المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ـ[الصفدية]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن - الصفدية - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

ـ[الصفدية]ـ

المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)

المحقق: محمد رشاد سالم

الناشر: مكتية ابن تيمية، مصر

الطبعة: الثانية، 1406هـ

عدد الأجزاء: 2 في مجلد واحد

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

ملحوظة: نشرة دار الفضيلة - الرياض، لها نفس ترقيم صفحات هذه الطبعة

ص: -1

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية العصر قدوة الخلف تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مسلم يقول أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية أفتونا مأجورين

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين.

هذا الكلام وهو قول القائل: أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية باطل بل هو كفر يستتاب قائله ويبين له الحق فإن أصر على اعتقاده بعد قيام الحجة الشرعية عليه كفر وإذا أصر على إظهاره بعد الاستتابة قتل.

وهو من كلام طائفة من المتفلسفة والقرامطة

ص: 1

الباطنية والإسماعيلية ونحوهم كابن سينا وأمثاله وأصحاب رسائل إخوان الصفا والعبيدين الذين كانوا بمصر من الحاكمية وأشباههم وهؤلاء كانوا يتظاهرون بالتشيع وهم في الباطن ملاحدة ويسمون القرامطة والباطنية وغير ذلك

ص: 2

وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء وأبوه وجده من أهل دعوتهم وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل ويدعون أن للملة باطنا يناقض ظاهرها

ثم هم في هذه الدعوة على درجات فالواصلون منهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم مثل قرامطة

ص: 3

البحرين أتباع الجنابي وأصحاب الألموت وسنان الذي كان بالشام وأمثالهم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ولا الزكاة ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت العتيق ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا وغير ذلك ويزعمون أن هذه النصوص لها

ص: 4

تأويل وباطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وأمثال ذلك وقد يقولون أن هذه الفرائض تسقط عن الخاصة دون العامة وأما النصوص التي في المعاد وفي أسماء الله وصفاته وملائكته فدعواهم فيها أوسع وأكثر

وقد دخل في كثير من أقوالهم في العلوم أو في العلوم والأعمال طائفة من المنتسبين إلى التصوف والكلام وكلام ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من ملاحدة المتصوفة يرجع إلى قول هؤلاء.

وهؤلاء الملاحدة من المتفلسفة والقرامطة ومن وافقهم يقولون أن النبوة لها ثلاث خصائص من قامت به فهو نبي والنبوة عندهم لا تنقطع بل يبعث الله بعد كل نبي نبيا دائما وكثير منهم يقول أنها مكتسبة وكان السهروردي

ص: 5

المقتول منهم يطلب أن يصير نبيا وكذلك ابن سبعين كان يطلب أن يصير نبيا وكانوا يعلمون من السحر والسيماء ما يضلون من يلبسون عليه:

الخاصة الأولى: أن تكون له قوة قدسية وهي قوة الحدس بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره إلا بكلفة شديدة وقد يعبرون عن ذلك بأنه يدرك الحد الأوسط من غير احتياج إلى ما يحتاج إليه من ليس مثله وحاصل الأمر أنه أذكى من غيره وأن العلم عليه أيسر منه على غيره.

الخاصة الثانية: قوة التخييل والحس الباطن بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صورا نورانية هي عندهم ملائكة الله ويسمع في نفسه أصواتا هي عندهم كلام الله من جنس ما يحصل للنائم في منامه ومن

ص: 6

جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة ومن جنس ما يحصل لبعض الممرورين الذين يصرعون ويقولون إن ما أخبرت به الرسل من أمور الربوبية واليوم الآخر إنما هو تخييل وأمثال مضروبة لا أنه إخبار عن الحقائق على ما هي عليه.

الخاصة الثالثة أن تكون له قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي العالم كما أن العائن له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين ويزعمون أن خوارق العادات التي للأنبياء والأولياء هي من هذا النمط وأصل أمر هؤلاء أنهم لا يثبتون لصانع العالم مشيئة واختيارا وقدرة بها يقدر على تغيير العالم وتحويله من حال إلى حال بل وأئمتهم لا يثبتون علمه بتفاصيل أحوال العالم بل منهم من يقول لا يعلم شيئا ومنهم من يقول لا يعلم إلا نفسه ومنهم من يقول يعلم الجزئيات على وجه كلي وهذا اختيار ابن سينا وهو أجود أقوالهم مع تناقض هذا القول وفساده.

ص: 7

فإن كل موجود في الخارج هو موجود معين جزئي والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ونفس الصانع موجود واجب معين ليس هو كليا وكذلك أيضا الصادر عنه كالأفلاك وكالعقول والنفوس التي يثبتونها فإن كان لا يعلم إلا كليا لم يعلم نفسه ولا الصادر عنه ولا الأفلاك وأيضا فلا يوجد إلا ما هو جزئي فإن كان لا يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات.

وهم يقولون أنه علة تامة مستلزمة للعالم والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وقولهم أن النفوس والعقول معلولة له ومتولدة عنه أعظم كفرا من قول من قال من مشركي العرب أن الملائكة بنات الله قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وهؤلاء المتفلسفة يقولون العقل بمنزلة الذكر والنفس بمنزلة الأنثى وكلاهما متولد عن الله تعالى وأولئك كانوا يقولون أنه خلق الملائكة بمشيئته وقدرته وأنه هو رب السماوات والأرض وأما هؤلاء فيقولون أن العقول التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة يقولون أنها معلولة متولدة عن الله لم

ص: 8

يخلقها بمشيئته وقدرته ويقولون أنها هي رب العالم فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال المتعلق بفلك القمر فيقولون أنه أبدع ما تحت الفلك فهو عندهم المبدع لما تحت السماء من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم والخطاب الذي سمعه موسى إنما كان عندهم في نفسه لا في الخارج وهو فيض فاض عليه من هذا العقل الفعال ومنهم من يقول جبريل فلما كان أصل قولهم أن صانع العالم لا يمكنه تغيير العالم ولا له قدرة ولا اختيار في تصريفه من حال إلى حال جعلوا يريدون أن ينسبوا جميع الحوادث إلى أمور طبيعية ليطرد قولهم ويسلم عن التناقض وهو قول فاسد متناقض في نفسه وذلك أنا نشاهد الحوادث التي تحدث مثل حركات الكواكب وطلوع الشمس والقمر ومثل المطر والسحاب وهبوب الرياح وحدوث الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك من الحوادث

ص: 9

فإذا كان أصل قولهم أن الصانع هو موجب بالذات وهو علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لم يتأخر عنها شيء من معلولها فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها والموجب بالذات هو الذي تكون ذاته مستلزمة لموجبه ومقتضاه فلا يجوز أن يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله ولهذا قالوا بقدم العالم وهذا أعظم حججهم على قدم العالم قالوا لأن الحادث بعد أن لم يكن لا بد له من سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ثم القول في ذلك السبب الحادث كالقول فيما قبله فيلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل يلزم الدور الممتنع بخلاف التسلسل المتنازع فيه فإن وجود الحوادث دائما بلا ابتداء ولا انتهاء للناس من المسلمين وغيرهم فيه ثلاثة أقوال قيل يجوز مطلقا وهذا قول أئمة السنة والحديث وأساطين الفلاسفة لكن المسلمون وسائر أهل الملل وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وإن قال منهم من قال بدوام الحوادث شيئا بعد شيء

ص: 10

وقيل لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل وهو قول الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وقيل يجوز في المستقبل دون الماضي وهو قول أكثر أتباع جهم وأبي الهذيل من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم وأما تسلسل العلل أو الفاعلين أو ما هو من تمام الفاعل أو العلة الفاعلة فممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لفاعل العالم فاعل ولذلك الفاعل فاعل وهلم جرا فهذا التسلسل قد اتفق العقلاء على امتناعه وقد بسطنا الدلائل العقلية على امتناعه في غير هذا الموضع وكذلك إذا قيل الحادث لا بد له من سبب حادث وذلك السبب لا بد له من سبب حادث فإن هذا إذا أريد به الحادث المعين لزم التسلسل في تمام الفاعلية وإن أريد به نوع الحوادث لزم الدور الممتنع

ص: 11

والدور نوعان أحدهما الدور القبلي السبقي فهذا ممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لا يكون هذا إلا بعد ذاك ولا يكون ذاك إلا بعد هذا فهذا ممتنع باتفاق العقلاء ونفس تصوره يكفي في العلم بامتناعه فإن الشيء لا يكون قبل كونه ولا يتأخر كونه عن كونه فلو قيل إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعا فكيف إذا قيل أنه لا يكون إلا بعد ذاك وقيل أيضا ذاك لا يكون إلا بعد هذا فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه وبعد بعد نفسه فلزم الدور الممتنع أربع مرات فإنه إذا قيل لا يكون هذا إلا بعد ذاك كان ذاك قبل هذا وإذا قيل لا يكون ذاك إلا بعد هذا كان هذا بعد ذاك لا قبله فيلزم أن لا يكون هذا إلا قبل ذاك الذي هو قبل هذا وأن لا يكون ذاك إلا قبل هذا الذي هو قبل ذاك فيكون ذاك قبل ذاك بمرتبتين ويكون هذا قبل هذا بمرتبتين فلهذا اتفق العقلاء على امتناع هذا وأما الدور المعي الاقتراني مثل أن يقال لا يكون هذا إلا مع ذاك لا قبله ولا بعده فهذا جائز كما إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع البنوة وقيل أن صفات الرب اللازمة له لا تكون إلا مع ذاته وعلمه مع حياته وقدرته مع علمه ونحو ذلك

ص: 12

فإذا قيل إن جنس الحوادث لا يحدث إلا بسبب حادث كان المعنى أنه لا يكون شيء من الحوادث حتى يكون حادث فلايكون حادث من الحوادث ألبتة حتى يسبقه حادث والسابق من الحوادث التي جعلت متأخرة عن هذا الحادث وجعلت الحوادث كلها بعده فيلزم أن يكون الشي قبل نفسه وأما إذا قيل لا يكون الحادث المعين حتى يكون حادث ثم ذلك الحادث لا يكون حتى يكون حادث فهذا على وجهين إن قيل لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث فهذا التسلسل في الآثار وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم كما يظنه كثير من الناس بل نفس أهل الملل بل أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث يجوزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله فيقولون إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولا تزال أزلا وأبدا وقد بسط هذا وما يناسبه في موضع آخر وذكر بعض ما في ذلك من أقوال أئمة السنة والحديث وأما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا نقل هذا عن أحد من أنبياء الله ولا قاله أحد من الصحابة

ص: 13

أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ولا التابعين لهم بإحسان ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة سواء سميت عقولا ونفوسا أو لم تسم والحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عليه وفد اليمن قالوا: جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على

ص: 14

الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض" قد ذكرنا ألفاظه وطرقه وذكرنا الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" والحديث الآخر الذي رواه مسلم أيضا في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر" وذكرنا أن حديث عمران رواه البخاري في ثلاثة مواضع بثلاثة ألفاظ كان الله ولم يكن شيء قبله ورواه في موضع ولم يكن شيء معه ورواه في موضع آخر ولم يكن شيء

ص: 15

غيره وأن المجلس كان واحدا لم يقل النبي صلى الله

ص: 16

عليه وسلم إلا واحدا من الثلاث وقد ثبت أنه قال: "ليس قبلك شيء" واللفطان الآخران رويا بالمعنى وبينا على كل تقدير أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم جواب أهل اليمن عما سألوه من ابتداء خلق هذا العالم الذي خلق في ستة أيام وكان عرش الله على الماء قبل ذلك وقدر الله مقادير هذا العالم قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة والمقصود هنا أنه إذا قيل لا يكون حادث حتى يكون حادث فهذا على وجهين أحدهما أنه لا يكون حادث حتى يكون قبله حادث فهذا فيه نزاع مشهور والثاني أن يقال أنه لا يكون حادث حتى يكون معه حادث لامتناع حدوث الحادث بلا سبب حادث لأن الفاعل لا يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إلا لحدوث سبب حادث فهذا يوجب أن القديم لا يصدر عنه حادث ألبتة لأنه متى حدث حادث بلا سبب حادث انتقضت القضية الكلية فيلزم أن لا يفعل البتة شيئا وإن فعل لزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذه الحجة أعيت كثيرا من أهل الكلام والنظر حتى قال كثير منهم القادر يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وكذلك قال الآخرون نفس الإرادة القديمة هي المرجحة لأحد المثلين على الآخر

ص: 17

ونحن ننبه على ما به يعلم فساد قولهم والجواب عن حجتهم وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضعه فيقال إذا كان الصانع قديما موجبا بالذات وعلته تامة أزلية لزم ألا يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله كما ذكروا لأن المتأخر إن كان قد وجدت كلته التامة في الأزل لزم أن يكون أزليا لا يتأخر وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن سواء كان الحادث شرطا من شروط تمام العلة أو غير ذلك ثم القول في علة تلك العلة كالقول في العلة التي هي معلول هذه فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن العلة التامة تستلزم معلولها فالحادث لا تكون علته تامة في الأزل فيلزم على ذلك ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود وحينئذ فأما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهم يسلمون فساده وإما أن تكون حادثة عن فاعل آخر غير الواجب الموجود بنفسه فله فاعل ثم ذلك الفاعل إن لم يكن واجب الوجود بنفسه فله فاعل والقول في حدوث الحوادث عنه كالقول في الأول وإن كان واجب الوجود بنفسه كان القول فيه كالقول في ذلك الواجب إن كان علة تامة لزم ألا يحدث عنه حادث وإن لم يكن علة تامة بطل قولهم بالموجب بالذات فتبين فساد قولهم على كل تقدير وغاية ما يقولون أنهم يقولون أن لك حادث مشروط

ص: 18

بحادث قبله والحوادث معدات وشروط للفيض عن الواجب بذاته ويقولون أن حركة الفلك هي سبب الحوادث والتغييرات فيقال لهم هب أن الأمر كذلك فالحوادث المتعاقبة سواء كانت حركة متصلة أو غير ذلك إذا كانت لم تصدر إلا عن علة تامة لزم أن تكون مقارنة للعلة التامة فإن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها والموجب بذاته يقارنه موجبه حينئذ فلا يتأخر عنها معلولها فالمتأخر لا يكون معلولها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها

وإذا قالوا حدوث الأول أعدها لإحداث الثاني قيل لهم القول في حدوث الحادث الأول كالقول في حدوث الحادث الثاني فالحادث الأول الذي هو شرط الثاني لا يجوز أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية بل لا تكون العلة التامة له إلا حادثة سواء كان الحادث كلها أو بعض أجزائها وشروطها وهذا مما يعترفون به مع أنه حق بين فحينئذ لا يكون لشيء من الحوادث علة تامة أزلية فإذا كان المبدأ الأول الذي هو صانع العالم علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث عالة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صدر عنه فلا يكون لشيء من الحوادث فاعل ولا محدث وهذا غاية الجهل والتعطيل والسفسطة وهم يعترفون بفساده فإذا قالوا هذا الحادث المعين اليومي إنما تمت شروط

ص: 19

اقتضائه وأحداثه التي بها صارت علته تامة في هذا الوقت المعين فإن العلة إذا تمت لم يتأخر عنها معلولها قيل لهم فيلزم أن يكون تمام العلة التامة لما يحدث في اليوم المعين إنما حدث ذلك اليوم ثم تمام العلة أيضا حادث في اليوم المعين فيلزم أن تكون علته أو تمام علته حادثا في اليوم المعين وهلم جرا فيلزم أن يكون كل حادث إنما صارت علته تامة عند حدوثه فيلزم من ذلك بطلان قولهم من وجوه أحدها أنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية بل إنما صارت له علة تامة عند حدوثه بلط قولهم فإنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صادرا عن الموجب بالذات الذي هو علة تامة أزلية فعلم أن المحدث للحوادث ليس علة تامة لمعلولة في الأزل وهو المطلوب وهذا الموضع إذا تدبره من يفهمه ويفهم مذهبهم علم أنه يبين فساد قولهم بالضرورة وكلما غيرت العبارات الدالة عليه زاد بيانا وقوة فدعواهم أن المبدع الموجب بالذت علة تامة أزلية مع كون الحوادث المتعاقبة صدرت عنه جمع بين النقيضين إذ العلة التامة يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها وسواء قيل أن الفلك صدر عنه بلا واسطة كما تقوله طائفة منهم أو قيل صدر عنه بواسطة العقل الأول كما يقوله طائفة أخرى فهم يقولون أن المحرك للفلك هو النفس بما يتجدد لها من التصورات والإرادات الشوقية فيقال هذه الأمور الحادثة سواء كانت هي الحركات أو الإرادات أو

ص: 20

التصورات لا بد لها من أمر محدث لها والعلة التامة الأزلية المستلزمة لمعلولها في الأزل التي توجبه بذاتها يقارنها معلولها الذي هو موجبها ومقتضاها في الأزل فلا يكون شيء من هذه الحركات والإرادات والتصورات معلولا لها لأنها حادثة ولا تكون موجبة له ولا فاعلة ولا محدثة لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا لوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل أن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الازلية وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة

ص: 21

القديمة وإثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضا باطل والملزوم قدم شيء من العالم فإذا كان الملزوم باطلا فنقيضه حق وهو أنه ليس من العالم شيء قديم الوجه الثاني أن قولهم هذا يستلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهم يسلمون فساد ذلك وفساده معلوم بالادلة اليقينية كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ونبهنا على أن المعلولات كلها ممكنة ليس فيها ما يقتضي وجودها وتقدير أمور غير متناهية ليس فيها ما يقتضي وجودها بمنزلة تقدير أمور متناهية معدومة أو ممتنعة فإذا قدر علل لا تتناهى وهي معلولات كان ذلك بمنزلة تقدير أمور معدومة لا تتناهى فلا يكون فيها ما هو موجود والمعدوم يمتنع أن يكون مبدعا أو فاعلا للموجود ولا حاجة إلى الإطناب في هذا فإنه متفق عليه بين العقلاء لكن بعض المتأخرين أورد على هذا شبهات قد بينا فسادها في غير هذا الموضع كما أورد ذلك الآمدي والأبهري وغيرهما

ص: 22

ومن الناس من ظن أن الكلام في تناهي المؤثرات بمنزلة الكلام في تناهي الآثار كما ظن ذلك طائفة من أهل الكلام والجدل ثم من هؤلاء من قال فإذا كان تناهى الآثار لا يقوم دليل على فساده فكذلك تتناهى العلل

وهذا مما سلكه أبو حامد في الرد علىالفلاسفة في تهافت الفلاسفة وجعل قولهم بتجويز حوادث لا أول لها يقتضي تجويز علل لا تتناهى

وكثير من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية لما سووا بين النوعين اعتمدوا في نفس التسلسل في المؤثرات والآثار على طرق معروفة قد أفسدها كثير منهم حتى أن الرجل من هؤلاء يذكر بعض هذه الطرق في كتاب ويفسدها في كتاب آخر كما يفعله أبو عبد الله بن الخطيب ونحوه فيقرر في كتاب

ص: 23

الأربعين ونحوه طرقا في إبطال حوادث لا تتناهى ويبطلها في مثل كتاب المباحث المشرقية وأمثاله ولهذا بين أبو الحسن الآمدي فساد عامة هذه الطرق واعتمد طريقة أضعف من غيرها وكذلك أبو الثناء الأرموي أفسد في لباب الأربعين عامة ما قيل في هذا الباب وهذا كله مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن التسلسل في المؤثرات باطل باتفاق العقلاء وأما الاعتراض المذكور فهو أنهم قالوا إذا كان كل من المؤثرات ممكنا فلم لا يجوز ألا تكون الجملة ممكنة على قول من يقول أن كل واحد من الحوادث محدث والنوع القديم متسلسل فإن حكم الجملة إما أن يكون مثل حكم الأفراد وأما ألا يكون فإن كان مثل حكمها لزم حدوث نوع الحوادث وهذا هو الذي يقوله كثير من أهل الكلام وعليه اعتمد أبو الحسين البصري وأمثاله وقالوا إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع سود

ص: 24

لكن نقض ذلك المعارضون لهم بأن الواحد من العشرة ليس هو عشرة والواحد من أجزاء القبة والبيت ليس هو قبة ولا بيتا وبعض الإنسان ليس هو إنسان فقال هؤلاء الذين أشكل عليهم بطلان تسلسل المؤثرات كالآمدي والأبهري فحينئذ يجوز أن يكون كل واحد من العلل ممكنا والجملة ليست ممكنة فصارت هذه المباحث المتعلقة بأصول الدين والعلم مضطربة عند أئمة الفلاسفة والمتكلمين وفصل الخطاب في هذا الباب أن نقول انضمام الفرد إلى غيره إما أن يوجب ثبوت أمر يخالف حكم تلك الأفراد وإما ألا يوجب فإن لم يوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد كان حكم المجموع حكم الأفراد وإن أوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد لم يجب أن يكون حكم المجموع حكم الأفراد مثال الأول المعدوم مع المعدوم فإن انضمام أحدهما إلى الآخر لا يخرجه عن أن يكون معدوما وكذلك انضمام الواجب إلى الواجب والممكن إلى الممكن وكذلك انضمام الموجود إلى الموجود لا يخرجه عن أن يكون موجودا اللهم إلا إذا كانا يتضادان

ومثال الثاني أبعاض الإنسان وغيره من الحيوان وأبعاض الدار والبيت والمدينة ونحو ذلك فإن انضمام بعض ذلك إلى بعض يوجب للمجموع أن يصير حيوانا وبيتا ومدينة وكذلك آحاد العشرة والألف بالانضمام تصير عشرة وألفا وكذلك غير ذلك من المركبات فإنه بالاجتماع يحصل له من التركيب ما لا يحصل بالأفراد وكذلك أجزاء الطويل

ص: 25

والدائم والممتد والكبير والعظيم ونحو ذلك فإنه لا يسمى طويلا ولا دائما ولا ممتدا ولا كبيرا ولا عظيما إلا إذا اجتمعت تلك الأجزاء فبالاجتماع يتغير حكم الأفراد إذا تبين ذلك فإذا قدر مؤثرات ممكنة ليس لها من أنفسها وجود ولكن كل منها يحتاج إلى مؤثر لم تكن بانضمام بعضها إلى بعض تخرج عن أن تكون ممكنة مفتقرة إلى غيرها بل كلما كثرت زاد الافتقار والحاجة كما أنه كلما ضم المعدوم إلى المعدوم كثر المعدوم فإذا قدر علل لا تتناهى كل منها معلول أو فاعلون لا يتناهون كل منهم مفعول فهذه كلها مؤثرات أبدعها غيرها وكل منها ممكن بنفسه محتاج إلى غيره قد أبدعه غيره ليس فيها ما هو موجود بنفسه فإذا قدر عدم تناهيها كان ذلك تكثيرا للحاجة والافتقار إلى الموجود بنفسه وتكثيرا للممكنات التي هي معدومة بنفسها لا توجد إلا بموجود غيرها فكثرتها وعدم تناهيها لا يخرج شيئا منها عن أن يكون ممكنا مفتقرا إلى غيره وأنه إذا لم يكن له مبدع كان معدوما بل المجموع مفتقر إلى كل من الأفراد وإذا كان كل من الأفراد ممكنا فالمجموع المتوقف على كل من الأفراد أولى أن يكون ممكنا فتبين بذلك امتناع وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهو امتناع أرباب كل منهم مربوب أو فاعلين كل منهم مفعول ومؤثرين كل منهم أثر فيه غيره فهذا جميعه مما يعلم امتناعه بالضرورة بعد التصور التام كما اتفق عليه

