهنَّ يومًا فرَمَتْها رهمٌ بعيبٍ هو فيها، فقالت ضرَّتُها: "رمَتْني بدائها وانسلَّت" فذهبت مثلًا".
ويُضرب هذا المثل لمن يعيِّر الإنسان بما هو فيه. يُنظر: "الأمثال" لابن سلام (73)
(2)
منهاج السنة النبوية (1/ 30).
(3)
- مجموع الفتاوى (28/ 481).
(4)
- منهاج السّنة: (5/ 160 - 161).
(5)
- كتاب: كلمات وأشعار في ذم الرافضة الكفار الفجار، جفجاف ابراهيم الأبيات: 32 - 34، (10/ 1).
(6)
- مرآة العقول (ص 253).
(7)
والحقيقة أنه: نقمة وليس بنعمة.
الأخبار مستفيضة بل متواترة، وتدل بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا)! ..
(1)
وهذا إقرار من رأسين من رؤوس الضلالة بتواتر ذلك عندهم.
ونذكر هنا أشهر وأبرز ما صنف في قولهم بـ" تحريف القرآن" بشيء من الإيجاز على النحو التالي:
1 -
كتاب "فَصل الخِطابِ في إَثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ
"لـ " ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي الهالك والنافق عام (1320 هـ)، وهو يثبت معتقد الشيعة في تحريف القرآن.
والذي قال-الطبرسي الهالك- في مقدمته:
هذا كتاب لطيف، وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته:"فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب"
(2)
.
وقد أَكْرَمَ الرافضةُ هذا الظالمَ الغاشمَ -غاية الإكرام- في زعمهم- بأن قبروه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف الأشرف في إيوان حجرة ما يسمونها بـ"حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين الله"، وهي كما يدعون زورًا وبهتانًا أنها أقدس بقعة عندهم- هكذا في دينهم-.
ولما طُبِعَ هذا الكتابُ أول مرة في إيران سنة 1298 هـ وهو لا يطبع إلا هناك، قامت حوله ضجة كبرى، لأنهم أرادوا أن يبقى الطعن والتشكيك في صحة القرآن المنزل من عند الله تعالى سرًا ومحصورًا بين خواصهم فحسب، ثم يُبَث متفرقًا في أمهات كتبهم ومصنفاتهم المعتبرة عندهم،
وأن لا يجمع ذلك كله في مصنف واحد وفي مكان واحد، ثم ينتشر ويطالعه العام والخاص، فيصبح بذلك حجة عليهم بين يدي خصومهم، وقام بعضهم" تقيّة أيضًا" يستنكرون هذا العمل الإجرامي مدعين بأنه عمل فردي لا يمس لدينهم بصلة، وكذلك ادعاء تراجعه عن كتابه، والحقيقية أن دين مبني على " التقيّة " لا يُستبعد ولا يُستغرب منه تلك الألاعيب الواضحة للعيان.
وقد حاول بعض المعاصرين الدفاع عن الطبرسي وكتابه زورًا وبهتانًا، فأتى بكتاب ركيك الأسلوب دمر فيه اللغة تدميرًا، وقد سماه على نفس مسمى كتاب الطبرسي، - وقد قدم له بعض رؤوسهم زورًا وبهتانًا- فأتى بطوام كبرى ومطاعن وشبهات وترهات كدعوى إنكار ابن مسعود
(1)
- الأنوار النعمانية (2/ 357).
(2)
- فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، للنوري الطبرسي، المقدمة
للمعوذتين وما على شاكلتها مما سبق تفنيده والرد عليه بالحجة والبيان في ثنايا هذا البحث، فزاد الطين بلة، والحقيقة هو أقل من أن يرد عليه.
(1)
.
2 -
مصحف فاطمة
والذي يصفونه تقيّة بقولهم:
مصحف فاطمة عليها السلام، كتابٌ يحتوي على ما سمعته السيدة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من جبرئيل عليه السلام، وفيه ذكر لحوادثَ تجري عليها وعلى ذريتها، وبهذا لا يكون المصحف بمعنى القرآن ولا يكون دالّاً على بديلٍ أو مثيلٍ للقرآن الكريم
(2)
. هكذا يزعمون زورًا وكذبًا وبهتانًا، وسيأتي معنا أدلة كذبهم من أوثق مصادرهم.
مصحف فاطمة وما يحتويه في زعمهم وكذبهم وباطلهم:
يقول الكليني في "الكافي":
بناء على ما ورد في الروايات، نجد أنّ المصحف يحتوي على:
أضعاف ما في القرآن الكريم، من دون أن تصرّح الروايات أنّ هل هذه الأضعاف هي من حيث الكم أو النوع؛ نعم يمكننا تخصيصها بالكم من خلال القرائن الأخرى التالية.
1 -
أخبار وحوادث مستقبلية
2 -
وصية فاطمة الزهراء عليها السلام
3 -
الإخبار بأسماء الأئمة من ذرية فاطمة عليها السلام
4 -
الإخبار بما يجري عليها وعلى ذريّتها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله
5 -
ذكر أسماء شيعتهم وأسماء أعدائهم إلى يوم القيامة.
(3)
وبالطبع فإن التقيّة التي هي أس دينهم تراها عندهم بارزة أبدًا في أقوالهم ومصنفاتهم، فهي عندهم شمس لا تغيب، ونجم لا يأفل، وتجد ذلك واضحًا جليًا في أوثق مصادرهم-الكافي للكليني-.
(1)
- والكتاب هو " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" لـ"محمد زكريا اللامردي". وهو شبيه كتاب الطبرسي في مسماه. ولم يقف الباحث على كثير معلومات عن مؤلفه وهو معاصر، والكتاب منشور في مواقع شتى من مواقع الرافضة. من منشورات شبكة الفكر الالكترونية- الرافضية، الطبعة الأولى عام 2007 م، مجلد 1، في 117 صفحة، ويُنظر: مكتبة نرجس للكتب المصورة، وموقع مدرسة الإمام الحسين الدينية.
(2)
يُنظر: الموسوعة الحرة لمدرسة آل البيت.
(3)
- الكليني، الكافي، ج 1، ص 592 ــ 596. بتصرف يسير.
حقيقة مصحف فاطمة من أوثق مصادرهم:
يزعم هؤلاء "الدجاجلة": أنه بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وقد انقطع الوحي الذي استمر تتابعه في ثلاث وعشرين سنة، عاد به جبريل عليه السلام بنزوله من جديد، ولكن هذه المرة كان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بوحي جديد ومصحف جديد هو ثلاث أضعاف المصحف الذي نزل به من قبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكذب والزور والبهتان الذي لا يقبله من له أدنى عقل أو فهم، تمجّه النفوس الأبية، ولا تقبله الفطر السوية، ويشمئز منه سماعه أسماع من له أدنى بصيرة، ففاطمة رضي الله عنها تحتاج إلى ثلاثة أضعاف زمن تنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون ما تحتاجه قرابة
تسع وستين سنة! كيف هذا، وأنى لها ذلك؟!، قد توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر!، إلا إذا كان نزوله عليها جملة واحدة كالكتب السابقة!.
ومما ورد في دجلهم ما نقله أكبر ثقاتهم "الدجاجلة" في أوثق مصادرهم "الكاذبة" في تلك الرواية "الممجوجة"، حيث يقولون فيها:
إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكًا يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إذا أحسست بذلك، وسمعت الصوت قولي لي. فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفًا .. أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون.
(1)
.
ولنا أن نتأمل رواية الكليني نفسه حيث يقول في "الكافي" الذي هو أوثق مصادرهم، في كتاب الحجة، باب:" أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة":
عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.
(2)
ورواية" الكليني" دليل ساطع وحجة دامغة تؤكد أن مصحف فاطمة هو المصحف الأصل والبديل عن المصحف الذي جمعه الصحابة رضي الله عنهم في العهود الثلاثة، والذي هو القرآن المنزل من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتقيّة هنا لا مجال لها البتة حتى
(1)
- يُنظر: أصول الكافي (1/ 240)، بحار الأنوار (26/ 44)، بصائر الدرجات (ص 43).
(2)
- يُنظر: الكافي- كتاب الحجة - باب أنه لم ي كله إلا الأئمة (1/ 178)، وباب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة- كتاب الحجة - من الكافي- أيضًا- (1/ 184).
يدعون زورًا وبهتانًا إنكار تلك الرواية التي فيها التصريح بمصحف فاطمة، ولا يمكنهم جهدها وإنكارها.
وفي رواية أخرى يصرح الكليني في "الكافي"-أيضًا- بأن مصحف فاطمة إنما هو قرآن وليس بصحيفة وأنه مهيمن على القرآن المنزل من السماء على خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام
ففي حديث طويل عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام:
وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما
فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم قال: إنه لعلم وما هو بذاك
…
الحديث.
(1)
وهم يزعمون أن عبارة مصحف فاطمة:
"لا تعني بالضرورة قرآنًا بل إنه كتاب يحتوي على مصاحف.
(2)
.
ومما يجلي كشف كذب تلك الحقيقة للعيان وكأنها رأي عين- تفضيلهم مصحف فاطمة على كتاب الله المنزل على خاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مصرح به في رواية الكليني في "الكافي"-أيضًا- عن جعفر الصادق: أنه قرأ آية المعارج (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع)(المعارج: 1 - 2) قرأها هكذا على النحو التالي: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين (بولاية علي) ليس له دافع من الله ذي المعارج? فقيل له: إنا لا نقرؤها هكذا، فقال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) وهكذا هو والله مثبت في مصحف فاطمة.
(3)
ورواية محمد باقر المجلسي في "بحار الأنوار": والتي يؤكد فيها أن مصحف فاطمة عندهم هو ليس مجرد صحيفة فيها أخبار مستقبلية-إلخ- بل هو قرآن يُتلى ويُقرأ ويُتعبد بتلاوته، حيث يروى أنه قرأ قوله تعالى (يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانًا خليلًا) (الفرقان: 28) وإنما هي في مصحف فاطمة "يا ويلتي ليتني لم اتخذ الثاني خليلًا".
(4)
، والثاني هو الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يناصبونه أشد العداوة والبغضاء.
(1)
-الكليني، الكافي، (1/ 592، ح 1).
(2)
- الانتصار (1/ 362)
(3)
- يُنظر: الكافي (8/ 57 - 58)، بحار الأنوار (35/ 324 و 37/ 176)، التفسير الصافي للكاشاني (5/ 224)، تفسير نور الثقلين (2/ 531 و 5/ 412)، مدينة المعاجز لهاشم البحراني (2/ 266).
(4)
- بحار الأنوار للمجلسي (30/ 245).
ولا يستنكر أحد من أهل السنة ولا يمنع- افتراضًا- من أنه قد يكون لفاطمة مصحف خاص
(1)
، كما كان لبعض أمهات المؤمنين مصاحف خاصة بهن، كعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وكما كان لبعض الصحابة مصاحف خاصة -كذلك-، وذلك قبل جمع عثمان رضي الله عنه وعنهم أجمعين الأمةَ على مصحف إمام، وإنما ما يُستنكر هو أن يقال أن مصحف فاطمة هو قرآن خاص نزل عليها وأنه ثلاثة أضعاف القرآن المنزل، وأنه مغاير له تمامًا، إلى آخر تلك الترهات.
وروياتهم في ذلك أكثر من أن تحصى ولاسيما في أوثق مصادرهم كما في " الكافي" للكليني الذي يروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: ومن يطع الله ورسوله في ولاية عليّ وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزًا عظيمًا) هكذا أنزلت
(2)
.
وكذلك ما يرويه- الكليني- عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله في قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليه السلام من ذريتهم فنسي)، هكذا والله أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
(3)
هكذا الرافضة، وهذا دينهم، وهذا بهتانهم بأقلامهم، ومن أوثق مصادرهم.!
وقد اكتفى الباحث بإشارات تغني عن كثير من العبارات، ولا سيما وأن الله قد قيد رجالًا من أهل السنة ليردوا ترهات الرافضة حول مطاعنهم وتشكيكهم في القرآن، واستعملهم جل في علاه في الذب عن حياض كتابه المجيد.
(4)
وطعن الرافضة في القرآن، طعن وتكذيب في وعد الله الذي تولى حفظ كتابه بذاته العلية، فلم يوكل سبحانه ذلك لأحد من خلقه كائنًا من كان، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لمن دونهم من
(1)
- ولعل الرافضة قد حصلوا عليه - بواسطة الأئمة الذين يعلمون الغيب ويتحكمون في الكون-كما يزعمون-.
(2)
-الكافي: (2/ 372).
(3)
-الكافي: (2/ 379).
(4)
- ومن أبرز تلك المصنفات:
1 -
كتاب "الشيعة والقرآن "، لـ"إحسان إلهي ظهير رحمه الله.
2 -
وكتاب "الشيعة وتحريف القرآن" لـ" محمد مال الله "حفظه الله"
3 -
وكتاب" الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية" لـ"محب الدين الخطيب رحمه الله.
4 -
موقف الرافضة من القرآن لـ"مامادو كارامبيري".
5 -
غاية البيان في الرد على القائل بتحريف القرآن لـ" الدكتور محمد عبد القادر أعمر"
6 -
وما ورد في مقدمة تفسير القرطبي، باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان.
خلقه جل في علاه، كما قال سبحانه في محكم كتابه وهو أصدق القائلين:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9).
ولذلك أجمع المسلمون على كفر من زعم أن في القرآن تبديلاً، أو تحريفًا، أو أدنى زيادة، أو نقصان.
قال ابن حزم: (ت: 456 هـ) رحمه الله:
القول بأن بين اللوحين تبديلًا: كفر صحيح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، وهؤلاء يسمَّون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم.
(2)
قال القحطاني الأندلسي
(3)
يصف الرافضة في" نونيته":
إِنَّ الرَوَافِضَ شَرّ مَن وطئ الحصى
…
كل إنس ناطق أو جان
مدحوا النبي وخونوا أصحابه
…
ورموهم بالظلم والعدوان
حبوا قرابته وسبوا صحبه
…
جدلان عند الله منتقضان
فكأنما آل النبي وصحبه
…
روح يضم جميعها جسدان
فئتان عقدهما شريعة أحمد
…
بأبي وأمي ذانك الفئتان
(4)
موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية
كانت هذه المقدمة الموجزة والهامة للغاية بمكان بين يدي مبحث موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية، ومن أبرز عقائدهم في ذلك:
أولًا: اعتقادهم الباطل أن "عليًا" أول من جمع القرآن، وأن مصحفه أفضل من المصحف الإمام "مصحف عثمان":
يَعتقد الشيعة أن أول من جمع القرآن هو عليّ بن أبي طالب، وأنه اعتزل الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ل الكريم، وكان موقفه هذا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قال: لا
(1)
- الفِصَل في الأهواء والملل والنِّحَل (4/ 139).
(2)
الصارم المسلول (3/ 1108 - 1110).
(3)
توفي في: (379 هـ أو 383 هـ أو 387 هـ).
(4)
- نونية القحطاني (ص: 21)، لأبي محمد عبدالله بن محمد الأندلسي، الناشر: مكتبة السوادي للتوزيع - جدة، الطبعة الثالثة، 1995 تحقيق: محمد بن أحمد سيد أحمد، جزء: 1
أرتدي حتى أجمعه، ورُوي أنه لم يرتد إلا للصلاة حتى جمعه، قال ابن النديم: أن عليًا رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم أن لا يضع رداءه حتى ي، ويروي الشيعة أن لـ" عليّ " مصحف كباقي المصاحف التي جمعت فيما بعد، ولكن انتهى دور هذه المصاحف عندما أرسل إليها عثمان وأحرقها، أما مصحف عليّ فقد احتفظ به لنفسه وأهل بيته ولم يظهره لأحد، حفاظًا على وحدة الاُمة.
وقالوا إنَّ الفرق بين مصحف الإمام علي والمصاحف الاُخرى بما فيها مصحف عثمان هو أنَّ علي رتَّبه على ما نزل، كما اشتمل على شروح وتفاسير لمواضع من الآيات مع بيان أسباب ومواقع النزول، قال علي بن أبي طالب: ما نزلت آية على رسول الله إلا اقرأنيها وأملاها عليَّ، فأكتبها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علمًا أملاه عليَّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا، كما اشتمل المصحف على جملة من علوم القرآن الكريم مثل: المحكم والمتشابه
والمنسوخ والناسخ وتفسير الآيات وتأويلها. كما يروي عُلماء الشيعة أن على بن أبي طالب عرض مصحفه على الناس وأوضح مميزاته، فقام إليه رجل من الصحابة فنظر فيه فقال: يا علي أردده فلا حاجة لنا فيه.
(1)
وتتلخص الروايات الشيعية أن علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول، وكانت سوره وآياته هي آيات وسور القرآن المتداول بين المسلمين اليوم، وكان متضمنًا ترتيب السور حسب النزول وإلى جانبها أسباب النزول، إلاّ أن موقف بعض الصحابة من مصحفه كان موقفًا سياسيًا، ومن هنا فالأحرى أن نعتبره نسخة اُخرى من القرآن الكريم متضمّنة لسوره وآياته، وليس هو قرآن آخر سوى القرآن الكريم،
- ثم يدعي الرافضة- زورًا وبهتانًا-أن خصومهم هم الذين يدعون ذلك، فيقولوا-:
وجاء الخصوم بعد ذلك ليقولوا: إن الشيعة تدّعي أن للإمام علي عليه السلام مصحفًا غير المصحف المتداول بين المسلمين ظلمًا ورغبة في تفريق صف الاُمة المسلمة.
(2)
(1)
- يُنظر: تفسير البرهان: (1/ 16 ح 14)، إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السلف، صادق العلائي، الناشر: دار الآفاق للدراسات الإسلامية، سنة النشر: 2004 م، عدد الأجزاء:3.، وكذلك هو من منشورات: شبكة الشيعة العالمية.
(2)
- يُنظر: الشيعة والسنّة لإحسان إلهي ظهير: (88)، مصحف الإمام علي عليه السلام المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام.
ثانيًا: ادعاء الرافضة أن "عليًا" لم يخرج مُصْحَفَهُ زمن خلافة عثمان حفاظًا على وحدة الأمة؟
خلال عهد عثمان اختلفت المصاحف، وأُثيرت الضجة بين المسلمين، فسأل طلحةُ الإمام عليًا عليه السلام لو يخرج للناس مصحفه الذي جمعه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وما يمنعك ـ يرحمك الله ـ أن تخرج كتاب الله الى الناس؟! فكفّ عليه السلام عن الجواب أولاً، فكرّر طلحة السؤال، فقال: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمر القرآن، ألا تظهره للناس؟
وأوضح الإمام عليه السلام سبب كفّه عن الجواب لطلحة مخافة أن تتمزق وحدة الاُمة، حيث قال: يا طلحة عمدًا كففت عن جوابك فأخبرني عمّا كتبه القوم؟ أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله. قال عليه السلام: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنّة
…
(1)
هكذا هي أباطيل الرافضة:
لا يقبلها من له أدنى عقل فضلًا عمن له دين، فهل يعقل من على أمير المؤمنين بعد أن آلت إليه الخلافة ألا يظهر مصحفه، فما يمنعه من ذلك وقد آل إليه الأمر؟!
ثالثًا: كذب الرافضة كعادتهم في حق الصحابة وزعمهم وقوع خلافات كثيرة بينهم حول القرآن، ومما قالوا في ذلك:
لما انتشرت مصاحف الصحابة في أوساط المسلمين، ووجدوها مختلفة في ترتيب السور والقراءة، بدأوا يخطّئون بعضهم البعض، ويعتبر كلّ واحد قراءته هي الصحيحة، وينتقد قراءة الطرف الآخر، فثارت فيما بينهم خلافات كثيرة حول القرآن، وكما قال السيد محمد باقر الحجتى ناقلًا عن الطبري إن الشجار قد كان يبلغ درجة تكفير بعضهم البعض
(2)
، ومن هنا قرّر عثمان بن عفان أن يوحّد المصاحف، فشكّل لجنة من أربعة أشخاص، وأمرهم بجمع نُسخ القرآن كلّها، وتدوين نسخة واحدة، وحرق ما سواها.
(3)
.
ومن ذلك الكذب الجليِّ قولهم:
(1)
- سليم بن قيس: 110، وعنه في بحار الأنوار: 92/ 42 ح 1.
(2)
-الحجتي، بزوهشي در تاريخ قرآن كريم، ص 438
(3)
الحجتي، بزوهشي در تاريخ قرآن كريم، ص 440؛ محمد هادي معرفة، التمهيد، ج 1، ص 346.
أن الصحابة كاد يكفر بعضهم بعضًا، وقد سبق معنا في سبب جمع عثمان على "الإمام"، وسبق ذكر موقف حذيفة بن اليمان لما رأى رضي الله عنه من اختلاف القراء في العراق وقت فتح إرمنية وأذربيجان، ركب إلى المدينة وأخبر الخليفة الرشد عثمان لتدارك الأمر، فقال:
يا أمير المؤمنين أدرك الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
وقد روى البخاري هذا الخبر بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك- رضي الله عنه حدثه:
" أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمنية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
…
".
(1)
فالخلاف لم يحدث بين الصحابة الذين شهدوا التنزيل وإنما حدث بين من لم يشهد التنزيل ممن جاء بعدهم، وبين من دخل الإسلام من العجم الذين لم يحسنوا العربية بعد، وكل هؤلاء لم يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن أي حرف قرئ به فهو شاف كاف، وكان قراء الصحابة كل منهم يقرئ ويعلم بالحرف الذي تَلَقِّاه من فِيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمه منه، والذي انتشر في الأمصار ليس المصاحف، إنما هم الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم، انتشروا يعلمون الناس أي التنزيل وفهم مشكل التأويل.
رابعًا: زعمهم أن المصحف العثماني حافلًا بالأخطاء الإملائية:
ومن عظيم افترائهم على المصاحف العثمانية قولهم:
وكان المصحف العثماني حافلًا بالأخطاء الإملائية، وأن عددها يبلغ أكثر من 7000 خطأ، ولكنه لا يضرّ بشأن القرآن؛ لأن حقيقة القرآن هي ألفاظه وليست مكتوبه.
(2)
(1)
- ينظر: صحيح البخاري: (4/ 1908) ح (4720).
(2)
التمهيد لـ " محمد هادي معرفة"(ت: 1427 هـ)(1 - 366) وما بعدها.
خامسًا: اتهامهم الصحابة بالتساهل في تدوين المصاحف العثمانية، حيث قالوا:
قد حدثت تساهلات واضحة في تدوينه، ومن هذا المنطلق حدثت أخطاء إملائية كثيرة في المصاحف العثمانية، وبما أن المصاحف لم يقارن بعضها ببعض اختلفت بعضها عن بعض، وأن أهل الشام كانوا يعتقدون بأن مصحفهم ومصحف البصرة أصح من مصحف الكوفة؛ لأن
مصحف الكوفة أُرسل إليهم بعد المقارنة والتصحيح، وأن عثمان بعد أن شاهد المصحف العثماني قال: لو كان المُملي من طائفة هذيل والكاتب من طائفة ثقيف لما حدثت كلّ هذه الأخطاء.
(1)
سادسًا: اتهامهم الصريح للصحابة بتحريف القرآن
"
…
أن القرآن تعرض لتحريف شديد من قبل الصحابة أثناء عملية الجمع، وأن عثمان رضي الله عنه قد أسقط منه خمسمائة حرف".
(2)
سابعًا: طعنهم في أخلاق ابن مسعود رضي الله عنه واتهامه زورًا وبهتانًا بالطعن في أعضاء لجنة "الجمع العثماني" حيث قالوا:
لم يختلف الصحابة مع عثمان مبدئيًا في توحيد المصاحف،
(3)
كما لم يختلفوا معه في منهج التدوين إلا عبد الله بن مسعود، حيث حدثت بينه وبين عثمان مشاجرة لفظية شديدة، وكان ابن
مسعود يعتقد بأن أعضاء لجنة تدوين المصحف العثماني فاقدو الخبرة والتجربة، فرفض أن يقدّم إليه مصحفه.
رد هذه الفرية:
وهذه فرية واضحة جلية وقد سبق الكلام عنها في طيات البحث عند عرض الشبهة السابعة وردها، فابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لم يتشاجر ولم يتلفظ، لما لا ومن هو في سبقه للإسلام ومكانته وعلمه وفضله وعلو قدره، ثم إنه كان في الكوفة، وعثمان حين شرع في جمع المصحف كان بالمدينة، ومن أشد من البهتان والزور- كذلك- ادعائهم أن اعتراض ابن مسعود كان بسب أنه:" يعتقد أن أعضاء لجنة تدوين المصحف العثماني فاقدو الخبرة والتجربة" كيف هذا وهو لم
(1)
- التمهيد (1/ 348 - 349).
(2)
- يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 81)، و ((مقدمتان في علوم القرآن)) ((مقدمة كتاب المباني)) لمجهول و ((مقدمة ابن عطية)) (ص: 78) وما بعدها تصحيح: د/ آثر جفري - مكتبة الخانجي - الطبعة الثانية 1392 هـ - 1972 م القاهرة. انظر: ((شرح المولى محمد صالح المازندراني على الكافي)) للكليني (11/ 76) مع تعليق الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني، من منشورات المكتبة الإسلامية 1388 هـ طهران (بدون رقم الطبعة).
(3)
- التمهيد، لـ"محمد هادي معرفة"(1/ 399).
يعترض على لجنة الجمع أصلًا، وإنما قال كيف أمنع وزيد يلعب مع غلمان المدينة، ولنا أن نتأمل قوله:
"فو الّذي نفسي بيده، لقد أخذت من فِيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة وزيد بن ثابت عند ذلك يلعب مع الغلمان".
(1)
وابن مسعود- رضي الله عنه لم يشك في الجمع ولا في لجنة الجمع بقيادة زيد بن ثابت ولا في أهلية أحد منهم، ولا في الصحف العثمانية، وكل في ما في الأمر أنه يرى أهليته لذلك، ولم يطعن في
أهلية زيد وقدره ومكانته، وقد أمضى الخليفتان أهليته لذلك وقَرَّرَاها، واعتراضه- رضي الله عنه-لا ينافي عدم أهلية زيد لهذه المهمة، ولاشك في إصابة اختيار الخليفتين لزيد، وقد علما مؤهلاته وقدراته التي أهلته لتلك المهمة، لكنه رأى في نفسه كمال وتمام الأهلية لذلك، ولم يكن اعتراضه على الجمع نفسه وعلى طريقته ولا على لجنة الجمع، وإنما كان على عدم إشراكه وقيامه به مع أهليته، فقد تحققت فيه مقومات تؤهله لهذه المهمة والتي من أجلها تّزكية النبي صلى الله عليه وسلم له، وشهوده العرضة الأخيرة، وقد ثبت بما لا يدع مجال للشك رجوعه- رضي الله عنه لرأي الجماعة ولزومها ومما يؤيد ذلك ويؤكده ويوضحه أنه ما لبث أن فاء ورجع لإجماع الصحابة- رضي الله عنهم على فعل عثمان في تحريق المصاحف وجمعهم على المصحف الإمام، وقدم مصحفه للحرق وذلك لما علم أنه الحق، وأما الذي ثبت عنه رضي الله عنه: أنه تمسك بقراءته لا غير، وقراءة عاصم بن أبي النَّجود المنقولة عنه بالتواتر من طريق أصحابه من أهل الكوفة خير شاهد لرجوعه ولزومه أمر الجماعة.
وفي ذلك يقول ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
"روي عن عبدالله بن مسعود أنه غضب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلَّم في تقدُّم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، فكتب إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه يدعوه إلى اتِّباع
الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب عبدالله بن مسعود، وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة-رضي الله عنهم أجمعين-".
(2)
كل هذا الترهات الباردة سبق بيانها والرد عليه في مبحث الشبهات الواردة حول الجمع العثماني ودحضها بما لا يدع مجال للشك، وبما يرد كيد الرافضة الطاعنين في كتاب رب العالمين ومن سار على نهجهم من سائر أعداء الملة والدين، والحمد لله رب العالمين.
(3)
(1)
- سبق الحديث بطوله مع تخريجه في جواب الشبهة السابعة الواردة على المصاحف العثمانية و وردها.
(2)
- البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 228). بتصرف يسير.
(3)
- وهذا المبحث هو: المطلب الرابع من المبحث الثاني في الفصل الثالث
عقيدة الرافضة في القرآن
أَوَّلْتُمُ القُرْآنَ أَيْضًا مِثْلَمَا
…
أَثْبَتُّمُ التَّحْرِيفَ لِلْقُرْآنِ
أَعْنِي بِهِ التَّخْرِيبَ لَفْظًا بَعْدَمَا
…
قَابَلْتُمُ مَعْنَاهُ بِالنُّكْرَانِ
وَزَعَمْتُمُ سَقطًا أَخَلَّ بِآيِهِ
…
وَكَذَبْتُمُ أُخْرَى بِلا بُرْهَانِ
وَالبَعْضُ أَفْضَى بِالحَمَاقَةِ أَنَّمَا
…
ذَا ثُلْثُهُ وَالسَّاقِطُ الثُّلُثُانِ
أَخْفَاهُ عَنْ عَيْنِ الصَّحَابَةِ رَبُّنَا
…
وَاخْتَصَّكُمْ بِالعِلْمِ وَالعِرْفَانِ
وَأَضَفْتُمُ سُوَرًا بِأَكْمَلِهَا إِلَى
…
نَصِّ الكِتَابِ بِشُورَةِ الفَتَّانِ
ذَاكَ الَّذِي أَوْحَى لِقَوْمٍ قَبْلَكُمْ
…
فَأُقِيمَ لاعِنُهُمْ بِكُلِّ لِسَانِ
وَشَرَطْتُمُ لِقِيَامِ حُجَّتِهِ إِذًا
…
بَعْثَ الإمَامِ فَذَاكَ ذُو سُلْطَانِ
وَقَضَيْتُمُ مَعْنَاهُ قِشْرًا ظًاهِرًا
…
وَالعِلْمُ مِنْهُ يُرَادُ بِالإبْطَانِ
وَطَلَبْتُمُ فَهْمَ الإمَامِ مُفَسِّرًا
…
لِصَرِيحِ قَوْلٍ جَاءَ بِالتِّبْيَانِ
وَرَضَيْتُمُ حُكْمَ الإمَامِ بِنَسْخِهِ
…
فَجَعَلْتُمُوهُ كَمُصْحَفِ النَّصْرَانِي
طَوْرًا يزِيدُ وَبَعْدَ حِينٍ يَنْطَوِي
…
تَبًّا لأَهْلِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ
وَاللهُ رَبِّي قَدْ تَوَلَّى حِفْظَهُ
…
وَوَقَاهُ مِنْ كَذِبٍ وَمِنْ بُطْلانِ.
(1)
وبهذا ينتهي المطلب الخامس: أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني.
والحمد لله رب العالمين.
المبحث الخامس: المرحلة الرابعة لجمع القرآن الكريم:
وهي مرحلة الجمع الصوتي للقرآن الكريم، أي "تسجيله تسجيلًا صوتيًا"
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فكرةُ هذا الجمع وظهور أول تسجيل للقرآن الكريم كاملًا
توطئة وتمهيد:
قد مر معنا في طيات البحث دراسة جمع القرآن في عهوده الثلاثة، وتبين لنا بواعث وتداعيات كل عهد وما تميز به عن الجمع الذي سبقه، ثم تجلى وتبين لنا أهم ما تميز به الجمع في عهوده الثلاثة "مجتمعة" والذي تمثل في:
قوة وعمق إيمان الصحابة وعنايتهم بكتاب ربهم، وعلو همتهم في جمع القرآن وتقييده وكتابته في السطور، وحفظه في الصدور، والمشقة البالغة والمعاناة الشديدة التي واجهتهم في مع بداءة أدوات الكتابة وندرتها في وقتهم، ومع ذلك كله فقد تخطوا بعون الله وتوفيقه كل هذه الصعاب وتلك
(1)
- فضائح الشيعة، من القصيدة الموسومة بـ " ألفية الفرق والمناهج المخالفة""الشّهب الطّوالع على قلاع أهل الشّرك وأصحاب البدائع الناجية"، الجزء الثاني، لـ"مراد قرازة". يُنظر: منتديات التصفية والتربية السلفية.
العقبات والأزمات والأحوال والملابسات التي عايشوها وقت الجمع في عهوده الثلاثة، وإن هذا وغيره مما يدلل على دقة وعمق وغزارة علمهم بكتاب ربهم، وإجلالهم لكتابه، وتعظيمهم لشعائره سبحانه، هذا مع ما تحلوا به من أمانة علمية مصحوبة بورع شديد لا مجاملة معه في حق الله تعالى وحق كتابه الكريم، لما لا وهم الذين عاينوا تنزل القرآن غضًّا طريًّا، فعاصروا أحداث وأسباب نزوله، ففهموا مراد الله منه فكانوا بذلك في طليعة خير أمة أخرجت للناس، فهم خير من فقه عن الله، وخير من آمن بالله ورسوله، وخير من فهم مراد الله عن الله تعالى، وخير من بَلَّغ عن الله ما عَلِمه من دينه سبحانه، ولاسيما في تعليم كتاب الله تعالى على الوجه الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قرأه ونطقه وتلفظه به أمامهم جميعًا، وقد كان منهم من يعرف
الكتابة ويحسنها ويتقنها، ومنهم ومن لا يعرفها، وكانوا جميعهم يستمعون لقراءته ويتلقون عنه صلى الله عليه وسلم مشافهة فيعيدون عليه ما تلقونه سماعًا وهو يستمع لقراءتهم فيقرهم على ما أصابوا فيه، ويصوب ويصحح لهم ما يحتاجون لتصويبه وتصحيحه، فجمعوا بذلك تلقي القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم منطوقًا ومسموعًا، كما جمعوه في عهوده الثلاثة كذلك مكتوبًا، فاجتمع لديهم رضي الله عنهم أعلى درجات الضبط والتلقي والإتقان بالنقل الكتابي والنقل الصوتي جميعًا وقد وصل القرآن لكل جيل متواترًا بهذين الأسلوبين حتى وقتنا الحاضر وإلى أن يرفع في آخر الزمان ..
وكما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا غاية في الحرص على حفظ ما يتنزل من القرآن، مع ما فتح الله عليهم من علومه وأسراره ما لم يفتح بمثله على غيرهم، لسبقهم وفضلهم، ومع ما حباهم الله من زكاة في نفوسهم، وصفاء في قلوبهم، وذكاء في عقولهم، وسيلان في أذهانهم، وقوة في حافظتهم، وهم العرب الخلّص الذين يفهمون بسليقتهم العربية معانيه و ويدركون بها مقاصده ومراميه.
وإنهم - رضي الله- كما كانوا أئمة في التعلم والتلقي، كانوا-كذا- أئمة في تحمل أمانة البلاغ عن الله تعالى، وفي تعليم كتاب الله على النحو الذي تلقوه به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.
وبدراسة الجمع في عهوده الثلاثة دراسة تأصيلية تفصيلية، وبعقد مقارنة بين ما وصل إليه حال المصحف وما انتهى إليه جهد الصحابة وتابعيهم بإحسان حتى جُمع المصحف جمعًا صحيحًا سليمًا من أدنى تحريف، أو زيادة أو نقصان، أو تبديل أو تغير، لا يسع المؤمن إلا أن يحمد الله على هذه النعمة العلية، ثم بمتابعة نَسْخِ المصاحفِ وانتشارها في الأمصار، ثم بالتأمل فيما طرأ على كتابة المصحف الشريف بعد ذلك من تطور وازدهار إثر ظهور آلات الطباعة الحديثة وتطورها وانتشارها في أقطار الدنيا، والعناية الفائقة التى لقاها المصحف الشريف في هذا الجانب حتى وصل إلي تطور في جودة طباعته وسرعة انتشاره في الآفاق بصورة لم تكن لتخطر على قلب
بشر، ليتيقن كل مؤمن بتحقق وعد الله تعالى الذي لا يتخلف ولا يتغير ولا يتبدل بحفظ كتابه، كما قال سبحانه في محكم التنزيل:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
وما تزال رحمات الله الواسعة السابغة تتوالى وتتابع تترًا على هذه الأمة المرحومة، التي هي أعز الأمم وأكرمها على خالقها سبحانه.
قال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله:
فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه في علومهم، وعقولهم، وأحلامهم، وفطرهم، وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم، وعقولهم، وأعمالهم، ودرجاتهم، فازدادوا بذلك علمًا، وحلمًا، وعقولاً، إلى ما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من علمه وحلمه.
(1)
.
وكما أن الله تعالى - ذكره- قد ضمن لحفظ كتابه-كِتَابَتَهُ- محفوظًا في السطور -وضبطه- محفوظًا في الصدور، فقد هيأ سبحانه من الأسباب- كذلك- مما يدخل ويندرج ضمنًا تحت مسمى حفظه- تعالى- لكتابه المجيد، وذلك بحفظه مسجلًا ومضبوطًا بتلاوة أئمة الأداء وسادات التحبير والترتيل، سالمًا من اللحن الجلي والخفي على النحو الذي نزل به الأمين جبريل عليه السلام على خاتم النبين والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال ربنا سبحانه:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)(الشعراء: 192 - 195)
فقد تلقاه الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم نقلوا لجيل التابعين كما تلقوه تمامًا بكل دقة وإتقان، وهكذا جيل التابعين نقله لمن من بعدهم من جيل تابعي التابعي، وهو ما نسميه بالنقل الصوتي للقرآن الكريم، ومما يدلل على ذلك ما رواه البخاري بسنده عن
شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.
(2)
وهكذا أخذ تعلم القرآن وتعليمه ينتقل من جيل إلى جيل بالأسانيد الثابت الصحيحة إلى منتهى السند وأعلاه -إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة جل في علاه-. وذلك لأن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول، يأخذها صحيحة مضبوطة مصحوبة بسلامة النطق من اللحن وما يتبع ذلك من سلامة وصحة الإعراب، وليس لأحد مخالفة ذلك أبدًا، وذلك لأن السلف من الصحابة والتابعين كانوا يحذرون من اللحن في الأداء، بل كانوا ينكرون على من يقرأ بغير إعراب بل ويحذرون من ذلك ويمنعون منه.
(1)
- يُنظر: زاد المعاد، لابن القيم (4/ 379).
(2)
- رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ح 5000. يُنظر: الصحيح مع فتح الباري (8/ 662).
وفي نحو هذا يروي أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) رحمه الله بسنده إلى أبي بكر فيقول:
حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، قال: حدثني أبو الأزهر، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لأن أعرب آية من القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية.
ولا شك أن تلقي القرآن مشافهة فيه ضمان لسلامته من التحريف والتغير والتبديل ولا شك كذلك أن التسجيل الصوتي فيه إثبات عملي لهذا التلقي بصورته الصحيحة المنقولة بالتواتر مشافهة منذ عهد نزوله الأول إلى زماننا الحاضر، وسيبقى كذلك إلى آخر الزمان الذي يُرفع فيه القرآن من الصدور والسطور.
حكم تسجيل القرآن الكريم:
أجاب شيخنا العلامة الإمام ابن باز (ت: 1420 هـ) رحمه الله: عن سؤال وجه إليه في حكم تسجيل القرآن الكريم فقال رحمه الله تعالى:
لا حرج في تسجيل القرآن والأحاديث المفيدة، وفي ذلك نفعٌ عظيمٌ للمسلمين، وقد جرب المسلمون ذلك.
ولا مانع من تسجيل القرآن ولا سيما بالأصوات الحسنة التي تحرك القلوب، وتخشع لها القلوب، كما يسجل أيضًا للعلم النافع، من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كلام أهل العلم، كل ذلك لا بأس به والحمد لله
(1)
.
ظهور أول تسجيل لبعض سور القرآن:
وإن من نعم الله على عباده تعبيد ما حباهم ووهبهم من نعم وتسخيرها على وجه يقربهم من محابه ومراضيه، ومن ذلك آلات التسجيل الصوتي التي أفاد منها المسلمون منذ وصولها إلى أيديهم، فسُجِّلت بعض المواعظ والدروس العلمية كما سجلت بعض تلاوات القرآن لمشاهير القراء وقت ظهورها، وكان في طليعة تلك التسجيلات بعض التلاوات القديمة،
والتي كان من أولها:
أقدم تسجيل صوتي لتلاوة من القرآن الكريم- وصلنا- في حدود بحثنا الضيق- كان في الحرم المكي الشريف بمكة المكرمة، وكان هذا التسجيل لسورة الضحى، وذلك عام: 1302 هـ،
(1)
نور على الدرب، ما حكم تسجيل القرآن الكريم عبر المسجلات الحديثة، عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز رحمه الله.
الموافق: 1885 م
(1)
، والباحث قد وقف على هذا التسجيل واستمع إليه، وبعد البحث والتحري لم يتمكن من الوقوف على معرفة القارئ الذي سجلت له السورة
(2)
.
وكان تاليها:
تلاوات للشيخ محمد رفعت رحمه الله.
(3)
، وإذا كان ميلاد الشيخ "رفعت" سنة 1300 هـ، الموافق: 1882 م، فلابد أن تكون تلاوته بعد ذلك بسنوات، وقد ثبت أنه تولى القراءة
(1)
- يُنظر: موقع "دارة الملك عبدالعزيز" رحمه الله التي قامت بنشر هذا التسجيل النادر على حسابها الرسمي بـ "تويتر"، وعلى قناتها الخاصة باليوتيوب عبر الرابط التالي: https:// youtu.be/ o 3 vMRJ 6 xgUs.
والذي أجرى تسجيله المستشرق الهولندي الدكتور كريستيان سنوك هورخرونيه عام 1302 هـ الموافق 1885 م، والذي تقول بعض المصادر: أنه قام بهذا التسجيل بعد أن (أسلم) وشهد موسم الحج، ومازالت جامعة لايدن بهولندا محتفظة بهذا الإرث التوثيقي التاريخي حتى وقتنا الحاضر. وكان هذا التسجيل ذلك بواسطة أسطوانات الشمع والتي اخترعها "توماس أديسون" في وقت قريب من هذا التاريخ.
(2)
- غير إن الباحث وقف مؤخرًا على كلام مفاده أن الصوت المسجل إنما هو للشيخة سكينة حسن القارئة المصرية، وبالفعل بالمقارنة بين أول تسجيل للقرآن من سورة الضحى من مكة المكرمة وبين تسجيلات أخرى لها تجد الصوت وطبقاته وطريقة الأداء شبه متطابقة، إن لم تكن متطابقة تمامًا، ومع ذلك للأمانة العلمية تم ذكر ما بلغنا علمه (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) (يوسف: 81) والله أعلم.
(3)
- هو القارئ الشيخ محمد بن محمود رفعت، أشهر القراء في العصر الأخير، وأعلم قراء مصر بمواضع الوقف من الآيات، امتاز ببراعة في الترتيل، وإتقانٍ للتجويد، في صوتٍ عذب ينفذ إلى القلوب، وتطمئن إليه النفوس، ولد بالقاهرة سنة 1300 هـ، 1882 م، وكُفَّ بصره وهو في السادسة، وتوفي بالقاهرة سنة 1369 هـ، 1950 م. الأعلام لخير الدين الزركلي (7/ 91).
وقد تولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب سنة 1918 م حيث عين قارئًا للسورة وهو في سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، وحرص النحاس باشا والملك فاروق على سماعه.
ولقد افتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934 م، وذلك بعد أن استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز ذلك فافتتحها بآية من أول سورة الفتح:(إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)(الفتح: 1)، ولما سمعت الإذاعة البريطانية "بي بي سي" العربية صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظنًا منه أنه حرام لأنهم كفار، فاستفتى الشيخَ محمد مصطفى المراغي - شيخ الجامع الأزهر- فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.
وفى أواخر شهر مايو عام 1934 م افتتحت الإذاعة المصرية وفى يوم الجمعة السابع من شهر ديسمبر تعاقدت معه الإذاعة لقراءة القرآن الكريم على الهواء مباشرة وفى الخامس من شهر يناير عام 1935 م أبرمت عقدا آخر معه يقضى بقراءته مرتين على الهواء الأولى من الساعة التاسعة وحتى العاشرة إلا الربع مساءً والثانية من الساعة العاشرة والنصف وحتى الحادية عشرة والربع مساءً وفى ذلك الوقت هاج البعض بدعوى أن قراءة القرآن الكريم بالإذاعة بدعة فأصدر شيخ الأزهر الأحمدي الظواهري فتوى مفادها أن قراءة القرآن الكريم فى الإذاعة ليست محرمة أو مكروهة.
والشيخ محمد رفعت عشق مصر ولذلك لم يغادرها ولم يستجب للدعوات الكثيرة التى وصلته من الدول العربية والأجنبية، ففي عام 1935 م عرض عليه الذهاب إلى الهند مقابل 15 ألف جنيه ولكنه أعتذر فوسط "نظام حيدر" "الهندي" الخارجيةَ المصرية وزاد المبلغ إلى 45 ألف جنيه ولكنه رفض بقوله: أنا لا أبحث عن المال أبدًا، فإن الدنيا كلها عرض زائل.
وقد تجاوزت شهرته المحلية إلى العالمية حيث حرصت إذاعات لندن وباريس وبرلين على إذاعة تسجيلاته أثناء الحرب العالمية الثانية لجذب أسماع المستمعين.
بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب- بالقاهرة- وقيل كان ذلك سنة 1918 م حيث عين قارئًا للسورة
(1)
، قيل: وهو في سن الخامسة عشرة، ويُستبعد هذا العمر لكونه من مواليد: سنة 1882 م، فيكون عمره وقتئذ ستًا وثلاثين سنة-على العموم- لا يُظن أبدًا أنه سجل قبل هذا العمر المبكر، ألا وهو سن (الخامسة عشرة) الذي هو عمره وقت تعينه كقارئ سورة، وليس عمره وقت أول تسجيل له، وعلى كل الأحوال يأتي ترتيب تسجيل الشيخ "رفعت" ثاني تسجيل ظهر زمانيًا بعد أول تسجيل ظهر لـ"سورة الضحى" من "الحرم المكي" والذي كان عام 1302 هـ، الموافق: 1885 م، والشيخ في هذه السنة ما يزال في المهد، وهذا مما لا شك فيه البتة.
وكانت آلات التسجيل وقتها بدائية، ومما يدلل على ذلك رداءة التسجيل المصحوب بعدم وضوح الصوت وصفائه ونقائه تمامًا في بعض تلك التسجيلات.
كانت هذه البداية- في حدود علم الباحث الضيق، وما وصل إليه جهده الضئيل، ثم تتابع وتوالى بعد ذلك تسجيل تلاوات متفرقة لمشاهير القراء.
بداية فكرة التسجيل الصوتي للقرآن الكريم كاملًا (المصحف المرتل):
أول من قام بهذه الفكرة هو الدكتور النبيل/ لبيب السعيد
(2)
رحمه الله تعالى
وفي عام 1943 م أصيب فضيلة الشيخ محمد رفعت بسرطان في الحنجرة وكان يعرف وقتها بمرض "الزغطة" ولذا توقف الشيخ عن القراءة ولم يكن يمتلك تكاليف العلاج واعتذر عن قبول أي مدد أو عون من رؤساء وملوك العالم الإسلامي وقال: قارئ القرآن لا يهان.
وعندما مرض الشيخ محمد رفعت قاد الأديب الكبير فكرى أباظة حملة صحفية لجمع التبرعات المالية له ولكنه رفض بشدة واقترح تخصيص وتوجيه هذه التبرعات للأيتام.
وفى يوم مولده الاثنين التاسع من شهر مايو ولكن فى عام 1950 م فاضت روحه إلى بارئها وأراد حسين الابن الأصغر للشيخ الجليل أن يجمع تسجيلاته وبالفعل وجد مجموعة من التسجيلات لدى زكريا باشا نوران وذات يوم قالت زوجته: برغم نشاطات زوجي زكريا باشا نوران فى الاقتصاد والمحاماة والسياسة والتأليف إلا أن اسمه لم يذكر إلا مقرونًا بأنه الذى سجل مجموعة من التسجيلات للشيخ محمد رفعت وقد تكونت جمعيات من محبى الشيخ الجليل وتم تجميع أكثر 278 اسطوانة مدتها 25 ساعة تضم 19 سورة من سور القرآن الكريم بصوته العذب.
وترجع الغالبية العظمى من الأشرطة التي تذاع اليوم للشيخ محمد رفعت إلى مستمعيه الذين لم يكونوا على صلة صداقة أو معرفة به بل دفعهم الاعتراف بحسن تلاوته وجمال صوته إلى تسجيل كل ما يتلوه للاحتفاظ بتسجيلاته.
فرحم الله الشيخ الجليل ورفعة درجته في المهدين وأخلفه في عقبه في الغابرين وجعله من ورثة جنة النعيم. الباحث.
يُنظر: الشيخ محمد رفعت-موقع ديوان العرب، بقلم إبراهيم خليل إبراهيم، بتاريخ: 22/ 8/ 2016 م، محمود السعدني -ألحان السماء (وهي تسمية فيها نوع تجاوز في تسمية تلاوة القرآن بالألحان- الباحث) - كتاب اليوم - يناير 1996، (ص: 18). بتصرف يسير.
(1)
- وقرئ السورة: هذه الوظيفة يقوم القارئ فيها بتلاوة القرآن من خلال مكبر الصوت في أوقات محددة، ألا وهي: قبيل صلاة الفجر والعصر من كل يوم بين الآذان والإقامة، وكذلك يوم الجمعة قبل صعود الخطيب على المنبر بقرابة ساعة أو نحوها، ولا شك أن هذا أمر محدث ليس عليه عمل السلف، مع ما يحثه من تشويش على المصلين، وسيأتي الكلام عليه بالتفصيل بعد قليل مع كلام أهل العلم.
(2)
- مولد: بمصر في 8/ 12/ 1914 م
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقد ولد بمصر في محافظة المنصورة، والتي هي عاصمة محافظة الدقهلية، وهي كذلك عاصمة مركز المنصورة، والتي تطل على الضفة الشرقية لفرع دمياط بنهر النيل. وتقع المنصورة على بعد 45 كم من مدينة دمياط، وتواجه مدينة طلخا مباشرةً. وتبعُد عن شمال شرق العاصمة-القاهرة- 120 كم، وتُعتبر ثاني أكبر مدن الدلتا بعد مدينة المحلة الكبرى.
نشأته
نشأ رحمه الله في بيئة دينية، نشأ علي حب القرآن واللغة العربية، وكان أبوه تاجر غلال وكان على درجة عالية من الحرص على تثقيف أبنائه فكانوا حوله على المائدة يقرأون بشغف كتب الأدب والفقه واللغة والشعر، ويتابعون باستمتاع الخلافات والمساجلات الأدبية التي كانت تنشر في مجلات الرسالة والمقتطف والبلاغ وغيرها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
دراسته التعليمية
- تدرج في المراحل التعليمية الابتدائية ثم المتوسطة ثم الثانوية بالمنصورة.
- التحق بجامعة القاهرة فتخرج منها ثم حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة القاهرة.
وظائفه التي تقلدها:
لقد تقلد عددًا من الوظائف والتي كان من أبرزها ما يلي:
أولًا: عمل في وزارة المالية المصرية، وكان يشغل منصب المراقب العام بمصلحة الاستيراد
ثانيًا: عمل محاضرًا فى علم الاجتماع بجامعة الأزهر، ومدرسًا للأدب العربي بكلية الآداب، وقيل بكلية التجارة- كذلك- بجامعة عين شمس
ثالثًا: عمل في وزارة الأوقاف المصرية، وقد انتقل إليها ليشرف على تنفيذ مشروعه "الجمع الصوتي للقرآن"
رابعًا: عمل كأستاذ لعلم الاجتماع الإسلامي، وعلوم القرآن، فى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-بالرياض حتى منتصف الثمانينات الميلادية
خامسًا: ترأس الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم
انتاجه العلمي:
كما كان له في مجال التصنيف العلمي بعض المؤلفات، والتي من أهمها ما يلي:
1 -
الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو المصحف المرتل بواعثه ومخططاته
الناشر: دار الكاتب العربي (القاهرة)(1967 م، 640 صفحة)
2 -
المقارئ والقراء دراسة اسلامية (مطبعة السعادة، 1976 م، 108 ص)
3 -
الأذان والمؤذنون (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970 م، 140 ص)
4 -
رسم المصحف - المشكلة والحل (مجمع البحوث الإسلامية 1970، 52 ص)
5 -
التغني بالقرآن بحث فقهي تاريخي (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970 م)
6 -
دراسة إسلامية فى العمل والعمال (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970 م، 141 ص)
7 -
العلاقات العمالية الإنسانية فى المجتمع الحديث (دار الكرنك القاهرة، 1961 م، 203 ص)
8 -
دفاع عن القراءات المتواترة فى مواجهة ابن جرير الطبرى (دار المعارف 1978 م، 158 ص)
9 -
الشيوعية فى موازين الإسلام (دار عكاظ جدة 1979 م، 124 ص)
10 -
العمل الاجتماعي - مدخل إليه ودراسة لأصوله الإسلامية (دار عكاظ جدة 1980 م، 216 ص)
11 -
شريعة وعطاء (نهضة مصر 1987 م، 191 ص)
12 -
ينابيع الوحي الإلهي: البنية الإيقاعية-ولفظة ("الإيقاعية" لا تليق بكلام الله أبدًا، ولكن الظاهر أن التسمية لأصل الكتاب الذي كتبه مؤلفه "بيير كرابونا") - في السور المكية، وهى رسالة دكتوراه قدمها المستشرق بيير كرابونا دى كابرونا إلى كلية الآداب في جامعة جنيف، وصدرت هذه الدراسة في باريس عام 1981 م، عرض ونقد الدكتور لبيب السعيد (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 34 ص).
وندع المجال للدكتور/ لبيب السعيد رحم الله ليحدث بنفسه عن بداية مشروعه العملاق حيث يقول:
وأعود إلى ما قبل إعلاني عن مشروع المصحف المرتل ببضع سنين لا أستطيع تحديدها بدقة. منذ يومئذ وأنا أحس أن جمعًا صوتيًا بكل قراءاته المتواترة والمشهورة أمرٌ يجب أن ينهض به أهل هذا الزمان.
وكنت أتابع، في المقارئ الكبرى بالقاهرة، المتميزين من علماء القراءات، وكان يؤلمني أنه كان إذا مات منهم أستاذٌ حاذقٌ خَلَفَه أحيانًا مَنْ لا يعدله أستاذيةً وحذقًا، وضاعت على المسلمين ـ إلى الأبد ـ مواهب الميّت لأنها لم تُسجَّلْ.
ما كان أعظم شعوري بالخسارة الفادحة المستمرة على مدى الزمن في القراء الذين يموتونّ! ذلك أن إنتاجهم ـ بطبيعته ـ غير إنتاج غيرهم من أصحاب العلوم والفنون، فهؤلاء يستطيع الواحد منهم ـ بفضل الكتابة ـ أن يواصل ـ بعد موته ـ الحياة في إنتاجه، أما أصحاب التراث الصوتي، وفي مقدمتهم القُرَّاء، فكان تراثهم يفنى بفنائهم، لأن العلم لم يكن اهتدى بعدُ إلى طرائق تسجيل هذا التراث
(1)
. وحتى بعد الاهتداء، تأخر تسجيل المصحف أمدًا غير قصير.
(2)
13 - الدراسة الأولى فى مناهج البحث الاجتماعي فى القرآن الكريم وعند علمائه ومفسريه/ بقلم لبيب السعيد الناشر: جدة، السعودية: دار عكاظ للطباعة والنشر، 1980 م ط. 1. الوصف: 183 ص.؛ 20 سم. وغيرها من المؤلفات.
نشاطه ومشاركاته الإذاعية:
كما كان رحمه الله له مشاركات إذاعية متعددة هادفة وبناءة في الإذاعات المسموعة والمرئية والتي كان من أبرزها: سلسلة حلقات تحت عنوان: "معارف قرآنية" والتي بثتها إذاعة الرياض فى السبعينيات الميلادية من القرن الماضي ..
كما أنه كان من أهم من تصدوا لدعاوى المستشرقين الطاعنين على الإسلام، وله فى ذلك رسائل متعددة.
وفاته:
توفى رحمه الله فى 22 يناير 1988 م بمصر.
تم نقل ترجمته على لسان ولده/ أحمد بن لبيب السعيد عن مقال في موقع "مزامير آل داود" بعنوان: "الشيخ الحصري والدكتور لبيب السعيد وفكرة الجمع الصوتي الأول للقرآن"، لـ" فراس الطائي"، بتاريخ: 121/ 11/ 2007 م. بتصرف يسير.، وللاستزادة يُنظر: الشبكة الإسلامية بتاريخ: 31/ 1/ 2019 م
مع زيادة في بعض مؤلفات الدكتور "لبيب" المبثوثة في موقع مكتبة الملك فهد الوطنية.
وإنما كانت تلك الترجمة وفاء له، جزاء لما قدم لكتاب الله، ولعلها تكون نبراسًا لمتنافس في البذل والتضحية لخدمة كتاب الله، ولعلها تكون- كذلك من أسباب حصول الدعاء له والترحم عليه توفية لبعض حقه على كل من استفاد من هذه السنة الحسنة.
كما سر الباحث كثيرًا الوقوف على سلسلة محاضرات صوتية تحت عنوان " أحبوا هذ الرجل" للشيخ المفضال الدكتور/ محمد بن إسماعيل المقدم، وكان من تلك السلسلة محاضرة عن الدكتور لبيب السعيد وكتابه الجمع الصوتي للقرآن الكريم وكان ذلك-أيضًا- توّفية لحقه رحمه الله تعالى، كما صرح الشيخ المقدم بذلك. الباحث.
(1)
- نسبة هذه التسمية لكلام الله ولو كان مسجلًا مما ينبغي الترفع عنه إجلالًا لكلام الله تعالى. الباحث.
(2)
-الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، لبيب السعيد (ص: 101). بتصرف يسير بتعديل بعض الألفاظ.
وهذا الكلام النفيس ينبئ - ظاهره لنا- عن مكنون الرجل وحسن طويته وشغل عقله ونفسه وقلبه بهذا الأمر الجليل العظيم، ولا نتألى على الله في ذلك، ولكن كما قال الله تعالى في الإخبار عن إخوة يوسف عليه السلام:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)(يوسف: 81)
العرض الأول لفكرة المشروع:
أول الخطوات العملية
ففيه شهر شعبان من عام 1378 هـ، الموافق لنهاية شهر " فبراير"، أو أوائل شهر "مارس" من عام 1959 م.
اتخذ الدكتور لبيب السعيد أول الخطوات العملية لبداية مشروعه العملاق فتقدم إلى مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم ـ والتي كان يترأس مجلس إدارتها وقتئذ ـ بمذكرة واقتراح
قال في مضمونه:
اقتراح مقدم إلى مجلس إدارة الجمعية من رئيسها لبيب السعيد بشأن تسجيل القرآن الكريم صوتيًا بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة.
"كما تضمنت المذكرة حيثيات فكرته وهى، أن أهم وسيلة لنقل القرآن الكريم عبر الدهور، كانت ومازالت روايته وتلقينه مباشرة ومشافهة بين الشيخ المُقرئ والتلميذ المتعلم، وهذا هو المعتمد عند علماء القراءة؛ لأنَّ في القراءة ما لا يمكن إحكامه إلا عن طريق السماع والمشافهة"
…
(1)
ثم شرع "لبيب" في بيان اقتراحاته لإتمام مشروعه فيقول رحمه الله
أولًا: فيما يختص باللجنة
وأقترح تشكيل لجنة من أعضاء الجمعية تضم إليها من تشاء مِمَّن يُرجى نفعه لأعمالها، وتضع اللجنة منهاجًا كاملاً مفصلاً لتنفيذ المشروع، سواء من الناحية القرآنية، أو ناحية التسجيل الفني، أو من الناحيتين التمويلية والإدارية، كما تحدد المعاونات الممكن الحصول عليها من الجهات الحكومية والشعبية المختلفة، وكذلك تتولى اللجنة ترشيح أعضاء اللجان التي يعهد إليها باختيار علماء القرآن الكريم ممن سيناط بِهم التسجيل.
(1)
- للاستزادة يُنظر: مذكرات: أحمد عبد الله طعيمه، وزير الأوقاف، الموسومة بـ" صراع السلطة "، ويُنظر: موقع الهيئة العالمية للقرآن الكريم.
ثانيًا: فيما يختص بالتسجيل
وفيما يختص بالتسجيل نفسه، أقترح أن يشمل تلاوة الكتاب العزيز كله بقراءة
(1)
حفص، ثم بمختلف القراءات المتواترة والمشهورة وغير الشاذة، على أن لا تُرَدَّدَ الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة
(2)
، كما يشمل التسجيل دروسًا عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة ميسرة تمكن الجمهور العادي من الانتفاع بها.
أما فيما يختص بمن يتولون القراءة والتدريس العملي، فيجب أن يكونوا من أعلم علماء القرآن، مع مناسبة أصواتهم للتسجيل، وأن تختارهم لجان لها خبرتها القرآنية العظمى، ويشارك فيها الأزهر والهيئات العلمية واللغوية والثقافية الأخرى.
(3)
العرض الثاني لفكرة المشروع:
وبعد تخطي أول العقبات واستحسان الجمعية لفكرة المشروع طمع الدكتور "لبيب" رحمه الله لتوثيق أعلى لفكرة مشروعه فعرضه على وزير الأوقاف في وزارة "نور الدين طراف" -آن ذاك-، ألا وهو الوزير "أحمد عبد الله طعيمة"
(4)
فاقترح على الوزير "طعيمة" تسجيل القرآن الكريم مُرتلًا، وشكا له من أنَّه أمضى عدة سنوات محاولاً تنفيذ المشروع بصورة فردية بلا جدوى.
وعلى الفور استدعى الوزير "طعيمة" الشيخين "سيد سابق (ت: 1420 هـ)، ومحمد الغزالي (ت: 1416 هـ)، " إلى مكتبه، وكانا مسؤولين في الوزارة، وطلب منهما مناقشة "السعيد" في مشروعه.
فناقشاه وأخبراه بأنه- مشروع - جدير بالتنفيذ- فنفذه لبيب فورًا.
وقد كانت بعض الأخبار تنقل عن وجود بعض النسخ التي حاول البعض حذف آيات منها تتعلق ببني إسرائيل في بعض الدول الإفريقية.
ويقول طعيمه عن "لبيب":
بالرغم من أنه لم يكن من العاملين في الأوقاف، وقت عرض مشروعه على الوزير
(5)
، حيث كان الدكتور "السعيد" وقتها يشغل منصب المراقب العام بمصلحة الاستيراد، ومنتدبًا للتدريس أستاذًا
(1)
- ومن المعلوم أن حفص رواية وليست قراءة، ولعله سبق لسان منه- رحمه الله تعالى.
(2)
- يبدوا والله أعلم أن هذا الرأي منه رحمه الله بعد إقناعه للشيخ شلتوت الذي رفض الجمع بين القراءات حتى لا تختلف على عموم المسلمين في أول الأمر.
(3)
- الجمع الصوتي للقرآن الكريم (102 - 105).
(4)
- كان "طعمية" وزيرا للأوقاف من 24 أكتوبر 1959 حتى عام 1961، وفى عهده تم إنجاز هذا المشروع من خلال الوزارة.
(5)
- يعني بذلك نفسه، وهو أسلوب يدل على تواضع قائله
بكلية التجارة جامعة عين شمس وقد انتقل رحمه الله إلى وزارة الأوقاف ليشرف على تنفيذ المشروع ..
(1)
وعن تخطي تلك العقبة الكؤود يقول "لبيب" رحمه الله:
وحفزني الإخفاق في تمويل المشروع إلى التفكير في وضعه تحت الرعاية المالية للدولة نفسها. وفي يوم الأربعاء 24 من فبراير 1960 م، قابلت وزير الأوقاف ورجوته مساعدة المشروع ماليًا، فاستجاب فورًا وفي حماسة، وكانت استجابته مبعث طمأنينة واستبشار وأمل، وأصبح العمل شغل الوزير نفسه ومحل اهتمامه، فأفاد كثيرًا.
(2)
بعد أن تخطى الدكتور "لبيب" رحمه الله العقبة الثانية بعون الله وتوفيقه لاقى عقبات أخر، لكنها لم تثن عزمه عن المضي قدمًا نحو ما يهدف إليه، فبدأ يبحث عن معمل للتسجيل "أستوديو" ليسجل له دون مقابل مادي فلم يجد، ومع ذلك لم ينثن عزمه ومضى في البحث إلى أن وفقه الله تعالى لمعمل للتسجيل، وكأن تلك العقبات فيها من التمحيص لهمة الرجل وابتلاءً لعزمه وصبره وجلده وصدق نيته، وندع المجال لصاحب الهمة العالية ليحدث بنفسه عما لاقاه في تلك العقبة
حيث يقول رحمه الله:
وعجزتُ عن تدبير "استوديو" للتسجيل فيه بالمجان، فرغبتُ إلى نائب وزير الدولة لشؤون رياسة الجمهورية، وإلى المدير العام للإذاعة أن يأذنا لي بالتسجيل في استوديوهات الإذاعة، وسعيت في ذلك سعيًا، حتى اسْتُجيب لطلبي، بشرطٍ أصرَّتْ عليه الإذاعة، وهو أن يكون لها الحق المطلق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها، ولعل سروري بهذا الشرط وأنا أقدم به إقرارًا كتابيًا كان أكبر من سرور الإذاعة.
ثم يتابع ويقول رحمه الله:
ولستُ أنسى يومًا من أيام رجب سنة 1379 هـ (يناير 1960 م) سعيت فيه، بناء على نصيحة أحد المخلصين للمشروع، إلى ثري كبير هو وزير في إحدى الدول العربية، وكان يقيم في مصر في حي الدقي، فتلقَّى هذا الثريُّ حديثي عن المشروع بعدم الاكتراث، وخرجتُ يومها من لدنه خجلان آسفًا نادمًا.
(3)
(1)
- مذكرات طعيمه، مرجع سابق.
(2)
-الجمع الصوتي (ص: 110). الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو، المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته، المؤلف: الدكتور لبيب السعيد، الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة، تاريخ النشر: 1387 هـ، 1967 م، (د. ط).
(3)
- الجمع الصوتي (ص: 109 - 110).
سبحان الله الذي قال في محكم كتابه: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)(محمد: 38).
العرض الثالث لفكرة المشروع:
عَرْض فكرةِ المشروع على الشيخ شلتوت (ت: 1383 هـ) رحمه الله:
ولما اختمرت الفكرة ووضع الدكتور لبيب السعيد معالمها ولاقت قبولًا واستحسانًا، -عرضها على الشيخ شلتوت- فرحب بها الأزهر، وأبدى الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر ارتياحه ورضاه عنها.
اختيار الشيخ الحصري (ت: 1400 هـ) رحمه الله، وترشيحه لهذه المنقبة العظيمة
وأراد الدكتور لبيب السعيد أن يأنس بقبول الرأي العام حول التلاوة المرسلة التي سيسجل بها الجمع الصوتي حيث لم تكن مشهورة وقتها؛ فطلب من الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ)
(1)
أن يقرأ بها في حفل أقيم بقاعة المحاضرات الكبرى بالأزهر، فلاقت هذه التلاوة قبولًا عند الحاضرين.
احتاج تنفيذ المشروع الى تمويل مادي ضخم، ولم تكن جمعية "المحافظة على القرآن الكريم" ذات رصيد مادي يغطي نفقات المشروع، مما جعل الدكتور يعرض فكرة التنفيذ على الإذاعة المصرية فوافقت بشرط أن تبث ما يتم تسجيله على موجاتها حصرًا.
فانتدب الدكتور لبيب السعيد ثلاثة من أشهر القراء والعلماء لتنفيذ مشروعه الكبير وهم: الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ)، ليسجل القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم الكوفي، والشيخ مصطفى الْمَلَّواني على أن يسجل رواية خلف عن حمزة، والشيخ عبد الفتاح القاضي (ت:
1403 هـ)،، وكان يشغل رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، على أن يسجل قراءة أبي جعفر برواية ابن وردان، وانتخب- القاضي- ليكون مشرفًا على التسجيل
(2)
.
و يؤكد الوزير "طعيمة":
أن الشيخ "الحصري" رحمه الله تطوع بتسجيل القرآن كاملاً بلا أي أجر ..
ثم يتابع "طعيمة" ويقول:
وقد طالبني آخرون من المقرئين بمبالغ تصل إلى خمسة آلاف جنيه لكل منهم، وهو ما لا أملكه للإنفاق على المشروع، وقد كان الشيخ الحصري رحمه الله يعمل لمدة 12 ساعة يوميًا حتى يستطيع تسجيل القرآن كاملاً في الوقت المطلوب.
(1)
- ولم يورد الباحث ترجمته رحمه الله لاشتهارها وذيوعها بين الناس.
(2)
- نقلًا عن الشبكة الإسلامية، بتاريخ: 31/ 1/ 2019 م.
أول البشائر الكبرى "تسجيل المصحف المرتل كاملًا" وبثه عبر الاسطوانات:
الانطلاقة الكبرى لأعظم وأجل مشروع يتعلق بتسجيل القرآن بتسجيل في العصر الحديث:
لقد قام الشيخ الحصري بتسجيل رواية حفص عن عاصم
(1)
، وفق الشروط والضوابط التي وضعتها اللجنة المشرفة، وكانت تضم أساتذة فن التجويد والقراءات في مصر يتقدمهم الشيخ
عامر السيد عثمان (ت: 1408 هـ). ولم يكن التسجيل هينًا، فمع امتياز الشيخ الحصري في القراءة؛ فإن اللجنة كانت تستوقفه كثيرًا ليُعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب الغاية في التجويد والإتقان.
(2)
وكان أعضاء اللجنة المشرفة على التسجيل مكونة من المشايخ:
1 -
الشيخ عامر السيد عثمان (ت: 1408 هـ)
(3)
2 -
الشيخ عبد العظيم محمد إبراهيم الخياط (ت: 1420 هـ)
(4)
3 -
الشيخ محمد سليمان صالح (ت: 1409 هـ)
4 ـ الشيخ محمود حافظ برانق (ت: 1421 هـ)
وكل هؤلاء العلماء الأجلاء- كانوا وقتها- من مدرسي القراءات بمعهد قراءات شبرا-الخازندارة- الأزهري للقراءات- بالقاهرة-، التابع للأزهر.
(1)
- وقد اصطفاه الله وشرفه بتسجيل القرآن الكريم كاملًا بروايات متعددة: فخلف بذلك تسجيلات نافعة، تركها لتنتفع بها أمة الإسلام إلى ما شاء الله، نذكرها فيما يلي:
أولًا: المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم - 1380 هـ-1961 م. وهو الذي أقام عليه الدكتور لبيب السعيد، وهو الذي يُعد أول مصحف سجل كاملًا في تاريخ الإسلام منذ نزول القرآن من السماء.
ثانيًا: المصحف المرتل برواية ورش عن نافع المدني-1383 هـ- 1964 م.
ثالثًا: المصحف المرتل برواية قالون عن نافع المدني، ورواية الدوري عن أبي عمرو البصري 1387 هـ- 1968 م.