ص: 26

عامة العقلاء وذلك مما بيبن أن جميع الممكنات والحوادث لها مبدع موجود بنفسه خارج عنها كلها وهذا بخلاف دوام الحوادث وتسلسلها في الماضي أو المستقبل فإن الواحد منها إذا لم يكن دائما باقيا متصلا لم يلزم ألا يكون النوع دائما باقيا متصلا لأن انضمام الواحد إلى غيره يوجب الكثرة التي لا توجد في الواحد والدائم الباقي المديد الطويل الكثير لا يستلزم أن يكون كل واحد من أفراده دائما طويلا مديدا كثيرا

فهذا تنبيه على الفرق بين النوعين وإذا كان كذلك فنقول قولهم بقدم العالم يستلزم التسلسل في المؤثرات وذلك فاسد بالضرورة والاتفاق وهم يسلمون امتناع تسلسل المؤثرات لكن الذين يقولونه هنا يقولون التسلسل إنما هو حاصل في شروط العلية لا في ذات العلة

فيقال لهم إذا كان هذا الحادث موقوفا على شرط العلة الذي هو تمامها وعند حصول تمام العلة يجب مقارنة ذلك المعلول له لا يجوز تأخره عنه فكل حادث يجب أن يقارنه تمام علة الحادث والكلام في تمام علية الحادث كالكلام في الحادث فيلزم تسلسل تمامات العلل وأن يكون تمام علة كل معلول مقارنا لذلك المعلول فإذن كل حادث إنما تمت علته عند حدوثه وذلك التمام إنما تمت علة حدوثه عند حدوثه أيضا فيلزم تسلسل تمامات لا فاعل لها ولا فرق بين تسلسل علل هي معلولات لا فاعل لها وبين تسلسل تمامات علل هي معلولات لا فاعل لها وأيضا فإن هذه التمامات المتسلسلة لا يجوز أن تكون

ص: 27

صادرة عن العلة التامة الأزلية فإن ذلك يستلزم أن تكون مقارنة لتلك العلة ولا يجوز أن تكون العلة الأزلية علة تامة لواحد منها معين وذلك شرط في الثاني لأنه يتعين لها مبدأ معين وما من واحد إلا وقبله آخر فلا يتعين شيء منها دون الآخر ولا يكون شيء منها علة تامة لحوادث متعاقبة مع كون العلة ثابتة على حال واحدة لأن حدوث المتغير عن علة تامة لا تتغير ممتنع فإذا لم يكن لها محدث سوى العلة التامة الأزلية والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يصدر عنها حادث فيلزم ألا يكون للحوادث محدث وأبو عبد الله الرازي قد نبه على هذا لكن لم يوضحه إيضاحا تاما فاعترض عليه الأرموي حيث لم يفهم حقيقة هذا الإلزام فظن الفرق بين حدوث شروط العلة وحدوث ذات العلة وهذا الفرق إنما يصح إذا كان هناك سبب يقتضي حدوث شروط العلة غير العلة حتى يقال تأثيرها موقوف على حدوث شروط أخر تحدث بسبب غيرها فأما إذا كان لا مقتضى للحوادث إلا ذات العلة التي فرض أنها تامة لا يتخلف عنها معلولها لم يكن اقتضاؤها موقوفا على شرط غيرها فيجب أن يقارنها معلولها فلا يحدث عنها حادث

واعلم أن هذا هو عمدتهم في قدم العالم وقد تبين أنه مناقض لما قالوه وأنه مبطل لقولهم فإن أصل قولهم أن المؤثر في العالم يجب أن يكون تاما فلا يتخلف عنه أثره وهذا بعينه يمنع أن يكون محدثا لشيء من الحوادث بشرط أو بغير شرط

ص: 28

والرازي أجاب بأن هذه الحجة تستلزم التسلسل في العلل وهو باطل فاعترض عليه الأرموي في لباب الأربعين

قال الرازي في الأربعين احتج القائلون بالقدم بوجوه أولها لا شك أن الممكنات تنتهي في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود فنقول كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في إيجاده إما أن يقال أنه كان حاصلا في الأزل أو ما كان حاصلا في الأزل فإن كان كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا في الأزل فإما أن يجب مع حصوله حصول الأثر أو لا يجب فإن وجب لزم من دوامه دوام الأثر وإن لم يجب كان وجوده مع عدم تلك الآثار جائزا فلنفرض ذاته مع مجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية تارة مع وجود تلك الآثار وتارة مع عدمها فاختصاص ذلك الوقت بالوجود دون الوقت الآخر إما أن يختص بأمر ما لأجله كان هو أولى بوجود ذلك الأثر وإما ألا يكون كذلك فإن كان الأول كان ذلك المخصص معتبرا في المؤثرية وهو ما كان حاصلا قبل ذلك فإن كان ما لا بد منه في المؤثرية ما كان

ص: 29

حاصلا في الأزل وكنا قد فرضنا حاصلا قبل ذلك هذا خلف وإن كان الثاني كان ذلك ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح أصلا وهو محال هذا إذا قلنا كل ما لا بد منه في المؤثرية كان حاصلا في الأزل أما إذا قلنا بأن كل ذلك ما كان حاصلا في الأزل فحدوثه فيما لا يزال بعد أن لم يكن إما أن يفتقر إلى مؤثر أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن مرجح وإن افتقر نقلنا الكلام إلى كيفية إحداث تلك الأمور ويلزم التسلسل وهو محال

قال الرازي هذا هو العمدة الكبرى للقوم ثم ذكر أجوبة طوائف من أهل الكلام عن ذلك بأن قوما قالوا المرجح هو الإرادة وقيل المرجح هو العلم وقيل المرجح اختصاص وقت الأحداث بحكمه خفية وقيل إحداث العالم في الأزل محال لأن الإحداث جعله موجودا بعد أن كان معدوما وذلك يقتضي سبق العدم والأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير فكان الجمع بينهما بمحال

ص: 30

وقيل أن العالم قبل ذلك ما كان ممكنا بل ممتنعا ثم انقلب ممكنا ذلك في الوقت وقيل أن القادر المختار يمكنه أن يرجح أحد المقدورين على الآخر من غير مرجح ثم بين فساد هذه الأجوبة جملة فإن حاصلها أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم ما كان حاصلا في الأزل وبين فسادها على وجه التفصيل بما لا حاجة إلى ذكره هنا ثم قال والجواب أن نقول إن صح ما ذكرتم يلزم أن لا يحصل في العالم شيء من التغيرات لأنه يلزم من دوام واجب الوجود أزلا وأبدا دوام المعلول الأول ومن دوام المعلول الأول دوام المعلول الثاني وهلم جرا إلى آخر المراتب فيلزم ألا يحصل في العالم شيء من التغيرات وأنه خلاف الحس

قال فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الاستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية

ص: 31

وكل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في هذا العالم قال والجواب أنا نقول العرض المعين إذا حدث في هذا العالم فإما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن سبب وهو باطل بالاتفاق وإذا افتقر إلى سبب فذلك السبب إن كان حادثا كان الكلام في كيفية حدوثه كما في الأول فيفضي إلى وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وهو محال وإن كان السبب قديما فقد أسندتم إلى المؤثر القديم أثرا محدثا وإذا عقلتم ذلك فلم لا يجوز في كل العالم مثل ذلك

قال الأرموي معترضا على هذا الجواب ولقائل أن يقول إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شروطه فإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه

ص: 32

أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب جائز عندهم

قال بل الجواب الباهر عنه أنه لا يلزم ذلك من حدوث العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنها تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى تنتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم

قلت هذا الجواب الذي أجاب به الأرموي أخذه من المطالب العالية للرازي فإنه ذكر هذا الجواب فيه وهذا الجواب باطل متناقض في نفسه فإنه يتضمن وجود حوادث لا أول لها والمتكلمون الذين أثبتوا حدوث الأجسام إنما أثبتوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا الأصل صحيحا بطل الجواب المذكور ولزم حدوث النفوس التي تقوم بها تصورات متعاقبة لأنها حوادث لا أول لها وإن كان حوادث لا أول لها جائزا كما ذكره في الجواب الباهر بطل دليل المتكلمين على حدوث الأجسام

ص: 33

وحينئذ فلا فرق بين أن يقال القديم هو النفس أو جسم وأيضا فهذا الجواب باطل من وجه آخر وهو أن النفوس عند من يثبتها من المتفلسفة لا تفارق الأجسام بل النفس عندهم لا بد أن تكون متعلقة بالجسم تعلق التدبير والتصريف وقد تنازعوا في النفس الفلكية هل هي جوهر أو عرض وأكثرهم يقولون هي عرض ولكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جوهر فإذا كان وجود النفس التي تقوم بها التصورات المتعاقبة مشروطا بوجود الجسم بطل هذا الجواب وأما العقول فتلك مفارقة لا تدبر الأجسام ولا يقوم بها عندهم شيء من الحوادث لا متعاقبا ولا غير متعاقب وأيضا فهذا الجواب يتضمن شيئين جواز حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل الممتنع إنما هو في المؤثرات لا في الآثار والشروط وهذه مسألة نظرية لا تناقض أصول الإسلام ويتضمن أيضا إثبات العقول والنفوس وأنها قديمة أزلية وأن المخلوق المحدث إنما هو الأجسام دون العقول والنفوس وهذا ليس من دين أحد من أهل الملل وهو مبني على إثبات العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة وأنها ليست أجساما وكلامهم في ذلك في غاية الفساد في العقل كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

ص: 34

وإنما غلط في هذا لأن الشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم من المتأخرين ظنوا أن المتكلمين ليس لهم دليل ينفي وجود هذه الأمور وأنهم لم يذكروا على نفيها دليلا وليس الأمر كما ذكره هؤلاء بل قد صرح النظار كإمام الحرمين وأبي الوفاء بن عقيل ومن قبلهم كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري وأبي

ص: 35

علي وأبي هاشم الجبائي وأبي الحسين البصري ومحمد بن كرام وابن الهيصم وهشام بن الحكم وغيرهم أن إثبات ذلك معلوم الفساد بضرورة العقل وإن إثبات ما لا يشار إليه ولا يقوم بما يشار إليه معلوم الفساد بضرور العقل إما مطلقا عند طائفة وإما في الممكنات عند طائفة وهذا مبسوط في موضعه ولو أن الأرموي قال هذا في واجب الوجود نفسه لكان

ص: 36

ذلك أقرب إلى دين المرسلين فإن ذلك يمكن معه القول بأن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى مخلوق محدث غايته أنه يلزم قيام الأفعال المتعاقبة بالواجب نفسه وهذا قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم وطوائف من أهل الكلام وقول أساطين الفلاسفة القدماء فهو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة ففي الجملة هذا فيه نزاع بين أهل الملل فيمكن مع القول به موافقة الأنبياء بخلاف ما ذكره

وأيضا فقد بين الرازي والآمدي ضعف ادلة نفاة ذلك وذكر الرازي أن ذلك لازم لعامة الطوائف ثم قرر هو ذلك بطريقة هي أيضا في غاية الضعف كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك فالواجب الذي هو أصح في الشرع والعقل أولى من الجواب الذي هو أفسد في الشرع والعقل فهذا الكلام على جواب الأرموي وأما جواب الرازي وإلزامه لهم فصحيح كما ذكره ولكن لم يقرره ويبينه تبيينا يشفي الغليل فلهذا لم يفهم الأرموي حقيقة هذا الجواب وذلك أنه إذا كان المؤثر التام أزليا لزم من دوامه دوام أثاره فيلزم أن لا يحدث شيء وهو خلاف الحس وهذا الجواب وحده كاف إذا تصوره الإنسان فإنه إذا قيل بأن المؤثر التام أزلي وأنه يستلزم آثاره امتنع حدوث شيء من الآثار فيلزم أن لا يحدث شيء لأن حدوث الحوادث بلا محدث ممتنع وحدوثها عن المؤثر التام ممتنع وأما السؤال الذي أورده فيجاب عنه بما ذكره وبغير

ص: 37

ما ذكره وذلك أن قول القائل أن المؤثر دائم الفيض ولكن حدوث الأثر عنه متوقف على حدوث الاستعداد والشرائط إنما يمكن قوله في الأثر الذي يتوقف على اثنين كالإحراق من النار المتوقف على استعداد المحل فلا تحرق الياقوت والسمندل ونحو ذلك وكالشمس التي يتوقف فيض شعاعها على محل قابل وذلك المحل ليس صادرا عنها وكما قالوه فيما يفيض عن العقل الفعال المتوقف على حدوث امتزاجات حاصلة بحركة الأفلاك وحركة الأفلاك التي فوق فلك القمر لا تتوقف على فيض العقل الفعال فهذا الذي ذكروه من توقف الفيض على استعداد القوابل إنما يمكن أن يقال إذا كان ذلك الاستعداد ليس هو من فيض ذلك الموجب وهذا لا يصح في الواجب الوجود الذي هو المبدع لكل ما سواه فإنه هو الفاعل للإستعدادات والشرائط كما هو الفاعل لما يفيض عليها فلا شريك له في الفعل والإبداع أصلا فإذا قال القائل إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل قيل لهم فاستعداد القوابل هو أيضا مما فاض عنه فيتمنع أن يقال هو عام الفيض لكل ممكن إذ لو كان كذلك لكانت الممكنات كلها أزلية وإذا قيل فلم تأخر عنه فيض الحادث فقيل لتأخر الاستعداد

ص: 38

قيل وما الموجب لتأخر الاستعداد فإذا قيل لتأخر استعداد آخر وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الفائضة بسببها ليس هو مؤثرا تاما في الأزل لها ولا مؤثرا لها فيما لا يزال لأن المؤثر التام الأزلي لا يتأخر عنه شيء من أثره وتأخر الآثار مشاهد معاين وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب لا ينفعهم بل ذلك مما يستلزم فساد قولهم بقدم شيء من العالم فإنه إذا جاز تسلسل الحوادث والآثار امتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء منها لأن ذلك يستلزم وجود هذه الحوادث في الأزل وذلك جمع بين النقيضين ويمتنع أن تحدث عنه بعد ذلك لأنها لا تحدث حتى يحدث عنه ما يجعله علة تامة لها وحدوث شيء من الحوادث عن العلة المستلزمة لمعلولها في الأزل ممتنع لكن لو قالوا إن الرب سبحانه وتعالى ليس فعله تاما في الأزل بل هو يحدث كل ما سواه شيئا بعد شيء كان هذا موافقا لأصلهم في جواز تعاقب الحوادث ولكنه مبطل لقدم شيء بعينه من العالم لا الفلك ولا غيره وحجتهم في القدم مبنية على أنه مؤثر تام في الأزل فقد ثبت أنه ليس مؤثرا تاما لها ولم يثبت أنه مؤثر تام لغيرها فبطلت حجتهم فلم يبق معهم ما يثبت علة تامة في الأزل وهذا يبطل حجتهم لو لم يثبت امتناع علة تامة في الأزل فكيف إذا ثبت امتناع ذلك فإنه يوجب امتناع قدم شيء من العالم

ص: 39

وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما في الأزل للحوادث فتأثيره بعد أن لم يكن مؤثرا أن توقف على غيره لزم أن يكون مبدع العالم مفتقرا في الإبداع إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان واجبا لزم إثبات واجبين فاعلين وهذا ممتنع بالاتفاق مع أنه لا يستلزم قدم العالم ثم إن كان كل منهما مستقلا بالفعل لزم أن يكون كل منهما مبدعا لكله فيلزم أن يكون هذا فاعلا لكله وهذا فاعلا لكله وذلك جمع بين النقيضين وإن لم يكن أحدهما مستقلا بالفعل لزم احتياجه إلى الآخر وافتقاره إليه فيكون كونه فاعلا وقادرا موقوفا على الآخر وذلك يستلزم ألا يكون هذا فاعلا قادرا إلا بهذا وإلا يكون هذا قاعى فاعلا قادرا إلا بهذا فيلزم الدور المعي القبلي فلا يكون واحد منهما فاعلا قادرا وهذا كله مما يسلمه جميع الناس وهو مبسوط في غير هذا الموضع فلا حاجة إلى الإطناب فيه وإن كان ذلك الغير ممكنا كان مفعولا مصنوعا له فتوقف فعله عليه توقف على ما هو من مفعولاته ومصنوعاته والقول في فعله لذلك الممكن كالقول في فعله لغيره فلا بد أن يكون فعله لا يتوقف على غيره وإن قيل إن تأثيره بعد أن لم يكن لا يتوقف على غيره لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وهذا ممتنع عندهم وبتقدير صحته فإنه يمكن حدوث الحوادث حينئذ

ص: 40

بعد أن لم تكن حادثة على هذا التقدير فيبطل قولهم بقدم العالم فتبين أنه يمتنع مع حدوث الحوادث أن يكون مؤثرا تاما في الأزل وإذا قيل أحداثه للثاني مشروط بالأول وهلم جرا قيل فليس هو وقت حدوث حادث واحد مؤثرا تاما بل في كل وقت لا بد من حادث به يتم كونه مؤثرا تاما وإذا لم يكن في وقت من الأوقات مؤثرا تاما امتنع ثبوت المؤثر التام الذي لا يتوقف تأثيره على حدوث حادث وإذا بطل المؤثر التام بطل القول بقدم العالم وإيضاح هذا بالكلام على نص كلامهم قالوا لم لا يجوز أن يقال إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الإستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وكل حادث منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في العالم فيقال لهم إذا كان حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل وحصول الاستعدادات متوقف على الحركات والاتصالات فهذه الحركات والاتصالات هي أيضا حادثة كما أن الاستعدادات أيضا حادثة والقول في حدوث هذه الحوادث كالقول فيما يفيض على القوابل السفلية فإن الجميع حادث وحجتهم تستلزم ألا يحدث شيء لأن المؤثر التام دائم أزلا

ص: 41

وأبدا فيلزم دوام آثاره أزلا وأبدا وألا يتأخر عنه شيء من آثاره فإذا قيل الحادث الثاني مشروط بالأول قيل فالكلام في حدوث الأول فكل من هذه الحوادث لا يجوز أن يصدر عن المؤثر التام الأزلي إذ لو كان كذلك لكان قديما معه وكل من هذه الحوادث يجب أن يحدث مؤثره أو تمام مؤثره وليس في المؤثر التام الأزلي سبب يقتضي حدوث شيء أصلا عندهم فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث سبب منه وإذا قيل حركة الفلك هي سبب الحوادث قيل فحركة الفلك يمتنع صدورها عن مؤثر تام لا يقوم به شيء من الحوادث لأن ذلك يستلزم تأخر المعلول عن علته التامة وتأخر موجب الشيء ومقتضاه عن المقتضي الموجب التام فالكلام في حدوث حركة الفلك كالكلام في غيرها وهذا الموضع من فهمه علم ضرورة بطلان مذهب القوم وأن حقيقة قولهم أن الحركات والحوادث حادثة بلا فاعل لها ولا سبب يقتضي حدوثها فإن أثبتوا في الفاعل الأول أفعالا تقوم به شيئا بعد شيء وقالوا تلك هي سبب التغيرات كان هذا موافقة على إمكان إحداث العالم وغيره وبطل أصل قولهم وأما الإلزام الذي ذكره الرازي في الأربعين فصحيح

ص: 42

أيضا فإنه قال العرض المعين إما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر والثاني باطل بالاتفاق وإذا افتقر فالسبب إن كان حادثا لزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وإن كان قديما لزم جواز صدور الحوادث عن القديم وهو يبطل حجتهم وأما اعتراض الأرموي بقوله إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه فيقال له هب أن الأمر كذلك فإذا عنى بحدوثه حدوث السبب التام وحدوثه لا يقف على حدوث الفاعل بل يكفي حدوث بعض الشرائط فأي جواب لهم في هذا وقوله حدوث بعض الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندهم فيقال له فهب أنه جائز عندهم فجوازه عندهم لا يدل على صحة مذهبهم ولا على إمكانه ولا على بطلان ما ذكره بل حدوث الشرائط والمعدات باطل بما به بطل حدوث العلة التامة وذلك أن تلك الشروط والمعدات الحادثة لا بد لها من محدث وإذا قلت حدوثه موقوف على تمام حدوث التأثير

ص: 43

قيل الكلام في حدوث تمام تلك التأثيرات كالقول في كل من هذه الحوادث إن كان المقتضي لحدوثه حادثا لزم تسلسل العلل وإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن القديم وإن قيل المقتضي لحدوثه هو القديم بشرط الحادث قيل هذا مع قولكم إن القديم مؤثر تام باطل لأن المؤثر التام لا يحدث عنه شيء فلا يحدث عنه شيء من الشروط وأيضا فالعلة يجب أن تكون مقارنة لمعلولها عندكم لا متقدمة عليه ولا متأخرة عنه وإذا كان القديم مؤثرا في الثاني بشرط حدوث الأول كانت العلة متقدمة على المعلول وبهذا احتج الرازي فإنه قال كل حادث يجب أن تكون علته التامة موجودة عند وجوده وإن كان بعض أجزائها متقدما فإذا جعلتم كل حادث جزءا من المؤثر في الآخر أو شرطا فيه وجزء العلة وشرطها هو من تمام العلة التامة لزم وجود هذه الشروط الحادثة عند حدوث كل حادث فيلزم وجود الحوادث المتعاقبة معا وهذا ممتنع ففي الجملة قولهم إن العلة التامة يقارنها معلولها وإن الاول علة تامة يستلزم أن الأول لم يحدث عنه شيء ويستلزم أن يكون تمام علة كل حادث إنما يحصل عند حصوله فلا يكون تمام علته متقدما عليه وهذا يناقض قولهم إن الحادث الأول شرط في تمام علة الثاني فإن الأول متقدم علىالثاني والمتقدم على الشيء لا يكن جزءا من علته التامة

ص: 44

والإنسان وإن كان يقطع المسافة الثانية بشرط قطع الأولى فليس هو علة تامة للأولى ولا للآخرة والعلة التامة في حدوث قطع الثانية إنما وجد مع الثانية وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة التي لم تحصل إلا بعد قطع الأولى فإذا قالوا مثل هذا في الواجب لزم تجدد الإرادات له وهذا قول حذاقهم من الأولين والآخرين كالأساطين الذين كانوا قبل أرسطو طاليس أو كثير من الأساطين وكأبي البركات صاحب المعتبر وغيره فإنه قال القول بكون الرب تعالى مؤثرا في هذا العالم لا يمكن إلا مع هذا القول قال والتنزيه عن التنزيه واجب والإجلال عن هذا الإجلال متعين

ص: 45

وهذا القول يبطل حجتهم في قدم العالم ويبين أنه فاعل بمشيئته وقدرته أفعالا متعاقبة شيئا بعد شيء فهذا أحد الجوابين عن اعتراض الأرموي

الجواب الثاني أن قوله للرازي إما ان تعني بالسبب السبب التام وإما أن تعني به الفاعل فيقول له لا حاجة بي إلى هذا التقسيم فإن حجتي صحيحة مع الإعراض عن هذا التقسيم والناس منهم من يقول إن الحوادث لا توجد إلا بسبب تام يستلزم حدوثها كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم وأكثر هؤلاء يقولون المرجح مع ذلك هو الفاعل القادر المختار الذي تستلزم قدرته وإرادته للحادث وجود ذلك الحادث فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بحدوث العالم ومن هؤلاء من يقول بل نفس ذاته موجبة للمكنات بدون ذلك وهذا قول الفلاسفة الدهرية الإلهية وقولهم يستلزم ألا يحدث شيء من الحوادث وهذا الموجب الذي فرضوه لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي فرضوه أيضا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد

ص: 46

ومن الناس من يقول بل يكفي في حدوثها الفاعل القادر الذي يمكنه الفعل والترك الذي يفعل على سبيل الإختيار وأنه بقدرته فقط أو بقدرته ومشيئته أو بقدرته وداعيه يرجح أحدهما بلا مرجح ومنهم من يفرق بين القادر والموجب فيقول المؤثر الموجب لا يؤثر إلا إذا كان تاما مستلزما لأثره وأما القادر فيمكنه التأثير على سبيل الجواز

والمقصود هنا أن ما ذكره الرازي يصح على جميع هذه التقديرات فبأي شيء فسر المفسر المؤثر أمكن صحة جوابه وذلك أن هذا الحادث المعين كالإنسان والفرس والثمرة وغيرها مما يحدث كل يوم لا بد له من مؤثر فذلك المؤثر إن كان حادثا كان الكلام في سبب حدوثه كالكلام في الأول فيلزم إثبات مؤثرات لا تتناهى كل منها مؤثر في الآخر وإن شئت قلت يلزم إثبات علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإن شئت قلت يلزم إثبات فاعلين مفعولين وإن شئت قلت يلزم إثبات خالقين مخلوقين لا يتناهون وإن شئت قلت يلزم إثبات أسباب ومسببات لا تتناهى فعلى كل تقدير إذا كان هذا حادثا لزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإنما قال دفعة واحدة لأن التقدير أن فاعل هذا المحدث محدث أيضا لا قديم فإن قيل فهل لا يجوز أن يكون فاعل هذا محدثا قبله وفاعل هذا محدثا قبله وهلم جرا

ص: 47

قيل لأن الفاعل يجب أن يكون موجودا عند وجود الفعل ويمتنع بعد عدم الفاعل وجود الفعل وكذلك العلة والسبب لا بد أن يكون موجودا عند وجود المعلول والسبب لا يكون موجودا قبله ولو قدر أن لكل فاعل فاعلا قبله محدثا كان هذا أيضا ممتنعا فهذا ممتنع سواء قيل أن الأسباب الفاعلة موجودة معا أو متعاقبة لكنه لما كان الدليل قد قام على أن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول لا قبله ذكر هذا اللازم وإذا أردت أن تتبين امتناع ذلك على التقديرين قلت هذا يقتضي ثبوت علل ومعلولات محدثة لا نهاية لها وذلك ممتنع سواء فرضت مجتمعة أو متعاقبة لأن كل واحد منها ليس له وجود من نفسه فلا يستحق من نفسه إلا العدم فإذا كانت كلها محدثة مفعولة مصنوعة امتنع مع عدم الفاعل الصانع وجود شيء منها بمنزلة تعاقب المعدومات والممتنعات وهذا لكونه معلوما متفقا عليه مبسوطا في موضع آخر لم نبسطه هنا فإنه يعلم بضرورة العقل امتناع حوادث بلا محدث قديم لها

والمقصود أن الرازي يقول كل ما يحدث في العالم يمتنع أن يحدث بلا محدث ويمتنع أن يكون كل محدث أحدثه محدث آخر فوجب أن يكون المحدث لكل حادث هو فاعل قديم وهذا يناقض قولهم فإنه برهان باهر على أن المحدثات

ص: 48

يمكن بل يجب صدورها عن القديم وإذا صدرت عن القديم لم يكن القديم علة تامة لشيء منها إذ لو كان كذلك لقارنها فبطل قولهم بالعلة التامة وهو المطلوب لكن ليس في هذا الجواب ما يبطل وجود حوادث لا أول لها بل يجوز أن يقال إحداث القديم الأول مشروط بالثاني ولكن على هذا التقديرين لا يلزم قدم شيء من العالم بل يجوز أن يكون كل منه حادثا وإن كان مشروطا بحادث قبله لا سيما إذا كان الحادث فعل الفاعل سبحانه وتعالى وهذا الذي ذكره الرازي وغيره إلزام لهم لكن ليس فيه حل الشبهة ولا بيان فسادها ونحن نبين فسادها على أصولهم وعلى أصول المسلمين وذلك أن الحجة مبناها على أنه لا بد أن يكون في الأزل مؤثر تام لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل هكذا أطلق كثير منهم الحجة ولفظ التسلسل يراد به التسلسل المتنازع فيه ويراد به التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل والدور فإنه إذا لم يكن في الأزل مؤثر تام ثم صار مؤثرا تاما لزم حدوث تمام التأثير وهذا يتضمن حدوث الحادث بلا فاعل ولهذا عبر ابن سينا وغيره عن هذا بأن قالوا كل ما فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد له من حدوث أمر إما علم وإما قصد وإما إرادة وإما زوال مانع وإما أمر آخر وإلا فإذا قدر أنه كما كان وكان لا يحدث عنه شيء فالآن لا يحدث عنه شيء وقد حدثت الحوادث فهذا خلف

ص: 49

وإنما لزم هذا المحذور من فرض ذات معطلة عن الفعل وإذا كان هذا الفرض باطلا فنقيضه حق والتسلسل المذكور هنا هو التسلسل في الفاعل وهو في تمام كونه فاعلا ويلزم الدور أيضا لأنه لا يصير فاعلا إلا بعد أن يصير فاعلا وهذا كما يقال يمتنع أن يكون لفاعل العالم فاعل وللفاعل فاعل ويمتنع أن يكون هو فاعل نفسه لكن هنا الكلام فيما به يتم كونه فاعلا فإذا قيل لم يكن مؤثرا تاما ثم صار مؤثرا فلا بد من حدوث تمام التأثير أو الترجيح بلا مرجح فإنه إذا لم يكن المؤثر التام ثابتا في الازل فحدوث الحوادث عنه إن لم يتوقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب فالقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل فمضمون الحجة إما أن يكون المؤثر التام ثابتا في الأزل وإما أن يلزم الترجيح بلا مرجح وإما أن يلزم التسلسل والدور الممتنع فلا بد من أحد هذه الأمور الثلاثة ولهذا كان كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناء على أن القادر المريد يرجح بقدرته أو بالقدرة والداعي أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة

ص: 50

وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة وبه أجاب الآمدي وغيره لكن جمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وكذلك بين الرازي على لسان الفلاسفة فساد هذا الجواب فيقال للفلاسفة هذه الحجة باطلة على أصلكم ومتناقضة وذلك أن غاية هذه الحجة أنه إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل

ص: 51

لزم التسلسل والتسلسل جائز عندكم فإذا كان التسلسل جائزا فلم لا يجوز ألا يكون المؤثر في شيء معين تاما في الأزل ولكن تأثيره في كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى غاية وتكون جميع مفعولاته محدثه ومعلوم أن هذا مقتضي هذه الحجة والرازي وغيره غفلوا عن هذا الجواب لأنهم يعتقدون بطلان التسلسل فأخذوا في الحجة مسلما لما قالوا في آخر الحجة ويلزم التسلسل وهو محال

ص: 52

وإنما هو محال مطلقا عند من يقول بامتناع حوادث لا أول لها من أهل الكلام وليس هو ممتنعا مطلقا عند الفلاسفة بل ولا عند أئمة أهل الملل كالسلف والأئمة الذين يقولون إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ويقولون إن الفعل من لوازم الحياه فإن كل حي فعال بل يصرح غير واحد منهم بأن كل حي متحرك كما صرح بهذه المعاني من صرح بها من أئمة السلف والسنة والحديث فلو أن هؤلاء المتكلمين قالوا للفلاسفة وهب أن هذا يستلزم التسلسل فالتسلسل جائز عندكم فالحجة باطلة على أصلكم لتبين فساد الحجة على أصل الفلاسفة لكن الفلاسفة تقول للمتكلمين التسلسل اللازم هو تسلسل في أصل التأثير وهو في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا متفق على امتناعه كالتسلسل في نفس المؤثر

ص: 52

وفصل الخطاب أن لفظ التأثير والفعل والإبداع ونحو ذلك يراد به في حق الله تأثيره في كل ما سواه وهو إبداعه لكل ما سواه ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثرا في شيء ما فإذا أريد بالتأثير إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل فإن الحوادث مشهودة وأيضا فكون الشيء مبدعا أزليا ممتنع وإن أريد به التأثير في شيء معين فمعلوم أيضا أن مثل هذا التأثير حادث بحدوث أثره فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثا

وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلا في الجملة فيقال للفلاسفة بحثكم إنما ينفي نقيض هذا وهو أنه يمتنع أن يفعل بعد أن لا يكون فاعلا لشيء لا يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد أن كان فاعلا لشيء آخر ولا يوجب كونه في الأزل مؤثرا تاما بمعنى أنه مستلزم لآثاره في الأزل بل يوجب أنه لم يزل موصوفا بمطلق الفاعلية لا أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا إذا صح دل على أنه لم يزل محدثا لشيء بعد شيء لم يدل على أن مفعوله المعين قديم أزلي معه فإنهم قالوا فعله معه في الأزل لأنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام يستلزم أثره فلا يتخلف عنه فعله لأنه لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما فإن لم يحدث شيء لزم الترجيح بلا مرجح

ص: 53

وإن حدث شيء فذلك الحادث لا بد له من سبب حادث فيلزم التسلسل وقولهم لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما إنما يستلزم التسلسل في الآثار لا في المؤثرات لأنه يمكن أن تقوم به إرادات وتصورات متعاقبة متسلسلة وهذا التسلسل جائز عندهم ثم عند اجتماع متأخرها مع متقدمها تحدث الآثار وهذا الجواب أجاب به طائفة منهم الأبهري وهو أجود من الجواب الذي سماه الرازي الباهر وأبو البركات وغيره يسلمون صحة هذا وابن سينا وأمثاله ليس لهم ما ينفون به هذا إلا ما ينفون به الصفات وقولهم في نفي الصفات في غاية الفساد وأيضا فيقال الذي دل على امتناع التسلسل في تمام التأثير هو التأثير المطلق وذلك لا يدل على قدم شيء من العالم وقد يقول الفلاسفة للمتكلمين فهذا لازم على أصلكم فإذا قالوا لهم ذلك أمكن أن يجاب عن هؤلاء المتكلمين بأن التسلسل إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولكم بقدم العالم ودوام حركة الفلك وإذا بطل قولكم بطلت الحجة الدالة عليه بطريق الأولى فإن القول الباطل لا يكون عليه دليل صحيح وإن كان التسلسل ممكنا بطلت هذه الحجة فثبت بطلان هذه الحجة على التقديرين فإن قيل أبو علي بن الهيثم وابن سينا والسهروردي

ص: 54

وأمثالهم إنما ذكروا هذه الحجة على من يثبت ذاتا معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب فقالوا نحن نعلم بضرورة العقل أن الحادث بدون سبب حادث محال فإذا قلت حدث بسبب حادث فالقول في الأول كالقول في الثاني فيلزم حدوث الحادث بلا سبب وأيضا فإن الحجة مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء قيل أولا الحجة المذكورة لا تتضمن لا هذا ولا هذا وإنما هي مبنية على امتناع التسلسل في الآثار الصادرة عن الواجب الوجود والفلاسفة تجوز هذا وحقيقة الأمر أن هؤلاء المتفلسفة أدعوا قدم الأفلاك وغيرها من الأمور المعينة ومنازعوهم قالوا بل نوع الفعل والمفعول ممتنع في الأزل فاحتج أولئك بامتناع أن يصير فاعلا من لم يكن فاعلا بدون سبب حادث والحدث لا يحدث إلا بفاعل ولا فاعل فكان تقدير الكلام لا يكون فاعلا حتى يصير فاعلا ولا يصير فاعلا حتى يصير فاعلا وهذا دور من وجه وتسلسل من وجه وهو تسلسل في نفس كونه فاعلا فهو من التسلسل في المؤثرات لكنه

ص: 55

دور في شيء واحد وتسلسل في شيء واحد مثل أن يقال هذا لا يكون حتى يكون ولا يكون حتى يكون فإنه اعتبار نفسه شيء واحد وباعتبار تعدد الأكوان دور وتسلسل في أمور ثم إن جعل الكون الثالث هو الأول كان دورا وإن جعله غيره كان تسلسلا ولذلك إذا قيل لا يفعل حتى يفعل ولا يفعل حتى يفعل إن جعل الثالث هو الأول كان دورا وإن جعل غيره كان تسلسلا فهذا ممتنع بلا ريب وأما إذا قيل لا يفعل فعلا حتى يفعل فعلا آخر لم يكن نوع الفاعلية حادثا بل أعيانها وهذا فيه النزاع المشهور والفلاسفة تجوز مثل هذا وهو لا يستلزم قدم شيء من العالم ولا يلزم أن يكون تأثيره في شيء معين أزليا وقيل ثانيا أما كلام ابن سينا وأخوانه فباطل من وجهين أحدهما أن يقال له قولك يستلزم حدوث الحوادث بلا محدث لها فجواز حدوثها عن مؤثر قديم بلا سبب حادث إن كان باطلا فقولكم أبطل منه وإن كان قولكم ممكنا فهذا أولى بالإمكان فالقول الذي فررتم إليه شر من القول الذي فررتم منه إذ قولكم يتضمن أن المؤثر التام الأزلي صدرت عنه الحوادث بلا حدوث شيء فيه ولا منه مع كون المؤثر التام لا يتخلف عنه شيء من مفعولاته

الوجه الثاني أن يقال أن هذه الحجة إنما تتضمن أن الفاعل لم يزل فاعلا ليس فيها ما يدل على أنه علة تامة في

ص: 56

الأزل ولا على أن شيئا من العالم قديم لا الأفلاك ولا غيرها فإذا كان كذلك فليس فيها ما يدل على مطلوبه وإنما يدل على بطلان قول من يجعل الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن بلا سبب أصلا لكن هذا قول طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة ليس هذا القول معروفا عند سلف المسلمين وأئمة الدين فضلا عن الأنبياء والمرسلين وليس في بطلان هذا القول إن بطل إثبات قدم العالم ولا شيء منه بل إنما يدل على بطلان ما يقوله أهل الكلام المبتدع كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا مما يتبين به أن أدلة العقول موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما يبين فساد قول هؤلاء القائلين بقدم العالم عن الموجب بالذات أن يقال إما أن يكون مجرد ذاته هي الموجب للعالم أو هي متوقفة على أمر آخر فإن كان الأول لزم قدم كل شيء في العالم ودوامه بقدم الموجب ودوامه فإنه إذا لم يكن هنا إلا مؤثر تام قديم مستلزم لأثره لزم أن يكون أثره قديما معه بقدمه وهو مكابرة للحس وإن كان تأثيره موقوفا على غيره كان هذا مع بطلانه بالاتفاق مبطلا لقولهم بقدم العالم وأن يقال ذلك الغير إن كان قديما واجبا معه ومجموعهما هو العلة التامة لزم قدم الآثار بقدمهما فسواء فرض المؤثر القديم الموجب واحدا أو عددا متى قيل

ص: 57

إنه موجب بذاته في الأزل لزم حصول جميع موجبه في الأزل فيلزم ألا يحدث شيء وهو مخالف للعيان وإن قيل أن تأثيره موقوف على حادث غيره كان القول في حدوث ذلك الحادث كالقول في غيره فيمتنع صدوره عنه فتبين أنه يلزمهم كون الحوادث لا محدث لها كيفما داروا ويلزمهم أيضا ألا يكون واجبا بذاته لأن الواجب بذاته لا بد أن يكون غنيا عن غيره من كل وجه فإذا افتقر في فعله إلى غيره لم يكن غنيا من كل وجه لا سيما إذا كان فعله من لوازم ذاته وكان ذلك موقوفا على غيره كان لوازم ذاته موقوفا على غيره ووجود الملزوم بدون اللازم محال فيكون وجود ذاته موقوفا على ذلك الغير وما كان كذلك لم يكن واجبا بنفسه فكان قولهم مستلزما لكونه غير واجب بنفسه وكونه غير مبدع لشيء لا بالإيجاب ولا غيره

وأيضا فإذا كانت ذاته غير كافية في الأحداث كانت مفتقرة في الأحداث إلى امر عدمي لامتناع حدوث الحوادث عن غيره وإذا كان افتقاره إلى موجود غيره ممتنعا فافتقاره إلى المعدوم أولى بالامتناع ولأن المعدوم لا يكون مؤثرا ولا جزءا من المؤثر في الوجود وأيضا فهم يزعمون أنهم قالوا بقدم العالم نفيا للشركة عن الله لأنه إذا كان فعله مجرد ذاته مستقلا بالفعل لزم قدم الفعل وإذا كان حادثا كان موقوفا على غيره

ص: 58

فيقال لهم بل قولكم أن فعله متوقف على غيره لأن الحوادث التي تحدث ليست ذاته موجبة لها لامتناع كون الذات القديمة الموجبة بذاتها لآثارها موجبة للحوادث فلا يكون ممكنا من فعل الحوادث إلا بشريك وأما القائلون بالحدوث فلهم قولان أحدهما قول من يقول الأول لم يزل فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء فعلى هذا تكون ذاته مستلزمة للفعل مع كون الأفعال والمفعولات حادثة شيئا بعد شيء ليس فيها ما هو قديم ومن غير أن يكون له شريك وإذا كان فعله للثاني موقوفا على فعله الأول مع أنه هو فاعل للجميع لا يفتقر في ذلك إلى غيره لم يكن في ذلك مفتقرا إلى شيء غيره

والقول الثاني قول من يقول أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فهؤلاء يقولون أنه فعل لمجرد قدرته أو لقدرته أو لمشيئته أو قدرته وداعيه لا يقولون أن فعله متوقف على موجود غيره وإذا قالوا أنه موقوف على انقضاء الأول لم يكن هذا الانقضاء مفتقرا عندهم إلى سبب وجودي فتبين أنهم على كل واحد من القولين أبعد عن الشرك من الفلاسفة

وهؤلاء الفلاسفة ليس معهم قط دليل يدلهم على قدم شيء من العالم ولا أن الخالق قارنه شيء من مخلوقاته ولكن غاية ما معهم أنه لم يزل فاعلا وإثبات نوع الفعل لا يستلزم إثبات فعل معين ولا مفعول معين

ص: 59

فقولهم بقدم الأفلاك أو مادة الأفلاك أو العقول والنفوس أو غير ذلك ليس لهم عليه حجة أصلا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على جميع ما ذكر في هذا الباب وأنه ليس في شيء منها ما يقتضي قدم شيء من العالم وهذا منتهى نظر العقلاء في هذا المقام ولهذا ذكر أبو عبد الله الرازي في خاتمة كتابه المسمى بالأربعين المسألة الأربعون وهي خاتمة الكتاب في ضبط المقدمات التي يكون الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وختم ذلك بأن قال واعلم أن هنا مقدمتين يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليها المقدمة الأولى مقدمة الكمال والنقصان كقولهم هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله عز وجل وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله عز وجل وقال: "وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة"

ص: 60

إلى أن قال: "وأما المقدمة الثانية فهي مقدمة الوجوب والإمكان وهذه المقدمة في غاية الشرف والعلو وهي غاية عقول العقلاء قالوا الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب وذلك الواجب لا بد وأن يكون واجبا في ذاته وفي صفاته إذ لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثر آخر".

وتكلم على المقدمة الأولى قال والمقدمة الثانية وجوبه في جميع صفاته السلبية والثبوتية قالوا والدليل على أن الأمر كذلك أن ذاته إن كفت في تحقق تلك الصفة وجب دوامها بدوام الذات وإن لم تكف افتقرت ذاته في تلك الصفة إلى أمر آخر ولا بد في الآخر من الانتهاء إلى الواجب بذاته فيعود ما ذكرناه من أنه يلزم من دوام ذاته دوام تلك الصفة.