رابعًا: المصحف المعلِّم -1387 هـ- - 1969 م. وهذا المصحف على وجه الخصوص نفع الله به في تعليم القرآن خلق كثير لا يحصيهم كثرة إلا الله.
خامسًا: المصحف المفسر (مصحف الوعظ) -1392 هـ - 1973 م.
وقد اعتمدت هذه التسجيلات في جميع أنحاء أقطار العالم الإسلامي، وانتشرت في أرجاء الدنيا، وكتب الله لها القبول عند عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد نفع الله بها نفعًا عظيمًا حتى أصبحت مرجعًا أساسيًا يعتمد عليه المتعلمون والقراء والمستمعون جميعًا على حد سواء، ولاسيما الروايات التي يُقْرَأ بها في بعض الأقطار الإسلامية خاصة.
(2)
- الجمع الصوتي (ص: 111)، ويُنظر: مذكرات طعيمه، مرجع سابق.
(3)
- والذي أضحى فيما بعد شيخ عموم المقارئ المصرية
(4)
- وهو عضو لجنة مراجعة مصحف السودان برواية الدوري. وهو من طلاب العلامة السمنودي بمعهد القراءات.
وكان الشيخ عبد الفتاح القاضي ضمن أعضاء اللجنة في بادئ الأمر، ولكنه لم يتمكن من إتمام متابعة عمله معهم لبعض الأسباب والتي كان من أبرزها بعد عمله عن مقر عمل اللجنة بالقاهرة.
و يؤكد الوزير "طعيمة":
بأن هذا التسجيل: كان أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم بعد عهد عثمان بن عفان، رضى الله عنه
…
ففي يوم 23 يوليو 1960 بدأ توزيع المصحف المرتل للمرة الأولى فى تاريخ الإسلام ..
أثر ظهور أول تسجيل للقرآن
كان لتسجيل القرآن المرتل صوتيًا آثار بعيدة المدى، فقد حرصت جميع محطات الإذاعات الإسلامية على إذاعته فى برامجها، حتى أن الاهتمام أثار الأمريكان، فجاءني السفير الأمريكي زائرًا
فى الوزارة طالبًا نسختين من الأسطوانات لمكتبة "الكونجرس".
(1)
وبالفعل هذه النسخة المباركة لاتزال محفوظة في مكتبة "الكونجرس".
بشرى البث الثاني لمصحف الشيخ الحصري المرتل في إذاعة القاهرة:
فبعد مضي عام وثلاثة أشهر من تسجيله وتوزيعه عبر اسطوانات تتابع البشائر
ويأذن الله تعالى ببث هذا المصحف عبر نطاق أوسع بواسطة إذاعة القاهرة.
ففي صباح يوم (الإثنين 8 من ربيع الآخر 1381 هـ = 18 سبتمبر 1961 م) وفي تمام الساعة السادسة صباحًا، أذيع لأول مرة عبر إذاعة القاهرة المصحف المرتل بصوت القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، ولم يكن للناس عهد بهذه الطريقة المرسلة في قراءة القرآن التي لا تعتمد على التلحين والتطريب والأداء النغمي. واستحسن الناس هذه القراءة التي تقوم على براعة القارئ في دقة الأحكام ومراعاة المخارج والحروف إلى حد الامتياز، قبل براعته في الأداء الصوتي. وكان حظ الشيخ الحصري موفورًا من ذلك كله، دقة وبراعة.
وتلا الحصري في التسجيل القارئ مصطفى إسماعيل، وكان قد ملأ الدنيا وشغل الناس بطريقته الجديدة في أدائه المتميز، وقدرته على التحليق في آفاق عليا من جمال التعبير الصوتي، مع الالتزام
بأحكام القراءة. وجاءت تلاوته للقرآن الكريم في غاية من العذوبة والجمال، والتعبير عن المعاني بأداء خارق دون أن تشعر أنه يتكلف ذلك أو يجهد نفسه فيه.
(2)
(1)
- المرجع السابق نفسه.
(2)
المصحف المرتل .. والعظماء الخمسة، مقال بقلم أحمد تمام، عن مدونة الشيخ عماد عفت رحمه الله تعالى، بتاريخ: 1/ 11/ 2007 م.
بشرى البث الثالث لمصحف الشيخ الحصري المرتل في إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة مع بداية بث إرسالها.
فبعد مضي سنتين وستة أشهر من بث هذا المصحف في إذاعة القاهرة تم بثه في إذاعة القرآن الكريم والتي أسست لهذا الهدف النبيل.
لقد كان لإنشاء أول إذاعة للقرآن الكريم في العالم الإسلامي والعربي بالقاهرة مقاصد سامية وأهداف عظيمة جليلة ونبيلة، والتي كان من أعظمها وأجلها صيانة كتاب الله تعالى عن عبث أعداء الملة "الصهاينة" الذين قاموا بطباعة مصحف في ثوب قشيب ونشروه في إفريقيا بسعر زهيد، وقد عمدوا إلى تحريف بعض نصوص آياته، فكانت تلك هي بواعث النواة الأولى لفكرة إنشاء تلك الإذاعة.
مقاصد تأسيس تلك الإذاعة بشيء من الإيضاح:
وبصورة أكثر وضوحًا وبيانًا عن الدواعي الأساسية والدوافع الرئيسية والأسباب الداعية لنشأت إذاعة القرآن الكريم بجمهورية مصر العربية بشيء من التفصيل
يقول الدكتور فوزي خليل نائب رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق رحمه الله:
إن تجربة شبكة القرآن الكريم بإذاعة جمهورية مصر العربية، تحمل دلالات وأبعادًا ذات مغزى كبير في هذا الميدان الإعلامي، إنها تعتبر السابقة الأولى في هذا النوع من الرسالة الإعلامية، ومن ثم فهي الإذاعة الأقدم على مستوى العالم بين إذاعات القرآن الكريم، أو الإذاعات الدينية بشكل عام، كما تكشف عن الدور الرائد لمصر في محيطها العربي - الإسلامي.
لقد كان لقرار نشأتها ظروف وملابسات سبقته ودعت إلى اتخاذه؛ ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي ظهرت طبعة مذهبة من المصحف، ذات ورق فاخر، وإخراج أنيق، بها تحريفات خبيثة ومقصودة لبعض آياته، منها قوله تعالى:(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(آل عمران: 85). وطبعوها مع حذف كلمة "غير" فأصبحت الآية تعطي عكس معناها تمامًا! وكانت هذه الطبعة رغم فخامتها رخيصة الثمن، وكان تحريفها خفيًّا على هذا النحو، لكن هؤلاء لا يعلمون أن الله تعالى قد تولى حفظ كتابه بذاته العلية كما قال سبحانه:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(سورة الحجر: 9) ومن ثم يهيئ من الوسائل ما يحقق هذا الحفظ.
فلقد استُنفِرت وزارة الأوقاف والشؤون الاجتماعية، في ذلك الوقت- ممثلة في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والأزهر- ممثلًا في هيئة كبار العلماء- في ذلك الوقت- لكي تتدارك هذا
العدوان الأثيم على كتاب الله، وبعد الأخذ والرد تمخضت الجهود والآراء عن تسجيل صوتي للمصحف المرتل برواية حفص عن عاصم بصوت القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، على أسطوانات توزع نسخ منه على المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، وكافة المراكز الإسلامية في العالم، باعتبار ذلك أفضل وسيلة لحماية المصحف الشريف من الاعتداء عليه، وكان هذا أول جمع صوتي للقرآن الكريم بعد أول جمع كتابي له في عهد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وبمرور الوقت تبين أن هذه الوسيلة لم تكن فعالة في إنجاز الهدف المنشود من ورائها؛ نظرًا لعجز القدرات والإمكانات المادية في الدول الإسلامية في ذلك الوقت عن إيجاد الأجهزة اللازمة لتشغيل هذه الأسطوانات على نطاق شعبي، فضلًا عن عدم توفر الطاقة الكهربائية اللازمة لها بحكم الوضع الذي كانت عليه دول العالم الإسلامي في أوائل الستينيات من القرن العشرين.
ونتيجة لما سبق، انتهى الرأي والنظر في هذا الشأن من قبل وزارة الثقافة والإرشاد القومي- المسئولة عن الإعلام في ذلك الوقت، إلى اتخاذ قرار بتخصيص موجة قصيرة، وأخرى متوسطة لإذاعة المصحف المرتل الذي سجله المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
(1)
وبعد موافقة الحكومة بدأ إرسال "إذاعة القرآن الكريم" في الساعة السادسة من صبيحة الأربعاء 11 من ذي القعدة لسنة 1383 هـ الموافق 25 مارس لسنة 1964 م، بمدة إرسال قدرها 14 ساعة يوميًّا من السادسة حتى الحادية عشرة صباحًا، ومن الثانية حتى الحادية عشرة مساءً على موجتين: إحداهما قصيرة وطولها 30. 75 ك. هـ، والأخرى متوسطة طولها 259. 8 ك. هـ؛ لتكون أول صوت يقدم القرآن كاملًا بتسلسل السور والآيات كما نزل بها أمين الوحي جبريل "عليه السلام" على قلب سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت بذلك أنجح وسيلة لتحقيق هدف حفظ القرآن الكريم من المحاولات المكتوبة لتحريفه؛ حيث يصل إرسالها إلى الملايين من المسلمين في الدول العربية والإسلامية في آسيا وشمال أفريقيا، حيث كان الراديو "الترانزيستور" وسيلة لالتقاط إرسالها بسهولة.
وعلى منوال هذه السابقة المصرية المباركة توالى إنشاء عدة إذاعات للقرآن الكريم في داخل العالم العربي، بل وفي خارجه كما في أستراليا مثلًا، تصديقًا لقول الحق تبارك وتعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
(2)
.
(1)
- بالطبع لم يُذكر اسمُ الدكتور النبيل/ لبيب السعيد-هنا - مع أنه الصاحب الأول لفكرة الجمع الصوتي، فنسأل الله في عليائه أن يكتب له جزيل الأجر وعظيم الثواب، وهو سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا، كما قال سبحانه عن نفسه في تفضله على عباده المؤمنين:(إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)(الكهف من آية: 30)
(2)
- يُنظر: بحث تحت عنوان" قصة نشأة إذاعة القرآن الكريم من القاهرة"، إعداد: الدكتور فوزي خليل نائب رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق (يرحمه الله) عن موقع: التراث الإسلامي، ويُنظر: الموقع الرسمي لإذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، ويُنظر: إذاعة القرآن الكريم (مصر)، الموسوعة الحرة. بتصرف يسير.
أسباب اختيار الشيخ الحصري (ت: 1400 هـ) رحمه الله
-:
إن من أظهر أسباب اختيار الشيخ الحصري لهذه المهمة الجليلة والمنقبة العظيمة
هو تقدمه على أقرانه في إتقان التلاوة وجودة الأداء وحصوله في ذلك علي أعلى تزكية من لجنة مراقبة الشؤون الدينية بوزارة الوقاف، وهي أعلى جهة متخصصة في هذا الجانب، وذلك بشهادة أعضائها الذين هم أئمة علم القراءات وسادة علم التجويد وفرسان هذا الميدان والتي ورد في نصها ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
تنفيذًا لما رأته لجنة مراقبة الشئون الدينية من تأليف لجنة فنية لاختيار قارئ مُجِيد يشغل وظيفة قراءة السورة بالمسجد الحسيني من السادة:
فضيلة الشيخ على محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية
فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي شيخ معهد القراءات
فضيلة الشيخ عامر السيد عثمان شيخ مقرأة الإمام الشافعي والمدرس بمعهد القراءات
وقد اجتمعت اللجنة وعرض عليها أسماء القراء الذين تردد ذكرهم في شغل هذه الوظيفة وهم:
1 -
الشيخ طه الفشني (ت: 1391 هـ)
2 -
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (ت: 1409 هـ)
3 -
الشيخ محمود على البنا (ت: 1405 هـ)
4 -
الشيخ كامل يوسف البهتيمي (ت: 1388 هـ)
5 -
الشيخ عبد العظيم زاهر (ت: 1390 هـ)
6 -
الشيخ أبو العينين شعيشع (ت: 1432 هـ)
7 -
الشيخ مصطفى إسماعيل (ت: 1399 هـ)
8 -
الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ)
9 -
الشيخ محمد صديق المنشاوي (ت: 1389 هـ)
10 -
الشيخ محمد سلامة (ت: 1402 هـ)
وبعد أن استمعت اللجنة إلى السيد مراقب عام الشئون الدينية قررت أنها
(1)
غير مقيدة بالاختيار من هذه الأسماء وأن لها أن تختار من غيرها من يرونه أكفأ لهذه الوظيفة.
(1)
في الأصل: "بأنها" وتم تعديلها إلى: " قررت أنها" ليستقيم الكلام.
وكان ذلك بحضور السيدين مدير المساجد ومدير التفتيش
قررت اللجنة بعد التدوال بالإجماع: الآتي:
اختيار الشيخ محمود خليل الحصري قارئًا لسورة الكهف بمسجد الإمام الحسين لأنه أجدر القراء المذكورين تلاوة وأحسنهم أداءً ولأن قراءته أكثر مطابقة لقواعد التجويد وقوانين الأداء والله ولي التوفيق
اللجنة
إمضاء عبد الفتاح القاضي - إمضاء على محمد الضباع - إمضاء عامر السيد عثمان
ولا شك في أن هذه التزكية لها مكانتها وقدرها، وقد كانت من أسباب ودواعي اختيار الشيخ الحصري رحمه الله، لتسجيل أول مصحف مرتل بأكمله فيما بعد، وهي تزكية لا يقدرها قدرها إلا من عرف قدر ومكانة من زكاه بها، ألا وهم أعضاء هذه اللجنة الذين هم أئمة الدنيا في زمانهم وسادة علماء القراءات وأئمة الأداء، والذين يُعدُّون جميعًا مرجعية موثوقة وحجة في القراءات؛
كما أنهم معدودُون جميعًا من أهل الطبقة الأولى في عصرهم كذلك، وهم مع رسوخهم وتمكنهم وإمامتهم وتقدمهم في علم القراءات والتجويد، فهم كذلك أهل التحقيق والتدقيق في علم الرسم العثماني وضبط المصاحف وَعَدِّ الآي وغيرها من العلوم، رحمهم الله أجمعين.
أوسمة الشرف من عاجل بشرى المؤمن
وهذا مصداق ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ".
(1)
والحقيقة أن الشيخ الحصري رحمه الله تعالى لجودة أدائه وحسن ترتيله وتجويد وتحبيره وجمال وبهاء تلاوته بعد أن ذاعت شهرته وأطبقت الآفاق حصل على أربعة ألقاب رسمية هو لها خليق والتي نرجو أن تكون من عاجل بشرى المؤمن، كما نسأله تعالى أن يتقبل منه تلك الأعمال الكبيرة العظام وأن يرفع بها درجته في جنات النعيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والألقاب الأربعة هي:
1 -
رئيس اتحاد قراء العالم
2 -
شيخ عموم المقارئ المصرية
3 -
رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف بالأزهر
(1)
- رواه مسلم (2642).
4 -
مستشار فني لشئون القرآن الكريم بوزارة الأوقاف.
(1)
ويرفق الباحث صورة مكتوبة بخط اليد لتلك الوثيقة كما هي في شكل (11)، وقد كتبت على ورق قديم بال بخط الرقعة، ويرجع هذا الخط بعد التحقيق والتدقيق للشيخ على محمد الضباع رحمه الله. وقد قام بهذا التحقيق أحد المهتمين بهذا الجانب
(2)
وقد تأكد من ذلك بنفسه بعد تواصله مع أحد ورثة الشيخ الحصري رحمه الله
(3)
، وبعد اطلاعه على عدد من التوقيعات بخط الشيخ
الضباع والتي وجدها متطابقة تمام التطابق مع الخط الذي كتبت به تلك الوثيقة والتي بها توقيعه رحمه الله، وقد تأكد الباحث من ذلك بعد أن وقف عليها كلها بنفسه.
(4)
(1)
- نقلًا عن موقع الدكتور/ رشوان عبد الله أبو قاسم.
(2)
- وهو: الشيخ أحمد ربيع الأزهري، الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف المصرية، وللاستزادة يُنظر: صفحته الرسمية.
حيث يقول حفظه الله:
ويترجح لدي أن الوثيقةَ بخطِّ الشيخِ علي الضباع - رحمه الله تعالى - فقد عُدْتُ إلى شكلِ وصورةِ توقيعِ الشيخ علي الضباع على أحدِ المصاحفِ المطبوعِ بالمطبعةِ الأميريةِ بمصر سنة 1371 هـ فوجدتُ الخطَّ مطابقًا لخطِّ الوثيقةِ، خاصة كتابة اسم الشيخ في الوثيقة وتوقيعه في المصحف، وسوف نرفق صورًا لكلِّ هذا.
(3)
- وذلك في يوم الأحد 14 رمضان 1440 هـ، الموافق 19/ 5/ 2019 م.
(4)
- وبما أنه يجب أن ينسب الفضل لأهله فقد أتحف الباحث بتلك التوثيقات الأخ الكريم المفضال الشيخ بحر الدين بن عمر بن عبد العزيز الاسكندراني عضو نقابة القراء بمصرـ والمقرئ بالقراءات العشر لدى جمعية مكنون بمدينة الرياض- بالمملكة العربية السعودية.
|
شكل: (11)
والحقيقة أن هذه الوثيقة قد حوت في طياتها مخالفات شرعية لا تخفى على ذي لب.
(1)
(1)
- وهذه الوثيقة قد احتوت على بعض المخالفات التي لا تحفى على ذي لب، وذلك لما حوته وتضمنته وظيفة قارئ السورة من مهام رئيسية يقوم القارئ فيها بتلاوة القرآن من خلال مكبر الصوت في أوقات محدودة، ألا وهي: قبيل صلاتي الفجر والعصر من كل يوم بين الأذان والإقامة، وكذلك يوم الجمعة قبل صعود الخطيب على المنبر بقرابة ساعة أو نحوها، ولا شك أن هذا أمر محدث فيه مخالفات عدة كذلك ألا وهي:
أولًا: هذا العمل في جملته ومجموعه أمر محدث في الدين وليس عليه عمل السلف الأولين.
ثانيًا: تحديد أوقات محدودة وسورة محدودة كـ"سورة الكهف" أو غيرها لقراءتها في مكبر الصوت مع كونه أمرًا محدثًا، ففيه أيضًا التشويش على المصلين، والمصلون مشغولون إما بتلاوة أو ذكر أو دعاء.
والأولى أن تتحول وظيفة قارئ السورة إلى وظيفة معلم قرآن، فيقوم بتعليم فاتحة الكتاب وقصار السور لعامة المسلمين الذين لا يحسنون تلاوة القرآن لتصح لهم قراءتهم في الصلاة وغيرها، ويقيم كذلك حلقة تعليم خاصة للمتقدمين "حفظًا وتلاوة"، وإن كان من أهل الإقراء بالإجازات أقرأ وأجاز من رأى أنه أهلًا لذلك. ومن جراء ذلك يحصل له ولغيره من الخير والأجر الشيء الكثير بإذن الله تعالى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثالثًا: يضاف إلى ذلك كون هذه القراءة وتلك الصلاة في مسجد فيه قبر كـ"مسجد الحسين أو الشافعي"، أو غيرهما، فالمساجد التي فيها قبور لا تجوز الصلاة فيها أبدًا، ولا يجوز للمسلمين أن يبنوا على القبور مساجد أو يرفعوا عليه القباب التي توضع على القبور تعظيمًا للموتى، كما لا يجوز لهم أن يتخذوا القبور مساجد، ولا يجوز لهم أن يصلوا فيها، لا صلاة فرض ولا صلاة نفل، لعموم النهي الوارد عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد، إلا صلاة الجنازة لمن حضر المقبرة ولم يدرك الصلاة عليها مع الجماعة، فله أن يصلي عليها في المقبرة لثبوت ذلك في السنة الصحيحة.
ولذا لا يجوز أن يبقى في المساجد أي قبر، وذلك لعموم النهي والتحذير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه حذر وخوف أمته من أن تفعل فعل اليهود والنصارى فقال محذرًا:
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة رضي الله عنها يحذر ما صنعوا ". أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529).
ولما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" رواه البخاري (437)، ومسلم (530).
ولما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: " أولئكِ إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئكِ شرار الخلق عند الله " رواه البخاري (427)، مسلم (528).
ولما ثبت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره من ذلك -أيضًا- بقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ". مسلم (532).
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
ما حكم الإسلام في قراءة القرآن يوم الجمعة قبل صلاة الظهر بمكبرات الصوت، إذا قلت هذا أمر غير وارد يقول لك: تريد أن تمنع قراءة القرآن؟ وما رأيكم في الابتهالات الدينية تسبق أذان الفجر بقليل بمكبرات الصوت إذا قلت: هذا أمر ليس له دليل: يقول لك: هذا عمل خير، يوقظ الناس لصلاة الفجر. "
فأجابوا:
لا نعلم دليلاً يدل على وقوع ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم أحدًا من الصحابة عمل به، وكذلك الابتهالات التي تسبق الأذان للفجر بمكبرات الصوت؛ فكانت بدعة، وكل بدعة ضلالة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)(رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718) انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود ". انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة " (2/ 495، 496).
والخلاصة:
أن اتخاذا القبور مساجد لا يجوز ولا يحل، وبناء القبور على المساجد لا يجوز ولا يحل- كذلك- في شريعتنا الغراء التي بنيت وأسست على الحنيفية السمحة، والحنفية السمحة هي ملة الإسلام التي كان عليها أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وجميع الأنبياء من بعده، وقد أمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه باتباعها، فقال سبحانه وتعالى:(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(آل عمران: 95).
والحنف الميل، والحنيف هو المسلم، سمي بذلك لميله وعدوله عن الشرك وأمور الجاهلية إلى الإسلام المبني على التوحيد الخاص.
والحنيفية مبناها على الاستِسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعَة، والخُلوص له مِن الشِّرك؛ وما يُشاهده العالمُ اليومَ في بعض بلدان المسلمين من بناء المساجد على القبور أو العكس، كله خطأ ومخالف لدين الإسلام الذي بني على التوحيد الخالص، وسدًا لذريعة الشرك وحماية لجناب التوحيد، وقد جاءت شريعتنا الغراء بسد كل ذريعة مفضية إلى الشرك.
فالواجب على علماء المسلمين ودعاة الإسلام وطلاب العلم وعلى كل موحد له بصيرة بالتوحيد تحذير الناس من ذلك، وبيان خطورة هذا الأمر على عقائد المسلمين ودينهم لمن له سلطان وقدرة على إزالة هذا المنكر العظيم
ثاني البشائر الكبرى تسجيل "المصحف الثاني"
لقد ترك التسجيل" الأول" أثرًا عظيمًا وبليغًا في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وذلك بعد ذيوع خبر تسجيله وانتشاره عبر الاسطوانات المسجلة، وبدء بثه عبر الإذاعات، وكان ذلك بمثابة إشارة بدء الانطلاق ودخول مرحلة جديدة يشهدها العالم الإسلامي يتمكن من خلالها المسلمون في أقطار الدنيا من سماع كلام ربهم المنزل على نبيهم صلى الله عليه وسلم نضًا طريًا كما أنزل أول مرة، وكأنما أنزل لتوه، يسمعونه بأكمله من إمام أئمة الأداء، ممن شهد له علماء العصر من أئمة علم القراءات بالإتقان، يسمعونه من فاتحته لخاتمته مرتلًا ومجودًا ومحبرًا بأحسن الأصوات وأعذبها جمالًا وبهاءً وأداءً له بإجلال ووقار وتخشع، صحيحًا سليمًا خاليًا من اللحن، مماثلًا لما انتهى إليه أمر المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، بل وأجمعت عليها الأمة قاطبة وتلقتها بالقبول والفرح والرضى كما قال ربنا:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)(يونس: 58)
وهذا العمل العظيم والإنجاز الكبير الذي وَصَّلَ للمسلمين كتاب ربهم -القرآن العظيم- صوتًا مسموعًا، كما كتب في المصاحف العثمانية في أول أمره، يُعد نعمة من أجل نعم الله على عباده، كما أنه يُعد بحق مفخرة من أعظم وأجل مفاخر أمة الاسلام في هذا العصر.
الانطلاقة الثانية:
وبعد مضي عامين تقريبًا من توزيع المصحف المرتل والمسجل برواية حفص عن عاصم بصوت الشيخ الحصري رحمه الله وللمرة الأولى بدأت مرحلة فعلية جديد بتسجيل القراءات، وكان للدكتور النبيل/ لبيب السعيد السبق كذلك في هذه السنة الحسنة وإخراجها للمسلمين.
كالحكام والولاة الذين مكن الله لهم في الأرض، ليزيلوا ذرائع ومعاقل الشرك والوثنية ويردوا الخلقَ لعبادة الخالق وحده لا شريك له، وليمنعوا مظاهر الشرك بكل صوره، من دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر والذبح لهم وسؤالهم الحوائج التي لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى والطواف بقبورهم كما يُطاف بالكعبة، كما يجب عليهم التحذير من أئمة الضلالة الذين يزينون هذه المظاهر الشركية الوثنية لعوام الناس على أنها من باب حب أولياء الله الصالحين وإجلالهم.
كما يجب على العلماء والدعاة في كل مكان كذلك العناية بدعوة التوحيد وإفراد الله بالعبادة وتقديمها على كل الأولويات في دعوتهم، لأن التوحيد هو أساس الدين وأساس الملة الحنيفية السمحة، مع التحذير من الشرك بكل صوره وأشكاله، والعناية كذلك بنشر السنة والتحذير من البدع والمحدثات، والعناية بنشر عقيدة أهل السنة والجماعة، والحث على التمسك بالكتاب والسنة وفهمهما والعمل بهما وفق نهج القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ونشر ذلك في محافل التعليم بأنواعه ومراحله، وفي المساجد وفي كل وسائل الإعلام المباحة والمتاحة. وبذلك يعود للمسلمين مجدهم وعزهم التليد.
ففي سنة 1962 م، تم اختيار رواية الدوري
(1)
عن أبي عمرو البصري- من طريق الطيبة-، للتسجيل بعد رواية حفص عن عاصم، ورواية الدوري هي الرواية التي يقرأ بها أهل السودان وشرق إفريقيا.
معوقات في بادئ الأمر:
ففي بادئ الأمر "تعثر المشروع إثر بعث مشيخة الأزهر إلى وزير الأوقاف كتابًا تطلب فيه منع ما سوى رواية حفص من الروايات، وما سوى صوت الشيخ الحصري من الأصوات، وبعد مداولات وافقت مشيخة الأزهر على استئناف المشروع".
(2)
واختير لتسجيل هذه الرواية ثلاثة من أئمة الإقراء
وهم المشايخ:
1 -
الشيخ فؤاد العروسي (ت: 1405 هـ)
2 ـ الشيخ محمد صديق المنشاوي (ت: 1389 هـ)
3 ـ الشيخ كامل يوسف البهتيمي (ت: 1388 هـ)
وفي أثناء تسجيل رواية "الدوري عن أبي عمرو" جاء منع من تسجيل هذه الرواية من شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، وهو الذي قد رحب بالفكرة أول الأمر، ولكنه هنا خشي من اختلاط القراءات على عموم المسلمين.
فعلى الفور بادر الدكتور "لبيب" بمقابلة الشيخ "شلتوت" رحمه الله وأقنعه بهذه الفكرة وبما يرجو من عموم نفعها للمسلمين.
ولقد تم الانتهاء من تسجيل هذه الراوية تمامًا في سبتمبر سنة 1963 م.
(1)
-الإمام الدوري (150 هـ - 246 هـ) اسمه: حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صُهبان بن عدي بن صهبان الدوري الأزدي البغدادي النحوي المقرئ الضرير راوي الإمامين أبي عمرو والكسائي. كنيته: أبو عمر. لقبه: الدوري، نسب إلى الدور، موضع ببغداد، ومحله بالجانب الشرقي منها. مولده: سنة خمسين ومائة في الدور أيام المنصور. وفاته: توفي سنة ست وأربعين ومائتين. إمام القراء في عصره، وهو ثقة، ثبت، كبير، ضابط، أول من جمع القراءات وصنف فيها. وللاستزادة من ترجمته يُنظر: الجرح والتعديل للرازي 3/ 183؛ الثقات لابن حبان 8/ 200؛ تهذيب الكمال 7/ 34 - 37؛ معرفة القراء الكبار 1/ 191؛ سير أعلام النبلاء 11/ 541؛ ميزان الاعتدال 1/ 566؛ تاريخ الإسلام 18؛ 249؛ غاية النهاية 1/ 255 ـ 256؛ الأعلام للزركلي 2/ 264.
(2)
عن موقع المصحف الجامع، بإشراف د. محمد هشام راغب.
حكمة الدكتور "لبيب" في تنوع اختياره للقراء:
وإنما كان تنوع اختيار الدكتور "لبيب" للقراء الذين يسجل لهم لحكمة بليغة يجليها بقوله رحمه الله: وقد أشرتُ بأن لا يستأثر قارئ واحد بتسجيل المصحف كاملاً، دفعًا لملل السامعين، واستفادة بأكبر عددٍ من أصحاب المواهب، وتحقيقًا لتكافؤ الفرص.
(1)
.
ولا شك أن ذلك من الحكمة بمكان، وقد ظهرت وتجلت تلك الحكمة بصورة واضحة جلية للعيان مع مضي الأيام.
الثمار اليانعة من عاجل بشرى المؤمن:
لقد واجهت الدكتور النبيل/ لبيب السعيد خلال إخراج مشروعه للنور عقبات كؤود، فكلما تخطى عقبة ظهرت له أخرى، ومع ذلك كما قيل: من عرف ما يَطلب هان عليه ما يَبذل
(2)
، فإنه
قد علم عظم هذا العمل الجليل وما يترتب عليه من نفع لعموم المسلمين، وحينما أراد الله تعالى -العليم الحكيم الخبير- أن يتم هذا العمل ويخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة هيأ سبحانه له الأسباب وفتح له الأبواب المؤصدة.
ولمَّا أتَمَّ اللهُ تلك النعمة الجليلة وأسبغها وافرة، فرح بها الساعي فيها فرحًا شديدًا،
وغمرته سعادة وبهجة وسرورًا، وندع له المجال ليعبر بلسانه عن فرحته وبهجته حيث يقول رحمه الله:
وقد ازددتُ إدراكًا لفضل الله عليَّ، وعلى الناس، إذ قدَّرَ لهذا المشروع النجاح، حين كنت خارج مصر، في بلاد بعيدة، أستمع إلى المصحف المرتل، من الإذاعة، أو أستمع إليه، في دور السفارات، والقنصليات العربية
…
لقد كان ينسلخ عني وقتئذ ـ شأني شأن كل مستمع مسلم عربي ـ الشعور بغربة اللسان أو غربة المكان، وقد حكى لي غير واحد ممن سمعوا المصحف المرتل في ديار الغربة أنهم لم يكونوا يملكون حبس دموعهم تأثرًا وفرحًا.
(3)
.
ولاشك أنها نعمة من أن أجل النعمة التي يُفرح بها وبمثلها، وأنها من محض فضل الله على عباده، كما قال ربنا:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)(يونس: 58). والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(1)
-الجمع الصوتي، لبيب السعيد (ص: 114).
(2)
- القائل إبراهيم بن أدهم، يُنظر: تاريخ مدينة دمشق (4/ 124)
(3)
-الجمع الصوتي، لبيب السعيد (ص: 499).
حسن الظن بالله:
كانت تطلعات وآمال الدكتور النبيل/ لبيب السعيد تتجه نحو تكامل هذا المشروع، وذلك بتسجيل القرآن الكريم بجميع رواياته، وكان بالفعل قد وضع خطة لهذا العمل العظيم وكله آمل ورجاء في إتمامه وإكماله في حياته، وها هو يعبر عن مكنون نفسه تجاه هذا الأمل الكبير
فيقول رحمه الله:
فليت أن المشروع يتم عاجلاً، وفق التخطيطات المرسومة له! وليت أن الله صاحبَ الفضل والمنة ينفع بهذا المشروع كما نحب، وخيرًا مما نحب! وليت أنه ـ سبحانه ـ يجعل هذا المشروع ـ دائمًا ـ عملاً خالصًا تمامًا لوجهه الكريم.
(1)
.
ولا شك أن الله تَعالَى يقول: "أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي"
(2)
. فمن أحسن الظن بالله وقرنه بحسن العمل وصدق النية وصلاح الطوية فلا شك أن مثل هذا حري أن يوفق لكل خير.
ولو عاش رحمه الله لزماننا لوقف بنفسه ورأى بأم عينيه ما تقر به نفسه.
وهذا العمل العظيم تعجز الأقلام أن تسطره توّفية لحقه، وينتهي المداد دون أن نحمد الله على تلك النعمة ونشكرها حق شكرها، فالحمد لله الشكور الذي يجازي على القليل كثيرًا، والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.
من مشاهد التنافس في هذا الميدان:
أولًا: تسجيل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم بطرق مختلفة
كما أن هذا العمل كان دافعًا لكبار القراء ومشاهير للتنافس في هذا الميدان الجليل
فقد تنافس عدد من القراء الكبار في تسجيل القرآن الكريم كاملًا بأصواتهم برواية حفص عن عاصم بطرق مختلفة
(3)
وتم التسجيل لصالح الإذاعة المصرية، والتي كونت لجنة علمية للإشراف على تلك التسجيلات ومراجعتها.
وقد سجلت تلك التسجيلات بأصوات أصحاب الفضيلة المشايخ:
1 -
الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ)
2 -
الشيخ مصطفى إسماعيل (ت: 1339 هـ)
3 -
الشيخ محمود علي البنا (ت: 1405 هـ)
(1)
-الجمع الصوتي، لبيب السعيد (ص: 500).
(2)
- رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باختلاف يسير.
(3)
للاستزادة من معرفة هذه الطرق بشيء من التفصيل يُنظر: "صريح النص"؛ للشيخ على محمد الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية رحمه الله. والذي وضع فيها جدولاً لكل طريق من الطرق الأربعة الرئيسية:(الهاشمي، وأبي طاهر، والفيل، وزرعان).
4 -
الشيخ محمد صديق المنشاوي (ت: 1389 هـ)
5 -
الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد (ت: 1409 هـ)
6 -
الشيخ محمود صديق المنشاوي (ت: 1389 هـ)
7 -
الشيخ علي حجاج السويسي (ت: 1423 هـ)
8 -
الشيخ الشحات محمد أنور (ت: 1428 هـ)
9 -
الشيخ أحمد محمد عامر (ت: 1429 هـ)
10 -
الشيخ الطبيب أحمد نعينع (م)
ثانيًا: تسجيل المصحف المجود برواية حفص عن عاصم -أيضًا
-:
وزاد التنافس والبذل في هذا الميدان بصورة أوسع، فتنافس أربعة من القراء الكبار في تسجيل المصحف المجود برواية حفص عن عاصم، لصالح الإذاعة المصرية، والتي كونت لجنة علمية للإشراف على تلك التسجيلات ومراجعتها
وقد سجلت تلك التسجيلات بأصوات أصحاب الفضيلة المشايخ:
1 -
الشيخ مصطفى إسماعيل (ت: 1339 هـ)
2 -
الشيخ محمود علي البنا (ت: 1405 هـ)
3 -
الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ)
4 -
الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد (ت: 1409 هـ)
تسجيل القرآن كاملًا برواية ورش عن نافع المدني:
اتساع ميدان التنافس وتسجيل رواية ورش (ت: 197 هـ) عن نافع المدني (ت: 90 هـ).
ولقد اتسع ميدان التنافس والمسارعة في الخيرات في هذا الميدان بصورة أكثر اتساعًا، فتنافس عَلَمَان من أعلام القراء في تسجيلات القرآن برواية ورش عن نافع المدني لصالح الإذاعة المصرية وبإشرافها أيضًا، ونال هذ الشرف كل من:
1 -
الشيخ محمود خليل الحصري
2 -
الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد
وكان انتشار رواية ورش المصري عن نافع المدني في مصر أولًا، وذلك في القرون الأولى، وذلك باعتبار أن إقامة ورش كانت بمصر، كما كان بها مولده ووفاته، وبعدها انتشرت في عدد من بلدان إفريقيا خاصة، فانتشرت في كل من البلدان التالية:
1 -
بلاد المغرب العربي: (الجزائر والمغرب وموريتانيا)
2 -
بلاد غرب إفريقيا: (السنغال والنيجر ومالي ونيجيريا وغيرها)
3 -
وصولها وانتشارها كذلك في بعض نواحي بلاد إفريقية أخرى، كأجزاء في كل من: ليبيا وتشاد وجنوب وغرب تونس، وأما ليبيا وتونس فالقراءة الرسمية فيهما هي رواية قالون عن نافع المدني
الافتقار إلى تسجيل ما تبقى من روايات القراءات العشر:
الحقيقة أن المتأمل يرى بالفعل بعض التسجيلات قد انتشرت في بعض البلدان، وقد سجلت تلك التسجيلات ببعض الروايات من قبل بعض القراء بجهود ذاتية، وهذه التسجيلات لم ترتق غالبًا لدرجة الإتقان حتى تصل لمستوى جودة وإتقان تسجيلات كبار القراء الذين سجلوا تلك التسجيلات تحت إشراف لجان علمية متخصصة مكونة من كبار علماء عصرهم من سادة التحبير وأئمة علم القراءات والتجويد وممن تقدموا علماء عصرهم وحازوا على تقدير أقرانهم ونالوا الثقة والإمامة بشهادة وبإجماع أهل التخصص في زمانهم.
العجز في استيفاء تسجيل روايات حفص بأكملها:
وحتى التسجيلات المسجلة لكبار القراء بأوسع روايات القرآن انتشارًا في العالم الإسلامي، ألا وهي رواية حفص عن عاصم لم تستوعب جميع طرق تلك الروايات الواردة بأكملها والتي قد بلغت اثنين وخمسين طريقًا
(1)
كما ذكر ذلك ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر"
والذي قد جمع فيه ثمانية وخمسين كتابًا من كتب القراءات، وقد استقى تلك الطرق من تسعة عشر كتابًا.
وقد زاد العلامة مصطفى الإزميري
(2)
على الطرق التي ذكرها ابن الجزري خمس طرق أخرى صحيحة ومدققة ومحققة ومنقحة؛ وإنما كان ذلك من الإزميري نظرًا لاتصال تلاوة ابن الجزري
(1)
- والمذاهب الواردة في طرق رواية حفص أربعة مذاهب كلها مذاهب صحيحة ولا تعارض بينها وهي كلها إجمالًا على النحو التالي:
المذهب الأول: مذهب ابن الجزري وقد عد طرق حفص 52 طريقًا واستقى هذه الطرق من الكتب التي وردت فيها رواية حفص عن عاصم.
المذهب الثاني: مذهب الإزميري ومن تابعه فقد أضاف خمس طرق على ما جاء في النشر فأصبحت الطرق 57 طريقًا كلها صحيحة مقروء بها.
المذهب الثالث: مذهب بعض العلماء منهم الضباع ومن تابعه فقد عدوا طرق حفص بالدمج أي إذا اتفقت الأصول والفرش ورويت من كتاب واحد ولكن باختلاف الرواة فيعد هذه الطرق طريقًا واحدًا فأصبحت الطرق عندهم 46 طريقًا.
المذهب الرابع: مذهب بعض العلماء منهم الضباع أيضًا في كتابه (صريح النص)
فقد نظروا إلى الأصول والفرش فقط دون النظر إلى عزو الخلاف للراوي وصاحب الكتاب ودمجوا الطرق التي اتفقت أصولًا وفرشًا فأصبحت الطرق عندهم 21 طريقًا.
يُنظر: الروض الباسم في طرق حفص عن عاصم لإسلام اليسر
(2)
- مصطفى بن عبد الرحمن بن محمد الأزميري الرومي الحنفي نزيل مصر.
المتوفى بمصر سنة 1155 هـ، الموافق 1743 م.
من أشهر علماء القراءات والتجويد بعد ابن الجزري، برع وتفنن في علوم القراءات، وقام بتحرير أوجه القراءات من جميع الطرق ويعتد بكتبه في التحرير، وهي المرجع والمصدر منذ تأليفها وإلى يومنا هذا مع تحريرات المتولي. يُنظر: هداية العارفين (1/ 682)
لأصحاب الكتب التسعة عشر التي استقى منها الطرق التي بلغت اثنين وخمسين طريقًا، وقد رويت هذه الطرق الزائدة وتشعبت عن طرق ابن الجزري التي أوردها في كتابه" النشر"، وقد تلقاها أهل الأداء بالقبول ثم الإقراء والإجازة بها.
(1)
المصاحف المسجلة في مجمع الملك فهد بالمدينة النبوية:
ومن الجهود المبذولة في التسجيلات المعتمدة والتي أشرفت عليها جهات علمية معتمدة وموثقة ما تم تسجيله من تلاوات في مجمع الملك فهد.
ولقد أوضح الدكتور محمد سالم بن شديد العوفي الأمين العام للمجمع أن المصاحف المرتلة التي تم إنتاجها حتى الآن في المجمع هي:
أولًا: المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت
كل من أصحاب الفضيلة:
1 -
الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي (م) إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس لجنة مراجعة المصحف بالمجمع
(1)
- وهذه الطرق على التي حررها الإزميري زيادة على ما في النشر هي:
1 -
طريق ابن المعدل في روضته عن الحمامي عن الولي عن الفيل عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم.
2 -
طريق روضة المالكي عن الحمامي عن الولي عن الفيل عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم.
3 -
طريق الجامع للخياط قرأ بها على ابن فارس وهو عن الحمامي عن الولي عن الفيل عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم. كما ذكر الضباع رحمه الله طريق الجامع عن الفيل، في كتابه "صريح النص"، وليست من طرق النشر
4 -
طريق آخر في روضة ابن المعدل عن الحمامي عن القلانسي عن زرعان أبي الحسن أحمد بن عيسى الدقاق البغدادي، عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم.
5 -
طريق آخر في روضة المالكي عن الحمامي عن القلانسي عن زرعان أبي الحسن أحمد بن عيسى الدقاق البغدادي، عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم.
وأوجه الاختلاف بين تلك الطرق تنحصر فيما يلي:
المد المنفصل، المد المتصل، والتكبير (مع التنبيه على ضعف ثبوته)، والغنة في اللام والراء، والسكت على الساكن قبل الهمزة، وإدغام النون في (يس والقرآن، ن والقلم حال الوصل)، والوقف على (سلاسلا)، وفتح أو ضم ضعف (في الرُّوم)، والوقف على (فما ءاتان)، والراء في (فرق كالطود)، و (العين في عس) و (من راق) و (بل ران) و (مرقدنا) و (عوجا) و (لا تأمنا) و (واركب معنا) و (يلهث ذلك) و (ءالذكرين) و (بمصيطر) و (المصيطرون) و (يبصط) و (بصطة).
وللاستزادة يُنظر:
1 -
صريح النص في الكلمات المختلف فيها عن حفص للضباع
2 -
توضيح المعالم لطرق حفص عن عاصم للنحاس
3 -
رفع الألغاز عن طرق حفص بن سليمان البزاز للصفتي
4 -
أحسن البيان شرح طرق الطيبة لرواية حفص بن سليمان لتوفيق ضمرة
5 -
الروض الباسم في طرق حفص عن عاصم لإسلام اليسر
2 -
الشيخ إبراهيم بن الأخضر القيم (م) شيخ القراء بالمسجد النبوي إمام الحرمين "سابقًا"
3 -
الشيخ محمد أيوب بن محمد يوسف بن سليمان عمر. إمام المسجد النبوي "سابقًا"(ت: 1437 هـ)
4 -
الشيخ عبد الله بن علي بصفر (م)
(1)
5 -
الشيخ عماد بن زهير حافظ (م) - إمام مسجد قباء
(2)
، وفق رواية حفص عن عاصم بقصر المنفصل من طريق طيبة النشر
6 -
الشيخ خالد بن سليمان المهنا (م)
(3)
وفق رواية حفص من طريق قصر المنفصل
7 -
الشيخ ماهر بن حمد المعيقلي إمام المسجد الحرام (م)
ثانيًا: المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
كما تم تسجيل المصحف المرتل في مجمع الملك فهد بروايات أخر مختلفة على النحو التالي:
1 -
المصحف المرتل وفق رواية قالون عن نافع المدني بصوت:
الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس لجنة مراجعة المصحف بالمجمع
2 -
المصحف المرتل وفق رواية ورش عن نافع المدني بصوت: الشيخ إبراهيم بن سعيد الدوسري (م).
(4)
3 -
المصحف المرتل وفق رواية الدوري عن أبي عمرو البصري بصوت الشيخ: عبدالله بن عواد الجهني إمام المسجد الحرام (م)
4 -
المصحف المرتل وفق رواية السوسي عن أبي عمرو البصري بصوت الشيخ: عثمان بن محمد الصديقي (م).
(5)
(6)
(1)
أستاذ مشارك بقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وإمام وخطيب مسجد منصور الشعيبي بجدة.
(2)
عُيِّن في رمضان سنة 1432 هـ إمامًا للتراويح بالمسجد النبوي.
(3)
- إمام المسجد النبوي في صلاة التراويح في رمضان منذ عام 1436 هـ وما يزال.
(4)
- رئيس قسم القرآن وعلومه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
(5)
- مدير عام الإدارة العامة للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالرياض.
(6)
- للاستزادة يُنظر: موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية.، وبعض هذه المصاحف سجلت ولكن لم تنشر ولم تبث بعد وقد شارك في الإشراف على تسجيل بعض منها الشيخ عبد الرَّافع رضوان علي. بتصرف يسير في الترتيب من الباحث.
والباحث قد اكتفى ببحث ظهور أول تسجيل للقرآن الكريم كاملًا لأمرين:
الأمر الأول: لمكانته وقدره، حيث إنه يُعد اول باكورة أعمال هذا الجمع المبارك
"الجمع الصوتي".
الأمر الثاني: لتوقع خفائه على كثير من الناس.
ولم يعرج على ما ظهر من تسجيلات بعد ذلك لكثرتها وشيوعها وذيوعها وانتشارها كانتشار الشمس وسطوعها في ربيعة النهار، وفشوِّها وذيوعها ومسيرها في الدنيا كمسير الليل والنهار.
المطلب الثاني: ضوابط في تسجيل القرآن الكريم
إن من إجلال كلام الله تعالى العناية به من كل وجه، ومن أجلِّ تلك الوجوه العناية به عند تسجيله، فالقرآن كما اعتني به في جمعه في عهوده الثلاثة فضُبِطَ محفوظًا في الصدور، وضُبِطَ كذلك مكتوبًا في السطور، فينبغي كذلك أن يُضبط عن تسجيله عبر وسائل التسجيل المتنوعة المعاصرة.
تنبيه من الأهمية بمكان:
من الأهمية بمكان في هذا المبحث الهام التنبيه على أمور عظام من أجلها ما يلي:
أولًا: من المعلوم والمشاهد أن هناك تسجيلات لتلاوات كثيرة مختلفة ومتناثرة في الإذاعات ووسائل البث لا يُحصي عددها كثرة إلا الله
ثانيًا: من هذه التسجيلات ما نال واستحق درجة الإتقان لكنه لم يخضع لإشراف أي جهة علمية متخصصة ومعتمدة وموثوقة
ثالثًا: يجب أن تخضع تلك التسجيلات لرقابة وإشراف لجان علمية معتمدة من أئمة التخصص، وذلك لضمان إخراجها خالية من أي خطأ من جهة، ولتحوز على اطمئنان المسلمين لها والثقة فيها من جهة أخرى.
رابعًا: لو أردنا أن نقيس الجمع الرابع للقرآن ألا وهو "الجمع الصوتي" على جمعه في عهديه الثاني والثالث في عهد الخليفتين الراشدين لوجدنا أنهما مع ثقتهم في الصحابة أجمعين إلا أنهما كونا لجنة بقيادة زيد بن ثابت ووضعوا لها من الأسس والضوابط والشروط المحكمة التي تضمن بها بعد توفيق الله وإعانته خروج المصحف سالمًا من الأخطاء.
خامسًا: اللجان العلمية التي تشرف على الجمع الصوتي يجب أن تشبه لجنة الجمع في عهديه الثاني والثالث، فكما أن اللجنة المشرفة على الجمع في ذانك العهدين كانت
على أعلى مستوى من الخبرة والإتقان والأمانة والديانة، فكذلك يجب أن يكون الأمر نفسه في لجان الجمع الصوتي، فَتُكَوَّن لجانٌ علمية على أعلى مستوى من علماء القراءات والتجويد المشهود لهم بالإمامة في ذلك من أهل عصرهم من قبل هيئات علمية متخصصة ومعتمدة، وكما أن الجمع في هذين العهدين كان بصفة رسمية ممن ولاهم الله أمر المسلمين، فكذلك يجب في هذا
الجمع- الصوتي- أن يأخذ صفة-الرسمية- وكما أن المصاحف المطبوعة لا تطبع ولا تنشر إلا بإشراف جهات عليا رسمية ومأمونة وموثوقة ومعتمدة في بلاد الإسلام، كمجمع الملك فهد في
المملكة العربية السعودية، وكالأزهر في مصر، فهكذا يجب أن يكون ذلك في المصاحف المرتلة المسجلة-أيضًا- سواء بسواء، وذلك قياسًا على لجنة جمع القرآن في عهديه الثاني والثالث لضمان سلامة تلك التسجيلات التي ستبقى بين يدي المسلمين إلى ما شاء الله.
سادسًا: ولذا يجب التأكيد على أن التسجيلات الفردية يجب أن تمنع منعًا باتًا ويمنع خروجها وبثها ونشرها للمسلمين حتى تخضع لإشراف لجان علمية متخصصة ومعتمدة- رسميًا- كما أسلفنا، وبذلك يضيق الخناق على الأعمال الفردية حتى تخضع للرقابة والإشراف العلمي من الهيئات العلمية الموثوقة والمعتمدة في بلاد الإسلام، وبذلك نضمن عدم العبث بكتاب الله والحد من تلك التسجيلات التي لم ترتق إلى المستوى المطلوب من الاتقان والجودة، وما أكثرها.
ومن الأهمية بمكان بيان أهم المعايير والضوابط التي ينبغي أن تتحقق فيمن يُسَجَّل له القرآن، وهو "القارئ" الذي يجب أن تتوافر فيه مراعاة آداب التلاوة الظاهرة-والتي تشير غالبًا إلى الآداب الباطنة-، وجودة الأداء المطلوبة والتي من أبرزها ما يلي:
الضابط الأول: الإخلاص في تلاوة القرآن
فإن الإخلاص لله تعالى مطلبٌ عزيز، ومقصدٌ نفيس، وهو دليل صلاح العبد وصدق نيته وصلاح طويته وزكاة نفسه، وسلامة إيمانه، وصدق يقينه، وهو مطلب
من أعظم مطالب الدين، وإن مراعاة جانب الإخلاص لله تعالى في تلاوة القرآن من أعظم الأمور التي حث عليه الشرع المطهر، ذلك لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان لوجهه خالصًا ولشرعه موافقًا، ومن ذلك تلاوة القرآن، التي هي من أجل العبادات، والعبادات مبناها على الإخلاص لله تعالى؛ كما قال ربنا:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5).
التخويف من قراءة القرآن لغير الله:
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته وخوفها أيما تخويف فقال في ذلك فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ، ينزلُ إلى العبادِ
(1)
،
(1)
- وهو نزولًا على الحقيقة يليق بذاته العلية، وهذا هو معتقد أهل السنة، كما هو معتقدهم في سائر صفات الرب جل في علاه -إثباتها على الحقيقة- على وجه يليق بذاته تعالى بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل كما قال ربنا:(ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: 11)
ليقضيَ بينهم، وكلُّ أمةٍ جاثيةٌ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ورجلٌ كثيرِ المالِ، فيقولُ اللهُ عز وجل للقارئ: ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ عز وجل له: كذبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يقالَ: فلان قارئٌ،
وقد قيل ذلك ويُؤتى بصاحبِ المالِ، فيقولُ اللهُ عز وجل: ألم أُوَسِّعْ عليك حتى لم أدعْك تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ؛ قال: فماذا عملتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، أتصدَّقُ. فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جوَادٌ، وقد قيل ذلك. ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، فيقولُ اللهُ له: فبماذا قُتِلْتَ؟ فيقولُ: أيْ ربِّ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتِلتُ، فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جريءٌ، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسولُ اللهِ على رُكبتي فقال: يا أبا هريرةَ أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ
(1)
.
وقيل: إنَّما كان هؤلاء الثَّلاثةُ أوَّلَ خلْقِ اللهِ تعالى تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ لكونِ هذه العِباداتِ (تعلُّم القُرآنِ وتَعليمه، الجهاد، والإنفاق) رَفيعةَ القدْرِ عندَ اللهِ تعالى؛ فلمَّا لم يَبتَغِ أصحابُها بها وجْهَ اللهِ تعالى، بلْ طلَبوا بها العاجِلَ في الدّنْيَا، وآثَروا الفانِيَ فيها على الباقي في الآخِرةِ؛ فجازاهم اللهُ تعالى بأنْ جعَلَهم أوَّلَ مَن تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ إذ العِقابُ على قدْرِ عِظَمِ الجُرْمِ. وفي الحديثِ: التَّحذيرُ من الرِّياءِ، وبَيانُ شِدَّةِ عُقوبتِه.
(2)
وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به".
(3)
قال الخطابي (ت: 388 هـ) رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث:
أي: من عمل عملًا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يَشْهَرَه الله ويفضحه، ويبدو عليه ما كان يبطنه ويُسِرُّه من ذلك.
(4)
وقال صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن، وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله".
(5)
(1)
- رواه الترمذي (2382)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (22)
(2)
- يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية.
(3)
- رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة 11/ 336 (6499)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله 4/ 2289 (2987).
(4)
- الكبائر، للذهبي (ص: 65).
(5)
صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285)، ويُنظر: قيام الليل، محمد بن نصر المروزي (ص: 74).
ولعظم قدر القرآن ومكانته فإنه لا يُطلب به عرضًا زائلا من أعراض الدنيا كشرف المنزلة عند الناس وحسن ثنائهم عليه وصرف وجوههم إليه، أو ارتفاع على أقرانه، أو كطلب رئاسة أو جاه أو مال، أو لقضاء حوائجه والإفسحاء له في المجالس وتصديره فيها، أو نحو ذلك مما سوى التقرب إلى الله تعالى .. من حظوظ النفس ومشتهياتها. ومن أعظم ما يزجر عن هذه الخصال المذمومة
قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65).
ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الناس مع قراءة القرآن، وأثره فيهم:
كما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ.
(1)
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله في" الفتح":
قوله: طعمها طيب، وريحها طيب قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذا يمكن حصول الإيمان بدون القراءة.
(2)
وعن إياس بن عامر قال أخذ علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) بيدي ثم قال:
إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا ومن طلب به أدرك.
(3)
، أي أدرك ما كان يقرأ القرآن من أجله، وهذا أمرٌ واقعٌ وُمشَاهْدٌ في حياة الناس.
قال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله والناس في هذا أربع طبقات:
الأولى: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عدم القرآن والإيمان.
والثالثة: من أوتي قرآنًا، ولم يؤتَ إيمانًا.
والرابع: من أوتي إيمانًا، ولم يؤتَ قرآنًا.
(1)
صحيح البخاري، برقم:(5427)، واللفظ له، وصحيح مسلم، برقم:(797).
(2)
- فتح الباري (11/ 81).
(3)
سنن الدارمي (2/ 526).
قالوا: فكما أن من أوتي إيمانًا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرًا وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر.
(1)
وفي نحو ذلك يروي أحد القراء المعاصرين فيقول:
روى لنا شيخنا المُعَمَّر، المقرئ، الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل
(2)
حفظه الله وأمد في عمره: "أن السلطان: عبد الحميد العثماني، جمع كبار القراء من أقطار العالم الإسلامي، وذلك في
قصر يلدز، "وهو قصر الخلافة العثمانية في اسطنبول" وطلب السماع منهم، وكان آخرهم قراءة المقرئ الشيخ: حسين موسى شرف الدين المصري الأزهري "وهو أحد مشايخ شيوخ الشيخ محمد راوي القصة؛ والذي يرد ذكره في شجرة القراء وكان مجاورًا في المدرسة البادرائية بدمشق" وبعد أن أتم القراءة. صفقت زوجة السلطان من وراء الستارة: أن يقرأ آخر مقرئ مرة أخرى. ولما طلب السلطان من الشيخ إعادة القراءة؛ غضب الشيخ وأبى قائلاً: "قرأنا لله؛ ولا نقرأ لفلان، وفلان".
(3)
، فأين قراء زماننا من هذا.؟!
قال الحسن البصري (ت: 110 هـ) رحمه الله:
قُرَّاءُ القرآنِ ثلاثة:
الأول: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر، يطلب به ما عند الناس
الثاني: وقوم حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم
الثالث: ورجل قرأ القرآن، فبدأ بما يعلم من دواء القرآن، فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله، وهملت عيناه، وتسربلوا بالخشوع، وارتدوا الحزن، وركدوا في محاريبهم، وحثوا في برانسهم.
فبهم يسقي الله الغيث، وينزل المطر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر.
(4)
الإخلاص عمل قلبي:
(1)
- زاد المعاد (1/ 338، 339).
(2)
الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل: وهو من مواليد غوطة دمشق الشرقية ـ عربيل (عربين) 1913 م تقريبًا. وهو أحد شيوخي (الكلام لأبي الخير صلاح كرنبه-كاتب المقال) وقد التقيناه من حوالي الشهر في مدينة رسول الله صلى الله علية وسلم حيث جاءها زائرًا بعد تأديته للعمرة وهو من فضل الله بكامل قواه العقلية والجسمية ولكن الذي أعاقه على العطاء في مجال القراءات ضعف سمعه قليلا بارك الله فيه وفي أمثاله من -الصفوة- أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(3)
- الإخلاص في تلاوة القرآن، أبو الخير صلاح كرنبه، ملتقى أهل التفسير بتاريخ: 5/ 71428 هـ.
(4)
-عيون الأخبار، لابن قتيبة الدينوري (2/ 148).
والإخلاص وإن كان من أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، غير إن الله جعل ما يشير إلى ذلك في الظاهر وهو مما يدلل على ما في الباطن غالبًا، ألا وهو التحلي بالخشوع في التلاوة، فمن تحلى بالخشوع في قراءته ظهر أثر ذلك عليه لأولى الألباب، وذلك مصداق ما رواه ابن ماجه في السنن من حديث جابر بن عبدالله- (ت: 94 هـ) رضي الله عنه قال قال رسول الله عليه وسلم: "إن من أحسنِ الناسِ صوتًا بالقرآنِ الذي إذا سمعتَه يقرأُ، رأيتَ أنَّه يخشى اللهَ"
(1)
، ولا شك في أن الخشوع عمل قلبي غير إن الله أظهره على الجوارح.
فإن التَّعبُّدَ للهِ عز وجل بتِلاوَةِ القُرآنِ من أفضَلِ العِباداتِ، خاصَّةً إذا كان بتَدَبُّرٍ وخُشوعِ وعَمَلٍ بما فيه؛ وحتى يَحصُلَ الخُشوعُ في التِّلاوَةِ؛ فإنَّ اللهَ عز وجل أمَر بحُسْنِ التِّلاوَةِ مع التَّدَبُّرِ، وفي هذا الحديثِ: يُخبِرُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ حيثُ قال: "إنَّ مِن أحسَنِ النَّاسِ صَوتًا بالقُرآنِ"، أي: أفضَلِ الأصْواتِ تِلاوَةً للقُرْآنِ "الذي إذا سَمِعتَه يَقرَأُ، رَأيتَ أنَّه يَخْشى اللهَ"، أي: أنَّ المَطْلوبَ من تَحْسينِ الصَّوتِ بالقُرآنِ أنْ تُنتِجَ قِراءَتُه خَشيَةَ اللهِ، فمَن رأيتُم فيه الخشيَةَ، فقد حسَّن الصَّوتَ بالقُرآنِ، وهذا حَثٌّ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على تَحْسينِ الصَّوتِ به، وعلى تَرْتيلِه، فإذا قَرَأَ بهذه الصِّفَةِ، كان أوقَعَ في القَلْبِ وأشَدَّ تأثيرًا لسامِعِه.
(2)
وقوله: (حسبتموه يخشى الله) أي المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعًا فيعد من أحسن الناس صوتًا.
(3)
ولذا يجب أن يكون يكن الخوف من وقوع الرياء في القراءة باعثًا للقارئ على الإخلاص في قراءته، ولا يكن ذلك الأمر مثبطًا له عن المضي في القراءة بخشوع وحضور قلب؛ فإن الشيطانَ
(1)
- أورده السيوطي في الجامع الصغير (3965) وعزاه لابن ماجه عن جابر، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب فقال:"وروي" وهي من علامات الضعف عنده كما ذكر في مقدمته، فقد خرجه الشيخ أبو إسحاق الجويني في أجوبته عن أسئلة القراء فى مجلة التوحيد المصرية عدد رجب 1425 فى باب اسئلة القراء فقال في تخريجه: وأخرجه ابنُ ماجه (9331)، والآجري في «أخلاق حملة القرآن» (38)، وفي "فوائده"، وابنُ أبي داود في «كتاب الشريعة» ـ كما في "إتحاف السادة"(4/ 125) ـ من طرقٍ عن عبد الله بن جعفر المدينيُ، عن إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، عن أبي الزبير، عن جابرٍ مرفوعًا فذكره.
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 682): "سندُهُ ضعيفٌ".
وقال البوصيريّ في "الزوائد"(634/ 1): "هذا إسنادٌ ضعيفٌ لضعف إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد الله ابن جعفر". قُلْتُ: وعنعنة أبي الزبير أيضًا، فالصوابُ أن السَّند ضعيفٌ جدًّا، واللهُ أعلمُ. انتهى.
وقد صححه الألباني في صحيح الجامع (2202)، وفي صحيح ابن ماجه ج 1 حديث، وخرجه كذلك فى الصحيحة (1583).
(2)
يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية
(3)
- حاشية السندي على ابن ماجه (1/ 403).
يخوف العبدَ شاهرًا في وجهه سلاح الرياء، ليحمله على ترك العمل الصالح، فالمؤمن يقرأ ويحسن قراءته مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى متوكلًا عليه، قائلًا لنفسه "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله عنهما"
(1)
، وما من أحد عمل عملاً إلا سار في قلبه سَوْرَتان
(2)
، فإذا كانت الأولى منهما لله فلا تَهيدَنَّه الآخرة.
(3)
.
قال ابن الأثير (ت: 606 هـ) رحمه الله:
المعنى: إذا أراد فعلًا وصحت نيته فيه فوسوس له الشيطان فقال: إنك تريد بهذا الرياء، فلا يمنعه ذلك عن فعله.
(4)
فالإخلاص أن لا يكون للناس أي حظ من العبادة، ولا يترك المتعبد شيئًا منها لأجلهم.
(5)
، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لا نسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئًا عظيمًا من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين. فليقبل العبد على ربه وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال ربنا العظيم:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(النحل: 98 - 101).
إذًا فلا بد من استحضار النيَّة عند تلاوة القرآن، ولتكن تلاوته استجابةً لأمره سبحانه
القائل في كتابه الكريم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (النمل: 91 - 92).
(1)
- رواه البيهقي في شعب الإيمان (6879) أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت علي بن بندار، يقول: سمعت عبد الله بن محمود، يقول: سمعت محمد بن عبد ربه، يقول: سمعت الفضيل، يقول: فذكره، وإسناده ضعيف.
(2)
- قال ابن الأثير في النهاية (2/ 420) سورة أي ثورة من حدة. ومنه يقال للمعربد سوار.
(3)
- رواه أبو عبيد، في غريب الحديث (4/ 451) قال: سمعت ابن عدي يحدث، عن عوف، عن الحسن البصري، قال: فذكره، وإسناده صحيح.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 286).
(5)
- يُنظر: شرح عمدة الأحكام لابن العطار (3/ 1719).
الضابط الثاني: أن يكون القارئ عاملًا بالقرآن، متحليًا بالتخلية والتحلية
إن الأصل الدافع لهذا الضابط هو ما سنه الخليفة الراشد والصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه حينا اختار "زيدًا" للقيام بمهمة الجمع الثاني فقال له: " إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ"
(1)
فقوله: "لا نَتَّهِمُكَ" فيه معنى التخلية عن كل ما تركن إليه النفس، وكل ما تتهم به من الموانع القادحة كخوارم المروءة ومما يشين من الخلال والسمات غير الحميدة.
وقوله: "وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"، فيه معنى التحلية، وذلك لأن اختياره صلى الله عليه وسلم لزيد "كاتبًا للوحي" يُعد تزكية له من أعلى التزكيات، كما أن اعتماد الصديق لمنهج "التخلية والتحلية" في اختياره لزيد يُعد بذلك أول من سن في الإسلام سنة "شهادة الخبرة". بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، وبذلك تنعقد عليه الثقة وتطمئن إليه النفس.
وكما أن هذا الوصف الذي قد اجتمع في زيد في الجمع الأول، قد اعتمده وقرره الخليفة الثالث الراشد عثمان رضي الله عنه في الجمع الثالث في اختياره لزيد ليقوم بهمة الجمع الثالث، وفي ذلك إقرار لما أمضاه الصديق رضي الله عنه واعتمده في اختيار زيد رضي الله عنه.
وهذا الوصف الذي اتصف به زيد يجب أن يتصف به كل من يقوم على في كل عهد من عهوده-كذلك-، وإن كان الوصف نسبي بين وصف الصحابي ووصف غيره. ولا شك أن الجمع الرابع" الجمع الصوتي" يندرج تحت مسمى "الجمع".
الصحابة رضي الله عنهم والعمل بالقرآن
لقد أنزلَ الله تعالى القرآنَ على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ليعلّمه أمته، وليكون منهاجًا لهم في حياتهم يتدارسونه ويعملون به، فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه.
(1)
-البخاري، التفسير: 4311، فضائل القرآن: 4603، الأحكام:6654.
(2)
- وقد فعل ذلك متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حين استأجر عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلًا مشركًا خريتًا ليدله على الطريق إلى المدينة؛ فقد روى البخاريُّ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ. الحديث رواه البخاري برقم (2264).
والخريت: الخبير بطرق الصحراء.
واستعماله صلى الله عليه وسلم لرجل له خبرة سابقة بمعرفة الطريق يُعد بما نسميه في عصرنا الحاضر بـ: "شهادة الخبرة".
فعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا.
(1)
قال السندي
(2)
رحمه الله تعالى:
(حَزَاوِرَةٌ) جمع الحَزْوَر، ويقال له: الحزوَّر بتشديد الواو؛ هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم. كذا في الصحاح، وفي النهاية: هو الذي قارب البلوغ قوله: (فازددنا به) أي بسبب القرآن.
(3)
وفي نحو هذا الأدب يقول أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224 هـ) رحمه الله:
أن يحرص قارئ القرآن على أن يعمل بما قرأه من القرآن الكريم في حياته الدنيا حتى تكون التلاوة حجة له يوم القيامة وليست حجة عليه".
(4)
وهذه هي الحال التي وصفها ابن عمر رضي الله عنهما بقوله:
لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ.
(5)
..
(6)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين.
(7)
ولقد أسهم تقدم الإيمان على حفظ القرآن في جيل الصحابة، وذلك لأنه كان من أول القرآن نزولًا في العهد المكي هو "سور المفصّل" التي تركز على قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر وتؤسس
(1)
- رواه ابن ماجه (61)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه (1/ 37 - 38).
(2)
- محمد بن عبد الهادي التتوي، أبو الحسن، نور الدين السندي (المتوفى: 1138 هـ).
(3)
- حاشية السندي (1/ 31).
(4)
- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 51، 75)، البرهان (1/ 449: -474).
(5)
بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص وقيل: هو أردأ التمر، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 889) والنهاية لابن الأثير (2/ 172).
(6)
رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/ 84)، رواه الحاكم في المستدرك (1/ 35)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان "(106)، والهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/ 170).
(7)
جواب الاعتراضات المصرية (ص: 12).
الجانب العقدي الذي بُنِي عليه أس الإسلام، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُطْلِق على سور المفصّل "لباب القرآن". "لأنه فصل فيها ما أجمل في غيره".
(1)
فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قالت: " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ
بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)(القمر: 46) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ.
(2)
وروى الإمام مالك (ت: 197 هـ) في "موطئه" عن يحيى بن سعيد القطان، أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَيُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ، وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يُبْدُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَل، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلاةَ، وَيُبْدُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ.
(3)
إنما عظُم فيهم من جمع بعض سور القرآن، لما كان من شأنهم العمل بالقرآن، ولذا يقول أنس رضي الله عنه:"كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا".
(4)
، يعني: عظُم شأنه وارتفع قدره فينا، لعمله بمقتضى ما حفظ.
ويؤكد ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما هذا المعنى فيقول:
كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به.
(5)
وتحقيقًا لهذا المطلب الأسنى تراهم يتأخرون جدًا في حفظ السورة من القرآن، و ليس هذا من باب العجز عن الحفظ أو قصورًا في ذلك، وإنما لانشغالهم بالعمل بما دلت عليه آيات تلك
(1)
مرعاة المفاتيح، كتاب فضائل القرآن (7/ 254).
(2)
- رواه البخاري (4993).
(3)
موطأ مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة (1/ 598).
(4)
- تفسير البغوي: (8/ 238).
(5)
تفسير القرطبي (1/ 39).
السورة، فمن ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تعلم عمر رضي الله عنه البقرة في اثنتي عشرة سنة، لما ختمها نحر جزورًا.
(1)
فهذا الأثر يبين أن طول مكث عمر رضي الله عنه في تعلم سورة البقرة ليس من باب العجز أو الكسل أو التراخي-وحاشاه- ومن هو في فضله ومكانته وسبقه في كل خير وبر- وإنما لأن العلم بالقرآن عندهم اقترن بالعمل به.
وها هو ابن مسعود (ت: 73 هـ) رضي الله عنه يؤكد نفس المعنى فيقول:
إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
(2)
كما كان الأمر كذلك في جيل التابعين، وفي ذلك يقول قال الحسن البصري:
إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قِبَل أوله. قال الله تعالى-:(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(ص: 29)، وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه؛ ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفًا وقد- والله - أسقطه كله؛ ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل وحتى عن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
(3)
وفي هذا يقول ابن القيم (ت: 751 هـ) فيما يرويه عن بعض السلف:
نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملاً؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.
(4)
أثر القرآن في الصحابة رضي الله عنهم-
عن أسماء بنت أبي بكر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما قالت:
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم وتُقَشعِرُّ جلودهم.
(5)
، وهم كذلك كما وصف الله أولياءه في قوله سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
(1)
-أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (3/ 346)، وينظر: تفسير القرطبي: (1/ 40).
(2)
أخلاق أهل القرآن للآجري (ص: 10)، ويُنظر: تفسير القرطبي (1/ 40).
(3)
- مختصر قيام الليل، للمروزي، ص (176)، والزهد لابن المبارك، ص (274).
(4)
زاد المعاد، لابن القيم (1/ 323).
(5)
-أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (18383)، و يُنظر: تفسير القرطبي: (15/ 249).
الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23).
قال ابن منظور (ت: 711 هـ رحمه الله: القُشَعْرِيرة: الرِّعْدَة.
(1)
قال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
قَوْلُهُ: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.
(2)
الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رحمه الله:(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: " هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ،
وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ".
(3)
الضابط الثالث: ضبط القراءة مع مراعاة أحكام التجويد بلا تكلف ولا تعسف
إن قراءة القرآن مع مراعاة أحكام التجويد من أوجب ما يجب على القارئ العناية به ولا سيما عند تسجيل القرآن، والذي سيبقى إلى ما شاء الله، والذي سيستمع إليه- كذلك- من شاء الله من عباده من لا يحصيهم كثرة إلا هو سبحانه.
(1)
- لسان العرب، لابن منظور (5/ 95).
(2)
القَيْنات: بفتح القاف، وسكون التحتية: أي الإماء المغنيات.، يُنظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للتبريزي، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة (1/ 78).
(3)
تفسير ابن كثير: (7/ 55 - 56)، وينظر: تفسير القرطبي (12/ 59).
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله في "النشر":
فالتجويد مصدر من جَوَّدَ تجويدًا
…
فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين، ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق العربية
(1)
التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالًا على ما ألف من حفظه واستكبارًا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية.
(2)
. غير إنه يجب أن يراعى عدم التكلف والتعسف في القراءة والمبالغة في إقامة حروف القرآن والتعسف والتكلف والتقعر في النطق بها، وهذا التعسف والتكلف نهى عنه المعصوم صلى الله عليه وسلم عمومًا فقال:" هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلَاثًا.
(3)
والمُتَنَطِّعُونَ: المُتَعَمِّقُون، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدَودَ في أقْوَالِهِم وأفْعَالِهِم.
وقال العَلاَّمَةُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالأُدَبَاءِ، أبو الحسن عَلَمُ الدِّيْنِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ السَّخَاوي (ت: 643 هـ): رحمه الله في مَطْلَعِ قَصِيدَتِهِ الموسومة بـ: (عُمْدَةُ المُفِيدِ وَعُدّةُ الْمُجِيد في مَعْرِفَةِ التَّجْويدِ)
(4)
يَا مَنْ يَرُومُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ
…
وَيَرُودُ شَأْوَ أَئِمَّةِ الإِتْقَانِ
لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مداًّ مُفْرِطًا
…
أَوْ مَدَّ مَا لا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ
أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً
…
أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ
أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا
…
فَيَفِرّ سَامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ
لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا
…
فِيه وَلَا تَكُ مُخْسِرَ الْمِيزَانِ.
(1)
هي في الأصل هكذا "الحضرة النبوية الأفصحية"، وهذه ألفاظ لم يدرج عليها كلام السلف، وإنما هي أقرب لكلام المتصوفة الذين يعتقدون حضوره صلى الله عليه وسلم مجالسهم.
"ويطلق (الدراويش) على الحفلات الدينية التي يحيونها بانتظام، كل يوم من أيام الجمعة: اسم (الحضرات). يُنظر: دائرة المعارف الإسلامية (15/ 140).
(2)
- النشر في القراءات العشر (1/ 210 - 213). بتصرف يسير.
(3)
- رواه مسلم (2670).
(4)
- وعمدة المفيد منها نسخ مخطوطة كثيرة، منها: نسخة الظاهرية 3 (83 - 85) فهرس الظاهرية 1/ 222 224 - ، 7659 (45 - 47).
وهذا التكلف في إقامة حروف القرآن، يشغل عن الهدف الأسمى والمطلب الأسنى الذي أُنزل القرآن من أجله، ألا وهو: تدبر آياته، والعمل به، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه وحفظ حدوده وإقامتها كما أمر الله فيه.
وقالَ ابنُ الجَزَرِيِّ (ت: 833 هـ) رحمه الله في مُقَدّمتِهِ:
مُكَمِّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ.
(1)
وفي وصف القراءة الصحيحة يقول مَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ت: 437 هـ) رحمه الله:
يجب على القارئ أن يتَوسَّطَ اللفظَ بها، ولا يتعسَّف في شِدَّة إخراجها إذا نَطَق بها، لكنْ يخرِجها بلطافةٍ ورِفْق، لأنها حرْفٌ بَعُد مَخْرَجه، فصَعُب اللفظُ بها لصعوبته.
(2)
يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
فليسَ التجويدُ: بتمضيغ اللِّسَان، ولا بتقعيرِ الفَمِ ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصوتِ، ولا بتمطيط المشدد، ولا بتقطيع المَدِّ، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحصرَمة الرَّاءات، قِراءةً تنفر منها الطِباعُ، وتمُجُّها القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلةُ، العذبةُ، الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغَ فيها، ولا لَوكَ ولا تعَسُّفَ، ولا تكلُّف، ولا تصنُّعَ، ولا تنطُّعَ، ولا تخرج عن طباعِ العرب، وكلامِ الفصحاء بوجْهٍ من وجوه القراءاتِ والأداء.
فالتجويد: هو حلية التلاوة وزينة القراءة وهو اعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف
…
ثم يقول أيضًا:
وهذه سنة الله تبارك وتعالى فيمن يقرأ القرآن مجودًا مصححًا كما أنزل تلتذ الاسماع بتلاوته وتخشع القلوب عند قراءته حتى يكاد أن يسلب العقول ويأخذ بالألباب؛ سر من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه؛ ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ فكان إذا قرأ أطرب المسامع وأخذ من القلوب بالمجامع وكان الخلق يزدحمون عليه ويجتمعون على الاجتماع إليه
…
مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان عارفين بالمقامات والألحان لخروجهم عن التجويد والإتقان
…
وأما اليوم
فهذا باب أغلق وطريق سد نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم.
(3)
(1)
- مقدمة ابن الجزري، باب التجويد، البيت رقم:(32).
(2)
- الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، لمَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ص: 145).
(3)
يُنظر: النشر في القراءات العشر (1/ 165)، اللآلئ السنية شرح المقدمة الجزرية (ص: 69).
وفي نحو ذلك يقول أبو شامة المقدسي (ت: 665 هـ) رحمه الله:
لم يبق لمعظم من يطلب القرآن العزيز هِمَّة إلَّا في قوة حفظه، وسرعة سرده، وتحرير النطق بألفاظه، والبحث عن مخارج حروفه، والرغبة في حسن الصوت به، وكل ذلك وإن كان حسنًا ولكن فوقه ما هو أهم وأتم وأولى وأحرى، وهو فهم معانيه، والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته.
(1)
ويحذر ابن الجوزي (ت: 597 هـ) من هذا التكلف المذموم فيصف قراءة بعض المصلين ويقول رحمه الله:
وقد لبس إبليس عَلَى بعض المصلين فِي مخارج الحروف فتراه يَقُول: الحمد الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عَنْ قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عَلَيْهِ فِي تحقيق التشديد وتارة فِي إخراج ضاد المغضوب، ولقد رأيت من يَقُول المغضوب فيخرج بصاقة مَعَ إخراج الضاد؛ لقوة تشديده، وإنما
المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عَنْ فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس.
(2)
قَالَ العلامة المقرئ أبو الحسن على بن مُحَمَّد النوري الصفاقيسي (ت: 1118 هـ) رحمه الله:
وقد كان العالمون بصناعةِ التجويد يَنْطِقُونَ بها سَلِسَةً، سهلةً برفْقٍ، بلا تعَسُّف، ولا تكلُّف، ولا نبرةٍ شديدةٍ، ولا يتمكن أحدٌ من ذلك إلا بالرياضةِ، وتلقِّي ذلك من أفواه أهلِ العِلْم بالقراءة.
(3)
وفي ذكر أصناف المغرورين من أرباب العبادة والعمل يقول أبو حامد الغزَّالي:
وفرقةٌ أخرى: تغلبُ عليهم الوسوسةُ في إخراجِ حروفِ الفاتحةِ وسائرِ الأذكارِ من مخارجِها، فلا يزالُ يحتاطُ في التشديدات والفرقِ بينَ الضاد والظاء، وتصحيح مخارج الحروفِ في جميعِ صلاتِه، لا يهمُّه غيرُه، ولا يتفكرُ فيما سواه، ذاهلًا عن معنى القرآنِ والاتعاظِ به وصرفِ الفهمِ إلى أسرارِه، وهذا من أقبحِ أنواع الغرورِ، فإنه لم يُكَلَّف الخلقُ في تلاوةِ القرآنِ من تحقيقِ مخارج الحروفِ إلا بما جَرَت به عادتُهم في الكلامِ.
ومثال هؤلاء: مثالُ من حملَ رسالةً إلى مجلسِ سلطانٍ وأُمِرَ أن يؤديها على وجهِها، فأخذَ يؤدي الرسالةَ وتأنقَ في مخارج الحروفِ ويكررُها ويعيدُها مرةً بعد أخرى، وهو في ذلك غافلٌ عن
مقصودِ الرسالةِ ومراعاةِ حرمةِ المجلسِ، فما أحراه بأن تُقام عليه السياسة ويُرَدُّ إلى دارِ المجانين ويُحكم عليه بفقدِ العقلِ)
(4)
.
(1)
المرشد الوجيز (ص: 421).
(2)
- تلبيس إبليس، لابن الجوزي (1/ 126).
(3)
- تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين، للسفاقيسي (ص: 47).
(4)
-الإحياء، الغزالي، (3/ 510).
وقال الحافظ الذهبي (ت: 748 هـ) رحمه الله:
فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِ والتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلك عن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ.
وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا ويطربُ ويبكي، ورأيتُ منهم من إذا قرأَ قسَّى القلوبَ وأبرمَ النفوسَ وبدل كلام اللهِ، وأسوأُهم حالًا "الجنائزية".
(1)
وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيءٍ على التلاوة بما يُخرِج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات، اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة والمدود، ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟!
وآخر منهم: إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا "أبو
…
اعرفوني، فإني عارف بالسبع"، إيش نعمل بك؟! لا وصبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة.
(2)
.
وعلى هذا المعنى جاء كلامُ غيرهم من أهل العلم، فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول وهو يذكر مكائد الشيطان على الإنسان: ومنْ ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروفِ، والتنطع فيها
…
ومنْ تأملَ هديَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإقرارَه أهلِ كلِّ لسانٍ على قراءتِهم؛ تبيَّنَ له أن التنطعَ والتشدقَ والسوسةَ في إخراجِ الحروفِ ليس من سنته
(3)
.
(1)
-الجنائزية: نسبة إلى الجنائز، لعله يقصد القراء الذين يقرءون القرآن على الجنائز بالألحان المحرمة على ما سبق بيانه، والله أعلم.
(2)
بيان زغل العلم بالطلب، الذهبي، ص (4 - 5)، طبعة المقدسي، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد (ص: 24 - 25).
(3)
إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/ 252، 254)، وانظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص (10). للاستزادة يُنظر: بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل، محمد بن عبدالله المقدي، مركز إحسان للاستشارات التربوية
صحة الأداء:
وخاتمة هذا المبحث لريحانة الأداء الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ) حيث يقول رحمه الله عن صحة الترتيل:
الترتيل: وهو تجويد كلماته، وتقويم حروفه، وتحسين أدائه، بإعطاء كل حرفٍ حقَّه، ومنحه مستحقَّه من الإجادة والإتقان، والتحقيق والإحسان.
ولا يكون ذلك إلا بتصحيح إخراج كلِّ حرفٍ من مخرجه الأصلي المختصِّ به، تصحيحًا يمتاز به عن مُقارِبِه، وتَوْفِيَة كلِّ حرفٍ صفته المعروفة به توفيةً تُخرجه عن مجانِسه، مع تيسير النطق به على صفته الحقيقية، وهيئته القرآنية.
ومع العناية بإبانة الحروف، وتمييز بعضها من بعض، وإظهار التَّشديدات، وتحقيق الهَمَزات، وتوفية الغُنَّات، وإتمام الحركات، والإتيان بكلٍّ من الإظهار والإدغام والقَلْب والإخفاء على حقيقته التي وردت عن أئمَّة القرآن.
ومع تفخيم ما يجب تفخيمه من الحروف، وترقيق ما يجب ترقيقه منها، وقَصْر ما ينبغي قَصْرُه، ومَدِّ ما يتعين مدُّه، ومع ملاحظة الجائز من الوقوف، والممنوع منه؛ ليوقَفَ على ما يصحُّ الوَقْف عليه، ويوصَلَ ما لا يصحُّ الوَقْف عليه.
ثم هو يحذر من التعسف والتشدق فيقول- رحمه الله:
على أن يكون ذلك كله من غير تشدُّق ولا إسراف، ولا تصنُّع ولا اعتساف، ولا خروج عن الجادَّة إلى حدِّ الإفراط الذي قد ينشأ عنه تحريك السواكن، وتوليد الحروف، وتكرير الراءات، وتطنين النونات بالمبالغة في الغنَّات، إلى غير ذلك مما ينفر منه الطَّبْع السليم، ويأباه الذَّوْق المستقيم.
ثم هو يحذر القارئ من الإسراع والعَجَلَة في القراءة، ويوجه إلى التؤدة والاطمئنان فيقول رحمه الله:
وعلى أن يكون ذلك كلُّه - أيضًا - في تؤدةٍ وطمأنينةٍ، وبُعْدٍ عن الإسراع والعَجَلَة.
وهذه الكيفيَّة هي التي نزل بها القرآن الكريم، وهي المرادة من الترتيل الذي أمر الله به نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:(وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً)(المزمل: 4).
(1)
الضابط الرابع: القراءة بتؤدة واطمئنان، مع العناية بمخارج الحروف ومساواة الغنن والمدود وضبط مقاديرها، ومرعاة مراتب التّفخيم والتّرقيق، وتوفية الحركات حقها
.
وهذا الضابط من الأهمية بمكان لتفادي أي لحن خفي، إذ إن الكثير من القراء المعاصرين لهم اختلاسات واضحة وجلية تظهر لأهل التحقيق والتدقيق من أئمة الأداء وسادة الإقراء لأول وهلة،
(1)
أحكام قراءة القرآن الكريم، للشيخ محمود خليل الحصري (ص: 389).
وذلك يرجع غالبًا للهجة القارئ ومنشئه، إذ اللهجات المحلية لبعض البلدان والقبائل يغلب عليها اختلاس بعض حركات الحروف كما هو معروف.
والمطلوب من قارئ القرآن هو القراءة بتؤدة واطمئنان وترسل وتمهل مع العناية بتبيّن الحروف، مع عدم العجلة المخلة بالقراءة؛ كما قال الله تعالى:(ورتّل القُرآنَ تَرتِيْلاً)(المزمل: 4)
والترتيل كما هو معلوم تبيين الحروف وإظهارها، ولا يكون ذلك إلا بإخراجها من مخارجها.
قال الزجاج
(1)
رحمه الله:
رتّل القرآن ترتيلًا، بينه تبيينًا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع.
(2)
وقال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
الترتيل مصدر من رتل فلان كلامه؛ إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث
…
قال صاحب العين: "رتلت الكلام: تمهلت فيه.
(3)
ومراتب القراءة وإن كان قد قال عنها بعض أهل التجويد أنها أربعة مراتب من جهة الإسراع والبطء، وهي:"التحقيق، والتدوير، والترتيل، والحدر"
(4)
، والبعض قد جعلها ثلاثًا:(الترتيل، والتدوير، والحدر)
(5)
ومنشأ الخلاف بين هذه الأقوال يرجع إلى مرتبة "التحقيق"، فالبعض يجعلها مع الترتيل مرتبة واحدة، كالإندرابي في " الإيضاح"، والبعض يجعل الترتيل صفة من صفات التحقيق، كالداني في "التحديد"
(6)
، ومنهم من يجعله مرتبة مستقلة، كالقسطلاني في "اللآلئ السنية"
(7)
، والبعض يرى أن الترتيل هو الأصل وباقي المراتب تندرج تحته وتنبثق عنه فالترتيل يندرج تحته التحقيق والحدر والتدوير.
(1)
-الزَجَّاج أو أبو إسحاق الزجّاج أو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السرى بن سهل الزجاج البغدادي (241 هـ-311 هـ)، نحوي من العصر العباسي، "من أهل العلم بالأدب والدين المتين" كما وصفه ابن خلكان. صنف العديد من الكتب، أشهرها كتاب معاني القرآن في التفسير، وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف وكتاب تفسير أسماء الله الحسنى. صحب وزير الخليفة العباسي المعتضد بالله عبيد الله بن سليمان، وعلم ابنه القاسم بن عبيد الله الأدب. يُنظر: الموسوعة الحرة" ويكيبيديا".
(2)
- يُنظر: تفسير الفخر الرازي (16/ 107).
(3)
- التمهيد، لابن الجزري (1/ 59).
(4)
- كالقسطلاني في اللآلئ السنية ص 52.
(5)
- كالإندرابي في الإيضاح ص 290.
(6)
يُنظر: التحديد للداني ص 69
(7)
يُنظر: اللآلئ السنية للقسطلاني ص 52.
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله في "النشر: "
فإن كلام الله تعالى يقرأ بالتحقيق وبالحدر وبالتدوير الذي هو التوسط بين الحالتين مرتلاً مجودًا بلحون العرب وأصواتها وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة
…
ثم شرع في الكلام على كل مرتبة على حدة الى أن قال: عن التحقيق: وهو نوع من الترتيل
…
وقال أيضًا: فالتحقيق داخل في الترتيل كما قدمنا والله أعلم.
(1)
والخلاصة
أن كلّ من يقرأ بهذه المراتب الثلاث هو في الحقيقة مرتلٌ للقرآن كما أمر الله، ما دم يقرأه كما أمره الله بأحكامه التي أُخِذَت مشافهة ونقلت بالتواتر، وهو في ذلك مؤتمرٌ بقوله تعالى:(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)(المزمل: 4)، فالمراتب الثلاث الأخرى يقرأ فيها القارئ بأحكام التجويد، غير أنها تتباين فيما بينها حسب حال القارئ والمقام المقتضي للقراءة سرعة وبطأ. فقد يكون القارئ في موطن يريد فيه أن يسرع شيئًا ما، كمن يريد المراجعة وضبط المحفوظ مثلًا، أو أن يكون في صلاة التهجد في رمضان أو غيره فيُسرع مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وفي موطن آخر يريد فيه أن يبطئ شيئًا ما، كمن يقرأ بتدبر وتمعن في معاني الآيات التي يتلوها، وقد يكون في مقام التعليم والتلقين
فيحتاج لبطء القراءة أكثر ليجلي صفات الحروف ومخارجها وحركاتها وأحكام التلاوة للمتعلمين بصورة جلية فيقرأ بمرتبة التحقيق، وقد يريد القارئ أن يقرأ لنفسه فيكون أسرع قليلًا وهكذا.
يقول أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في "التحديد":
الترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط، والتحقيق لرياضة الألسن وترقيق الألفاظ الغليظة وإقامة القراءة وإعطاء كل حرف حقه.
(2)
ففي هذه المراتب كلها يقرأ القارئ بتؤدة واطمئنان، مسرعًا كان، أو متوسطًا في سرعته في التلاوة، أو كان يقرأ بين ذلك، وهذا يعتمد على المقام الذي يقرأ فيه
(3)
، كما يعتمد على مهارة القارئ ورياضة لسانه وكثرة دربته وتمرسه مع القراءة، وجميع تلك المراتب يجب أن يعتني فيها القارئ بأحكام التجويد.
فمراتب القراءة إذًا تعود في هذه المسألة حسب المصلحة الشرعية لما يتلوه القارئ.
(1)
النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 205).
(2)
- يُنظر: التحديد للداني، ص 72
(3)
- يعني تعليمًا، أو تلاوة مراجعة لضبط المحفوظ، أو قراءة يحتاج فيها لإسراع في القراءة لكثرة ما يقرأه كحال القيام في رمضان وغيره- ونحو ذلك من المقامات والأحوال التي يتعرض لها القارئ.
وفي نحو ذلك يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله في "النشر ":
لا أعلم سببًا لبلوغ نهايةِ الإتقان والتجويد، ووصول غاية التصحيح والتشديد - مِثل رياضة الألسُن، والتكرار على اللفظ المتلقِّي من فم المحسن.
(1)
وأما مساواة وضبط مقادير المدود، والغنن، ومرعاة مراتب التّفخيم والتّرقيق الخ، فإنه أمرٌ لابد فيه من التلقي والضبط والعرض بالمشافهة على أهل الإتقان من أئمة الإقراء، مع وجوب العناية بهذا الجانب لأنه مع مكانته وقدره، فهو كذلك من حلية التلاوة، ومع المشافهة والتلقي لابد من الدربة والمران والرياضة حتى يصبح هذا الجانب سجية في تلاوة القارئ.
الضابط الخامس: وجوب عناية القارئ بالوقف والابتداء
إن علم الوقف والابتداء من أجلِّ علوم القرآن المتعلقة بإيضاح وجوه معاني القرآن، وهو من أهم العلوم التي يستعان بها على فهم مراد الله من كلامه سبحانه، ولا شك في أن اعتماد علماء الوقف والابتداء في وضع تلك العلامات المعروفة والمشاهدة في المصاحف، إنما بُنِيَ على التأمل في معاني آي القرآن، بحيث يقف القارئ ويبتدئ على حسب ما تقتضيه المعاني والألفاظ التي يحسن الوقوف عليها أو الابتداء بها، ولا شك أن مراعاة تلك العلامات والالتزام بها يُعد من أجل الأسباب المعينة على فهم كلام الله وتدبر آياته، وإنما قد أُخِذ اعتمادها من المنقول والمعقول.
وفي نحو ذلك يقول علم الدين السخاوي (ت: 902 هـ) رحمه الله:
ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء تبيين معاني القرآن العظيم وتعريف مقاصده وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده.
(2)
وقال ابن النَّكْزَاوي
(3)
:
باب الوقف عظيم القدر، جليل الخطر؛ لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل ..
(4)
وقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ (ت: 926 هـ) رحمه الله:
من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء؛ إذ لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلَّا بمعرفة الفواصل، فهذا أدل دليل على وجوب تعلمه وتعليمه.
(5)
(1)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 210 - 215).
(2)
-جمال القراء (ص: 553).
(3)
- معين الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أبي زيد الأنصاري المدني أصلاً ثم الإسكندراني المصري، المعروف بالنَّكْزَاويّ (612 - 683 هـ). يُنظر: غاية النهاية 1: 452 وحسن المحاضرة 1: 288، وتُنظر: ترجمته في: الإعلام للزركلي.
(4)
- يُنظر: الإتقان، للسيوطي:(1/ 230).
(5)
منار الهدى في بيان الوقف والابتداء (1/ 13).
وهذا العلم، علمٌ دقيق رقيقٌ قلَّ مَنْ يُتْقِنَه ونَدُرَ من يُحسنهُ، فكثيرًا ما تسمع من بعضِ القراء وقفًا قبيحًا مغايرًا للمعنى المراد، فيُكَدِّرُ سمعك ويُحْزِنُ قلبك.
لذا ينبغي على قارئ القرآن الاهتمام بضبطُ قواعدِ الوقفِ والابتداءِ الكليةِ والعناية بمواضعها الدقيقة، لما يترتب من جراء ذلك من تولد المعاني الصحيحة التي وضعت علامات الوقف والابتداء في المصاحف من أجل تحصيلها.
(1)
صفة اتقان علم الوقف والابتداء
ولمكانة علم الوقف والابتداء وقدره فقد ذكر أئمة الأداء جمعًا من العلوم يجب أن تتحقق فيمن يقوم عليه بالتمام، ويتصدر له ويتقنه بكمال وإحسان.
قال أبو بكر بن مجاهد التميمي (ت: 324 هـ) رحمه الله:
لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.
(2)
أهمية مراعاة الوقف والابتداء
ولقد تضافرت الأدلة على أهمية مراعاة الوقف والابتداء؛ وقد كثرت النقول التي تدل على عناية سلف الأمة السلف بهذا العلم الجليل وتطبيقه عمليًا عند تلاوتهم للقرآن. قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل: 4) فهذا أمر من الله تعالى بترتيل القرآن، وندب منه سبحانه للعباد إلى ترتيل كلامه المنزل؛ ومراعاة الوقوف لا شك أنها داخله في ذلك ضمنًا.
قال ابن عباس (ت: 68 هـ) رضي الله عنهما:
في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} . (بينه تبيينًا)
(3)
وقال الحسن:
اقرأه قراءة بيِّنة. وقال مجاهد: بعضه على إثر بعض على تؤدة وقال أيضًا: (ترسَّل فيه ترسُّلا)
(4)
.
(1)
هذا الكلام لم يُكْتَب بقلم الباحث، فنقله هكذا، ولم يقف له على عزو، وعليه جرى التنبيه.
(2)
-القطع والاستئناف. (ص: 94).
(3)
- رواه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر النسخة المسندة (4/ 3777) ومختصر إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري (8/ 6590) ورواه الطبري جامع البيان (12/ 1/ 127) وابن النحاس القطع (1/ 74) وينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 277).
(4)
- مصنف عبد الرزاق (2/ 490) ومصنف ابن أبي شيبة (10/ 525) جامع البيان (12/ 1/ 127) والتمهيد في معرفة التجويد لأبي العلاء الهمذاني: (141) والدر المنثور: (6/ 277).
وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
اقرأه قراءة على تمهل، فإنه يكون عونًا على فهم القرآن، وتدبره.
(1)
وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4).
قال ابن النحاس
(2)
:
من التبيين تفصيل الحروف والوقف على ما تم معناه منها.
(3)
وقد حكى ابن النحاس وأبو عمرو الداني وغيرهما، إجماع العلماء على أهمية مراعاة الوقف والابتداء
(4)
.
واستدلوا على ذلك بقول عبد الله بن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا
…
ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ
(5)
..
(6)
وهذا الأثر يبين مكانة الوقف والابتداء عند الصحابة رضي الله عنهم، ومدى عنايتهم به على النحو الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عنايتهم به كانت كعنايتهم بمعرفة معاني القرآن الكريم، والوقوف على حلاله وحرامه ولقد شبّه ابن عمر رضي الله عنهما عدم العناية بالقراءة بنثر الدقل، الذي هو رديء التمر ويابسه.
عناية السلف بالوقف والابتداء
لقد اشتهر اعتناء السلف رحمهم الله تعالى، بهذا العلم حتى عد ابن الجزري ذلك متواتر عنهم
…
(1)
- تفسير ابن كثير (4/ 363) وقيل: إن عليًا رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف" النشر (298)(1، 316) ولم أجده (الميموني) في التفاسير التي تعتني بالمأثور وقد رواه الهذلي في الكامل ورقة (34)(مخطوط) ينظر الوقف والابتداء للغزال (1/ 6) رسالة دكتوراه تحقيق الدكتور العثمان إشراف الشيخ محمد محمد سالم محيسن.
(2)
أبو جعفر النحاس نحوي مصري، ولد بالفسطاط وأخذ النحو عن مشايخها، ثم رحل إلى بغداد وأخذ عن الزجّاج والأخفش الأصغر والمبرد ونفطويه، توفي بالفسطاط عام 338 هـ. يُنظر: الموسوعة الحرة "ويكيبيديا".
(3)
القطع لابن النحاس (1/ 74).
(4)
-القطع (1/ 87) والكتفي (135) والنشر (1/ 225).
(5)
بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص وقيل: هو أردأ التمر، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 889) والنهاية لابن الأثير (2/ 172).
(6)
رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/ 84)، رواه الحاكم في المستدرك (1/ 35)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان "(106)، والهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/ 170).
قال ابن الجزري (ت: 4833 هـ) رحمه الله:
وصحّ بل تواتر عندنا تعلّمه والاعتناء به من السلف
…
إلى أن قال:
…
وكلامهم في ذلك معروف ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب، ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحدًا إلاّ بعد معرفته الوقف والابتداء، وكان أئمتنا يوقفونا عند كل حرف ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنّة لذلك أخذوها عن شيوخهم الأولين.
(1)
، وكانوا يعتنون بذلك حال الإقراء.
وقد حض العلماء على تعلم الوقف والابتداء والعمل به، وبينوا عظيم فضيلته، وذلك مذكور في مقدمات كثير من كتب الوقف والابتداء، وفي كثير من كتب فن التجويد ومضمن في كتب علوم القرآن.
وكان مما سطروه في ذلك قول ابن الأنباري (ت: 328 هـ) رحمه الله:
من تمام معرفة القرآن ومعانيه، وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام، والوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كاف
(2)
وقال الهذلي (ت: 167 هـ) رحمه الله في كامله:
الوقف حلية التلاوة وزينة القارئ وبلاغ التالي وفهم المستمع وفخر العالم وبه يُعرف الفرق بين المعنيَيْن المختلفَيْن والنقيضَيْن المتنافيَيْن والحكمَيْن المتغايرَيْن.
وقال أبوبكر الأنباري (ت: 328 هـ) رحمه الله:
ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه.
الضابط السادس: القراءة بخشوع وتخشع وحضور قلب
أ- الخشوع اللغة:
قال ابن فارس (ت: 395 هـ) رحمه الله:
خشع: الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدل على التَّطامُن، يقال: خشع إذا تطامن وطأطأ رأسه، ويخشع خشوعًا، وهو قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في
البدن
…
والخشوع في الصوت والبصر، قال الله تعالى:(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)(طه: 108)، قال ابن دريد: الخاشع: المستكين والراكع.
(3)
(1)
- النشر (255/ 1).
(2)
-الإيضاح في الوقف والابتداء (1/ 108)، ويُنظر: كتاب فضل علم الوقف والابتداء وحكم الوقف على رؤوس الآيات، عبد الله الميموني (ص: 17).
(3)
- معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ، كتاب الخاء، باب الخاء والشين
…
، ص 316.
قال الفيروز أبادي (ت: 817 هـ) رحمه الله:
الخشوع: الخضوع، كالاختشاع - والفعل كمنع - أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر، والخشوع: السكون والتذلل.
(1)
الخشوع: الخُضوعُ، والسُّكونُ، والتذلُّلُ، والفعل منه: خَشَعَ؛ يُقال: خشَع الشخصُ لربّه: أي خضع واستكان، وتضرّع، وتذلّل، والخُشوعُ يمكن أن يكون في البدن، أو الصوت، أو البصر.
(2)
قال أبو السعادات ابن الأثير (ت: 606 هـ) رحمه الله:
والخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن.
(3)
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله:
والخشوع في أصل اللغة: الانخفاض، والذّل، والسكون، قال اللَّهُ تعالى:(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)(طه: 108) أي سكنت، وذلَّت، وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع، وهو يبسها، وانخفاضها، وعدم ارتفاعها بالري والنبات، قال اللَّه تعالى:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(فصلت: 39).
(4)
ب- الخشوع شرعًا:
والخشوع في الشرع: خضوع القلب، وتذلله لله -سبحانه-، كما عرّفه بذلك الإمام ابن القيّم رحمه الله، وقِيل بأنّه: القبول، والانقياد إلى الحقّ والصواب دون أيّ مانعٍ، حتى وإن اختلف الحقّ مع الهوى والرغبة، وأضاف ابن رجب الحنبلي في تعريف الخشوع أنّه: رقّة القلب مع اللين والانكسار والحُرقة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الخشوع يكون في القلب، مع بيان آثاره في
الجوارح،
(5)
ومن المواضع التي يجدر بالمسلم الخشوع فيها أثناء تلاوته لآيات القرآن الكريم؛ سواءً في الصلاة أم خارجها، إلّا أنّه في الصلاة آكدٌ.
(6)
قال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله:
وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح، وهي تظهره.
(7)
(1)
- القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز أبادي، ت 817 هـ، باب العين، فصل الخاء، ص 921.
(2)
- تعريف و معنى خشع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي، بتصرّف.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الخاء مع الشين (2/ 34).
(4)
- مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 520)
(5)
د. محمد الصّباغ (1999 م)، الخشوع في الصلاة (الطبعة الثالثة)، السعودية: مكتبة الورّاق، صفحة 12 - 16.
(6)
- صلاة المؤمن: (ص: 310)، الدكتور: سعيد بن وهف القحطاني، صلاة المؤمن - مفهوم، وفضائل، وآداب، وأنواع، وأحكام، وكيفية في ضوء الكتاب والسنة (الطبعة الرابعة)(2010 م)، جزء 1، بتصرّف.
(7)
- مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 521)
وقال ابن رجب الحنبلي (ت: 695 هـ) رحمه الله:
وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
ألَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
(1)
. والتخشُّع: تكلّف الخشوع.
(2)
.
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله في كتاب "الفوائد:
قاعدة جليلة:
إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سَمعك واحضر حُضُور من يخاطبه بِهِ من تكلّم بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فانه خَاطب مِنْهُ لَك على لِسَان رَسُوله قَالَ تَعَالَى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد)
(ق: 21) وَذَلِكَ أَن تَمام التَّأْثِير لمّا كَانَ مَوْقُوفًا على مُؤثر مُقْتَض وَمحل قَابل وَشرط لحُصُول الْأَثر وَانْتِفَاء الْمَانِع الَّذِي يمْنَع مِنْهُ تضمّنت الْآيَة بَيَان ذَلِك كلّه بأوجز لفظ وأبينه وأدلّه على المُرَاد فَقَوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى) اشار إِلَى مَا تقدّم من أوّل السُّورَة الى هَهُنَا وَهَذَا هُوَ المؤثّر وَقَوله (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فَهَذَا هُوَ الْمحل الْقَابِل وَالْمرَاد بِهِ الْقلب الحيّ الَّذِي يعقل عَن الله كَمَا قَالَ تَعَالَى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا) أَي حيّ الْقلب وَقَوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أَي وجَّه سَمعه وأصغى حاسّة سَمعه إِلَى مَا يُقَال لَهُ وَهَذَا شَرط التأثّر بالْكلَام وَقَوله (وَهُوَ شَهِيدٌ) أَي شَاهد الْقلب حَاضر غير غَائِب.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة الدينوري (ت: 276 هـ) رحمه الله:
اسْتمع كتاب الله وَهُوَ شَاهد الْقلب والفهم لَيْسَ بغافل وَلَا ساه وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَانِع من حُصُول التَّأْثِير وَهُوَ سَهْو الْقلب وغيبته عَن تعقّل مَا يُقَال لَهُ وَالنَّظَر فِيهِ وتأمّله فَإِذا حصل الْمُؤثر وَهُوَ الْقُرْآن
وَالْمحل الْقَابِل وَهُوَ الْقلب الْحَيّ وَوجد الشَّرْط وَهُوَ الإصغاء وانتفى الْمَانِع وَهُوَ اشْتِغَال الْقلب وذهوله عَن معنى الْخطاب وانصرافه عَنهُ إِلَى شَيْء آخر حصل الْأَثر وَهُوَ الِانْتِفَاع والتذكّر.
(3)
الضابط السابع: تحسين الصوت بالتلاوة
(1)
- متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم 52، ومسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، برقم 1599.
(2)
مختار الصحاح للرازي، مادة:(خشع)(ص: 74).
(3)
- الفوائد، لابن القيم (ص: 3).
القرآن كلامُ الله، أنزلَه على قلبِ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليقرأَه على الناس على مُكْثٍ؛ كما قال ربنا:{وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء: 106)، و قال له ربه:(وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا)(المزمل 4)
قال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله في تفسيره:
والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد.
(1)
وحينما يُتلى القرآن تصغى له آذان المؤمنين، فَتَنْقَاد له قلوبهم وتخشع، وتهتدي لأوامره نفوسهم وتخضع، ولا سيما إن كانت تلاوته من صوت حسن يرتل آياته ويخشع.
ولقد دلت نصوص السنة على الترغيب في تَحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم، فمن حَسَّنَ صوته بالقرآن من غير تكلف ولا تعسف امتثالًا لأمر الشرع المطهر فنِعِمَّا فعَل، وقد اقتدى
وامتثل، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به".
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
وتفسيره-التغني-عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تحسين الصوت به.
(3)
فالمقصود بالتغني إذًا هو تحسين الصوت بالقرآن. والتغني بالقرآن يكون بالجهر بتلاوته مع تحسين الصوت به والخشوع فيه؛ ليحرك به القلوب؛ لأن من مقاصد قراءة القرآن تحريك القلوب به لتتأثر وتخشع وتخضع لباريها؛ فتنتفع بالقرآن وبهداياته.
ومعنى قوله: "ما أذن الله"؛ أي: ما استمع الله؛ والاستماع هنا استماع على الحقيقة يليق بذات الله تعالى، وهو استماع لا يشبه استماع المخلوقين، مثله مثل سائر صفات الرب جل في علاه- وإنما يُقَال في استماعه سبحانه وإذنه مثل ما يقال في سائر صفاته سبحانه وتعالى، ويكون إثبات جميع صفات الرب جل في علاه على الوجه اللائق به سبحانه كما قال ربنا:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(الشورى: 11).
وروى أبو داود من حديث أبي لبابة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يتغن بالقرآن فليس منا"
(4)
. و "من لم يتغن" هو من لم يحسن صوته.
(5)
(1)
- تفسير القرطبي (19/ 37).
(2)
- رواه البخاري (5023)، مسلم (ج 1 حديث 233).
(3)
- يُنظر: جامع المسائل لابن تيمية (3/ 304)
(4)
- صححه الألباني في صحيح أبي داود (ج 1 حديث 1305).
(5)
وهو قول الجمهور، حكاه النووي في التبيان (1/ 110).
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع.
(1)
قال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله:
اعلم أن جماعات من السلف كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرؤوا وهم يستمعون وهذا متفق على استحبابه وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين وهى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليَّ القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئتُ إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(النساء: 41) قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
(2)
و روى الحاكم كذلك من حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا".
(3)
، وفي رواية" حُسْنُ الصوت؛ زينة القرآن ".
(4)
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتَ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال:" لقد أوتي مِزْمَارًا من مزامير آل داود"
(5)
وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مُوسَى: " لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ "
(6)
، قال أبو موسى:"لو علمت يا رسول الله أنك تستمع إليَّ لحبرتّه لك تحبيرًا".
(7)
(1)
- شرح البخاري لابن بطال (1/ 261).
(2)
البخاري (4582)، التبيان (114)
(3)
- رواه الحاكم في المستدرك (2125)، والدارمي (3501)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (ج 1 حديث 3581)، وفي مشكاة المصابيح (2208).
(4)
رواه الطبراني في الكبير (9881)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3144).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (فضائل القرآن)، باب (حسن الصوت بالقراءة للقرآن) برقم: 4660، ومسلم في صحيحه كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم:1322.
(6)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(7)
- يُنظر: فتح الباري (14/ 272)
وقوله: "مزمارًا من مزامير آل داود": قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْت الْحَسَن، وَأَصْل الزَّمْر الْغِنَاء، وَآلُ دَاوُدَ هُوَ دَاوُدُ نَفْسه، وَآلُ فُلَان قَدْ يُطْلَق عَلَى نَفْسه، وَكَانَ دَاوُدُ صلى الله عليه وسلم حَسَن الصَّوْت جِدًّا "
(1)
ومما يؤيد كلام النووي ويؤكده أن المراد بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْت الحسن لا الألحان- قوله- صلى الله عليه وسلم لأبي موسى (أُوتِيتَ) -بتاء المخاطب- بما لم يسم فاعله، مما يدل على أن الذي وهبه الصوتَ الحسن هو اللهُ سبحانه وتعالى، وأنه لم يحصل له ذلك بالتعلم والتمرن والتريض.
قال ابن الأثير (ت: 606 هـ) رحمه الله في "النهاية":
وفي حديث أبي موسى سَمِعه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فقال: (أُعْطِيتَ مزْمارا من مَزَامِير آلِ دَاودَ). شبَّه حُسنَ صَوته وحلاوة نَغْمَته بصوت المِزْمارِ. وداودُ هو النبي- عليه السلام وإليه المُنْتَهى في حُسْن الصَّوت بالقراءةِ.
(2)
وقال ابن خلدون (ت: 808 هـ) رحمه الله:
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) فليس المراد به الترديد والتلحين، إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها.
(3)
وقول أبي موسى "لحبرتّه لك تحبيرًا"
يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ.
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا.
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ.
(4)
يقول سماحة شيخنا الإمام ابن باز (ت: 1420 هـ) رحمه الله:
لم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؛ فدل على أن تحبير الصوت وتحسين الصوت والعناية بالقرآن أمر مطلوب؛ ليخشع القارئ والمستمع، ويستفيد هذا وهذا.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم ج 3 ص 146
(2)
النهاية، لابن الأثير (2/ 778).
(3)
- تاريخ ابن خلدون (1/ 426).
(4)
-أحكام القرآن، لابن العربي المالكي (4/ 1595)
تحسين الصوت لا ينافي الإخلاص:
وفي ذلك يقول الإمام أبو بكر الآجُرِّي (ت: 360 هـ) رحمه الله:
ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم؛ فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله، لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا، والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصِّلات بالملوك، دون الصلات بعوام الناس؛ فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه: خفت أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية، وكان مراده أن يُسْتَمَعَ منه القرآنُ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم؛ فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس.
(1)
فصل النزاع بين التغني و"المقامات الموسيقية"
يبين الباحث هنا الفرق بين حقيقة التغني بالقرآن المأمور به شرعًا وبين القراءة بـ"المقامات الموسيقية"، والتي يسميها البعض بـ" المقامات الصوتية" هروبًا من مسماها الأصلي مع توضيح وتجلية الفرق بينهما.
وإنما تأتي تسميتها بغير اسمها من باب قلب الحقائق، لترويج الباطل، وذلك ليسوغ للمتلقِّي قبولها، واستحسانها، غير معظمٍ لحرمتها، وذلك لما تضفيه علي تلك المسميات "التي تقلب
الحقائق" عن أصلها إلى قالب مستساغ "لفظه" من أسماء براقة، وذلك ليهون من فظاعتها وفظاظتها وشدة قبحها وحرمتِها.
ولقد كان للشيطان قدمُ السبق في هذا المضمار، وذلك لأنه كان أول من سن تلك السنة السيئة التي تقلب الحقائق الثابتة بتغير مدلولاتها بألفاظ أُخر- مكرًا وخديعة وكذبًا وتدليسًا- لتتلقاه وتتلقفه منه أولياؤه، ويوحي بها بعضهم لبعض زخرف القول غرورًا، كما قال ربنا:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)(الزخرف: 12)، ومن أظهر ذلك قلبه لحقيقة الشجرة التي نهى الله الأبوين من قربانها فسمها بغير اسمها، سماها بـ" شجرة الخلد وملك لا يبلى".
(1)
أخلاق أهل القرآن، للآجري (ص 161).
قال ابن القيم (ت: 751 هـ) في إغاثة اللهفان" رحمه الله:
وإنما كذبهما عدو الله، وغرّهما، وخدعهما؛ بأن سمّى تلك الشجرة "شجرة الخلد"، فهذا أول المكر والكيد، ومنه وَرِثَ أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها، فسمَّوا الخمر أمَّ الأفراح، وسمَّوا أخاها بلُقَيْمة الراحة
(1)
، وسمَّوا الربا بالمعاملة، وسمَّوا
المُكُوسَ بالحقوق السلطانية، وسمَّوا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسمَّوا أبلغ الكفر- وهو جحد صفات الرب- تنزيهًا، وسمَّوا مجالس الفسوق مجالس الطَّيبة! فلما سمَّاها "شجرة الخلد" قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا؛ فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون ..
وحين تقلب الحقائق عن معانيها المقصودة فلابد من التحاكم للغة العرب التي نزل بها القرآن، ونطق بها أفصح الخلق عليه الصلاة والسلام، فمن تأمل الألفاظ التي رغَّب فيها الشرع بتحسين الصوت يجدها ترجع إلى عبارات لغوية تدور حول هذا المعنى مثل ألفاظ "التعني بالقرآن"، أو غيرها من الألفاظ التي وردت على ألسنة بعض شراح الأحاديث التي رغب فيها الشرع بتحسين الصوت، كلفظ "الترنم"، ولفظ "النغم"، ولفظ "التطريب"، فمن تأمل تلك الألفاظ وجد مادتها تدور حول تحسين الصوت بالتلاوة والجهر به فحسب.
ولنا أن نتأمل في معنى الترنم الذي أورده الزبيدي (ت: 1205 هـ) في تاج العروس حيث يقول فيما يلي:
أولًا: قال في معنى "الترنم":
((و) الرَّنَم (بالتَّحْرِيك: الصَّوتُ). وقد رَنِم بالكَسْر: إذا رَجَّع صَوْتَه كما في الصحاح، (والرَّنِيم والتَّرْنِيم: تَطْرِيبُه) كما في المُحْكَم،
وقال الجوهريّ: والتَّرْنِيم: تَرْجِيعُ الصَّوت).
وترجيع الصوت: تَرْدِيدُهُ في الَحْلْقِ.
(2)
ثانيًا: قال في معنى "النغم":
(النَّغَمُ: مُحَرَّكَةً، وتُسَكَّنُ: الكَلَامُ الخَفِيُّ، الوَاحِدةُ بِهَاءٍ)، قَالَ شَيْخُنَا: فَمُفْرَدُهُ تابَعٌ لِجَمْعِه في الضَّبْطِ، انتهى، وفُلَانٌ حَسَنُ النَّغْمَةِ، أي: حَسَنُ الصَّوْتِ في القِرَاءَةَ، كَمَا في الصَّحَاحِ).
والنَّغْمةُ: جَرْسُ الكلمة وحُسْن الصوت في القراءة وغيرها.
(3)
(1)
- لعله يقصد الحشيش.
(2)
تعريف و معنى ترجيع الصوت في معجم المعاني الجامع.
(3)
- لسان العرب: مادة نغم.
ثالثًا: قال في معنى "الغناء":
((والغِناءُ، ككِساءٍ؛ من الصَّوْتِ: ما طُرِّبَ به) قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْر: وعَجِبْتُ به أَنَّى يكونُ غِناؤُها، وفي الصِّحاح: الغِناءُ، بالكسْرِ، من السماعِ. وفي النِّهايةِ: هو رَفْعُ الصَّوْتِ وموالاته. وفي المِصْباح: وقيِاسُه الضَّم لأنَّه صَوْتٌ).
قال الحافظ (ت: 852 هـ) ابن حجر رحمه الله:
الغناء يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنم الذي تسميه العرب (النَّصْب)، وعلى الحُداء، ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح.
(1)
رابعًا: قال في معنى "التطريب":
(والتَّطْرِيب في الصَّوْت: مَدُّهُ وتَحْسِينُه. وطَرَّبَ في قِراءَته: مَدَّ ورجَّعَ وطرَّبَ الطَّائِرُ في صَوْتِه كَذَلِكَ، وخَصَّ بَعْضُهُم بِهِ المُكَّاءَ. وفُلَانٌ: قَرأَ بِالتَّطْرِيب).
(2)
و طَرَّبَ في صَوْتِهِ: رجَّعَهُ ومَدَّهُ وحَسَّنَهُ.
(3)
وفي ضوء المفهوم اللغوي لألفاظ الترنم، والنغم، والغناء، والتطريب، يتبين بوضوح وجلاء أنها ألفاظ تدل على تحسين الصوت وعلوه وتردده في الحلق، ومنه سمي الغناء غناءً.
وأما لفظ: " الموسيقى ":
فهو " لفظ يوناني وليس له جذر عربي أصلًا، وهو لفظ يحتمل التذكير والتأنيث، ويطلق على فنون العزف على آلات الطرب
…
والموسيقى في الاصطلاح:
علم يُعرف منه أحوال النغم والإيقاعات وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات ".
(4)
وقيل هو: علم يبحث في أصول الأنغام من حيث التنافر والائتلاف وتأليف الألحان وأحوال الأزمنة التي تخلل بينها.
(5)
والتغني بالقرآن وتحسين الصوت والجهر به لا علاقة له بالموسيقى وبمقاماتها، ولذا ينبغي أن يُعلم خطر تلك المعازف وآلاتها، وأنه لا يليق أن ترتبط تلاوة القرآن بها وبمقامتها.
(1)
- فتح الباري (2/ 442).
(2)
يُنظر: تاج العروس - الزبيدي (2/ 182).
(3)
تعريف و معنى التطريب في معجم المعاني الجامع
(4)
- يُنظر: الموسوعة الفقهية (38/ 168).
(5)
- يُنظر: تعريف و معنى الموسيقي في معجم المعاني الجامع.
وإذا استحل قومٌ المعازفَ مُسخوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ
وفي ذلك يقول النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
(1)
وقد نقل الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت: 463 هـ) الإجماع على تحريم السماع في "أدب المفتي والمستفتي" فقال رحمه الله: -
فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت: فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والخلاف: أنه أباح هذا السماع.
(2)
ولذا فقد حذر علماء الإسلام من خطر تلك المعازف أشد التحذير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله: -
والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حلَّ فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش، وإلى الظلم، فيشركون، ويقتلون النفس التي حرم الله، ويزنون، وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف.
(3)
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله: -
والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها: إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان.
(4)
(1)
-رواه البخاري في كتاب الأشربة معلقا مجزومًا بصحته، ووصله البيهقي في "السنن الكبرى"(6317)"، الطبراني في " المعجم الكبير " (3/ 319) وابن حبان في " صحيحه " (8/ 265، 266)، وصححه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5/ 270 - 272) والحافظ ابن حجر في " الفتح " (10/ 51) والألباني في " الصحيحة " (91).
وقد زعم ابن حزم أنه منقطع، وتبعه في ذلك بعض المقلدين، ورد عليه الأئمة المحققون.
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح:
فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندًا متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".
كما إن ابن الصلاح قد حكى الإجماع على حرمة السماع. يُنظر: مقدمة أبي عمرو ابن الصلاح (ص 36).
(2)
-أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (2/ 500).
(3)
- مجموع الفتاوى (10/ 417).
(4)
مدارج السالكين (1/ 500).
فإذا تبين لنا ذلك، عُلِمَ حرمة وخطورة تعلم "المقامات الموسيقية" ومن ثم حرمة قراءة القرآن الذي هو كلام الرحمن على مقامات "الشيطان".
وإنما وَهِمَ من وَهِمَ وأخطأ من أخطأ وزل من زل في هذا الباب غالبًا بسبب سوء فهمه للألفاظ التي استعملها بعض أهل العلم، كالترنيم والتغني والتطريب ونحو ذلك من الألفاظ، والتي عَرَّفَهَا أهل العلم وفق ما دلت عليه لغة العرب
وفي هذا الصدد يقول ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع صوته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه ..
(1)
وقال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله:
يحسن به صوته جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزن
…
ولا شك أن النفوس تميل إلى القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم. لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع.
(2)
فابن جرير قد فسر" التغني" بالغناء، وابن حجر قد فسر حسن الصوت بـ "الترنم" و" التطريب" وإنما كان ذلك كله وفق ما دلت عليه اللغة.
غير إن المخالفين قد حملوه هذه الألفاظ وأمثالها على المعنى العامي الشائع والدارج في استعمال الناس له، ولو أنهم رجعوا إلى ما دلت عليه تلك الألفاظ من معاني في لغة العرب، أظن لانتهى بهم المطاف وظهر لهم الحق جليًا، إن كانوا ممن يبحث عن الحق ويتجرد عن الهوى.
يقظة السلف لمثل هذا مبكرًا:
ومن أجل هذا وأمثاله ورد النهي عن بعض السلف التحديث ببعض هذه الأحاديث التي فيها الترغيب في التغني بالقرآن وتحسين الصوت به خشية أن تحمل تلك النصوص على غير المراد منها، كالذي نحن بصدده من حمل تلك الألفاظ على جواز تعاطي تلك الألحان الموسومة بـ" المقامات الموسيقية" التي هي من خصائص أهل الفسق والخنا ممن يتعاطون الغناء الفاحش المقرون بالمعازف.
(1)
- شرح ابن بطال (10/ 260)، زاد المعاد (1/ 486).
(2)
فتح الباري (9/ 72).
قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224 هـ) رحمه الله:
حدثني يحيى بن سعيد القطان عن شُعبة بن الحجَّاج قال: "نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم"
(1)
.
قال أبو عبيد:
وإنما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم في هذه الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدث به.
(2)
فحَمْلُ هذه الألفاظ العربية والاستدلال والاحتجاج بها على جواز استعمال "المقامات الموسيقية" وقراءة القرآن بها وإباحتها، بورود مثلها في بعض الأحاديث واستعمال أهل العلم لها،
فلاشك في أن هذا خطأ ظاهر جلي، وقد نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن كثير وغيرهم من أهل العلم الأثبات.
حَسْمُ ابنِ القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله -الخلاف في هذه المسألة:
وقد حَسَمَ الإمامُ ابن القيم الخلاف في هذه المسألة، وذكر إجماع السلف على منع القراءة بالألحان الموسيقية، وتلاوة القرآن بطريقة أهل الفسق والمجون التي يستخدمها أهل الخلاعة من المغنين وأضرابهم، وهي ما يعرف في عصرنا الحاضر بـ"المقامات الموسيقية"، كما فرق رحمه الله بين الطبيعة الجبلية في القراءة وبين التكلف المذموم في التغني بالقرآن حتى يصل إلى حد التمطيط، وهم لا يحصل لهم ذلك إلا بالتعلم والتمرن والتصنع كما يفعل ذلك أهل الغناء بألحان وإيقاعات مخصوصة على أوزان مخصوصة قد اخترعوها وابتدعوها.
وقد أطال فيها النفس بعد أن ساق الأدلة المسكتة التي برهن بها على بطلان تلك الفعلة الشنيعة، ثم بين هنا أن التغني منه المحمود ومنه المذموم.
فقال في ذلك رحمه الله: وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين:
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي- صلى الله عليه وسلم "لو علمت أنك تسمع
(1)
أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (7544)، من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه، وأخرجه موصولاً أبو داود (1468)، والنسائي (1015)، وابن ماجه (1342)، وأحمد (18517) مختصرا، والحاكم (2125) واللفظ له،. وإسناده صحيحٍ، وأصله في صفة الصلاة للألباني (2/ 570).
(2)
فضائل القرآن لأبي عبيد (1/ 335).
لحبرته لك تحبيرًا"
(1)
والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستعملونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا
أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال:(ليس منَّا من لم يتغنّ بالقرآن)
(2)
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله
والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته.
(3)
وفي نحو ذلك يقول ابن كثير رحمه الله في " فضائل القرآن ":
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي فالقرآن ينزه عن هذا ويُجلّ، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب.
(4)
(1)
يُنظر: فتح الباري (14/ 272)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (7527)
(3)
- زاد المعاد، لابن القيم (1/ 470).
(4)
- فضائل القرآن (ص 114)
كما نوه على ذلك-أيضًا- الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت: 695 هـ) - في " نزهة الأسماع "فقال رحمه الله:
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيّج الطباع، وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن، وإنما وردت السنّة بتحسين الصوت بالقرآن لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد.
(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
فلا يسوغ أن يُقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يُقرن به من الألحان ما يُقرن بالغناء من الآلات وغيرها، لا عند من يقول بإباحة ذلك، ولا عند من يحرمه، بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يُقرن بتحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير، وباليد كالغرابيل. فلو قال قائل: النبي- صلى الله عليه وسلم قد قرأ القرآن، وقد استقرأه من ابن مسعود، وقد استمع لقراءة أبي موسى، وقال:"لقد أوتى مزمارًا من مزامير داود"
(2)
فإذا قال قائل: إذا جاز ذلك بغير هذه
الألحان، فلا يتغير الحكم بأن يُسمع بالألحان، كان هذا منكرًا من القول وزورًا باتفاق الناس.
(3)
وقال رحمه الله في موضع آخر:
والسلف كانوا يحسنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلّفوا أوزان الغناء مثل ما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يفعل.
(4)
وقال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله حين تكلم عن حرمة القرآن:
ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفًا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق.
(5)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224 هـ) رحمه الله:
وعلى هذا تُحمل هذه الأحاديث التي ذكرناها في حُسن الصوت، إنَّما هو طريق الحزن والتخويف والتشويق، يُبَيِّنُ ذلك حديث أبي موسى: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استمعن قراءته،
(1)
- نزهة الأسماع، لابن رجب (ص: 70)
(2)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(3)
- الاستقامة، لابن تيمية 1/ 241).
(4)
- جامع المسائل: (3/ 304).
(5)
- تفسير القرطبي (1/ 29)
فأُخْبِرَ بذلك، فقال: (لو علمت لشوَّقت تشويقًا، أو حبّرت تَحبِيْرًا. فهذا وجهه لا الألحان المطرِبة الملهية
(1)
.
إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية
وقد نُقِلَ الإجماعُ عن جمع من أهل العلم، ومنعه على الإطلاق آخرون، منهم:
1 -
ابن القيم وابن تيمية: وقد مر بنا كلامهما آنفًا
2 -
ابن رجب الحنبلي (ت: 695 هـ):
وقد نقل ابن رجب في "نزهة الأسماع" إجماع السلف- كذلك- على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية عن أبي عبيد وغيره من الأئمة، فقال: وأنكر ذلك أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعًا، ولم يُثبت فيه نزاعًا؛ منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة.
(2)
3 -
ابن سيرين:
ومما حكى هذا الإجماع- كذلك- محمد بن سيرين (ت: 110 هـ) حيث يقول:
كانوا يرون هذه الألحان في القرآن محدثة.
(3)
، وقوله:"كانوا" يعني به الصحابة والتابعين.
4 -
ابن كثير (ت: 774 هـ):
وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره - بعد أنّ ذكر كلام السلف في النهي عن قراءة الألحان-:
وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، رحمهم الله، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفًا أو ينقص حرفًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه.
(4)
5 -
ابن الجوزي (ت: 597 هـ):
وابن الجوزي يعتبره من خوارم المروءة المسقطة للعدالة، حيث يقول رحمه الله:
التلحين في القراءة، تلحين الغناء والشَّعر. وهو مسقط للعدالة ومن أسباب رد الشهادة، قَضَاءً. وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع على أيدي الموالي.
ومن أغلظ البدع في هذا تلكم الدعوة الإلحادية إلى قراءة القرآن على إيقاع الأغاني مصحوبة بالآلات والمزامير.
(5)
(1)
فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 164).
(2)
نزهة الأسماع (ص: 70).
(3)
- رواه الدارمي (3546).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 65).
(5)
تلبيس إبليس (ص: 113 - 114)
وقال في موضع آخر:
فأما الألحان التي يصنعها قراء هذا الزمان فمكروهة عند العلماء لأنها مأخوذة من طرائق الغناء.
(1)
وقال في موضع آخر- أيضًا-:
وأما ما أحدث بعدهم - يعني السلف - من تكلف القراءة على ألحان الغناء، فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء؛ لأنه بدعة.
(2)
6 -
أبو العباس القرطبي
وقال أبو العباس القرطبي (ت: 656 هـ) في "كشف القناع": -
كيفية قراءة القرآن نُقلت إلينا نقلاً متواترًا، وليس فيها شيء مِمَّا يُشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألاّ يُجَوَّزَ غيْرُها، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّا قرأنا القرآن على مشايِخِنَا، وهم العدد الكثير، والجمُّ الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعًا لتعلَّموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المدَّ والقصر، وما بيْن اللفظين، والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف من مَخارجها، فإنه لَمَّا نقله الخلف عن السلف وعلَّموا عليه، اتصل ذلك لنا وتلقيناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القرَّاء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم
يُنقل عن أحد من القرَّاء المشاهير، ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدَلَّ ذلك على أنَّ تلحين القرآن ما كان معروفًا عندهم، ولا معمولاً به فيما بيْنهم، فوجب ألاّ يُعمل به، ولا يُعرَّج عليه، فإنه أمرٌ مُحْدَثٌ، وكلُّ مُحْدَثٍ بدعةٌ، "وكل بدعة ضلالة"
(3)
،.
(4)
.
وقول أبي العباس القرطبي من أجود ما قيل في هذه المسألة.
ومن أهل العلم المعاصرين كذلك كل من:
1 -
سماحة شيخنا الإمام ابن باز (ت: 1420 هـ) رحمه الله:
حيث يقول سماحته:
لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المغنين بل يجب أن يقرأه
كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان،
فيقرأه مرتلاً متحزنًا متخشعًا حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو
(1)
- كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 269)
(2)
- المرجع السابق (3/ 304 - 305).
(3)
صححه الألباني في صحيح أبي داود (4607)
(4)
- كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص 113).
بذلك. أما أن يقرأه على صفة المغنين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز.
(1)
2 -
شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله-
حيث سئل ما حكم تلاوة القرآن على المقامات الموسيقية؟
فأجاب حفظه الله قائلًا: نعوذ بالله من ذلك لا يجوز قراءة القرآن بالألحان وجعلها أغاني، المقامات هذه للأغاني عند الصوفية، ولا يجوز قراءة القرآن عليها، ولا يجوز اتخاذ القرآن أغاني وإنما يتلى القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل العلم يتلونه، أما أن يتلى كما تتلوه الصوفية والمبتدعة والمغنين هذا حرام.
(2)
.
وقول شيخنا الفوزان في وجوب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو نفس قول شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله، وكأنه خرج من مشكاة واحدة.
3 -
الدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري:
(3)
حيث يقول: القراءة بالألحان لا تخرج عن حالتين: الحالة الأولى:
الألحان التي تسمح بها طبيعة الإنسان من غير تصنّع، وهذا ما يفعله أكثر الناس عند قراءة القرآن، فإن كل من تغنّى بالقرآن فإنه لا يخرج عن ذلك التلحين البسيط، وذلك جائز، وهو من التغني الممدوح المحمود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن)
(4)
، وعلى هذه الحالة يحمل الحكم بالجواز والاستحباب.
الحالة الثانية:
الألحان المصنوعة والإيقاعات الموسيقائية التي لا تحصل إلا بالتعلم والتمرين، ولها مقادير ونسب صوتية لا تتم إلا بها، فذلك لا يجوز؛ لأن أداء القرآن له مقاديره التجويدية المنقولة التي لا يمكن أن تتوافق مع مقادير قواعد تلك الألحان إلا على حساب الإخلال بقواعد التجويد، وذلك أمر ممنوع
(5)
.
(1)
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/ 9 ص/ 290.
(2)
-عن الموقع الرسمي لمعالي الشيخ الفوزان.
(3)
- نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ورئيس قسم القرآن وعلومه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(4)
- أخرجه البخاري في صحيحه (7527)
(5)
- تقرير عن لقاء (القراءة بالألحان بين المنع والتجويز والنظرية والتطبيق)، مقال عن موقع الألوكة، الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري، - تاريخ الإضافة: 29/ 10/ 2010 ميلادي - 21/ 11/ 1431 هجري.
كما أفتى بالمنع جمع من أعلام المعاصرين كذلك منهم على سبيل البيان لا الحصر أصحاب الفضيلة:
1 -
علماء اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
(1)
- وحسبك بهم-
2 -
الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين- رحمه الله
3 -
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله
4 -
الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله وإن كان ضمن أعضاء اللجنة الدائمة إلا أن له فتوى مستقلة بالمنع أيضًا
5 -
الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين رحمه الله
6 -
فضيلة الشيخ/ أحمد بن عيسى المعصراوي شيخ عموم المقارئ المصرية
7 -
فتاوى علماء الأزهر.
ولا يُعلم عن أحد من أعلام الأمة الأثبات-المعتبرين-المعاصرين- أي خلاف في تحريم قراءة القرآن بتلك "المقامات الموسيقية" المبتدعة التي ليس عليها عمل السلف.
وما ينادي به بعض الناس من تلحين القرآن بزعم تصوير المعاني وضبط الأنغام، وربما تمادى بعضهم وطالب بما يقارن تلك الألحان بالآلات الموسيقية: فكل ذلك جرأة على كتاب الله - تعالى ذِكرُه وتقدس اسمُه-، ولا شك أن الاشتغال بتلك الأنغام يوقع القارئ في تحوير الألفاظ، ويصرف السامع عن تدبر المعاني، بل يفضي بها إلى التغيير، وكتاب الله تعالى المجيد ينزه عن ذلك.
(2)
ونعجب ممن اشتهر في العالم الإسلامي بحسن قراءته أن يكون طريقه في التعلم وإتقان القراءة: الأغاني الماجنة! وقد اعترف بعضهم أنه كان يستمع للأغنية ذات المعازف حتى يتعلم طريقة
القراءة! وقد انتشرت صورة لبعض كبار القراء وهو بجانب " البيانو "! بل وتشترط إذاعة عربية على كل مقرئ فيها أن يحمل شهادة من معهد موسيقي! وإلا حُرِمَ القراءة فيها، وقد وفق الله تعالى كثيرًا من القراء في العالم الإسلامي، وأثروا في الناس بقراءتهم ولم يتعلموا مقامًا ولم يسمعوا أغنية، وبعض المهووسين بهذه المقامات يسمع القارئ المتقن الموفَّق فينسب قراءته لإحدى المقامات ويوهم نفسه وغيره أن هذا القارئ ممن يمشي على طريقته بالقراءة على حسب أغنية أو لحن معيَّن، وليس الأمر كذلك، وإنما هو وهم محض.
(3)
(1)
يُنظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (26/ 37).
(2)
مقتبس من مقال في " ملتقى أهل التفسير ".
(3)
مقتبس من مقال، تلاوة القرآن على المقامات، الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 25/ 5/ 20011 م. بتصرف يسير.
وأخيرًا بعد البحث القاصر في هذه المسألة فإنه يجب الإشارة إلى بعض التنبيهات الهامة على النحو التالي:
التنبيه الأول: أن قراءة القرآن بتلك "المقامات" أمر محدث ليس عليه عمل السلف.
ولذا لا يحل لمسلم أن يقرأ القرآن إلا بالطريقة التي تعبد الله تعالى بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهي التي تلقاها عن الأمين جبريل عليه السلام وعلمها أصحابه، وهي التي تواتر نقلها مشافهة عنهم حتى وصلت إلينا على الحال الأولى التي نزل بها القرآن.
التنبيه الثاني: أنه يجب تنزيه القرآن عن العبث بأي صورة وتحت أي مسمى، ولا سيما بما يسمى بـ" المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلام الله جل في علاه.
التنبيه الثالث: لقد أنزل الله القرآن لِيُتدبر كما قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(ص: 29)، أي: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به
(1)
، ولا شك في أن تعلم أن تلك المقامات صارف عن التدبر الذي أنزل القرآن لأجله.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يورث أن يبقى قلب القارئ مصروفًا إلى وزن اللفظ بميزان الغناء لا يتدبره ولا يعقله، وأن يبقى المستمعون يصغون إليه لأجل الصوت الملحَّن كما يصغى إلى الغناء لا لأجل استماع القرآن وفهمه وتدبره والانتفاع به.
(2)
ويقول ابن رجب (ت: 695 هـ) رحمه الله:
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تُهيِّج الطباع وتلهي عن تدبر ما يحصل له الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبّر معاني القرآن.
(3)
قال ابن الصلت الأهوازي (ت: 408 هـ) رحمه الله:
سمعت جماعة من شيوخي يقولون لا يجوز للمقرئ أن يقرأ بخمسة أضرب:
بالترقي، والترعيد، والتطريب، والتلحين، والتحزين؛ إذ ليس لها أثر ولا نقل عن أحد من السلف، بل ورد إلينا أن بعض السلف كان يكره القراءة بها.
(4)
(1)
- تفسير الطبري (79/ 20).
(2)
جامع المسائل (3/ 305).
(3)
نزهة الأسماع في مسألة السماع: (ص: 85).
(4)
-الإقناع في القراءات السبع (1/ 155).
وقال أبو بكر الطرطوشي (ت: 520 هـ) رحمه الله:
وهذا يمنع أن يُقرأ بالألحان المطربة والمشبهة للأغاني؛ لأن ذلك يُثمر صدَّ الخشوع ونقيض الخوف والوجل.
(1)
.
من أكبر الفواجع
ومن أكبر الفواجع الكبرى التي قد سمعنا عنها قديمًا إقدام أحد المطربات الشهيرات على تسجيل بعض آيات القرآن الكريم بصوتها، ومن تلك الفواجع الناجمة عن فتح هذا الباب على مصراعيه أيضًا إقدام بعض أهل الطرب المعاصرين على طلب التصريح بتسجيل القرآن بصوته رسميًا من الأزهر، وقد رُفِضَ طلبه بشدة.
وقد ألف ابن كيال الدمشقي (ت: 929 هـ) كتابًا في النهي عن قراءة القرآن بالألحان سماه " الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر".
(2)
الضابط الثامن: تفخيم الصوت بالتلاوة
ومن آداب تلاوة القرآن كذلك: أن يفحم القارئ تلاوته بلا تكلف ولا تعسف.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ:
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ.
(3)
والمقصود بالتفخيم هنا، أي: أنه لا يقرأه بصوتٍ ناعم منغم كصوت النساء -مثلاً-، ولا بصوت فيه نوع تميع، وذلك كالتلاوات التي انتشرت بمثل هذه الطريقة، وإنما يقرأه ويفخمه على أنه رجل، ويقرأ بسجيته وجبلته بلا تكلف ولا تعسف، فيقرأ الرجل بجبلته وسجيته، كما أن المرأة-
كذلك- تقرأ بجبلتها وسجيتها، كل بجبلته وسجيته. وممن نوه على مثل ذلك صاحب البرهان.
(4)
ويُعد ذكر هذا الضابط من الأهمية بمكان تحذيرًا وتنبيها لما يُرى من كثرة انتشار بعض الأصوات الشبابية التي فيها تكلف للتنعم والتنغم وكأنها أصوات نسائية.
الضابط التاسع: أن يكون القارئ حافظًا مجازًا وَمَسْنَدًا
أضف إلى ما سبق ذكره من ضوابط: أن يكون القارئ المزمع تسجيل القرآن بصوته من الحفاظ المتقنين ليتمكن من جودة النطق وعدم التلعثم الذي قد يعتري من لم يحفظ غالبًا، وأن يكون مجازًا بالقراءة أو الرواية التي يريد تسجيلها بصوته من أئمة عصره ومصره الأثبات بالسند المتصل
(1)
- الحوادث والبدع: (ص: 87).
(2)
الذيل على كشف الظنون (1/ 131 (.
(3)
- الإتقان، للسيوطي:(1/ 109).
(4)
- البرهان في علوم القرآن (1/ 467).
إلى من نزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم، والذي تلقَّاه عن جبريل عليه السلام، كما الله تبارك وتعالى ذلك بقوله سبحانه:(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(النمل: 6)، وقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي: يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه
(1)
. وقد جاء جليًا صريحًا ذُكْرُ من عَلَّمَهُ وتلقَّاه عنه في قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم: 5)، و (شَدِيدُ الْقُوَى) هو جبريل عليه السلام.