قال ثم إن الفلسفي يقول ما لأجله كان مؤثرا في غيره إما أن يكون هو ذاته أو لوازم ذاته فيلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته ودوام أثره والمتكلم يقول لما وجب في

ص: 61

الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فالفيلسوف يستدل بحال المؤثر على حال الأثر والمتكلم يستدل بحال الأثر على حال المؤثر وهي المعركة الكبرى والطامة العظمى في هذا الموضع قلت مقدمة الكمال والنقصان أشرف من مقدمة الوجوب والإمكان كما قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه لقائل أن يقول كل من المتكلم والمتفلسف لو أعطي تمام الهداية لعلم أن ما دل عليه العقل موافق لما أخبرت به الرسل ولما دل عليه الدليل الآخر العقلي فإن أدلة العقول لا تتناقض في نفسها ولا تناقض ما أخبرت به الرسل فيقال للمتفلسف أتعني بقولك يلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته في شيء معين كالأفلاك أو غيرها وكذلك تعني أنه يلزم دوام أثر معين كالأفلاك أو غيرها أو تعني به دوام مؤثريته في كل شيء أم تعني دوام مطلق التأثير والأثر فإن عنيت الاول لم يكن قولك صحيحا من وجوه أحدها أن هذا الدليل لا يستلزم دوام تأثير في أثر معين وإنما يستلزم دوام مطلق التأثير ومطلق الأثر وعلى هذا التقدير فإذا قيل لم يزل الله موصوفا بصفات

ص: 62

الكمال حيا متكلما إذا شاء فعالا أفعالا تقوم به أو مفعولات محدثة شيئا بعد شيء أعطي هذا الدليل موجبه ولم يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه ولا دوام شيء منها كما تقوله أنت في حركات الفلك والحوادث الأرضية فإنك تقول نوع الحوادث دائم باق لا أول له فليس فيها شيء بعينه قديم فهي كلها محدثة وإن كانت الأحداث لم تزل وإذا قلت مثل هذا في فعل الواجب كنت قد وفيت بموجب هذا الدليل ولم تخالف شيئا من أدلة العقل ولا الشرع

الوجه الثاني أن يقال لو كان مؤثريته في شيء معين من لوازم ذاته دون غيره من الموجودات لم يكن التأثير في غيره من لوازم ذاته فيلزم أن يكون من التأثير ما ليس من لوازم ذاته في الأزل فكان من التأثير ما هو حادث ليس بقديم وحينئذ فإن كان ذلك بدون أن تقوم بذاته أمور متعاقبة أمكن أن يقال ذلك في جميع العالم فلا يكون شيء منه قديما وإن كان لا بد من قيام أمور متعاقبة أمكن أن يكون كل ما صدر عنه حادثا بعد أن لم يكن بهذا السبب من غير قدم شيء من العالم

الوجه الثالث أن كون الفاعل فاعلا لشيء مع كونه قديما بقدمه جمع بين النقيضين كما ذكره المتكلمون وأما كون الموجب لكونه فاعلا ذاته ولوازم ذاته فذلك لا يقتضي أن يكون فاعلا لشيء معين كما لا يقتضي أن يكون فاعلا لكل شيء وأما إن أريد مؤثريته في كل شيء فيقال محال أن يكون

ص: 63

اللازم دوام مؤثريته التامة وأثره كله فإن هذا لو كان حقا لم يحدث شيء في هذا العالم فحدوث الحوادث دليل على أنه لا يلزمه آثاره كلها وليست المؤثرية التامة المستلزمة الآثار ثابتة في الأزل بل تحدث عنه الأثار فيكون مؤثرا في هذا الحادث ثم في هذا الحادث وقد تقدم أنه لو لزم دوام الآثار لم يكن في العالم تغير أصلا وإن قلت بل اللازم دوام مطلق التأثير

فيقال ليس في هذا ما يقتضي قدم شيء من العالم بل كونه فاعلا للشيء يقتضي كون المفعول له مسبوقا بالعدم ودوام كونه فاعلا لا يناقض ذلك وحينئذ فليس مع الفلسفي ما يوجب قدم شيء من العالم

وأما قول المتكلم لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فيقال له أوجب في كل مفعول معين وكل فعل معين أن يكون مسبوقا بالعدم أم أوجب في نوع الفعل فإن قلت بالأول فلا منافاة بين أن يكون كل من الأفعال والمفعولات مسبوقة بالعدم مع دوام نوع المؤثرية والأثر وأذن ما دل عليه دليل العقل لا يناقض ما دل عليه ذلك

ص: 64

الدليل الآخر العقلي ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال ومسألة الكلام والخطاب.

واعلم أن أولي الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتبعون لما جاء به الكتاب بخلاف المختلفين في الكتاب المخالفين للكتاب الذين قيل فيهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وحينئذ فالرب تعالى أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجدا له وكل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادث ولا يلزم من ذلك أن يكون نفس كماله الذي يستحقه متجددا بل لم يزل عالما قادرا مالكا غفورا متكلما كما شاء كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف.

فإن قال أن نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقا بالعدم قيل له من أين لك هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ولا في المعقول ما يرشد إليه وهذا يستلزم أن يصير الرب قادرا على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادرا عليه فإنه إن لم يزل قادرا أمكن وجود المقدور فإن كان المقدور ممتنعا ثم صار ممكنا صار الرب قادرا بعد أن لم يكن وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء ولا تجدده فإن الأزل ليس هو شيئا معينا بل هو عبارة عن عدم الأولية كما أن الأبد عبارة عن عدم الآخرية فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية كما قال النبي صلى الله عليه

ص: 65

وسلم في الحديث الصحيح: "أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء"

ص: 66

ومما ينبغي أن يعلم أن الرازي وأتباعه مضطربون في هذه الحجة وأمثالها فتارة يكونون مع أهل الكلام وتارة يكونون مع الفلاسفة ولهذا يحتج بهذه الحجة في كتابه الذي صنفه في السحر ودعوة الكواكب وعبادة الأصنام المبنية على ذلك وقال فيه هذا ملخص ما وصل إلينا من علم الطلسمات والسحريات والعزائم ودعوة الكواكب مع التبري عن كل ما يخالف الدين ويثلم اليقين

قال في المقالة الأولى في تقرير الأصول الكلية لهذا العلم وفيه فصول الفصل الأول في تحديد الطلسمات وتحقيق الكلام فيها على الوجه الكلي الطلسم علم بأحوال تمزيج القوى الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية لأجل التمكن من إظهار ما يخالف العادة والمتع مما يوافقها قال وتحقيق الكلام فيه يستدعي بيان مقامين أحدهما

ص: 66

إثبات القوى الفعالة السماوية وتقريره أن الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري لا بد لها من أسباب وأسبابها إما أن تكون حادثة وإما أن تكون قديمة فإن كانت حادثة افتقرت إلى أسباب أخرى ولزم التسلسل وذلك محال لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في وجود كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال لأن ذلك المجموع ممكن وحادث بمجموعه وبكل واحد من أجزائه وكل ممكن محدث فله سبب مغاير له فاذن ذلك المجموع مفتقر لمجموعه ولكل واحد من أجزائه لمجموع الممكنات أجزاء ذلك المجموع ليس بممكن ولا حادث فإذن ثبت انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب الوجود فقد بطل القول بالتسلسل وإذا ثبت انتهاء جميع الممكنات والمحدثات إلى سبب قديم واجب الوجود فنقول ذلك القديم إما أن يكون كل ما لا بد منه في مؤثريته حاصلا في الأزل أو ليس كذلك ويدخل في هذا القسم قول من يقول انه إنما خلق هذا الحادث في هذا الحين لأن خلقه فيه أصلح من خلقه في حين آخر

ص: 67

ولأن خلقه كان موقوفا على حضور وقت معين أو محقق أو مقدر فإنه على جميع هذه الأقوال صح القول بأن كل ما لا بد منه في مؤثريته في حدوث ذلك الحادث ما كان حاصلا في الأزل فأما إن قلنا إن كل ما لا بد منه في هذه المؤثرية كان حاصلا في الأزل لزم أن يكون الأثر واجب الترتيب عليه في الأزل لأن الأثر لو لم يكن واجب الترتيب عليه فهو إما ممتنع الترتيب عليه وإما ممكن الترتيب عليه فإن كان ممتنع الترتيب عليه فليس هو بمؤثر أصلا وقد فرضناه مؤثرا هذا خلف وإن كان ممكن الترتيب عليه وممكنا أن لا يترتب عليه أيضا فلنفرضه تارة مصدرا لذلك الأثر بالفعل وأخرى غير مصدر له بالفعل لأن كل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال وامتياز الحين الذي صار المؤثر فيه مصدر الأثر بالفعل عن الحين الذي لم يصر كذلك إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أولا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل انضمام القيد إليه تاما في المؤثرية وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن لم يتوقف فقد ترجح الممكن من غير مرجح ألبتة وتجويزه يسد باب الاستدلال بالممكن على المرجح وأما إن قلنا أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل فإن استمر ذلك السبب أبدا وجب ألا يصير ألبتة مؤثرا لكنا فرضناه مؤثرا فيما لا يزال هذا خلف فإن كان بسبب نقلنا الكلام إلى كيفية حدوثه ويلزم التسلسل فهو على وجهين أحدهما أن يكون التسلسل واقعا في أسباب ومسببات يكون مجموعها موجودا دفعة واحدة

ص: 68

وذلك مما أبطلناه الثاني أن يكون التسلسل واقعا على وجه يكون واحد منها مسبوقا بآخر لا إلى بداية وأول ذلك هو المتعين فإنه لما بطل جميع الأقسام إلا هذا القسم تعين هو للمصير إليه وتقريره أن يقال ذلك المؤثر القديم الواجب لذاته فياض أيضا لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر حتى يكون انقضاء المتقدم شرطا لفيضان المتأخر عنه وبهذا الطريق يصير المبدأ الأول مبدأ الحوادث المتغيرة قالوا ولهذا مثال في الحركات الطبيعية وفي الحركات الإرادية أما الحركات الطبيعية فلأن المدرة المرمية إلى فوق تعود بسبب ثقلها إلى الأرض فالموجب لتلك الحركة من أول المسافة إلى آخرها هو ذلك الثقل إلا أن ذلك الثقل إنما أوجب انتقال الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث لأن الحركة السابقة أوصلته إلى الثاني فكان حصول الجزء الأول من الحركة وانقضاؤه شرطا لإمكان أن يصير ذلك الثقل مؤثرا في حركة الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث وهكذا القول في جميع الأجزاءالتي في الحركة وأما في الحركة الإرادية فلأن من أراد الذهاب إلى زيارة صديق له فتلك الإرادة هي المؤثرة في حركة البدن من ذلك المكان إلى مكان ذلك الصديق إلا أن تأثير تلك الإرادة في إيجاد الخطوة الثانية مسبوق بحصول الخطوة الأولى وانقضائها وعلى هذا الطريق فإن كل خطوة سابقة فهي

ص: 69

شرط لإمكان تأثير تلك الإرادة في حصول اللاحقة وعلى هذا الترتيب إلى آخر المسافة فثبت أنه لا بد من توسط حركة سرمدية دائمة بين المبدأ الأول وبين هذه الحوادث وهذه الحركة الدائمة يمتنع أن تكون مستقيمة وإلا لزم القول بوجود أبعاد غير متناهية وهو محال فإذن لا بد من جرم متحرك بالاستدارة وهو الفلك.

فثبت أن حركات الأفلاك هي المبادىء القريبة للحوادث الحادثة في هذا العالم فكان الفلك جرما بسيطا

والنسب بين صفة الأجزاء المتشابهة متشابهة والأمور المتشابهة في تمام الماهية لا يمكن أن تكون عللا للأمور المختلفة فوجب أن تكون في أجرام الأفلاك أجرام مختلفة الطبائع وتكون تلك الأجرام بحيث تختلف نسبها وتشكلاتها حتى يمكن أن تكون تلك التشكلات هناك مبادىء لحدوث الحوادث المختلفة في هذا العالم والأجرام المختلفة الطبائع المركوزة في أجرام الأفلاك هي الكواكب فثبت أن المبادىء القريبة لحدوث الحوادث في عالم الكون والفساد هي اتصالات الكواكب.

قال الرازي: ثم إن القائلين بهذا المذهب وهم الفلاسفة والصابئة قالوا بربوبيتة هذه الكواكب واشتغلوا بعبادتها واتخذوا لكل واحد هيكلا مخصوصا وصنما معينا واشتغلوا بخدمتها وساق الكلام إلى آخره

قلت فهذا غاية تقرير أصل هؤلاء ومطلوبهم في هذا التقرير وهو مع هذا يدل على نقيض مطلوبهم لمن فهم حقيقة مقدمات هذه الحجة إذ ثبوت المؤثر التام في الأزل

ص: 70

ممتنع فإن الأزل ليس وقتا بعينه ولكنه عبارة عن نفي الأولية وهو الدوام الذي لا ابتداء له فلو كان لم يزل مؤثرا تاما والتام هو المستلزم لأثره لم يزل كل شيء موجودا قديما وهو خلاف المشاهدة فعلم أنه صار مؤثرا في الحوادث بعد أن لم يكن مؤثرا فيها وحينئذ فإذا قيل لم يزل مؤثرا في حادث بعد حادث وعنى بالمؤثر هذا لم يدل هذا على قدم شيء من العالم بل هذا يقتضي انقضاء مدة وأن المؤثرية المعتبرة في حدوث الحوادث ما كانت موجودة من الأزل هذا نقيض ما طلبوه في ذلك التقدير فإنهم طلبوا أن تكون جميع الأمور المعتبرة في التأثير موجودة في الأزل ليكون العالم مقارنا له وقد بينا أن هذا ممتنع وأنه يمتنع وجود المؤثر التام في الأزل لأن ذلك يستلزم امتناع حدوث الحوادث كما قرروه هنا ونحن نبين بطلان استدلالهم على قدم العالم على هذا التقدير الآخر فقولهم لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال فيقال هذا بعينه يدل على حدوث ما سوى الله تعالى فإنه لا بد عند كل حادث من وجود المؤثر التام فيجب أن تكون

ص: 71

مجموع الأمور المعتبرة في تأثير كل حادث موجودة عند ذلك الحادث وحينئذ فالحادث الأول لا بد أن يكون شرطا في وجود الثاني حتى يوجد بعده سببا به يصير المؤثر مؤثرا وهؤلاء يقولون المؤثر القديم باق على حال واحدة ولكن الحادث الأول شرط في الثاني فلا يوجبون أن يكون عند كل امر حادث مؤثره التام موجودا لأن كل ما يعتبر في التأثير فهو داخل في المؤثر التام فلا بد أن تكون شروط التأثير موجودة عند التأثير وهؤلاء يجعلون شرط التأثير سابقا على وجود الأثر ليس بمقارن له فهذا الأصل مما يدل على نقيض قولهم وأيضا فقوله فإن كان حدوث الحادث بسبب لزم التسلسل على وجه التعاقب كما ذكره فيقال هذه الحجة تتضمن أن المؤثر القديم الواجب لذاته فياض لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر وذلك يقتضي أن يكون هو الذي يحدث الحوادث المتعاقبة فتكون صادرة عنه فلا يحدث الثاني حتى يحدث الأول فإذا كان إحداثه الثاني مشروطا بإحداثه الأول امتنع أن يكون موجبا بذاته وعلة تامة مستلزمة لمعلولها لأن الموجب لا يتأخر عنه موجبه والعلة لا يتأخر عنها معلولها وإذا لم يكن موجبا بذاته كان فعله لما يفعله بمشيئته وقدرته وكان تأثيره في كل واحد من الحوادث حاصلا بعد أن لم يكن مؤثرا فيه

ص: 72

وحينئذ فالمحدث لكمال ذلك التأثير لا يجوز أن يكون غيره لأن كل ما سواه مفعول له وإحداثه لذلك الغير هو من جملة إحداثاته فلا يجوز أن يكون ما به صار الخالق فاعلا مؤثرا هو أمرا يستفيده من غيره بل هو بنفسه الخالق لكل شيء والأفعال المتقدمة المشروطة في المفعولات المتأخرة هي أفعاله لا أفعال غيره فلو كان هو نفسه لم يفعل شيئا بنفسه بل الحوادث تحدث منفصلة عنه شيئا بعد شيء وهو نفسه لم يفعل بنفسه شيئا لزم ألا تكون تلك الحوادث صادرة عنه فإنه كل واحد من أجزاء الحركة حادث فلا بد له من سبب حادث والمتحرك جسم ممكن فما يحدث فيه من الاسباب المقتضية للحركة كالتصورات والإرادات المتعاقبة هي أيضا حادثة فيه شيئا بعد شيء وهو نوع حركة أيضا والفاعل لذلك يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبة بذاتها لمعلولها فإن ذلك لو كان كذلك لم يصدر عنها شيء من تلك الحركات والحركات حادثة ممكنة فلا بد لها من فاعل ونفس الجسم الذي هو متحرك دائما لا يجوز أن يكون موجبا بذاته علة تامة في الأزل مستلزمة لمعلولها لأن من معلولها الحركة التي توجد شيئا بعد شيء وتلك لا يكون المستلزم لها أزليا فإنه يلزم أن يكون أزليا وذلك تناقض لا سيما مع كثرة الحركات والحوادث واختلاف أنواعها

فصدور الأمور الحادثة المختلفة عن علة تامة بسيطة مستلزمة لمعلولها ممتنع في بدائه العقول سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة

ص: 73

وهؤلاء يقولون أن الواجب بذاته بسيط ليس له صفة ثبوتية ولا فعل قائم به ويقولون أنه علة تامة مستلزمة لمعلولها فكان لازم قولهم أنه لا يصدر عنه إلا واحد بسيط قديم وكذلك عن الصادر عنه فلما تيقن وجود الكثرة المختلفة الحادثة كان هذا مناقضا لقولهم وفضلاؤهم معترفون بهذا كما بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وهذا الكلام يدل على أمور تدل على امتناع حدوث الحوادث عن علة تامة فإن قولهم بحدوثها عن علة تامة قول باطل كيفما كان ويدل على أن محدث الحوادث لا يكون إلا فاعلا تقوم به الأفعال وكما أنه يدل على إبطال حجتهم على القدم فيدل أيضا على حدوث العالم من وجه آخر وذلك أن يقال العالم كله بما فيه من الأجسام والأعراض والعقول والنفوس إن قدر أنها خارجة عن الأجسام والأعراض بل كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون خاليا عن الحوادث المتعاقبة كالجسم الساكن وإما أن يكون متضمنا لها كالجسم المتحرك وكل من الأمرين يمتنع قدمه لانه لو كان شيء من العالم قديما لكان صادرا عن موجب بالذات وعلة تامة أزلية باتفاق العقلاء وهو معلوم بالدليل العقلي فإنه إذا كان قديما فإن كان فاعله فاعلا بغير قدرة ومشيئته فهو موجب بذاته وإن كان فاعلا بقدرته ومشيئته فإن كان الفاعل بالقدرة والاختيار لا يقارنه شيء من مفعولاته امتنع أن يكون مفعوله مقارنا

ص: 74

له فامتنع قدم مفعوله وإن قيل أنه يمكن أن يقارنه شيء من مفعولاته فهو مثل الموجب بذاته لكن هذا موجب بذاته مع مشيئته وقدرته والمقصود أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون فاعله مستلزما له لا يجوز أن يكون فاعله ممن يتراخى عنه مفعوله فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه وإما أن يجوز فيه الأمران فلو كان العالم قديما لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله لأن ذلك جمع بين النقيضين كيف يكون مفعوله قديما أزليا ويكون متأخرا عنه حادثا بعد أن لم يكن فتعين أن يكون فاعله إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجوز فيه الأمران والثاني باطل أيضا فإنه إذا جاز أن يقترن به المفعول وجاز ألا يقترن كان وجود المفعول ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والقول في هذا المرجح كالقول في غيره إن كان فاعله مستلزما له كان مقارنا له فيلزم مقارنة الأول له فإن لم تجب مقارنته له كان ممكنا مفتقرا إلى مرجح آخر وهلم جرا فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مرجح تام مستلزم لمفعوله فتبين أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون مبدعه مرجحا تاما مستلزما لمفعوله سواء عبر عنه بالعلة التامة

ص: 75

أو المؤثر التام أو المرجح التام وسواء قيل أنه يفعل بدون قدرة وإرادة أو بقدرة وإرادة مستلزمة لمرادها أو غير ذلك من الأمور التي يجب معها أن يكون صادرا عن فاعل مستلزم لمفعوله وإذا كان قدمه مستلزما للمؤثر التام فوجود المؤثر التام في الأزل ممتنع وذلك لأن أثره إن كان خاليا عن الحوادث وأثر أثره كذلك لزم ألا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف الحس سواء قيل إن ذلك الأثر هو العقول التي لا حركة فيها أو قيل هو أجسام ساكنة فعلى التقديرين إذا كان الصادر عنه لا حادث فيه لزم أن يكون الصادر عن الصادر لا حادث فيه وإلا لزم صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه وهذا هو القسم الثاني وهو أن يكون أثره متضمنا للحوادث وهذا أيضا ممتنع لأن تلك الحوادث هي أيضا من الصادر عنه وإما أن يقال هي لازمة لذلك المحل أو عارضة له حادثة بعد أن لم تكن وكلاهما ممتنع

أما الثاني فلأن حدوثها بعد أن لم تكن هو أمر حادث فلا بد له من سبب حادث والتقدير أن الفاعل لم يحدث عنه سبب حادث فامتنع ابتداء الحوادث بلا سبب حادث وإن قيل أنه مستلزم للحوادث وهو قولهم كما في الفلك قيل ما كان مستلزما للحوادث امتنع وجوده بدونها فالمبدع له لا بد أن يبدع الحوادث اللازمة له التي هي شرط

ص: 76

في وجوده والعلة التامة يمتنع أين يصدر عنها حادث فإن العلة التامة الأزلية معلولها معها قديم والحادث لا يكون قديما

وإن قيل صدر عنها حادث بعد حادث لم يكن في الأزل علة تامة لشيء بل هي علة تامة لكل حدث حال حدوثه فتبين أن العلة التامة الأزلية لا يصدر عنها لاحادث معين ولا نوع الحوادث وإن قيل هي علة تامة للنوع قيل النوع لا يوجد إلا متعاقبا فيكون تمامها متعاقبا لا أزليا وذلك إنما يكون بما يقوم بها شيئا بعد شيء فأما أن يكون تمامها لمفعولها من غير فعل يقوم بها فهو ممتنع وهو مستلزم لأن يكون المخلوق مؤثرا في الخالق بدون فعل يقوم بالخالق يؤثر به في المخلوق وأيضا فصدور الحوادث والمختلفات عن بسيط لا يقوم به فعل ولا صفة ممتنع في بدائه العقول وأيضا فمقارنة المفعول لفاعله ممتنعة وأيضا فإن الحادث متأخر والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها وإذا كان صدور الحوادث اللازمة التي هي شرط ممتنعا وصدور الملزوم بدون اللازم ممتنع امتنع صدور العالم كله لازمه وملزومه وهوالمطلوب ونكتة الدليل أن قدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع موجبا بذاته وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع فقدم العالم ممتنع

ص: 77

فالقول بالعلة التامة يقتي بطلان القول بقدم العالم المستلزم للحوادث وإنما كان القول بذلك ممكنا لو كان المعلول غير مستلزم للحوادث وغير قابل للحوادث وإن كان ذلك ممتنعا من وجه آخر كامتناع مقارنة المفعول لفاعله يوضح هذا انه إذا قال القائل قد يكون علة تامة للأفلاك وليس علة تامة لحركات الأفلاك بل يصدر عنه شيء بعد شيء

قيل صدورها شيئا بعد شيء عن علة تامة ممتنع فلا بد أن يكون قد قامت به أحوال اوجبت حدوث تلك الحركات فلا يكون علة تامة لشيء من الحركات وإذا لم يكن علة تامة لشيء من الحركات لم يكن علة تامة لما يستلزم الحركات لأنه إذا كان علة لها بدون الحركات لزم أن تكون مقارنة له خالية عن الحركات والتقدير أنها مستلزمة للحركات فيلزم اجتماع النقيضين وإن قيل انه يستلزم حركة واحدة منها قيل الحركات الدائمة الأزلية لا يتعين فيها شيء دون شيء بل لم تزل ولا تزال أفرادها متعاقبة فيمتنع أن يكون علة تامة لواحد منها دون الآخر في الأزل مع أنه ليس فيها شيء أزلي بعينه ويمتنع أن يكون علة تامة لجميعها في