وإن رب العزة جل في علاه قد تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وسمعه جبريل عليه السلام كذلك من رب العزة بحرف وصوت فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه إياه كما سمعه، وقد قال في ذلك سبحانه:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)(الشعراء: 193 - 195).
فَوَعّاه اللهُ قَلْبَهُ وثَبَتَه فيه فلا ينْساه أَبدًا، وقد بَلَّغَهُ صلى الله عليه وسلم لأمته كما تلقَّاه وسمع من جبريل عليه السلام دون أدنى تصرف فيه.
(2)
مفهوم الإجازة القرآنية:
والإجازة القرآنية: هي عمليةُ النَّقلِ الصوتيِّ للقرآن الكريمِ من جيلٍ إلى جيل، وفيها يَشهدُ المُجيزُ أنَّ تلاوةَ المُجازِ قد صارت صحيحةً مئةً بالمئةِ بالنسبةِ للروايةِ - أو الرواياتِ - التي أجازَهُ بها، ثم يَأذَنُ له أَنْ يَقرأَ ويُقرِئَ غَيرَه القرآنَ الكريمَ.
(3)
وعلى هذا فالإجازة المعتبرة يسمع فيها الشيخُ المُجيزُ من القارئ المُجَاز القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته حرفًا حرفًا، وهو يتلقاه عنه طرفًا طرفًا.
أهميةُ الإجازةِ
مما لا شكَّ فيه أنَّ طلبَ الإجازةِ في قراءةِ القرآنِ الكريمِ، قراءةً صحيحةً، متَّصلةَ السَّنَدِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرٌ محمودٌ شرعًا، كيف لا وقد جاء عن بعضِ السلَفِ رحمهم الله الرِّحلةُ في طلب الحديث؟ فالرِّحلةُ في طلبِ إتقانِ تلاوةِ القرآنِ مِن بابِ أَوْلى، وصاحبُها مأجورٌ مشكور.
وتبرُزُ أهميةُ الإجازةِ بأنه: لا يَصحُّ لأحدٍ أن يُقرئَ القرآنَ الكريم، حتى يأخذَه أخذًا كامِلًا من أفواهِ المشايخِ العارفين المُتقِنين، ويُؤذَنَ له بالإقراء، فإن لم يُؤذنْ له بالإقراءِ فلا ينبغي أن يُقرئَ القرآنَ
(1)
- تفسير القرطبي (7/ 105).
(2)
- و (القرآن كلام الله، منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر (الطحاوية 1/ 168 (اللجنة العلمية).
(3)
المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجلس العالمي لشيوخ الإقراء، بتاريخ: 25 ربيع الآخر 1440 هـ.
حتى لو قرأَ القرآنَ مراتٍ عديدة، فإنَّ السماعَ والعَرْضَ لا يكفِيانِ في صِحَّةِ أداءِ القرآنِ بعد زمانِ شُيوعِ اللَّحْن، بل لا بُدَّ معهما من إجازةٍ وإذنٍ بالقراءةِ والإقراءِ، وذلك لأنَّ الطالبَ قد يقرأُ القرآنَ كلَّه على شيخِه مِرارًا ولا يُتقِنُ الأداءَ فلا يُجيزُه الشيخ، ومِن ذلك ما ذكرَه ابنُ الجزريِّ -رحمه اللهُ تعالى- عن الإمامِ أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ إبراهيمَ الهاشميِّ (ت 646 هـ) أنَّه قرأ عليه أبو جعفرٍ بنُ الزبيرِ روايةَ ورشٍ عِدَّةَ خَتَمات، قال: ولم يُجِزْني، وقرأ عليه بعضُ أَتْرابي وأجازَ له.
ومِن هنا: كان بعضُ السَّلفِ رحمهم الله يَطلُبون من بعضِ تلاميذِهم إِعادةَ قراءةِ القرآن مرَّاتٍ عديدةٍ حتى يَستوثِقوا مِن إتقانِهم.
فمِن ذلك: أنَّ مجاهدَ بنَ جَبْرٍ المكِّيَّ قرأ على ابنِ عبَّاسٍ ثلاثينَ ختمة يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها.
(1)
ومِن ذلك: أنَّ الإمامَ أبا جعفرٍ عرَضَ القرآنَ على مولاه عبدِ اللهِ بنِ عيَّاش، وعلى عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، وعلى أبي هريرةَ رضي الله عنهما.
ومِن ذلك: أنَّ الإمامَ نافعَ بنَ أبي نُعيَمٍ قال: قرأتُ على سبعينَ مِن التابعِين.
(2)
فإذا أجاز الشيخ المُجِيزُ القارئَ إجازةً صحيحةُ بشرطها المعتبر عند أهل البحث والنظر فقد اتصل سنده بتلك الإجازة بإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح ضمن سلسلة الناقلين للقرآن الكريم بالسند الصحيح الثابت بالنقل المتواتر المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أصبح بذلك أهلًا لإجازة غيره.
وضابط شرط الإجازة لمن يُسجل له القرآن أن يكون مجازًا من أئمة عصره ومصره الأثبات لأمور من أهمها ما يلي:
1 -
لضمان عدم التساهل في الإجازة التي حدثت في الأزمنة المتأخرة
2 -
لزيادة تحقق الاستيثاق من هذه الإجازة، وذلك لاشتهار أئمة كل عصره ومصر بين أهل زمانهم وظهورهم وبروزهم فيهم فلا ينسب إليهم إجازة من لم يجيزوه
3 -
لدفع القراء لطلب للإتقان وطلب علو الإسناد والأخذ والتلقي عن الأكابر للتأهل قبل التصدر.
الإجازة سنة متبعة
وقد زكى النبي صلى الله عليه وسلم جمعًا من أصحابه ممن تلقوا عنه وأتقنوا قراءة القرآن.
(1)
(الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 6 صـ 19)، (والجرح) 8/ 319، (والحلية) 3/ 280، (وتهذيب الأسماء) 2/ 83، (وتهذيب الكمال (3/ 1305، (والعبر) 1/ 95)
(2)
-المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجلس العالمي لشيوخ الإقراء، بتاريخ: 25 ربيع الآخر 1440 هـ.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه القرآن منذ بزوغ فجر نزوله في الغار، وكذلك حرص أصحابه على التلقي والأخذ عنه صلى الله عليه وسلم وتنافسوا في هذا المضمار أيما تنافس، وقد سطع نجم عدد منهم فاعتنوا بالقرآن وتعلمه وإتقانه حتى تميزوا في تَعَلُمِهم فزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحث ورغَّب في التلقي والأخذ عنهم.
أبرز من زكاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
أولًا: التزكيات الجماعية
فقد زكى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جمعًا ممن تميزوا في التلقي عنه، وممن زكاهم تزكية جماعية لسبقهم وفضلهم أربعة نفر.
فقد ثبت في الصحيحين أنه ذُكِرَ عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، فَقالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لا أزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: خُذُوا القُرْآنَ مِن أرْبَعَةٍ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - فَبَدَأَ به -، وسَالِمٍ، مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، ومُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ.
(1)
وهذه التزكيات الجماعية لهؤلاء الأربعة نفر من الصحابة هي بمثابة الإجازة، فقوله (خُذُوا القُرْآنَ مِن أرْبَعَةٍ) يُعد إجازة صريحة، كما يُعد تزكية لهم لا تعلوها تزكية، حيث جاء الأمر بالأخذ عنهم بلفظ صريح من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: تزكية أبيِّ بن كعب (ت: 30 هـ) رضي الله عنه
-:
ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِأُبَيٍّ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ قالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لي فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي، قالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عليه: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهْلِ الكِتَابِ)(البينة: 1).
(2)
وقد ثبت عند الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وأقرؤُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كعبٍ
…
".
(3)
وهذه لا شك تزكية صريحة لسيد القراء رضي الله عنه.
ثالثًا: تزكية عبد الله بن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه
-:
ثبت في المسند بسند صحيح عن زر بن حبيش من حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
…
من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد
…
(4)
(1)
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب أُبي بن كعب (779) رقم الحديث (3808)، والترمذي في جامعه، كتاب المناقب، باب: مناقب عبدالله بن مسعود (864) برقم (3810)، وقال:"حديث حسن صحيح"، وأحمد في مسنده (2/ 163).
(2)
رواه البخاري (4960) واللفظ له، ومسلم (799). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه الترمذي (3791)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8242)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3791).
(4)
مسند الإمام أحمد 7/ 359 رقم 4340. وقال شعيب الأرناؤوط ومن معه: " صحيح بشواهده، وهذا إسناد حسن ". وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة 5/ 379 رقم 2301.
وهذه تزكية قل أن تعلوها تزكية وإن كانت، ومع ذلك فهي منقبةٌ عظيمةٌ جليلة القدر.
وها هو عبد الله بن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه يقول عن نفسه:
"والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت،
ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه".
(1)
عن شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ (ت: 80 هـ) قَالَ: خطبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (ت: 32 هـ) رضي الله عنه فقَالَ:
"وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ".
قالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا، يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ.
(2)
رابعًا: تزكية أبيِ موسى الأشعري (ت: 44 هـ) رضي الله عنه
-:
ولقد استمع رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقراءةِ أَبِي مُوسَى ثم قَالَ له: "لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ "
(3)
،
ومجرد حرصه صلى الله عليه وسلم على الاستماع لقراءةِ أَبِي مُوسَى يُعد تزكية من أعلى التزكيات.
خامسًا: تزكية مصعب بن عمير (ت: 3 هـ) وعبد الله بن أم مكتوم (ت: 15 هـ) رضي الله عنهما
-
لقد أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير العَبْدري وعبدَ الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما ليعلمان الناسَ القرآنَ في المدينة قبل هجرته، ولاشك في أن إرسالهما للتعليم والقيام بهذه المهمة الجليلة يُعد تزكية لهما.
وقد ثبت عند البخاري من حديث البَرَاء بْن عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ
…
(4)
.
(1)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن (4716)
(2)
- صحيح البخاري، كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ-بَاب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى، حديث رقم:(4641).
(3)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(4)
- صحيح البخاري (3925)، ويُنظر: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، كتاب النبوة والرسالة (3/ 238).
سادسًا: تزكية عمر بن الخطاب (ت: 23 هـ) وهشام بن حكيم بن حزام (ت: 13 هـ) رضي الله عنهم
-
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمِعتُ هشامَ بنَ حَكيمِ بنِ حزامٍ يقرأُ سورةَ الفرقانِ، فقرأَ فيها حُروفًا لم يَكُن نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقرأَنيها، قُلتُ: مَن أقرأَكَ هذِهِ السُّورةَ؟ قالَ: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: كذبتَ، ما هَكَذا أقرأَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فَأخذتُ بيدِهِ أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّكَ أقرأتَني سورةَ الفرقانِ، وإنِّي سمِعتُ هذا يقرأُ فيها حروفًا لم تَكُن أقرأتَنيها! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا هشامُ. فقرأَ كما كانَ يقرأُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ: اقرَأ يا عمرُ. فقرأتُ، فقالَ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ: إنَّ القرآنَ أُنزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ.
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا هشامُ"
…
ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت". ثمَّ قوله: "اقرَأ يا عمرُ
…
ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت"، فهذه تزكية لهما تدلل على صحة قراءتيهما.
وغير هذه التزكيات وردًا كثيرًا على لسان من أُنْزِل عليه القرآنِ صلى الله عليه وسلم.
قدر ومكانة التزكيات النبوية
وهذه التزكيات النبوية الواردة في الأحاديث السابقة تدل دلالة واضحة بينة على تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك النفر من أصحاب الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهي تزكيات بمثابة ومكانة الإجازات اللفظية المتعارف عليها عند أهل العلم عمومًا وعند أهل الإقراء خصوصًا، وهي وإن كانت تزكيات، فهي في حكم الإجازات اللفظية، ولا شك في أن تلك التزكيات والإجازات اللفظية لها مكانتها وقدرها بل وتقدمها على الإجازات الخطية، وهي تعد بمثابة إجازات سمعية، وأن لها قدرها ومكانتها باعتبار قدر ومكانة خير مُجِيزٍ وخير مُجَازٍ.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قد زكى جمعًا من أصحابه غير هؤلاء وأثنى على قراءتهم وتلاوتهم كذلك.
ومن أبرز هؤلاء زيد بن ثابت الذي - قيل أنه- حضر العرضة الأخيرة
(2)
ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
(2)
- وقد سبق تكرارًا بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة .. الباحث
(3)
- رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/ 598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/ 7)، وكتاب المناقب (4/ 36).
وكذلك تزكية كُتَّابِ الوحي وهم جمع غفير، فمنهم من كان يكتب في بعض الأحايين، ومنهم من كان مستديمًا على كتابة الوحي ومتفرِّغًا ومتخصِّصاً له، وهؤلاء الكُتَّابِ منهم من اتخذهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، ومنهم من اتخذهم بعد الهجرة في المدينة وأضافهم إليهم، ومنهم من اتخذهم بعد الحديبية وأضافهم إليهم كذلك، وقد ذكرهم محمود شاكر في "التاريخ الإسلامي" بأسمائهم.
(1)
.
واتخاذ هؤلاء الكُتَّاب للوحي يعُد تزكية لا تعلوها تزكية، حيث ائتمنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على كتابة الوحي لعلمهم بالكتاب ولحسن ديانتهم وأمانتهم.
مكانة الإسناد من الدين
قال عبدالله بن المبارك (ت: 181 هـ) رحمه الله:
الإسنادُ من الدِّين، ولولا الإسنادُ لقال مَن شاء ما شاء، فإذا قيل له: مَن حَدَّثَك؟ بَقِي أي: بقى متحيرًا لا يدري ما يقول، لأنه لا إسناد معه يعرف به صحة الحديث أو ضعفه
(2)
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله:
الإسناد خصيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسُنّةٌ بالغة مِن السنن المؤكَّدة، وقد رُوِّينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إنّ الله تعالى قد أَكرمَ هذه الأمةَ وشَرَّفَها وفَضَّلَها بالإسناد، وليس لأحدٍ مِن الأمم كلِّها قديمها وحديثها إسنادٌ موصول، إنما هو صُحُفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أخبارَهم، فليس عندهم تمييزٌ بين ما نزل مِن التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتَّخذوها عن غير الثقات.
(3)
الضابط العاشر: أن يكون التسجيل بصوت رجلٍ "ذكرٍ
"
ولقد اختلف أهل العلم في حكم صوت المرأة: هل هو عورة أم لا؟
(1)
التاريخ الإسلامي ـ محمود شاكر، (ص 937 - 380).
(2)
- مقدمة صحيح مسلم، باب في أن الإسناد من الدِّين وأن الرواية لا تكون إلاّ عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل مِن الذبّ عن الشريعة المكرمة، 1/ 15، والعِلَل الصغير المطبوع في آخر السنن، محمد بن عيسى التِّرمِذي، تحقيق: أحمد شاكر، (القاهرة: مطبعة الحلبي وشركاه، بدون تاريخ)، 5/ 740.
وللتوسع حول هذه الكلمة الهامة وتصحيفاتها يُنظر: أبو غدة، عبدالفتاح، الإسناد من الدين وصفحة مشرقة من تاريخ سماع الحديث عند المحدثين، الطبعة الأولى، (دمشق: دار القلم، 1412 هـ 1992 م)، (ص: 51).
(3)
-الزَّرْقاني، محمد بن عبدالباقي، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمِنَح المحمدية للقَسْطَلاني، تحقيق: محمد عبدالعزيز الخالدي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 هـ 1996 م)، 7/ 474.
والراجح في أصح قولي العلماء أن صوت المرأة ليس بعورة في حد ذاته إطلاقًا، وهذا القول هو الموافق لعموم الأدلة. وإنما تمنع المرأة من إظهار صوتها عند غير محارمها من الرجال الأجانب
لغير حاجة، كما تمنع من ذلك أشد المنع في حال إظهاره على وجه من الترخيم، أو أن يكون فيه تنغم وتنعم وتمطيط و تكسر في الحديث وتليين، أو تغنّج فاتن، أو على وجه فيه انبساط ومؤانسة، أو على وجه فيه خلط بيِّنٍ للضحك والمفاكهة، أو بأي طريقة قد يحصل بها فتنة بسبب صوتها.
ورد في الموسوعة الفقهية:
إنْ كَانَ صَوْتَ امْرَأَةٍ، فَإِنْ كَانَ السَّامِعُ يَتَلَذَّذُ بِهِ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِتْنَةً حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَحْرُمُ، وَيُحْمَل اسْتِمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَصْوَاتَ النِّسَاءِ حِينَ مُحَادَثَتِهِنَّ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ تَرْخِيمُ الصَّوْتِ وَتَنْغِيمُهُ وَتَلْيِينُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إثَارَةِ الْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32)
(1)
فنهاهنَّ الله سبحانه عن الخضوع بالقول درءًا للفتنة وخشية أن يطمع فيهنَّ أهل الفساد والشَّهوات ومرضى القلوب.
وسئل أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية:
ما هو الحكم في إقامة مباريات ترتيل القرآن الكريم بالنسبة للنساء بحضور الرجال؟
فأجابت اللجنة:
ترتيل البنات للقرآن بحضرة الرجال لا يجوز؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة بهن، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية للحرام.
(2)
وقد سئل شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين (ت: 1421 هـ) رحمه الله:
ما حكم تحسين الصوت في قراءة القرآن للطالبات عند المدرس في الكلية مع أنها غير مطالبة بذلك؟
فأجاب رحمه الله بقوله:
لا أرى أن تحسن صوتها؛ لأن الله تعالى يقول: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32)، فكون الطالبة تأتي بالقرآن على وجه الغنة، وتحسين الصوت يخشى منه الفتنة، ويكفي أن تقرأ القرآن قراءة مرسلة عادية.
(3)
.
(1)
-الموسوعة الفقيهة الكويتية (90/ 4).
(2)
- فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية رقم: (5413)
(3)
- من فتاوى اللقاء الشهري، للشيخ ابن عثيمين، لقاء رقم (42)، ويُنظر: الإسلام سؤال وجواب.
هذا مع بقاء أن الأصل في المرأة أنها تعلم بني جنسها من النساء، وأن الأصل في الرجل أنه يعلم بني جنسه من الرجال، إلا ما دعت إليه الحاجة والضرورة، وبالضوابط الشرعية، وقل كذلك في التداوي والتطبيب والعلاج.
ويقول شيخنا العلاَّمة المحدث محمد ناصر الدين الألبانيُّ (ت: 1420 هـ) رحمه الله:
الْمُقرِئ إذا كان يُعلِّم النِّساء بواسطة الهاتف؛ ثمَّ هنَّ يقرأنَ ويُسمِعنَ صوتَهنَّ للمُقرِئ؛ فالحكم كما لو سَمِع صوتهنَّ من وراء السِّتارة، ولا يَرى أجسامَهنَّ؛ فالفِتنة حاصلةٌ على الوجهين: سَمِعَ صوتهنَّ بواسطة الأثير والهواء بدون وسيلة الأسلاك هذه، أو بواسطة الأسلاك؛ فالصوتُ هو صوتُ المرأة عينُه.
وصوتُ المرأة ليس بعورة؛ بخلاف ما هو مشهورٌ عند النَّاسِ؛ ولكن يُشترط في ذلك أن يكون صوتُها ذلك الصُّوتُ الطَّبيعي؛ أمَّا وهي تقرأ بالغنَّة، والإقلاب، والإظهار، و و إلى آخره، والمدُّ الطبيعي والمتَّصِل والمنفَصِل، وهذا هو التَّجوِيد.
ويأتي قوله عليه السلام"مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا
(1)
" إذن هي ينبغي أنْ تَتغنَّى بالقرآن. فلا ينبغي أن يكون هذا أمام رجال إطلاقًا، سواء كان هذا بواسطة الإذاعة، أو بواسطة التليفون.
(2)
وسُئِلَ شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان- حفظه الله-:
بالنسبة لصوت المرأة؛ هناك بعض البرامج في تلاوة القرآن يكون من ضمن المشاركين عن طريق الهاتف نساءٌ يَتْلُونَ القرآن، هل في ذلك شيء؟
قال -حفظه الله-: في الإذاعة يعني؟ السائل: هذا الذي يظهر يا شيخ ..
فأجاب - حفظه الله -:
ما يجوز هذا، ما يجوز أن تُسْمِعَ صوتها للرجال ويسمعها الناس من خلال الإذاعة، هذا ما يجوز، هذا شيءٌ مُحْدَثٌ، ولا هو موجود حتى في إذاعات العالم كلها! ما هو موجود أنَّ النساء تقرأ في الإذاعة، هذا شيء أحدثوه الآن في إذاعة القرآن عندنا في الإذاعة أيضًا البرنامج العام .. أحدثه أُناسٌ جهَّالٌ، هذا لا يجوز أبداً يجب أن يُبَلَّغوا ويقال لهم هذا لا يجوز، نعم، يا أخي الإذاعات الدول العربية كلها ما فيها نساءٌ تقرأ، وهذه الإذاعة أولى الإذاعات بالعمل بالسنة وعدم إحداث شيءٍ ليس له سابقةٌ في الشرع.
(3)
(1)
- رواه البخاري (7527).
(2)
- المصدر: فتاوى جدة: الشريط: 20/ الوجه الأول/ الدقيقة: 1: 47 إلى الدقيقة: 3: 53.
(3)
-من درس "المنتقى من أخبار سيد المرسلين" بتاريخ: 6/ 4/ 1434 هـ
تسبيح الرجال وتصفيح النساء للتنبيه في الصلاة
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
…
مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ". وفي رواية: "إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ"
(1)
.
والتصفيح هو: التصفيق، كما وضحته الرواية الثانية.
وحكمة التفريق بين الرجال والنساء في التنبيه أثناء الصلاة ظاهرة، فالمرأة مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقًا؛ خشية الافتتان بها بحضرة الرجال الأجانب، فناسبه مشروعية التصفيق في حقها لا التسبيح، واختُلف إذا لم تكن بحضرة رجال أجانب فهل تسبح؟ قيل تسبح؛ لأن التسبيح ذكر مشروع في الصلاة، ولانتفاء العلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد التفريق بقوله:" التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" إذا كانت بحضرة الأجانب، وهو وجيه.
(2)
وقيل: تصفق مطلقًا لعموم النص، ولا دلالة فيه على التفريق بين حال وجود رجال أجانب من عدمه، وهذا القول أقوى لظاهر الحديث.
(3)
وإذا كانت المرأة مطالبة بالتصفيق بصفحها أي: بـ"كفها" مقابلة وعوضًا عما يخص الرجال من التسبيح في مواطن التنبيه في الصلاة، والتي هي محل الخشوع والخضوع والذل وحضور القلب وسكون الجوارح وتعظيم الرب جل في علاه، فما ظنك بغيرها من المواطن.!.
فإذا كانت قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت تؤثر في السامع وتجذبه إليه، فلا شك في أن المرأة التي تقرآ القرآن وترتله وتجوده ستحاول التأثير في السامعين بكل ما أُتت من قوة كذلك، فستجتهد في تحسن صوتها وتجمله وترخمه وترققه وتنمقه وبالتالي ستكون أكثر تأثيرًا، وهذا الأمر هو الذي يفتح باب الافتتان بصوتها ولا سيما من مرضى القلوب.
والله تبارك تعالى قد نهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن الخضوع بالقول، ومن هنّ في الشرف، ورفعة المكانة، وعلو القدر؟! هنَّ أمهات المؤمنين المطهرات المبرءات، وهنَّ من أشرف نساء العالمين، وهنَّ اللائي لا يلحقهنَّ في الفضيلة والمنزلة والمكانة والقدر أحدٌ، فهنَّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهنَّ أمهات للمؤمنين في الإكرام،
(1)
-أخرجه البخاري في "كتاب الأذان""باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته"(684)، وأخرجه مسلم (421)، وأخرجه النسائي في" كتاب الإمامة""باب إذا تقدم الرجل من الرعية ثم جاء الوالي هل يتأخر"(783).
(2)
- يُنظر: فتح الباري لابن رجب (9/ 310).
(3)
-وهذا الرأي هو اختيار شيخنا العثيمين رحمه الله، ولاشك أنه رأي له وجاهته، حيث وقف الشيخ فيه عند النص، يُنظر: تعليقه على مسلم (3/ 127).
والتبجيل، والتقدير، والفضل، والمكانة، والتوقير، والإجلال، والإعظام، والإكبار قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاحهن بعد موته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة، والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية.
(1)
.
وهنَّ اللائي لم ولن يطمع فيهن بشرٌ، ومع ذلك كله فقد قال سبحانه لهنَّ:(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32) وكان هذا في عصر خير أصحاب لخير لنبي.
والخطاب وإن كان موجه لنساء النبي- صلى الله عليه وسلم، أو ليس من باب أولى أن يوجه لعموم نساء الأمة كذلك، وهنَّ تبع لهنَّ في ذلك، ولا سيما في زمن الغربة والبعد عن نور الوحي ومشكاة النبوة، وشيوع الجهل، وانتشار وفشو الرذائل، وكثرت وشيوع تواجد الرويبضة وتمكينهم من البروز في وسائل الإعلام المتنوعة، وكثرت دعاة التحرر والتمدن والتحلل من القيم والأخلاق باسم الحرية، ناهيك عن علو صوت الكثير من منتكسي الفطرة من دعاة الانحلال الأخلاقي ممن
يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهؤلاء هم الذين توعَّدهم الله تعالى بالعذاب في قوله سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(النور: 19)، وهم الذين ترى حرصهم على إخراج الطاهرات العفيفات من خدورهنَّ بكل وسيلة وتحت مسمى أي غاية.
وختامًا
دواعي مناقشة ضابط تسجيل القرآن (بصوت رجلٍ "ذكرٍ")
لم يقف الباحث على مناقشة هذا المبحث وإفراده بالبحث والمناقشة والمدارسة من قِبِلِ أيِّ من الباحثين المعاصرين في سياق مبحث "تسجيل القرآن"؟!، فلماذا كانت مناقشة هذا الضابط إذًا؟!، ويا تُرى ما هي الدواعي لانفراده ببحث هذا الضابط ومناقشته ومدارسته ولم يناقشه أحدٌ ببحث مستقل فيما يعلم؟!، وهل تعد مناقشته تلك من نافلة القول، ومن التعسف والتكلف الذي لا داعي لذكره أصلًا لأنه أمر معلوم بالبديهة أن الذي سَيُسَجَلٌ له القرآنُ لا بد أن يكون رجلًا ذكرًا لا امرأة، أم هي من صلب وأساس موضوع البحث؟!
(1)
- يُنظر: منهاج السنة لابن تيمية. (4/ 207)، بتصرف.
يبين الباحث أهم تلك الدواعي فيقول:
أولاً: إن من أهم تلك الدواعي تدارك عدم تكرار تلك الواقعة التي قد يستبعد الكثير وقوعها أصلًا، فإن تسجيل صوت النساء للقرآن قد وقع بالفعل وتكرر في عشرينيات القرن الميلادي الماضي من قبل بعض المقرئات في مصر، وأذيعت تلك التسجيلات في الإذاعات الأهلية وبعضها أذيع في إذاعات عالمية إبَّان الحرب العالمية الثانية، وبعض تلك التسجيلات ما تزال موجودة ومتداولة، وقد وقف الباحث على بعض منها، وهي مبثوثة عبر وسائل التقنية الحديثة.
(1)
(1)
- ومن هؤلاء النسوة المقرئات:
1 -
الشيخة أم محمد: أول مقرئة للقراَن الكريم فى مصر، وهى تعتبر أول مقرئة للقراَن الكريم فى مصر، ظهرت فى عهد "محمد على باشا" وكان من عادتها إحياء ليالي شهر رمضان في حرملك الوالي، وكانت تقوم بإحياء ليالي المآتم في قصور قواد الجيش وكبار الدولة، وكانت موضع إعجاب محمد على وأمر بسفرها إلى اسطنبول لإحياء ليالي شهر رمضان في حرملك السلطان، وقد ماتت الشيخة "أم محمد" في أواخر حكم محمد على ودفنت في مقبرة أنشئت لها خصيصًا في مسجد الإمام الشافعي، وجرت مراسم تشييع الجنازة في احتفال عظيم. 0 (هذا - كله - من باب البيان وحكاية الحال لا من باب الإقرار). الباحث.
2 -
الشيخة سكينة حسن: أول صوت نسائي تسجل تلاوتها للقراَن على أسطوانات
3 -
الشيخة كريمة العدلية: الصوت النسائي الذى غزى الإذاعات الأهلية بتلاوة القراَن، وقد وُجِدَ لها مؤخرًا تسجيلًا عمره أكثر من قرن تقرأ فيه الجزء الأول من سورة الإسراء.
4 -
الشيخة منيرة عبده: أصغر مقرئة قراَن، صوتها تعدى حدود مصر، ففي عامها الـ 18 بثت لها الإذاعة (1920 م) بعض التلاوات، ورغم أنها كانت كفيفة إلا أنها تمكنت أن تكون الوحيدة التى يسمح لها بقراءة القراَن فى الإذاعة وكانت تتقاضى عن ذلك 5 جنيهات وذاع صيتها حتى بلغ دول عدة فى الوطن العربي، حتى أن أحد أثرياء تونس عرض عليها إحياء ليالي شهر رمضان فى قصره إلا أنها لم تستطع السفر.
5 -
الشيخة مبروكة: التى اكتشفت لها تسجيلاً عمره مئة عام بالتمام والكمال، تقرأ فيه أول سورة الإسراء بصوتها الجهوري الممتلئ
6 -
الشيخة نبوية النحاس: التى توفت عام 1973 م، والتي كانت ترتل فى المناسبات العامة
والدينية والافراح والمآتم، وبهذا انطوت صفحة تلاوة المرأة للقرآن وكان الاستماع إليها مقصورًا على النساء.
للاستزادة يُنظر: كتاب " ألحان من السماء" لـ"محمود السعدني" (ص: 36، وما بعدها، وقدم ترجم لهن "السعدني" في خمسة صفحات من كتابه، وقد تم نقل تراجمهنَّ بتصرف واختصار وترتيب وتهذيب من الباحث، والكتاب عليه مآخذ شديدة يصعب حصرها.
6 -
الشيخة خوجة إسماعيل
يقول الباحث عصمت النمر في مقال نشرته مجلة "الهلال":
قدمت الإذاعة في الأسبوع التالي قارئة ثالثة هي الشيخة "خوجة إسماعيل" وجاءت تلاوتها الإذاعية الأولى في العاشرة من صباح الأحد 19 نيسان (أبريل) 1936، ونوهت مجلة الراديو المصري في صفحة 16 العدد 571 ليوم 18 نيسان (أبريل) 1936 أن عدد التلاوات في الظهور الأول للشيخة خوجة إسماعيل بلغ ثلاث تلاوات صباحية أيام 19 و 21 و 23 نيسان (أبريل) 1936 م".
كما ظهرت أسماء أخرى لبعض القارئات أمثال: منيرة أحمد المصري، الحاجة دربالة، الحاجة خضرة في المنوفية، والست عزيزة في الإسكندرية، والست رتيبة في المنصورة، والشيخة أم زغلول فى السويس.
وقد نشرت لأغلب هؤلاء القارئات تلاوات بالتعاون مع راديو "مصرفون" الذي وفّر تلك التسجيلات السمعيّة القديمة، وبعضها منتشر على الشبكة العنكبوتية ..
ثانيًا: أن تأييد رجوع تسجيل تلاوات النساء في الإذاعات أصبح غير مستبعد؛ بسبب المواقف المعلنة والمؤيدة لضرورة وجود قارئات للقرآن في الإذاعات.
وقد ظهرت مؤخرًا رغبة بعض أهل المجون في تسجيل القرآن بأصواتهم، هذا وقد طلب أحدهم التصريح رسميًا بتسجيل القرآن بصوته، وقد تعالت معه أصوات أخر تنادي بعودة تسجيل القرآن بأصوات نسائية كما كان في عشرينيات القرن الميلادي الماضي.
وفي سنة 1958 م نشرت صحف إحدى الدول العربية اقتراحًا بتسجل القرآن كله بصوت مطربة شهيرة طبقة شهرتها الآفاق، وقد سبق أن تجرأت تلك المطربة على تسجيل بعض آي القرآن وبثها بين الخلائق، وهذه المسألة سبق وأن أثيرت عام 1950 م كذلك.
ثالثًا: ومن أبرز تلك الدواعي الخوف أن نؤتى من داخل الصف فيكون المصاب جللًا
- فقد سبق وأن تَقدّم نقيب قراء القرآن الكريم في إحدى الدول الإسلامية بطلب لإذاعة بلده عام 2009 م بالموافقة على قبول قارئات للقرآن في الإذاعة، وذلك بعد فترة وجيزة من قبول النقابة لعضوية عشرات القارئات، غير إنّ الرفض كان من نصيب تلك المحاولة.
(1)
.
- هذا وقد سجل أحد مشاهير القراء الكبار
(2)
ذلك الموقف في تصريحات صحفية له قائلًا: "إن صوت المرأة ليس بعورة، لقوله تعالى في سورة الأحزاب (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الأحزاب: 55)، مضيفًا "الأصل في الأشياء هو الإباحة، وما كان حلاله حلالاً فإن حرامه حرام، بمعنى أن المرأة التي تتحدث بترقيق متعمد لصوتها، يعد صوتها بالأساس خضوعًا بالقول ولا يجوز لها ترتيل القرآن بهذه الطريقة، في حين أنّ المرأة الرصينة الملمة بقواعد التجويد وأحكام الترتيل، لا غبار على قراءتها".
(3)
وأخيرًا فالمرآة الحصيفة الناصحة لنفسها ولعباد الله تجد مكانها في تعليم القرآن الكريم لبنات جنسها، ولاشك أن في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل ما لا يحصيه إلا الله إذا صدق النية وصلحت الطوية، كما أن في ذلك غنية عن تسجيل المرأة صوتها.
هذا ويسأل الباحثُ رَبَهُ أن يوفقه لسلوك سبيل المؤمنين، وأن يجنبه وإخوانه
المسلمين الإحداث والابتداع في الدين.
(1)
- يُنظر، رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر، سامح فايز، عن موقع حفريات، بتاريخ: 6/ 6/ 2018 م.
(2)
- وهو مع هذا كان وقتها نقيبًا للقراء في إحدى الدول الإسلامية حتى وفاته رحمه الله.
(3)
يُنظر، رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر، سامح فايز، عن موقع حفريات، بتاريخ: 6/ 6/ 2018 م. بتصرف.
المطلب الثالث: آفات ومعوقات في طريق التسجيل الصوتي للقرآن الكريم في عصرنا الحاضر
لقد مر معنا في طيات البحث مدى العناية الكبيرة التي حظى بها في عهود الثلاثة، كما حظى المصحف الشريفة نفسه كذلك بعناية بالغة ودقيقة في طباعته حتى وصل لمرحلة من الكمال والتمام والإتقان والضبط والمراجعة التي لا يُظن أنه يمكن معها إضافة أي شيء جديد له بعدها، بداية من ناحية التدقيق والتحقيق والإخراج العلمي الصحيح الخالي من أي أخطاء، ثم من جهة جودة طباعته، ثم مرورًا بجودة الخامات المستخدمة في طباعته حتى خرج في أبهى حلة تليق بكلام مليكنا جل في علاه، فوصلت العناية بطباعة المصحف الشريف إلى صورة طيبة لم تكن لتخطر ببال بشر من قبل، وهذا مما لاشك فيه يدلل على حب المسلمين وصدق إيمانهم وتعظيمهم لربهم وإجلالهم لدينه ولكتابه وتعظيمهم لحرماته وشعائره سبحانه.
فكما كان الأمر كذلك في المصحف وطباعته، فيجب أن يكون الأمر مع المصحف المسجل "صوتيًا" كذلك، وقد مر معنا في طيات البحث بيان ذلك بشيء من التفصيل.
وقد شاع في الناس وانتشر فيهم ظهور تسجيلات صوتية للقرآن الكريم بأصوات جمع غفير من القراء لا يحصيهم عددًا وكثرة إلا خالقهم سبحانه، ويرجع ذلك لأسباب عديدة، ولعل من أبرزها ما يلي:
أولًا: انتشار المحافل التعليمية المتنوعة والتي تعنى بتعليم القرآن الكريم في بلاد الإسلام، من المدارس والمعاهد والجامعات، وحلق التحفيظ في المساجد، وفي الكتاتيب والمحاضر،
والمراكز التعليمية وغيرها من المؤسسات المعنية بتعليم كتاب الله الكريم، ولاشك أن في ذلك من الخير والفضل العميم ما لا يحصيه إلا الله.
ثانيًا: تُخَرُج الكثير من الحفاظ والقراء من تلك المحافل التعليمية وحرصهم على ظهور وبروز أصواتهم، مع عدم النظر لمستوى الأداء وجودة القراءة وسلامتها من اللحن، مما شجع الكثير منهم على تسجيل صوته، وذلك قد يكون رغبة في المشاركة في الخير، وطلبًا لعظيم الأجر، كما قد يكون لغير ذلك، ونوايا العباد لا يعلمها ولا يَطَّلِع عليها إلا من يعلم السر وأخفى.
ثالثًا: ظهور بروز الكثير من القراء في مسابقات القرآن الكريم المحلية والدولية مما شجع على ذلك أيضًا.
رابعًا: حرص الكثير منهم على الظهور في وسائل الإعلام من الفضائيات والإذاعات وغيرها قبل أن يستوي على سوقه.
خامسًا: انتشار وتنوع وسائل التسجيل الحديثة والتي يمكن لكل أحد تناولها بسهولة ويسر ومن أقربها الهواتف الذكية المحمولة في أيدي الناس اليوم، والتي يملكها الصغير والكبير، والغني والفقير، مع سهولة بث تلك التسجيلات بلا كلفة ولا مشقة، مما شجع على ذلك، ولعل هذه
الأخيرة تكون من أهم الدوافع لنشر وبث التسجيلات الصوتية للقرآن بلا رقيب ولا حسيب، مع أن التسجيلات التي تحتوي على أعمال الطرب والغناء تخضع لما يسمى بـ"رقابة المصنفات
الفنية"، فأيهما أحق بالرقابة والتحقيق والتدقيق. فإلى الله المشتكى وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واجب الجهات المعنية في بلاد الإسلام تجاه تلك التسجيلات
من هنا كان من أوجب الوجبات المتحتمات على الجهات المعنية في بلاد الإسلام وضع ضوابط للتسجيل الصوتي للقرآن ليرتقي بها مستوى الأداء من جهة، وليُصان بها كلامُ الله تعالى عن العبث العابثين، وليرعوي كل من تسول له نفسه الإقدام على مثل هذا العمل دون أن يتأهل له من جهة أخرى.
ذلك لأن التسجيلات الصوتية التي لم ترتق للمستوى المطلوب يسمعها القاصي والداني عبر الوسائل الحديثة وتنشر بسرعة كانتشار النار في الهشيم، وهي في خطرها لا تقل خطورة أبدًا عن تلك المصاحف التي طُبعت محرفة عن عمد ووزعت بطبعات فاخرة في القارة الإفريقية، وقد أخمد الله الذي وعد بحفظ كتابه هذه الفتنة بأول تسجيل صوتي للقرآن الكريم كاملًا والذي كان بصوت الشيخ الحصري رحمه الله، والذي تم بثه ونشره في أوائل الستينات الميلادية من القرن الماضي.
وانتشار التسجيلات الصوتية للقرآن التي تحتوي على لحن عبر وسائل الإعلام المختلفة، المرئي منها والمسموع يعطيها طابع السلامة والاعتماد والشرعية والقبول عند عامة الناس، ويزيد الطين
بلة إذا ذاع صيت قارئ ما وأصبح له اسمًا مدوية وشهرة واسعة حتى ولو كان في أدائه ما فيه من اللحن.
وهناك معوقات تقف سدًا منيعا تجاه تلك التسجيلات. ولخروج التسجيلات الصوتية للقرآن على الوجه المطلوب الذي تحصل به السلامة وتسلم فيه من اللحن وضعف الأداء يجب بيان تلك المعوقات لتداركها من قِبَلِ الجهات المعنية في بلاد الإسلام.
أهم الآفات والمعوقات المعترضة طريق التسجيل الصوتي للقرآن الكريم
1 -
عدم العناية الكافية بتعلم القرآن وتعليمه مما يخرج حفاظًا ومعلمين وقراء غير مؤهلين التأهل الكامل التام الذي يؤهلهم لتعليم القرآن على الوجه الصحيح، وقد يندفع البعض منهم لتسجيل القرآن بصوته وهو غير مؤهل لهذه المهمة العظيمة الجليلة.
فالواجب العناية الكافية بتعلم القرآن وتعليمه والرقي بمستوى أداء القائمين على تعليمه من المعلمين والمشايخ ورصد أعلى ميزانية في كل دولة مسلمة تليق بمكانة كتاب الله تعالى، وتليق بمعلمي ومتعلمي القرآن على حد سواء، وذلك للنهوض بمستوى تعلم القرآن وتعليمه وتخريج
أجيال متقنة ومؤهلة لأدائه على الوجه الصحيح اللائق به، متخلقة بأخلاقه متأدبة بآدابه، مهتدية بهداه.
2 -
وجود ضعف شديد في أداء التلاوة على الوجه المطلوب من جودة القراءة وإتقان أحكام التجويد في كثير من تلك التسجيلات، وغياب الرقابة والمتابعة والتدقيق والمحاسبة على ظهور تلك التسجيلات غير المنضبطة من قبل الجهات المعنية في بلاد الإسلام.
فلا بد إذًا من تحرك الجهات المعنية في كل دولة مسلمة للقيام بواجبها تجاه منع أي تسجيل إلا لمن تأهل لذلك، وبتصريح من الجهات المعنية.
3 -
ظهور الكثير من تلك التسجيلات "الصوتية" محتوية على لحون كثيرة، منها ما هو جلي، ومنها ما هو خفي، والأخير أكثر شيوعًا وذيوعًا وانتشارًا، ومنها ما هو خفي شديد الخفاء.
وهذه التسجيلات لا يجوز نشرها وبثها وتداولها بين الناس، ويتحمل تبعتها بين يدي الله تعالى كل من نشرها ممن كان عنده علم بما تحتوي من خلل، وتتعدى تبعتها إلى كل من كان له سلطة تمكنه من منعها أو التحذير منها، مِنْ كل مَنْ كان له علم بما تحتويه من خلل ولحن ولم يبادر إلى التحذير منها ومنع نشرها وبثها، حسب قدرته وطاقته.
4 -
وجود الكثير من الخلل والأخطاء التقنية في كثير من تلك التسجيلات بصورة لا تليق بمكانة وقدر كلام الله، ومن أبرزها ما يظهر جليًا من تلك المؤثرات الصوتية التي أضيفت مع الكثير من التسجيلات الصوتية للقرآن مؤخرًا، كما توجد تسجيلات لقراء كبار قديمة جدًا غير نقية كبعض
تلك التسجيلات القديمة لشيخ القراء محمد رفعت رحمه الله، فهي وأمثالها تحتاج لتصفية ليصبح الصوت نقيًا واضحًا.
5 -
وجود أخطاء في بعض التلاوات المسجلة، وهذا يوجد بكثرة في التسجيلات التي تسجل للقراء في الصلوات ولاسيما في صلاة القيام من رمضان، حيث يقرآ القارئ هنالك من حفظه، ولاشك أن الخطأ هنا وارد وبكثرة.
6 -
وجود مسح لبعض الآيات في أوائل بعض التسجيلات، كما قد يوجد كذلك في أواسطها، وقد يرجع ذلك غالبًا لكثرة النسخ والنقل عن نسخ غير أصلية ومعتمدة من جهات رسمية موثوقة.
7 -
بعض التسجيلات من صلاة القيام يسجل معها تكبيرات الانتقال للنزول والقيام بل وسجدات التلاوات كذلك في وسط التلاوة، ولربما وجد في وسط السورة الواحدة.
8 -
وجود البسملة في كثير من التسجيلات في غير مواضعها من أوائل السور،
ولتفادي كل تلك الأخطاء والخلل الواقع في تلك التسجيلات لابد من اتخاذ إجراءات حازمة وصارمة من الجهات المعنية في بلاد الإسلام.
الإجراءات الوقائية تجاه تلك التسجيلات تتمثل فيما يلي:
أ- لابد من وجود هيئات رقابية رسمية في كل دولة مسلمة تعنى بهذا الجانب
ب- لابد من الحصول على تصريح لبث تلك التسجيلات قبل نشرها من الجهات المعنية، كهيئة رقابة المصحف بالأزهر، وإن كانت تلك الهيئة تراقب المصاحف المطبوعة، فلابد كذلك من وجود هيئة معتمدة لمراقبة المصاحف المسجلة كذلك، ويمكن عقد لجنة للرقابة عليها من قبل نقابة القراء ونقابة محفظي القرآن وكلها تخضع لإشراف الأزهر، وقل كذلك عن مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمملكة العربية السعودية، على أن كل دولة مسلمة عليها رعاية تلك الأعمال بصفة رسمية وتفرض عقوبات صارمة على من خالف وقام بأي أعمال فردية.
ج- محاولة تدخل الجهات المعنية كذلك لإلغاء التسجيلات غير المنضبطة والمخالفة والتي سبق بثها ونشرها والتحذير منها وعدم بثها في الإعلام الرسمي، كل ذلك حسب الممكن والمتاح والمقدور عليه، عملًا بقوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا)(التغابن: 16).
وقل كذلك في التسجيلات المرئية، والتي ينادي البعض بها لتصبح "الجمع الخامس للقرآن الكريم" ألا وهو:"الجمع المرئي" وذلك بتسجيل جميع روايات القرآن الكريم تسجيلًا مرئيًا.
وإنما طالب من طالب بالتسجيل المرئي طلبًا لتحقيق دقة الأداء بالجمع بين الصوت والصورة لأن بعض الأحكام لابد في ضبط تلقيها وتصويبها ومتابعتها من الجمع بين الأمرين جميعًا.
وهذا المطلب ما يزال محل بحث لأن التسجيل الصوتي لجميع روايات القرآن لم يكتمل بصفة رسمية حتى الآن.
وبهذا ينتهي الفصل الثالث. والحمد لله رب العالمين.
الفصل الرابع
الأحرف السبعة
وفيه مبحثان:
توطئة:
فإنَّ أجدر ما يَشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق فيه المتسابقون، وأحقَّ ما تُفنى فيه الأعمار، وتُشغل به الأزمان - كتابُ الله تعالى، الذي أنزله سبحانه بيانًا وتفصيلاً لكلِّ شيء، وأَمَر رسوله محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغه للنَّاس كافَّة، وجعله هدًى ورحمةً للمؤمنين، وحُجَّةً وبرهانًا على الجاحدين، فضَّله سبحانه وتعالى على جميع الكتب المنزلة، وميَّزه بميزاتٍ كثيرة؛ منها نزولُه على سبعة أحرف، كلُّها كافٍ شافٍ؛ رحمةً بأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم وتيسيرًا عليها، ورفعًا للمشقَّة عنها؛ قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ هذا القرآنَ أُنزِلَ على سبعةِ أحْرف، فاقرؤوا ما تيَّسر منه".
(1)
وموضوع نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف من الموضوعات الهامَّة جدًّا؛ لتعلُّقِه الشديد بالقرآن الكريم، ولِمَا يترتَّب عليه مِن مسائلَ هامَّة، وهو لكثرة ما ورد فيه من أحاديث متعدِّدة الرِّوايات، ومتشعبة الطرق - كان من الموضوعات الشَّائكة التي اختلفت فيها الآراء، وتشعَّبت
فيها الأقوال، ممَّا جعل بعضَ العلماء يرى أنَّ حديث نزول القرآن على سبعة أحرف من المشكِل الذي لا يُعلم معناه؛ ولذا اهتمَّ العلماء بهذا الموضوع، وأسهبوا في الحديث عنه في مؤلَّفاتهم.
(2)
في بداية نزول القرآن كان العرب متفرقين غير مجتمعين، ومع ذلك كانت اللغة العربية تجمعهم، مع اختلاف في بعض الكلمات والحروف، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقرئ أمته القرآن على حرف واحد، فلم يزل يستزيد ويقول إن أمتي لا تطيق ذلك، حتى وصل العدد سبعة، فكان ذلك رحمة وتيسيرًا وتسهيلًا على الأمة في بداية تلقيها القرآن الكريم، فأصبحت كل قبيلة تقرأ بالحرف الذي يوافق لهجتها أو هو أقرب إليها، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقرئ الصحابة كل بالحرف الذي يرى أنه يناسب لهجته أو لهجة من يليه من العرب.
(3)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، (ص: 1087)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف (1/ 560).
(2)
- يُنظر: مقدمة: كتاب في معاني قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، لأبي الفضل عبدالرحمن بن أحمد الرازي (ت: 454 هـ)، تحقيق ودراسة، عائشة بنت عبدالله الطوالة، 1425 هـ-1426 هـ.
(3)
ينظر: الشريعة، للآجري، (المتوفى: 360 هـ)، دار الوطن -الرياض/ السعودية (1/ 471).
المبحث الأول: التعريف بالأحرف السبعة
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الأحرف في اللغة
معنى الحرف في اللغة العربية إجمالًا:
الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وبه سمي الحرف من حروف الهجاء. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحدّه، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. وحرف الشيء: ناحيته. وفلان على حرف من أمره أي ناحية منه كأنه ينتظر ويتوقع، فإن رأى من ناحية ما يحب وإلا مال إلى غيرها.
(1)
معاني الحرف في اللغة العربية تفصيلًا:
(2)
لو تأمَّلْنا في كتاب الله عز وجل، ولسان العرب (معاجم اللغة العربية) لوجدنا أن لمادة (ح ر ف) عدة محامل كالآتي:
1 -
اللهجة اللغوية، ومنه قولنا: هذا حرف بني فلان؛ أي: لهجتهم.
2 -
جانب الشيء أو حده أو شفيره أو طرفه، ومنه قولنا: حرف الجبل، وحرف السيف، وحرف السفينة.
3 -
الشرط أو الشيء المرجو المتوقع، ومنه قول الله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)(الحج: 11)، وقيل: المراد بالحرف في الآية: الشك، أو: على غير طمأنينة، وقيل: الوجه الواحد وهو السرَّاء، والطاعة والعبادة تجب لله على كل حال في السرَّاء والضرَّاء.
4 -
الناقة الضامرة (المهزولة) من شدة السير والمضي، وتلك علامة لنجابتها، تشبيهًا بحرف السيف، أو بحرف الهلال.
5 -
الناقة الصُّلبة الشديدة، تشبيهًا بحرف الجبل.
6 -
إحدى القراءات المتواترة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن القُرْآن أنزل على سبعة أحرفٍ، فاقرؤوا منه ما تيسر".
(3)
(1)
- جمال الدين حمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، اعتناء: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 3، د. ت.) ج 3، ص 128
(2)
- يُنظر: "أساس البلاغة"(1/ 183)، "مقدمة تفسير ابن النقيب" (ص: 238، 237)، "لسان العرب"(9/ 41) وما بعدها، "القاموس المحيط"(1/ 800، 799)، "تاج العروس"(23/ 128) وما بعدها.
(3)
صحيح البخاري"، كتاب/ الخصومات، باب/ كلام الخصوم بعضهم في بعض، رقم (2419)، "صحيح مسلم"، كتاب/ صلاة المسافرين وقصرها، باب/ بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، وبيان معناها، أرقام (270)، (272)، (273)، (274).
7 -
معنى من المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم.
8 -
الانحراف عن الشيء، ومنه قولنا: فلان على حرف من هذا الأمر؛ أي: على انحراف عنه.
9 -
أحد حروف الهجاء الثمانية والعشرين المعروفة أو غيرها مطلقًا.
تلك معاني مادة (ح رف) في اللغة العربية لمن تأمل في معاجمها، والمعاني كثيرة، بعضها أتى عن طريق المجاز كما تقدم كوصف الناقة به، وبعضها عن طريق الاشتقاق، كالتحريف والتغيير للشيء عن وجهه.
(1)
المطلب الثاني: مفهوم الأحرف السبعة في الاصطلاح
الأحرف السبعة اصطلاحًا:
الأحرف السبعة بمفهومها العام في علم قراءات القرآن هي: عبارة عن التنوع اللفظي، والتعدد اللغوي، في الخصائص التي نزل بها القرآن من حيث أن جمع معظم اللغات العربية المتداولة في ذلك الوقت، فكان مشتملًا على الألفاظ العربية باستعمالاتها المتعددة .. كما أن الكلمة الواحدة قد تكون متعددة الاستعمال باختلاف حروفها، فمثلا: إبراهيم؛ يقال فيه أيضًا: ابراهام، وإبرهيم، وهكذا. فأحرف الهجاء العربية تبنى منها الكلمة، وتتعدد اللغات العربية في استعمال الكلمة
الواحدة بالاختلاف في الحروف. فينطق الحرف تامًا على أصله، أو ينطق ممزوجًا بحرف آخر، أو بتقليل نطقه، أو بتغيير حركاته، أو غير ذلك، وهذا يجعل اللفظ الواحد متعدد اللغات.
(2)
وهذا المبحث من المباحث التي تناولها العلماء في تآليفهم، بل وأفردها بعضهم بالتأليف.
وقد اختلفت فيه آراؤهم وأنظارهم اختلافا كثيرًا، وكثرت فيه الأقوال كثرة ظاهرة، حتى لقد بلغ بها "السيوطي "في الإتقان- نقلًا عن ابن حبان، خمسة وثلاثين قولًا.
وليس من شك في أن هذا البحث شائك، ودحض مزلة
(3)
، والباحث فيه يحتاج إلى شيء غير قليل من البصر بموضع قدمه، ومن الأناة والصبر، ولا تعجب إذا خفي المراد على بعض العلماء فعد الحديث مشكلًا، وتوقف عن بيان المراد منه، وبعضهم جعل حقيقة العدد غير مقصودة، وأن
(1)
- معنى الحرف في اللغة العربية، الشيخ مسعد أحمد الشايب، موقع الألوكة، بتاريخ: - 24/ 1/ 1439 هـ-15/ 10/. 2017 م.
(2)
الأحرف السبعة، الموسوعة الحرة
(3)
- دحضت رجله زلقت، من باب قطع يقطع، ومزلة: بفتح الزاي وكسرها، أي مكان زلق وزل من باب ضرب يضرب، ويقال زل يزل- بفتح الزاي- زللا، فالكلمتان بمعنى، وذكر الثاني بعد الأول للتأكيد.
المراد التكثير من غير حصر، وأتى بعضهم بآراء ما أنزل الله بها من سلطان، ولكي نصل إلى بيان الحق والصواب، نرى لزامًا علينا ذكر الروايات الثابتة في هذا المعنى بشيء من التفصيل كي تكون لنا نبراسا نهتدي على ضوئه لمعرفة المراد.
(1)
حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف حديث متواتر
ويحسن أن ننبه قبل هذا التفصيل إلى أن حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف، ورد من رواية جمع كثير من الصحابة، حتى نص الإمام أبو عُبَيِدٍ القاسمُ بن سَلاَّمٍ (ت: 224 هـ) رحمه الله على تواتره، فقد رواه من الصحابة كل من:
1 -
أبيّ ابن كعب
2 -
وأنس بن مالك
3 -
وحذيفة بن اليمان
4 -
وزيد بن أرقم
5 -
وسمرة بن جندب
6 -
وسليمان بن صرد
7 -
وعبد الله بن عباس
8 -
وعبد الله بن مسعود
9 -
وعبد الرحمن بن عوف
10 -
وعثمان بن عفان
11 -
وعمر بن الخطاب
12 -
وعمر بن أبي سلمة
13 -
وعمرو بن العاص
14 -
ومعاذ بن جبل
15 -
وهشام بن حكيم بن حزام
16 -
وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي
(1)
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، الدكتور محمد محمد أبو شهبة (ص: 166). المدخل لدراسة القرآن الكريم المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403 هـ) الناشر: مكتبه السنة - القاهرة الطبعة: الثانية، 1423 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1
17 -
وأبو جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري
18 -
وأبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري
19 -
وأبو طلحة الأنصاري، وهو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري الخزرجي.
20 -
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صحر الدوسي
21 -
وأُمُّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّةُ امْرَأَةُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَهِيَ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَنْصَارِيَّةُ، ثُمَّ الْخُزَاعِيَّةُ- رضي الله عنهم أجمعين-؛ فهؤلاء أحد وعشرون صحابيّا
(1)
.
وهؤلاء هم الذين ذكرهم السيوطي (ت 911 هـ) في الإتقان، وقد قيل إن عدد من رواه من الصحابة أربعًا وعشرين صحابيًا، فزاد بعضهم على هؤلاء ثلاثة آخرين وهم:
1 -
عبد الله بن عمر
2 -
وعبادة بن الصامت
3 -
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين ..
وقد ذكرهم أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (ت 1345 هـ) في" نظم المتناثر من الحديث المتواتر
(2)
ذكر جملة من طرق هذا الحديث:
1 -
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمِعتُ هشامَ بنَ حَكيمِ بنِ حزامٍ يقرأُ سورةَ الفرقانِ، فقرأَ فيها حُروفًا لم يَكُن نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقرأَنيها، قُلتُ: مَن أقرأَكَ هذِهِ السُّورةَ؟ قالَ: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: كذبتَ، ما هَكَذا أقرأَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فَأخذتُ بيدِهِ أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّكَ أقرأتَني سورةَ الفرقانِ، وإنِّي سمِعتُ هذا يقرأُ فيها حروفًا لم تَكُن أقرأتَنيها! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا هشامُ. فقرأَ كما كانَ يقرأُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ: اقرَأ يا عمرُ. فقرأتُ، فقالَ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ: إنَّ القرآنَ أُنزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ.
(3)
.
(1)
-الإتقان ج 1 ص 45، وفي بعض نسخ الإتقان المطبوعة «أبو أيوب» بدل "أم أيوب" وأغلب الظن أنه من الطباعة، وفي النشر لابن الجزري "أم أيوب".
(2)
يُنظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص: 173). ط. دار الكتب السلفية تحقيق: شرف حجازي.
(3)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
ومما هو معلوم أن " هشامًا " أسدي قرشي، وأن " عمر " عدوي قرشي، فكلاهما من قريش، وليس لقريش إلا لغة واحدة، فلو كان اختلاف الأحرف اختلافًا في اللغات لما اختلف القرشيان.
(1)
وحديث عمر هذا حديث متواتر، وقد بلغ أعلى درجات الصحة، فقد رواه إماما المحدثين البخاري ومسلم، كما أنه قد بلغ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن على سبعة أحرف حد التواتر المفيد للعلم اليقيني المقطوع بثبوته وصحته؛ وقد لاقى حديث الأحرف السبعة القبول عند جماهير أهل السنة.
وقد نص على تواتره جمع من أهل العلم منهم أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) حيث يقول رحمه الله:
قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة، إلا حديثًا واحدًا يُروى عن سمرة، حدثني عفان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نزل القرآن على ثلاثة أحرف"
(2)
. قال أبو عُبَيْدٍ: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة؛ لأنها المشهورة.
(3)
2 -
ثبت عند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي، حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
(4)
3 -
ثبت عند مسلم في صحيحه من حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ عِنْدَ أَضَاةِ
(5)
بَنِي غِفَارٍ، قالَ: فأتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ
(1)
-نزول القرآن على سبعة أحرف، الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 29/ 6/ 2002 م.
(2)
- مستدرك الحاكم، كتاب التفسير 2/ 223، ومسند الإمام أحمد 5/ 22.
وأسانيد هذا الحديث تدور حول رواية الحسن عن سمرة، والحسن قد تُكُلِمَ فيه، وهو متهم بالتدليس كذلك، فهو يروي عمن لم يدركهم وعمن لم يسمع منهم من الصحابة. يُنظر: تهذيب التهذيب (2/ من صفحة 263 لصفحة 270،)، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص: 119) ط المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، وتذكرة الحفاظ.
غير أن البخاري والترمذي وعلي بن المديني وأحمد وأبو داود إلى سماع الحسن من سمره، فقد روى البخاري منه سماعًا منه لحديث العقيقة، وثمة أحاديث أخرى رواها الحسن عن سمرة غالبها في السنن الأربعة وعن علي بن المديني أن كلها سماع، كذا حكى الترمذي عن البخاري. يُنظر: تهذيب التهذيب 2/ 268
والحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه قال فيه: " وقد احتج البخاري برواية الحسن عن سمرة، واحتج مسلم بأحاديث حماد بن سلمة، وهذا الحديث صحيح وليس له عله " وأقره الذهبي. وهذا ما نقره كذلك بعد تمحيص للآراء في سماع الحسن عن سمرة.
يُنظر: المتحف في معنى السبعة أحرف، عدنان البحيصي، ملتقى أهل التفسير، بتاريخ: 10/ 2 - 1427 هـ
(3)
- فضائل القرآن (ص: 339).
(4)
أخرجه البخاري (4199)، ومسلم (819).
(5)
- والأَضاةُ: الغَدير، الأَضاةُ: الماء المُسْتَنْقِعُ من سيل أَو غيره، والجمع: أَضَواتٌ وأَضًا مقصور مثل قَناةٍ وقَنًا، وإضاءٌ بالكسر والمد وإضُونَ كما يقال سَنَةٌ وسِنُونَ؛ (لسان العرب، مادة أضا).
أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى حَرْفٍ، فَقالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وإنَّ أُمَّتي لا تُطِيقُ ذلكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى حَرْفَيْنِ، فَقالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وإنَّ أُمَّتي لا تُطِيقُ ذلكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وإنَّ أُمَّتي لا تُطِيقُ ذلكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فأيُّما حَرْفٍ قَرَؤُوا عليه فقَدْ أَصَابُوا.
(1)
4 -
ثبت عند مسلم في صحيحه من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
(2)
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عز وجل فَرَقًا، فَقَالَ لِي:"يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم ".
(3)
5 -
ثبت عند النسائي بسند صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
إنَّ جبريلَ وميكائيلَ عليهما السلام أتياني فقعدَ جبريلُ عن يميني وميكائيلُ عن يساري فقالَ جبريلُ عليه السلام: اقرأ القرآنَ على حرفٍ. قالَ ميكائيلُ: استزدْهُ استزدْهُ حتَّى بلغَ سبعةَ أحرفٍ فَكلُّ حرفٍ شافٍ كافٍ.
(4)
6 -
ومما روي من الأحاديث في هذا المعنى وإن لم يُنَص فيه على لفظ الأحرف السبعة ما ثبت عند البخاري من حديث ابن مسعود رضى الله عليه أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله
(1)
أخرجه مسلم (821) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
- أي وسوس لي الشيطان تكذيبًا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية.
فسقَط في نفْسِه مِن التَّكذيبِ، أي: خطَر في قلبِه مِن التَّكذيبِ مِن جِهةِ تَحسينِه صلى الله عليه وسلم قراءتَهما؛ ظنًّا منه أنَّ كلامَ اللهِ الواحدِ يكونُ على وجهٍ واحدٍ، ولا يجوزُ أن يقرأَه كلُّ رجلٍ كيفما شاء، ولا إذ كنتُ في الجاهليَّةِ، ومعناه: وسوَس لي الشَّيطانُ تكذيبًا للنُّبوَّةِ أشدَّ ممَّا كنتُ عليه في الجاهليَّةِ؛ لأنَّه في الجاهليَّةِ كان غافلًا أو متشكِّكًا، فوسوَس له الشَّيطانُ الجزمَ بالتَّكذيبِ. يُنظر: شرح الحديث في الموسوعة الحديثية من الدرر السنية
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، رقم 820.
(4)
- صححه الألباني في صحيح النسائي (940).
عليه وسلم قرأ خِلَافَهَا، قال: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَآ " أَكْبَرُ عِلْمِي قَالَ: " فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَأُهْلِكُوا".
(1)
ومملا شك فيه أن إنزال الله تعالى القرآنَ على سبعة أحرف؛ فيه ترخيصٌ وتوسعةٌ وتخفيفٌ وتهوينٌ وتيسيرٌ على هذه الأمة، كما سيأتي بيان ذلك بشيء من التفصيل والإيضاح في مبحث "أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف" بإذن الله تعالى.
والمؤمن له يقرأ بما يتيسر له من أي حرف من تلك الحروف، دون إلزام له بأي حرف منها، فكلها قد نزل به القرآن، وهو مُتَعَبَد لله تعالى بأي منها.
المطلب الثالث: أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف
إن هذه الأمة هي آخر الأمم وجودًا، وهي أمة عزيزة على خالقها، وهي أمة مرحومة، ومن رحمة ربها بها أن رَفَع عنها ما كان من الإصْرٍ والأغْلالٍ التي كُتِبَت على مَن سبَقَها من أمم، كما قال سبحانه:(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(الأعراف: 27).
ولقد كان من أبلغ مشاهد رحمته سبحانه بها إنزال كتابه الخاتم وتيسر قراءته، ووروده على سبعة أحرف وذلك لأسباب كثيرة،
ولعل من أبرزها ما يلي:
أولًا: التيسير على هذه الأمة والتهوين عليها رحمة بها وتوسعة عليها
فإن التيسير والتهوين على هذه الأمة والتوسعة عليها في قراءتها للقرآن الكريم قد دلت عليه أحاديث كثيرة صحاح، وقد مر معنا ذكرها آنفًا.
و لو نزل القرآن على حرف واحد لشق ذلك على الأمة العربية؛ فقد كانت متعددة اللغات واللهجات، وما يتسهل النطق به على البعض لا يسهل على البعض الآخر، وكانت تغلب عليها الأمية، فلا عجب أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاستزادة من الحروف حتى بلغت سبعة أحرف.
والتوسعة على الأمة لم تكن في مبدأ الدعوة، بل كانت بعد الهجرة وبعد أن دخل في الإسلام كثير من القبائل غير قريش، فكانت الحاجة ماسة إلى هذا التسهيل، وتلك التوسعة، يشهد لهذا حديث مسلم: أن النبي كان عند أضاة بني غفار
…
الحديث، وهي بالمدينة النبوية، كما ذكرنا آنفًا.
(2)
(1)
أخرجه البخاري في - كتاب فضائل القرآن- باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم. ح (5062).
(2)
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، الدكتور محمد محمد أبو شهبة (ص: 26 - 27).
وفي هذا يقول ابن قتيبة (ت: 276 هـ) رحمه الله:
فكان من تيسيره-سبحانه- أن أمره- صلى الله عليه وسلم بأن يُقرئ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم: فالهذليّ يقرأ: "عتّى حين" يريد (حَتَّى حِينٍ)(المؤمنون: 54)؛ لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ: (تِعْلَمونَ) و (تِعْلَم) و (تِسْوَدُّ وُجُوهٌ)(آل عمران: 106)، و (أَلَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (يس: 60). والتّميميّ يهمز، والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ:(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ)(البقرة: 11)(وَغِيضَ الْماءُ)(هود: 44) بإشمام الضم مع الكسر، و (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) (يوسف: 65) بإشمام الكسر مع الضم، و (مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا) (يوسف: 11) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متّسعًا في اللغات، ومتصرّفًا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين، حين أجاز لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجّهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر أمور دينهم.
(1)
وفي نحو ذلك يقول القاسم بن ثابت العَوْفي السرَقسطي: (ت: 302 هـ) رحمه الله:
إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناؤون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة ذلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملاً ثقيلاً، وعالج منه عبئًا شديدًا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد
التمرين الشديد والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم.
(2)
وإن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبعة إنما كانت في حدود ما نزل به جبريل، وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بدليل أن كلّا من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله، وأن النبي كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله:"هكذا أنزلت" كما في حديث عمر وهشام، وما يفيده لفظ الإنزال الذي جاءت به جميع روايات الحديث، وليس ذلك إلا التوقيف بالسماع من الرسول، وسماع الرسول من جبريل.
(1)
- تأويل مشكل القرآن، الإمام أبي محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ص: 32، دار الكتب العلمية، 2007 م.
(2)
- يُنظر: المرشد الوجيز لأبي شامة (ص: 128).
ولا يتوهمن متوهم أن التوسعة إنما كانت باتباع الهوى والتشهي، فذلك ما لا يليق أن يفهمه عاقل، فضلًا عن مسلم؛ إذ الروايات الواردة ترده وتبطله، ولو كان لكل أحد أن يقرأ بما يتسهل له من غير تلق وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبدل ذلك من تلقاء نفسه لذهب إعجاز القرآن، ولكان عرضة أن يبدله كل من أراد حتى يصير غير الذي نزل من عند الله، ولما تحقق وعد الله سبحانه بحفظه في قوله:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(الحجر: 9) واللوازم كلها باطلة، فبطل ما أدى إليها، وثبت نقيضه وهو أن التوسعة كانت في حدود ما أنزل الله.
وكيف يتفق هذا الوهم الباطل، وقول الحق تبارك وتعالى:(قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(يونس: 15 - 16).
(1)
ويُعد هذا السبب -التيسير على هذه الأمة والتهوين عليها- هو السبب الرئيس في ورود القرآن على سبعة أحرف.
ثانيًا: إجابة اللهِ تعالى لقصد نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم
وفي هذا يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها شرفًا لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم حيث أتاه جبريل فقال له (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرف فقال صلى الله عليه وسلم أسأل الله معافاته ومعونته - وفي رواية - إن أمتي لا تطيق ذلك)
(2)
ولم يزل
يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف وكما ثبت صحيحًا (إن القرآن نزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد)
(3)
وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى أقوامهم الخاصين بهم والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابًا كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم فلو كلّفوا العدول عن
(1)
-المدخل لدراسة القرآن الكريم، الدكتور محمد محمد أبو شهبة (ص: 27).
(2)
- رواه مسلم في كتاب المسافرين وقصرها باب أن القرآن على سبعة أحرف، صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 103).
(3)
- رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن مسعود،
ح (4031).
لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يُستطاع وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع
(1)
.
ثالثًا: تيسير نشر القرآن وفهمه لجميع العرب
وفي هذا يقول ابن الجوزي (ت: 597 هـ) رحمه الله:
لذلك كان إنزال للقرآن على سبع لغات كفيلة بنشر القرآن لما في ذلك من تيسير قراءته وفهمه لجميع العرب إلا ما ندر. والنادر لا يعول عليه.
(2)
وإن مأتى هذه اللهجات العربية في القراءات القرآنية هو رحمة من الله عز وجل بتيسيره للعرب أن يقرؤوا القرآن بلهجاتهم
…
فكان من رحمته سبحانه وتعالى أن يسر للعرب الذين نزل القرآن بلسانهم أن يقرؤوه بلهجاتهم، فهو سبحانه يعلم ما طبع عليه الإنسان من تمسكه بلهجته التي نشأ عليها، وصعوبة انتقاله عنها صعوبة قد تصده عن الإقبال على القرآن، ومن ثم عن تدبره وفهمه واستنباط أسراره.
(3)
رابعًا: تيسير قراءة القرآن على المسلمين قاطبة في جميع الأعصار والأمصار.
فالإسلام هو دين الله للبشرية كافة، ولم تكن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، بل كانت رسالته للإنسانية كلها على اختلاف الجنس والوطن واللغة.
(4)
خامسًا: إثبات إعجاز القرآن
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد- تحدى بالقرآن جميع الخلق: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
…
} الآية (الإسراء: 88). فلو أتى بلغة دون لغة لقال الذين لم يأت بلغتهم: لو أتى بلغتنا لأتينا بمثله، وتطرق الكذب إلى قوله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا.
(5)
إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب:
فتعدد مناحي التأليف الصوتي للقرآن تعددًا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز
(1)
-النشر في القراءات العشر (1/ 22).
(2)
- فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، لابن الجوزي (ص: 215). ط. دار البشائر الإسلامية، سنة النشر: 1408 هـ - 1987 م.
(3)
- يُنظر: من القضايا الكبرى في القراءات القرآنية، الدكتور محمد حسن جبل (ص: 59).
(4)
مناع خليل القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، (ص 101 - وما بعدها).
(5)
-غيث النفع في القراءات السبع (14 - 16) هامش على سراج المبتدئ، وتذكار المنتهي لابن القاصح، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط. 1373 هـ.
الذي تحدى به الرسول صلى الله عليه وسلم العرب، ومع اليأس من معارضته، لا يكون إعجازًا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازًا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب، وإعجاز الفطرة اللغوية إعجاز لا يحده زمن، بل يمتد دائما مع اللغة ما دامت هذه اللغة قائمة.
وهنالك يتجلى وجه آخر من أوجه إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه
فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يعطي مزيدًا من المعاني التي يدل عليها اللفظ، ويتهيأ معه استنباط الأحكام التي تجعل القرآن ملائماً لكل عصر، يلبي حاجات البشرية ويقيم حياتها على نهج الله الأقوم.
(1)
سادسًا: تمييز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السابقة
فللقرآن خصائص كثيرة، منها أنه انماز بخصيصة نزوله بسبعة ألسن من لغات العرب، كل منها هو وحي الله المنزل، وليس تفسيراً ولا تأويلاً. أما الكتب السماوية السابقة فنزل كل كتاب منها بلسان واحد، وإذا عدل عنه فإنه يكون من باب الترجمة والتفسير، وليس بالذي أنزل الله تعالى.
(2)
سابعًا: إن نزول القرآن على سبعة أحرف يثري عملية البحث والتنقيب عن معاني هذه الأحرف.
ذلك لأن هذه التوسعة إنما كانت في الألفاظ، ولم تكن في المعاني والأحكام وأنها كانت في المعنى الواحد يقرأ بألفاظ مختلفة؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ كلّا من المختلفين على قراءته، بل واستحسان قراءة كل بقوله": كلاكما محسن".
وغير معقول أن يكون اختلافهم في المعاني والأحكام، ثم يوافق النبي كلا على قراءته ويستحسنها.
(3)
وهذا مما يزيد ويؤكد لزوم البحث عن كل ما يتعلق بتلك الأحرف، سواء كان ذلك من جهة:
أ- صحة وسلامة نطقها والتلفظ بها كما أنزلها الله
ب- أو من جهة الأحكام الشرعية المتعلقة بها
ج- أو من جهة المعاني اللغوية التي تدل عليها
د- أو من جهة الأوجه الإعجازية التي تشير إليها
حيث يظهر ويتجلى كمال الإعجاز عند غاية الاختصار والإيجاز، فضم الحروف بعضها إلى البعض بمكانة ضم الآيات بعضها إلى بعض، فيتبين معنى الآيات بمثيلتها.
هـ- أو من جهة معاني التفسير وتوجيه الآيات في ضوء تلك اللهجات والأحرف واللغات.
ثامنًا: التدرّج بالأمة، لتجتمع في لهجاتها على لغة واحدة هي لغة قريش.
(4)
(1)
مناع خليل القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، (ص 101 - وما بعدها).
(2)
المرجع السابق نفسه، مناع خليل القطان، نزول القرآن على سبعة أحرف، (ص 101 - وما بعدها).
(3)
المدخل لدراسة القرآن الكريم، الدكتور محمد محمد أبو شهبة (ص: 27).
(4)
- الواضح في علوم القرآن (ص: 112).
ولذا قال عثمان رضي الله عنه لأعضاء لجنة الجمع إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانها. -أي ابتداءً-.
وقد روى البخاري هذا الخبر عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه: أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: " إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا.
(1)
.
وهو أمر قد نص فيه على الكتابة، ولم ينص فيه على القراءة، لأن القراءة أوسع وأشمل، حتى يبقى إعمال باقي الأحرف وعدم إهمالها.
قال القاضي أبو بكر بن الباقلانيُّ: (ت: 402 هـ) رحمه الله:
معنى قول عثمان: نزل القرآنُ بلسان قريش، أي: معظمُه، وأنه لم تقم دلالة قاطعةُ على أنَّ جميعَه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله - تعالى - (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (يوسف: 3) أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشًا دون غيره فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحدًا.
(2)
وقال أبو شامة المقدسي: (ت: 665 هـ) رحمه الله:
يحتمل أن يكون قولُه: نزل بلسان قريش أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يُقْرَأَ بلغة غيرهم.
وتكملته أن يقال: إنه نزل أولاً بلسان قريش أحدُ الأحرفِ السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلاً وتيسيرًا. فلما جمع عثمانُ الناس على حرف واحد رأى أنَّ الحرف
الذي نزل القرآن أوَّلاً بلسانه أَوْلَى الأحرف، فحمل الناس عليه؛ لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وللِمَا له من الأوَّلِيَّة المذكورة
…
(3)
و ((القرآن الكريم)) هو في أعلى مستويات الفصاحة بالإجماع.
قال ابن خالويه: (ت: 370 هـ) رحمه الله في "شرح الفصيح":
قد أجمع الناس جميعًا أن اللغة إذا وَرَدَت في القرآنِ فهي أفصحُ مما في غير القرآن، لا خلافَ في ذلك.
(4)
(1)
- البخاري، فضائل القرآن، رقم: 4604، الترمذي، أبواب تفسير القرآن، برقم: 3029، ويُنظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 204، والفتح لابن حجر: 9/ 11.
(2)
-يُنظر: ((فتح الباري)) (9/ 9).
(3)
- يُنظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن (10/ 9)، ح (3506).
(4)
-المزهر (1/ 213). ويُنظر: الاحتجاج في العربية: المحتج بهم - زمان الاحتجاج، د. محمود فجال، المصدر: مجلة العرب، العدد 5، السنة 23، ص 342 - 355. ويُنظر: الألوكة، بتاريخ: 4/ 12/ 1427 هـ.
وقد اصطفى الله قريشًا من جميع العرب فاختار منهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وبدأ إنزال كتابه الخاتم بلسان وحرف ولغة قريش لأنهم من أفصح العرب لسانًا، وأصفاهم وأسلمهم لغة.
فقد كانت قبائل العرب تحج البيت في الجاهلية قبل الإسلام وتشهد موسم الحج من كل عام؛ وقريش هم سدنة البيت وحماته، تتلقى وفود القبائل فتسمع لغاتهم ولهجاتهم، فما استحسنوه منها واستساغوه استعملوه، وما استهجنوه واستثقلوه دعوه وقلوه وهجروه، فصاروا بذلك من أفصح العرب لسانًا، وأسلمهم لغة، ولذا فقد خلت لغتهم من وحشي الألفاظ ومستهجن الكلام.
قال أبو نصر الفارابي (ت: 339 هـ) رحمه الله في أول كتابه المسمى بـ"الألفاظ والحروف"
(1)
كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق بها، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانةً عمَّا في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذَيْل، وبعض كنانة، وبعض الطائِيِّينَ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وقال أحمد بن فارس: (ت: 395 هـ) رحمه الله:
أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالِّهم: أن قريشًا أفصح العرب ألسنةً، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبيَّ الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فجعل قريشًا قُطَّانَ حرمه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وفود العرب من حُجَّاجها وغيرهم يفِدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلَّمهم مناسِكَهم، وتحكم بينهم
…
وكانت قريش - مع فصاحتها، وحسن لغاتها. ورِقَّةِ ألسنتها - إذا أتتهم الوفود من العرب، تخيَّروا من كلامهم وأشعارهم احسنَ لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائِزِهِمْ وسَلَائِقِهِمْ التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنْعَنَةَ تميم، ولا عَجْرَفِيَّةَ قيس، ولا كَشْكَشَة أسد، ولا كَسْكَسَةَ ربيعة، ولا الكَسْرَ الذي تسمعه من أسد، وقيس مثل: يِعْلَمُون ونِعْلَم، ومثل: شِعير وبِعير؟).
(2)
(1)
-هكذا يسميه "السيوطي"، وأما النسخة الخطية فتسميه "رسالة الحروف".
يُنظر" المقدمة لرسالة "الحروف" (ص: 34) بتحقيق د. مهدي محسن.
(2)
-الصاحبي، أحمد بن فارس (ص: 33 - 34)
وقد أخرج البخاريُّ في ((صحيحه)) في ((كتاب فضائل القرآن)) - باب نَزَلَ القرآن بلسان قُرَيْشٍ والعَرَبِ من حديث أنس بن مالكٍ قال: (فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم، وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا
(1)
.
والرجوع للغة وحرف قريش لا يعني إهمال الأحرف الأخرى:
فإن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف منها من غير إلزام بواحد منها، وأن من قرأ بأي حرف منها فقد أصاب،
…
بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر كلّا من المختلفين على قراءته، ولم يرجح قراءة واحد على الآخر، بل استحسن قراءة كلٍ.
(2)
المطلب الرابع: الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات
أولًا: لقد مر معنا ذكر جملة من أحاديث الأحرف السبعة المأذون في القراءة بها،
وأنها وردت متواترة من رواية جمع كثير من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد ذُكِرُوا بأعيانهم.
ثانيًا: لقد شاع وانتشر بين فئام من الخلق منذ زمن بعيد، أنَّ الأحرف السبعة التي أُنزِل عليها القرآنُ هي القراءات السَبع نفسها، ولا ريب أن هذا وهمٌ وفهمٌ خاطئٌ مخالفٌ ومجانبٌ للصواب، وذلك بإجماع أهل العلم؛
وقد حكى هذا الإجماع الإمامُ أبو شامة المقدسي (ت 665 هـ)
(3)
حيث يقول رحمه الله:
وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
(4)
ويقول في موضع آخر رحمه الله:
إن هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة، وترك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم خط المصحف.
(5)
(1)
يُنظر: صحيح البخاريُّ، كتاب فضائل القرآن - باب نَزَلَ القرآن بلسان قُرَيْشٍ والعَرَبِ - 6: 97 - ، ويُنظر: الاحتجاج في العربية: المحتج بهم - زمان الاحتجاج د. محمود فجال، المصدر: مجلة العرب، العدد 5، السنة 23، ص 342 - 355. ويُنظر: الألوكة، بتاريخ: 4/ 12/ 1427 هـ.
(2)
-المدخل لدراسة القرآن الكريم، الدكتور محمد محمد أبو شهبة (ص: 27).
(3)
- وأبو شامة هو: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (ت: 665) نقلًا عن الأعلام للزركلي.
(4)
يُنظر: (فتح الباري: 19/ 37).
(5)
-المرشد الوجيز: (ص: 14).
ثالثًا: مما يجلي ويؤكد أن الأحرف السبعة المأذون فيها ليست هي القراءات السبع غير ما مضى ذكره من الإجماع، أن تحديد القراءات السبع إنما جاء متأخرًا عن نزول القرآن بثلاثة قرون تقريبًا، فكان أول من خص هؤلاء السبعة وأفردهم من دون غيرهم من القراء، وجمع قراءاتهم في مصنف واحد هو الإمام أبو بكر بن مجاهد رحمه الله وذلك في كتابه الموسوم بـ"كتاب السبعة"، وقد لاقى صَنِيعُ ابن مجاهد قبولًا عند العلماء، ولكنّ توافق العدد "سبعة" كان سبب التباس الأمر عند بعض الناس.
كما أنه قد قيل أن هناك تسبيع قبل تسبيع ابن مجاهد، لكن المشتهر هو تسبيع ابن مجاهد.
وأما بالنسبة إلى تدوين القراءات:
فقد ذهب معظم العلماء إلى أن ذلك كان في القرن الثالث الهجري، وكان أول من قام بالتأليف في القراءات هو: الإمام أبو عبيدٍ القاسم بن سَلاَّم الهروي، حيث قام بجمع قراءة خمس وعشرين من القراء في كتاب مستقل.
ثم بدأ العلماء يكتبون في القراءات، واستمر هذا التأليف، فكان منهم من يكتب في القراءة الواحدة، ومنهم من يتناول أكثر من قراءة، حتى جاء ابن مجاهد رحمه الله فكتب في السبعة، وله كتب كثيرة في القراءات: كتابه السبعة في القراءات، وكتاب القراءات الكبير وكتاب القراءات الصغير.
وهؤلاء السبعة هم الأئمة:
1 -
نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني (ت: 169 هـ).
2 -
عبد الله بن كثير الداري المكي (ت: 120 هـ).
3 -
أبو عمرو بن العلاء البصري (ت: 154 هـ).
4 -
عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي (ت: 118 هـ).
5 -
عاصم بن أبي النجود الأسدي الكوفي (ت: 127 هـ).
6 -
حمزة بن حبيب الزيات الكوفي (ت: 156 هـ).
7 -
أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي الكوفي (ت: 189 هـ).
وأما القراءات الثلاث المتممة للعشرة فهي لهؤلاء الأئمة:
1 -
أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني (ت: 130 هـ).
2 -
يعقوب بن اسحاق الحضرمي البصري (ت: 205 هـ).
3 -
خلف بن هشام (ت: 229 هـ).
وعن علة اشتهار هؤلاء القراء السبعة دون من فوقهم يجيب مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله فيقول:
إنَّ الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرًا في العدد، كثيرًا في الاختلاف، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين، وكمال العلم، قد طال عمره واشتهر أمره بالثقة، وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرأ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمانُ مصحفًا إمامًا هذه صفته، وقراءته على مصحف ذلك المصر.
(1)
وهذا كلام نفيس يوضح ويجلي سبب وطريقة جمع تلك القراءات والتحري الذي سلكه الأئمة في وضع ضوابط محكمة لإفراد أئمة الأمصار الذين أخذت عنهم تلك القراءات.
وقد مر بنا الخلاف في عدد المصاحف المنسوخة التي أرسلها عثمان (ت: 12 هـ) - رضي عنه - وبعث بها إلى الأمصار وأنها على أقوال، من أبرزها:
القول الأول: أنها خمسة نسخ
القول الثاني: أنها سبعة نسخ، غير المصحف الإمام
القول الثالث: أنها ستة نسخ، وقيل غير ذلك، وهذه هي أشهر الأقوال.
وكان اختيار ابن مجاهد أن المصاحف المرسلة للأمصار سبعة مصاحف فلذلك جعل القراء سبعة، وجعل عدد القراء على عدد المصاحف، وألف كتابه "كتاب السبعة"،
فقد جمع فيه أصول وفرش سبعة قراءات لقراء سبعة قد اختارهم من بين قراء عدد من الأمصار، وإنما كان اختياره لهم عن سواهم على أساس تحقق شروط الضبط والإتقان فيهم، مع طول زمن القارئ في ملازمة القراءة على القراء الكبار والتلقي والأخذ عنهم، وقد اقتصر على سبعة قراء واختار راويين عن كل قارئ بقصد التخفيف والتيسير على من يطلب علم القراءات. وكان فعله هذا رغبة في ضبط قراءات السابقين وحفظها، وقد لقى كتابه "كتاب السبعة"، شهرة واسعة، حتى اشتهر "ابن مجاهد" بعد ذلك بلقب "مسبّع السبعة"، كما انتشر كتابه في الأفاق وتلقاه طلاب علم القراءات خصوصًا بالبشر والسرور.
قال ابن مجاهد:
فهؤلاء السبعة من أهل الحجاز والعراق والشام خلفوا في القراءة التابعين، وأجمع على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار، إلا أن
(1)
- الإبانة عن معاني القراءات ويليه كتاب (الياءات المشددات في القرآن الكريم وكلام العرب)، باب علة اشتهار القراءات السبع (ص: 172).
يستحسن رجل لنفسه حرفًا شاذًا فيقرأ به من الحروف التي رويت عن بعض الأوائل منفردة، فذلك غير داخل في قراءة العوام، ولا ينبغي لذي لب أن يتجاوز ما مضت عليه الأئمة والسلف بوجه يراه جائزًا. في العربية أو مما قرأ به قارئ غير مجمع عليه.
(1)
وفي نحو ذلك يقول تلميذه أبو طاهر بن أبي هاشم (ت: 349 هـ) رحمه الله:
سأل رجل ابن مجاهد: لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفًا يحمل عليه؟ فقال: نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منّا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا.
(2)
.
ففي القرون المفضلة الأولى كثر قُرَّاء القرآن ومتعلموه، وقراءة هؤلاء هم من قد انطبقت على قراءتهم شروط الصحة والقبول التي وضعها العلماء، ألا وهي:
1 -
موافقة القراءةِ للغة العربية ولو بوجه
أي توافق اللغة العربية مطلقًا، ولو بوجه من وجوه الإعراب، ولا يلزم ولا يُشْترِط أن توافق الأفشى والأكثر شيوعًا في اللغة؛ بل يكفي أن توافق أي وجه من أوجه العربية، إذ المعول عليه هو الأثبت في الأثر والأصح في النقل، ذلك لأن ثبوت الرواية لا يردها قياس اللغة ولا فشوها، وذلك
لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها واعتمادها والرجوع إليها، وهذا هو المختار والمعتبر عند المحققين من أهل العلم، ذلك لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فلا يمكن أبدًا تصور وجود قراءة صحيحة وهي غير متلائمة ومتوائمة مع قواعد اللغة التي أُنزِل بها القرآن أبدًا.
2 -
موافقة القراءة للرسم العثمانيِّ ولو احتمالاً
والمقصود بموافقة القراءة للرسم العثمانيِّ هو أن تكون تلك القراءة موافقة للمصحف الإمام، أو لأي من المصاحف العثمانية التي وجهها عثمان رضي الله عنه وبعث بها إلى الأمصار.
ومعنى موافقة الرسم العثماني ولو احتمالًا، أي: ما تحتمله الكلمة في رسمها، بحيث تكون موافقة للرسم العثماني ولو تقديرًا، وهذا الضابط يجعل المصاحف العثمانية هي أساس القراءات القرآنية ومرجعها الرئيس.
وذلك لأن كتابة الصحابة رضي الله عنهم للمصاحف العثمانية كانت مشتملة على جميع القراءات الصحيحة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما صراحة أو احتمالًا، إذ موافقة الرسم العثماني قد تكون تحقيقًا، أي صراحة، وذلك إذا كان مطابقًا للرسم المكتوب، وقد تكون تقديرًا، أي احتمالًا، وذلك باعتبار أن رسم المصاحف العثمانية له أصول خاصة تسمح بقراءتها على أكثر من وجه، ومن أبرز أمثلة ذلك قوله تعالى:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(الفاتحة: 4) رسمت هكذا (ملك)
(1)
-جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 436).
(2)
معرفة القراء الكبار، للذهبي (1/ 217).
بدون ألف في جميع المصاحف، فمن قرأ:(ملك يوم الدين) بدون ألف فتُعد قراءته موافقة للرسم تحقيقيًا، ومن قرأها بإثبات الألف، هكذا (مالك) فتُعد قراءته موافقة للرسم تقديرًا.
ويترتب على هذا أن أي قراءة لا توافق رسم المصاحف العثمانية فالصحابة لا يعلمونها، إذ إنهم لو علموها لكتبوها وأثبتوها في المصاحف، وعلى هذا فأي قراءة لا يعرفها الصحابة فليست بقراءة صحيحة أبدًا.
3 -
صحَّةُ سند القراءة
أي أن يصحَّ إسناده هذه القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يأخذها العدل الضابط ويتلقاها عن مثله، حتى يصل السند إلى أعلاه، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك يقول ابن الجزريِّ (ت: 833 هـ) رحمه الله:
كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ بِوَجْهٍ، وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشْرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ أَوْ
بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
(1)
ويقول في نظم تلك الضوابط في "طيِّبةِ النشر":
فَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ نَحْوِ
…
وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالاً يَحْوِي
وَصَحَّ إسْنادًا هُوَ الْقُرآنُ
…
فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ الأَرْكَانُ
وحَيثُما يَخْتَلَّ رُكْنٌ أَثْبِتِ
…
شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبعَةِ.
فكُنْ عَلى نَهْجِ سَبِيلِ السَّلفِ
…
في مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أوْ مُخْتَلَف.
(2)
هل يشترط التواتر لكل قراءة؟ وهل مسألة تواتر الأحرف قد تفردت بها بعض القراءات دون بعض؟
هذه مسألة يطول بحثها جدًا، وقد كثرت فيها أقوال أهل العلم، فنجيب عنها بأجوبة موجزة لأنها ليست محلًا للبحث فنقول:
الجواب الأول: هل هذه المسألة تعرض لها السلف ونصوا عليها أم لا؟
(1)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري:(1/ 9).
(2)
- طيبة النشر لابن الجزري 1/ 22
الجواب الثاني: إذا لم يثبت لدينا يقينًا تعرض السلف لها فالتوقف فيها أسلم، وما وسع السلف فليسع الخلف.
الجواب الثالث: وهل هي مسألة متفق عليها، أم هي مسألة محل تنازع عند العلماء قديمًا وحديثًا.
الجواب الرابع: فكيف وإذ ثبت لدينا تنازع العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة حتى قيل إن بعض القراءات منها ما هو متواتر قطعًا، ومنها ما هو متواتر "احتمالًا"، هذا مع التحفظ على عبارة "احتمالًا"، فهي عبارة تحمل في طياتها "هنا" معني التردد وعدم الثبات، كما تحمل أيضًا معنى غلبةِ الظَّنِّ وعدم القطع واليقين، كما تحمل كذلك معنى الارتحال وعدم القرار والثبوت.
فنقول لابد لمن أراد التعرض لها من دليل ثابت صحيح صريح يدلل على ما ذهب إليه.
الجواب الخامس: وإن من أقوم وأعدل ما قيل في ذلك هو الاكتفاء بتحقق صحة القراءة بتوافر ضوابطها، وهو اختيار "مكي بن أبي طالب القيسي" ومن نحا نحوه، وهذا القول هو المتلائم مع الإيجاز المذكور آنفًا.
يقول مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437 هـ) رحمه الله:
وإنما الأصل الذى يعتمد عليه فى هذا أن ما صح سنده، واستقام وجهه فى العربية، ووافق خط المصحف فهو من السبعة المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفًا متفرقين أو مجتمعين، فهذا هو الأصل الذى بنى عليه فى قبول القراء ات.
(1)
وإن ضوابط القراءة الصحيحة سالفة الذكر هي الأصل الذى بنى عليه فى قبول القراء ات، مع إضافة الشهرة والاستفاضة، كل ذلك مما يقوي ما ذهب إليه أهل هذا الاختيار.
وختامًا:
بهذا القول تحسم هذه المسألة التي تنازع فيها أهل العلم، فإذا سكت عنها السلف فالسكوت لنا أسلم، والتعرض لها لابد له من دليل قاطع وبرهان ساطع. والحمد لله رب العالمين.
وقد أملى الأئمة الأعلام شروط وضوابط القراءة الصحيحة وتناولوها بالشرح والتدقيق والتحقيق والمدارسة والمناقشة، فمن أراد التوسع فيها فليرجع إليها في مظانها، فقد ذكرناها ها هنا مقتضبة جدًا.
(2)
(1)
- الإبانة (ص: 103).
(2)
للاستزادة يُنظر: غيث النفع في القراءات السبع للصفاقسي 1/ 14، إعجاز القراءات القرآنية، ص 45؛ الاختلاف بين القراءات، ص 77؛ القاضي، عبد الفتاح. والقراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب. دار الكتاب العربي، ط: 1401 هـ، ص 7؛ وعلم القراءات نشأته وأطواره وأثره في العلوم الشرعية، ص 36؛ في علوم القراءات منهج ودراسة وتحقيق، ص 48.
ومما يجد الإشارة إليه هنا هو أن الاختلاف في مسألة تواتر الأحرف لا يعني الاختلاف في تواتر القرآن ذاته، فالقرآن متواتر تواترًا قطعيًا لا يشك في ذلك أحدٌ من أهل القبلة أبدًا.
وكان هذا التنبيه حتى لا يظن ظانٌّ أو أن يتطرق إلى ذهنه الخلط بين الاختلاف في القول بتواتر الأحرف، فيحمل ذلك الخلاف على تواتر القرآن كذلك، فيظن أن القرآن غير متواتر أو مختلف في تواتره، ولا شك في أن القرآن كله متواتر قطعًا ولا يشك في ذلك إلا جاحد أو جاهل، ولا يجادل في ذلك إلا معاند ومكابر.
القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان:
ولإيضاح ذلك بصورة جلية يجب أن يُعْلَم أن إن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، وليسا شيئًا واحدًا، وهذا المعنى يتضح أكثر عند تعريف القرآن وتعريف القراءات.
فالقرآن كما هو معلوم: هو كلام الله حقيقة، المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، لا منامًا، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المعجز بلفظه، والمُتحدى بأقصر سورة منه، المكتوب في المصاحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.
(1)
وأما علم القراءات: فهو علم يعتني بكيفية النطق بألفاظ القرآن، والطريق الأمثل لأدائها كما نزلت ونقلت، ويعتني بنقل الخلاف الأصولي والفرشي عن أئمة القراءات والأداء بأسانيد متصلة، وذلك من حيث أحوال النطق بهذه الكلمات وكيفية أدائها.
يقول القسطلاني رحمه الله (ت 923 هـ) في "لطائف الإشارات":
القراءات: علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتب الله، واختلافهم في اللغة والاعراب، والحذف والاثبات، والتحريك والاسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق والابدال من حيث السماع.
(2)
وقيل علم القراءات: علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله.
(3)
وقيل علم القراءات: علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم ونطقها، من تخفيف، وتشديد، واختلاف ألفاظ الوحي في الحروف.
(4)
(1)
-أصول الفقه (ص: 23)، مباحث في علوم القرآن:(ص 15: 17).
(2)
- لطائف الإشارات لفنون القراءات: (1/ 170). ويُنظر: علم القراءات - نشأته - أطواره - أثره في العلوم الشرعية: (ص: 27).
(3)
منجد المقرئين: (ص: 49).
(4)
- أساس البلاغة: (1/ 100).
من هنا يتبين أن القرآن والقراءات متغايرا المعنى، وإن كانا كليهما منزل من عند الله، فالمنزل وإن كان واحدًا، إلا أن طريقة النطق به مختلفة، فهما إذًا حقيقتان لكنهما متغايرتان، فالاختلاف في
طريقة أداء النطق بألفاظ القرآن لا يعني الاختلاف في ثبوت الكلام نفسه، بل هما شيئان متغايران مختلفان. وقد قرر هذا المعنى وأشار إليه غير واحد من الأئمة.
قال الزركشي رحمه الله (ت: 794 هـ) رحمه الله في "البرهان":
اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما.
(1)
وقال أحمد بن البنا الدمياطي رحمه الله (ت: 1117 هـ) رحمه الله في "الإتحاف":
القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل للإعجاز والبيان، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما.
(2)
فالقرآن هو الوحي المنزل من عند الله، والقراءات هي اختلاف نطق ألفاظ هذا الوحي المنزل، فطريقة نطق هذ الوحي المنزل من عند الله مختلفة، فهما إذاً حقيقتان متغايرتان.
وهذا المعنى لا يعني أن الأحرف السبعة لبشر فيها أي إنشاء، فالأحرف السبعة كلها وحيٌ تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام.
فإن قيل إن القراءات تتعلق باللفظ لا بالتركيب، قيل بأن المقروء حاكم وقاض على المرسوم وكله وحيٌ منزل.
وفي نحو ذلك يقول أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: (ت: 444 هـ) رحمه الله:
جميع هذه السبعة أحرف قد كانت ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة على اختلافها عنه، وتلقيها منه.
(3)
وعن تواتر القرآن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله: والقرآن الذي بين لوحي المصحف متواتر؛ فإن هذه المصاحف المكتوبة اتفق عليها الصحابة، ونقلوها قرآنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي متواترة من عهد الصحابة، نعلم علمًا ضروريًا أنها ما غيرت، والقراءة المعروفة عن السلف الموافقة للمصحف تجوز القراءة بها بلا نزاع بين الأئمة.
(4)
(1)
-البرهان، للزركشي:(1/ 318).
(2)
-الإتحاف، لابن البنا:(1/ 69).
(3)
- جامع البيان، لأبي عمرو الداني:(1/ 67).
(4)
مجموعة الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية:(12/ 569)
وقد تابع ابن مجاهد في صنيعه- تسبيع السبعة- كل من:
1 -
أبو عمرو عثمان بن سعيد الدَاني (ت: 444 هـ) فألف كتابه "التيسير في القراءات السبع"
2 -
والقاسم بن فِيرُّه بن أبي القاسم الرُّعيني الشاطبي (ت: 599 هـ) فألف متن الشاطبية المسمى بـ"حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع"
3 -
وعلي بن عثمان بن محمد المعروف بابن القاصح العذري البغدادي (ت: 801 هـ) فألف كتابه" سراج القاري".
وقد اختار الإمام المقرئ أبو جعفر أحمد بن جبير الكوفي نزيل أنطاكية (ت: 258 هـ) القول بأن المصاحف المرسلة للأمصار خمسة مصاحف، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف، وألف كتابه "الخمسة".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد; ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم.
(1)
وقال أبو العباس أحمد بن عمار التميمي المهدوي (ت: 430 هـ) رحمه الله:
أصح ما عليه الحُذاق أنَّ الذي يُقرأ الآن
(2)
بعض الحُروف السَّبعة المأذون في قِراءتها لا كُلها، وضابِطُه ما وافق رَسمَ المُصحَف.
(3)
ما يزال الكلام متصلًا عن الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات
رابعًا: في ضوء ما مضي يتبن لنا أن أنه لا يُعد كل حرف من الأحرف السبعة المأذون بها قراءة مستقلة، وإلا لترتب على ذلك حصر القراءات المتواترة في سبع قراءات فحسب، ومن المعلوم أن القراءات المتواترة هي عشر قراءات، وهذه القراءات العشر المتواترة هي بعض من تلك الأحرف السبعة، وهذا بإجماع جماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا.
خامسًا: ولابد وأخير من التأكيد مرة أخرى على أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ليست هي القراءات السبع التي اشتهرت في الأمصار بل هي جزء منها باتفاق القراء والأئمة جميعًا، ولذا فإن
(1)
يُنظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 390)، ويُنظر: النشر (1/ 39).
(2)
يعني: في المصاحف.
(3)
- يُنظر: فتح الباري (19/ 36).
بعض العلماء إنما كره صنيع ابن مجاهد خشية تداخل الأمر بين الأحرف السبعة والقراءات السبع على عموم الناس.
وفي ذلك يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطَّؤوه في ذلك، وقالوا: ألا اقتصرَ على دون هذا العدد أو زاده أو بيَّن مراده ليَخْلُصَ من لا يعلم من هذه الشبهة؟!.
(1)
المطلب الخامس: ما المقصود من هذه الأحرف السبعة
هذا المبحث كثرت فيه الأقوال وتضاربت فيه الآراء، واتسعت فيه رقعة الخلاف، وتباينت فيه أقوال العلماء حتى عده بعضهم من المشكل، ولم يُر موضوعُ خلافٍ قد اتسع بحثُه وطال النقاش حوله وكثر الأخذ والرد فيه مثل مبحث "المراد والمقصود من الأحرف السبعة"، وكذلك في المباحث المتفرعة عنه، كمبحث "حقيقة العدد سبعة"، هل هو مراد بعينه، أم هو للتكثير، وكمبحث "بقاء تلك الأحرف" هل هي موجودة للآن أم أنها قد اندثرت، وكذلك عموم ما يتعلق بالأحرف السبعة من مباحث.
ومنشأ هذا الخلاف يرجع إلى أنه لم يرد في روايات هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحدد المراد بالأحرف السبعة
(2)
؛ وجاء المتأخرون، ومن بعدهم، ونظروا في هذه
الأحاديث النبوية، وأراد بعضهم تفسيرها على سبيل القطع والجزم، مع أنه لم يأت في معناها نص ولا أثر متعين؛ فذهبوا في ذلك مذاهب شتى، أكثرها لا يؤيده نقل صحيح ولا منطق سليم، يعول عليه، فكانت سببًا لنشوب المشكلة، ومدعاة للاختلاف، بل تأبى فهم المراد من الأحرف السبعة على بعض العلماء؛
فقال المقرئ محمد بن سعدان الكوفي (ت 231 هـ) رحمه الله:
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"
(3)
مشكل لا يدرى معناه.
(4)
(1)
- تُنْظَر هذه المسألة في عموم مصنفات علوم القرآن والقراءات، ومن أبرزها: ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (1: 36)، وابن الجزري، منجد المقرئين، ص 54، ومكي بن أبي طالب، الإبانة عن معاني القراءات، ص 38، وما بعدها، ومناع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 162.
(2)
- ومن ههنا نفقه سبب تلك الإجابة السريعة للأستاذ الأديب عباس محمود العقاد، وقد سأله أحد المذيعين: لو أنك التقيت برسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أي شيء كنت سائله؟ فأجاب على الفور: كنت أسأله عن معنى الأحرف السبعة.
حكاه الدكتور عبد الفتاح أبو سنة في كتابه "علوم القرآن"، ص 53، طبعة دار الشروق.
(3)
صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث رقم 4726.
(4)
المرشد الوجيز إلى مباحث تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ص 88، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، ويُنظر: الأحرف السبعة، مجلة نهج الإسلام العدد/ 139/ بقلم: محمد هيثم فخري الدالاتي.
ولهذا قال القاضي ابن العربي (ت 543 هـ) رحمه الله:
لم يأت في معنى هذه السبع نص ولا أثر، واختلف الناس في تعينيها.
(1)
، كما لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم ما يوضح ذلك أيضًا، كأن الأمر كان من الوضوح لهم إلى حد لا يحتاج إلى تفسير، غير ما نقله التابعي الإمام محمد بن شهاب الزهري (ت: 124 هـ) عنهم في قوله: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلف في حلال ولا حرام.
(2)
أي أن الألفاظ المختلف في قراءتها لا يتغير معناها، وإنما الذي يتغير هو النطق والقراءة فقط.
قال القرطبي (ت 671 هـ) رحمه الله:
اختلف الناس في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولاً ذكرها أبو حاتم محمد بن حِبّان السُبْتي.
(3)
ولكنه لم يذكُرْ مِنها إلا خمسة أقوال؛ ولعل من أبرز الدواعي إلى ذلك هو أنَّ أكثَرَه هذه الأقوال غيرُ مُختارٍ، وقد صَرَّح بذلك غير واحد من أهل العلم منهم: الحافظ المُنذِري وقد نقله عنه الحافظ في الفتح
(4)
، ومنهم كذلك الزركشي في البرهان وغيرهما.
وقال ابن الجزري (ت 833 هـ) رحمه الله:
ولا زلت استشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله على بما يمكن أن يكون صوابًا إن شاء الله وذلك إني تتبعت القراءات صحيحها وضعيفها وشاذها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها.
(5)
وقال في موضع آخر:
وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بهذه الأحرف السبعة على نحو من أربعين قولًا، مع إجماعهم على أنه ليس المراد بها قراءات سبعة من القراء كالسبعة المشهورين وإن كان يظن ذلك بعض العوام، لأن السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا، وأول من جمع قراءاتهم: أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة، فلو كان الحديث منصرفًا إلى قراءة السبعة المشهورين أو سبعة من القراء الذين ولدوا بعد التابعين لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عاريًا عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة الأئمة فتوجد عنهم القراءة، ولأدى أيضًا إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم
(1)
-البرهان في علوم القرآن، الإمام الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 1/ ص 211، طبعة دار التراث، القاهرة.
(2)
ــ أخرجه أبو داود في سننه، رقم (1476)، بسنده عن معمر، عن الزهري.
(3)
تفسير القرطبي: (1/ 42).
(4)
- يُنظر: فتح الباري: (19/ 27، 31).
(5)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري:(1/ 26).
أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به. وهذا باطل، إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة، لفظًا عن لفظ، إمامًا عن إمام، إلى أن تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم
ومع إجماعهم أيضًا على أنه ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه، إذ لا يوجد ذلك في كلمة من المشهور.
(1)
وقال السيوطي (ت 911 هـ) رحمه الله:
" إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. والمراد به أكثر من ثلاثين قولاً حكيتها في الاتفاق والمختار عندي أنه من المتشابه الذي لا يدري تأويله.
(2)
وحقيقة الخلاف في الأحرف السبعة واسع جدًا، وكما ذكر بعض أهل العلم آنفًا أنها على نحو من أربعين قولًا، كما عدها بعضهم من المشكل المتشابه الذي لا يُعْلَم معناه؛ وذلك لأن "الحرف" مشترك لفظي يصدق على معان عدة، ويعبر عن معان مختلفة، ولا يُعلم المقصود والمراد منه ولا يتعين إلا بقرينة.
من هنا يتبين لنا وعورة هذا المبحث، لكثرة الأقوال الواردة فيه، وتقارب وتشابه المعاني التي تحوم حوله، فيصعب الجزم بأن قولًا منها هو المعتمد المختار، أنى لأحد ذلك؟! وقد حارت فيه عقول كبار لهم قدم سبق ورسوخ، ولم تتمكن من الجزم به أقلام لها مكانتها وقدرها، وهذا مما
يجلي ويوضح صعوبة هذا المبحث وتشابه وتشابك أطرافه، وهذه محاولة للوصول لما يُرْجَى أن يكون أقرب للصواب من غيره.
ولعل الباحث في عرضه هذا قد يكون قد أصاب الحق بذكر أقرب الأقوال التي يرجو أن تكون أقرب للصواب من غيرها، وذلك بعد النظر والتأمل في أقوال العلماء التي يُظن أن الحق في هذه المسألة محصور فيها أكثر من غيرها، فتكون أرجى الأقوال
وأولاها بالصواب من غيرها.
أصح الأقوال وأولاها بالصواب
وأصح الأقوال وأولاها بالصواب، وهو الذي عليه أكثر العلماء، وصححه البيهقي، واختاره الأبهري وغيره، واختاره في القاموس.
(3)
، أن المراد بالأحرف "أوجه من اللغات". وذلك لأن
(1)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 47).
(2)
- يُنظر: شرح السيوطي على النسائي: (2/ 152).
(3)
يُنظر: شعب الإيمان، للبيهقي:(2/ 421)، فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام:(2/ 168)، تفسير ابن عطية:(1/ 27)، البرهان، للزركشي:(1/ 309)، البحر المحيط، للفيروز آبادي: ص: 616) مادة (حرف)، الإتقان، للسيوطي:(1/ 321).
الحرف يطلق لغة على الوجه، ومنه قوله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)(الحج: 11).
قالوا: على وجه واحد. وهو أن يعبده على السراء دون الضراء.
(1)
أي أن من الناس من يعبد الله على شك، وحقيقته أن يعبده على حرف الطريقة في الدين، لا يدخل في الدين دخول متمكن؛ فإن أصابه خير أي خصب و كثر ماله
وماشيته اطمأن بما أصابه، ورضي بدينه، وإن أصابته فتنة اختبار بجدب وقلة مال، انقلب على وجهه أي رجع عن دينه إلى الكفر و عبادة الأوثان.
(2)
قال الحافظ أبو عمرو الداني (ت 444 هـ) رحمه الله:
معنى الأحرف التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم ههنا
يتوجه إلى وجهين:
أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، لأن الأحرف جمع حرف في القليل كفلس وأفلس، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الحج: 11). الآية، فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت عليه وامتحنه الله بالشدة
والضر ترك العبادة وكفر، فهذا عبد الله على وجه واحد،
(3)
فلهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفًا، على معنى أن كل شيء منها وجه.
والوجه الثاني: أن يكون سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه، وتعلق به ضربًا من التعلق، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم القراءة حرفًا وإن كانت كلامًا كثيرًا، من أجل أن منها حرفًا قد غير نظمه أو كسر أو قلب إلى غيره أو أميل أو زيد أو نقص منه على ما جاء في المختلف فيه من القرآن، فسمى القراءة إذا كان ذلك الحرف منها حرفًا على عادة العرب في ذلك، واعتمادًا على استعمالها. انتهى.
(1)
- مختار الصحاح، الإمام الرازي، تحقيق عصام فارس الحرستاني، ص 72، ط 9، عام 2005 م، دار عمار، عمان.
(2)
- يُنظر: معاني القرآن وإعرابه، الإمام أبو إسحاق الزجاج، تحقيق د. عبد الجليل شلبي، ج 3/ ص 414، ط 1، عام 1988 م، عالم الكتب.
(3)
قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما:(على حرف): على شك، تفسير ابن كثير:(3/ 233).
قال ابن الجزري (ت 833 هـ) رحمه الله وكلا الوجهين محتمل:
إلا أن الأول محتمل احتمالاً قويًا في قوله صلى الله عليه وسلم "سبعة أحرف" أي سبعة أوجه وأنحاء. والثاني محتمل احتمالاً قويًا في قول عمر رضي الله عنه "سمعت هشامًا يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي على قراءات كثيرة. وكذا
قوله في الرواية الأخرى "سمعته يقرأ أحرفًا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها".
(1)
ومما يؤيد أن المراد أوجه من اللغات أن حكمة إتيان القرآن على سبعة أحرف التخفيف والتيسير على هذه الأمة في التكلم بكتابهم كما خفف عليهم في شريعتهم، وهو كالمصرح به في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم "أسأل الله معافاته ومعونته"
(2)
وكقوله: "إن ربي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف واحد فرددت عليه أن هون على أمتي ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف".
(3)
وكقوله لجبريل: "إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتاباً قط"
(4)
. وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل للخلق كافة وألسنتهم مختلفة غاية الاختلاف، كما هو مشاهد فينا، ومن كان قبلنا مثلنا، وكلهم مخاطب بقراءة القرآن،
قال تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)(المزمل: 20) فلو كلفوا كلهم النطق بلغة واحدة لشق ذلك عليهم وتعسر، إذ لا قدرة لهم على ترك ما اعتادوه وألفوه من الكلام إلا بتعب شديد وجهد جهيد، وربما لا يستطيعه بعضهم ولو مع الرياضة الطويلة وتذليل اللسان كالشيخ والمرأة، فاقتضى يسر الدين أن يكون القرآن على لغات.
(5)
وإذا عرفنا المعنى المراد بالأحرف السبعة لغة واصطلاحًا، فلا يذهبن الوهم بذهن أحدنا أن يفهم من ذلك أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، أو أن كل كلمة تقرأ كذلك على سبعة أوجه هذا
(1)
- رواه البخاري (3047) ومسلم (819)، وقد سبق ذكر بحديثه في ثنايا البحث مرارًا.
(2)
- رواه مسلم في كتاب المسافرين وقصرها باب أن القرآن على سبعة أحرف، صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 103).
(3)
-رواه مسلم في كتاب المسافرين ح (273)، والنسائي في كتاب الافتتاح باب (27)، وأحمد في المسند (5/ 41، 51). وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2944).
(4)
- رواه الترمذي، كتاب القرآن ح (9).، وأخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رقم (23446)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره، إسناده حسن.
(5)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري:(1/ 23 - 29)، ويُنظر: الاعمال الكاملة للعلامة المقرئ محمد بن علي الحداد شيخ عموم المقارئ المصرية: (ص: 381).، إنزال القرآن على سبعة أحرف، الشيخ علي محمد الضباع، مجلة كنوز الفرقان؛ العدد:(الثامن)؛ السنة: الأولى، ويُنظر: الألوكة: بتاريخ: 12/ 9/ 1433 هـ.
لم يقل به أحد، ولكن نقول: هذه الفوارق اللفظية واللغوية في طريقة أداء تلاوة القرآن متفرقة بين دفتيه، منثورة في سوره وآياته وكلماته، ومعانيها في هذا كله واحدة أو شبه واحدة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدد والتنوع في أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة.
وقد نبه الحافظ ابن حجر (852 هـ) رحمه الله إلى هذا بقوله:
باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أنه كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة ثم قال: فإن قيل: فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه؟ فالجواب: إن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما.
(1)
قال ابن قتيبة (ت 276 هـ) رحمه الله:
وإنما تأويل قوله، صلى الله عليه وآله وسلم:"نزل القرآن على سبعة أحرف": على سبعة أوجه من اللغات متفرّقة في القرآن، يدلّك على ذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:"نزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ فاقرؤوا كيف شئتم".
(2)
تفرق ما ثبت قرآنيته من الأحرف السبعة وفق العرضة الأخيرة في جميع القرآن الكريم، وقد نص على ذلك أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ فقال:
وَلَيْسَ مَعْنَى تِلْكَ السَّبْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ الْحَرْفُ مِنْهَا بِلُغَةِ قَبِيلَةٍ، وَالثَّانِي بِلُغَةٍ أُخْرَى سِوَى الْأُولَى، وَالثَّالِثُ بِلُغَةٍ أُخْرَى سِوَاهُمَا، كَذَلِكَ إِلَى السَّبْعَةِ. وَبَعْضُ الْأَحْيَاءِ أَسْعَدُ بِهَا وَأَكْثَرُ حَظًّا فِيهَا مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُبَيَّنُ فِي أَحَادِيثَ تَتْرَى.
(3)
(1)
- فتح الباري: (9/ 23)، ويُنظر: الأحرف السبعة، مجلة نهج الإسلام العدد/ 139/
بقلم: محمد هيثم فخري الدالاتي.
(2)
تأويل مشكل القران، لابن قتيبة الدِّينَوري:(1/ 30). والحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في المسند: (2/ 300)، (4/ 204)، (5/ 16)، (6/ 433 - 463)، والهيثمي في مجمع الزوائد:(151 - 152 - 154)، والسيوطي في الدر المنثور:(2/ 6)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد:(11/ 26)، والربيع بن حبيب في مسنده:(1/ 8)، وابن أبي شية في مصنفه:(10/ 516)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة:(1522).
(3)
- يُنظر: فضائل القرآن: (2/ 175)، ويُنظر: صحيح البخاري، باب نزل القرآن على سبعة أحرف:(4705)(4/ 1909).
وما يقوي هذا القول الذي ذهب أصحابه إلى تفسير الأحرف السبعة على أصح الأقوال وأصوبها أنها اللغات واللهجات، بيان ذكر الباعث على استزادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ، فما زال جبريلُ يزيده، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يستزيده حتى بلغت الزيادة إلى سبعة أحرف، والسبب الرئيس الباعث على ذلك كما مر معنا هو التهوين والتسهيل والتيسير على الأمة، وإنما كانت هذه الاستزادة في العهد المدني الذي شهد دخول فئام من قبائل العرب في دين الله أفواجًا، وهم قبائل شتى بين كل قبيلة منها اختلاف وتنوع كبير في لهجاتها وطريقة أداء بعض حروفها وكلماتها، فلو اكتفى بنزول القرآن على الحرف الأول الذي نزل به ابتداءً، ألا وهو حرف قريش، لحصل الكثير
من المشقة والعنت على قبائل كثيرة، ولا شك في أن بيان معنى هذه الحروف متفرع عن سبب ورودها، ذلك لأن سبب ورودها هو المبحث الرئيس الذي يتفرع عنه كل ما يتعلق بالأحرف السبعة من مباحث.
وحول هذا المقصد يقول ابن الجزري (ت 833 هـ) رحمه الله:
فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها، شرفًا لها، وتوسعة، ورحمة، وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق، وحبيب الحق.
(1)
فإن أدركنا الحكمة المتوخاة من نزول القرآن على سبعة أحرف- والتي أشرنا إليها أيضًا ضمن جملة المعالم في صدر البحث- وعلمنا أنها التخفيف على الأمة وتسهيل سبيل قراءة القرآن عليها، ثم بحثنا بعدئذ عما يمكن أن يصدق عليه ويحقق هذا التيسير في القراءة، لوجدناه يتمثل في كل من اللهجات واللغات، ولرأينا هذه الرخصة منوطة بهما سوية، وأن افتقارهما وحاجتهما إليها أمر مشاهد ملموس، لا نزاع ولا جدال فيه.
قال البغوي (ت 516 هـ) رحمه الله:
وأظهر الأقاويل وأصحها وأشبهها بظاهر الحديث؛ أن المراد من هذه الحروف اللغات، وهو أن يقرأه كل قوم من العرب بلغتهم.
(2)
ومما يُجدا الإشارة إليه في ختام هذا المبحث الهام ما يلي:
أولًا: أن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها حرفًا حرفًا، وأنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها جميعًا، وأقرأ الناس عليها، وقرءوا بها، فلا يسبقن إلى الذهن أن الأحرف السبعة راجعة إلى لغات الناس واختيارهم في ذلك كما يشاءون.
(1)
النشر في القراءات العشر، ج 1/ ص 22.
(2)
-شرح السنة، الإمام البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط و زهير الشاويش، ج 4/ ص 507 و 508، ط ثانية، 1983 م، المكتب الإسلامي، ويُنظر: الأحرف السبعة، مجلة نهج الإسلام العدد/ 139/ بقلم: محمد هيثم فخري الدالاتي.
ثانيًا: إن الحرف الواحد والأحرف السبعة للقرآن الكريم هي تنزيل من لدن حكيم حميد، وليس فيه لرسولنا صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين، وقد فعل صلى الله عليه وسلم وأدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، على أكمل وجه.
ثالثًا: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدّد والتنوع في أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة.
رابعًا: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد في القرن الرابع؛ ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءاتهم.
(1)
وقد سبق بيان ذلك تحقيقًا وتدقيقًا.
والحمد لله رب العالمين.
المطلب السادس: مصير الأحرف السبعة
إن بقاء الأحرف السبعة بالمصاحف العثمانية من المسائل التي وقع فيها خلاف واسع بين العلماء قديمًا وحديثًا، ولم يُحْسَم أمرُ النزاع في هذه المسألة بسبب الخلاف الواقع في المقصود من هذه الأحرف السبعة نفسها، وقد تعددت فيها أقوالهم، وكثرت فيها أراؤهم، وذهب كل فريق منهم مذهبًا ساق له من الحجج والبراهين والأدلة ما يؤيد به ما ذهب إليه ويعاضد رأيه.
وقد حُصِرت أبرز أراء العلماء في أقوال معدودة، وكان حصرها مبني على اختلافهم في المراد بالأحرف السبعة- وكان ذلك على ثلاثة أقوال:
ذكر الأقوال الثلاثة إجمالًا:
القول الأول: اشتمال المصاحف العثمانية على حرف واحد فقط من الأحرف السبعة، ونسخ باقي الأحرف.
القول الثاني: اشتمال المصاحف العثمانية على جميع الأحرف السبعة، وعدم إهمالها أي حرف واحد منها.
القول الثالث: اشتمال المصاحف العثمانية على كل ما جُمِعَ في العرضة الأخيرة.
(1)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري نقلًا عن جواب شيخ الإسلام ابن تيمية:(1: 39)، ويُنظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 390)، الواضح في علوم القرآن (ص: 112).
ذكر الأقوال الثلاثة تفصيلًا:
القول الأول:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على حرف واحد فقط من الأحرف السبعة، وهو حرف قريش، وأن الأحرف الباقية إما نسخت في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو اتفق الصحابة على تركها درءًا للفتنة التي كادت تفتك بالأمة عندما اختلف الناس في قراءة القرآن.
وإلى ذلك ذهب ابن جرير الطبري، وأبو جعفر الطحاوي، وابن حبان، والحارث المحاسبي، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو عبيد الله بن أبي صفرة.
(1)
وقال أبو شامة (ت 665 هـ) رحمه الله:
وصرَّح أبو جعفر الطبري والأكثرون من بعده بأنه حرف منها.
(2)
قال ابن عبد البر (ت 671 هـ) رحمه الله:
فهذا معنى الأحرف السبعة المذكورة
(3)
في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث، منهم سفيان بن عيينة، وابن وهب، ومحمد بن جرير الطبري، والطحاوي وغيرهم، وفي مصحف عثمان الذي بأيدي الناس منها حرفٌ واحد.
(4)
وقال أبو عبيد الله بن أبي صفرة (ت:؟؟) رحمه الله:
هذه القراءات السبع إنما شرعت من حرف واحد من السبعة المذكورة في الحديث، وهو الذي جمع عثمان عليه المصحف، وهذا ذكره النحاس وغيره.
(5)
وهذا القول مبني على القول بأن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، وهو قول ابن جرير ومن وافقه.
والتحقيق أن القول باشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة كلها أو بعضها يتوقف على أمرين:
أحدهما: تحديد المراد من الأحرف السبعة
وثانيهما: الرجوع إلى ما هو مكتوب وماثل بتلك المصاحف في الواقع ونفس الأمر.
(6)
(1)
البرهان في علوم القرآن (1/ 224، 226، 239، 241)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/ 100).
(2)
-البرهان في علوم القرآن (1/ 223).
(3)
- يعني القول بأنَّها أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل، وهلم، وتعال
…
الخ.
(4)
-يُنظر: البرهان في علوم القرآن: (1/ 220).
(5)
- صحيح مسلم بشرح النووي: (6/ 100).
(6)
- مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني:(1/ 168 - 175).
ولقد رأى القائلون بِهذا القول ندرة الكلمات القرآنية التي يصدق عليها ما رأوه في المراد بالأحرف السبعة، فقالوا إنَّها نسخت، أو اتفق الصحابة على منع القراءة بِها، وكتبوا المصاحف على حرف واحد، هو لسان قريش.
واحتج القائلون بِهذا القول بأدلة منها:
1 -
قول عثمان رضي الله عنه لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
(1)
قالوا: وهذا يدل على أنَّهم جمعوا القرآن على حرف واحد، وهو لسان قريش، وتركوا ما سوى ذلك من الأحرف الستة.
2 -
أن الأحرف السبعة كانت في أول الأمر خاصة؛ للضرورة؛ لاختلاف لغة العرب ومشقة أخذ جميع الطوائف بلغة واحدة، فلما كثر الناس والكتاب، وارتفعت الضرورة ارتفع حكم هذه السبعة، ورجَّح ذلك قيامُ الخلاف بين القراء، بما كاد يؤدي إلى فتنة عظيمة، فأجمعت الأمة بقيادة إمامها الناصح الشفيق عثمان بن عفان رضي الله عنه على أن تقتصر على حرف واحد من الأحرف السبعة، جمعًا لكلمة المسلمين، فأخذت به، وأهملت كل ما عداه، فعاد ما يُقرأ به القرآن على حرفٍ واحدٍ.
(2)
3 -
أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبةً على الأمة، وإنما كانت جائزةً لهم مرخصًا لهم فيها، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا شائعًا، وهم معصومون من الضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام.
(3)
4 -
ثم اختلف القائلون بأن الباقي من الأحرف السبعة هو حرف واحد، هل نسخت الأحرف الستة في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أو أن الصحابة اتفقوا على تركها؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّها
نسخت في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، واستقر الأمر على حرف واحد
(4)
، وذلك بعدما لانت ألسنة العرب بالقرآن، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة.
قال القرطبي: (ت: 671 هـ) رحمه الله:
ثم اختلفوا: هل استقر في حياته صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والأكثرون على الأول.
(5)
(1)
- رواه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب باب نزل القرآن بلسان قريشٍ (6/ 621) ح 3506.
(2)
- تأويل مشكل الآثار للطحاوي (4/ 190 - 191)، ويُنظر: صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 100).
(3)
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 395 - 396).
(4)
- ويرد هذا القول اختلاف القراء في فتح إرمنية وأذربيجان، وإنكار حذيفة الأمرَ ورفعه لعثمان.
(5)
يُنظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 213).
ولجواب أهل هذا الرأي نقول:
من ادعى النسخ يُسأل أي حرف تبقى من تلك الأحرف؟!، فلو أجاب بأنه حرف " قريش"، "وهذا هو جوابهم" لأجيب عنه وكيف تجيب عما وقع بين عمر وهشام بن حكيم من خلاف في قراءة سورة الفرقان كما مر معنا تكرارًا ومرارًا، وهما قرشيان، ومع ذلك فقد اختلفا.
ومن المعلوم أن " عمر " قرشيٌ، من بني عدي، وأن " هشامًا " قرشيٌ" من بني أسد. وقد أقرهما النبي صلى الله عليه وسلم مصوبًا لقراءة وحرف كلٍ منهما، فقال لكل منهما: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ: إنَّ القرآنَ أُنزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ.
(1)
وعمر من السابقين الأولين، وهشام بن حكيم قد تأخر إسلامه، فهو من مسلمة الفتح، وعمر مع طول ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وعلمه وفضله وسبقه، لم يعلم بهذه الأحرف ولذا أنكر على هشام قراءته، لأن مبدأ نزول القرآن كان على حرف واحد، هو حرف قريش، وإن الاستزادة من الأحرف إنما كانت في العهد المدني، بدليل أن استزادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ من الأحرف إنما كان عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، وهو- موضع بالمدينة-، ولاشك أبدًا في أن واقعة إنكار عمر لقراءة هشام كانت بعد إسلامه، وقد تأخر إسلام هشام حتى العام الثامن من الهجرة الذي هو "عام الفتح"، وأن هذه الواقعة وقعت بعد عام الفتح بلا شك، قيل على الأغلب والأعم كانت في العام التاسع من الهجرة، وإنما كان انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد عامين من عام الفتح تقريبًا، فمتى كانت دعوى هذا النسخ؟!، وما الذي يثبتها؟.
وبهذا يتبين عدم صحة القول بنسخ الأحرف السبعة، أو أنها كانت للضرورة ثم رفعت، وبذلك يزول الإشكال. والحمد لله رب العالمين.
القول الثاني:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على جميع الأحرف السبعة، ولم تُهمل منها حرفًا واحدًا.
وهو ما ذهب إليه جماعات من القراء والفقهاء والمتكلمين، وهو الذي اختاره القاضي الباقلاني وابن حزم والداودي وغيرهم.
قال القاضي الباقلاني (ت: 403 هـ) رحمه الله:
الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رَسُول اللهِ صلى الله عليه
(1)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
وسلم، وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والجماعة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وإنَّما حذفوا منها ما لم يثبت متواترًا، وأن هذه الأحرف تختلف معانيها تارة وألفاظها أخرى، وليست متضاربة ولا متنافية.
(1)
وإن قيل أين الأحرف السبعة الآن؟
يقرر السخاوى (ت: 643 هـ) رحمه الله ذلك فيقول:
فإن قيل: فأين السبعة الأحرف التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها في قراءتكم هذه المشهورة؟. قلت: هي متفرقة في القرآن.
(2)
وقال الدَّاوُدِيُّ:
(3)
وهذه القراءات السبع التي يقرأ الناس اليوم بِها ليس كل حرف منها هو أحد تلك السبعة، بل تكون مفرقة فيها.
(4)
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
1 -
أنه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة؛ لأنَّها قرآن منَزَّل. 2 - أن الصحابة أجمعوا على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر، وقد كانت مشتملة على الأحرف السبعة، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
(5)
3 -
الأحرف السبعة كان مرخصًا فيها، ولا يجوز أن يُنهى عن القراءة ببعض المرخص فيه، إذ ليس بعضه بأولى من بعضٍ.
(6)
4 -
أن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف كانت للتيسير على الأمة في تلاوة القرآن، والتيسير ما زال محتاجًا إليه، إذ لم تكن قراءة القرآن على حرف واحد، في العصر الأول بين العرب الأقحاح -أصعب منها على من أتى بعدهم من المسلمين في العصور المتأخرة، وقد فشا فيهم اللحن والعجمة، فهم أحوج إلى التيسير من العرب الأُوَل.
(1)
صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 100)، والبرهان في علوم القرآن (1/ 223 - 224).
(2)
- جمال القراء وكمال الإقراء: (2/ 581).
(3)
- أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُدِيُّ الْأَسَدِي، الأموي، المسيلي، التلمساني الجَزائِري المالكي، من أئمة الحديث الشريف وحفاظه، وأحد فقهاء المالكية المشهورين، ويكني بأبي جعفر، يعد أول من شرح صحيح البخاري وثاني شارح لموطأ مالك (ت: 402 هـ). للاستزادة يُنظرك الموسوعة الحرة.
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 100).
(5)
-الإتقان في علوم القرآن (1/ 141 - 142).
(6)
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 395 - 396).
ولجواب أهل هذا الرأي نقول:
أن المصاحف العثمانية المنسوخة عن المصحف الإمام الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم قد حوت كل ما ثبت قرآنيته وتحققت- من تلك الأحرف-فحسب-، وأهملت ما عداها من كل ما لم تثبت قرآنيته وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهذا ما سيوضحه أهل القول الثالث في هذه المسألة.
ومما يُجدر الإشارة إليه -هنا-
أن المصحف الإمام ليس نسخة واحدة، وإن باقي المصاحف العثمانية المرسلة للأمصار ليست نسخة عن المصحف الإمام متطابقة مع معه تمام التطابق، وإنما التطابق حاصل في أغلب مرسومها مع تغاير واختلاف في بعضها من حيث الرسم، ولذا فإن كل مصحف أرسل لمصر من الأمصار يعد مصحفًا إمامًا لأهل هذا المصر، يصح لهم النسخ منه.
وأن الكلمات التي تشتمل على الزيادة أو النقص، لا يمكن أن تكتب في المصحف الواحد مرتين أو أكثر، لما في ذلك من الخلط والتغيير.
وهذا النوع كتب في كل مصحف على حسب ما يقرأ أهل المصر الذي سيرسل إليه المصحف، وبذلك تكون المصاحف -في مجموعها- مشتملة على ما صح نقله، ولم تنسخ تلاوته، لا أن كل مصحف كان مشتملاً على جميع هذه الأحرف.
قال أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله:
فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف.
قلت: السبب عندنا أن أمير المؤمنين "عثمان بن عفان" رضي الله عنه لما في المصاحف ونسخها على صورة واحدة، وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها، مما لا يصح ولا يثبت، نظرًا للأمة، واحتياطًا على أهل الملة، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة، وعلم أن جميعها في مصحف واحد على تلك الحال غير متمكن إلا بإعادة الكلمة مرتين، وفي رسم ذلك كذلك من التخليط والتغيير ما لا خفاء به، ففرقها من المصاحف، لذلك جاءت مثبتة في بعضها، ومحذوفة من بعضها، لكن تحفظها
الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا سبب مرسومها في المصاحف أهل الأمصار".
(1)
(1)
المقنع: (ص: 12).
ومن أمثلة ما اختلفت فيه مصاحف أهل الأمصار ما يلي:
1 -
قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)(التوبة: آية 100)
" في المصحف المكي بزيادة "من" أي: "تجري من تحتها الأنهار".،
وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي حُذف منه حرف الجر (من) قبل (تحتها) ـ على قِراءة جمهور القرَّاء من أصحاب القراءات السَّبع المتواترة، خلافًا لابنِ كثيرٍ المكيِّ وأهلِ مكَّة الذي قرأوا بإثباتِه وخَفْض تاء (تحتها) بعدَه، وهو مُثبَتٌ في المصاحف المكيَّة.
2 -
قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(البقرة: 132).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "وأوصى"، وقرأ الباقون:(وَوَصَّى) ولذلك رسمت في مصحف أهل المدينة ومصحف أهل الشام: "وأوصى"
وفي مصحف أهل الكوفة والبصرة "ووصى" بغير ألف
(1)
حسب قراءة أهل كل مصر.
3 -
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(آل عمران: 133).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "سارعوا" بدون واو، وقرأ الباقون (وَسَارِعُوا) بالواو، ولذلك رسمت في مصحفي أهل المدينة والشام بدون واو، وفي مصحفي أهل الكوفة وأهل البصرة بالواو
(2)
حسب قراءة كل منهم.
4 -
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)(المائدة: 53).
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر "يقول" بغير واو، وبرفع اللام. وقرأ أبو عمرو "ويقول" بالواو ونصب اللام. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف في اختياره "ويقولُ" بالواو ورفع اللام.
ولذلك رسمت في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام "يقول" بغير واو، وفي مصاحف أهل الكوفة والبصرة وسائر العراق "ويقول" بالواو، حسب قراءة كل منهم.
(3)
(1)
- يُنظر: النشر: (2/ 222 - 223)، كتاب المصاحف:(1/ 247).
(2)
- يُنظر: المقنع: (ص: 107)، كتاب المصاحف:(1/ 248).
(3)
- يُنظر: النشر: (2/ 254 - 255)، الإتحاف:(1/ 537 - 538).
5 -
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(المائدة: 54).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "من يرتد منكم" بدالين، الأولى مكسورة والثانية مجزومة، وقرأ الباقون "يرتد" بدال واحدة مفتوحة مشددة. ورسمت في مصاحف أهل المدينة والشام "يتردد" بدالين.
قال أبو عبيد (ت: 224 هـ) رحمه الله: وكذا رأيتها في الإمام بدالين.
وفي سائر المصاحف "يرتد" بدال واحدة.
(1)
6 -
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ)(التوبة: 107).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "الذين اتخذوا" بدون واو. وقرأ الباقون بالواو.
وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بدون واو، وفي بقية المصاحف بالواو
(2)
. حسب قراءة كل منهم.
7 -
قال الله تعالى: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)(الكهف: 36).
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر "خيرًا منهما" بزيادة الميم بعد الهاء على التثنية، والضمير يعود إلى الجنتين.
وقرأ الباقون (مِنْهَا) بغير ميم على الإفراد، فالضمير عائد على الجنة المدخولة في قوله تعالى:(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ).
(3)
وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام "منهما" بزيادة الميم، وفي بقية المصاحف "منها" بدون الميم.
(4)
8 -
قال الله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)(الشعراء: 36).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "فتوكل" بالفاء. وهي كذلك في مصاحف.
أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون بالواو، وهي كذلك في مصاحفهم.
(5)
(1)
- يُنظر: المقنع: (ص 107)، النشر:(2/ 255).
(2)
- يُنظر: النشر: (2 - 281)، كتاب المصاحف:(1/ 248).
(3)
- يُنظر: إتحاف فضلاء البشر: (2/ 214 - 215).
(4)
- يُنظر: كتاب المصاحف: (1/ 248).
(5)
-النشر: (2/ 336).
9 -
قال الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)(غافر: 26).
في هذه الآية الكريمة أربع قراءات:
الأولى: لنافع وأبي عمرو وأبي جعفر "وأن يُظْهِر في الأرض الفسادَ" بغير ألف قبل واو العطف، وضم الياء وكسر الهاء من "يظهر" من "أظهر" المعتدي بالهمزة و"الفساد" بالنصب على أنه مفعول به.
الثانية: لابن كثير وابن عامر "وأن يَظْهَر في الأرض الفسادُ" بالواو وفتح الياء والهاء من "يظهر" ورفع "الفساد" على أنه فاعل.
الثالثة: لحفص ويعقوب (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) بزيادة همزة مفتوحة قبل الواو، مع سكون الواو، وضم الياء وكسر الهاء من "يظهر" ونصب "الفساد".
الرابعة: لشعبة وحمزة والكسائي وخلف العاشر "أو أن يَظْهَرَ في الأرض الفسادُ" بزيادة همزة قبل الواو، وفتح الياء والهاء من "يظهر" ورفع "الفساد".
(1)
وقد رسمت "وأن" بدون همزة قبل الواو في مصاحف أهل المدينة ومكة والبصرة والشام، حسب قراءة أهل هذه الأمصار، كما رسمت في بقية المصاحف "أو أن" بهمزة قبل الواو.
(2)
10 -
قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(الشورى: 30).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "بما كسبت" بدون فاء، وهي كذلك في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون (فَبِمَا كَسَبَتْ) بالفاء، وهي كذلك في مصاحفهم.
(3)
11 -
قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)(الزخرف: 31).
قرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر (تَشْتَهِيهِ) بهائين، ورسمت كذلك في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون "تشتهي" بهاء واحدة، وهي مرسومة هكذا في بقية المصاحف.
(4)
(1)
- النشر: (2/ 365)، والإتحاف:(2/ 436).
(2)
-المقنع: (ص: 110)، كتاب المصاحف:(1/ 249).
(3)
-النشر: (2/ 370)، حجة:(ص: 654).
(4)
- النشر: (2/ 370)، وقد يقال: إن حفصا خالف مصحف أهل الكوفة، وهذا مخالف للقاعدة التي تمثل لها. والجواب: أن اتباع القارئ أو الراوي لمصحف أهل مصره إنما هو في الغالب، ولا مانع من أن يكون أحد الأئمة قد نقل قراءة صحيحة موافقة لرسم مصحف آخر، فإن شرط القراءة موافقتها لاحد المصاحف العثمانية.
12 -
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). (الحديد: 24).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "فإن الله الغنى الحميد" بدون "هو" وهي مرسومة كذلك في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وهي كذلك في مصاحفهم.
(1)
13 -
قال الله تعالى: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا)(الشمس: 15).
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "فلا يخاف" بالفاء، ورسمت كذلك في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون (وَلا يَخَافُ) وهي مرسومة كذلك في مصاحفهم.
(2)
وقد حصر بعض العلماء هذه الكلمات التي اختلفت فيها المصاحف فبلغت نحوًا من ثمانية وخمسين كلمة بدون تكرار.
(3)
القول الثالث:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، متضمنة لما ثبت في العرضة الأخيرة.
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنَّ هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه و سلم على جبريل عليه السلام، متضمنة لَها، لم تترك حرفًا منها.
قال: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة، والآثار المستفيضة تدلُّ عليه، وتشهد له.
(4)
(1)
- النشر: (2/ 384)، كتاب المصاحف:(1/ 250).
(2)
- كتاب السبعة لابن مجاهد: (ص: 689)، النشر:(2/ 401).
(3)
- يُنظر: المقنع: (ص: 114 - 115)، رسم المصحف:(ص: (702)، النشر: 2/ 280، الإتحاف: 2/ 97، سمير الطالبين للشيخ الضباع:(ص: 101 - 109)، رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة، للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع: 1433 هـ، (1/ 28 - 34). بتصرف يسير.
(4)
-النشر في القراءات العشر (1/ 31)، ويُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 141 - 142).
فالأولى أن يقال:
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
(1)
واحتج أصحاب هذا القول بِما احتج به أصحاب المذهب الثاني- بما يلي:
1 -
احتجوا- على بقاء بعض الأحرف السبعة، والحاجة إليها
2 -
واحتجوا على أن السبعة لم تبق كلها بِما ورد من الآثار التي تدل على حدوث النسخ في العرضة الأخيرة لبعض أوجه القراءة، فكتب الصحابة في المصاحف عند الجمع ما تيقنوا أنه قرآن ثابت في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.
قال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله في "الإتقان":
ولا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة وغُيِّر، فاتفق الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.