ص: 78

الأزل لامتناع وجودها في الأزل فامتنع أن يكون علة تامة لشيء من الحركات الأزلية فالحركة التي توجد شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة أزلية كيفما قدر الأمر فإذا كان القديم مستلزما للحركة إما لحركة فيه كالفلك وإما لحركة لازمة له معلولة كما يقولونه في العقل امتنع أن تكون العلة الموجبة موجبة له دون الحركة اللازمة وامتنع أن يكون موجبا للحركة اللازمة فامتنع أن يكون موجبا له على التقديرين فامتنع قدم العالم أو شيء من العالم وهو المطلوب وهذا برهان شريف على حدوث ما سوى الله مطلقا وهو مبنى على المقدمات الصحيحة التي تسلمها الفلاسفة وغيرهم فإن الموجب بالذات لا بد أن يقارنه موجبه بالاتفاق وأما الفاعل بالاختيار فهل يجب مقارنة مراده لإرادته أو يمتنع ذلك فيها أو يجوز الأمران على ثلاثة أقوال للناس وعلى كل تقدير فإنه يجب حدوث كل ما سوى الله أيضا فإنه إن قيل بوجوب مقارنة مراده له امتنع أن تكون إرادته لشيء معين أزلية فإنه يكون مستلزما له في الازل ويكون القول فيه كالقول في الموجب بالذات وقد تبين امتناع الموجب بالذات في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من مراده أزليا فإن قيل بوجوب تأخر مفعوله لزم حدوث مراده وإن

ص: 79

قيل بجواز الأمرين فحدوث المراد بعد أن لم يكن يقتضي سببا حادثا والقول فيه كالقول في الأول فامتنع حدوث شيء عنه إلا بسبب حادث وحدوث الحادث عن إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع وقدم العالم بدون إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع فثبت حدوثه وحاصل الأمر أن مقارنة المراد للإرادة أن قيل أنها واجبة ألحقت بالقسم الأول وإن قيل بأنها ممتنعة اقتضت حدوث العالم وأما القول بأنه يمكن مقارنة مفعوله له ويمكن تأخره عنه في الواجب الوجود فهذا لم يقله طائفة معروفة لأن المعتزلة الذين يقولون أن الممكن لا يقف على المرجح التام المستلزم لمقتضاه بل يكفي فيه القادر الذي له أن يرجح وألا يرجح يقولون أنه يجب تأخير مفعول القادر عن الازل

وأما من يقول أن الممكن يقف على المرجح المستلزم لمقتضاه كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون الفاعل يمكن أن يوجد فعله وأن لا يوجد ويكون فاعلا مع إمكان الطرفين بل أن تمت أسباب الفعل وجب المفعول وإن لم تتم أسبابه امتنع المفعول فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والممكن باعتبار غيره أما واجب بغيره أو ممتنع لغيره فإن حصل المقتضى التام كان واجبا وإن لم يحصل كان ممتنعا فتبين أنه ليس في العقلاء المعروفين من يقول أن المفعول القديم يصدر عن فاعل يجوز أن يتأخر عنه مفعوله بل

ص: 80

هم متفقون على ما قام عليه الدليل من أنه لو كان قديما لكان فاعله مستلزما لمفعوله لكن العالم مستلزم للحوادث وصدور الحوادث والمستلزم للحوادث عن الفاعل المستلزم لمفعوله محال وإذا قدر أنه اوجب العالم ثم أحدث فيه الحوادث كان ذلك أيضا ممتنعا لأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك ممتنع كما تقدم وإن شئت قلت إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزا أمكن حدوث العالم وبطل القول بوجوب قدمه وإن كان ممتنعا بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي فبطل قول الفلاسفة بوجوب قدمه على التقديرين وبطلت حجتهم على قدمه وهذا كما تقول إن كان تسلسل الحوادث ممتنعا لزم حدوثه وإن كان ممكنا أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله فبطلت الحجة الدالة على قدم شيء منه وبطل القول بوجوب ذلك على التقديرين وهذه الطريق فيها تقرير حدوث كل شيء من العالم من غير احتياج إلى جعل الرب قادرا بعد أن لم يكن أو فاعلا بعد أن لم يكن وهي موافقة لمذهب السلف والأئمة ليس فيها ابطال أفعال الله القائمة به ولا ابطال صفاته ولا تعطيله عن الأفعال وصفات الكمال ولا إثبات حادث بلا سبب حادث ولا ترجيح الممكن بلا مرجح فهي جامعة للأدلة العقلية السليمة عن المعارض والنصوص السمعية المزكية لما دل عليه العقل ومبينة أن الرب لم يزل ولا يزال

ص: 81

موصوفا بصفات الكمال كما وصفه أئمة السنة من أنه لم يزل متكلما إذا شاء لم يزل حيا فاعلا أفعالا تقوم به لم يزل قادرا وكل ما سواه مخلوق له حادث عنه وأن حدوث الأشياء عنه شيئا بعد شيء فليس فيها شيء كان معه ولا قارنه بوجه من الوجوه والله أعلم فهذا مما يدل على حدوث كل واحد واحد من العالم وليس هذا موضع بسطه وإنما تكلمنا هنا في فساد حجتهم التي هي عمدتهم ذكرنا أن قولهم يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل وتسلسل العلل وذلك ممتنع بصريح العقل وبموافقة المنازعين

وما ذكرناه من البراهين يتبين بالبرهان الثالث وإن كان فيما تقدم تنبيه عليه وهو أن يقال العلة التامة لا بد أن تكون موجودة عند وجود المعلول لا قبله وهم يسلمون ذلك فيلزم أن يكون لكل حادث علة تامة موجودة عند وجوده فلو كان الحادث الأول الذي حدث قبله هو تمام العلة لكان جزء العلة موجودا قبل المعلول فلا تكون علته التامة موجودة عند حدوثه بل يلزم من ذلك حدوث الحوادث بشرط متقدم على وجودها وإذا جاز وجود الموجودات بفاعل متقدم على وجودها وشرط حادث قبل وجودها لم يجب أن يكون لها علة تامة فلا يكون لشيء من الحوادث علة تامة بحيث تكون جميع أجزائها حاصلة عند وجوده فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث علة تامة بطل أن يكون لها محدث وذلك ممتنع

ص: 82

فإن قيل لم لا يجوز تمام العلة للحادث الثاني عدم الأول وهذا العدم مقارن للحادث الثاني

قيل لأن العدم إذا لم يستلزم أمرا وجوديا لم يكن جزءا من علة الموجود فإن العدم لا تأثير له اصلا في وجود بخلاف الماشي في الأرض فإنه كلما قطع مسافة تجدد له قدرة وإرادة لقطع المسافة الثانية والاول إذا قيل أنه يفعل شيئا بعد شيء بذاته يقتضي كمال فاعليته لكل مفعول عند وجوده وذاته فعلها للأول أمر وجودي ووجود الثاني مع الأول الذي يضاده ممتنع وعدم الممتنع يقتضي كمال القدرة المقارنة للفعل بخلاف ما إذا قيل أن حال الذات مع الحادث الأول والثاني واحد ولم يتجدد منها ولا من غيرها ما يقتضي كمال فاعليتها للثاني عند وجوده وتبين هذا بالبرهان الرابع وهو أن الحادث الثاني إذا كان مشروطا بالحادث الأول الذي هو موجود قبله والواجب الوجود أيضا موجود قبله وهو علة تامة أزلية كان هذا متناقضا فإنه على الأول يلزم أن يكون كل ما به تصير الحوادث موجودة موجودا قبلها ولا يكون شيء من المحدث لها حادثا معها وهذا يمنع أن يكون لشيء من الحوادث علة إذ العلة يجب مقارنتها للمعلول فضلا عن أن يكون لها علة أزلية فتبين أن إثبات العلة التامة يناقض هذا القول المتضمن حدوث الحوادث بشروط متقدمة عليها وهو أيضا يناقض القول بحدوث تمام العلل مع حدوث المعلومات

ص: 83

إذ لو كان حادثا معها لزم أن يكون تمام علة كل حادث حادثا معه فلا يكون للحوادث علة تامة أزلية مع أن حدوث تمام العلل ممتنع على هذا التقدير فإنه يستلزم وجود حوادث متسلسلة في آن واحد من غير محدث إذ لم يكن هناك إلا علة تامة أزلية وهذا أيضا مما يوافقون على امتناعه وهو يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل فتبين أن القول بالعلة التامة الأزلية باطل سواء قيل إن شرط حدوث الحادث موجود قبله أو موجود معه وحدوث الشروط علىالتقديرين عن العلة التامة ممتنع فتبين امتناع حدوث كل واحد من الحوادث وشروطها عن العلة التامة الأزلية على كل تقدير والقول بالقدم يستلزم العلة التامة الأزلية وما استلزم الباطل فهو باطل

وكل من العالم مقارن لشيء من الحوادث فإذا ظهر امتناع حدوث الحوادث عن العلة التامة الأزلية تبين امتناع قدم شيء من العالم لأنه لا يوجد إلا مع حادث ووجود ذلك عن العلة التامة الأزلية محال لا سيما وهم يقولون كل من الحوادث تمام علة حادث قبله فليس لشيء منها علة تامة مقارنة له وإنما الذي يقارنه جزء العلة وهو السبب الدائم الذي يتوقف فيضه على حدوث هذا الحادث فلا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول وذلك السبب ليس هو علة تامة لشيء من الحوادث لا احداثه للثاني مقارنا لوجود الأول وليس عند حدوث شيء من الحوادث علة تامة أصلا فتبين أنهم يقولون في الحقيقة أن الحوادث لا تحدث عن علة تامة فضلا عن أن تكون أزلية

ص: 84

وهذه الوجوه من تدبرها وفهمها علم فساد مذهب القوم بالضرورة وأن صانع العالم يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبا بذاته بل يجب أن يكون فاعلا للأشياء شيئا بعد شيء وهذا لا يكون إلا إذا فعل بمشيئته وقدرته وهو المطلوب واعلم أن هذا كلام المتأخرين منهم كابن سينا وأمثاله وهو خير من كلام متقدميهم كأرسطوطاليس فإن أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة الذى هو غاية حكمتهم وعلمهم إنما اعتمد في إثبات العلة الأولى على الحركة الشوقية فإنه لما قرر أن حركة الفلك شوقية إرادية وأن المتحرك بالشوق والإرادة لا بد أن يكون له مراد وهو محبوبه ومطلوب وجب ان يكون هناك علة غائية هي المحبوب المعشوق المراد وقالوا أن الفلك يتحرك للتشبه بها كتحريك المؤتم بإمامه ثم قد يقولون إن الفلك يتشبه بالمبدأ الأول وقد يقولون يتشبه بالعقل والعقل يتشبه بالأزل

ص: 85

وهذا التقدير إنما يثبت وجود علة غائية لا يثبت وجود علة فاعلية فيقال هب أن الحركة إرادية وأن الحركة الإرادية لا بد لها من محبوب مراد فما السبب المحدث الفاعل لتلك الحركة الإرادية الشوقية فإن كان الفلك واجب الوجود بذاته لم يكن هذا قولهم وكان باطلا من وجهين أحدهما أن واجب الوجود بذاته لا يكون مفتقرا إلى غيره لا إلى علة فاعلية ولا غائية فإذا جعلت له علة غائية يحتاج إليها في إرادته وحركته لم يكن مستغنيا بنفسه عنها فلا يكون واجبا بذاته

الثاني أنه إذا جاز أن يكون الفلك واجبا بذاته أمكن أن يكون هو العلة الغائية لحركته كما أنه هو العلة الفاعلة لحركته وقد بسط الكلام على فساد قولهم في غير هذا الموضع وأما ابن سينا وأتباعه فإنهم عدلوا عن هذه الطريق وسلكوا طريقة مركبة من طريق المتكلمين وطريق هؤلاء الفلاسفة فقالوا الموجود إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا والممكن لا بد له من واجب كما يقول المتكلمون الموجود إما محدث وإما قديم والمحدث لا بد له من قديم

ص: 86

فلا بد من موجود واجب قديم ثم إنه أثبت أن الأفلاك ممكنة بناء على أنها أجسام والجسم مركب والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا بنفسه كما يقول المعتزلة الأجسام محدثة لأن الأجسام مركبة والمركب لا بد له من مركب فلا يكون قديما وجعلوا هذا عمدة في نفى صفات الله تعالى

وهؤلاء أخذوا لفظ المركب بالاشتراك فإن المركب إذا أريد به ما ركبه غيره أو ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع أو ما يقبل التفريق امتنع أن يكون واجبا بنفسه وقديما وأما إذا أريد به الموصوف بصفات الكمال اللازمة كالعلم والقدرة ونحوهما لم يلزم من ذلك أن يكون محدثا ولا ممكنا يقبل العدم كما قد بسط في غير هذا الموضع ولفظ الافتقار والجزء والغير ألفاظ مجملة فيراد بالغير ما يباين غيره وعلى هذا فالصفة اللازمة لا يقال أنها غير الموصوف ويراد بالغير ما ليس هو الآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف وواجب الوجود بنفسه يمتنع أن يفتقر إلى أمر مباين له ولكن لا يمتنع أن يكون مستلزما لصفات الكمال التي يمتنع أن تفارقه وتسمية الصفة اللازمة جزءا تلبيس وتسمية استلزام الموصوف لصفته واستلزام الصفة للموصوف افتقارا تلبيس أيضا كما قد بسط في غير هذا الموضع وهؤلاء القوم من أسباب ظهور كلامهم وظلال كثير من الناس به أنهم يحتجون على طوائف أهل القبلة بما

ص: 87

يشاركونهم فيه من المقدمات الضعيفة المبتدعة فلا يزالون يلزمون صاحب ذلك القول بلوازم قوله حتى يخرجوه من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة والسيئة تدعو إلى السيئة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقال بعض السلف أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها

ص: 88

والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة فيحتاج أن يعتقد لوازمها فتكثر اعتقاداته الفاسدة ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين فإن هؤلاء قالوا للمعتزلة ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذرا من التشبيه والتجسيم فقالوا نعم فقالوا وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء

ص: 88

الله تعالى له فإذا قلتم هو حي عليم قدير كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له لأنه لا يعرف مسمى بهذه الأسماء إلا جسم كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى ويقولون ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير ثم اقتصر بعضهم على نفي الإثبات فقال لهم الصنف الآخر إذا قلتم ليس بموجود ولا بحي ولا عليم ولا قدير فقد شبهتموه بالمعدوم كما أن في الإثبات تشبيها بالموجود فيجب أن يقال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء يقولون في أنفسهم أنهم من أذكى الناس وأفضلهم وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم فإنه يقال لهم أولا سلبتم النقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فكما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين وكما يمتنع أن يقال في شيء واحد أنه موجود معدوم يمتنع أن يقال ليس بموجود ولا معدوم وأما إثبات سلب الحياة والموت والعلم والجهل والكلام والخرس فقد يقولون أن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ويفرقون بين هذا وبين هذا بأن سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له هو العدم وتقابله الملكة كسلب العلم والسمع والبصر عن الحيوان بخلاف سلب ذلك عن الجماد قالوا فالحيوان

ص: 89

يقال له أعمى أصم أبكم إذا عدم عنه ما من شأنه أن يقبله بخلاف الجماد فإنه لا يقال له أعمى أصم أبكم لأنه لا يقبل ذلك وحينئذ فلا يلزم من سلب الحياة والعلم والقدرة والكلام عن واجب الوجود أن يكون موصوفا بما يقابل ذلك من الموت والجهل والعجز والخرس إلا أن يكون قابلا لذلك وهذا ممنوع أو غير معلوم وهذه الشبهة قد أضلت خلقا من أذكياء المتأخرين حتى الآمدي وأمثاله وهي باطلة من أوجه: أحدها أن يقال إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك وإما ألا يكون قابلا لذلك فإن لم يكن قابلا لذلك كان ذلك أعظم في النقص من كونه قابلا لذلك غير متصف به فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى وإذا كان اتصافه بكونه أعمى أصم أبكم ممتنعا مع كون المتصف بذلك أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بهذا وبضده علم أن كونه غير قابل للاتصاف بذلك أعظم في نقصه وإذا كان ذلك ممتنعا فهذا أعظم امتناعا فامتنع أن يقال أنه غير قابل للاتصاف بصفات الكمال وإذا كان قابلا للاتصاف بذلك تقابلا تقابل العدم والملكة باصطلاحهم فإن لم يتصف بالحياة والعلم والقدرة لزم اتصافه بالموت والعجز والجهل وهذا ممتنع بالضرورة فنقيضه حق

الوجه الثاني أن يقال كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه

ص: 90

عنه لأن الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدث ولأن كل كمال في المفعول المخلوق هو من الفاعل الخالق وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق فالخالق أحق بذلك الكمال ومن المعلوم بضرورة العقل أن المعدوم لا يبدع موجودا والناقص لا يبدع ما هو أكمل منه فإن النقص أمور عدمية ولهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورا وجودية وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه كما قال تعالى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية وكذلك قوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} يتضمن كمال القدرة وقوله {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} يتضمن كمال العلم وكذلك قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فمعناه على قول الجمهور لا تحيط به ليس معناه لا تراه فإن نفي الرؤية يشاركه فيه المعدوم فليس هو صفة مدح بخلاف كونه لا يحاط به ولا يدرك فإن هذا يقتضي أنه من عظمته لا تدركه الأبصار وذلك يقتضي كمالا عظيما تعجز معه الأبصار عن الإحاطة فالآية دالة على إثبات رؤيته ونفي الإحاطة به نقيض ما تظنه الجهمية من أنها دالة على نفي رؤيته الوجه الثالث أن يقال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه

ص: 91

من الوجوه الممكن للموجود إما أن يكون ممكنا للواجب وإما أن يكون ممتنعا عليه فإن كان ممتنعا عليه لزم أن يكون الموجود غير قابل للكمال فإن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب إذا لم يقبل الكمال فالممكن أولى ونحن قد ذكرنا الكمال الممكن للموجود الذي لا نقص فيه فيمتنع أن يكون الكمال الممكن للموجود غير ممكن للموجود وإذا كان ذلك ممكنا له فإما أن يكون لازما أو يكون جائزا فإن كان لازما له ثبت أن الكمال الممكن للموجود لازم للقديم تعالى واجب له وهو المطلوب وإن كان جائزا كان مفتقرا في حصوله إلى غيره وحينئذ فذلك الغير أكمل منه لأن معطي الكمال أكمل من الآخذ له وذلك المعطي إن كان مخلوقا له لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فشرط إعطائه الكمال اتصافه بصفات الكمال والكمال إنما يستفيده من الكامل فيمتنع أن يكون معطيا له لئلا يلزم الدور في الفاعلين والعلل الفاعلة فإنه ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء

وإن كان الغير ليس مخلوقا له كان واجب الوجود بنفسه وحينئذ فإن كان متصفا بصفات الكمال بنفسه فهو الرب الخالق والأول مفعول له ليس له من نفسه صفات الكمال فهو عبد لا رب وإن لم يكن متصفا بصفات الكمال بنفسه بل هذا يستفيد الكمال من هذا وهذا يستفيده من هذا كان هذا دورا ممتنعا وهذا من أعظم ما يحتج به على توحيد الربوبية وأنه

ص: 92

يمتنع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إما أن يكون كل منهما فاعلا لجميع العالم وهذا ممتنع بالضرورة فإنه إذا كان هذا فاعلا للجميع لم يكن الآخر فاعلا لشيء منه فضلا عن أن يكون فاعلا لجميعه فلو كان هذا فاعلا لجميعه وهذا فاعلا لجميعه كان كل منهما فاعلا غير فاعل وإن كانا متشاركين فإن كان كل منهما قادرا حين الانفراد لزم امتياز مفعول كل منهما عن الآخر فذهب كل إله بما خلق ولهذا كل مشاركين فلا بد أن يكون فعل كل منهما مميزا عن الآخر وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا لزم أن يقدر أحدهما على فعل العالم حين قدرة الآخرة عليه فيلزم كون كل منهما قادرا على فعله كله حال قدرة الآخر على فعله كله وهذا ممتنع كما تقدم فامتنع أن يكون أحدهما قادرا على فعله حال قدرة الآخر على فعله كما هو المعروف في القادرين على تحريك شيء ولا يقدر أحدهما على تحريكه إلا حال ما لا يكون الآخر محركا له فإذن لا يكون احدهما قادرا إلا عند تمكين الآخر له فلا يكون أحدهما قادرا إلا بأقدار الآخر له فلا يكون قادرا حال الانفراد وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا حال الانفراد أمكن أن يفعل ضد مفعول الآخر وأن يريد خلاف مراده مثل أن يريد هذا تحريك جسم والآخر تسكينه فيمتنع وجود المرادين جميعا لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما

ص: 93

فلا يكون واحد منهما قادرا فثبت أنه يمتنع كون كل منهما قادرا حين الانفراد وإن لم يكن واحد منهما قادرا إلا عند الاجتماع كان كل منهما مؤثرا في جعل الآخر قادرا فلا يكون هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له ولا هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له فيلزم كون كل منهما مؤثرا في الآخر وهذا هو الدور في الفاعلين والعلل وهو ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه كثيرة فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع فكيف يكون فاعلا لفاعله

ولأن الفاعل متقدم بذاته على المفعول فيلزم تقدم هذا بذاته على هذا وهذا بذاته على هذا فيلزم تقدم الشيء على نفسه بدرجتين والدور كما هو ممتنع في المؤثر فهو ممتنع في تمام كونه مؤثرا كما أن التسلسل لما امتنع في المؤثر امتنع في تمام كونه مؤثرا

وهذا بخلاف الدور المعي في الآثار فإنه جائز باتفاق العقلاء وأما التسلسل في الآثار ففيه نزاع مشهور وهذه الأمور كلها مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود هو واجب لواجب الوجود لازم له لا يجوز أن يكون ممتنعا عليه مع كونه ممكنا للموجود فلا يجوز أن يكون ممكن الوجود والعدم لأنه حينئذ يفتقر في اتصافه به إلى غيره لأنه إما أن يكون كل منهما معطيا للآخر الكمال وإما أن يكون هذا الثاني هو المعطي فإن كان هذا فذلك الغير المتصف بصفات

ص: 94

الكمال هو حينئذ الرب الكامل المعطي لغيره الكمال وإن كان الأول لزم كون كل منهما معطيا للآخر صفات الكمال وهو يقتضي كون كل منهما مؤثرا في الآخر مثل أن يكون كل منهما فاعلا للآخر عالما قادرا حيا وذلك دور ممتنع كما تبين فثبت أن اتصافه بصفات الكمال أمر لازم له يمتنع زواله عنه وهو المطلوب