(2)
وقال البغوي (ت: 516 هـ) رحمه الله في شرح السنة:
يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة
(3)
التي بين فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبِها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وكان يُقرئ بِها الناس حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتْبَ المصاحف.
(4)
وقد وردت الآثار بأن القرآن قد نسخ منه وغُيِّر في العرضة الأخيرة، وأن قراءتنا التي جمعها الصحابة هي ما كان في تلك العرضة.
فَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ (ت: 72 هـ) رحمه الله أنه قال:
القراءة التي عُرِضَت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في العام الذي قبض فيه -هذا القراءة التي يقرأها الناس.
(5)
يعني بذلك قراءة زيد بن ثابت.
(1)
يُنظر: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية (ص: 178)، المنفعة فى مراحل مع القرآن، كريم شوقي بن عربي، دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع، 2018 م
(2)
-الإتقان في علوم القرآن (1/ 142).
(3)
وثبوت شهود زيد بن ثابت للعرضة الأخيرة محل نظر عند أهل التحقيق لضعف الروايات الواردة فيها، وقد سبق التنبيه على ذلك مرارًا في طيات البحث، وقد رواها البغوي بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
(4)
- شرح السنة للإمام البغوي (4/ 525 - 526).
(5)
رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/ 155 - 156).
وعن سمرة
(1)
قال:
عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ صلى الله عليه و سلم عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة.
(2)
وعن ابن سيرين
(3)
قال:
كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه و سلم كل سنة في شهر رمضان مرةً، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.
(4)
القول الأقرب للصواب، والذي يرجى أن يكون هو القول الراجح:
والقول الذي يظهر صوابه- والله أعلم- هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف من أن الباقي من الأحرف السبعة هو ما ثبت في العرضة الأخيرة، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يختاروا بعض الأحرف الثابتة دون بعض، بل دونوا ونقلوا كل ما ثبتت قرآنيته، وتركوا ما سوى ذلك.
ولكن ينبغي التنبه إلى أن قولهم:
إن المصاحف غير مشتملة إلاَّ على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه و سلم على جبريل، متضمنة لها، لم تترك حرفًا منها -فيه نوع تناقض، إذ قد يُفهم منه أن هناك شيئًا من الأحرف السبعة عرضه النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم على جبريل في العرضة الأخيرة، ولم يكتبه الصحابة في المصاحف العثمانية.
فالأولى أن يقال:
(1)
- سمرة بن جندب (المتوفي سنة 58 هـ) صحابي من صغار الصحابة، وأحد رواة الحديث النبوي. نقلًا عن الموسوعة الحرة.
له صحبة و رواية وشرف، ولي إمرة الكوفة و البصرة خلافة لزياد، و كان شديداً على الخوارج وقَتَلَ منهم جماعة، فكان الحسن وابن سيرين يثنيان عليه. للاستزادة: يُنظر: سير أعلام النبلاء (3/ 183 - 185).
(2)
- رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. مستدرك الحاكم (2/ 230)، ورواه البزار في مسنده، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/ 154).
(3)
ابن سيرين هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري. التابعي الكبير والإمام القدير في التفسير، والحديث، والفقه، وتعبير الرؤيا، والمقدم في الزهد والورع وبر الوالدين، (ت: 110). للاستزادة: يُنظر: سير أعلام النبلاء (4/ 621)
(4)
-أخرجه ابن أشتة، يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 142). ولاشك في قوة هذا القول.
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
(1)
والخلاصة:
أن المصاحف العثمانية جامعة للعرضة الأخيرة بالكيفية السابقة:
- ما يصح أن يقرأ بوجهين أو عدة وجوه والرسم يحتمل ذلك رسم في جميع المصاحف برسم واحد بدون نقط ولا شكل.
-ما لا يحتمله الرسم من خلاف بالزيادة أو النقص، رسم في مصحف كل قطر بما يوافق قراءتهم غالبًا.
وبذلك تكون المصاحف العثمانية مشتملة على جميع ما صح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنسخ تلاوته، واستقر في العرضة الأخيرة، وليست مشتملة على جميع الأحرف السبعة ولا قاصرة على حرف واحدة - كما تقدم.
(2)
ولعل هذا العرض الموجز والمختصر يكون فيه الغُنية للوصول للصواب الذي نرجوه تحققه في هذه المسألة. والحمد لله رب العالمين.
المطلب السابع: الفرق بين الأحرف السبعة والقراءات
قد مر معنا في المطلب الرابع مناقشة الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات، وفي هذا المطلب نناقش الفرق بينهما.
الأحرف السبعة والقراءات السبع
الذي لا شك فيه أن قراءة الأئمة السبعة والعشرة والثلاثة عشر وما وراء ذلك بعض الأحرف السبعة من غير تعيين، ونحن لا نحتاج إلى الرد على من قال إن القراءات السبعة هي الأحرف
السبعة فإن هذا قول لم يقله أحد من العلماء، لا كبير ولا صغير، وإنما هو شيء اتبعه العلماء قديمًا وحديثًا في حكايته والرد عليه وتخطئة أنفسهم وهو شيء يظنه جهلة العوام لا غير فإنهم يسمعون إنزال القرآن على سبعة أحرف وسبع روايات فيتخيلون ذلك لا غير.
(3)
(1)
يُنظر: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية (ص: 178)، المنفعة فى مراحل جمع القرآن، كريم شوقي بن عربي، دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع، 2018 م
(2)
يُنظر: رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة، للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع: 1433 هـ، (1/ 28 - 34). بتصرف يسير.
(3)
منجد المقرئين ومرشد الطالبين، لابن الجزري:(ص: 70).
الفرق بين الأحرف والقراءات:
يحسن بنا قبل أن نذكر الفرق بين الأحرف والقراءات، أن نحدّد مصدر القراءات، وطريقة تلقيها وأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونذكر من اشتهر بالقراءة من الصحابة والتابعين، وذلك في الفقرات التالية:
أولاً: مصدر القراءات
مصدر القراءات: كالأحرف السبعة: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ على أصحابه ما نزل عليه من القرآن فربما قرأ ألفاظًا منه بوجوه عديدة من النطق والأداء، مما يتعلق بأوجه في الإعراب جائزة أو بمد أو قصر، أو تخفيف وتثقيل أو نقل أو
إبدال ونحو ذلك مما يتفق على وجه واحد من الكتابة في الجملة، ويختلف اختلافًا ما في النطق والأداء، فكان يجيز للصحابة رضوان الله تعالى عليهم أن يقرؤوا بأيّ هذه الوجوه شاءوا.
ولم تكن هذه الوجوه من القراءات محصورة في سبع أو عشر قراءات، بل ربما بلغت أوجه القراءات في مجموعها أكثر من ذلك.
ثانيًا: المعول عليه في تلقي القرآن الكريم
إن المعول عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقي والحفظ ثقة عن ثقة وإمام عن إمام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد يقع خطأ في نسخ المصحف كما تقع أخطاء في طبعه، ولأن الأصل في القرآن أنه لا يكون منقوطًا ولا مشكولاً ليسع القراءات فلابد من أخذ القراءة عن إمام.
ثالثًا: تفاوت الصحابة في أخذ القرآن وتلقيه كثرة وقلة
لقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ القرآن عنه صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أخذه عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرّقوا في البلاد، وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم.
رابعًا: طريقة عثمان في بعث المصاحف إلى الأمصار
وقد بعث عثمان رضي الله عنه بالمصاحف- حين كتبها زيد بن ثابت رضي الله عنه بأمره- إلى الأمصار والآفاق العديدة، وأرسل مع كل مصحف- قارئًا- ممن توافق قراءته في الأكثر الأغلب،
وهذه القراءات قد تخالف الذائع الشائع في القطر الآخر عن طريق المبعوث الآخر بالمصحف الآخر.
خامسًا: المشتهرون بالإقراء من الصحابة والتابعين
كان المشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن عثمان، وعليّ، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وسائر أولئك الذين أرسلهم عثمان رضي الله عنه وعنهم بالمصاحف إلى
الآفاق الإسلامية. وكان المشتهرون من التابعين بإقراء القرآن سعيد بن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، وأخوه عطاء وآخرون.
سادسًا: عناية الأئمة بالقراءات - ضبطًا - وحصرًا - وإسنادًا
ففي آخر عهد التابعين انتبه كثير من علماء القرآن إلى ما أخذ يتسلل إلى الناس من اضطراب السلائق، ومظاهر العجمة وبوادر اللحن، فتجرد قوم منهم ونهضوا بأمر القراءات يضبطونها ويحصرونها ويعنون بأسانيدها كما فعلوا مثل ذلك في الحديث وعلم التفسير.
وقد اشتهر ممن نهض بذلك أئمة سبعة حازوا ثقة العلماء والقراء في مختلف الأمصار وإليهم تنسب القراءات السبعة. وقد سبق ذكرهم في طيات البحث.
(1)
الفرق بين الأحرف والقراءات:
إن الفروق بين الأحرف السبعة والقراءات متعددة ومتنوعة من جهات عدة، ولعل من أبرزها ما يلي:
أولًا: من جهة التغاير بينهما في تعدد الألفاظ وانفرادها
فإن الأحرف "ألفاظ متعدّدة" تجمع على مصحف واحد، أما القراءات "فلفظ واحد" قد يقرأ على أوجه من القراءات.
ثانيًا: من جهة التيسير والتنوع
فالحكمة من تعدّد الأحرف-هو- التيسير على الأمة، أما القراءات فقد تفيد كلّ قراءة فائدة زائدة ليست في الأخرى، كما في قوله تعالى:(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(البقرة: 222) قرئ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، فالأولى معناها: ينقطع حيضهن، والثانية معناها: يغتسلن. وهي باقية ما بقي القرآن الكريم.
(2)
ثالثًا: من جهة العموم والخصوص
فالأحرف السبعة أعم، والقراءات كلها -السبع والعشر- أخص، ذلك لأن القراءات كلها -السبع والعشر- هي جزء من الأحرف السبعة بلا شك، فهي أخص منها، والأحرف السبعة أعم من القراءات، فبينهما عموم وخصوص، وكليهما مُتعبد لله بتلاوته.
رابعًا: من جهة الثبوت في المصاحف العثمانية
فالقراءات كلها مثبتة في المصاحف العثمانية، أم الأحرف السبعة فالراجح كما مر معنا-أن المثبت منها في المصاحف العثمانية هو ما استقرت عليه العرضة الأخيرة فحسب، وكان ذلك كله موافقًا للرسم العثماني لا يخرج عنه البتة.
(1)
وذلك في المطلب الرابع: الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات.
(2)
- الواضح في علوم القرآن (ص: 112).
وقد مر معنا أن الأولى أن يقال:
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
(1)
خامسًا: من جهة توافر الضوابط والشروط
فالقراءة الصحيحة الثابتة لها ضوابط وشروط معتبرة متفق عليها عند أئمة القراءات، ألا وهي موافقة العربية ولو بوجه، وموافقة المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصحة السند، وقد سبق ذكرها وتناولها في ثنايا البحث بالشرح والإيضاح، وأما الأحرف السبعة فليس لها تلك الضوابط والشروط.
سادسًا: من جهة المحتوى والمضمون
فالأحرف السبعة متضمنة للقرآن كله كما هو معلوم، وأما القراءات فتتناول طرق وأوجه قراءة القرآن وهيئة وطريقة النطق بكلماته وألفاظه وآياته.
سابعًا: من جهة النسب
فالقراءة تُنسب لأحد أئمة القراءات، وذلك من بعد تسبيع ابن مجاهد (ت: 324 هـ)، وأما الأحرف السبعة فلا تُنسب لأحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تلقها عن جبريل بلا واسطة.
ثامنًا: من جهة الزمن
فالأحرف السبعة مرتبطة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبزمن نزول الوحي وتتابعه عليه صلى الله عليه وسلم في عهديه المكي والمدني.
فحرف قريش نزل به القرآن ابتداءً في العهد المكي، وباقي الأحرف السبعة كانت الاستزادة منها غالبًا في نهاية العهد المدني، وذلك لقرائن كثيرة أغلبها أخذ بالاستقراء من أحاديث الأحرف السبعة برواياتها وألفاظها المتعددة.
وأما القراءات فزمانها كان متأخرًا عن ذلك بزمن بعيد، وذلك من تاريخ ابن مجاهد أول من سبع السبعة، في كتابه "كتاب السبعة"، وكان ذلك في القرن الرابع الهجري، فتحديد القراءات السبع قد جاء متأخرًا عن نزول القرآن بثلاثة قرون تقريبًا.
تاسعًا: من جهة المصدر
فالأحرف السبعة والقراءات مصدرهما جميعًا التوقيف، فالأحرف السبعة مصدر تلقيها هو الوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية (ص: 178)، المنفعة فى مراحل جمع القرآن، كريم شوقي بن عربي، دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع، 2018 م
وأما القراءات فمصدر تلقيها إنما كان عمن نزل عليه الوحي، فقد تلقَّها الصحابةُ رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقَّها ونقلها عنهم جيل عن جيل.
المبحث الثاني: الجمع العثماني والأحرف السبعة
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان رضي الله عنهما
ما يزال يتكرر معنا ما تقرر في طيات البحث حول الأحرف السبعة، من أنها من المباحث الشائكة- قديمًا وحديثًا- وأنها تحتاج بُعْد نظر وسعة أفق وكبير تأمل، كما أنها تحتاج لتدخل المجامع العلمية المتخصصة والمتأصلة لبحث مثل تلك القضايا الهامة المتعلقة بعلوم القرآن، لتقدم للأمة حلولًا لإشكالات طال الكلام حولها، وكثر الأخذ والرد فيها، ومن تلك القضايا الكبرى قضية" الأحرف السبعة "، وما يتعلق بها من مباحث وقضايا.
علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان:
ولابد وأن يُعْلم أن مبحث "علاقة الأحرف السبعة بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان" يتعلق تعلقًا لازمًا بأمور هامة، من أبرزها ما يلي:
أولًا: مفهوم الأحرف السبعة والمقصود بها
ثانيًا: صفة الرسم الذي استقرت عليه الصحف العثمانية، والخلاف والفرق بين حرف المصحف الإمام، وحروف الصحف المرسلة للأمصار
ثالثًا: تنوع الأحرف التي تفرع عنها تنوع القراءات، المقروءة بالألسن، الموافقة للأحرف المكتوبة في السطور، المحفوظة في الصدور.
ومن هنا وجب التنبه للأمور التالية:
الأمر الأول: أن الجزم بأن الصحف البكرية قد حوت الأحرف السبعة، لا يعدو إلا أن يكون أمرًا ظنيًا لا أكثر، وأنَّ أحدًا لم يقف على دليل قاطع واضح يصح الاستدلال به على ما كتبه الخليفة الأول رضي الله عنه خلاف ما كان عليه الجمع الأول.
الأمر الثاني: أن الجزم بأن الصحف العثمانية قد كُتِبَت على حرف واحد هو "حرف قريش" وأنها أهملت باقي الأحرف السبعة، أمر ظنيٌ غير مقطوع به، وقد مر بنا في طيات البحث ذكر الخلاف الوارد في مصير الأحرف السبعة
(1)
، وذكر الأقوال الثلاثة الواردة في مصيرها، وكان الترجيح
للقول الثالث والأخير منها القاضي بأن الصحف العثمانية اشتملت على كل ما ثبت في العرض
(1)
وذلك في المطلب السادس من المبحث السابق: "مصير الأحرف السبعة".
الأخير، وأنها أهملت كل ما نُسِخَت تلاوتُه، ومن هنا يتبين لنا خطأ الجزم بأن الصحف العثمانية كُتِبَت على حرف قريش فحسب.
فاختلاف أحرف المصاحف العثمانية المرسلة إلى الأمصار يُعد وحده أكبر دليل قطعي على أن الصحف العثمانية لم تُكْتَب على حرف واحد، وقد مر معنا ذكر أمثلة منها في طيات البحث.
(1)
الأمر الثالث: وجوب التأمل في دواعي الجمع في عهديه الثاني والثالث،
فبالتأمل والتدقيق في أهم بواعث ودواعي الجمع في جمع أبي بكر، وجمع عثمان رضي الله عنهما، يتبين لنا ما يلي:
أ- الجمع البكري:
أولًا: إن المتأمل في جمع الصديق رضي الله عنه يعلم يقينًا أن الباعث الأول عليه هو تحر القتل في القراء يوم اليمامة، وقد قُتِلَ منهم عدد كبير ينتهي إلى السبعين وقد أنهاه بعضهم إلى خمسمائة. وكان الهدف الأسمى منه جمع القرآن في مكان واحد خشية ذهابه بذهاب حفظته.
ثانيًا: كان عمل الصديق رضي الله عنه هو جمع القرآن النازل الثابت قراءته في مصحف واحدٍ بعد أن كان مفرقًا في الرقاع واللخاف والأقطاب والعسيب، وهو القرآن الذي جمعه وكتبه كتَّابُ
الوحي ودوّنوه بين يدي رسول صلى الله عليه وسلم، فكان عمل أبي بكر رضي الله عنه هو جمع ما تفرق من القرآن في مصحف واحدٍ فحسب، ذلك لأن القرآن الذي جمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في مصحف واحد بل كان متفرقًا، فجمع الصديق هو نفس الجمع النبوي، غير أن الجمع النبوي كان مفرقًا، وجمع الصديق صار جمعًا للقرآن بين دفتي مصحف واحد.
ثالثًا: التزم الصديق رضي الله عنه في جمعه ترتيب سور وآيات القرآن وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهذا الترتيب هو الموافق للقرآن المثبت في اللوح المحفوظ لأنه توقيفي على القول الراجح، ولذا يبقى جمع الصديق للأصل الذي كان عليه القرآن في الجمع النبوي الأول مرتب السور والآيات، وهذا الأمر لا يمكن الحيد عنه إلا بنص واضح الدلالة؛ لأن الصديق انحصرت مهمته في جمع القرآن الذي جمع في العهد الأول مفرقًا، يجمعه في مصحف واحد متأسيًا ومتبعًا فيه ما انتهى إليه أمر الجمع الأول الذي أتمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد اتضحت أماكن السور والآيات واستقرت في ترتيبها المصحفي وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، أما كونه قد اقتصر في جمعه على إثبات وتقيد وكتابة ما ثبتت تلاوته وقرآنيته في العرضة الأخيرة مما لم تنسخ تلاوته فحسب، وإهمال المنسوخ منها، فهذا
(1)
- وذلك في المطلب السادس من المبحث السابق: "مصير الأحرف السبعة".
القول وإن كان هو أقرب الأقوال للصواب، غير أنه يحتاج لزيادة تحقيق واستيثاق واستقراء للأدلة وتثبت منها، وإن كانت النفس تميل إليه. مع وجوب التنبه إلى ما سيأتي في فقرة "خامسًا".
وقد نتج من جراء ذلك الجمع أن جمعت نسخة واحدة من القرآن بين اللوحين في مكان واحد وليس نسخًا متعددة لكل حرف نسخة، وبقيت في مصحف واحد عند خليفة المسلمين حياته.
رابعًا: أن الجمع في عهد عثمان كان موافقًا لما استقرت عليه العرضة الأخيرة كجمع الصديق سواء بسواء، وذلك من جهة ترتيب السور والآيات، ومما يؤكد ذلك حتمًا أن الذي تولى الجمع في العهدين شخص واحد هو زيد، غير أنهم
(1)
في حين الاختلاف في الجمع العثماني كانت الكتابة على حرف قريش للمصحف الإمام،
والمعنى المقصود هنا أنهم يكتبوا ما أجمعوا عليه وذلك وفق ما ثبتت قراءته من الأحرف السبعة ولم ينسخ في العرضة الأخيرة، وحين وقوع اختلافهم فلسان قريش هو الفيصل والحكم والمرجع، وفي هذا إشارة إلى الرسم لا إلى القراءة
(2)
، وذلك لأن حرف قريش هو الذي نزل به
القرآن ابتداءً، بدليل اختلافهم في (التابوت والتابوه) فقال اكتبوها بلسان قريش، وكان ذلك بأمر الحليفة الراشد.
قال الزهري (ت: 124 هـ) رحمه الله:
فاختلفوا (الصحابةُ) يومئذ في (التابوت والتابوه) فقال القرشيون "التابوت"، وقال زيدٌ:(وهو مدني)"التابوه" فَرُفِعَ اختلافُهم إلى عثمان فقال اكتبوه "التابوت" فإنه نزل بلسان قريش"
(3)
.
وفي هذا- جمع الأمة الإسلامية على لسان واحد، وهو لسان قريش، حيث كان القرشيون يستملحون ما شاءوا، ويصطفون ما راق لهم وطاب من ألفاظ العرب الوافدين، ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه في لغتهم، وهكذا كانت سياسة
(4)
القرءان الحكيم، اصطفت من كل لغة
(1)
- أي: زيد والرهط القرشيون.
(2)
- ومما يؤكد ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ اتفاق مصاحف أهل الأمصار على رسم (الصراط) و (صراط) فقد كُتِبَت في جميع المصاحف بـ"الصاد" على حرف قريش، مع أنها تقرأ بثلاث قراءات كلها متواترة ثابتة صحيحة.
أحدها: بـ"السين"، وقرأ بها قنبل عن ابن كثير المكي.
وثانيها: بـ"الزاي" إشمامًا، أي بإشمام الصاد زايًا، وقرأ بها خلف عن حمزة.
ثالثها: بـ"الصاد" قرأ بها الباقون، وهم عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وخلف البزار، كل براوييه، وعن ابن كثير البزي، وعن يعقوب روح، وقد كتبت كذلك في جميع مصاحف الأمصار.
(3)
- التابوت والتابوه: أي اختلفوا في كتابتها بالتاء المجرورة أو المربوطة، ولا يذكر في التاريخ من اختلافهم إلا في هذه الكلمة الوحيدة.
يُنظر: الترمذي، أبواب تفسير القرآن، (5/ 266) رقم: 3029 (3029).، وكتاب المصاحف لابن أبي داود - باب جمع عثمان- رضي الله عنه-القرآن في المصاحف (ص: 26)، وفتح الباري (8/ 635)، تفسير الطبري:(1/ 62).
(4)
- الأولى أن تستبدل عبارة " سياسة القرآن" بعبارة " لغة القرآن" والله أعلم.
الطيب منها فهذبتها وصقلتها، ثم استعملها القرآن الكريم؛ لذا يصح أن يقال إن القرآن أنزل على لسان قريش، أي على سياستها
(1)
.
(2)
خامسًا: جمع الصديق رضي الله عنه لم يتضمن نوع الزام للمسلمين وحملهم على هذا الجمع ولزومه، ولذا كان بعض من لم يشهد العرضة الأخيرة من الصحابة لا يعلم بنسخ بعض الآيات، فكان يقرأ ببعض ما نُسخ من القرآن مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون علمه بالنسخ المتأخر الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة.
سادسًا: وجمع الصديق رضي الله عنه يصعب الجزم والقطع بأنه اشتمل على الأحرف السبعة، ومما يدلل حتمًا على ذلك أن هناك كلمات لا يكفي فيها الكتابة وحدها، إذ لابد فيها من الجمع بين الكتابة وطريقة النطق الصحيحة بها، ولا مجال لذلك البتة إلا بالصوت، ولنأخذ على سبيل المثال كلمة "الصراط" والتي قد كتبت في جميع المصاحف بالصاد، وقد قرئت بـ "الزاي" إشمامًا، أي بإشمام الصاد زايًا، وقد قرأ بها خلف عن حمزة، فالمعتمد فيها على الصوت نطقًا لا على المرسوم خطًا، وقل كذلك أيضًا في الإمالة والتقليل والإدغام وما شابه ذلك مما لا يمكن ضبطه إلا بالنقل والضبط الصوتي، ولاشك أن هذه الأمور لم ينقل ولم يحفظ أن جمع الصديق قد حواها، ومن ادعى غير ذلك فليأت ببرهان ساطع ودليل قاطع.
وأقصى ما يُقال في ذلك أن جمع الصديق رضي الله عنه لم يهمل وجوه القراءة وفق الرسم، وذلك لأن جمعه لم يكن بواسطة المكتوب في السطور فحسب، بل كان معتمدًا كذلك على مطابقته لما هو محفوظ في الصدور، ذلك لأنَّ الأصل في قراءة القرآن نقله وتلقيه بالمشافهة، ولا يفهم من هذا
أن جمعه كان محتملًا لوجه واحد من الرسم فيكون قد أهمل إعمال وجوه القراءة الأخرى التي يحتملها الرسم؛ فإن مثل هذا لا يُنقل إلا عن طريق التلقي والمشافهة لا عن طريق الرسم المكتوب، ذلك لأن أخذ القراءة بالتلقي والمشافهة قاض على الرسم، ولذا فإن الصحابة حين كتابة الصحف لم يعتبروا اختلاف الرسم بل اعتبروا القراءة أولًا وجعلها قاضية وحاكمة على الرسم وذلك باعتبار أنها الأصل والرسم تابع لها.
والقول بثبوت الأحرف السبعة في الصحف البكرية قول يفتقر لحُجّة واضحة قاطعة ودليل ثابت صحيح يُعتمد عليه، لأن مثل هذه الدعوى لا يمكن قبولها أبدًا إلا بنقل ثابت صحيح يصلح للاحتجاج، إذ يلزم من هذا القول أن تكون الصحف البكرية قد كتبت جمعًا بين الأحرف السبعة في الرسم في المصحف الواحد وهو أمر محال، إذ يلزم بثبوتها في الصحف البكرية تكرار كتابة الكلمات التي فيها اختلاف في أوجه القراءة على غرار كتابة المصاحف العثمانية التي بعثها عثمان
(1)
- أي لغتها.
(2)
مناهل العرفان: (1/ 135).
رضي الله عنه إلى الأمصار، ويترتب على ذلك الجزم بعدم احتواء جمع الصديق رضي الله عنه للأحرف السبعة، والباحث في حدود بحثه لا يعلم عن أحد من السلف قال خلاف هذا القول. والله أعلم.
(1)
ب- الجمع العثماني:
أولًا: إذا كان مقصود الجمع البكري هو جمع ما تفرق من القرآن في مصحف واحد، فإن الجمع العثماني لم يكن كذلك، وذلك لأن الباعث في الجمع العثماني قد اختلف عن الباعث في الجمع البكري تمامًا.
ثانيًا: كان مقصود الجمع العثماني جمع الأمة على مصحف واحد إمام لنزع فتيل الفتنة التي كادت أن تقع بين بعض القراء في الفتوحات الإسلامية، وقد دخل في الإسلام فئام من البشر لا يعلمون أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن أي حرف قرئ به فهو شاف كاف.
فكان الجمع العثماني على مصحف واحد خشية الاختلاف، ولذا فقد تم إحراق ما سواه من المصاحف التي في أيدي الناس، وجمعهم على مصحف واحد إمام
حسمًا لمادة النزاع.
ثم نسخ بعد ذلك من المصحف الإمام نسخًا عدة بُعِثَ بها إلى الأمصار
(2)
، ولم يحذف منها أي شيء، ولكن أثبت في بعضها بعض الاختلافات الواردة في الأحرف السبعة، وذلك وفق قراءة أهل كل مصر من الأمصار التي بعث عثمان إليها المصاحف، وقد أرسل مع كل مصحف قارئًا ممن توافق قراءته في الأكثر الأغلب، على أن يقرأ بنفس القراءة التي في المصحف الذي بين يديه، مع أن هذه القراءة قد تخالف ما ذاع وانتشر في مصر آخر من الأمصار التي بعث عثمان فيها المصاحف عن طريق مبعوث بمصحف آخر مغاير لها في المرسوم.
ثالثًا: لقد اشتمل الجمع العثماني على ما لم تنسخ تلاوته وأهمل ما نسخ منها،
(1)
- وثبوت الأحرف السبعة في هذا الجمع محل خلاف عند أهل التحقيق، وهو كذلك في مصحف عثمان، ويحتاج لدراسة متأنية وتحقيق وتدقيق وطول تأمل وإمعان نظر فيما كان عليه رسم هذا المصحف، وهل رسم محتملا لتك الأحرف السبعة كالمصاحف العثمانية التي نسخت عن المصحف الإمام وبعث بها عثمان إلى الأمصار وبعث مع كل مصحفٍ قارئًا يقرئ بما يحمله من رسم على الأغلب، وإن استفاضة القول بأن مصحف أبي بكر رضي الله عنه اشتمل على الأحرف السبعة وتلقي العلماء له بالقبول لا تكفي للجزم والقطع ولكنها تكفي للظن الراجح
والظن الراجح كما يُقال -عند بعض أهل العلم- كاف في مثل هذه القضايا والمسائل، والله تعالى أعلم.
وقد سبق معنا مرارًا القول بالأولى أن يقال:
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر. الباحث.
وللاستزادة يُنظر: عرفة بن طنطاوي، دلائل التوفيق لأصح طريق لجمع الصديق:(ص: 58)، بحث منشور في مجلة البحوث الشرعية - مجلة محكمة-، العدد الثالث عشر بعد المائة، تاريخ النشر: جمادى الأولى 1442 هـ.
(2)
- وقد مر معنا مرارًا ذكر الخلاف المشهور في عددها.
وقد رسمت تلك الصحف على طريقة تحتمل أوجه الأحرف السبعة جميعًا مما استقرت عليه العرضة الأخيرة ولم ينسخ، وكان ذلك تسهيلًا على الأمة ورفعًا للحرج والمشقة عنها.
رابعًا: من أهم مقاصد الجمع العثماني إلزام الناس في جميع الأمصار بما في تلك الصحف المنسوخة عن المصحف الإمام، والتي حوت ما بقي من الأحرف السبعة التي ثبتت قراءتها ولم
تنسخ، وقد وافق الصحابةُ رضي الله عنهم عثمانَ على ذلك وشكروا له حسن صنيعه، وقد رسمت تلك الصحف بطريقة يمكن معها قراءة القرآن بجميع الأوجه وفق ما تحققت قراءته، لذا انحسرت القراءة في الجمع العثماني فيما ثبتت قراءته في العرضة الأخيرة فحسب، وإهمال المنسوخ منها، وبهذا الفعل تميزت القراءة الثابتة من القراءة المنسوخة والتي اطلق عليها فيما بعد "القراءة الشاذة"، لذا فإن أي قراءة نسخت في العرضة الأخيرة ولم يقرأ بها أحد من الأئمة، تُعَد من القراءات الشاذة حتى ولو صح سندها.
ويؤيد ما سبق ذكره من استقرار جمع أبي بكر وعثمان على موافقة ما ثبت في العرضة الأخيرة ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه":
عن حسين بن علي، عن سفيان بن عُيَيْنَةَ، عن ابن سيرين، عن عَبِيْدَةَ، قال:
القراءةُ التي عُرِضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قُبِضَ فيه، هي القراءةُ التي يقرؤها الناسُ اليوم. وهذا إسنادٌ غاية في الصحة. وعبيدة ثقة مخضرم، أدرك جمع أبي بكر وجمع عثمان، وكان من أبرز تلاميذ ابن مسعود.
(1)
المطلب الثاني: علاقة الأحرف السبعة بالعرضة الأخيرة
لمعرفة علاقة الأحرف السبعة بالعرضة الأخيرة لابد أولًا من معرفة ما له علاقة تلازم بها ليتم تصورها تصورًا صحيحًا، ومن أبرز ذلك ما يلي:
أولًا: لابد من الرجوع إلى تصور مفهوم الأحرف السبعة والمقصود بها، والذي سبق التنبيه عليه في المبحث السابق.
ثانيًا: ولابد من الرجوع إلى تصور بيان الغاية من معارضة القرآن عمومًا والعرضة الأخيرة خصوصًا.
(2)
ثالثًا: ولابد من الرجوع إلى تصور علاقة الأحرف السبعة بالجمع العثماني، وذلك من جهة اشتمالها عليها من عدمه.
(3)
(1)
مُصنف ابن أبي شيبة: (10/ 560).
(2)
- وقد مر بنا ذكر ذلك في "المحور الثامن: وقفات هامة مع العرضة الأخيرة"، وهو المحور الثامن من محاور مناقشة "الشبهة الثامنة: موقف ابن مسعود-رضي الله عنه من الفاتحة والمعوذتين".
(3)
- وقد مر معنا ذكرها وتناولها بالتفصيل في مبحث مستقل، وقد مر بنا ذكرها في المبحث السابق كذلك.
وإن تصور هذه الأمور الثلاثة حين مناقشة مبحث علاقة الأحرف السبعة بالعرضة الأخيرة يعطي رؤية واضحة تصلح لأن تكون مدخلًا سهلًا لمناقشة ومدارسة هذا المبحث.
وفي ضوء ما سبق بيانه إجمالًا يتبين لنا ما يلي:
أولًا: أن القول بأن جبريلَ كان يعارض النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام في رمضان بحرف من الأحرف السبعة أمر غير صحيح البتة، فهو مع افتقاره لمستند يُعتمد عليه من نص ثابت صحيح، أو دليل واضح صريح، غير ثابت أصلًا، وإن المتأمل في أحاديث طلب الاستزادة من الأحرف السبعة والرخصة بها يتأكد لديه أنها كانت في المدينة، وأنها كانت قبيل انتقال النبي- صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعامين على الأكثر - تقريبًا -، ومن المعلوم أن بدء نزول القرآن كان في رمضان في صدر البعثة، والمعارضة كانت في رمضان كذلك من كل عام، وقد مر معنا ذكر أحاديث المعارضة تكرارًا ومرارًا، فكيف كان يعارضه كل عام بحرف والاستزادة لم تكن وقعت، والرخصة بها لم تكن بعد قد شرعت.
ثانيًا: أن القول بأن الصحف العثمانية كانت على حرف واحد قول لا يصح، نعم قد تتأتى من الحرف الواحد قراءات متعددة، غير إن تلك القراءات وردت على حرف ورسم واحد احتمالًا لها جميعًا إلا ما لا يمكن أن يقرأ برسم واحد ولو احتمالًا كالكلمات التي ذكرناها مثل "ووصى"، "وأوصى" فقد كتبت في مصاحف الأمصار أكثر من مرة لاستحالة كتابتها في مصحف واحد مرتين، وكذلك القول بأنها احتملت الأحرف السبعة كلها أيضًا لا يصح وإن كان دون القول الأول، وقد مر معنا بيان ذلك بالتفصيل وذكرنا أن القول الراجح والأقرب للصواب هو أنها اشتملت على كل ما ثبت في العرضة الأخير فحسب، وأنها أهملت كل ما نُسِخَت تلاوتُه، وكان
ذلك وفق على ما يحتمله الرسم العثماني للمصاحف، وأما كل ما لا يحتمله الرسم العثماني من باقي الأحرف فيُعد منسوخًا كما أسلفنا.
(1)
و أن "الحروف التي ثبتت في العرضة الأخيرة ثابتة كلها في الرسم العثماني، عن قصد من الصحابة، وهو رأي أكثر أهل العلم من المحققين، مثل أبي الفضل الرازي، وابن الجزري، والرازي، وابن قتيبة، وابن حزم، وغيرهم".
(2)
(1)
-وقد مر معنا تكرارًا ومرارًا أن الأولى يقال:
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
(2)
-الواضح في علوم القرآن: (ص: 114)، المدخل لعلوم القرآن (ص: 194).
ثالثًا: أن الغاية التي كان يعارض جبريلُ النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآنَ كل سنة من أجلها لم تكن إلا لأمرين عظيمين:
أما الأمر الأول: فلاستثبات حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وفق ما أوحاه الله إليه بواسطة جبريل، وهي كانت كذلك بمثابة تحقيق الضمان والأمان لحفظ القرآن من أي تغيير أو تبديل بزيادة أو نقصان.
وأما الأمر الثاني: فلتثبيت وإبقاء ما لم ينسخ من القرآن، ونسخ ما يريد الله تعالى نسخه منه.
وفي نحو ذلك يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله:
جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما: تعاهده.
والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ.
(1)
رابعًا: وإنما سميت العرضة "الأخيرة" بذلك لكونها المعارضة الأخيرة بالقرآن بين جبريل-عليه السلام-وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
وكانت المعارضة الأخيرة كالمراجعة النهائية والختامية للقرآن ليبقى محفوظًا في صدره الشريف-صلى الله عليه وسلم، كما كانت كالتوديع للوحي كذلك، لِيُرفع ما نسخ منه نهائيًا، ويبقى ما ثبت قرآنيته من كل ما أوحاه الله إليه ولم تنسخ تلاوته، وليبقى محفوظًا كذلك إلى ما شاء الله أن يبقى حتى يرفع في آخر الزمان.
خامسًا: لقد ثبت معنا أن القول بأن جبريلَ كان يعارض النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام في رمضان بحرف من الأحرف السبعة أمر غير صحيح البتة، ويترتب على ذلك، إضافة لما سبق ذكره آنفًا من بيان الغاية من المعارضة الأخيرة، الوصول إلى حقيقة هامة في هذا المبحث ألا وهي: إن تلك المعارضة كانت على حرف واحد ألا وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداءً، وهو الحرف المنزل الذي جمع وكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أول نزوله، والذي نسخت
منه الصحف البكرية بعد جمع شتاتها ثم نسخ المصحفُ الإمام من تلك الصحف، فكان جمع عثمان ما تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما استقر في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته، ولا نعلم أي دليل يدل على أن العرضة الأخيرة كانت بأكثر من حرف أبدًا، وهذا القول إنما صدر عن تصور غير صائب في فهم الأحرف السبعة وعن العلاقة بينها بين العرضة الأخيرة.
(1)
- فتح الباري: (9/ 5).
وفي نحو ذلك يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه، وعلى ما صح مستفاضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره إذ لم تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزًا لهم مرخصًا فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه. قالوا: فلما رأى الصحابة أن الأمة تتفرق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل محظور.
قلت: فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم
وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش، وكالغيب والجمع والتثنية، وغير ذلك من أضداده مما تحتمله العرضة الأخيرة إذ هو موجودة في لغة قريش وفي غيرها، ووجهوا بها إلى الأمصار، فأجمع الناس عليها.
(1)
سادسًا: ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه لم يكن بين العرضة الأخيرة والتي كانت في رمضان من السنة العاشرة وبين لحوق النبي بالرفيق الأعلى والذي كان في ربيع الأول سنة إحدى عشرة سوى أشهر قليلة معدودة، ألا وهي ستة أشهر تقريبًا، وأنها لم تتميز عن أي عرضة سنوية بشيء أبدًا، إلا أنها كانت في العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم "مرتين"، ولذا فقد قال صلى الله عليه وسلم "وما أراه إلا قد حضر أجلي". وهو ما ثبت عند مسلم من حديث عائشة: " أن فاطمة رضي الله عنهما قالت: أخبرني [أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم](أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنِّي لَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ)
(2)
وفي رواية البخاري: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِ، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: (أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ) فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.
(3)
.
(1)
-منجد المقرئين ومرشد الطالبين (23).
(2)
- رواه مسلم (2450).
(3)
- رواه البخاري (3624)
وختامًا: يستخلص مما سبق بيانه في هذا المبحث
1 -
أن العرضة الأخيرة كانت الغاية منها كالغاية من العرضة السنوية سواء بسواء.
2 -
أن العرضة الأخيرة كانت لتثبيت القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإهمال ما نسخ وإبقاء مالم ينسخ فحسب.
3 -
أن العرضة الأخيرة لم تختلف في شيء عن العرضة في كل عام في شيء أبدًا غير أنها كانت في العام الأخير مرتين.
4 -
أن العرضة الأخيرة كانت على حرف واحد ألا وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداءً، و"حرف قريش" يُحْمَلُ هنا على مرسوم المصحف لا على قراءته؛ وهو الأمر الذي قصده عثمان رضي الله عنه في قوله: للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن
في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(1)
، فإن توجيهه رضي الله عنه في قوله للجنة الجمع:(فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم) يُحْمَلُ على أنه أراد الرسم لا القراءةِ، وذلك حتى يبقى الرسم ثابتًا بلغة قريش ليصبح مرجعًا عند الاختلاف، ولذا لما اختلفوا في "التابوه" و"التابوت" كتبوها "التابوت" بلسان قريش، وكذلك يبقى الأمر على عمومه في أن القراءة قاضية على الرسم لا العكس.
والعرضة الأخيرة لا علاقة لها بالأحرف السبعة البتة وأن القول بأن جبريلَ كان يعارض النبيَ صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام في رمضان بحرف منها أمر غير صحيح ولا دليل عليه.
وإن أصح وأصوب ما يُقَال في ذلك أن جمع الصديق رضي الله عنه قد حوى ما بقي من الأحرف السبعة التي لم تنسخ وبقيت في العرضة الأخيرة، لأنه قد نُسِخَ منها من وجوه القراءت ما قد نُسخَ، وقد أثبت الصديق رضي الله عنه في مصحفه ما بقي من تلك الأحرف ووافق رسمها.
5 -
أن القول بأن الصحف العثمانية كانت على حرف واحد قول لا يصح، والصواب
وإن من أقوم ما قيل فيها أنها جُمِعَتْ على ما تواترت قراءته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت عليه العرضة الأخيرة، وثبتت تلاوته ولم تنسخ.
6 -
أن العرضة الأخيرة نتج عنها نسخ بعض آي القرآن الكريم كما هو معلوم، والقراءات الشاذة "المنسوخة" شاهد عيان على نسخ تلك الآيات من الأحرف السبعة.
(1)
رواه البخاري، حديث:(4987).
ولعل فيما مضى معتبر لأهل البحث والنظر، والحمد لله رب العالمين.
المطلب الثالث: علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب
عند مناقشة أي بحث له تعلق بالأحرف السبعة لابد من الرجوع لمفهوم تلك الأحرف واستحضارها في الذهن حتى تتجلى تلك العلاقة بصورة جلية واضحة صحيحة، وقد مر معنا ذكر ذلك في ثنايا البحث والتأكيد عليه تكرارًا ومرارًا، وحديث الأحرف السبعة قد ثبتت صحته ونُقِلَ متواترًا بإجماع أهل العلم الثقات، وهو مروي عن نيِّف وعشرين صحابيًا، وقد تتبع بعض أهل العلم طرق هذا الحديث ورواياته، فمنهم من أفرد له مصنفًا مستقلًا كابن الجزري
(1)
، ومنهم من تتبع طرقه وروايات وضمنها بعض مصنفاته كالإمام ابن كثير في" فضائل القرآن "، ومنهم من تناولها بالشرح والإيضاح والبيان كالحافظ ابن حجر في " فتح الباري" ..
والله أنزل القرآن بلسان عربي مبين كما قال ربنا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 192 - 195). وقوله: "بلسان
عربي مبين" أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك " أنزلناه "بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بينًا واضحًا ظاهرًا، قاطعَا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلا إلى المحجة.
(2)
فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان.
(3)
وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(يوسف: 2) أي: إنَّا أنزَلْناه كِتابًا يُقرَأُ بلُغَتِكم- أيُّها العربُ- كي تعلَموا وتفهَموا مَعانيَه.
(4)
وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ اللِّسانَ العربيَّ أفصَحُ الألسنةِ وأوسَعُها وأقوَمُها وأعدَلُها؛ لأنَّ مِن المقَرَّرِ أنَّ القولَ- وإن خُصَّ بخِطابِه قومٌ- يكونُ عامًّا لِمَن سِواهم.
(5)
وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس; فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان
(1)
- يُنظر: النشر في القراءات العشر، لابن الجزري:(1/ 28).
(2)
- تفسير ابن كثير: (2/ 594).
(3)
كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها، لابن فارس:(ص: 19).
(4)
يُنظر: تفسير ابن جرير: (13/ 6)، تفسير القرطبي:(9/ 119)، تفسير السعدي:(ص: 393)، تفسير ابن عاشور:(12/ 201).
(5)
- يُنظر: نظم الدرر، للبقاعي:(10/ 6).
ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه.
(1)
وفي الآية:
استِئنافٌ يُفيدُ تَعليلَ الإبانةِ مِن جِهَتَيْ لَفظِه ومَعناه؛ فإنَّ كونَه قُرآنًا يَدُلُّ على إبانةِ المعاني؛ لأنَّه ما جُعِل مَقروءًا إلَّا لِما في تَراكيبِه مِن المعاني المفيدةِ للقارئِ، وكونُه عَربيًّا يُفيدُ إبانةَ ألفاظِه المعانِيَ المقصودةَ للَّذين خُوطِبوا به ابتِداءً، وهم العرَبُ.
(2)
من أبرز صور علاقة الأحرف السبعة بلغات العرب ما يلي:
1 -
إنه لمَّا كان من أبرز أسباب نزول القرآن على سبعة أحرف التيسير والتهوين على هذه الأمة والتوسعة عليها في قراءة القرآن، وكان الإذن في هذه التوسعة قُبَيل نهاية العهد المدني كما دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة الواردة بهذا الصدد على ذلك، وقد زامن ذلك كثرة دخول القبائل في الإسلام، طالب النَّبيُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام بالاستزادة من تلك الأحرف تسهيلًا وتهوينًا على تلك القبائل الداخلة في دين الله، وعموم الأمة تبعًا لهم في لذلك، فقال عليه
الصلاة والسلام لجبريلَ: "إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابًا قط"
(3)
.
2 -
إنه لمَّا كان إنزال القرآن الكريم بلغة العرب واحتواء الأحرف السبعة للهجاتهم مفخرة وإعزازًا لهم، كان كذلك حافظًا للهجاتهم من الاندثار.
3 -
احتواء الأحرف السبعة للغات العرب وتعدد لهجاتهم يُبْرِز تنوُّع للمعاني، ذلك لأن تعدد تلك اللهجات يترتب عليه تعدد معانيها مما يدفع ويحث على التأمل والتدبر في كلام الله تعالى، كما أنه يُثري البحث والنظر في تفسير تلك المعاني وما يترتب عليها من أحكام شرعية.
4 -
وإنما كان نزول القرآن بلسان العرب واحتواء الأحرف السبعة للهجاتهم ليتحقق لهم كمال بيان معاني آياته، ليفهموه، وليهتدوا بهداياته.
5 -
استيعاب الأحرف السبعة لكل لغات العرب مع اتساع لهجاتها دلالة من دلائل إعجاز القرآن. فـ" في اختلاف القراءات نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز؛ إذ كل
(1)
- تفسير ابن كثير: (4/ 365 - 366).
(2)
- يُنظر: تفسير ابن عاشور: (12/ 201).
(3)
- رواه الترمذي، كتاب القرآن ح (9).، وأخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رقم (23446)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره، إسناده حسن.
قراءة بمنزلة الآية؛ إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل".
(1)
6 -
كتبت الصحف العثمانية على لسان قريش الذي نزل به القرآن ابتداءً وظل المسلمون يقرأون القرآن على حرف قريش إلى أن حصلت الاستزادة المشهورة بالرخصة في القراءة على سبعة أحرف، وهذا في دلالة أن القراءة استمرت على هذا الحرف زمنًا، وهذا لا شك يشير ويدلل على أن لغات العرب تندرج تحت الأحرف السبعة بلا شك.
المطلب الرابع: علاقة الأحرف السبعة برسم القرآن
(2)
هذا المبحث له تعلق وثيق بلغات العرب، والمعنى المقصود والمراد هنا من هذا المبحث هو رسم القرآن وفق الأحرف السبعة، أما لهجات العرب فتعلقها باللفظ المنطوق لا بالخط المرسوم، ذلك لأن اللهجات لا تؤخذ من الخط المرسوم، وإنما تؤخذ من طريقة اللفظ المنطوق.
الرسم في المفهوم اللغوي:
الرسم بمعنى المرسوم في اللغة، وأصله: الأثر، والمقصود هنا: أثر الكتابة في اللفظ.
ويرادفه الخط، وهو في اللغة: الطريقة المستطيلة في الشيء، وجمعه أخطاط وخطوط، ويرادفه كذلك الكتب بالقلم.
(3)
مفهوم الرسم العثماني:
ورسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان- رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقًا تمام الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير. لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفًا لأداء النطق وذلك لأغراض شريفة.
(4)
سبب نسبة الرسم إلى عثمان:
ونسبة هذا الرسم إلى عثمان ليست نسبةَ اختراع؛ وإنما نسب إليه لأنه هو الذي أذاعه في الآفاق وعمَّمه، بعد أن نقله من صحف أبي بكر الصديق ومما مع الصحابة، مع وفرة الشهود الذين
(1)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري:(1: 52).
(2)
- وللاستزادة في بحث الرسم العثماني يرجع إلى المبحث الرابع: "الرسم العثماني"، ففيه الغنية والكفاية بإذن الله.
(3)
- يُنظر: من لطائف البيان في رسم القرآن شرح مورد الظمآن؛ للشيخ أحمد محمد أبو زيتحار، القسم الأول، ص 13، ط/ قطاع المعاهد الأزهرية. بتصرف.
(4)
مناهل العرفان للزرقاني: (ص: 369).
شهِدوا بأن ما معهم كُتِب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكل ذلك لتكون كتابة المصحف على قاعدة كتابة النسخة الأولى النبوية إلى ما شاء الله.
(1)
من هنا يتبين لنا ما يلي:
أولًا: أن كون رسم المصحف كتب موافقًا للأحرف السبعة، فالمراد به طريقة رسم الكلمات وطريقة النطق بما هو مكتوب لا بما هو مسموع.
قال أبو العباس أحمد بن عمار التميمي المهدوي (ت: 430 هـ) رحمه الله:
أصح ما عليه الحُذاق أنَّ الذي يُقرأ الآن
(2)
بعض الحُروف السَّبعة المأذون في قِراءتها لا كُلها، وضابِطُه ما وافق رَسمَ المُصحَف.
(3)
وقول أبي العباس: (لا كُلها) لأن المعتمد في باقي الأحرف هو النقل الصوتي لأنه قاض على الرسم.
ثانيًا: أن المسموع الصوتي لابد فيه من التلقي عن طرق المشافهة فحسب، والمسموع الصوتي إنما يؤخذ بالتلقي والرواية بالإسناد المروي والمأخوذ مشافهة من كابرٍ عن كابرٍ من بداية السند إلى منتهاه، حتى ينتهي بمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: إنه لما كان مرسوم المصحف بحرف ولسان قريش يتعلق بالكلمات والألفاظ المكتوبة فحسب، فيستخلص من ذلك أنه يستحيل أن يحوي جميع أوجه الأحرف السبعة، لأن تلك الأوجه إنما تؤخذ بالمشافهة عن طريق التلقي بالرواية والإسناد عن أئمة الأداء ومشايخ الإقراء من أول السند إلى منتهاه برسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.
رابعًا: أن القرآن الكريم قد رسم في غالبه بلغة قريش، فمع هذا لا يمنع رسم طائفة من الحروف بلغة غيرها؛ لأن رسم المصحف قد احتوى على ما استقر من الحروف القرآنية في العرضة الأخيرة.
(4)
وفي نحو ذلك يقول مكيّ بن أبي طالب القيسي القيرواني (ت: 437 هـ) رحمه الله:
فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف. إذ لم يكن منقوطًا، ولا مضبوطًا. فذلك الاحتمال الذي احتمل الخط هو من الستة الأحرف الباقية.
(5)
(1)
- القول المنيف في تاريخ المصحف الشريف؛ للأستاذ الدكتور عبدالكريم إبراهيم صالح، ط/ كلية القرآن الكريم، ص 68.
(2)
يعني: في المصاحف.
(3)
- يُنظر: فتح الباري (19/ 36).
(4)
- القراءات القرآنية، عبد الحليم قابة، (ص: 144 - 146)، مقدمات في علم القراءات، د. أحمد القضاة، ود. أحمد شكري، ود. محمد خالد، (ص: 40).
(5)
- الإبانة، لمكي بن أبي طالب، (ص: 34).
فمقصود" القيسي" هنا بالحرف الواحد الذي كتب عليه المصحف هو حرف قريش، وأنه كتب محتملًا لباقي الأحرف السبعة.
وفي نحو هذا يقول ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي على جبرائيل متضمنة لها لم تترك حرفًا منها، (قلت): وهذا القول هو الذي يظهر صوابه.
(1)
فالأولى أن يقال:
جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
(2)
وقد مر بنا التنبيه على ذلك مرارًا في طيات البحث لأهميته.
ولذا فإن مصاحف الأمصار تعددت لاختلاف بعض الكلمات في المرسوم ولا يمكن أن تقرأ على عدة أحرف برسم واحد، وقد سبق ضرب أمثلة ذلك مرارًا، مثل:"ووصى"، و"أوصى" ونحوها.
خامسًا: ومما يدلل على بقاء ما ثبتت قراءته مما لم ينسخ من تلك الأحرف، بقاء أوجه القراءات المختلفة بالمصاحف العثمانية.
ويترتب عليه:
أن الله تعالى تكفّل بحفظ سائر الأحرف القرآنية التي أنزلها؛ لأن كل حرف منها بمنزلة الآية، فضياع شيء منها واندثاره يعني أن بعض أبعاض القرآن ضاعت، أو اندثرت. وهذا يتنافى مع مقتضى الحفظ الرباني للقرآن.
(3)
قال البَغوي (ت: 516 هـ) رحمه الله في "شَرح السُّنَة":
المُصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العَرضات على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمر- عُثمان- رضي الله عنه بِنَسخِه في المَصاحِف وجَمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قَطعًا لمادة الخِلاف فصار ما يُخالِفُ خَطَّ المُصحف في حُكم المَنسوخ والمَرفوع كسائِر ما نُسخ ورُفِع، فليس لأحدٍ أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارِج عَن رَّسم المُصحَف.
(4)
والذي يظهر للباحث أن البغوي رحمه الله في قوله:
(1)
- النشر، لابن الجزري، (1/ 175).
(2)
يُنظر: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية (ص: 178)، المنفعة فى مراحل، كريم شوقي بن عربي، دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع، 2018 م. وقد تكرر التنبيه على ذلك مرارًا لمسيس الحاجة لبيانه في موضعه.
(3)
حديث الأحرف السبعة وصلته بالقراءات القرآنية، الدكتور/ عبدالعزيز القارئ:(ص: 96).
(4)
يُنظر: فَتح الباري: (19/ 36: 37).
(فليس لأحدٍ أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارِج عَن رَّسم المُصحَف) يقصد بـ" المصحف" عموم المصاحف العثمانية، والله أعلم.
سادسًا: قد علمنا أن القراءة قاضية على الرسم لا العكس كما مر معنا، ومما يؤكد ذلك فعل عثمان رضي الله عنه في بعث المصاحف إلى الأمصار، فإنه أرسل مع كل مصحف قارئًا يقرأ بالمصحف الذي بين يديه وغالبًا ما كانت قراءته توافق ما كتب به المصحف الذي معه. فقيل أنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي (عبد الله بن حبيب) مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري.
(1)
سابعًا: لابد من التأكيد على أن الأداء اللفظي الصوتي هو الذي يُفَرَّقُ به بين اللهجات في طريقة النطق بها وطريقة الأداء لها، وأن المراد بـ "الأحرف" في أحاديث "الأحرف السبعة" هو الأداء الصوتي وما يتعلق بالأداء لا ما يتعلق بالمرسوم، مع كون النطق والأداء الصوتي لتلك الأحرف قاض على الرسم كما علمنا. والله أعلم.
المطلب الخامس: تلخيص المراد بالأحرف السبعة
ما ينبغي اعتقاده في الأحرف السبعة:
إن هذه الأحرف نزل بها القرآن من عند الله تعالى كما دلت على ذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحرف ليس فيها تضادٌّ ولا تنافٍ للمعنى، ولا إحالة ولا فساد؛
قال أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله:
وجملة ما نعتقده من هذا الباب وغيره: من إنزال القرآن، وكتابته، وجمعه وتأليفه، وقراءته، ووجوهه، ونذهب إليه ونختاره، أن القرآن مُنزَّل على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، وحقٌّ وصوابٌ، وأن الله تعالى قد خيَّر القُرَّاء في جميعها، وصوَّبهم إذا قرؤوا بشيء منها، وأن هذه الأحرف السبعة المختلف معانيها تارة، وألفاظها تارة مع اتِّفاق المعنى، ليس فيها تضادٌّ ولا تَنافٍ للمعنى، ولا إحالة ولا فساد، وأنَّا لا ندري حقيقة، أي هذه السبعة الأحرف كان آخر العرض أو آخر العرض كان ببعضها دون جميعها وأن جميع هذه السبعة أحرف قد كانت ظهرت واستفاضت عن النبي صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة على اختلافها عنه وتلقَّتْها منه، ولم يكن شيء منها مشكوكًا فيه، ولا مرتابًا به.
(2)
والخلاصة أن:
(1)
- ومن ذكر هؤلاء القراء الخمسة إنما ذكرهم على أن المصاحف المرسلة للأمصار كانت خمسة، وقد مر معنا في ثنايا البحث ذكر الخلاف الوارد في عدد المصاحف المرسلة للأمصار.
(2)
يُنظر: كتاب الأحرف السبعة؛ لأبي عمرو الداني، ص 149، ط مكتبة أولاد الشيخ.
1 -
الأحرف السبعة غير القراءات السبع، فالقراءات القرآنية كلها "السبع، والعشر" جزء من الأحرف السبعة
2 -
حديث الأحرف السبعة مشتهر ومعلوم عند العام والخاص من المسلمين فقد ثبتت صحته ونُقِلَ متواترًا بإجماع أهل العلم الثقات وهو مروي عن نيِّف وعشرين صحابيًا.
3 -
من المسلمات اليقينية المشتهرة أن الله عز وجل أنزل الأحرف السبعة رخصة للتسهيل والتهوين على الأمة لِيُقْرَأ بأي حرف منها، فلا يُلْزْم أحدٌ من الأمة استيعابها جميعًا، كما أنه لا يُلْزْم أحدٌ كذلك بحرف معين منها، فله أن يقتصر على حرف واحد منها، فأي حرف قُرِئ به فهو شاف كاف، فكل حرف منها قرآن منزل متعبد بتلاوته.
4 -
أن نزول القرآن على سبعة أحرف فيهـ " تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين؛ فقد كانت العرب قبائل متعددة، وكان بينها اختلاف وتباين في اللهجات واللغات وطريقة الأداء، فلو ألزمت الأمة بكيفية واحدة من كيفيات القراءة لشقّ ذلك على مجموع الأمة، وإن كان يخدم بعضها". (20).
5 -
الأحرف السبعة نزل بها كلها جبريلُ عليه السلام جميعًا وأقرأ بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا، وسمعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفًا طرفًا وأقرأ بها أصحابه كما
أقرأه بها جبريلُ عليه السلام، وليس للناس فيها أي اختيار أبدًا لأن كل حرف منها قرأن منزل ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إلا البلاغ عن رب العالمين.
6 -
كل ما ثبتت قراءته ولم ينسخ في العرضة الأخيرة من أوجه الاختلاف في القراءات القرآنية الواردة في الأحرف السبعة فهو باق في المصاحف العثمانية الموجودة بين أيدي الناس إلى زماننا الحاضر.
7 -
من أنكر حرفًا من الأحرف السبعة فقد أنكر القرآن المنزل
8 -
لم يأت في معنى هذه السبع نص ولا أثر، واختلف الناس في تعينيها.
(1)
.
9 -
الخلاف في المراد والمقصود من الأحرف السبعة واسع جدًا ولا يمكن لأحد الجزم بالقول بواحد من هذه الأقوال، وإن أقصى ما يُقال في ذلك أقرب الأقوال وأرجاها أن يكون القول الراجح فحسب.
(1)
-البرهان في علوم القرآن، الإمام الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 1/ ص 211، طبعة دار التراث، القاهرة.
10 -
إن أصح الأقوال وأولاها بالصواب في" الأحرف السبعة"، وهو الذي عليه أكثر العلماء، وصححه البيهقي، واختاره الأبهري وغيره، واختاره في القاموس.
(1)
، أن المراد بالأحرف
"أوجه من اللغات". وذلك لأن الحرف يطلق لغة على الوجه، ومنه قوله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)(الحج: 11).
المطلب السادس: موقف الرافضة من الأحرف السبعة
قد مر معنا بيان موقف علماء الرافضة من القرآن عمومًا ومن المصاحف العثمانية خصوصًا
(2)
، كما أنه قد مر معنا بيان أدلة تحريفهم القرآن من خلال أهم مصادرهم، وقد عرجنا على بعض ما صنفه أكابر مجرميهم في ادعائهم بـ"إثبات تحريف القرآن" بهتانًا وزورًا- كذلك-.
وها نحن نصل لنهاية هذا السفر المبارك لنختم به كشف عوار القوم المجرمين الذين كذَّبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا بتحريف كلامه المنزل سبحانه.
والقول بتحريف القرآن يُعد من أبرز عقائد الرافضة التي ذاعت وانتشرت عنهم وامتلأت بها مصادرهم الأصلية المعتمدة عندهم مما أملاه أئمة الضلال وسادة الزور والبهتان قديمًا وحديثًا،
كما إن مقالتهم بتحريف القرآن قد ذاعت وشاعت فيما أملاه أذنابهم من المعاصرين كذلك، ليعلنوا وليبرهنوا وليثبتوا بذلك أنهم شر خلف لشر سلف.
أبرز أقوال الرافضة وعقائدهم في الأحرف السبعة:
قبل الخوض في هذا المبحث الخاتم ولتصوره تصورًا كاملًا لابد أولًا من استحضار ما يلي ذهنيًا:
1 -
عقيدة الرافضة في القرآن عمومًا
2 -
عقيدتهم وأقوال أئمتهم في المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم وتلقتها الأمة بالقبول قاطبة
3 -
أباطيلهم في القول بإثبات تحريف القرآن وطعنهم فيه
4 -
ادعائهم بهتانًا وزورًا بأن عندهم مصحف فاطمة، وأنه ثلاثة أضعاف المصحف الذي بين أيدينا، وأن ليس فيه حرف واحد مما بين أيدينا
5 -
إذا كانت تلك عقائدهم في القرآن، فإن عقائدهم في الأحرف السبعة لا يُعد أمرًا مستغربًا ولا مستبعدًا من القوم المجرمين.
(1)
يُنظر: شعب الإيمان، للبيهقي:(2/ 421)، فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام:(2/ 168)، تفسير ابن عطية:(1/ 27)، البرهان، للزركشي:(1/ 309)، البحر المحيط، للفيروز آبادي: ص: 616) مادة (حرف)، الإتقان، للسيوطي:(1/ 321).
(2)
- وذلك في المطلب الخامس: "موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية"، من المبحث الثاني: انفاذ المصاحف العثمانية، من الفصل الثالث.
ولابد هنا من وقفات هامة، نذكرها إجمالًا على النحو التالي:
الوقفة الأولى: بيان حكم من أنكر حديثًا صحيحًا ثابتًا متواترًا
الوقفة الثانية: ثبوت حديث الأحرف السبعة ونقله بالتواتر
الوقفة الثالثة: بيان ذيوع حديث الأحرف السبعة واستفاضة شهرته عند الصحابة
الوقفة الرابعة: بيان أن الأحرف السبعة وحيٌ وقرآنٌ منزل من عند الله تعالى
الوقفة الخامسة والأخيرة: أبرز أقوال الرافضة وعقائدهم في الأحرف السبعة
ثم نذكرها تفصيلًا على النحو التالي:
الوقفة الأولى: بيان حكم من أنكر حديثًا صحيحًا ثابتًا متواترًا
لابد هنا من بيان مكانة السنة من الشرع وذكر دلالة حجيَّتها من الكتاب والسنة، ودلالة العقل السليم السوي، وبيان عَلاقتها بالقرآن الكريم، ثم لابد من نقل إجماع أهل العلم على حجيَّة السنَّة كذلك، ثم بيان حكم من كذب بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشروع في الكلام عن موقف الرافضة من الأحرف السبعة، وذلك كله لبلوغ الحجة ووضوح المحجة.
أولًا: بيان حجيَّة السنَّة النبوية وأنها المصدر الثاني من مصادر التشريع، وأنها وحيٌ كالقرآن
إذا كان القرآن الكريم هو المصدر الأوَّل والرَّئيس للتَّشريع، فإن السنة تُعد المصدر الثاني من مصادر التشريع، وقد بين الله سبحانه مكانة السنة في محكم آيات التنزيل؛ لتكون نبراسًا يستضيء به أهل الإيمان، ولتكون حجة على أهل الكفر والجحود والنكران.
أ- دلالة حجيَّة السنَّة النبوية من القرآن الكريم
لقد علم أهل الإيمان أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي البلاغ عن الله تعالى، فكل ما يبلغه فهو وحي من الله تعالى كما قال سبحانه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 - 4) وهذه الآية عامَّة لكل ما يَنطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد استدل بها أهل العلم على حجيَّة السنَّة؛ وأنها وحي كالقرآن.
وبما أن هذه الآية عامة، فهي تشمل كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم من وحيي التنزيل "كتابًا وسنة"، فالأصل في العموم أن يبقى على عمومه، ولا يُخصَّصَ إلا بدليل مخصص له.
قال الغزالي: (ت: 505 هـ) رحمه الله:
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة؛ لدلالة المعجزة على صدقه، ولأمر الله تعالى إيَّانا باتباعه، ولأنه لا يَنطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى، لكنَّ بعض الوحي يُتلى فيُسمَّى كتابًا، وبعضه لا يُتلى، وهو السنَّة.
(1)
قال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله:
وفيها أيضًا دلالة على أن السنَّة كالوحي المنزَّل في العمل.
(2)
وفي نحو ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق. فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه.
(3)
ولقد أوجب الله تعالى على جميع العباد التسليم التام والانقياد لكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون حصول أدنى تردد أو جود أي حرج في النفس كما قال ربنا تبارك وتعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء: 65).
ولقد بين الله تبارك وتعالى في هذه الآية أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسس ولوازم الإيمان، وأن مخالفته من علامات الشقاق النفاق، وقد جعلها سبحانه كذلك أصل أصيل في وجوب التحاكم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حال حياته، وإلى شريعته التي جاء بها من عند الله بعده مماته، مع وجوب الرضى بحكمه، وعدم التسخط أو التذمر منه أو الإنكار له، المصحوب بكمال الانقياد والتسليم لما قضى، ذلك لأنه يحكم ويشرع ويقضي بما أمره الله به، فهو مبلغ لرسالات الله، عن الله، لعباد الله.
(1)
- المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ)، تحقيق: محمد عبدالسلام عبدالشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1993 م، (ص: 104).
(2)
- تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي، شمس الدين القرطبي، (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م، (17/ 85).
(3)
- مجموع الفتاوى: (3/ 41).
ومن أبرز ما ورد في المناظرة المشهورة التي ناظر فيها عبدُ العزيز الكناني (ت 240 هـ) بِشرَ المريسي (ت 218 هـ)، ما يلي:
قال بشر المريسي:
فإنما أمر الله أن يُردَّ إليه، وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نردَّه إلى كتابه العزيز، وإلى سنة نبيه عليه السلام.
فأجابه عبدالعزيز الكناني قائلًا:
هذا ما لا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم، إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سُنَّته، وإنما يشكُّ في هذا الملحدون، وقد رُوي هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس، وعن جماعة من الأئمة.
(1)
وفي الآية أيضًا دلالة على حجيَّة السنَّة، ووجه الدلالة من الآية:
أن الله تعالى أقسم بنفسه الشريفة على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله صلى الله عليه وسلم في كلِّ نزاعٍ بينهم، وينتفي عن صدورهم الحرجُ والضِّيقُ عن قضائه وحُكمه، ويُسلِّموا تسليمًا".
(2)
وفي ذلك يقول ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حَكَمَ به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال:(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء: من آية: 65). أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة.
(3)
ولنا أن تأمل كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)
(1)
-الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن؛ عبدالعزيز الكناني؛ مكتبة العلوم والحكم: (ص: 32)
(2)
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 51). بتصرف يسير.
(3)
- تفسير ابن كثير: (2/ 349).
وفي هذه الآية دلالة على حجيَّة السنَّة - كذلك، ووجه الدلالة من الآية الكريمة:
أن سائر ما قُرِنَ فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أنَّ طاعةَ الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعةَ الرسول ما أمر به ونهى عنه ممَّا جاء به ممَّا ليس في القرآن، إذْ لو كان في القرآن لكان من طاعةِ الله، والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سُنَّته بعد موته.
(1)
ووجه آخر للدلالة من الآية الكريمة على حجية السنة:
أن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعاد الفِعْلَ إعلامًا بأنَّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً من غير عَرْضِ ما أمر به على القرآن، فتجب طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في القرآن أم لم يكن فيه.
(2)
ب- دلالة حجيَّة السنَّة النبوية من السنة المطهرة نفسها
لقد ورد في السنة المطهر الكثير من الأحاديث الدالة على حُجِّية السنة النبوية:
ومن ذلك ما ورد من ترهيب النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان براءته لمن ترك سنته ورغب عنها، فقد ثبت عند مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رغب عن سُنَّتي، فليس منِّي".
(3)
ولما كانت الأحاديث في هذا الباب أكثر من أن يحصيها مقال، فاكتفى الباحث بهذا الحديث لكونه من أجمع الأحاديث الدالة على حُجِّية السنة.
ثمَّ المحفوظ من أقضية الصحابة وتعامُلاتهم شاهدٌ على اعتمادهم سنةَ النبيِّ وهدْيَه، وبعدهم التابعون ومَنْ بعدهم، ومَن يطالع الكتب المسندة التي جمعت أخبارهم، يجد ذلك صريحًا؛ كالجوامع والمصنَّفات، وغيرها من الكتب.
ومن العقل:
لا يمكن الاستقلال بمعرفة الدين الإسلاميِّ عن طريق القرآن الكريم فقط، فمن أراد الإسلام وشرائعه: من أين يأخذ أعداد الصلوات وكيفيتها، أو الحج والصيام والزكاة، وغيرها من شرائع الإسلام؟!
فعَلاقة السُّنة النبوية بالقرآن الكريم تأتي في عدة صور، على النحو التالي:
1 -
تأتي السنة النبوية مؤكِّدةً لبعض الأحكام: كالأمر بالصلاة والزكاة.
(1)
- الموافقات في أصول الفقه، (4/ 14) بتصرف يسير.
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، (1/ 48).
(3)
- رواه مسلم، كتاب النكاح، حديث:(3469).
2 -
وقد تأتي مُفسِّرة للقرآن: كما في هيئات الصلاة، ومقادير الزكاة، وغيرهما.
3 -
كذلك تأتي مُخصِّصة لعموم القرآن: كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (المائدة: 3)؛ فجاء الحديث وخصَّص الكَبِد، والطِّحال، والسمك، والجراد.
4 -
وقد تكون مُقيِّدة لحكم مُطلق: كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38)، فهل نقطع كلتا اليدين؟ وهل هو من الكتفين؟ فجاءت السُّنة النبوية فقيَّدت مكان القطع.
5 -
وأخيرًا تأتي مستقلَّة بإضافة حكم جديد: فقد تُضيف السنة النبوية بعضَ الأحكام التي لم تُذْكَر في القرآن الكريم؛ كما في رجم الزاني المحصن، أو ميراث الجدَّة، أو تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، أو تحريم الرضاع بالنسب وأصنافه، وغيرها من الأحكام.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
فهذه النصوص توجب اتباع الرسول وإن لم نجد ما قاله منصوصًا بعينه في الكتاب، كما أنَّ تلك الآيات توجب اتباع الكتاب وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصًا بعينه في حديث عن الرسول غير الكتاب، فعلينا أن نتَّبع الكتاب وعلينا أن نتَّبع الرسول، واتباع أحدهما هو اتباع الآخر؛ فإنَّ الرسول بلَّغ الكتاب، والكتاب أمر بطاعة الرسول، ولا يختلف الكتاب والرسول البتة، كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضًا؛ قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82).
(2)
ثانيًا: إجماع أهل العلم على حجيَّة السنَّة
أجمعت أمة الإسلام قاطبة؛ من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين - على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها، والتحاكم إليها، والسَّير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين؛ بل لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين يُنكر الاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها إلاَّ نفرًا ممَّنْ لا يُعتدُّ بخروجهم على إجماع المسلمين من الخوارج، والروافض، ومَنْ نحا نحوهم وشذَّ شذوذهم من دعاة الإلحاد في عصرنا.
(3)
(1)
- مكانة السنة النبوية في الإسلام ومدى حجيتها (2)، د. ثامر عبد المهدي محمود حتاملة، موقع الألوكة، بتاريخ: 24/ 1/ 1439 هـ.
(2)
مجموع الفتاوى: (19/ 86).
(3)
- يُنظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (1/ 481)؛ السنة النبوية حجية وتدوينًا، (ص: 112).
كان الصحابة رضوان الله عليهم في حياته صلى الله عليه وسلم يتبعون كل ما صدر منه في الأحكام الشرعية، لا يختلف في ذلك واحد منهم، فيقبلون بتسليم عام بأقواله، واتباع كامل لأفعاله.
(1)
وقد نُقل الإجماع على حجية السنة جمع غفير من العلماء، منهم:
1 -
الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (101 هـ)
(2)
2 -
الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ)
(3)
3 -
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم- الأندلسي (ت: 456 هـ)
(4)
4 -
الإمام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر (ت: 463 هـ)
(5)
5 -
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت: 725 هـ)
(6)
6 -
الإمام ابن قيّم الجوزية (ت: 751 هـ)
7 -
خليل بن كيكلدي العلائي
(7)
8 -
الإمام محمد بن على الشوكاني (ت: 1250 هـ)
9 -
العلامة جمال الدين القاسمي (ت: 1283 هـ)
(8)
(1)
- يُنظر: تفسير الطبري/ للإمام محمد بن جرير الطبري (4/ 150) بيروت. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 190) المكتبة العلمية - المدينة النبوية.
(2)
-مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للسيوطي (ص 21) دار السلام، ط. الأولى. (1/ 20)
(3)
- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة؛ للسيوطي: (ص: 34).
(4)
-الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الأندلسي:(1/ 94).
(5)
التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد؛ ابن عبد البر القرطبي: (1/ 2).
(6)
- مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(20/ 232).
(7)
- أبو سعيد العلائي، صلاح الدين، خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي الشافعي الأشعري. مفسر ومحدث وفقيه ونحوي وأديب ومؤرخ.
ولد سنة 694 هـ في دمشق وتعلم فيها، ورحل رحلة طويلة. ثم أقام في القدس زمانا وعمل مدرسا في الصلاحية سنة 731 هـ، وتوفي في القدس سنة 761 هـ. ودفن بمقبرة باب الرحمة.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
الأعلام - خير الدين الزركلي
2 -
الوفيات - محمد بن رافع السلامي
3 -
الوافي بالوفيات - صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي
4 -
أعيان العصر وأعوان النصر - صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي
5 -
طبقات الشافعية - أبو بكر بن أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة
6 -
طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين عبد الوهّاب بن تقي الدين السبكي
(8)
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان عدد الأجزاء: 1
10 -
العلامة الأصولي عبد الوهاب خلاف (ت: 1375 هـ)
(1)
11 -
حافظ بن أحمد الحكمي (ت: 1377 هـ)
(2)
12 -
عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي اليماني (ت: 1386 هـ).
ونصطفي من أبرز ما قيل في ذلك فيما يلي:
1 -
قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (ت: 101 هـ) رحمه الله:
إن رأس القضاء اتِّباعُ ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
2 -
قال الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) رحمه الله:
ولا أعلم من الصَّحابة ولا التَّابعين أحدًا أخبر عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا قبل خَبره وانتهى إِليه، وأثبت ذلك سنة
…
وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم، كلُّهم يُثبت الأخبار، ويجعلها سُنةً، يُحمد من تبعها، ويُعاب من خالفها، فمن فارَقَ هذا المذهب، كان عندنا مفارقَ سبيلِ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهلِ العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة
(4)
3 -
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم- الأندلسي (ت: 384 هـ) رحمه الله:
والبرهان على أنَّ المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآنِ، والخَبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الأُمَّة مُجمِعة: على أنَّ هذا الخطاب
(5)
متوجِّه إلينا، وإلى كلِّ مَنْ يُخلق ويُركَّب روحُه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنة والناس، كتوجُّهِه إلى مَنْ كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلِّ مَنْ أتى بعده عليه السلام وقبلنا، ولا فرق.
(6)
4 -
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر (ت: 463 هـ) رحمه الله:
وأجمع أهلُ العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت - على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميعُ الفقهاء في
(1)
علم أصول الفقه: (ص: 39).
(2)
- سلم الوصول: (ص: 261).
(3)
- جامع بيان العلم لابن عبد البر: (2/ 30)، مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للسيوطي (ص: 21) دار السلام، ط. الأولى.
(4)
- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة؛ للسيوطي: (ص: 34).
(5)
- يعني في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59).
(6)
-الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الأندلسي:(1/ 94).
كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تُعدُّ خلافًا.
(1)
5 -
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - (ت: 725 هـ) - رحمه الله:
وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سُنَّتِه دقيق ولا جليل، فإنَّهم مُتَّفقون اتِّفاقًا يقينيًّا: على وجوب اتِّباع الرسول، وعلى أنَّ كلَّ أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
6 -
قال الإمام ابن قيّم الجوزية (ت: 751 هـ) رحمه الله:
فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ كُلِّهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلُّ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113) فَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ
مَعَهُ)
(3)
، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ السُّنَّةَ كَمَا أُوتِيَ الْكِتَابَ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ؛ لِيُقِيمَ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
(4)
7 -
قال العلامة جمال الدين القاسمي (ت: 1283 هـ) رحمه الله:
انتهى العلماء المحققون إلى أن الحديث الصحيح حجة على جميع الأمة، وأيدوا رأيهم هذا بالآيات القرآنية التي تفرض على المؤمنين اتباع الرسول عليه السلام، والتسليم لحكمه، ورأوا مَنْ يحكي خلاف هذا المذهب غيرَ خليقٍ بالانتساب إلى العلم وأهله، وإن نسب نفسه أو نَسَبَتْه العامة إلى سعة المعرفة والتفقه في الدين.
(5)
8 -
قال الإمام محمد بن على الشوكاني (ت: 1250 هـ) رحمه الله:
والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الاسلام.
(6)
(1)
التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد؛ ابن عبد البر القرطبي: (1/ 2).
(2)
- مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(20/ 232).
(3)
- صححه الألباني في صحيح أبي داود برقم: (4604)، وهو مروي عن المقدام بن معدي كرب، والحديث وله شواهدٌ عدَّة.
(4)
- مختصر الصواعق المرسلة: (2/ 37).
(5)
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث/ للعلامة القاسمي (ص 263).
(6)
ارشاد الفحول: (ص: 33).
9 -
قال العلامة الأصولي عبد الوهاب خلاف
(1)
رحمه الله:
أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودًا به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أن الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين
(2)
10 -
وقال حافظ بن أحمد الحكمي (ت: 1377 هـ) رحمه الله:
الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلًا تستمد منه الأحكام، فإن المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة.
(3)
ثالثًا: حكم من كذب بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
هذا وقد أجمع العلماء على كفر من كذَّبَ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ورده، وكذلك كفر كل من أنكر حجية السنة، وذلك لإنكاره معلومًا من الدين بالضرورة، ولأن معتقد ذلك لم يحقق
أدنى درجات الإسلام والاستسلام لله والانقياد لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يُحْكَمُ بكفر إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وبلوغ الحجة ووضوح المحجة.
فـ" الذي ينكر العمل بالسنة يكون كافرًا؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين ".
(4)
1 -
قال الإمام إسحاق بن راهويه (ت: 283 هـ) رحمه الله:
مَنْ بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر.
(5)
ويقول الإمام البربهاري (ت: 329 هـ) في "شرح السنة":
وإذا سمعت الرجل يطعن على الأثر، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار: فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع.
وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقمْ من عنده وودّعه.
(6)
(1)
عبد الوهاب خلاف (1305 - 1375 هـ) = (1888 - 1956 م)
هو المحدث الأصولي، الفقيه، الفرضي عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وصاحب المؤلفات الكثيرة خصوصًا في علم أصول الفقه. تُنظر ترجمته بتوسع في كل من: المكتبة الشاملة، والموسوعة الحرة.
(2)
علم أصول الفقه: (ص: 39).
(3)
- سلم الوصول: (ص: 261).
(4)
نقلًا عن: فتاوى اللجنة الدائمة "المجموعة الثانية": (3/ 194).
(5)
- الإحكام في أصول الأحكام (ص 89).
(6)
- شرح السنة: (113 - 119) باختصار.
2 -
ويؤكد ذلك العلامة ابن الوزير (ت: 822 هـ) رحمه الله بقوله:
التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح.
(1)
3 -
قال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
اعلموا رحمكم الله أنَّ مَن أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولًا كان أو فعلًا بشرطه المعروف في الأصول -حجة- كفر-، وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو من شاء من فرق الكفرة.
(2)
وإنما حَكَمَ العلماءُ بكفر مكذب الحديث الشريف ومنكر السنة المطهرة، لأن الإيمان بالسنة والتصديق بها يُعَدُ أصلًا أصيلًا من أصول الشرع ومصدر رئيس من مصادره الأصلية بعد القرآن، واعتقاد ذلك والإيمان به أمر عقدي لأنه مقترن بالإيمان برسالة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله تبارك وتعالى.
ولقد أوجب الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع شتى من كتابه، وجعلها مقترنة بطاعته سبحانه وملازمة لها في آيات كثيرة، وتوعد سبحانه تارك طاعته صلى الله عليه وسلم بنار جهنم كما مر معنا في طيات البحث.
الوقفة الثانية: ثبوت حديث الأحرف السبعة ونقله بالتواتر
بعد ما تبين لنا مكانة السنة من الدين، ونقل إجماع العلماء على حجيتها، وحكم منكرها، فها نحن ها هنا نعرج على ثبوت حديث الأحرف السبعة ونقله بالتواتر.
لقد مر معنا ذكر تواتر حديث الأحرف السبعة، وأن صحته قد ثبتت وبلغت أعلى درجات الصحة والثبوت، وأنه قد نُقِلَ متواترًا بإجماع أهل العلم الثقات، وبلوغه حد التواتر يفيد العلم اليقيني المقطوع بثبوته وصحته، وهو مروي عن نيِّف وعشرين صحابيًا، وقد نقله العدول الثقات الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة من أول السند إلى منتهاه، وقد رواه عنهم إماما المحدثين البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة بإجماع جماهير أهل السنة من السلف والخلف قاطبة. وأحاديث الأحرف السبعة قد روى البخاري بعضها في صحيحه وبوب لها بابًا خاصًا أسماه "باب أنزل القرآن على سبعة أحرف"، كما قد بوب النووي رحمه الله كذلك في شرحه لصحيح مسلم بابًا أسماه "باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه"، كما أن روايات أحاديث الأحرف السبعة قد رويت في غير الصحيحين من دواوين السنة بسند صحيح كذلك، فقد رواها أصحاب السنن والمسانيد وبوبوا لها أبوابًا كما بُوِبَ لها في الصحيحين.
الوقفة الثالثة: بيان ذيوع حديث الأحرف السبعة واستفاضة شهرته عند الصحابة رضي الله عنهم
-:
(1)
- يُنظر: العواصم والقواصم: (2/ 274).
(2)
يُنظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للسيوطي (ص: 14).
من أعظم ما يدل على شهرة حديث الأحرف السبعة عند الصحابة رضي الله عنهم، عناية كتب السنة بإخراجه والتبويب له بباب خاص.
وقد روى عن نيِّف وعشرين صحابيًا كما أسلفنا، وهذا وحده كاف في إثبات ذيوع حديث الأحرف السبعة واستفاضة شهرته عند الصحابة رضي الله عنهم.
فإن اُحْتُّجَ على هذا الاشتهار بقصة عمر وهشام بن حكيم في اختلاف قراءتيهما في سورة الفرقان، وأن هشامًا من مسلمة الفتح، وأن ذلك كان قُبيل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى بعامين، وكذلك ما وقع لأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
أجيب عنه بأمور منها:
1 -
أن قصة عمر مع هشام، وما وقع لأبي بن كعب مع ابن مسعود، كانتا بداية شيوع وانتشار خبر حديث الأحرف السبعة وشيوعه عند الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
2 -
أن كون الرخصة في القراءة بالأحرف السبعة وإن كان في أواخر العهد المدني، فإن هذا لا يمنع من ذيوعه وانتشاره بعد ذلك لدواعي توافر وجود الصحابة رضي الله عنهم وانتشارهم في الأمصار للدعوة والجهاد في سبيل الله بعد عهد النبوة المبارك.
3 -
ومما يجاب به عن ذلك أيضًا: موقف حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، لما رأى اختلاف القراء الذين لم يشهدوا عهد التنزيل وقت الفتوحات الإسلامية في غزوة أرمنية وأذربيجان، ولم يعلموا بنزول القرآن على سبعة أحرف، فأنكر عليهم ورفع أمرهم لإمام المسلمين وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
4 -
ومن أعظم ما يجاب به كذلك ما ثبت عند أبي يعلى بسند صحيح عن أبي المنهال قال: بلغنا أن عثمان رضي الله عنه قال يومًا وهو على المنبر: أذكر الله رجلًا سمع النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف"
(1)
، فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم.
(2)
ولا يشك مؤمنٌ بالله تعالى أبدًا في أن الروافض أهل وزر وبهتان، وأثر أبي المنهال من الشواهد الحسان والسهام التي يرمى بها أهل النفاق والشقاق وسوء الديانة والأخلاق ممن ليس لهم في الآخرة من خلاق.
(1)
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، (ص: 1087)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف (1/ 560).
(2)
المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي (3/ 120).
الوقفة الرابعة: بيان أن الأحرف السبعة وحيٌ وقرآنٌ منزل من عند الله تعالى
لقد مر معنا ذكر ذلك وبيانه كثيرًا في ثنايا البحث في غير ما موضع، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
(1)
.
فدل هذا الحديث كما دل ما في معناه من الأحاديث الواردة في هذا الشأن على ما يلي:
أولًا: أن الأحرف السبعة كلها من القرآن الذي أوحاه الله تبارك وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، فكان جبريل عليه السلام يقرأ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي ويستمع حتى ينتهي جبريل، فيعيد قراءة ما سمعه منه قبل أن ينصرف عنه فيحفظه، وتلك الطريقة هي المتبعة في كل ما تلقَّاه من الوحي ويؤيد هذا قوله تعالى:(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)) (القيامة: 16 - 19)، ولا شك في أن هذا عام في كل ما تلقَّاه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام.
ثانيًا: أن من قرأ بحرف من الأحرف السبعة، فإنما يقرأ قرأنًا منزلًا ويتلو وحيًا من عند الله تعالى، وقد أصاب بذلك الصواب أيَّاً كان ذلك الحرف المقروء به، كما دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لكل من عمر وهشام لما قرأ كل منهما بحرف مخالف للآخر من سورة الفرقان:"هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ القرآنَ أُنزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ".
(2)
.،
وكما دل عليه كذلك قول جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فأيُّما حَرْفٍ قَرَؤُوا عليه فقَدْ أَصَابُوا. "
(3)
.
فهذا الحديث يدل كذلك على أن أيّ حَرفٍ قَرَؤوا عليه، فَقدْ أصابوا الحق، ووافَقُوا الصَّوابَ.
وفي نحو ذلك يقول أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: (ت: 444 هـ) رحمه الله:
جميع هذه السبعة أحرف قد كانت ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة على اختلافها عنه، وتلقيها منه.
(4)
ثالثًا: أنه لا فرق بين هذه الأحرف في الفضل والقدر والمنزلة، لأنه لم يخرج بأي حرف قرئ به منها عن كونه من الوحي المنزل بلسان عربي مبين.
(1)
روى البخاري (3219)، ومسلم (819).
(2)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
(3)
رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه برقم: (821).
(4)
- جامع البيان، لأبي عمرو الداني:(1/ 67).
رابعًا: أن الأحرف السبعة كلها على اختلاف نطقها وصفة قراءتها هي كلام الله، ولا دخل لمخلوق فيها البتة، فكلها وحيٌ من عنده الله، قد تلقَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّها عن جبريل عليه السلام، ولمَّا كانت تلك الأحرف من القرآن المنزل فهي محفوظة من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان كما قال ربنا سبحانه:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9).
وفي نحو ذلك يقول ابن قتيبة الدِّيْنَوَرِي (ت: 276 هـ) رحمه الله:
وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام، وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم.
(1)
وفي نحو ذلك يقول ابن عطية الأندلسي (ت: 546 هـ) رحمه الله أيضًا -:
فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الرصف، ولم تقع الإباحة في قوله صلى الله عليه وسلم (فاقرؤوا ما تيسر منه)
(2)
بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه.
ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرضًا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته، فقرأه مرة لأُبيّ بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضًا.
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة كل منهما وقد اختلفتا:(هكذا أنزلت)
(3)
، هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة.
(4)
وقول ابن عطية: (ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن) حجة قوية الدلالة على كل مخالف.
(1)
تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة:(ص: 94).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، (ص: 1087)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف (1/ 560).
(3)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
(4)
المحرر الوجيز: (1/ 45). بتصرف يسير.
وفي نحو ذلك أيضًا يقول البغوي (ت: 516 هـ) رحمه الله:
ولا يكون هذا الاختلاف داخلاً تحت قوله سبحانه وتعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرًا)(النساء: 82)، إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله عز وجل، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه قوله عليه السلام:(إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)، فجعل الأحرف كلها منزلة.
(1)
فقول البغوي: (إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة).
هو ردٌ رصين:
يرد فيه هنا على من زعم أن الأحرف السبعة رخصة تقرأ بها كل قبيلة بلهجتها الخاصة من قِبَلِ نفسها، مدعين أن أمر الأحرف السبعة لو كان مقصورًا على المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، حتى لو كان ذلك في صفة الأداء، إذًا لانتفت الحكمة التي من أجلها كانت الاستزادة من تلك الأحرف، والتي كانت من أبرزها الرفق بالضعفاء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل بقوله:"إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابًا قط"
(2)
.
فيؤخذ من فحوى كلامهم أنه يباح لكل قبيلة أن تقرأ بالمرادف ولو لم يكن له مسموعًا، أي دون أن يكون الأمر بالرواية والسماع بلفظ متلقى من النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الخامسة والأخيرة: أبرز أقوال الرافضة وعقائدهم في الأحرف السبعة
كانت الوقفات السابقة بمثابة مقدمة بين يدي هذه الوقفة الخامسة والخاتمة والأخيرة، فلسنا هنا في حاجة لتقدمة أخرى وللننتقل لأبرز أقوال الرافضة وعقائدهم في الأحرف السبعة مباشرة.
أقوال الرافضة وعقائدهم في الأحرف السبعة:
أولًا: روايات أحاديث "الأحرف السبعة من طرق أهل البيت عند "الرافضة
"
لقد مر معنا ذكر تواتر حديث الأحرف السبعة، وأن صحته قد ثبتت وبلغت أعلى درجات الصحة والثبوت، وأنه قد نُقِلَ متواترًا بإجماع أهل العلم الثقات، وبلوغه حد التواتر يفيد العلم اليقيني المقطوع بثبوته وصحته، كما بينا أنه مروي عن نيِّف وعشرين صحابيًا، وقد رواه عنهم إماما المحدثين البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة بإجماع جماهير أهل
(1)
- شرح السنة: للبغوي: (3/ 45).
(2)
- رواه الترمذي، كتاب القرآن ح (9).، وأخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رقم (23446)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره، إسناده حسن.
السنة من السلف والخلف قاطبة، كما أنه قد رواه أصحاب السنن والمسانيد بأسانيد صحيحة كذلك.
ونعرج ها هنا على أبرز روايات أحاديث الأحرف السبعة عند الرافضة
ورواياته عندهم على النحو التالي:
الرواية الأولى: رواية القمّي حيث رواها في: "الخصال
"
عن حمّاد بن عثمان قال: قلتُ لأبي عبد الله: إن الأحاديث تختلف عنكم! قال: فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه.
(1)
نقضهم للرواية الأولى:
تعاني هذه الرواية من ضعف السند؛ إذ في سندها محمد بن يحيى الصيرفي، وهو مجهولٌ، ولم يَرِدْ فيه توثيقٌ، ولا مدحٌ أو ذمّ.
(2)
مع اشتماله من حيث الدلالة على شيء من الإجمال؛ إذ لم يعلم ما إذا كان المراد من "الأحرف السبعة" في هذه الرواية هو الوجوه اللفظية، أو القراءات المختلفة.
وقد قال الشيخ معرفت
(3)
في بيان مفاد هذه الرواية:
إن العلماء فسَّروا "الأحرف" في هذا الحديث بمعنى البطون.
(4)
الرواية الثانية: رواية القمّي حيث رواها في: "الخصال" -أيضًا
-
عن عيسى بن عبد الله الهاشمي، عن أبيه، عن آبائه، قال: قال رسول الله: أتاني آتٍ من الله فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: يا ربِّ، وسِّعْ على أمتي؛ فقال: إن الله
عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفٍ واحد، فقلتُ: يا ربِّ، وسِّعْ على أمتي؛ فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفٍ واحد، فقلتُ: يا ربِّ، وسِّعْ على أمتي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف.
(5)
نقضهم للرواية الثانية:
(1)
محمد بن عليّ بن الحسين القمّي (الشيخ الصدوق)، الخصال: 358، ح 43.
(2)
محمد بن عليّ الأردبيلي الغروي الحائري، جامع الرواة 2:217.
(3)
- محمد هادي معرفة: (ت: 1427 هـ)
(4)
- معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 86؛ علوم قرآني: 202.
(5)
الصدوق، الخصال: 358، باب السبعة، ح 43.
وفي سند هذا الحديث أحمد بن هلال. وقد ورد فيه الذمّ كثيرًا من قبل الإمام العسكري. وجاء في فهرست الشيخ الطوسي أنه كان غاليًا، ومتَّهمًا في دينه.
(1)
وقال الأستاذ معرفت
(2)
حول مفاد هذا الحديث:
إن الأحرف في هذا الحديث تعني مختلف لهجات العرب، كما ورد ذلك في أحاديث أهل السنَّة أيضًا.
(3)
الرواية الثالثة: رواية الصفّار، حيث رواها في: "بصائر الدرجات
"
عن زرارة، عن أبي جعفر، قال: تفسير القرآن على سبعة أحرف؛ منه ما كان؛ ومنه ما لم يكُنْ بعد، ذلك تعرفه الأئمّة.
(4)
نقضهم للرواية الثالثة:
إن لهذا الحديث ظهورًا في بطون القرآن والوجوه المعنوية، دون اللفظية؛ ولذلك لا صلة له بمسألة القراءات، وخاصّة أنه قد ورد في بعض الروايات "سبعة أوجه"، بدلاً من "سبعة أحرف".
(5)
ومضافًا إلى ذلك في سنده تردُّد بين ابن أبي عمير وغيره.
(6)
ثانيًا: أقوال علماء الطائفة
(7)
حول الأحرف السبعة -عليهم من الله ما يستحقوا
-
القول الأول: قول شيخ الطائفة الطوسي:
(8)
حيث قال في "التبيان
":
(1)
انظر: رجال ابن داوود الحلّي: 203؛ الأردبيلي، جامع الرواة 1:74.
(2)
محمد هادي معرفة: (ت: 1427 هـ)
(3)
معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 86؛ علوم قرآني: 202.
(4)
محمد بن الحسن الصفّار، بصائر الدرجات:216.
(5)
يُنظر: المصدر نفسه، هامش المصحِّح؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 89:98.
(6)
يُنظر: المصدر السابق، حجِّية القراءات، بحوث و دراسات- مطالعةٌ في جهود العلاّمة معرفت، د. الشيخ علي أصغر ناصحيان، عن موقع: مركز البحوث المعاصرة- بيروت، بتاريخ: 7/ 6/ 2018 م.
(7)
- وهم الشيعة الاثني عشرية أو الإمامية أو الجعفرية هم طائفة دينية، وعادة فإن لفظة الشيعة إذا قيلت مطلقة دون تخصيص فإن الذهن ينصرف نحو الاثني عشرية لكونها الطائفة الكبرى من حيث عدد الأتباع من بين الطوائف الشيعية الأخرى، وتُسمَّى الذين أطلقت عليهم هذه التسمية تمييزًا لهم عن الطوائف الأخرى التي تحمل اسم الشيعة كالزيدية والإسماعيلية، ولاعتقادهم بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على اثني عشر إمامًا خلفاءَ من بعده، فكانت عقيدة الإمامة هي الفارق الرئيسي بينها وبين بقية الطوائف الإسلامية. نقلُا الموسوعة الحرة.
(8)
- أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (385 - 460 هـ/ 995 - 1050 م) المعروف بشيخ الطائفة، والشيخ الطوسي مؤلف كتابين من الكتب الأربعة ومن كبار المتكلمين والمحدثين والمفسرين والفقهاء الشيعة. قدم إلى العراق من خراسان في سن الثالثة والعشرين وتتلمذ على أعاظم العلماء هناك كالشيخ المفيد و السيد المرتضي. أسند إليه الخليفة العباسي كرسي كلام بغداد.
للاستزادة من ترجمته يُنظر: كرجي، تاريخ فقه وفقهاء:(ص: 183).
" واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا والشائع من أخبارهم ورواياتهم: أن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد.
(1)
القول الثاني: قول أمين الإسلام الشيخ الطبرسي
(2)
حيث قال في "مجمع البيان
":
الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على القراءة المتداولة وكرهوا تجريد قراءة مفردة والشائع في أخبارهم أن القرآن نزل بحرف واحد.
(3)
القول الثالث: قول الفيض الكاشاني
(4)
حيث قال في "تفسير الصافي
":
أقول: والتوفيق بين الروايات كلها أن يقال: إن القرآن سبعة أقسام من الآيات وسبعة بطون لكل آية ونزل على سبع لغات. وأما حمل الحديث على سبعة أوجه من القراءات، ثم التكلّف في تقسيم
(1)
التبيان في تفسير القرآن (1/ 7)، ويُنظر: إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف: (ص: 169).
(2)
-أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي المعروف بأمين الإسلام، من أبرز علماء الشيعة الإمامية في القرن السادس الهجري. له مصنفات كثيرة منها تفسير مجمع البيان الذي يعد من التفاسير المهمة عند الشيعة.
ولد أمين الدين (أو أمين الإسلام) أبو علي، الفضل بن الحسن الطبرسي في مدينة مشهد سنة 468 أو 469 هـ ونشأ في بيت عرف أهله بالفضل والعلم. أخذ العلم من مشايخ عصره الأجّلاء حتى صار عالمًا شامخًا من أعلام الإمامية. وقد اشتغل في علم اللغة، والاشتقاق، والمعاني والبيان، والتاريخ، والحساب، والجبر والمقابلة، وله مؤلفات كثيرة.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
تاريخ بيهق تعريب؛ البيهقي، ظهير الدين:(1/ 438).
2 -
أعيان الشيعة؛ السيد محسن الأمين: (8/ 398).
3 -
الكنى والألقاب؛ الشيخ عباس القمي: (2/ 444).
4 -
أفندي، عبد الله، رياض العلماء وحياض الفضلاء، قم، مطبعة الخيام، 1401 هـ.
5 -
الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق: السيد حسن الأمين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1406 هـ.
(3)
مجمع البيان ج 1 ص 79.
(4)
-الملا محمد بن مرتضى بن محمود الكاشاني، (1007 هـ-1091 هـ) المعروف بالملا محسن، والملقب بالفيض الكاشاني، حكيم ومحدث ومفسر للقرآن وفقيه شيعي، ينتمي الى المدرسة الإخبارية، عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وقد تتلمذ عند أكابر العلماء في عصره من أمثال الملا صدرًا، والشيخ البهائي، والمير فندرسكي، والمير داماد.
للاستزادة من ترجمته يُنطر:
1 -
أفندي، عبد الله، رياض العلماء وحياض الفضلاء، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، قم، مطبعة الخيام، 1401 هـ.
2 -
الخوانساري، محمد باقر، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق: أسد الله اسماعيليان، قم، د. ن، د. ت.
3 -
الفيض الكاشاني، الوافي، تصحيح وتعليق: ضياء الدين الحسيني، أصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين، 1412 هـ.
4 -
لا ديوان الفيض الكاشاني، انتشارات أُسوة، شرح وتقديم: مصطفى فيضي الكاشاني، طهران، د. ن، د. ت.
5 -
الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرايع، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، قم، مجمع الذخائر الإسلامية، 1401 هـ
وجوه القراءات على هذا العدد - كما نقله في مجمع البيان عن بعضهم - فلا وجه له، مع أنه يكذبه ما رواه في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة.
وبإسناده عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال: كذبوا أعداء الله و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. ومعنى هذا الحديث معنى سابقه، و المقصود منهما واحد و هو: أن القراءة الصحيحة واحدة، إلا أنه عليه السلام لما علم أنهم فهموا من الحديث الذي رووه صحة القراءات جميعًا مع اختلافها كذّبهم. وعلى هذا فلا تنافي بين هذين الحديثين و شيء من أحاديث الأحرف أيضًا.
(1)
القول الرابع: قول المحقق الهمداني
(2)
حيث قال في: "مصباح الفقيه
":
والحق إنه لم يتحقق أن النبي صلى الله عليه وآله قرأ شيئًا من القرآن بكيفيات مختلفة بل ثبت خلافه فيما كان الاختلاف في المادة أو الصورة النوعية التي يؤثر تغييرها في انقلاب ماهية الكلام
عرفًا كما في ضم التاء من أنعمت ضرورة أن القرآن واحد نزل من عند الواحد كما نطقت به الأخبار المعتبرة المروية عن أهل بيت الوحي والتنزيل مثل ما رواه ثقة الإسلام الكليني.
(3)
(1)
- الصافي: (1/ 61).
(2)
الشيخ رضا بن محمد هادي الهمداني النجفي (ت: 1322 هـ). هو فقيه ومرجع شيعي إيراني كان يستوطن العراق، وهو مشهور بتأليفه كتاب مصباح الفقيه حتى صار يُقال له صاحب المصباح. وكان من تلامذة محمد حسن الشيرازي، وقد تسنَّم المرجعية بعد وفاته إذ كتب حاشية على رسالته العملية الموسومة بنجاة العباد، ثم كتب رسالته العمليَّة التي أسماها ذخيرة الأحكام.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
كحالة، عمر، معجم المؤلفين (9/ 317)
2 -
الأمين محسن، أعيان الشيعة:(7/ 20)
3 -
الطهراني، آغا بزرگ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة:(10/ 12).
(3)
- مصباح الفقيه: (2/ 275).
القول الخامس: قول حجة الله البلاغي
(1)
حيث قال في "آلاء الرحمن في تفسير القرآن
":
ولا تتشبث لذلك بما روي من أن القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن. أما أولًا فقد قال في الإتقان
(2)
في المسألة الثانية من النوع السادس عشر: اختلف في معنى السبعة أحرف على أربعين قولًا و ذكر منها عن ابن حيان خمسة
وثلاثين. وما ذاك إلا لوهن روايتها و اضطرابها لفظًا و معنى. وفي الإتقان
…
فذكر باقي الأدلة.
(3)
القول السادس: قول الطباطبائي
(4)
حيث قال في "الميزان
":
فالمتعيّن حمل السبعة أحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان، وهي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله و إلى صراطه المستقيم، و يمكن أن يستفاد من هذه الروايات حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال، فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى.
(5)
(1)
محمد جواد بن حسن البلاغي النجفي الربعي (1282 ــــ 1352 هـ) من مفسري وشعراء الشيعة في القرن الرابع عشر الهجري. تتلمذ عند الميرزا محمد تقي الشيرازي والآخوند الخراساني. وحضر في حلقات درسه الكثير من العلماء منهم السيد شهاب الدين المرعشي النجفي والسيد أبو القاسم الخوئي. كان العلامة البلاغي من العلماء المجاهدين وقد ساهم في ثورة استقلال العراق. قد كان له مؤلفات عدّة في مواضيع شتى منها "آلاء الرحمن في تفسير القرآن". كما أنّ له قريحة شعرية رفيعة وقد أنشد قصيدة في مدح أهل البيت (ع).
للاستزادة يُنظر: الموسوعة الإلكترونية لمدرسة آل البيت.
(2)
يعني بـ" الإتقان" كتاب السيوطي.
(3)
- آلاء الرحمن في تفسير القرآن ص 30.
(4)
-أولًا: مؤلف كتاب " الميزان في تفسير القرآن " من كبار الشيعة ومقدَّميهم، وهو محمد حسين، بن محمد، المتصل نسبه بالطباطبائي التبريزي، نسبة إلى " تبريز " ثاني مدن إيران بعد طهران. ولد سنة (1903 م)، وأقام في " قم " يُعَلِّم ويتعلَّم حتى صار من كبار المتصدرين للتدريس والفتوى والتأليف في مدارس الشيعة هناك، ولما توفي سنة (1981 م) أعلنت الدولة الحداد الرسمي.
إذا علم ذلك فلا يسع المسلم إلا أن يتوقف فيما يرد في مؤلفات هذا الكاتب ابتداءً، لما عليه الشيعة الاثنا عشرية (الرافضة) من انحراف عقائدي خطير.
ثانيًا: هذا الكتاب: " الميزان في تفسير القرآن " يُعَدُّ أولَ تفسير شيعي جديد بعد تفسيري " مجمع البيان " للطبرسي، و" التبيان " للطوسي، كانت بداياته على شكل محاضرات يلقيها الطباطبائي على طلابه، صدر المجلد الأول منه سنة (1956 م)، وتوالت أجزاؤه حتى بلغ (20) مجلدًا، وترجم إلى الإنجليزية والفارسية.
هذه المعلومات ملخصة من رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة الأردنية عام (1994 م)" تفسير محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن: دراسة منهجية ونقدية " للباحث: يوسف الفقير، (ص: 6 - 23)
(5)
الميزان ج 3 ص 74، لا يخفى أن معنى الأحرف السبعة هنا غير المعنى الذي قال به أهل السنة ويرفضه علماء الشيعة الإمامية وهو جواز تلاعب القارئ في مفردات القرآن حسب ما يشتهيه القارئ على ألا يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس.
القول السابع: قول مير محمدي زرندي
(1)
حيث قال في "بحوث في تاريخ القرآن
":
ولا يوافق الأئمة المعصومون على هذا التفسير الشائع لسبعة أحرف، وقد سئل الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام عما يقوله الناس من أن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: كذبوا - إلى أن قال - ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد.
(2)
القول الثامن: قول المجلسي
(3)
وتعليقه على ما رواه في "بحار الأنوار" حيث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أتاني آت من الله، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا رب وسع على أمتي، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف)
ثم قال: بيان، الخبر ضعيف ومخالف للأخبار الكثيرة كما سيأتي، وحملوه على القراءات السبع
(4)
، ولا يخفى بعده لحدوثها بعده صلى الله عليه وسلم وسنشبع القول في ذلك في كتاب القرآن إن شاء الله. ولاريب في أنه يجوز لنا الآن أن نقرأ موافقًا لقراءاتهم المشهورة.
(5)
القول التاسع: قول المحقق البحراني
(6)
حيث قال في "الحدائق الناضرة
":
يقول الدكتور/ محمد حسن الذهبي: وتفسير" الميزان" مليء بهذه العقائد الفاسدة، ولتعرف مثالًا واحدًا من الاستدلالات الفاسدة التي يأتي بها المؤلف في هذا الكتاب، فانظر كيف يستدل على عقيدة الرجعة-بكل خصوصياتها وتعلقاتها- بقوله تعالى:(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ)(النمل: 83)، فيقول:"ظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة - ثم ذكر سببًا ساقطًا لهذا التوجيه المتهافت - " انتهى. " في الميزان: (15/ 400)، وينُظر: "التفسير والمفسرون": (3/ 65 - 66)، ويُنظر: دراسة ترجمة الطبطبائي للتفسير المسمى بـ تفسير الميزان، الإسلام سؤال وجواب: سؤال: (21353)، تاريخ النشر: 5/ 3/ 2009 م.
(1)
معاصر: ولد آية الله السيّد أبو الفضل مير محمدي زرندي سنة 1924 م في ناحية زاوية زرند التابعة لقضاء ساوة بـ "إيران"، أنهى دراسته الابتدائية في مسقط رأسه، وفي عام 1942 م جرّه شوقه للدراسات الإسلامية في قم المقدسة. وبعدها شدّ الرحال سنة 1947 م إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة ومواصلة الدرس الحوزوي هناك ملقيًا رحله في مدينة كربلاء المقدسة إلا أنّه سرعان ما قفل راجعًا إلى مدينة قم بعد إلحاح من والده، وبعد أن فرغ من مرحلة المقدمات واصل دراسته في مرحلة السطوح العالية على يد كبار العلماء.
ونقل الباحث ترجمته باختصار وتصرف يسير جدًا كما هي على ما تحويه من طوام عقدية، وللاستزادة من ترجمته المخزية يُنظر: الأمانة العامة لخبراء مجلس القيادة.
(2)
- بحوث في تاريخ القرآن، لـ"مير محمدي زرندي":(ص: 32 - 35).
(3)
- محمد باقر المجلسي من علماء الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة. ولد في عام 1037 هـ. في مدينة أصفهان الّتي كانت آنذاك من المراكز العلميّة المعروفة في العالم الإسلاميّ، وكان والده المولى محمّد تقي المجلسيّ من مفاخر علماء الشّيعة، له مؤلفات كثيرة في شتى المجالات.
للاستزادة من ترجمته يُنظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة. آغا بزرگ الطهراني، طبع بيروت - لبنان، 1403 هـ/ 1983 م، منشورات دار الأضواء.
(4)
- كتبت في الأصل في: "بحار الأنوار، للمجلسي" في كل النسخ التي طالعتها: هكذا" السبعة" لكن القوم لا يعرف العدد والمعدود وقواعد التذكير والتأنيث. فيجب أن نلتمس لهم العذر.
(5)
بحار الأنوار، للمجلسي:(82/ 65).
(6)
الشيخ يوسف البحراني، هو يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني الدرازي (1107 - 1186 هـ)، فقيه ومحدث شيعي.
اشتهر بـ"صاحب الحدائق" انتساباً لأثره (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة)، ويُعدّ من =
ثم اعلم أن العامة قد رووا في أخبارهم أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف كلها شاف واف، وادعوا تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في معناه الى ما يبلغ أربعين قولاً، أشهرها الحمل على القراءات السبع. وقد روى الصدوق (ره) في كتاب الخصال بإسناده إليهم (ع)، قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آت من الله عز وجل يقول إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت يارب وسع على أمتي فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف. وفي هذا الحديث ما يوافق أخبار العامة المذكورة، مع أنه (ع) قد نفى ذلك في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد، فهذا الخبر بظاهره مناف لما دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب فيه.
(1)
القول العاشر: قول الخوئي: (ت: 1413 هـ) حيث قال في "مستند العروة
":
هذا وحيث قد جرت القراءة الخارجية على طبق هذه القراءات السبع لكونها معروفة مشهورة ظن بعض الجهلاء أنها المعني بقوله صلى الله عليه وسلم على ما روي عنه، إن القرآن نزل على سبعة أحرف، وهذا كما ترى غلط فاحش، فإن أصل الرواية لم تثبت، وإنما رويت من طريق العامة، بل هي منحوله مجعولة كما نص الصادق (ع) على تكذيبها بقوله: كذبوا أعداء الله نزل على حرف واحد
…
(2)
.
= أبرز العلماء المدافعين عن النحلة الأخبارية الفقهية والحديثية، وكذلك آخر شخصية جديرة بالذكر من أصحاب هذه النحلة.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
الجناتي، محمد إبراهيم، تغلب الاجتهاد على الأخبارية، صحيفة (كيهان أنديشه) العدد: 14، 1408 هـ
2 -
البحراني، يوسف، لؤلؤة البحرين، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم، مؤسسة آل البيت، قم
شبّر، جواد، أدب الطف، دار المرتضى، 1409 هـ.
3 -
دواني، علي، الأغا محمد باقر بن محمد أكمل الأصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني، طهران، 1404 هـ
4 -
فسائي، حسن بن حسن، فارسنامه ناصري، رسالة فارس الناصرية، تحقيق: منصور رستكار فسائي، طهران، 1409 هـ
5 -
البحراني، يوسف بن أحمد، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، قم - إيران، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط 3، 1434 هـ.
(1)
- الحدائق الناضرة، للبحراني:(8/ 99).
(2)
مستند العروة، للخوئي:(14/ 474).
القول الحادي عشر: قول الخوئي حيث قال في البيان في "تفسير القرآن" بعد إيراد روايات السبعة أحرف:
وعلى هذا فلا بد من طرح الروايات، لأن الالتزام بمفادها غير ممكن.
(1)
وهذه حكايات في نقل الإجماع عن أئمتهم في إنكارهم الصريح للأحرف السبعة من منتصف القرن الخامس وما بعده.
ولنعيد التأمل في خلاصة أبرز ما مضى ذكره من شنيع أقوالهم، وذلك حتى تكون أقرب للأذهان وأرسخ في العقول، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا.
1 -
أن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد، قاله الطوسي في:" التبيان".
2 -
والشائع في أخبارهم أن القرآن نزل بحرف واحد، قاله الطبرسي في:"مجمع البيان":
3 -
كذبوا أعداء الله و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد، قاله: الفيض الكاشاني في: "تفسير الصافي"
4 -
أن القرآن واحد نزل من عند الواحد كما نطقت به الأخبار المعتبرة المروية عن أهل بيت الوحي والتنزيل مثل ما رواه ثقة الإسلام الكليني، قاله المحقق الهمداني في:"مصباح الفقيه".
5 -
ولا تتشبث لذلك بما روي من أن القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن، قاله حجة الله البلاغي في "آلاء الرحمن في تفسير القرآن".
6 -
فالمتعيّن حمل السبعة أحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان، قاله الطباطبائي في:"الميزان".
7 -
…
كذبوا - إلى أن قال - ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد، قاله مير محمدي زرندي في:"بحوث في تاريخ القرآن".
8 -
الخبر ضعيف ومخالف للأخبار الكثيرة كما سيأتي، وحملوه على القراءات السبع، قاله المجلسي في:"بحار الأنوار".
9 -
…
وادعوا تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم،
…
مع أنه (ع) قد نفى ذلك في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد، فهذا الخبر بظاهره مناف لما دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب فيه، قاله المحقق البحراني في:"الحدائق الناضرة".
(1)
البيان في تفسير القرآن، للخوئي:(ص: 180).
10 -
…
وهذا كما ترى غلط فاحش، فإن أصل الرواية لم تثبت،
…
كذبوا أعداء الله نزل على حرف واحد
…
قاله السيد الخوئي في: "مستند العروة "
11 -
وعلى هذا فلا بد من طرح الروايات، لأن الالتزام بمفادها غير ممكن. قاله السيد الخوئي في البيان في "تفسير القرآن".
ثالثًا: أبرز أقوال بعض المعاصرين من باحثي الرافضة عن "الأحرف السبعة
"
القول الأول: لـ"صادق العلائي" في كتابه" إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف "
يقول عليه من الله ما يستحق:
فاتضح أن عقيدة أهل السنة في الأحرف السبعة عقيدة صارخة وبكل وقاحة
(1)
أن القرآن الكريم يتبع أهواء القرّاء ولا يثبت على حال، وأن كل من أراد الاستمزاج والتفنن بكتاب الله فإن الباب على مصراعيه مشرّع! حتى ليُظن أن القرآن لم ينزل لتُتبع نصوصه، بل ليتبع هو أمزجتنا!، وهكذا أصبح تحريف القرآن دينًا بين طوائف المسلمين، فلا تجد لدعوى تحريف القرآن هذه رادعًا أو مستنكرًا بين صفوفهم! نعوذ بالله من الخذلان.
نقول: "صَدقكَ وَهُو كَذوبٌ"
(2)
، فعلًا كما قال: نعوذ بالله من الخذلان!، فالمخذول حقيقة من خذله الله، والمصيبة العظمى و الطامة الكبرى أنه لا يدري أنه هو المخذول!، وعند الله تجتمع الخصوم.
"ولهذا يقال فيهم: ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح .. "
(3)
وأما سوء الأدب فالرافضة قد حازوا فيه المرتبة الأولى بلا منازع. يقول أحدهم "إن الأحداث التي جرت في ذلك القرن تدلل على خلاف ذلك، إذ كان شر قرن، فما ذكر إلا وتبادرت إلى أذهاننا تلك المآسي والمظالم، ومر شريط الأحداث ناقلاً أفظع وأقسى الأيام والساعات ..
(4)
ثم يتابع العلائي ويقول:
لعل البعض يستشكل وجود هذا الكم من روايات الأحرف السبعة في مصنفات القوم ولا يرى له وجهًا مقبولًا من وضع أو كذب، والحق أن الوجه المقبول لها موجود وبوجوه متعددة أيضًا، إذ
(1)
- الرافضة لما فسدت عقيدتهم فسدت أخلاقهم، فإذا فسد الأصل فلا تسل عن الفرع.
(2)
- رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، برقم:(2311).
(3)
مختصر المنهاج: (2/ 683).
(4)
- شبهات حول الشيعة: (ص: 115).
من المحتمل قويًا دخول زوائد حرفت معنى الأحرف السبعة في ضمن تلك الروايات، وليس ذلك ببعيد بعد حصول التضارب في نقل الحادثة الواحدة وبملاحظة المعنى الذي حكته روايات أهل البيت عليهم السلام، أما أصل مفهوم الأحرف السبعة فلا أحد ينكر وجوده في القرآن، وإنما الكلام كله دائر حول المعنى الذي جعل من مفهومها دعوة مفتوحة لتحريف القرآن.
نقول: إذا كان يرى ويقرر أن الأحرف السبعة دعوى لتحريف القرآن، إذا فما مصدر تلك الأحرف التي لا ينكر وجودها في القرآن؟!
ثم يتابع العلائي ويقول:
فيتضح أن تأويل وتخريج اجتهادات السلف كانت السبب الرئيس في بيان معنى الأحرف السبعة، ويا ليت أحدهم يخبرنا، كيف عرفوا أن كل فلتات سلفهم الصالح في نصوص القرآن واجتهاداتهم في تغيير كلماته قد وصلت إليهم بتمامها حتى فسّروا عليها الأحرف السبعة وهي في نظرهم أمرٌ إلهي جاء به الوحي؟! أهكذا يصبح الدين رخيصًا؟.
نقول وبالله التوفيق:
إن القرآن نزل على حرف واحد ابتداءً، ألا وهو حرف قريش، ثم جاءت الاستزادة من الأحرف السبعة في ختام العهد المدني بعد عام الفتح بقليل، وقد كتبت الصحف العثمانية المرسلة للأمصار والمنسوخة عن المصحف الإمام موافقة للعرضة الأخيرة، وهي مشتملة كذلك على ما تبقى من الأحرف السبعة، فكل ما ثبتت قرآنيته ولم ينسخ في العرضة الأخيرة فهو القرآن الذي وعد الله بحفظه بقوله:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
ثم يقول عليه من الله ما يستحق:
ويؤيد أن هذه التفسيرات جاءت لتلميع صورة الصحابة لا أكثر ولا أقل أن من انتهج منهج صحابتهم وأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزعمهم- وصار يقرأ القرآن على حرف من الأحرف السبعة تلاحقه اللعنات ويرمى بالتكفير من كل حدب وصوب حتى يقام عليه الحد.
إلى أن قال -عامله الله بعدله-:
وهذه الامتيازات إنما نزلت من السماء للصحابة فقط!!
نقول: والصحابة الذين رضي الله عنهم وزكاهم في كتابه هل يحتاجوا لامتيازات ممن جاء من بعدهم، وهم حملة الشريعة وحماة الإسلام، لكنه الجهل بقدرهم، والحقد المجوسي الذي يجري في عروقهم.
فـ "من أعظم خُبث القلوب أن يكون في قلب العبد غلٌ لخيار المؤمنين وسادات أولياء الله بعد النبيين".
(1)
.
وإنما قصدهم بالطعن في الصحابة رضي الله عنهم الطعن في الرسالة.
فـ"الرافضة يطعنون في الصحابة ونقلِهِم، وباطنُ أمرهم: الطعن في الرسالة. "
(2)
ثم هو يختم مبحث الأحرف السبعة بتلك الطامة الكبرى فيقول:
وإلى هنا تم الكلام عن الأحرف السبعة، وتبين أن أهل السنة لم يعتمدوا أي دليل ناهض لإدخال هذا المعنى للأحرف السبعة في دين الله الذي يفتح المجال لتحريف القرآن بل إن الأدلة قائمة على بطلانه، أما الشيعة الإمامية فرفضوا هذا المبدأ المخل بقداسة القرآن تبعًا لأهل البيت عليهم السلام.
(3)
نقول: بالطبع إن أهل السنة لم يعتمدوا أي دليل يروق لكم، لأن السنة ليست من مصادر دينكم، وأن رواتها من ألد أعدائكم، وأن حديث الأحرف السبعة ورواته من الصحابة الأخيار كفار عندكم، ورواته من الأئمة الثقات لا قيمة لهم في دينكم.
وقوله: "أما الشيعة الإمامية فرفضوا هذا المبدأ المخل بقداسة القرآن تبعًا لأهل البيت عليهم السلام".
نقول: ذلك لأنكم اتخذتم ما اختلقتموه من الروايات المكذوبة ستارًا، ونسبتموها لأهل البيت الكرام زورًا وبهتانًا، وجعلتموها دينًا وشريعة ومنهاجًا، وأهل البيت الكرام عليهم السلام من فعلكم هذا بُرَءآء.
"فالأدلة إما نقلية، وإما عقلية، والقوم من أكذب الناس في النقليات، وأجهل الناس في العقليات".
(4)
يتابع اتهاماته فيقول:
(1)
- يُنظر: إعانة المحتاج من كتاب المنهاج، مختصر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، شريف بن علي الراجحي:(1/ 22).
(2)
- إعانة المحتاج: (3/ 463).
(3)
- إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف، لأبي عمر صادق العلائي (الرافضي)، (ص: 174 - وما بعدها). الناشر: مركز آفاق للدراسات الاسلامية، رقم الطبعة: 1425 هـ، عدد المجلدات 3.، كما أن الكتاب مصنف تحت مسمى" الشيعة ومعتقداتها، الفرق الاسلامية" في المكتبة المكتبة المركزية، وهو صادر عن جامعة آل البيت كذلك، لسنة 1425 هـ.
(4)
- المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، وهو مختصر منهاج السنة، للإمام الذهبي:(ص: 20).
الأحرف السبعة وسيلة لتبرير اجتهادات الصحابة في نصوص القرآن
ثم يقول: المشكلة من أين؟!
حسن الظن المطلق بالصحابة وبأفعالهم هو منهج أهل السنة فكان إيجاد التوجيه الشرعي لأفعالهم هو المقدم في تقييمها، فأفعالهم لها مدارك شرعية يجب على أهل السنة تحصيلها والبحث عنها، فلا يُحتمل في نظر أهل السنة أن أحدًا منهم ابتدع من عند نفسه شيئًا خالف أمر الله به، فالصحابي عندهم يعامل معاملة المعصوم وإن لم يعتقدوا عصمته، وكان لهذا المبنى الفاسد أثره الخطير في الفقه والعقيدة، وقد انصبت وتكاتفت جهود جبارة من علمائهم ولسنين متطاولة لإيجاد تأويلات وتوجيهات أو قل تلميعات لما جاء به التاريخ من مصائب ورزايا لأناس عاديين غير معصومين، ففي كل فاجعة اقترفها أحد من السلف تجد عُدّة التأويل والتخريج لهذه القاصمة جاهزة للعمل وعلى أهبة الاستعداد!
وبسبب هذا التخريج والتحسين تلغى في بعض الأحيان تعاليمٌ من الإسلام أو تخلق لها على أقل تقدير شواذ تنخدش عندها.
إلى أن قال: حيث نجد بعض علمائهم يحاول بكل جهد وكثير معاناة أن يجعل من مفهوم الأحرف السبعة مظلة تستوعب كل ما استمزجه الصحابة في قراءة نصوص القرآن بالزيادة أو النقص أو التبديل، فكانت تلك الأشكال والألوان في قراءات الصحابة والتابعين هي الحق الذي لا مرية فيه، وعليه فالرأيُ الحصيف والقول السديد في تحديد ماهية الأحرف السبعة هو الرأي المعتمِد على إيجاد المخارج لجميع ما وصل إلينا من استمزاجات السلف وعبثهم في قراءة آيات القرآن، بشرط أن لا تخرج أي من تلك الاجتهادات عن كونها مصداقًا لمفهوم الأحرف السبعة، ومن ثم يقال لك: إن هذه الاختلافات والتغاير في قراءات القرآن إنما تمت تحت مباركة النصوص النبوية وعلى شريعة رب الصحابة! فصار تكلفًا ما بعده تكلف وتحميلًا واضحًا وتعسفًا فاضحًا. الدين! وكثير من هذه الموارد.
(1)
نقول: والحق ما شهدت به الأعادي، فإن حسن الظن بالمسلم عمومًا مطلب شرعي قررته الشريعة وحثت عليه ورغبت فيه، وإن حسن الظن بالصحابة وبأفعالهم هو منهج أهل السنة، لما لهم من
المكانة وحسن الديانة والفضل والسبق للإيمان وشرف الصحبة وتزكية الرب جل في علاه
…
مع عدم اعتقاد عصمتهم.
(1)
- إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف، لأبي عمر صادق العلائي، (الرافضي)، المبحث الأول: الأحرف السبعة: (ص: 175 - 176).
قال الألوسي في كتابه: "صب العذاب على من سب الأصحاب":
ما ثبت عن الروافض اليوم من التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النص بزعمهم، ولم يبايعوا عليًا رضي الله عنه بعد وفاة النبي كما بايعوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك، وكذا التصريح ببغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبهم ولعنهم تهافت الفراش على النار، دليل على كفرهم وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك. "
(1)
ثم هو يتابع ويكشف عن حقيقة باطنه تجاه الصحابة دون" تَقِّية" كما تعودنا من القوم الظالمين:
وهناك احتمال ثالث وهو أن هذه الروايات المرخّصة لجواز تبديل الآيات بألفاظ متغايرة إنما وجدت في دنيا المسلمين بوضع من صنّاع الأحاديث المستأجرين من قِبل البلاط الأموي، وذلك
في ضمن سلسلة الكذب والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتلميع وتحسين صورة بني أميّة وأذنابهم.
وهذا الوضع ليس بعزيز لرفع مخزاة الكذب والافتراء عن ساحة أخي الخليفة عثمان بن عفان لأمه وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح خاصة وهو العبد المطيع لعثمان، وهو الذي أمر عبد الرحمن بن عوف أن يبعد الخلافة عن أمير المؤمنين عليه السلام ويلصقها بعثمان وقد فعل، فكل تلك الروايات المجوزة لتغيير ألفاظ القرآن بغيرها إنما جاءت لتبرر عمل عبد الله بن سعد ابن أبي سرح في تغيير ألفاظ القرآن وتحريفه حتى طرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهدر دمه، فجاءت هذه الروايات لتبين أن فعل ابن أبي سرح كان مطابقًا لأمر الله المستأثر به في الغيب، وأن ما حصل له من الطرد والارتداد كان سببه تسرع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعدم علم بما سيؤول إليه الحال، والعياذ بالله.
ومما يقوي هذا الاحتمال هو تحرجهم من هذه المخزاة ومحاولة إلصاقها بأبي برزة الأسلمي وهو أحد شيعة الإمام علي عليه السلام.
وإلى هنا تم الكلام عن الأحرف السبعة، وتبين أن أهل السنة لم يعتمدوا أي دليل ناهض لإدخال هذا المعنى للأحرف السبعة في دين الله الذي يفتح المجال لتحريف القرآن بل إن الأدلة قائمة على
بطلانه، أما الشيعة الإمامية فرفضوا هذا المبدأ المخل بقداسة القرآن تبعًا لأهل البيت عليهم السلام.
(2)
(1)
- صب العذاب على من سب الأصحاب: (ص: 470).
(2)
- إعلام الخَلف: (ص: 181).
نقول: لاشك في أن هذا عين الكذب والنفاق، و "إن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة. وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة"
(1)
أما قوله: أن أهل السنة لم يعتمدوا أي دليل ناهض، يعني أنهم لم يعتمدوا أي دليل يروق للرافضة، وقد صدق في ذلك، لأنهم ينكرون ثبوت حديث الأحرف السبعة، بل ينكرون السنة بالكلية، فحجية ثبوت حديث الأحرف السبعة عند السنة لم تثبت عندهم، فالقوم معذرون لاختلاف مصادر التلقي عند الفريقين.
ثم هو يتهكم ويقول:
وصلت استمزاجات القوم في تفسير معنى الأحرف السبعة إلى أربعين قولًا وذلك إلى زمان العلامة جلال الدين السيوطي، والله العالم إلى إي عدد وصلت اليوم؟!
(2)
ويعيد كرة التهكم فيقول:
فقد أشكل حل معضلة هذا الحديث -الأحرف السبعة- على فطاحل علماء علوم القرآن عندهم، فهذا ابن الجزري بعد جهد جهيد ولنحو نيف وثلاثين سنة يرجو أنه قد توصل لحل لغز وطلسم الأحرف السبعة، وهو الإمام الرمز في علوم القرآن والمعتمد عليه في القراءات وإليك نص كلامه:
" و لا زلت أستشكل هذا الحديث -الأحرف السبعة- و أفكر فيه وأمعن النظر من نحو نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صوابًا إن شاء الله تعالى، وذلك إني تتبعت القراءات صحيحها وضعيفها وشاذها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه ".
(3)
فإذا كان هذا حال ابن الجزري فما ظنك بعياله؟، وهنا سؤال يطرح نفسه، على أي من تلك الآراء نحكّم القرآن؟
(4)
نقول: ولاشك في أن هذا عين الجهل، فأهل السنة أثبتوا تلك الأحرف ولم ينكروها، وخلافهم في معناها أمر يحمدوا عليه لعدم جرأتهم على دين الله وشرعه، وأن خلافهم في معناها يُعَدُ من خلاف التنوع، لا من خلاف التضاد، ذلك لأنهم أثبتوا الأصل واختلفوا في فهم مقصوده ولم يجزموا به تعظيمًا لكلام الله وإجلالًا لوحيه المنزل، على العكس من الرافضة تمامًا.
(1)
- مختصر منهاج السنة: (2/ 782).
(2)
- إعلام الخَلف: (ص: 144).
(3)
تاريخ القرآن ص 87.
(4)
- إعلام الخَلف: (ص: 146).
ولعل في هذا الجواب كفاية في الرد على مريد الضلال والغواية.
القول الثاني: لـ"على الكوراني العاملي" في كتابه: " ألف سؤال وإشكال"
يقول عامله الله بما يستحق، بعد أن ذكر ما وقع بين عمر وهشام بن حكيم من خلاف في قراءة سورة الفرقان:
وكلام عمر صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله قال: نزلت من عند الله هكذا وهكذا! أي بنحوين مختلفين بل بسبعة أشكال! تعالى الله عن ذلك!
ويتابع إظهار حقده الدفين فيقول:
وستعرف أن عمر قام بتحريف حديث نبوي في أن القرآن نزل على سبعة أقسام من المعاني، ولا علاقة له بألفاظ القرآن وحروفه!.
نقول: سبق الكلام على إنكارهم لحديث الأحرف السبعة، فضلًا عن إنكارهم السنة بالكلية، فلسنا في حاجة لإعادته هنا، ونكتفي بما ذكرنا مفصلًا فيما سبق بيانه.
ثم هو يعيد تكرار الحقد المجوسي الصفوي على الخليفة الراشد رضي الله عنه فيقول:
فالنظرية إذن، ولدت على يد عمر عندما واجه مشكلة لا يعرفها، ولم يعالجها بنسخة القرآن، بل روى عن النبي صلى الله عليه وآله حديث الأحرف السبعة ليثبت مشروعية التسامح والتفاوت في قراءة النص القرآني!
ولكنه بذلك سكن المشكلة تسكينا آنيًا، ثم حير أتباعه من علماء الأمة أربعة عشر قرنًا في تصور معنى معقول لنظريته العتيدة وحديثه الغريب المزعوم عن رسول الله صلى الله عليه وآله!.
نقول وبالله التوفيق:
إن الحقد المجوسي هو الذي أعمى بصيرته عن غيرة عمر رضي الله عنه على دين الله عمومًا وعلى كتابه خصوصًا، وهو الذي أشار على الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن خوفًا على ضياعه بعد مقتل القراء يوم اليمامة.
ثم هو يتابع في إظهار الحقد المجوسي الدفين المقرون بالجهل المركب فيقول:
من أدلة بطلان بدعة عمر
أولًا: أن صاحب المقولة لم يطبقها! فقد رخص بقراءة القرآن بسبعة أنواع، لكنه لم يسمح لأحد بذلك! فكان يتدخل في القراءات ويحاسب عليها، ويرفض منها ويقبل، ويأمر بمحو هذا وإثبات
ذاك! وكم وقعت مشاكل بينه وبين أبي بن كعب وغيره من القراء، بسبب أنه قرأ آية بلفظ لم يعجب عمر!، فقد كانت هذه التوسعة المزعومة خاصة به دون غيره!!.
نقول وبالله التوفيق:
إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقراءة عمر وهشام بن حكيم تُعد من الأجوبة المسكتة والمفحمة، لكن الله حجب عنهم نور النبوة وشمس الرسالة فأعمى بصائرهم فلا يبصرون الحق رغم وضوحه.
وصدق فيهم قول الشافعي رحمه الله: ما رأيت قومًا أشهد بالزور من الرافضة.
(1)
يعود ويقول:
ثانيًا: أن عثمان نقضها وأوجب أن يقرأ القرآن بالحرف الذي كتب عليه مصحفه! فأين صارت السبعة أحرف التي قلتم إن حديثها صحيح متواتر؟!.
لقد صار معناها أن القرآن نزل من عند الله تعالى على سبعة أحرف، ثم صار في زمن عثمان إلى حرف واحد!! فيكون حديث عمر مفصلًا لمشكلة اضطراب القراءة في زمنه فقط! فهل رأيتم حديثًا نبويًا لا دور له إلى يوم القيامة إلا أداء وظيفة خاصة وهي تسكين مشكلة اختلاف القراءات آنيًا؟.
(2)
نقول والله المستعان:
حينما تجتمع الأمراض المستعصية كلها في جسد فإنها تنهكه وتنهار معها قوته وتذهب سطوته، فالران الذي على القلوب، والهوى، والنفس الأمارة بالسوء، وغلبة الشيطان، ووساوس الصدر، وشتات الأمر، وسوء الظن، والجهل بمشكاة الوحي، المصحوبة بالحقد الدفين، وعمى البصر والبصيرة، والصد عن سبيل الله، كل هذه العلل والأدواء لا يمكن معها أبدًا إبصار الطريق ومعرفة الحق.
فإنهـ "لما كان أصل مذهبهم مستند إلى جهل، كانوا أكثر الطوائف كذبًا وجهلاً".
(3)
.
فهل سيعرف هذا ويستطيع مقاومة تلك العلل كلها ويفيق منها لينهض ويفهم ويعي ما ذكرناه سلفًا عن مصير الأحرف السبعة، وما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهل سيعي كلام أئمة أهل السنة حول هذه القضية؟!.
يعاود ويقول:
(1)
- مناقب الإمام الشافعي للرازي: (ص: 127).
(2)
يُنظر: ألف سؤال وإشكال، علي الكوراني العاملي:(1/ 258).
(3)
- إعانة المحتاج: (1/ 57).
ثالثًا: إن التوسعة على الناس والتسامح في نص القرآن مسألة كبيرة وخطيرة! فكيف لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وآله لعامة الصحابة والمسلمين، ثم عرفت على يد عمر عندما وجدت مشكلة تفاوت القراءات؟!
وأكبر دليل على أنها لم تكن موجودة وأن الذي اخترعها عمر، أن المسلمين كانت عندهم حساسية من أدنى تغيير في ألفاظ القرآن، وكان هذا سبب اختلافهم في القراءة، فلو أن النبي صلى الله عليه وآله أجاز لهم التوسع في ألفاظه وتبديلها كما زعم عمر، لما اختلفوا!
(1)
نقول وبالله التوفيق:
فقوله: "إن التوسعة على الناس لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الذي اخترعها عمر".
فهل عمر هو الذي استزاد جبريل؟! أم النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استزاده، ومن الرد الذي يلجم كل جاهل عنيد كذلك إنكار عمر قراءة هشام بن حكيم، فكيف يكون هو الذي اخترعها وهو لم يعرفها بادئ الأمر، ولذلك أنكرها، وختام هذا الجواب أن الرافضة عمومًا ينكرون حديث الأحرف السبعة إلا من خالف وهم قلة، وأغلب أهل هذا الرأي عمهم الجهل كذلك فظنوا أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع، كما قرر ذلك المجلسي في:"بحار الأنوار"
(2)
، والتقِّية لا يؤمن معها تصديق القوم، فالقوم إذا يُعذرون لجهلهم ولضيق أفقهم وعنادهم!، والله يحكم بيننا وبينهم.
ولقد رد أئمة أهل السنة قول الرافضة القائلين بأن الأحرف السبعة هي القراءات السبع، وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك ونقله غير واحد من أهل العلم.
يقول الإمام أبو شامة المقدسي (ت 665 هـ) رحمه الله:
ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.
(3)
يواصل الكوراني ويقول:
رابعًا: إذا صحت نظرية عمر في الأحرف السبعة، وأن الله تعالى قد وسع على المسلمين في قراءة نص كتابه، فلماذا حرم الله نبيه من هذه النعمة وحرم عليه تبديل شئ منه فقال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى
(1)
يُنظر: ألف سؤال وإشكال: (1/ 259).
(2)
بحار الأنوار، للمجلسي:(82/ 65).
(3)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 30).
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15)، وألزمه بحفظه حرفيًا بدقة عالية وكان ينزل عليه جبرئيل كل عام مرة ليضبط عليه نص القرآن، وفي سنة وفاته ضبطه عليه مرتين ليتأكد من دقة تبليغه له؟!
وهل يقبل العقل من رئيس عادي أن يصدر قانونًا ويتشدد مع وزيره في ضبط نصه وطباعته، وبعد نشره للتطبيق يجيز للناس أن يقرؤوه بعدة نصوص، ولو بتغيير ألفاظه؟!.
(1)
نقول والله المستعان:
إن الإصرار على الجهل والعمه والسفه والحقد الدفين سبب البلاء كله، فقوله:
"إذا صحت نظرية عمر في الأحرف السبعة،
…
ولماذا حرم الله نبيه من هذه النعمة
…
"، كل هذا فيه معنى التصميم على إنكار حديث الأحرف السبعة إنكارًا تامًا، وفيه معنى الإصرار على أن تلك الأحرف من اختراع عمر رضي الله عنه.
يعاود ويتابع قائلًا:
خامسًا: هشام بن حكيم بن حزام الذي قال عمر إن القصة حدثت معه، هو أحد الطلقاء الذين أسلموا تحت السيف في فتح مكة.
نقول والله المستعان:
هو ما يزال يكيل التهم لعمر بأنه مخترع الأحرف السبعة، ويتجلى ذلك في قوله:
"الذي قال عمر إن القصة حدثت معه"، بل وصل الحد إلى أن يكيل التهم للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وذلك بأن أكره هشامًا كما أكره الناس على الدخول في الإسلام تحت سطوة السيف.
ويتابع قائلًا:
فزمن القصة نحو السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله ومعناها أن النبي صلى الله عليه وآله كان إلى ذلك الوقت يقرأ نص القرآن بصيغة واحدة وحرف واحد ولم يقل لجبرئيل شيئًا، إلى أن جاءه جبرئيل في أواخر حياته وقال له كما زعموا:(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ القُرْآنَ علَى حَرْفٍ، فَقالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وإنَّ أُمَّتي لا تُطِيقُ ذلكَ!)
(2)
فصعد جبرئيل ثم نزل
(1)
يُنظر: ألف سؤال وإشكال: (1/ 260 - 261).
(2)
أخرجه مسلم (821) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
وزاده حرفًا فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (أمتي لا تطيق ذلك) وظل يساومه ويستزيده وجبريل يصعد وينزل، حتى وصل معه إلى سبعة أحرف!
(1)
فهل تجدون هذا النوع من تعامل الأنبياء عليهم السلام مع ربهم تعالى، إلا في روايات اليهود؟!.
(2)
نقول والله المستعان:
الله أكبر. لقد بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى
(3)
ولقد أضحى أهل السنة عندهم كاليهود، وهذا وإن كان غريبًا عند عوام أهل السنة فإنه مكشوف لدى من طالع مصنفات القوم، كما أن تسميتهم أهلَ السنة بـ"النواصب" أمر مشتهر على ألسنة الروافض عمومًا.
وقوله: (وظل يساومه ويستزيده) فيه تهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالمساومة فيها هنا نوع مراوغة، لأنها بمعنى "مجاوزة القدر المحدود".
(4)
، فكأن المساوم بالغ حده وقدره فيها.
فـ"الرافضة قبحهم الله ولعنهم وخذلهم. ما أحمقهم وأجهلهم وأشهدهم بالزور والافتراء والبهتان".
(5)
وفي ختام محاورة الكوراني نقول:
فإنكـ" أكثر ما تجد الرافضة: إمّا في الزنادقة المنافقين الملحدين، وإمّا في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات".
(6)
وإن الكوراني وأمثاله أقل من أن يرد عليهم، فالجهل والتكذيب قد بني عليهما دين الرافضة، وإن تلك الردود ليس فيها نوع تكافؤ، ذلك لأن الجهل المصحوب بالتكذيب لا يقاوما، ولا سيما مع الإصرار على الإنكار والجحود لمعلوم من الدين بالضرورة لمثل حديث الأحرف السبعة الذي ثبتت صحته واستفاضة شهرته عند عموم أهل السنة.