الوجه الرابع أن يقال لهؤلاء قولكم أن هذين يتقابلان تقابل العدم والملكة اصطلاح اصطلحتموه وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتا وميتا قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} فسمى الأصنام الجامدات أمواتا وتسمى الأرض مواتا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"

ص: 95

الوجه الخامس أن يقال كل عين من الأعيان تقبل الحياة فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء

الوجه السادس أن يقال هب أنكم لا تسمونه ميتا ولا جاهلا ولا عاجزا لكن يجب أن يقال ليس بحي ولا عالم ولا قادر ونفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا ميت وجاهل وعاجز وزيادة ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة

الوجه السابع أن يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارا من التشبيه فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالمتنع فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص ثم شبهتموه بالمعدوم ثم شبهتموه بالممتنع فكنتم شرا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله

ص: 96

ومن هؤلاء طائفة ثالثة تقول نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فلا ننفي النقيضين بل نسكت عن هذا وهذا فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم لا بهذا ولا بهذا فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم

ص: 96

ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه

وهؤلاء من جنس السوفسطائية المتجاهلة اللاأدرية

ص: 97

الذين يقولون لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء

الثاني قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها

والثالث الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها والصنف الرابع قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة فمنهم الواقفة المتجاهلة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي ومنهم المكذبة الذين ينفون ومنهم من يجعل الحقائق تتبع العقائد كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال:

ص: 98

عقد الخلائق في الإله عقائدا

وأنا أعتقدت جميع ما عقدوه

وأما الرابع فهو منتهى قول أئمة الجهمية وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم وهذا عند أصحاب الوحدة هو أعلى العلم بالله تعالى والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على مجامع الأقوال ومنشأ الضلال حيث أخذوا الفظ التشبيه بمعنى مشترك مجمل فأرادوا نفيه بكل معنى من المعاني ومن المعلوم أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر يتفقان فيه وإن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الاذهان لا في الأعيان فلا بد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقهما في ذلك المعنى العام وهذا موضع غلط فيه كثير من الناس في أحكام الأمور الكلية التي تشتبه فيها أعيانها منهم من يجعل الكلي ثابتا في الخارج كليا ومنهم من يقول أفراده لم تتفق إلا في مجرد اللفظ وهي مسألة الأحوال التي اضطرب فيها كثير من الناس والتحقيق

ص: 99

أنه لا بد من تشابه في الخارج ومعنى كلي عام في الذهن من غير أن يكون في الخارج على أو شيء لا موجود ولا معدوم فيقال لهؤلاء التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه بل يمتنع أن يشترك مخلوقان في شيء موجود في الخارج بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته القائمة به لا يشاركه غيره فيها ألبتة وإذا قيل هذان يشتركان في كذا كان حقيقته أن هذا يشابه هذا في ذلك المعنى كما إذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية أو يشارك هذا الحيوان في الحيوانية فمعناه أنهما يتشابهان في ذلك المعنى وإلا فنفس الإنسانية التي لزيد لا يشاركه فيها غيره وإنما يشتركان في نوع الإنسانية المطلقة لا في الإنسانية القائمة به

ص: 100

والإنسانية المشتركة المطلقة هي في الأذهان لا تكون في الأعيان مشتركة مطلقة فما هو موجود في الخارج لا اشتراك فيه وما وقع فيه الاشتراك هو الكلي المطلق الذي لا يكون كليا مطلقا إلا في الذهن فإذا كان المخلوق لا يشاركه غيره فيما له من ذاته وصفاته وأفعاله فالخالق أولى أن لا يشاركه غيره في شيء مما هو له تعالى لكن المخلوق قد يماثل المخلوق ويكافئه ويساميه والله سبحانه وتعالى ليس له كفؤ ولا مثيل ولا سمي وليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة تكون مقتضية للتماثل والتكافؤ بل ذلك لازم لكل موجودين فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض الأسماء والصفات ويشتبها من هذا الوجه فمن نفى ما لا بد منه كان معطلا ومن جعل شيء من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين كان ممثلا والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى التعطيل ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون يمتنع أن يكون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما

ص: 101

لم يشتبها من وجه وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها فإنها مماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها

وهؤلاء يقولون كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل وهذه طريقة كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيره وأما جمهور الناس فيقولون أن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه وهذا القول هو المنقول عن السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره ولهذا ينكر هؤلاء على من ينفي مشابهة الموجود للموجود من كل وجه ويقولون ما من موجودين إلا وأحدهما يشبه الآخر من بعض الوجوه

فالصفات نوعان: أحدهما صفات نقص فهذه يجب تنزيهه عنها مطلقا كالموت والعجز والجهل والثاني صفات كمال فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء وكذلك ما كان مختصا بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به فلا يوصف الرب بشيء من النقائص ولا بشيء من خصائص المخلوق وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص وأما صفات الكمال الثابتة له فيمتنع أن يماثله فيها شيء من الأشياء

ص: 102

وبهذا جاءت الكتب الإلهية فإن الله تعالى وصف نفسه فيها بصفات الكمال على وجه التفصيل فأخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور ودود سميع بصير إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وأخبر أنه ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وقال تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فأثبت لنفسه ما يستحقه من الكمال بإثبات الأسماء والصفات ونفى عنه مماثلته المخلوقات ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات إثبات بلا كمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقوله ليس كمثله شيء رد على أهل التمثيل وقوله وهو السميع البصير رد على أهل التعطيل وهؤلاء نفاة الأسماء من هؤلاء الغالية من الجهمية الباطنية والفلاسفة وإنما استطالوا على المعتزلة بنفي الصفات وأخذوا لفظ التشبيه بالاشتراك والإجمال كما أن المعتزلة فعلت كذلك بأهل السنة والجماعة مثبتة الصفات فلما جعلوا إثبات الصفات من التشبيه الباطل ألزمهم أولئك بطرد قولهم فألزموهم نفي الأسماء الحسنى

والأمر بالعكس فإن إثبات الأسماء حق وهو يستلزم إثبات الصفات فإن إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر

ص: 103

بلا قدرة كإثبات متحرك بلا حركة ومتكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومصل بلا صلاة ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم الفاعل ونفى مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلا وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم والجسم مركب في اصطلاحهم وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب

ص: 104

وبالغت ملاحدة الفلاسفة في نفي الصفات بنفي مسمى التركيب فقالوا التركيب خمسة أنواع وكلها يجب نفيها عن الله

الأول التركيب من الوجود والماهية فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الاطلاق لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازما ومعلولا لتلك الحقيقة فيكون الواجب معلولا

الثاني التركيب من العام والخاص كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه

الثالث التركيب من الذات والصفات وهذا يجب نفيه وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية

ص: 104

الرابع التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي وأما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي وهذان النوعان هما الرابع والخامس

وقد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع لكنا ننبه هنا على بعضه فنقول هذه الأمور ليست تركيبا في الحقيقة وبتقدير أن تكون تركيبا كما تدعونه فلا دليل لكم على نفيها بل الدليل يقتضي إثبات المعاني التي سميتموها تركيبا

فهذه مقامات ثلاث أولها أن نقول لا دليل لكم على نفي هذه المعاني التي سميتموها تركيبا وذلك أن عمدتهم في نفي التركيب أنهم يقولون أن المركب مفتقر إلى جزئه وجزء غيره وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره وهذا الكلام اعتمد عليه ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره وبنوا عليه النفي والتعطيل وهو من أبطل الكلام وذلك بأن يقال لفظ التركيب يحتمل معان متجددة بحسب الاصطلاحات فيقال المركب لما ركبه غيره كما قال تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ويقال ركبت الباب في موضعه ونحو ذلك وهذا هو مفهوم المركب في اللغة

وقد يقال المركب لما كان متفرقا فجمع كجمع الأغذية والأدوية المركبة

ص: 105

وقد يقال المركب لما يمكن تفريق بعضه عن بعض كأعضاء الإنسان وإن لم يعهد له حال تفريق في الابتداء وقد يقال المركب لما يشار إليه كالشمس والفلك قبل أن يعلم جواز الانفكاك عنه وقد يقال المركب لما جاز أن يعلم منه شيء دون شيء كما يعلم كونه قادرا قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا وإذا كان كذلك فمعلوم أنهم إذا قالوا أن أثبات الصفات تستلزم التركيب لم يريدوا به الأول والثاني فإن أثبات الصفات لازم لله تعالى فيمتنع زوال صفات الكمال عنه ويمتنع أن يجوز عليه خلاف الصمدية كالتفرق ونحوه فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وكذلك إذا قالوا المركب مفتقر إلى أجزائه فلفظ الجزء قد يعني به ما جمع إلى غيره حتى حصلت الجملة كالواحد من العشرة وكجزء الطعام والثياب وقد يعني بالجزء ما كان بعضا لغيره وإن لم يعلم انفراده عنه أو لم يمكن انفراده عنه وقد يدخلون في هذه الحياة اللازمة للحي والعلم اللازم للعالم كما يقولون الحيوانية والناطقية جزءا الإنسان وهما نعتان لازمان له لا يمكن وجوده بدونهما

وكذلك لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى علته والمصنوع إلى صانعه ويراد به افتقار الصفة إلى محلها الذي تقوم به وقد يعني به التلازم وهو استلزام الموصوف لصفات كماله

ص: 106

وكذلك لفظ الغير قد يراد به المباين للشيء وقد يعني به ما يعلم الشيء بدونه ولهذا لما تنازع الناس في صفات الله تعالى بل في صفة كل موصوف وبعض كل مجموع هل يقال أنه غير له أم لا فقالت طائفة صفة الموصوف وبعض الجملة ليس غيرا له لأنه لا يوجد إلا به وقال بعضهم بل هو غير له لأنه يمكن العلم به دونه كان هذا نزاعا لفظيا فامتنع السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في مناظرتهم له في المحنة وأمر المعتصم قاضيه عبد الرحمن بن إسحق أن يناظره سأله فقال ما تقول في القرآن أهو الله أم غير الله عارضه الإمام أحمد بالعلم فقال ما تقول في علم الله أهو الله أم غير الله فسكت وذلك أنه إن قال القائل لهم القرآن هو الله كان خطأ وكفرا وإن قال غير الله قالوا فما كان غير الله فهو مخلوق فعارضهم الإمام أحمد بالعلم فإن هذا التقسيم وارد عليه ولا يجوز أن يقال علم الله مخلوق ومما يبين ذلك أن النبي

ص: 107

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقد ثبت عنه أنه حلف بعزة الله والحلف بعمر الله ونحو ذلك من صفاته فعلم أن الحالف بصفاته ليس حالفا بغيره ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره لكان الحلف بها حلفا بغيره وإذا قال القائل الحالف بصفته حالف به لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين قيل لهم فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله فعلمه لازم له وملزوم له وكلامه لازم له وملزوم له والصفة داخلة في مسمى الموصوف فإذا قال القائل عبدت الله وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته فإذا قيل أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا

ص: 108

باطل ولهذا قد يقال أنها غير الذات ولا يقال أنها غير الله لأن لفظ الذات يشعر بمغايرته للصفة بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله وقولنا أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات ولا صفات منفكة عن ذات بل ذلك ممتنع لنفسه

ومن قال من أهل الأثبات أن له صفات زائدة على ذاته فحقيقة قوله أنها زائدة على ما أثبته المثبت من الذات حيث أقر بذات ولم يقر بصفاتها وإلا ففي الخارج ليس هناك ذات منفكة عن صفات حتى يقال أن الصفات زائدة عليها بل لفظ الذات في الأصل تأنيث ذو كقوله {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وهي تستلزم الإضافة ولكن المتكلمون قطعوه عن الإضافة وعرفوه فقالوا الذات وحقيقته التي لها صفات فحيث قيل لفظ الذات كان مستلزما للصفات ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة ومن قدر ذاتا بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدر سواد ليس بلون وعلم بلا عالم وعالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب

ص: 109

والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرا مباينا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها

ومن المعلوم أن القائل إذا قال الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه كان هذا صحيحا وكذلك إذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في نفسه مما يسمى صفات وأجزاء ونحو ذلك فإذا قيل أن هذا يقتضي افتقاره إلى غيره كان من المعلوم أن هذا دون افتقاره إلى نفسه فإن نفسه إذا كانت لا توجد إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بوجود ما يدخل في نفسه أولى وإذا قيل لم يوجد إلا بنفسه لم يمنع هذا أن يكون واجبا بنفسه وإذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في مسمى نفسه كان هذا اولى أن لا يمنع كونه واجبا بنفسه لأن الافتقار إلى المجموع أعظم من الافتقار إلى الجزء ومن افتقر إلى مجموع العشرة كان افتقاره أبلغ من افتقار من افتقر إلى واحد من العشرة فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بالمجموع ولا يمنع هذا أن يكون المجموع مفتقرا إلى نفسه فلأن لا يمنع كون المجموع مفتقرا إلى فرد من أفراده أولى وأحرى

وإذا قيل جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن بنفسه قيل إن أريد بذلك أن المفتقر إلى المباين له ممكن بنفسه

ص: 110

فليس هذا مورد كلامنا وإن أريد أن المفتقر إلى ما يدخل في نفسه ممكن بنفسه كان هذا ممنوعا بل كان معلوم الفساد بالضرورة فإن افتقاره إلى ما يدخل في نفسه ليس بأعظم من افتقاره إلى نفسه وإذا كان هو موجود بنفسه بمعنى أنه لا يفتقر إلى مباين له لم يلزم من هذا ألا تفتقر نفسه إلى نفسه فكذلك لا يلزم ألا تفتقر إلى ما يدخل في مسمى نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه فله معينان أحدهما أنه مفتقر إلى أن يفعل نفسه ونحو ذلك فهذا ممتنع لذاته فإن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه والعلم بذلك ضروري وإن أريد بذلك أن نفسه لا تكون إلا بنفسه ولا تستغني عن نفسه ويمتنع وجود نفسه بدون نفسه فهذا صحيح لا بد منه

وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك قيل أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه فهذا بطريق الأولى وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة

ص: 111

فهذه الأمور التي نفوها عن الوجود الواجب توجب عدمه وامتناعه ولهذا كانوا من أعظم الناس تناقضا حيث وصفوا واجب الوجود بممتنع الوجود ولهذا جعلوه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما صرح بذلك ابن سينا وأتباعه

وهم قد قرروا في منطقهم اليوناني ما هو معلوم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالإنسان المطلق بشرط الإطلاق والجسم المطلق بشرط الإطلاق والحيوان المطلق بشرط الإطلاق وهذا قصدوا به التمييز بين هذا وبين الوجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم وهو العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه فإن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وقائم بنفسه وقائم بغيره ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فكان هذا الوجود يعم القسمين الواجب والممكن وهذا هو المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي فجعلوا أحد القسمين وهو الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق وكذلك جعل العدم المحض هو المميز للوجود الواجب عن الممكن يوجب كون العدم المحض فصلا أو خاصة وهذا أيضا باطل فإن الأمرين المشتركين في الوجود لا يكون المميز لأحدهما عن الآخر إلا أمرا وجوديا ولو قدر أنه عدمي لكان الواجب

ص: 112

قد امتاز بأمر عدمي والممكن امتاز بوجودي والوجود أكمل من العدم فيكون كل ممكن مخلوق على قول ابن سينا أكمل من الموجود الواجب القديم لأنهما اشتركا في الوجود وتميز الرب بعدم الأمور الثبوتية وتميز المخلوق بأمور وجودية

وهذا الكلام عندهم هو غاية التوحيد والتحقيق والحكمة وهو غاية التعطيل والكفر والجهل والضلال وذلك أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهم يسلمون هذا ويقررونه في منطقهم ويقولون الكلي ثلاثة أنواع الكلي الطبيعي والمنطقي والعقلي فالطبيعي هو الحقيقة المطلقة كالإنسانية والحيوانية وأما المنطقي فهو ما يعرض لهذه من العموم والكلية والعقلي هو المركب منهما وهو الطبيعي بشرط كونها كلية فهذا العقلي لا يوجد إلا في الذهن وكذلك المنطقي وأما الطبيعي فيقولون أنه موجود في الخارج لكن لا يوجد إلا معينا مشخصا ويقولون أنه جزء المعين وأن الماهية في الخارج زائدة عن الوجود الثابت في الخارج ويذكرون عن أصحاب أفلاطن أنهم أثبتوا الكلي العقلي في الخارج مجردا عن الأعيان وشنعوا عليهم تشنيعا عظيما ومن قال إن الرب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويردون على أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان ويقولون هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وعند هؤلاء بتقدير ثبوت هذه الكليات في الخارج

ص: 113

فلا بد أن تكون لها أعيان ثابتة في الخارج مجردة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لكان كليا شاملا عاما وله أعيان ثابتة في الخارج بالضرورة ويكون متناولا للواجب والممكن كتناوله للقديم والحادث والجوهر والعرض وكتناول سائر المعاني الكلية أفرادها سواء سميت جنسا أو نوعا او فصلا أو خاصة أو عرضا عاما فيمتنع أن تكون هذه الكليات العامة هي الأعيان الموجودة الداخلة فيها ولذلك إذا قدر أن المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي موجود في الخارج فإنه لا يوجد إلا معينا والمعين ليس هو المطلق غايتهم أن يقولوا هو جزء منه أو صفة له فيلزم أن يكون رب العالمين جزءا من المخلوقات أو صفة لها

وهؤلاء غلطوا من وجهين من جهة ظنهم أن في الخارج أمورا مطلقة كلية وليس كذلك بل ما يتصوره الذهن مطلقا كليا يوجد في الخارج لكن يوجد معينا مختصا والثاني أنه لو قدر أن في الخارج مطلقا كليا فلا ريب أن كل موجود معين مشخص مختص مميز عن غيره وليس هذا هو هذا ولا وجود هذا وجود هذا فكيف يكون وجودها وجود رب العالمين فلا بد على كل تقدير من إثبات موجود واجب بنفسه مغاير لهذا المطلق سواء قيل بوجود الكليات المطلقة المفارقة للأعيان كما يقوله أصحاب أفلاطن أو قيل

ص: 114

بأنها لا توجد إلا مقارنة ملازمة للأعيان كما يقوله أصحاب أرسطو

وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود لما قال من قال منهم أنه الوجود المطلق كابن سبعين والقونوي وأمثالهما قال من قال منهم كالقونوي أنه المطلق لا بشرط ليكون موجودا في الخارج وهذا باطل أيضا فإن الموجود المطلق لا بشرط يتناول القسمين الواجب والممكن فيكون الممكن داخلا في مسمى واجب الوجود

وهم إنما فرقوا بينهما بناء على أن وجود الممكن زائد على حقيقته وهو باطل وأن الواجب إنما يتميز بقيود سلبية والسلوب لا تكون مميزة عندهم بل لا يحصل التمييز في الموجودين إلا بأمور وجودية ولأن المطلق عند من يقول بوجوده في الخارج جزء من المعين فيكون رب العالمين جزءا من كل مخلوق ولأن الخارج لا يوجد فيه كلي ولا مطلق إلا معينا مشخصا ولكن ما هو كلي في الأذهان يكون موجودا في الأعيان لكن معينا ومشخصا وأيضا فهؤلاء الذين يقولون إن واجب الوجود مطلق أو مقيد بالأمور السلبية كابن سينا وأهل الوحدة وغيرهم هم في الحقيقة لا يثبتون له حقيقة

ص: 115

ولا صفة ولا قدرا الموجود لا بد له من حقيقة تخصه مستلزمة لصفته وقدره فهم من أعظم الناس تعطيلا للخالق وجحودا له وإن كانوا يعتقدون أنهم يقرون به وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع

والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه حكيم عزيز غفور ودود وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا وأنه أنزل على عبده الكتاب إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وقال في النفي والتنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فقالوا في النفي ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا له كلام يقوم به ولا له حياة ولا علم ولا قدرة ولا غير ذلك ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخلة ولا خارجة إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق أو وجود مقيد

ص: 116

بالأمور السلبية وقالوا لا نقول موجود ولا معدوم أو قالوا هو لا موجود ولا معدوم فتارة يرفعون النقيضين وتارة يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ثم تارة يسلكون هذا المسلك في نفي الموجود وتارة فيما يوصف به الموجود من الحياة والعلم والقدرة والكلام وسائر الصفات فنفوا الحقيقة وصاروا يعبرون عن المعاني الثبوتية بأنها تركيب كما تقدم وقد ذكرنا أن تسمية هذا تركيبا أمر اصطلحوا عليه وإلا فإثبات هذه المعاني لا يسمى في اللغة المعروفة تركيبا فإن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مركب وهذا المعنى ممتنع فيما هو موجود بنفسه غني عن كل ما سواه وهو الفاعل لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق له فإذا قدر أنه متصف بصفات متعددة لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة كالكواكب والفلك والهواء والماء وغير ذلك فقيل هي مركبة من الجواهر المنفردة وقيل مركبة من المادة والصورة ومنه من فرق بين الجسم الفلكي والعنصري والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر مثل الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وطائفة من الكرامية وغيرهم

وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية

ص: 117

محدودة هي الجوهر الفرد أو يقبل القسمة إلى غير غاية أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر الفرد على ثلاثة أقوال

والثالث والصواب فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة إذ ما من موجود إلا ويتميز منه شيء عن شيء وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى وامتناع انحصاره فيه لكن الجسم كالماء يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر فلا يبقى ما ينقسم ولا ينقسم إلى غير غاية بل يستحيل عند تصاغره فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه في نفسه يتميز منه شيء عن شيء وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل الانقسام بالفعل بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الاجزاء لكن يستحيل إذ الجسم الموجود لا بد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدره عن اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره إما مع استحالة إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الإستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغرت جدا فلا بد أن تستحيل هواء أو ترابا أو أن تنضم إلى ماء آخر وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جدا وحدها وكذلك سائر الأجزاء الصغيرة جدا من سائر الأجسام

ص: 118

وهذا مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لأن هذه الأمور هي مبدأ الاشتباه والتنازع والاضطراب في هذه الأبواب فإذا كان ما ادعوه من التركيب الحسي في الأجسام المشهدوة باطلا فكيف في الأمرو الغائبة التي لا تعلم حقيقتها فكيف بما يدعونه من التركيب العقلي كقولهم لو كان له حقيقة لكان الوجود صفة لها فكان مركبا وكان الوجود الواجب معلولا لغيره فإنه يقال لهم بل له حقيقة تخصه يمتاز بها عن كل ما سواه بل كل موجود له حقيقة تخصه فالخالق أولى بذلك وأما قولهم يكون الوجود صفة لها فهذا إنما يقال أن لو كان الوجود مصدر وجد وجودا أو وجدته وجودا