والحمد لله رب العالمين.
(1)
(النسائي: 2/ 150)، وغيره من مصادرهم!!) (الكوراني).
(2)
يُنظر: ألف سؤال وإشكال: (1/ 260).
(3)
هي جمع زُبْيَة. وهي حُفْرة تُحْفَر للأسد إذا أرادوا صَيْده، وأصلُها الرابية لا يَعْلُوها الماء، فإذا بلغها السيلُ كان جارفًا مُجْحفًا. يضرب لما جاوز الحد، يُنظر: مجمع الأمثال للميداني: (1/ 166)، والمثل يضرب في الحادثة إذا بلغت النهاية، كما في فرائد اللآل في مجمع الأمثال:(2/ 155)، ومجمع الأمثال للميداني:(2/ 221).
(4)
يُنظر: معجم المعاني الجامع.
(5)
المحرقة الرد على أهل البدع والزندقة: (ص: 316).
(6)
إعانة المحتاج: (2/ 81).
القول الثالث: لـ" د. علي عبد الزهرة
(1)
الفحام" في كتابه" القراءات القرآنية في الميزان .. نظرة مقارنة"
- يقول عامله الله بما يستحق:
وقد روي حديث "الأحرف السبعة" عن عمر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي وكل هؤلاء من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام ومن المتيقن أنهم اضطلعوا بمهمة الترويج لهذه النظرية لتمرير مخطط إضعاف النص القرآني الذي يبدو أنه لم يكتب له النجاح الكامل بفعل الممانعة الفكرية التي قادها أمير المؤمنين عليه السلام وبعض المخلصين من شيعته كحذيفة بن اليمان، وقد نسب هذا الحديث إلى بعض الصحابة
"المعتدلين" كابن عباس وابن مسعود وبعض الشيعة كحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وأغلب الظن أن يد الوضع قد نسبت هذا الحديث افتراءً عليهم أو أن المقصود من الأحرف السبعة غير ما كان يروج له التيار الانقلابي كما سيأتي في روايات أهل البيت عليهم السلام.
(2)
- نقول وبالله التوفيق:
لقد تكلم هذا عن رواة حديث الأحرف السبعة من الصحابة رضي الله عنهم وكأنه عصابة إرهابية، فيصفهم بـ "المنحرفين"، ويتهمهم بـ" الترويج لتمرير مخطط إضعاف النص القرآني"، ويصفهم كذلك بـ" التيار الانقلابي".
وهذا ومثله لا يستغرب من الرافضة الذين " يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ نفرًا قليلًا نحو بضعة عشر صحابيًا.
(3)
و "هل يوجد أضلّ من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويوالون الكفار والمنافقين".
(4)
- ثم يقول عليه من الله ما يستحق
مما لا شك فيه أن أهل البيت عليهم السلام رفضوا نظرية (الأحرف السبعة) وصرحوا لشيعتهم بنظرية القراءة الواحدة.
(1)
- تأمل الاسم: "عبد الزهرة"، فإنهم لما ضلوا عن تحقيق العبودية لله في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، ضلوا كذلك في تحقيق تعبيد المسميات لرب الأرض والسموات.!
(2)
القراءات القرآنية في الميزان .. نظرة مقارنة، د. علي عبد الزهرة الفحام، مدونة كتابات في الميزان، بتاريخ: 13/ 9/ 2014 م.
(3)
إعانة المحتاج: (1/ 39).
(4)
المرجع السابق: (3/ 347).
- وجوابه نقول:
هو هنا ينقل إجماع الرافضة على رفض حديث الأحرف السبعة، ويسميه" نظرية"، ويلصق هذا الإجماع بآل البيت، ولا نريد تكرار قضية آل البيت عندهم فهي معروفة ومكشوفة، إذ جعلوها ستارًا وجدار حماية لفساد دينهم وخبث طويتهم، ومع ذلك فهو تعصب أعمى لا حجة لهم فيه ولا برهان إلا التكذيب والجحود والإنكار لتلك الأحاديث الثابت الصحيحة والمنقول إلينا بالتواتر.
والتعصب الأعمى معروف عنهم، ونحن "لا نعلم طائفة أعظم تعصبًا في الباطل من الرافضة".
(1)
- ثم هو يختم تحت عنوان: مصحف عثمان ينسف الأحرف السبعة فيقول: اضطربت آراء القوم في معنى الأحرف السبعة حتى إن الباحث ليبقى عاجزًا عن الخروج برؤية واحدة أو مقاربة معقولة لهذه النظرية، وهذا الاختلاف الكبير (أرجعه السيوطي إلى أربعين قولاً) يكشف أن المجموعة التي أخرجت هذه النظرية إلى أرض الواقع لم تكن تمتلك تصورًا علميًا أو رؤية فكرية واضحة
لتصدير هذه النظرية وإنما توسلت من خلالها إلى تمرير مؤامرة إضعاف النص القرآني دون البحث عن إيجاد قوة تنظيرية لإقناع الوسط الفكري الذي كان مترهلاً أصلاً ويعاني من عقدة السقوط في وحل التبعية والتخلف
فقد ذكروا في جملة الحِكَم من تشريع الأحرف السبعة أنها (للتخفيف عن هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها)، وإذا بهذا "التخفيف" و"اليسر" و"التهوين" ينقلب- في زمن عثمان - إلى تناحر وتهديد للأمة بالسقوط في الفتنة كما سقط اليهود والنصارى! ولهذا فقد جمع عثمان الناس على مصحف واحد، ولا أقول على حرف واحد لأن المدرسة السنية إلى هذا اليوم مختلفة في ما بينها هل أن مصحف عثمان حرف من الأحرف السبعة أم إنه استوعب هذه الأحرف السبعة؟
- فقوله: "اضطربت آراء القوم في معنى الأحرف السبعة".
- نقول والله المستعان وعليه التكلان:
هذه الشبهة الباردة قد سبق الإجابة عنها كثيرًا، والقوم ينكرون أصل ثبوت تلك الأحاديث، فما لهم يتكلمون عن معناها، وقد سبق رد هذه الشبهة في آخر رد على "العلائي"، فلا حاجة في إعادتها هنا، ولكن نضيف على هذا الجواب بأن ورع أئمة أهل السنة عمومًا قد فقده أئمة الضلالة، وسادة البهتان، وفرسان الكذب، وتجار الدين، فالقوم إذا معذرون!
(1)
مختصر المنهاج: (1/ 207).
- وقوله: عن "الحِكَم من تشريع الأحرف السبعة" أنها جاءت- يعني عندنا- للتخفيف عن هذه الأمة
…
إلى أن قال: وإذا بهذا "التخفيف" و"اليسر" و"التهوين" ينقلب- في زمن عثمان- إلى تناحر وتهديد للأمة بالسقوط في الفتنة كما سقط اليهود والنصارى"!.
- نقول والله المستعان وعليه التكلان:
سبحان الله، إن هذا من الكذب والافتراء المحض، وقلب الحقائق كما هو معلوم عن القوم الظالمين، فإن من أبرز أسباب جمع عثمان على "الإمام"، هو ما وقف عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من اختلاف القراء الذين لم يشهدوا عهد التنزيل، ولم يعرفوا أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، وأنها كلها شاف كاف، وكان ذلك وقت الفتوحات الإسلامية في العراق، فأهاله ما رأى فأخبر الخليفة الرشد عثمان لتدارك الأمر، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
ولقد أخرج البخاري هذا الخبر بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك- رضي الله عنه حدثه:
" أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمنية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى
…
"
(1)
ففعل عثمان رضي الله عنه كان إنقاذا للأمة من الاختلاف في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، وليس تهديدًا لها بالسقوط في الفتنة كما سقط اليهود والنصارى، كما ادعى الظالم الأثيم. وهكذا تبين لنا بالحجة والبيان رد الزور والكذب والافتراء والبهتان، كما تبين لنا بعين اليقين أن القوم يريدون قلب حقائق الدين، بكل وسيلة ممكنة إلى ذلك ساعين.
وصدق والله الإمام ابن قدامة المقدسي (ت: 620 هـ) رحمه الله في قوله:
من سلك غير طريق سلفه افضت به إلى تلفه، ومن مال عن السنة فقد انحرف عن طريق الجنة، فاتقوا الله تعالى، وخافوا على أنفسكم، فإن الأمر صعب، وما بعد الجنة إلا النار، وما بعد الحق إلا الضلال، ولا بعد السنة إلا البدعة.
(2)
.
(1)
- ينظر: صحيح البخاري: (4/ 1908) ح (4720).
(2)
تحريم النظر في كتب أهل الكلام: (ص: 71).
رابعًا: الرد الخاتم المختصر على افتراءات شر البشر
يدور هذا المبحث الخاتم حول استحالة وامتناع الالتقاء والاتفاق بين أهل السنة والرافضة عقلًا وشرعًا، وذلك للأسباب التالية إجمالًا:
السبب الأول: اختلاف مصادر التلقي والاستدلال عند الفريقين
السبب الثاني: منهج أهل السنة مبني على الوسطية والاعتدال، ومنهج الرافضة مبني على الغلو والانحراف، فكيف يلتقيان؟!
السبب الثالث: اجتماع أهل السنة على الحق، وافتراق الرافضة.
إن من أهم دواعي مناقشة هذا المبحث الخاتم هو أن وسيلة اقتناع الرافضة بحديث الأحرف السبعة محال وممتنع عقلًا وشرعًا، وذلك لاختلاف وتضاد دين الفريقين من جهات عدة، من أبرزها ما ذكرناه آنفًا في صدر هذا المبحث، ألا وهي:
أ- جهة مصادر التلقي والاستدلال
ب- وجهة الوسطية والاعتدال
ج- وجهة الاجتماع والافتراق.
فأهل السنة والرافضة يستحيل ويمتنع عقلًا وشرعًا أن يجتمعا، أو أن يتفقا، أو أن يلتقيا، كما يمتنع عقلًا وشرعًا اجتماع التوحيد مع الشرك، والصدق والإيمان مع الكذب والنفاق، والسنة والاتباع
مع الاختراع والابتداع، والوسطية والاعتدال مع الغلو والجفاء، والاجتماع مع الافتراق، والحق مع الباطل، والهداية مع الضلال- كذلك.
فدين أهل السنة مبني على العلم والإيمان والصدق وصحة المعتقد وسلامة المنهج،
ودين الرافضة أساسه ومبناه على الجهل والكذب والنفاق والشقاق وفساد المنهج وسوء الأخلاق، فكيف يلتقيان؟!.
الكذب والنفاق من أصول دين الرافضة
أخبر الله تعالى عن المنافقين أنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والرافضة تجعل ذلك من أصول دينها وتسميه "التّقيّة"، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال: التّقيّة ديني ودين آبائي. وقد نزّه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك، بل كانوا من أعظم الناس صدقًا وتحقيقًا للإيمان، وكان دينهم التقوى لا التّقيّة.
(1)
(1)
إعانة المحتاج: (2/ 46).
بيان أسباب استحالة وامتناع الالتقاء والاتفاق بين أهل السنة والرافضة عقلًا وشرعًا، تفصيلًا:
السبب الأول: اختلاف مصادر التلقي والاستدلال عند الفريقين
أ- مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة والجماعة
إن مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة تُعَدُّ أصلًا أصيلًا لا يُحاد عنه أبدًا، وأساس متين لا يقبل المساومة ولاسيما إذا كان تعلقه بالعقيدة التي هي أساس الملة والدين.
وبشيء من الإيجاز والاختصار، فإن مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة تنقسم إلى: مصادر أصليَّة، ومصادر فرعيَّة.
أما المصادر الأصليَّة فهي: الكتاب والسنة، وما يُبنى عليهما من الإجماع.
وأما المصادر الفرعيَّة فهي: العقل الصحيح، والفطرة السليمة السوية.
قواعد الاستدلال عند أهل السنة
ويتفرع عن مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة قواعد أصيلة منبثقة عن أصول الشريعة الغراء ولا تخرج عنها البتة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تلك القواعد بشيء من التفصيل والإيضاح في" منهاج السنة" وساق لها أمثلة عقلية وأخرى نقلية مستدلًا بها على تقعيده وتأصيله لتلك القواعد.
وهي على النحو التالي:
1 -
جمع النصوص الواردة في الباب الواحد؛ لكي تتضح وتكتمل أجزاؤها. فمن أبرز أسباب انحراف المبتدعة في القديم والحديث: أنهم يأخذون نصَّاً ويدعون نصوصًا أخرى.
2 -
تعظيم النصّ الشرعي والوقوف عند حدوده.
3 -
ردُّ المتشابه إلى المحكم، بخلاف أهل البدع فإنهم يتّبعون المتشابه ويردُّون المحكم.
4 -
نصوص الشارع كلمات جوامع، فينبغي الاجتهاد في الجزئيات. وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط.
5 -
الموازنة بين المصالح والمفاسد.
6 -
الفتنة من صوارف الاهتداء بالحق: فإنَّها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه.
7 -
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
8 -
العبادة مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
(1)
ولاشك أن الروافض على العكس تمام من أهل السنة في هذا الأصل الأصيل.
(1)
مصادر الاستدلال والتلقي بين أهل السنّة والرافضة، لأحمد الصويَّان، موقع: على بصيرة، بتاريخ: 10/ 19/ 1438 هـ، وقد لخصها من مجموع كلام شيخ الإسلام في ثنايا كتابه "منهاج السنة"، الذي أجاد فيه وأفاد في بيان منهج الفريقين في الاستدلال والتلقي. فليراجع ثم هناك.
ولقد آثرنا ذكر فحوى تلك القواعد مجملة خشيت الإطالة، ولاسيما وأنها قد أتت وافية بالمقصود، ومن رام الاستزادة فليراجعها في مظانها في "منهاج السنة".
ب- مصادر التلقي والاستدلال عند الرافضة
يُعد الاضطراب في مصادر التلقي والاستدلال من أبرز وأهم أسباب ضلال الرافضة وانحرافهم ومفارقتهم لأهل السنة والجماعة.
وإنه لما كان القرآن الكريم هو أول مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة فقد اعتنوا به العناية الكاملة والتامة من كل وجه، أما الرافضة فإنهم يطعنون في القرآن ويقولون بنقصه وتحريفه، وهم بسبب مطاعنهم المشهورة في القرآن، وأقوال أئمتهم المبثوثة في مصادرهم الأصلية بتحريف كتاب الله تعالى، فقد أدى ذلك لعدم إجلالهم للقرآن، فأهملوا حفظه وتعلمه وتعليمه ومدارسة تفسيره وفهم معانيه على الوجه الصحيح.
وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
الرافضة لا تعتني بحفظ القرآن، ومعرفة معانيه وتفسيره، وطلب الأدلَّة الدالة على معانيه.
(1)
وأنت ترى الآن كبار معمميهم لا يحسن الواحد منهم الاستدلال بآية على وجه صحيح، ولا يتمكن من قراءتها إلا على وجه مصحوب باللحن الجلي الذي يغير بنية الكلمة ومعناها أحيانًا.
وبما أن الرافضة أهل زيغ وضلال فقد اعتمدوا في تفسيرهم القرآن على مصنفات المعتزلة في التفسير، كتفسير الزمخشري ومن على شاكلته من أهل الاعتزال، وأخذوا منها ما يوافق أهواءهم معتمدين في ذلك على الرواية الواهية والأقوال الشاذة والضعيفة التي ينقلها المعتزلة في تفاسيرهم، ومن التفاسير التي أكثر بعضهم في تفسيره النقل عنها تفسير الثعلبي الذي اشتهر عنه رواية الأحاديث الموضوعة، ولا سيما فيما يرويه من الموضوعات عند مفتتح كل سورة.
والثعلبي لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث، ولا يُميِّز السُّنَّة والبدعة في كثير من الأقوال.
(2)
ومن أبرز من نقل عن الثعالبي ابن المطهر الرافضي في تفسيره، كما أنه أكثر النقل كذلك عن الواحدي تلميذ الثعالبي، الذي أكثر من رواية الأحاديث الضعيفة كذلك، وأما ما أصابوا فيه الحق فقد نقلوه عن أهل السنة.
وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة، وكذلك بحوثهم العقلية، فما كان فيها صوابًا فإنَّما أخذوه عن أهل السُّنَّة.
(3)
(1)
منهاج السنة: (5/ 163).
(2)
منهاج السنة: (7/ 12).
(3)
- منهاج السنة: (6/ 379).
فالرافضة بسبب تحريفهم القرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع، وإنكارهم للسنة التي هي المصدر الثاني للتشريع، وتكفيرهم لعموم الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلا نفرًا قليلًا منهم،
الذين هم حملة هذه الشريعة وحماتها، وهم أنصار الله تعالى، وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم واسطة البلاغ للأمة عن رسولها صلى الله عليه وسلم من بعده، فقد حصل للرافضة بسبب ذلك كله وقوع اضطراب وتخبط في مصادر التلقي والاستدلال فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، حتى أصبحت تلك الخصال من أساس دينهم المبني على الكذب في المنقول والجهل بالمعقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرَّفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم، وردُّوا من الصدق ما لم يردّه غيرهم، وحرَّفوا القرآن تحريفًا لم يحرفه غيرهم .. " إلى أن قال: "فهم قطعًا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كلِّ أحد، وحرَّفوا كتابه تحريفًا لم يصل غيرهم إلى قريب منه.
(1)
قواعد وأصول التلقي والاستدلال عند الرافضة بشيء من التفصيل والإيضاح:
أولًا: لا يعتبر الدين ما نسب للرسول صلى الله عليه وسلم فقط. بل يؤخذ الدين من كل الأئمة الاثني عشر بمن فيهم الإمام الغائب الثاني عشر والذي يتم الاتصال به والأخذ عنه بطريقة معينة حددها الشيعة.
ثانيًا: قول وعمل الأئمة كلهم نص شرعي بذاته مستقل عن كونه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: تشكل الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم في كتب الشيعة نسبة لا تزيد عن خمسة بالمئة من مجموع ما في كتب الشيعة من الحديث، لأن معظم الأحاديث تنسب لجفعر الصادق وعدد كبير ينسب لمحمد الباقر، والأحاديث الأخرى تنسب للأئمة الآخرين بمن فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والقليل مما يسمى حديثًا لديهم ينسب للرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: لو تركنا الخلاف عند الشيعة حول التحريف (الذي يقول به كثير منهم وينكره آخرون)" تقَّية"، فإن القرآن عند الشيعة (باتفاق عندهم) لا يمكن فهمه ولا تفسيره إلا بقيّم، والقيّم هو الإمام. وبهذا يكون القرآن محدود الحجية بذاته بل يصبح مصدرًا ثانويًا بعد الحديث الذي فيه الروايات التي تفسر القرآن.
(1)
- منهاج السنة: (3/ 403 - 405).
خامسًا: يتم نقل الحديث (عن الأئمة) بروايات منسوبة لأسانيد يزعم أنها تصل للأئمة، وذلك نقلًا عن طريق أصحاب الأئمة. وجمعت الروايات في كتب الشيعة الثمانية مع وجود روايات مستقله لبعض الكتب الأخرى في التفسير والتاريخ وغيرها منسوبة مباشرة للأئمة.
سادسًا: لا يوجد عند الشيعة كتب اشترطت الصحة مثل ما هو عند السنة، لكن عندهم ما قد يكون أعظم بزعمهم من اشتراط الصحة وهو عرض أحد الكتب على المهدي الغائب، وهو كتاب الكافي الذي يزعم مؤلفه أنه عرضه على المهدي وهو في غيبته، فقال عنه "كاف لشيعتنا". وحسب تقديرهم لعظمة المهدي تكون هذه تزكية أعظم من تصحيح أهل السنة للبخاري ومسلم الذي يعتبر التصحيح فيه اجتهاد بشر وليس تزكية إمام معصوم كما هي عندهم.
سابعًا: بينما بدأ التدوين عند أهل السنة في وقت مبكر وظهرت معظم كتب الحديث ومدارس الفقه السني في القرون الأول والثاني والثالث ولم يكتب بعد ذلك إلا القليل، فقد تأخرت كتب الشيعة في الظهور، ومع ذلك فقد نقلت كلها (زعمًا) بالرواية والأسانيد مباشرة نقلًا عن الأئمة الاثني عشر، وحتى بحار الأنوار الذي كتب بعد إحدى عشر قرنًا نقل بالرواية.
ثامنًا: بينما يستطيع أي شخص من أهل السنة تعلم الدين حيث لا احتكار للعلم الشرعي، لا يمكن أن يعرف الدين عند الشيعة من خلال القراءة والدراسة بل لا بد من اتباع مجتهد معين يشرح الدين (تأمل الفقرة التالية).
تاسعًا: لا يمكن لأي شخص أن يدخل في منظومة العلماء مهما بلغ من العلم الشرعي إلا بشروط خاصة غير العلم الشرعي، وهو أنه لا بد وأن يحصل على تعميد من الحوزات أو المؤسسات الدينية حتى يصبح الشخص مجتهدًا يستطيع أن يفتي ويعلم الدين ويفسر القرآن والحديث.
عاشرًا: حجية القرآن وأنه لا يفهم ولا يفسر إلا بكتب الشيعة
هذا الموضوع ليس حديثًا عن تحريف القرآن فهذا له مبحثه، وإنما هو بحث في حجية وتفسير وفهم القرآن بصفته مصدر أساسي للدين والتشريع. ورغم الخلاف (المزعوم) على قضية التحريف عند الرافضة إلا إنه لا يوجد خلاف على قضية حاجة القرآن لقيّم عندهم، وهو مبثوث في كل كتبهم. وربط القرآن بكتب الرافضة قضية حتمية، لأنه بدون هذه الحيلة يستحيل تركيب أوليات المذهب الشيعي التي لا يوجد لها ذكر في القرآن، فكان لا بد من أحد حيلتين إما زعم التحريف، أو زعم أن للقرآن معاني لا يعرفها إلا الأئمة، ومن ثم ينسب للأئمة ما يحلوا للرافضة من روايات تعضد تفسير القرآن بما يدعم عقائدهم ومنهجهم.
أخطر قضية في "حجية القرآن" عند الرافضة
وإن أخطر قضية في حجية القرآن هي: تعليق فهمه كله وتفسيره كله بكتب الرافضة، وذلك من خلال الزعم أن القرآن ليس بحجة إلا بقيّم، وأن القيّم هو الإمام، وأن فهم القرآن لا يتم إلا
بالإمام. وبما أن النقل عن الأئمة ليس موجودًا إلا في كتبهم، فيكون فهم القرآن وحجيته وتفسيره
والعمل به مرتبطًا ارتباطًا كاملًا بكتبهم، بغض النظر عن كون التفسير مقبولاً في اللغة أو المنطق أو منسجمًا مع بقية تفسير القرآن والحديث، أو متفقًا مع روايات التاريخ.
ونسوق هنا نماذج من أباطيلهم في اعتبار أن القرآن ليس بحجة إلا بقيم من الأئمة
أولًا: من أقوالهم الباطلة المنسوبة لـ" عليّ بن أبي طالب" رضي الله عنه
1 -
القرآن ليس بحجة إلا بقيّم وإن عليًا كان قيّم القرآن.
(1)
2 -
عن عليّ قال "ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم
…
أخبركم عنه.
(2)
3 -
القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند عليّ.
(3)
4 -
عن أبي عبد الله: "إن الناس يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسرًا، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله فسره لرجل واحد، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل، وهو عليّ بن أبي طالب.
(4)
5 -
القرآن لا يفسره إلا رجل واحد هو عليّ.
(5)
ثانيًا: من أقوالهم الباطلة المنسوبة لـ"لأئمتهم" في هذا الصدد
1 -
الأئمة هم القرآن نفسه.
(6)
2 -
فإذا احتاجوا القرآن فالاهتداء بنا وإلينا.
(7)
3 -
باب: عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من كلام الأئمة فيه ثمانون حديثًا.
(8)
4 -
باب: إنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة.
(9)
5 -
المقدمة الثانية: في نُبَذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت.
(10)
(1)
أصول الكافي 1/ 188، رجال الكشي 420، علل الشرائع 192، المحاسن 168، وسائل الشيعة 18/ 141، وغيرها.
(2)
- أصول الكافي 1/ 61
(3)
- أحوال الرجال 383
(4)
أصول الكافي 1/ 25 وسائل الشيعة 18/ 131
(5)
-أصول الكافي 1/ 250
(6)
- وأقوال مثل هذه في الكافي 1/ 194 و 1/ 419، تفسير العياشي 2/، تفسير البرهان 2/ 180، تفسير نور الثقلين 2/ 296 تفسير القمي 1/ 310 و 2/ 333، البحار 36/ 80 - 85، البرهان للبحراني 4/ 242.
(7)
تفسير فرات 91، وسائل الشيعة 18/ 149
(8)
- وسائل الشيعة 18/ 129
(9)
الفصول المهمة للحر العاملي 173
(10)
تفسير الصافي 1/ 19
6 -
الفصل الخامس: في بيان ما يدل على أن علم تأويل القرآن بل كله عند أهل البيت والأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
(1)
7 -
اعلم أن علم القرآن مخزون عند أهل البيت وهو مما قضت به ضرورة المذهب.
(2)
8 -
إن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قول الله تعالى.
(3)
9 -
يجوز لمن سمع حديثًا عن أبي عبد الله أن يرويه عن أبيه أو جده أو أحد أجداده بل يجوز أن يقول قال الله تعالى.
(4)
(5)
وهذه النقولات الباطلة والتي يشيب من هولها الولدان لا يصدقها من لا عقل له، فكيف بمن كان له عقل ودين، كما أنه قد يظن من لا يعرف القوم الظالمين من شدة هولها أنه محض افتراء، والحقيقة أنها من أمهات مصادرهم ومراجعهم، وهي غيض من فيض، كما أنها منتشرة ومبثوثة في كل مراجعهم ومصادرهم، وهذا مما يؤكد أنها دين لديهم جميعًا، وقد حكى أئمتهم الإجماع على ذلك.
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله: أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر العقلاء من الكفار!.
(6)
اعتقاد الرافضة في تأويل القرآن، وفيه مسألتان:
أما المسألة الأولى فـ: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر
وهذه المسألة قد أخذت بعدًا كبيرًا وخطيرًا عند الرافضة، حيث تحول كتاب الله عندهم بتأثير هذا المعتقد إلى كتاب آخر غير ما في أيدي المسلمين، وقد ذهب شيوخهم في تطبيق هذا المبدأ شوطًا بعيدًا، وقدم الرافضة مئات الروايات والتي تؤول آيات الله على غير تأويلها .. ونسبوها للأئمة الاثني عشر. وليس لهذا التأويل الباطني من ضابط، ولا له قاعدة يعتمد عليها .. وسيجد القارئ في تأويلهم لآيات القرآن محاولة يائسة لتغيير هذا الدين وتحوير معالمه وطمس أركانه.
فأركان الدين تفسر بالأئمة، وآيات الشرك والكفر تؤول بالشرك بولاية علي وإمامته، وآيات الحلال والحرام تفسير بالأئمة وأعدائهم، وهكذا يخرج القارئ لهذه التأويلات بدين غير دين الإسلام.
(1)
مقدمة البرهان 15
(2)
تفسير السراط المستقيم 3/ 4
(3)
شرح الكافي للمازندراني 2/ 272
(4)
- شرح الكافي 2/ 272
(5)
يُنظر: منهج التلقي ومصادر الدين والتشريع عند الشيعة، موقع فيصل نور.
(6)
درء تعارض العقل والنقل: (72/ 7).
وهذا الدين له ركنان أساسيان:
الركن الأول: الإيمان بإمامة الاثني عشر
والركن الثاني: الكفر واللعن لأعدائهم.
جاء في أصول الكافي للكليني ما نصه:
عن محمد بن منصور قال: سألت عبدًا صالحًا (يعنون به موسى الكاظم والذي يعتبرونه إمامهم السابع)
(1)
عن قول الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)(الأعراف: 33)، قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق.
(2)
وفي هذا النص الوارد في أصح كتبهم يظهر من خلاله الدافع إلى القول بأن القرآن له ظهر وبطن، وهو أن كتاب الله سبحانه خلا من ذكر أئمتهم الاثني عشر، ومن النص على أعدائهم، وهذا الأمر أقضَّ مضاجعهم، وأفسد عليهم أمرهم، وقد صرحوا بأن كتاب الله قد خلا من ذكر الأئمة فقالوا:"لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا مسلمين".
(3)
فلما لم يكن لأصل مذهبهم وهو (الإمامة) والأئمة ذكر في كتاب الله قالوا بهذه المقالة لإقناع أتباعهم، وترويج مذهبهم بين الأغرار والجهلة، وحتى يجعلوا لهذه المقالة القبول أسندوها - كعادتهم - لبعض آل البيت.
ومسألة القول بأن لنصوص القرآن باطنًا يخالف ظاهرها شاعت في كتب القوم وأصبحت أصلاً من أصولهم، لأنه لا بقاء لمذهبهم إلا بها أو ما في حكمها، ولهذا عقد صاحب البحار بابًا لهذا بعنوان:"باب أن للقرآن ظهرًا وبطنًا".
(4)
وما ذكرنا آنفًا هو أنموذج من مقالتهم الساقطة، وإلا فإن كتب أئمتهم مشحونة بهذا الباطلة الممجوج.
نقد هذه المقالة:
لا شك أن للقرآن العظيم أسراره ولفتاته، وإيماءاته وإيحاءاته، فلا تنفذ كنوزه ولا تنقضي عجائبه، ولا ينتهي إعجازه .. وكل ذلك مما يتسع له اللفظ ولا يخرج عن إطار المعنى العام .. ولكن دعوى أولئك الباطنيين غريبة عن هذا المقصد، وهي تأويلات لا تتصل بمدلولات الألفاظ ولا
(1)
-أصول الكافي: الهامش: (1/ 374).
(2)
-أصول الكافي: 1/ 374، النعماني/ الغيبة: ص 83، تفسير العياشي: 2/ 16.
(3)
يُنظر: تفسير العياشي: 1/ 13، المجلي/ البحار: 19/ 30، هاشم البحراني/ البرهان: ج1 ص 22.
(4)
-البحار: 92/ 78 - 106.
بمفهومها، ولا بالسياق القرآني، بل هي مخالفة للنص القرآني تمامًا، هدفها هو البحث في كتاب الله من أصل يؤيد شذوذهم، وغايتها الصد عن كتاب الله ودينه، وحاصل هذا الاتجاه الباطني في تأويل نصوص الشريعة هو الانحلال عن الدين.
(1)
وعموم البشر على اختلاف لغاتهم يعتبرون ظاهر الكلام هو العمدة في المعنى، وأسلوب الأحاجي والألغاز لا وجود له إلا في الفكر الباطني، ولو اتخذ هذا الأسلوب قاعدة لما أمكن التفاهم بحال، ولما حصل الثقة بمقال؛ لأن المعاني الباطنية لا ضابط لها ولا نظام.
والمتأمل لهذه المقالة يدرك خطورة هذا الاتجاه الباطني في تفسير القرآن، وأنه يقتضي بطلان الثقة بالألفاظ، ويسقط الانتفاع بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضابط له، بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى، وبهذا الطريق يحاول الباطنية التوصل إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها، وتنزيلها على رأيهم. ولو كانت تلك التأويلات الباطنية هي معاني القرآن، ودلالاتها لما تحقق به الإعجاز، ولكن من قبيل الألغاز، والعرب كانت تفهم القرآن من خلال معانيه الظاهرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
من ادعى علمًا باطنا، أو علمًا بباطن وذلك يخالف العالم الظاهر كان مخطئًا، إما ملحدًا زنديقًا، وإما جاهلاً ضالاً
…
وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم، فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم،
ثم يقول- رحمه الله:
وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(يس: 12) أنه عليٌّ .. وقوله: (فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)(التوبة: 12). أنهم طلحة والزبير، (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ) (الإسراء: 60). بأنها بنو أمية.
(2)
وعلى هذا الهراء يمضي القوم الظالمون في التلاعب بتأويل آي القرآن حسب ما تقتضيه أسس القواعد الباطنية التي قعدها لهم إبليس.
استنكار العلماء للتفسير الباطني:
وكان علماء الإسلام يستنكرون هذا التأويل الباطني، لأن: "من فسر القرآن وتأوله على غير التفسير المعروف من الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن
(1)
- فتح الباري، للحافظ ابن حجر:(1/ 216).
(2)
مجموع الفتاوى: (13/ 236 - 237).
مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام".
(1)
اعتقاد الرافضة في تأويل القرآن فيه مسألتان -المسألة الثانية -
وأما المسألة الثانية فـ: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم:
يقول الرافضة بأن:
جل القرآن إنما نزل فيهم (يعني في الأئمة الاثني عشرية) وفي أوليائهم وأعدائهم.
(2)
، وهذا النص جعله صاحب الصافي عنوانًا للمقدمة الثانية، مع أنك لو فتشت في كتاب الله وأخذت معك قواميس اللغة العربية كلها وبحثت عن اسم من أسماء هؤلاء الاثني عشرية فلن تجد لها ذكرًا، ومع ذلك فإن شيخهم البحراني يزعم بأن عليًا وحده ذكر في القرآن (1154) مرة ويؤلف في هذا الشأن كتابًا سماه:"اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية"، وقد طبع في المطبعة العلمية بقم 1394 هـ، يحطم فيه كل مقاييس لغة العرب، ويتجاوز فيه أصول العقل والمنطق، ويفضح من خلاله قومه على رؤوس الأشهاد بتحريفاته التي سطرها في هذا الكتاب وجمعها - وقد كانت متفرقة قد لا تعرف - من طائفة من مصادرهم هم المعتبرة عندهم.
يقول شيخهم الفيض الكاشاني:
(3)
وردت أخبار جمة عن أهل البيت في تأويل كثير من آيات القرآن وبأوليائهم، وبأعدائهم، حتى أن جماعة من أصحابنا صنفوا كتبًا في تأويل القرآن على هذا النحو جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل القرآن آية آية، إما بهم أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن. وقد رأيت منها كتابًا كاد يقرب
من عشرين ألف بيت، وقد روي في الكافي، وفي تفسير العياشي، وعلي بن إبراهيم القمي، والتفسير المسموع من أبي محمد الزكي أخباراً كثيرة من هذا القبيل.
(4)
هذه شهادة أو اعتراف من أحد أساطينهم تؤكد شيوع هذه المقالة بينهم، وأنها أصبحت هي القاعدة المتبعة في كتب التفسير المعتمدة عندهم، وفي أصح كتب الحديث لديهم .. فهم بهذا صرفوا كتاب الله عن معانيه، وحرفوه عن تنزيله، وجعلوا منه كتابًا غير ما في أيدي الناس.
(5)
ولعل في هذا كفاية في فضح سبل أهل الضلال والغواية.
استحالة وامتناع الالتقاء والاتفاق بين أهل السنة والرافضة عقلًا وشرعًا -السبب الثاني-
(1)
- مجموع الفتاوى: (13/ 243).
(2)
تفسير الصافي: (1/ 24).
(3)
- مؤلف الوافي أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث
(4)
- تفسير الصافي، للكاشاني:(1/ 24 - 25).
(5)
يُنظر: اعتقاد الشيعة في تأويل القرآن، موقع الحن، بتاريخ: 13/ 7/ 2015 م.
السبب الثاني: منهج أهل السنة مبني على الوسطية والاعتدال، ومنهج الرافضة مبني على الغلو والانحراف، فكيف يلتقيان؟!
فإنه لما كانت شريعة الإسلام وسط بين الشرائع السماوية، كان أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق كذلك، فوسطية أهل السنة بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين سائر الأمم، ووسطيتها وسطية كاملة متكاملة من كل وجه، فهي وسطية متكاملة في: عقيدتها، وشرعتها، ومنهاجها، وأحكامها، وعبادتها، ومعاملاتها، وأخلاقها، وإن وسطية أهل السنة والجماعة مأخوذة من وسطيتها واعتدالها
عن مناهج وعقائد تلك الفرق المنحرفة والزائغة، فهي وسط بين فرق الغلاة والجفاة في كل ما ذكرناه آنفًا.
الملل.
(1)
وإن الله تعالى قد امتن على أهل السنة والجماعة بنعم عظيمة جليلة، من أبرزها وأجلَّها ما يلي:
الأولى: نعمة الهداية إلى دين الإسلام- دين الحق- المبني على التمسك بالكتاب والسنة، والمؤسس على الإخلاص والاتباع.
والثانية: نعمة الهداية لسبيل أهل السنة والجماعة المبنى على الاجتماع وعدم الافتراق وشق عصا الطاعة.
وهو سبيل المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
النعمة الثالثة: نعمة العصمة من سلوك سبل فرق أهل البدع والغواية والضلالة والأهواء، والتي هي سبل المغضوب عليهم والضالين.
النعمة الثالثة: نعمة العصمة من سلوك سبل فرق أهل البدع والغواية والضلالة والأهواء، والتي هي سبل المغضوب عليهم والضالين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
ولهذا أمرنا الله أن نقول في صلاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(الفاتحة: 6، 7) فالضال الذي لم يعرف الحق كالنصارى، والمغضوب عليه الغاوي الذي يعرف الحق ويعمل بخلافه كاليهود، والصراط المستقيم يتضمن معرفة الحق والعمل به.
(2)
وسطية الأمة في القرآن:
قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة: 143).
(1)
- الصفدية (2/ 310).
(2)
إعانة المحتاج من كتاب المنهاج: (1/ 19).
مفهوم الوسطية في اللغة:
وأصل الوسطية من مادة (وَسَط) ومعناها: العدل والنصف، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه
(1)
، وأوسط الشيء أفضله وخياره
(2)
، وتأتي في استعمال الشرع على معانٍ، منها: العدالة والخيرية كما في حديث أبي سعيد الخدري، وفيه تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بقوله: فذلك قوله -جل ذكره-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، والوسط العدل.
(3)
مفهوم الوسطية عند أئمة التفسير:
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي.
(4)
وقال رحمه الله -أيضًا-:
إنما وصفهم بأنهم وسَط، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهلُ غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه. ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به.
(5)
وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) رحمه الله:
والوسط ههنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا أي: خيارها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي أشرفهم نسبًا، ومنه: الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها
…
(6)
وقال البغوي (ت 516 هـ) رحمه الله:
و (وَسَطًا): " يعني: أهل دين وسط، بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في الدين"
(7)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (6/ 108)، وكذا في لسان العرب (7/ 430).
(2)
لسان العرب (7/ 427).
(3)
رواه البخاري: (4487).
(4)
تفسير الطبري: (2/ 8).
(5)
- تفسير الطبري: (3/ 142).
(6)
تفسير ابن كثير: (1/ 181).
(7)
- تفسير البغوي: (1/ 122).
وقال ابن سعدي (ت: 1376 هـ) رحمه الله:
أي: عدلا خيًار. وما عدا الوسط، فالأطراف داخلة تحت الخطر. فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدين. وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.
(1)
وحول هذا المعنى جاءت كلمات أئمة التفسير وسادة التحبير.
مفهوم الوسطية في السنة المطهرة:
كما وردت أحاديث صحاح في السنة المطهرة تؤيد وتؤكد معنى الوسطية الواردة في قوله تعالى: (أمة وسطًا)، ومن ذلك ما ثبت عند البخاري مِنْ حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(يُدْعَى نُوحٌ عليه السلام يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، قَالَ: فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قَالَ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ).
(2)
كمال وسطية أهل السنة من كل وجه:
وتتضح وسطية أهل السنة بين سائر الفرق بأنهم: وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى: بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
(3)
فالمسلمون هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطًا عدلًا خيارًا؛ فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام.
(4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 725 هـ) رحمه الله:
وهذا الصراط المستقيم هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو "السنة والجماعة"، فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض
…
وهذه الفرقة الناجية "أهل السنة" وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل.
(5)
(1)
- تفسير ابن سعدي: (ص: 66).
(2)
رواه البخاري (4487).
(3)
يُنظر: الواسطية (1/ 10)، منهاج السنة (5/ 172).
(4)
-الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 69).
(5)
- مجموع الفتاوى (3/ 369).
وفي نحو ذلك يقول أبو بكر بن عياش: (ت: 193 هـ) رحمه الله:
السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان.
(1)
وكل ما نذكره في هذا المبحث الهام يدلل على غلو الرافضة وانحرافهم وغلوهم.
استحالة وامتناع الالتقاء والاتفاق بين أهل السنة والرافضة عقلًا وشرعًا -السبب الثالث
السبب الثالث: اجتماع أهل السنة على الحق، وافتراق الرافضة
وإن مِن أبين آثار وسطية أهل السنة بين فرق الغلو والجفاء، اجتماعهم على الحق حتى صار الاجتماع والائتلاف على الدين وأصوله وثوابته وصفًا ملازمًا لهم لا ينفك عنهم بحال؛ ولذا فإنك تراهم وسطًا دائمًا، فلا يميلون إلى الغلو أو الجفاء أبدًا.
ولذا فهم أسعد طوائف الأمة بالحق والائتلاف والاجتماع عليه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند مَن ترك ذلك وقدَّم غيره عليه، قال تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود: 118 - 119)، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولًا وفعلًا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء؛ فاته من الرحمة بقدر ذلك.
(2)
و"مما يدل على أن أهل الحديث
(3)
هم على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم
واحد، لا ترى بينهم اختلافًا، ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسانٍ واحدٍ".
(4)
ومن جهة أخرى:
كانت الفرقة والاختلاف صفة ملازمة لسائر الفرق المخالفة للسنة والجماعة؛ لتنازعهم في مصادر التلقي ومنهج الاستدلال، وإذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعًا
(1)
- أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 97). الأديان يعني بها الشرائع، لأن الدين واحد لا يتعدد، ألا وهو الإسلام.
(2)
- مجموع الفتاوى (4/ 50).
(3)
ذلك لأن أهل السنة يسمون بـ" أهل الحديث والأثر" لاتباعهم السنن والآثار.
(4)
-الحجة في بيان المحجة لقوام السنة أبي القاسم التيمي الأصبهاني (2/ 224 (.
وأحزابًا؛ لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفِّر الابن أباه والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم:(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)(الحشر: 14).
(1)
وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب، ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة؛ فتارة يتحيز إلى فرقة منها، له ما لها وعليه ما عليها،
وتارة يتردد بين هذه الفرق
…
وسبب ذلك: خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان
(2)
، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون.
(3)
قال شيخ الإسلام (ت: 725 هـ) رحمه الله:
والرافضة أمة مخذولة، ليس لها عقل صحيح، ولا نقل صريح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة.
(4)
وأخيرًا: فإن دين أهل السنة مبني على العلم والإيمان والصدق وصحة المعتقد وسلامة المنهج، ودين الرافضة مبني على الجهل والكذب والنفاق "التقيَّة" وفساد المعتقد وانحراف المنهج فكيف يلتقيان؟!.
وبكشف عوار خفافيش الظلام التائهين في ظلمات الجهل والنفاق وسوء الدين وفساد الأخلاق ينتهي هذا السفر المبارك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
خاتمة البحث
، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة
خاتمة البحث:
1 -
باب الجمع العثماني باب عظيم القدر رفيع المنزلة وذلك لما له من مكانة وأهمية كبرى وعظمى لكثرة وعظم شأن ما يتعلق به من مباحث تتعلق بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وإقرارهم لهذا الجمع والثناء عليه بل ومشاركتهم الفعالة فيه، ولبقاء كتاب الله محفوظًا من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان إلى أن يرفعه الله تعالى في آخر الزمان.
2 -
لقد بذل الباحث جهده في احتواء بحثه على أهم الأبواب والمواضيع التي ينبغي مناقشتها ومدارستها مجتمعة في الجمع العثماني من جميع جوانبه في حدود نظره القاصر ورؤيته التي يرجو
(1)
- الحجة في بيان المحجة لقوام السنة أبي القاسم التيمي الأصبهاني: (2/ 225).
(2)
- يعني في الملل، لأن الدين عند الله واحد لا يتعدد هو الإسلام. الباحث.
(3)
- إعلام الموقعين (1/ 253).
(4)
منهاج السنة: (479/ 8).
أن تكون صائبة، وذلك في حدود ما أملاه العلماء المتقدمون وما حرره أهل التخصص - كذلك- من المتأخرين.
3 -
ولقد كان من أبرز دواعي تناول تلك الدراسة بحث جُلِّ ما يتعلق بالجمع العثماني بالدراسة والتحقيق والتحرير والتدقيق وتقريب مواضيع هذا الجمع بأسلوب علمي رصين سهل التناول، وبلغة عذبة رقراقة تسر الناظرين، وقد ضمّن الباحثُ بين جنباتها -الدراسة- مباحث هامة تشفي غليل الطالبين، وتحقيقات وتحريرات تذهب غيظ قلوب الراغبين من الباحثين، وتفيد عموم المسلمين أجمعين.
بيان أهم النتائج
1 -
كان في طليعة أبرز نتائج هذا البحث الوقوف على الجهود العظيمة التي بذلها الصحابة رضي الله عنهم في صدر الإسلام وعنايتهم بحفظ كتاب ربهم واتخاذهم لذلك أعظم وأجل سبل السلامة لحفظه عن طريقي الحفظ في الصدور والكتابة في السطور كما تبين معنا ذلك جليِّا في طيات البحث.
2 -
أن جمع القرآن في عهده الأول (الجمع النبوي) كان له بواعثه وأسبابه ودواعيه، كما كان له خصائصه ومزاياه التي تميز بها عن الجمع في جميع مراحله، وقد شاء الله ألا يُجْمع القرآنُ في مكان واحد بين لوحين في هذه المرحلة لحكم كثيرة أرادها الله تعالى وقد بينها الباحث في طيات البحث، وقد كُتِب القرآنُ في هذا العهد على أدوات كتابة بدائية للغاية، وهذا مما يدلل على عظم المشقة والمعاناة التي واجهة القائمين على هذا الجمع من الصحابة رضي الله عنهم.
3 -
أن جمع القرآن في عهده الثاني (الجمع البكري) كان له بواعثه وأسبابه ودواعيه، كما كان له خصائصه ومزاياه التي تميز بها عن الجمع في جميع مراحله- كذلك-
فكان الصديق رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن بين لوحين بعد أن كان مكتوبًا مفرقًا في الجمع الأول، وقد رتبه على الترتيب المصحفي كما كَتَبَهُ كُتَّابُ الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للجمع البكري أي إضافة جديدة تخالف الجمع في العهد النبوي الأول سوى أنه جمع القرآن بين لوحين بعد أن كُتِبَ وجُمِعَ مفرقًا.
ولقد ظهرت مؤخرة في عصرنا الحاضر ثلاثة تفاسير رتبها مصنفوها على الترتيب التَّنزلي مخالفين بذلك ما استقرت عليه الصحف العثمانية والتي قد رُتِبَت وفق الترتيب المصحفي الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وتلقته الأمة بالقبول وصار عليه عمل السلف والخلف، وهذا الترتيب هو الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة الموافقة للترتيب المثبت في اللوح المحفوظ عند رب العزة في كتاب مكنون.
ولقد ناقش الباحثُ تلك التفاسير الثلاثة ونقض بنيانها فأتى عليها من القواعد حتى خَرَّت صريعة، فلا تستطيع أن تُقاوم حجج واضحات، وبراهين ساطعات، فقد أُبِيدت فكرتهم وقُتِلت مَوْءُودَة عن بكرة أبيها، فلا تسمع لهم بعدها أي صوت دويٍّ عليٍّ، أو حتى أي رد خفي، ولا ترى لهم بعدها عينًا تطرف بأي طرفٍ خفيٍ، فلا تُحس بعد تلك الحجج والبراهين لهؤلاء حسًا، ولا تسمع لأحد منهم صوتًا ولا ركزًا.
4 -
أن جمع القرآن في عهده الثالث (الجمع العثماني) كان له بواعثه وأسبابه ودواعيه والتي مر ذكرها مفصلة في ثنايا البحث،، كما كان له خصائصه ومزاياه التي تميز بها عن الجمع في جميع مراحله- كذلك، فقد كوَّن عثمانُ رضي الله عنه لجنة لجمع المصحف الإمام واختارها وفق قواعد وضوابط محكمة، كانت على أعلى درجة من الحسن والكمال والإتقان لتقوم بتلك المهمة العظيمة الجسيمة لحسم الخلاف وجمع الأمة على مصحف إمام، ثم نسخ عن المصحف الإمام
مصاحف بعث بها لأهل الأمصار وأرسل مع كل قارئ مصحفًا يقرأ في الغالب بنفس المصحف الذي كُتِبَ بين يديه، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تلك الصحف وأثنوا عليها وتلقتها الأمة بالقبول، وبتلك الحكمة وبهذا العمل الجليل أخمدت تلك الفتنة في مهدها.
ولقد طعن الطاعنون على تلك الصحف وعلى هذا الجمع بمطاعن وشبه باردة، ولقد أورد الباحث تلك الشبه والمطاعن وناقشها وردها وأبطلها ودحضها.
5 -
وكان من أبرز نتائج هذا البحث أن بيَّن الباحثُ فيه أهمَ وأبرز القضايا المتعلقة بالمصاحف العثمانية، كما تناول بيان أهم نتائجه وفوائده، وأكد على جود المصاحف العثمانية بين الناس في وقتنا الحاضر، ثم بين أن من أهم مظاهر حفظ الله تعالى لكتابه سبحانه ظهور طباعة المصحف العثماني وانتشاره في الآفاق في عصرنا الحاضر.
6 -
كما نتج عن تناول هذا البحث معرفة الرسم العثماني ومفهومه في اللغة والاصطلاح، ومعرفة قواعده التي قررها علماء الرسم، وساق الباحثُ رسومًا تقريبية لمراحل الرسم العثماني وتطور مراحله منذ بداية كتابته وحتى وقتنا الحاضر، وتوصلت تلك الدراسة وخلصت إلى أن الرسم العثماني توقيفي، وأنه نسبته لعثمان رضي الله عنه نسبة شهرة لا نسبة ابتداء، ثم بينت الدراسة بوضوح وجلاء موقف علماء الرافضة من المصاحف العثمانية ثم فندتها بثوابت الأدلة وبدوامغ الحجج الواضحة والبراهين الساطعة.
7 -
ويُعد من أبرز نتائج تلك الدراسة تناولها للمرحلة الرابعة لجمع القرآن الكريم- (الجمع الصوتي للقرآن الكريم) - بالدراسة والتحقيق والتدقيق، وقد تناولت الدراسة بيان بداية فكرةِ هذا الجمع وظهور أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم كاملًا، ثم وضعت ضوابط محكمة وقواعد أصيلة لتسجيل القرآن، ثم تناولت أهم الآفات والمعوقات التي تقف سدًا منيعًا أمام إكمال مشروع التسجيل الصوتي للقرآن الكريم في عصرنا الحاضر وعالجتها في ضوء المعطيات والتحديات
القائمة معالجة حقيقية تتناسب مع الوضع الحالي وبصورة سهلة المنال بعيدة عن التعقيد والمحال.
8 -
كما كان من أبرز نتائج تلك الدراسة التعريف بالأحرف السبعة وبيان مفهومها ومعناها، كما بينت بوضوح وجلاء أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف، كما كان من نتاجها كذلك بيان المقصود من هذه الأحرف، وبيان العلاقة بينها وبين بالقراءات، كما نتج عن تلك الدراسة أيضًا معرفة مصير الأحرف السبعة وبيان الفرق بينها وبين القراءات.
9 -
كما كان من أبرز نتائج تلك الدراسة وأبينها: مدارسة الجمع العثماني والأحرف السبعة وبيان علاقتها بمصحف أبي بكر ومصاحف عثمان رضي الله عنهما، وبيان علاقتها بالعرضة الأخيرة، وعلاقتها بلغات العرب، وعلاقتها برسم القرآن، كما أنها لخصت المراد بالأحرف السبعة، وختمت تلك الدراسة بمحث من أهم مباحثها ألا وهو "موقف الرافضة من الأحرف السبعة"، ففضحتهم في عقر دارهم مستدلة على مواقفهم المخزية وإنكارهم للأحرف السبعة وتكذيبهم
للأحاديث الواردة بشأنها بما ورد على لسان أئمتهم وسادتهم في مراجعهم ومصادرهم الأصلية، كما ختمت تلك الدراسة بمبحث هامّ للغاية له علاقة وثيقة بتلك الشرذمة التي قالت بتحريف القرآن وأنكرت السنة وردتها إلا ما وافق أهواءهم، وكفَّروا جماهير الصحابة رضي الله عنهم، ورفعت الأئمة لمقام الربوبية والألوهية، والبحث المعني ذكره آنفًا هو " رد الدعاوي الباطلة الداعية للتقريب بين السنة والشيعة"، واستحالة التقاء التوحيد والشرك والتنديد، والسنة والبدعة، والإيمان والنفاق وسوء الأخلاق.
10 -
ومما سبق ذكره باقتضاب يتبين ما تفرد به هذا البحث عن غيره وما تميز به عن سواه، كما أنه قد تبين للباحث مسيس الحاجة لدراسات وتحقيقات علمية تتناول الجمع العثماني وكل ما يتعلق به من مباحث في بحث علمي واحد رصين يجمع ويلم شعثه وأصوله كلها وفق ضوابط علمية وأصول بحثية وتحريرات دقيقة لمسائله المتشعبة.
والحمد لله رب العالمين.
وفق الله جامعه للانتهاء من تبيضه في عصر يوم السبت الموافق 3/ 12/ 1442 هـ
بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية.
أملاه
العبد الضعيف الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
الرياض في: 3/ 1/ 1442 هـ
البريد: [email protected] واتساب: 00966503722153
مجموع الفهارس:
أ-
فهرس المراجع
1 -
أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، إعداد الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، المجلد السابع، الطبعة الأولى، 1423 هـ/ 2002 م.
2 -
إعجاز القرآن والبلاغة النبوية المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة الثامنة - 1425 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 1.
3 -
الآداب الشرعية، المؤلف: عبد الله محمد بن مفلح المقدسي; المحقق: شعيب الأرناؤوط -عمر القيام، الناشر: مؤسسة الرسالة، سنة النشر: 1419 - 1999 م، ط: 3
4 -
الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت: 911 هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ-1985 م.
5 -
إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف، لأبي عمر صادق العلائي (الرافضي)، الناشر: مركز آفاق للدراسات الاسلامية، رقم الطبعة: 1425 هـ، عدد
المجلدات 3.، كما أن الكتاب مصنف تحت مسمى" الشيعة ومعتقداتها، الفرق الاسلامية" في المكتبة المكتبة المركزية، وهو صادر عن جامعة آل البيت كذلك، لسنة 1425 هـ.
6 -
الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات، عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي (371 - 444 هـ)، تحقيق: محمد بن مجقان الجزائري، الطبعة الأولى عن دار المغني- الرياض- هـ 1420 - 1999 م، عدد المجلدات:1.
7 -
إعجاز القرآن للباقلاني المؤلف: أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب (المتوفى: 403 هـ) المحقق: السيد أحمد صقر الناشر: دار المعارف - مصر الطبعة: الخامسة، 1997 م عدد الأجزاء:1.
8 -
الأنوار النعمانية، في بيان النشأة الإنسانية المؤلف: نعمة الله الجزائري: (ت: 1112 هـ)، تعليق: محمد علي القاضي الطباطبائي، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان، ط 1، (د. ت)، عدد الأجزاء:4.
9 -
الانتصار للقرآن المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403 هـ) تحقيق: د. محمد عصام القضاة الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت ط 1، 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء:2.
10 -
البرهان في علوم القرآن- لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - الطبعة الأولى- دار إحياء الكتب العربية، مصر 1376 هـ - 1957 م.
11 -
البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: دار الفكر عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15.
12 -
البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدُّرة - القراءاتُ الشاذةُ وتوجيهها من لغة العرب، المؤلف: عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي (المتوفى: 1403 هـ)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان-عدد الأجزاء: 1
13 -
بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي:(ت: 1111 هـ)، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت- لبنان، تاريخ الإصدار: 1429 هـ - 2008 م، المجلدات: 110
14 -
تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، عدد الأجزاء:8.
15 -
التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث. د فضل عباس حسن، دار النفائس-عمان-الأردن، ط 1، 1437 هـ.
16 -
تفسير ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق الناشر: مؤسسة الرسالة ط 1، 1420 هـ -2000 م عدد الأجزاء:1.
17 -
تفسير البغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ، عدد الأجزاء:5.
18 -
تفسير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) تحيق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء:24.
19 -
تفسير ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى- هـ.
20 -
تفسير ابن عاشور: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى:
1393 هـ) الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس سنة النشر: 1984 هـ، عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين).
21 -
تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي، شمس الدين القرطبي، (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م.
22 -
التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، دار الغرب الإسلامي. (د. ص).
23 -
التفسير الصافي، للكاشاني، المؤلف: محمّد محسن بن مرتضى بن محمود، المعروف بالفيض الكاشاني (ت: 1091 هـ)، المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة تحقيق: الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1416 هـ - 1374 ش، المطبعة: مؤسسة الهادي - قم- الناشر: مكتبة الصدر - طهران، عدد الأجزاء: 7
24 -
تفسير الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة - 1407 هـ، عدد الأجزاء:4.
25 -
تدوين القرآن، لـ " علي الكوراني العاملي"(الرافضي)، الفصل الخامس قراءات شخصية ومحاولات تحريف، المكتبة الشيعية التابعة لمؤسسة آية الله العظمى الميلاني لإحياء الفكر الشيعي.
26 -
تاريخ المدينة لابن شبة المؤلف: عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد (المتوفى: 262 هـ) حققه: فهيم محمد شلتوت طبع على نفقة: السيد حبيب محمود أحمد - جدة عام النشر: 1399 هـ.
27 -
التمهيد في علوم القرآن، محمد هادي معرفة بن علي محمد علي الميسي (ت: 1427 هـ)، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 2011 م، عدد الأجزاء:10.
28 -
تأويل مشكل القرآن المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 هـ) المحقق: إبراهيم شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - نسخة الشاملة.
29 -
التعريف بكتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ مجد مكي-دار القلم- دمشق-ط 1 - 1427 هـ.
30 -
تاريخ القرآن الكريم، محمد طاهر الكردي. مطبعة الفتح، ط 1، جدة، السعودية، 1946 م.
31 -
تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربية، صالح علي العَوْد، تقديم محمد بن عبد الوهاب أبياط الطبعة: الأولى، الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية، تاريخ النشر: 1416 هـ- عدد الأجزاء: 1.
32 -
جَنَى الخُرْفَةِ في إبطالِ القولِ بالصَّرْفةِ، تأليف: عرفة بن طنطاوي، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية- مجلة محكمة- العدد الستون، تاريخ النشر: صفر 1442 هـ.
33 -
جامع البيان في معرفة رسم القرآن على إسماعيل السيد هنداوي: (دار الفرقان -الرياض، 1410 هـ).
34 -
الجفران الأكبر والأصغر، ترجمة وتحقيق: هشام عثمان، الناشر: شركة الأعلمي للطباعة، الطبعة الأولى: 1/ 6/ 2002 م، مجلد 1.
35 -
الجامع، تحقيق مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح: علي عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، ط 1، سنة الطبع: 1421 هـ-2000 م، المجلدات:12.
36 -
حصاد قلم، الدكتور/ محمد عبد الله دراز، تحقيق، أحمد مصطفى فضيلة، تقديم الدكتور/ عبد الستار فتح الله سعيد، دار القلم، 2000 م، القاهرة.
37 -
الاحتجاج للطبرسي: المؤلف: أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي: (ت: 548 هـ)، تحقيق: تعليق وملاحظات: محمد باقر الخرسان، مطابع النعمان النجف الأشرف
حسن الشيخ إبراهيم الكتبي، المجموعة: مصادر الحديث الشيعية، القسم العام، سنة الطبع: 1386 هـ- 1966 م، عدد الأجزاء: 2
38 -
الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية لمحب الدين الخطيب، محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب (ت: 1389 هـ)، تقديم محمد نصيف، (د. ت)، نسخة الشاملة، أضيفت بتاريخ: 20/ 11/ 2012 م، عدد الأجزاء: 1
39 -
دبستان المذاهب المؤلف: محسن بن حسن الفاني الكشميري; العنوان الفرعي: في الملل والنحل، اللغة: الفارسية. التصنيف: (200/ 9 ف 193 د 1292)، محل التخزين. باكستان گنج بخش.
40 -
الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة، لأبي بكر بن عبدالله اللبيب، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - قطر- الطبعة الأولى 1432 هـ، تحقيق: عبد العلي أيت زعبول، عدد الأجزاء: 1
41 -
دلائل التوفيق لأصح طريق لجمع الصديق، تأليف: عرفة بن طنطاوي، بحث منشور في مجلة البحوث الشرعية - مجلة محكمة-، العدد الثالث عشر بعد المائة، تاريخ النشر: جمادى الأولى 1442 هـ.
42 -
رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية " للدكتور. غانم قدوري الحمد، نشر: اللجنة الوطنية للنشر-العراق، عام: 1402 - 1982، ط 1، مجلد واحد.
43 -
الرد القويم البالغ على الخليلي الإباضي، للشيخ علي بن محمد بن ناصر الفقيهي: طبعة دار المآثر، الطبعة الثانية 1422 هـ.
44 -
رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة، للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع: 1433 هـ
45 -
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، للألباني، المؤلف: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، دار النشر: دار المعارف، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ/ 1992 م-عدد الأجزاء 14.
46 -
سير أعلام النبلاء المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ) المحقق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1405 هـ/ 1985 م عدد الأجزاء: 25 (23 ومجلدان فهارس).
47 -
سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين" للشيخ علي بن محمد الضبَّاع (ت: 1380 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى بلال، نشر: دار الفضيلة، ط، 1434 هـ.
48 -
شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء:15.
49 -
شرح أصول الكافي لمحمد صالح المازرنداني (ت: 1081 هـ): المعروف بكتاب الكافي في الأصول والروضة، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني: مع شرح الكافي.
50 -
الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو، المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته، المؤلف: الدكتور لبيب السعيد، الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة، تاريخ النشر: 1387 هـ، 1967 م، (د. ط).
51 -
الشيعة والقرآن، لإحسان إلهي ظهير (ت: 1407 هـ)، الناشر: إدارة ترجمان السنة - باكستان; (د. ت) عدد المجلدات: 1
52 -
الشيعة وتحريف القرآن لمحمد مال الله الخالدي، الناشر: دار الوعي- بيروت: 2008 م.
53 -
شرح السنة، الإمام البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، ط ثانية، 1983 م، المكتب الإسلامي.
54 -
صلاة المؤمن، الدكتور: سعيد بن وهف القحطاني،، صلاة المؤمن - مفهوم، وفضائل، وآداب، وأنواع، وأحكام، وكيفية في ضوء الكتاب والسنة (الطبعة الرابعة)(2010 م)، جزء 1.
55 -
طبقات المدلسين، الحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق الدكتور/ عاصم بن عبد الله القريوتي، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، الطبعة: الأولى (1405 هـ).
56 -
غرائب القرآن ورغائب الفرقان المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850 هـ) المحقق: الشيخ زكريا عميرات الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت الطبعة: الأولى - 1416 هـ.
57 -
الطبع. بمبئي، تاريخ الطبع: 1292 هـ. الناسخ: شيرازي، محمد علي. نوع الطباعة: حجرية.
58 -
غاية البيان في الرد على القائل بتحريف القرآن لـ" الدكتور/ محمد عبد القادر أعمر"، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، سنة: 2019 م، المجلدات: 1
فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، لابن الجوزي، ط. دار البشائر الإسلامية، سنة النشر: 1408 هـ - 1987 م.
59 -
فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (ت: 852 هـ)، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه:
محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عدد الأجزاء:13.
60 -
فصل الخِطابِ في إِثْبَاتِ تَحريفِ كِتابِ رَبِّ الأربابِ: للطبرسي، ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي:(ت: 1320 هـ) (الطبعة الحجرية المخطوطة وهي متوفرة بصيغة: " بي دي إف"، والكتاب له عدة طبعات في إيران، لم يقف الباحث على شيء منها.
61 -
فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، محمد زكريا اللامردي:(معاصر)، وهو شبيه كتاب الطبرسي في مسماه، من منشورات شبكة الفكر الالكترونية- الرافضية، ومكتبة نرجس للكتب المصورة، وموقع مدرسة الإمام الحسين الدينية، الطبعة الأولى عام 2007 م، مجلد 1
62 -
الفصل في الملل والأهواء والنحل المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456 هـ) الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء: 5 في 3 مجلدات.
63 -
الفهرست، لابن النديم، المؤلف: أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي المعروف بابن النديم (المتوفى: 438 هـ) المحقق: إبراهيم رمضان، الناشر: دار المعرفة بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية 1417 هـ - 1997 مـ، عدد الأجزاء: 1
64 -
القول بتحريف القرآن من لوازم التشيع الإمامي، الشيخ عبد الله بن عمر الخضري، مجلد الراصد الإلكترونية العدد التاسع والسبعون - محرم 1431 هـ.
65 -
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان عدد الأجزاء: 1
66 -
كتاب المصاحف، المؤلف: أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المتوفى: 316 هـ) المحقق: محمد بن عبده الناشر: الفاروق الحديثة، مصر- القاهرة الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء:1.
67 -
كتاب المصاحف، أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المتوفى: 316 هـ) تحقيق الشيخ سليم بن عيد الهلالي، - نشر مؤسسة غراس للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1427 هجري - 2006 م.
68 -
الكافي: المؤلف: محمد بن يعقوب الكليني (ت: 329 هـ)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ش المطبعة: حيدري، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران- ايران، نهض بمشروعه محمد الآخوندي، سنة الطبع: 1363 ش، عدد الأجزاء:15.
69 -
الكتابة العربية وقت الإسلام وبعده، عبد الفتاح القاضي، المصدر: مجلة كنوز الفرقان؛ العددان: (التاسع والعاشر)؛ السنة: (الرابعة)، رمضان وشوال 1371 هـ.
70 -
كشف العمى والرين عن ناظري مصحف ذي النورين المؤلف: مُحَمَّدٌ العاقِبُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَايَابِي الجَكَنِيُّ الشنقيطي، الفصل الثالث: في كون الرسم توقيفيًا يجب اتباعه، الأبيات من 37: 43، عدد الأبيات: 417، نسخة الشاملة.
71 -
لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15.
72 -
مباحث في علوم القرآن المؤلف: صبحي الصالح الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الطبعة الرابعة والعشرون كانون الثاني/ يناير 2000 عدد الأجزاء: 1.
73 -
مباحث في علوم القرآن المؤلف: مناع بن خليل القطان (المتوفى: 1420 هـ) الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1.
74 -
مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد الرابع، السنة الثانية، 1410 هـ - 1989 م
المدخل لدراسة القرآن الكريم المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403 هـ) الناشر: مكتبه السنة - القاهرة الطبعة: الثانية، 1423 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1
75 -
مختار الصحاح، الإمام الرازي، تحقيق عصام فارس الحرستاني، ط 9، عام 2005 م، دار عمار، عمان.
76 -
معاني القرآن وإعرابه، الإمام أبو إسحاق الزجاج، تحقيق د. عبد الجليل شلبي، ط 1، عام 1988 م، عالم الكتب.
77 -
المناهي اللفظية: المؤلف: العلامة/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)، جمع وإعداد: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، الناشر: دار الثريا للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1415 هـ، عدد الأجزاء: 1
78 -
المزهر: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، (الطبعة الأولى، 1998 م) تحقيق: فؤاد علي منصور
79 -
موقف الرافضة من القرآن لـ"مامادو كارامبيري". رسالة جامعية، بإشراف: الشيخ عبد الله الغنيمان رسالة ماجستير - الجامعة الإسلامية، 1412 هـ الطبعة: الأولى- مصدرها: الشاملة الذهبية.
80 -
المستصفى المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ) تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1413 هـ.
81 -
مناهل العرفان في علوم القرآن المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (ت: 1367 هـ) الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الثالثة، عدد الأجزاء:2.
82 -
مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت: 725 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ- 1995 م.
83 -
مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420 هـ) أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر عدد الأجزاء: 30 جزءًا.
84 -
الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، المؤلف: د. مانع بن حماد الجهني، الناشر: دار الندوة للنشر; عدد المجلدات: 2.
85 -
محمد عزة دروزة وتفسير القرآن الكريم، دكتور فريد مصطفى سليمان. الرياض مكتبة الرشيد، رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، الطبعة الأولى، 1993 م - 1413 هـ.
86 -
من لا يحضره الفقيه، المؤلف: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي الصدوق (ت: 381 هـ)، المحقق: علي أكبر الغفّاري المترجم: الناشر: جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، الطبعة: 2، سنة الطبع: 1404 هـ، عدد المجلدات:4.
87 -
الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءًا، طبع الوزارة.
88 -
المصحف العثماني، الموسوعة الإلكترونية لمدرسة آل البيت:(ويكي شيعة).
89 -
المدخل الموسوعي لدراسة التفسير الموضوعي. تأليف: عرفة بن طنطاوي، نسخة بصيغة (بي. دي. إف).
90 -
منجد المقرئين ومرشد الطالبين المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1420 هـ -1999 م عدد الأجزاء: 1.
91 -
المحكم في نقط المصاحف المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ) المحقق: د. عزة حسن الناشر: دار الفكر - دمشق الطبعة: الثانية، 1407 عدد الأجزاء:1.
92 -
"المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" لـ" أبي عمرو الداني" وهو: أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي الداني الأندلسي، المعروف في زمانه بابن الصيرفي (ت: 444 هـ). تحقيق: د. عزة حسن. الصف التصويري: دار الفكر - دمشق. التنفيذ الطباعي: المطبعة العلمية.
93 -
المرشد الوجيز إلى مباحث تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت
94 -
المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة - ص 69 - 71، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت)
95 -
من لطائف البيان في رسم القرآن شرح مورد الظمآن؛ للشيخ أحمد محمد أبو زيتحار، القسم الأول، ط/ قطاع المعاهد الأزهرية
96 -
المنفعة فى مراحل مع القرآن، كريم شوقي بن عربي، دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع، 2018 م
97 -
النقد الفني لمشروع ترتيب القرآن الكريم حسب نزوله"، عبد الله دراز، مجلة الأزهر، رئيس التحرير: محمد فريد وجدي بكّ، تحت إدارة ديوان الإدارة للأزهر، والمعاهد الدينية، بالقاهرة، عدد شهر رمضان سنة (1370 هـ/ 1950 م، مجلد 22). مطبعة الأزهر.
98 -
النكت في إعجاز القرآن، الرماني، علي بن عيسى، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة.
99 -
النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: 5
100 -
نونية القحطاني، لأبي محمد عبدالله بن محمد الأندلسي، الناشر: مكتبة السوادي للتوزيع - جدة، الطبعة الثالثة، 1995 م، تحقيق: محمد بن أحمد سيد أحمد، جزء: 1