ولا ريب أن لفظ الوجود في اللغة هو مصدر وجد يجد وجودا كما في قوله تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} ولكن أهل النظر والعلم إذا قالوا هذا موجود لم يريدوا أن غيره وجده يجده ولا يريدون أن غيره جعل له وجودا قائما به بل يريدون به أنه حق ثابت ليس بمعدوم ولا منتف فإذا قيل هذا الإنسان موجود لم يكن المراد أن هذا الإنسان قام به وجود يكون صفة لهذا الإنسان بل قولنا هذا الإنسان موجود أي ثابت متحقق ليس بمعدوم ولا منتف وليس وجوده في الخارج فدرا زائدا على حقيقته الموجودة في الخارج بل الحقيقة التي هي ماهيته الموجودة في الخارج هي وجوده الثابت في الخارج

ص: 119

وأما إذا أريد بالحقيقة ما يتصور في الذهن وهي الماهية الذهنية كما يتصور المثلث في الذهن قبل ثبوته في الخارج فالماهية الثابتة في الأذهان مغايرة للحقيقة الموجودة في الأعيان فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات فقد أصاب إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج هو الماهية الثابتة في الخارج ومن قال ان وجود كل شيء غير ماهيته كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج مغاير للماهية الثابتة في الذهن وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم أن في الخارج ماهيات ثابتة وهو المعدوم الثابت في حال عدمه وأن الوجود صفة لتلك الماهية فهذا خطأ

وأعظم خطأ من هؤلاء من فرق من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله وقالوا أن الممكن وجوده في الخارج زائد على ماهيته وأما الواجب فوجوده في الخارج عين ماهيته وإنما كان خطؤهم أعظم لأنهم أخطأوا من وجهين أحدهما إثبات حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج والثاني أنهم جعلوا الوجود الواجب وجودا مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود وأنه إنما يتميز عن غيره بأمور سلبية أو إضافية مع أنهم يقولون في منطقهم أن الأمور السلبية والإضافية لا تميز بين المشتركين في أمر كلي وجودي وإنما يقع التمييز بأمور ثبوتية

ص: 120

وأيضا فإذا لم يتميز الواجب إلا بأمر عدمي وكل من الممكنات يتميز بأمر وجودي كان كل من الممكنات أكمل منه وأيضا فالسلب إذا لم يتضمن أمرا ثبوتيا لم يكن صفة كمال وإنما يكون كمالا إذا تضمن أمرا ثبوتيا كقوله {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وأولئك المعتزلة ومن وافقهم من المتأخرين كأبي حامد والرازي في أحد القولين وغيرهما إذا قالوا أن الوجود الواجب صفة للحقيقة ومن قد يوافقهم في هذا الأصل أحيانا فيفرق بين وجود الشيء وبين حقيقته في الخارج كما يفعله أبو الحسن بن الزاغوني ونحوه في مواضع كان قولهم مع ما فيه من الخطأ خيرا من قول هؤلاء

وأما إيراد هؤلاء عليهم أن الوجود الواجب لا يكون معلولا فيقال لهم أتريدون بذلك أن الوجود الواجب بنفسه لا يكون مفعولا ولا معلولا لعلة فاعلة أم تريدون أن الوجود لا يكون صفة للماهية الموجودة ولا يكون الوجود معلولا لعلة قابلة لا فاعلة أم تريدون غير ذلك فإن أردتم الأول فهو صحيح لكن ليس في قولنا أن الوجود الواجب صفة للماهية الواجبة ما يوجب أن يكون معلولا له علة فاعلة وإن أردتم أنه لا يكون صفة للوجود فهذا ممنوع بل الوجود صفة للواجب والوجود صفة للموجود والواجب بنفسه هو الموصوف بالوجوب لا أن الوجوب هو الواجب بنفسه والموجود بنفسه هو الموجود الواجب لا أن وجوده هو الواجب بنفسه فهذا جواب

ص: 121

وجواب ثان وهو أن كون الوجود أو الوجوب معلولا لعلة قابلة ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون معلولا لعلة فاعلة فالعلة القابلة كالموصوف القابل لصفته والعلة الفاعلة كالمبدع الفاعل لمصنوعه والدليل دل على أن الواجب بنفسه ووجوبه ووجوده لا يكون مفعولا ولا معلولا لفاعل لم يدل على أن الواجب لا يكون إلا صفة للواجب والوجود لا يكون صفة للموجود على قول من يقول إن وجود الشيء زائد على حقيقته فهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم على قولهم إن وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته وإن كان في قولهم خطأ فهم أقل خطأ وأكثر صوابا من أولئك الفلاسفة الذين جعلوا وجوده مطلقا أو مقيدا بالعدم فقالوا ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع من وجوه كثيرة مع ما فيه من التعطيل والجحود لرب العالمين والتكذيب لأنبيائه المرسلين واتباع غير سبيل المؤمنين

وأما النوع الثاني من التركيب وهو التركيب من خاص وعام فيقال نحن وأنتم مع جماهير الناس يقولون أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام وهذه القسمة إنما ترد على المعاني لا على مجرد الألفاظ المشتركة سواء كانت تلك المعاني متفاضلة وألفاظها هي التي يقال لها الألفاظ المشككة أو كانت متساوية وهي الأسماء المتواطئة التواطؤ الخاص فأما التواطؤ العام فتندرج فيه المشككة وإذا كان الوجود منقسما إلى هذا وهذا فلا بد أن يتميز الواجب عن غيره بما

ص: 122

يخصه والأمور العدمية المحضة لا توجب التمييز فقد ثبت التركيب مما به الاشتراك ومما به الامتياز سواء جعلتم الوجود من الألفاظ المشككة أو من المتواطئة تواطؤا عاما أو المتواطئة تواطؤا خاصا

وأيضا فيقال قد عرف أنا إذا قلنا أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم هو المعنى العام الكلي والكلي إنما يكون كليا في الأذهان لا في الأعيان وحينئذ فليس في المخلوقات ما هو مركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز بل كل موجود فإنه مختص بصفاته القائمة به كاختصاصه بعينه نفسه لا يشركه غيره فيها فإذا كانت المخلوقات ليست مركبة بهذا الاعتبار فالخالق أولى أن لا يكون مركبا بهذا الاعتبار ولكن أنتم غلطتم في منطقكم اليوناني فلما رأيتم الإنسان يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص عنه بالنطق والفرس يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص بالصهيل قلتم الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وكذلك الفرس مركب من الحيوان والصاهل أو من الحيوانية والصاهلية وهكذا في سائر الأنواع وظننتم أن هذا التركيب له تأثير في الخارج وهذا غلط عظيم وقع منكم في الميزان العقلي وهو القانون الذي تزنون به المعاني العقلية الذي جعلتموه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن

ص: 123

أن يزل في فكرة فإن الميزان إذا كان مائلا لا عادلا أخطأ الوازن في الوزن قطعا وقد بسط الغلط في غير هذا الموضع

ومن أقرب ما يعرف به ذلك أن يقال الإنسان الموجود في الخارج مركب من عرضين أو من جوهرين فقولكم الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق أتريدون به أعراضا هي صفات تقوم بالإنسان أم جواهر هي أعيان قائمة بأنفسها

فإن قلتم أعراضا تبين فساد قولكم فإن الإنسان الموجود جوهر قائم بنفسه والجواهر لا تكون مركبة من الأعراض ولا تكون الأعراض سابقة عليها ولا مادة لها فإن الأعراض قائمة بالجوهر مفتقرة إليه حالة فيه وهو موضوع لها في اصطلاحكم والموضوع هو المحل المستغنى في قوامه عن الحال فيه فإذا كان الإنسان عندكم مستغنيا في قوامه عن أعراضه امتنع أن كون هي مادته وأجزاءه المقومة له وأن يكون مركبا منها

وإن قلتم بل الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق جوهران قائما بأنفسهما والإنسان مركب منهما كان هذا معلوم الفساد بالضرورة فإنا نعلم أن الإنسان هو الحيوان الناطق وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الناطق والفرس هو الحيوان الصاهل وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الصاهل ليس في الإنسان جوهر هو حيوان وجوهر هو ناطق وجوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك

ص: 124

بالإرادة بل هذه أسماء للإنسان الواحد كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فالمسمى الموصوف بها جوهر واحد لا جواهر متعددة

فتبين أن قولكم أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذا وهذا قول باطل كيفما أردتموه وإما أن قلتم أن هذا تركيب عقلي في الذهن فيقال التركيب العقلي هو بحسب ما يقدره الذهن ويفرضه ومن لم يميز بين الموجودات الثابتة في الخارج وبين المقدرات الذهنية كان عن العلم خارجا وفي تيه الجهل والجا وهذا حال كثير من هؤلاء اشتبه عليهم الصور الذهنية بالحقائق الخارجية فظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وعامة ما تدعونه من العقليات مثل الكليات والمجردات كالعقول العشرة وكالمادة وغيرها هي أمور ذهنية لا خارجية

وهم قد جعلوا في علمهم الأعلى وفلسفتهم الأولى الذي قسموا فيه الوجود إلى جوهر وعرض وجعلوا العرض تسعة أجناس كما ذكر ذلك معلمهم الأول أرسطو وسموا هذه المقالات العشر جعلوا الجوهر جنسا تحته خمسة أنواع أحدها العقول العشرة والثاني النفوس والثالث المادة والرابع الصورة والخامس الجسم وتنازعوا في واجب الوجود هل يسمى جوهرا على قولين لهم وهذه الأربعة التي هي العقول والنفوس والمادة والصورة اللتان جعلوهما جزئي الجسم إذا حقق الأمر عليهم كانت أمورا عقلية مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان بخلاف الجسم

ص: 125

وأعراضه فإن ذلك ثابت في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم في التركيب الذي يزعمونه من الجنس والفصل أو من العرض العام والخاصة وقولهم أن هذا منتف عن واجب الوجود فإذا عرف أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة وأنه سواء جعل تركيبا أو لم يجعل تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود من الموجودات لا واجب ولا ممكن علم ضلال هؤلاء القوم الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وأما التركيب من الذات والصفات فهذا أيضا ليس بتركيب فإن الإنسان الذي لا يكون إلا حيا ناطقا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال انه مركب من هذه الذات والصفات بل لا حقيقة لذاته إلا ما هو حيوان ناطق فالخالق تعالى الذي لا يكون إلا حيا عالما قادرا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال أنه مركب من ذات وصفات وإذا قال القائل أنه يمكن تقدير الذات مجردة عن الصفات كان هذا تركيبا في ذهنه وخياله كما تقدم ومن المعلوم أن الأمور الذهنية العقلية الخيالية غير الحقائق الموجودة في الخارج وقد تقدم قولهم في تركيب الجسم من أجزائه الحسية والعقلية فقد تبين ان ما جعلوه تركيبا أخطأوا فيه لفظا ومعنى وأنه بتقدير موافقتهم على جعل ذلك تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود لا واجب ولا ممكن فظهر المقامان اللذان ذكرناهما حيث قلنا أن هذا ليس بتركيب وبتقدير أن يقال هو تركيب لا يمكن نفيه

ص: 126

وأما المقام الثالث فيقال إثبات معان متعددة في الموجود الواجب وغيره أمر ضروري لا بد منه وأنتم مع فرط مبالغتكم في السلب تقولون أنه موجود واجب وأنه معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ به وعاشق ومعشوق وعشق إلى أنواع أخر

وأما أهل الملل فمتفقون على أنه حي عليم قدير ومن المعلوم أن من جعل كونه حيا هو كونه عالما وكونه عالما هو كونه قادرا فهو من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكذلك من جعل الحياة هي الحي والعلم هو العالم والقدرة هي القادر فيبين العقل الصريح أن كل صفة ليست هي الأخرى ولا هي نفس الموصوف وكذلك من جعل العشق هو العاشق واللذيذ هو اللذة ونفس العقل الذي هو مصدر عقل يعقل عقلا هو العقل الذي هو العاقل القائم بنفسه فمن جعل هذا هذا كان في المكابرة والجهل والسفسطة من جنس الأول فمن جعل المعاني هي الذات القائمة بنفسها أو كل معنى هو المعنى الآخر كان من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكان أجهل من النصارى الذين يقولون أحد بالذات ثلاثة بالأقنوم ويقولون مع ذلك أن أقنوم الكلمة هو المتحد بالمسيح دون غيره وأنه إله حق من إله حق فإنهم إن جعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة كان المسيح هو الأب وإن جعلوه صفة لم يكن المسيح إلها فإن الصفة لا تخلق ولا ترزق ولا تفارق

ص: 127

الموصوف فالنصارى متناقضون في التوحيد حيث يلزمهم أن يجعلوا الذات هي الصفة أو المتحد هو الذات وهؤلاء أعظم تناقضا منهم وقولهم في التوحيد شر من أقوال النصارى

لكن يحيى بن عيد النصراني الفيلسوف ظن أنه إذا جعل قولهم في التثليت هو مثل تثليت الفلاسفة في قولهم بالعاقل والمعقول والعقل يكون قد انتصر بالأدلة ولم يعلم أن ما فر إليه شر مما فر منه وأن قول الفلاسفة بالعقل والعاقل والمعقول أبطل في المعقول من قول النصارى بالأب والابن وروح القدس

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لأنها أصول كلام هؤلاء الذين أضلوا من أذكياء الأمم من لا يعلمه إلا الله وهم الذين قالوا إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية وبنوا ذلك على أصولهم في قدم العالم وأن مبدعه علة تامة موجبة بذاته وجعلوا من المقدمات التي استعانوا بها على ذلك نفي الصفات الذي بنوه على ما سموه التركيب فإذا عرف بطلان أصلهم كان القول بإثبات صفات الكمال لله حقا وحينئذ فلا يمكنهم أن يقولوا لا تقوم به الأفعال الاختيارية فإنهم إنما نفوا قيام ذلك بذاته لنفيهم الصفات لا لكونه قديما فإن القديم عندهم تحله الحوادث ولهذا قالوا إن الفلك قديم تحله الحوادث

ومن قال إن القديم لا تحله الحوادث من أهل الكلام

ص: 128

كالمعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وأتباعهم فإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن ما قامت به الحوادث محدث أما المعتزلة فلأن من أصلهم أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بمحدث وأما الكلابية وأتباعهم فلأن من أصلهم أن ما يقبل الحوادث لم يخل منها وما لم يخل منها كان حادثا لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها والذين نازعوهم في ذلك من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم مثل جمهور أهل الحديث وكثير من المرجئة والشيعة والفقهاء وغيرهم مثل الهشامية وأبي معاذ التومني ومثل داود بن علي والكرامية ومثل كثير من أئمة الفلاسفة الأساطين المتقدمين والمتأخرين ينازعونهم في إحدى المقدمتين أو كليتهما فينازعونهم في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها كما ينازعهم في ذلك الهشامية والكرامية وأبو عبد الله بن الخطيب وأبو الحسن الآمدي وغيرهما فإن هؤلاء وغيرهم طعنوا في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها

وأما قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فهذا نازعهم فيه أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة وأئمة أهل الحديث والسنة وجمهورهم نازعوهم في هذه ونازعهم فيها أئمة الفلاسفة

ص: 129

الأولين والآخرين مثل أرسطو ومن قبله فالقائلون بقدم الأفلاك من الفلاسفة يقولون أن القديم تقوم به حوادث لا أول لها وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث بل ما قارنته الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث لامتناع صدروه عن علة تامة قديمة أزلية والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم وإنما اشتهر القول بقدمه عنه وعن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد وأمثالهم

وأما قيام الأفعال الاختيارية وقيام الصفات بالله تعالى فهو قول سلف الأمة وأئمتها الذين نقوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القول الذي جاء به التوراة والإنجيل وهو القول الذي يدل عليه صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال لم يصر قادرا بعد أن لم يكن ولا متكلما بعد أن لم يكن ولا موصوفا بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا بيان ما ذكرناه من الدليل على حدوث كل ما سوى الله وأن حقيقة قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث محدث أصلا لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وأن كل محدث سواء سمي معلولا أو مفعولا لا بد حين

ص: 130

وجوده من وجود جميع ما به يحدث فإذا سمي معلولا فلا بد من وجود العلة التامة عند وجوده وإذا كانت قديمة وتأثيرها موقوف على شرائط فلا بد من حصول الشروط عند حدوثه فلا يكفي وجودها قبل حدوثه كما يقولون لأن العلة التامة يجب مقارنة معلولها لها ومقارنتها لمعلولها فلا يكون المعلول موجودا إلا مع وجود العلة التامة بجميع أجزائها إذ لو كان شيء من شروطها معدوما قد وجد قبل حدوث المعلول لكانت العلة سابقة على المعلول والمعلول متأخر عنها وهذا ممتنع في العلة التامة وكذلك الفاعل القادر لا بد من وجود قدرته وإرادته وسائر ما يعتبر في فعله أن يكون موجودا عند حداث المحدث فهذان وجهان

وأما حجتهم المذكورة على قدم العالم فجوابها من وجوه أحدها أن يقال دوام الحوادث إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولهم وعلم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان ممكنا أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإن الله تعالى اخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم واعلم انه ليس لهم حجة صحيحة على قدم العالم أصلا

ص: 131

بل غاية ما يقررون أنه لابد من دوام فعل الفاعل فبتقدير أن يكون فعله دائما بذاته شيئا بعد شيء يبطل قولهم وبتقدير أن يكون كل مفعول محدثا وهو مسبوق مفعول محدث يبطل قولهم

الوجه الثاني أن يقال هذا بعينه يبطل قولكم بأن المؤثر إن جاز تأخر أثره عنه أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث أو قدمها أو حدوثها بلا محدث والكل باطل فعلم أن قولهم بمؤثر لا يتأخر عنه الأثر باطل

الوجه الثالث أن يقال ترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا أمكن تأخر العالم وأن القادر المختار يرجح حدوثه بلا مرجح وإن قيل إن الفاعل لا يمكنه ذلك امتنع كون الموجب بالذات يرجح شيئا على شيء بلا مرجح ومعلوم أن العالم له قدر مخصوص وصفات مخصوصة وحوادث متعاقبة كلها ممكنة فترجيحها على غيرها من الممكنات لا يكون بمجرد وجود مطلق بسيط نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة

الوجه الرابع أن يقال القديم إما أن يجوز قيام الحوادث به وإما أن لا يجوز فإن لم يجز بطل قولهم بقدم العالم الذي قامت به الحوادث والأفلاك قامت بها الحوادث وإن جاز قيام الحوادث به أمكن أن يقوم بالقديم الواجب بذاته حوادث لا تتناهى ويكون منها ما هو شرط في حدوث

ص: 132

العالم كما قالوا إن حركات الأفلاك شرط في حدوث الحوادث السفلية

الوجه الخامس أن يقال مبنى حجتهم على امتناع ترجيح بلا مرجح تام وامتناع التسلسل وهم قائلون بالأمرين فإنهم يقولون بتسلسل الحوادث ويقولون أن الحوادث حدثت بلا مجرح تام وإذا قالوا نحن رددنا على من أثبت ذاتا معطلة عن الفعل فعلت بعد أن لم تكن فاعلة قيل لهم هذا قول طوائف من أهل الكلام ليس هذا القول منصوصا عن الأنبياء لا في التوارة ولا في الإنجيل ولا في القرآن ولا يلزم من بطلان هذا القول قدم العالم ومخالفة ما أخبرت به الرسل بل نقول إن كان هذا القول ممكنا بطل ردكم له وإن كان ممتنعا لم يلزم إلا دوام فعل الفاعل لا أزلية هذه الأفلاك ولا أزلية شيء بعينه من الممكنات

الوجه السادس أن يقال قولكم أشد استحالة من هذا القول فإن هؤلاء نسبوا جميع الحوادث إلى الفاعل القديم الأزلي وقالوا أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فأثبوا للحوادث فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأنتم جعلتم الحوادث تحدث بلا فاعل أصلا لأن الفاعل القديم الواجب عندكم يلزمه مفعوله الذي هو معلوله وموجبه ومقتضاه فلا يتأخر عنه فلا يجوز أن يحدث عنه شيء فإذن هذه الحوادث لم تحدث عنه فتضمن قولكم أن الحوادث لا محدث لها وهذا اعظم فسادا من قول من جعل لها محدثا أحدثها من غير سبب حادث

ص: 133

الوجه السابع أن يقال كل ما تذكرونه من الشبه على نفي حدوث هذا العالم يلزمكم مثله في حدوث كل حادث مثل قولكم أن الفاعل لا بد له من غرض وقولكم أن التأثير إن كان قديما لزم قدم الأثر وأمثال ذلك وإنما وقع التلبيس منكم أنكم أخذتم تحتجون على قدم الأفلاك أو مواد الأفلاك بحجج ليس فيها ما يقتضي ذلك بل إما أن تقتضي الحجة نفي الفعل والإحداث بالكلية فيعلم فسادها بالضرورة والاتفاق وإما أن تقتضي أن كل حادث مسبوق بحادث وهذا لا يدل على قدم هذا العالم بل على أن الرب لم يزل فاعلا إما أفعالا تقوم بنفسه وإما مفعولات منفصلة تحدث شيئا بعد شيء وليس في واحد من هذين ما يقتضي صحة قولكم بل كل منهما يناقض قولكم وغايتكم أن تفسدوا قول بعض أهل الكلام أو حجتهم لكن ليس في هذا تصحيح لقولكم ولا إبطال لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين

وهذه الأمور قد بسطناها في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها هنا لأنها أصل قول هؤلاء الذين ينكرون انفطار السموات وانشقاقها ويقولون إن النبوة هي من نوع قوى النفوس وأن المعجزات هي قوى نفسانية حتى يجعلونها هي سبب ما أحدثه الله من آيات الانبياء وإن كانوا مع هذا يعظمون الأنبياء ويوجبون طاعة نواميسهم ويأمرون

ص: 134

بقتل من يخرق النواميس ويقولون أنهم وضعوا للناس قانونا من العدل به يعيش الناس في الدنيا فهم فيما يخبرون به من صفات الأنبياء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما أخبر الله تعالى فيؤمنون ببعض الصفات التي اتصف بها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وببعض ما آتاهم الله من الفضائل ويكفرون ببعض

ص: 135

والذي يثبتونه للأنبياء قد يحصل للرجل الصالح العالم والمخاطبات والمكاشفات التي يثبتونها للأنبياء تحصل لكثير من عوام الصالحين وما أثبتوه من الحق فهو حق لكن كفرهم بما كذبوا به من الحق فنقول ما وصفوا به الأنبياء من أن لهم خصائص في العلم والقدرة والسمع والبصر امتازوا بها حق لكن دعواهم أن منتهى خصائصهم ما ذكروه باطل فنحن لا ننكر أن الله تعالى يخص البنى بقوة قدسية يعلم بها ما لا يعلم غيره ولا ننكر أيضا ما يمثله الله له إما في اليقظة وإما في المنام من الأمور الصادقة المطابقة للحقائق ولا ننكر أيضا أن الله قد يجعل في النفوس قوى يحصل بها تأثير في الوجود والناس لهم في هذا الباب قولان فالسلف والفقهاء والجمهور يقولون أن الله جعل في الأعيان قوى وطبائع تحصل بها الآثار كما جعل في النار التسخين وفي الماء التبريد ونحو ذلك وطائفة من أهل الكلام ينكرون هذا كله ويقولون ليس في الأعيان قوى وطبائع تكون أسبابا للآثار لكن الله يخلق الأشياء عندها لا بها ويقولون ليس في العين

ص: 135

قوة امتازت بها عن الأنف ولا في الخبز قوة امتاز بها عن الشراب ولا في الماء قوة امتاز بها عن الخل ولكن الله تعالى يخلق الشبع والري عند ذلك لا به وهذا القول ضعيف مخالف للشرع والعقل فإن الله تعالى قال {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه

والمقصود هنا أن كون النفوس أو غيرها من الأعيان جعل الله فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر لا في الشرع ولا في العقل ولكن دعوى المدعي أن معجزات نبينا أو غيره من الأنبياء هي من هذا الباب بهتان عظيم والقائلون بهذا رأوا أنهم يمكنهم تعليل بعض الخوارق بعلل طبيعية فعللوها ثم جهالهم ظنوا هذا يطرد فطردوا وأما حذاقهم فيكذبون بالخوارق الخارجة عن القانون الطبيعي عندهم وذلك مثل كون بعض الناس يبقى مدة لا يأكل ولا يشرب فإن جماعة من الناس يبقى شهرا أو شهرين لا يأكل فأخذ ابن سينا يقول في إشاراته إذا بلغك أن

ص: 136

عارفا مكث مدة لا يأكل ولا يشرب فاسجح بالتصديق فإن في الطبيعة عجائب وقرر ذلك بأن المريض إذ بقيت قواه الهاضمة مشغولة بمدافعة المرض بقي الطعام محفوظا مدة لا يأكل فيها ولا يشرب فالعارف إذ اشتغلت نفسه بعرفانه اجتذبت إليها القوى الهاضمة فلا تهضم الطعام

وهذا الذي قاله في هذا وأمثاله ليس بطائل فإن الناس يعلمون أن النفس إذا اشتغلت بفرح عظيم أو غضب عظيم أو اهتمام بأمر عظيم اشتغلت عن الأكل والشرب بهذا وأسبابه فهذا ونحوه ليس من معجزات الأنبياء ولا مما يختص به الأولياء

ولهذا كان ما يذكرونه من التأثير مقيدا عندهم بجريانه على القانون الطبيعي المعتاد فعندهم لا يتصور أن يفعل المؤثر في المواد إلا ما هي قابلة له فقد يقولون أن الهواء لما كان قابلا لأن ينقلب ماء أمكن أن يؤثر المؤثر فيه حتى يصير الهواء ماء فينزل المطر ومعلوم أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوانين الطبيعية مثال ذلك انقلاب العصا ثعبانا ثم ابتلاع الثعبان ما هنالك من العصي والحبال فإن هذا خارج عن قوى النفس والطبيعية لأن الخشب لا يقبل أن يصير حيوانا أصلا ولا يمكن في القوى الطبيعية أن عصا تصير حية لا بقوى نفس ولا بسحر ولا غير ذلك بل الساحر غايته أن يتصرف في الأعراض بفعل ما يحدث عنه الأمراض والقتل ونحو ذلك مما يقدر عليه سائر الآدميين فإن الإنسان يمكنه أن يضرب غيره حتى يمرضه أو يقتله فالساحر والعائن وغيرهما ممن يتصرف بقوى الأنفس

ص: 137

يفعل في المنفصل ما يفعله القادر في المتصل فهذا من أفعال العباد المعروفة المقدروة وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة يبلغ عصيا وحبالا ولا يتغير فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا ولا يحصل بقوى نفس أصلا ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك علموا أنه خارج عن طريقة السحر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وهذه الحادثة الخارقة للعادة فيها إثبات الصانع وإثبات نبوة أنبيائه فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه في مثل ذلك المقام يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار لتصديق موسى ونصره على السحرة كما قال تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وكذلك إخراج صالح الناقة من هضبة من الهضاب أمر خارج عن قوى النفوس وغيرها ولهذا كان أئمة هؤلاء المتفلسفة يكذبون بهذه المعجزات وربما جعلوها أمثالا فقالوا إنه ألقى عصا العلم فابتلعت حبال الجهل وعصيه ونحو ذلك كما يغلب الرجل الرجل بحجته وهذا من تأويلات القرامطة التي يعلم بالضرورة بطلانها وأنها مخالفة للمنقول بالتواتر ومخالفة لما اتفق عليه المسلمون واليهود

ص: 138

والنصارى من نقل هذه المعجزات واعتبر هذا بأمثاله وكذلك وقوف الشمس ليوشع بن نون وانشقاق القمر لنبينا صلى الله عليه وسلم هو عندهم ممتنع لا يمكن لا بقوى نفس ولا غير ذلك لأن الفلك دائم الحركة ومعلوم أن هذه المعجزات لا ريب فيها وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن وتواترت به الأحاديث كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود وأنس وابن عباس وغيرهم وأيضا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السورة في الأعياد والمجامع العامة فيسمعها المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض ومن المعلوم أن ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك أما أولا فلأن من مقصوده أن الناس يصدقونه ويقرون بما جاء به لا يخبرهم دائما بشيء يعلمون كذبه فيه فإن هذا ينفرهم ويوجب تكذيبهم لا تصديقهم وأما ثانيا فلأن المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهة

ص: 139

تقع في القرآن حتى نساؤه فراجعته عائشة في قوله من نوقش الحساب عذب وذكرت قوله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} حتى قال لها ذلك العرض

وراجعته حفصة في قوله لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وذكرت قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} حتى أجابها بقوله ألم تسمعي قوله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}

وراجعه عمر بقوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} عام الحديبية لما صالح المشركين على الرجوع ذلك العام حتى قال له أبو بكر كما قال له النبي صلى الله عليه وسلم أقال لك أن تدخله هذا العام قال لا قال فإنك داخله ومطوف به

ص: 140

وأمثال ذلك كثيرة فكيف يقرأ عليهم دائما ما فيه الخبر بانشقاق القمر ولا يرد على ذلك مؤمن ولا كافر ولا منافق مع أن ابن الربعري وغيره من المشركين تعلقوا بالقياس الفاسد في قوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فقاس المسيح على الأصنام بكونه معبودا وهذا معبود وهذا من جهله بالقياس فإن الفرق ثابت بأن هؤلاء أحيانا ناطقون وهم صالحون يتألمون بالنار فلا يعذبون لأجل كفر غيرهم بخلاف الحجارة التي تلقى في النار إهانة لها ولمن عبدها

قال الله تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّون وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فلو لم يكن

ص: 141

انشقاق القمر معلوما معروفا عندهم لعظم في إنكاره القيل والقال وكثرة الإعتراض وكثرة السؤال وصار في ذلك من المراء والجدال ما لا يخفى على أدنى الرجال

وكذلك القرآن فإن القرآن فيه من الأخبار عن الأمم الماضية كقصة آدم وإبليس ونوح وقومه ومخاطبته لهم وقصة عاد وثمود وفرعون وما جرى من الأمم وقومهم من المخاطبات في الأمور الجزئية مما لا يمكن أن تعلم بالحدس وقوى النفس التي تنال بواسطة العلم بالحد الأوسط وكذلك الخبر عن الأمور المستقبلة المفصلة فإن هذه كلها لا يمكن في الجبلة أن تعلم إلا بمخبر يخبر بها الإنسان وأما علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس ولهذا يقول سبحانه وتعالى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِي} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وفي الجملة فهؤلاء يدعون ما ذكره ابن سينا في إشاراته من أن خوارق العادات في العالم ثلاثة أنواع لأنها إما أن تكون بأسباب فلكية كتمزيج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وهذا هو الطلسمات وإما أن تكون بأسباب طبيعة سفلية كخواص الأجسام وهي النيرنجيات وإما أن تكون بأسباب نفسانية ويزعمون أن المعجزات التي للأنبياء والكرامات التي للأولياء وأنواعا من السحر

ص: 142

والكهانة هو من هذا الباب ويقولون الفرق بين النبي والساحر أن النبي نفسه زكية تأمر بالخير والساحر نفسه خبيثة تأمر بالشر فهما يفترقان عندهم فيما يأمر به كل منهما لا في نفس الأسباب الخارقة وقد قدمنا أن من أهل الكلام والنظر من ينكر أن تكون في شيء من الأنفس وغيرها من الأجسام الحيوان وغير الحيوان قوى أو طبائع أو أن يكون لها تأثير بل يجعلون ذلك كله من باب المقارنة العادية المحضة وهذا قول جمهور الأشعرية ومن يوافقهم من أهل الظاهر وأهل القياس من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهؤلاء قد يغلون حتى يقولوا إن قدرة الحيوان لا تأثير لها في أفعاله الاختيارية لا للإنسان ولا لغير الإنسان وينكرون أيضا أن يكون الله يفعل شيئا لشيء فينكرون الأسباب والحكم في خلقه وأمره وكثير منهم ينكر القياس ومن أقر منهم لم يجعل علل الشرع إلا مجرد علامات وأكثرهم يتناقضون في هذا الأصل فإذا تكلموا في تفاصيل الفقه والطب وحكمة الله تكلموا بموجب فطرتهم وإيمانهم على طريقة الجمهور الذين يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب المتقدمة على الحوادث والحكم المتأخرة عن الحوادث وإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة في أصول الدين في مسائل القدر والتعديل والتجوير وتعليل أفعال الله تعالى وأسباب الحوادث تكلموا على هذه الطريقة التي هي في الأصل طريقة المجبرة كجهم بن صفوان وأمثاله ويجعلون

ص: 143

نفس المشيئة مقتضية لترجيح أحد المثلين على الآخر بلا سبب يقتضي الترجيح غير الإرادة وادعوا أنها كما انها تقتضي جنس التخصيص فإنها تقتضي التخصيص المعين إذ التخصيص ببعض الحوادث دون بعض لا يقع بنفس العلم ولا بنفس القدرة فلا بد له من مخصص وذلك هو الإرادة لكن المعقول من ذلك أن جنس الإرادة يخصص جنس المحدثات وأما كون هذا المعين مراده من هذا فلا تقتضيه نفس جنس الإرادة إلا أن كون المراد مختصا بسبب يقتضي أن يراد دون غيره وأن يكون من المريد سبب يوجب أن يريد ذاك دون غيره فادعى هؤلاء أن نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل من غير سبب معين وذاك لا في المريد ولا في المراد مع أن نسبتها إلى جميع المرادات نسبة واحدة

وقال جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالضرورة فإن الإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها كان ترجيح الإرادة لمثل على مثل ترجيحا من غير مرجح فإن جاز هذا جاز أن يقال الفاعل القادر يخصص مثلا على مثل بلا إرادة وحينئذ فلا إرادة كما تقوله معتزلة البغداديين وإن جاز هذا لزم ترجيح

ص: 144

أحد المثالين على الآخر بلا مرجح أصلا فإذا كان نسبة الوجود والعدم إلى حقيقة الممكن نسبة واحدة جاز ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيلزم جواز وجود الممكنات والمحدثات بلا مبدع فاعل

فقال هؤلاء نحن نفرق بين ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبين ترجيح الموجب بلا مرجح وهذا الفرق هو أصل قول المعتزلة وقول الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من حيث يجعلون الموجب للترجيح إرادة نسبتها إلى المثلين سواء ولكن هؤلاء يجعلون المرجح هو إرادة القادر المختار وأولئك يجعلون المرجح هو نفس القادر المختار ثم البصريون منهم يقولون يحدث بنفسه الإرادة لا في محل والبغداديون منهم يقولون بنفي هذه الإرادة ويقولون لا تزيد الإرادة على فعل المفعول والأمر بالمأمورات

ص: 145

وأهل الكتاب من اليهود السامره وغيرهم الموافقون للمعتزلة هم على هذين القولين وأبو عبد الله بن الخطيب ونحوه متناقضون في هذا الباب فإذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر والجبر سلكوا مسلك من يقول أن الممكن لا يرجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام مستلزم لأمر لا فرق في ذلك بين القادر والموجب فإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وطالبهم الدهرية بسبب حدوث العالم سلكوا مسلك المعتزلة فقالوا القادر المختار يرجح أحد طرفي المقدور على الآخر بلا مرجح أو قالوا الإرادة القديمة هي المرجح كما يقول ذلك الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وهذا المقام هو من الأصول العظام التي اضطربت فيها

ص: 146

رؤوس أهل النظر والفلسفة والكلام ومن سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولم يجعل شيئا سوى الله قديما معه بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن مع قوله أن ترجيح أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمرجح ولا فرق في ذلك بين مرجح ومرجح ومع قوله أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومع إثباته حدوث كل ما سوى الله بالبرهان العقلي الصريح الذي لا يحتاج معه إلى تعجيز الله في الأزل عن الفعل وإلى أن يقول أنه إن لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا من غير حدوث شيء ومن غير أن يحتاج إلى أن يجعل الحوادث تحدث بلا سبب أصلا ومع إبطاله أن يكون صانع العالم موجبا بذاته وعلة أزلية مستلزمة لمعلولها ومع قوله أن كل ما لا يسبق الحوادث من الممكنات فإنه لا يكون إلا حادثا بها لامتناع دوام الحوادث بل لامتناع صدور المحدثات وما لا يتقدم عن موجب بالذات وإذا بطل الموجب بالذات لزم حدوث كل ممكن فإن قدم شيء من الممكنات لا يكون إلا إذا كان له موجب تام أزلي وإذا امتنع شرط القدم لشيء من الممكنات امتنع قدم شيء من الممكنات وهذا مبسوط في موضعه ولكن المقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره وأنكروا حكم الله المقصودة بذلك

ص: 147

وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقوله {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وقوله {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وأمثال ذلك هي لام العاقبة ليست لام التعليل إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئا لأجل شيء أو يأمر بشيء لأجل شيء فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوى تكون سببا لحدوث شيء وإذا أنكروا تأثير القدرة التي للحيوان فهم لما سواها أشد إنكارا وهؤلاء إذا أرادوا أن يجيبوا الفلاسفة عما ادعوه من أسباب المعجزات وغيرها من الخوارق قالوا نحن نقول أن المؤثر في الحوادث هو قدرة الله فقط ولا أثر لشيء من ذلك ولهذا قال الأشعري إن أخص وصف الرب هو القدرة على الاختراع والكلام بين هؤلاء وبين منازعيهم في مقامين أحدهما أنهم لا يسلمون حصول الخوارق مقارنة لما تذكره الفلاسفة من الأسباب

الثاني أنهم إذا سلموا ذلك جعلوا ذلك كسائر الأمور التي علم اقترانها في العادة فإن العادة جارية بأن الإنسان يأكل فيشبع ويشرب فيروي ويضرب بالسيف فيقطع فإذا كانوا يقولون إن مجرد القدرة القديمة هي

ص: 148

المحدثة للشبع والري والقطع وغير ذلك عند هذه الأمور المقارنة لها لا بها وأنه ليس هنا قوة ولا طبيعة ولا فعل له تأثير في هذه الحوادث بوجه من الوجوه كان قولهم لذلك في المعجزات أقوى وأظهر وأبو حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة جعل هذه المسألة من الأصول التي نازع فيها الفلاسفة ولهذا اشتد نكير ابن رشد عليه في تهافت التهافت وجعل هذا من المواضع التي استطال بها على أبي حامد وانتهز بها الفرصة في الرد عليه والإنتصار للفلاسفة وأما المعتزلة ونحوهم من القدرية فيفرقون بين تأثير الحي القادر وتأثير غيره ويقرون بإثبات التأثير للقادر سواء كان خالقا أو مخلوقا ولا يثبتون لغير ذلك تأثيرا

ص: 149

ويزيدون على ذلك حتى يجعلون ما تولد عن فعل الإنسان من فعله ولا يجعلون لبقية الأسباب التي شاركته تأثيرا فإن أفعال الإنسان وغيره من الحيوان على نوعين أحدهما المباشر والثاني المتولد فالمباشر ما كان في محل القدرة كالقيام والقعود والأكل والشرب وأما المتولد فهو ما خرج عن محل القدرة كخروج السهم من القوس وقطع السكين للعنق والألم الحاصل من الضرب ونحو ذلك فهؤلاء المعتزلة يقولون هذه المتولدات فعل العبد كالأفعال المباشرة وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون بل هذه الحوادث فعل الله تعالى ليس للعبد منها فعل أصلا وهم وإن كانوا لا يثبتون لقدرة العبد أثرا في حصول المقدور فإنهم يفرقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدورا للعبد وما كان خارجا عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدورا للعبد وأكثر من نازعهم يقول أن هذا كلام لا يعقل

ص: 150

فإنه إذا لم يثبت للقدرة أثر لم يكن الفرق بين ما كان في محل القدرة وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقا في محل الحادث من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير وتسمية هذا مقدورا دون هذا تحكم محض وتفريق بين المتماثلين

ولهذا قال بعض الناس عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وإذا قيل لهؤلاء الكسب الذي أثبتموه لا تعقل حقيقته فإذا قالوا الكسب ما وجد في محل القدرة المحدثة مقارنا لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه قيل لهم فلا فرق بين هذا الكسب وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر كاشتراك العرضين

ص: 151

الحادثين في محل واحد في زمان واحد بل قد يقال ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسبا بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل ولهذا قال أهل السنة وأهل الإثبات من سائر الطوائف إن العبد فاعل لفعله حقيقة بخلاف جمهور الأشعرية ومن وافقهم فإنهم يقولون إنه فاعل مجازا وليس حقيقة ويقولون أن فعل العبد فعل لله لا للعبد لأنهم مع سائر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد وهم يقولون أن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق

وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو أول قولي القاضي أبي يعلى ثم رجع عن ذلك ووافق الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد في أن الخلق غير المخلوق وهو قول الحنفية وأهل الحديث وجمهور الصوفية وجمهور أهل الكلام فلما كان هؤلاء يقولون إن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق ويقولون أن فعل العبد مخلوق لله لزمهم أن يقولوا أن فعل العبد فعل لله وإذا كان فعله فعلا لله لم يكن فعلا له لأن الفعل الواحد لا يكون فعلا لفاعلين ولهذا قامت الشناعة عليهم من جماهير الناس المثبتين للقدر والنافين له وأرادت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم بهذه الزلة من هؤلاء أن يتوسلوا بذلك إلى إبطال قول أهل السنة في القدر وأن الله لم يخلق أفعال العباد لأن جمهور المعتزلة يقولون أيضا إن الخلق هو المخلوق فإذا كان العبد فاعلا لفعله امتنع أن يكون مخلوقا لله، إذ المخلوق

ص: 152

هو الخلق والمفعول هو الفعل عندهم كما هو كذلك عند الأشعرية

فلما اتفق هذان الفريقان على أن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول تباينوا في مسألة أفعال العباد تباينا صاروا فيه على طرفي نقيض هؤلاء يقولون ثبت أن العبد فاعل لفعله فلا يكون فعله فعلا لله فلا يكون خلقا لله فلا يكون مخلوقا لله وهؤلاء يقولون ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فلا يكون في الوجود ما هو فعل ولا مفعول لغير الله إذ الفعل هو المفعول فلا تكون حركات العباد فعلا لهم بل لله تعالى وأما جمهور الخلق من أهل السنة وغيرهم فيقولون أن الخلق غير المخلوق وفعل الله القائم به ليس هو مفعوله المنفصل عنه ويقولون أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له لا أنها نفس خلقه ونفس فعله وهي نفس فعل العبد فهي فعل العبد حقيقة لا مجازا وأما كون العبد له مفعول متولد عنه غير فعله فهذه مسألة التولد وعلى ذلك يبنى الكلام في أصوات العباد وكلامهم فإن الأصوات متولدة عن حركات العبد الإختيارية فمن قال أن المتولد ليس من فعل العبد ولا كسبه يقول أن أصوات العباد ليست مقدروة لهم ولا مفعولة ولا كسبا كما يقول ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم

ص: 153

ثم تولد من هذا بحث آخر فيمن قال أن الأصوات المسموعة من القارىء أو بعض الأصوات المسموعة من القارىء هي صوت الله فإنه بنى ذلك على هذا الأصل فقال الأصوات ليست من مقدرو العباد ولا من أفعالهم وكسبهم بل هي مضافة إلى الله فتضاف إليه بحسب ما يوجب الإضافة فإن كانت بكلامهم أضيفت إليه إضافة خلق وإن كانت لكلام الله أضيفت إليه إضافة وصف وكانت ظاهرة في المحدث لا حالة فيه ولكن ظهورها قارن حركة العبد وهذا الكلام وإن كان قد قاله طائفة من هؤلاء فهو معلوم الفساد بالضرورة والحس واتفاق جماهير العقلاء وهو قول فاسد مبني على أصل فاسد وإنما هو من باب الإلزام لمن وافقهم من الأشعرية على أن الأصوات المسموعة ليست مقدورة للعباد وكثير من الأشعرية متناقضون في هذا الباب ففي بحثهم مع المعتزلة يجعلون أصوات العباد غير مقدورة لهم ولا مفعولة لهم وفي بحثهم في مسألة القرآن يجعلونها مقدروة للعباد مفعولة لهم والكلام على هذا مبسوط في موضع

آخر والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازا وهم يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم بل يقولون أن الله خالق كل شي وربه

ص: 154

ومليكه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول ولا قوة إلا به ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته ولا تزال مفتقرة إلى الله لا يقولون أنها معلولة له أو متولدة عنه كما يقوله الفلاسفة ولا أنها مستغنية عنه بعد الأحداث كما يقوله من يقوله من أهل الكلام بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والاحتياج إليه لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعا ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء بل لا بد له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه كما في الشعاع الحادث عن الشمس والاحتراق الحادث عن النار ونحو ذلك فإنه لا بد مع الشمس من محل قابل لانعكاس الشعاع عليه وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع وبكل حائل

فقول متكلمة الملل من المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية ونحوهم أقرب إلى القبول من أقوال الفلاسفة والطبائعية والمنجمين ونحوهم فإن هؤلاء يشهدون بعض الأسباب كما يشهدون الطبائع والقوى التي خلقها الله في الأجسام وكما يشهدون ما للشمس والقمر وغيرهما في هذا العالم من الآثار لكنهم مع ذلك يضيفون الحوادث إلى سبب من أسبابه كإضافة الحوادث من الأجسام وغيرها إلى الطبيعة

ص: 155

والطبيعة عرض قائم بجسم فمن جعل المحدث للإنسان في بطن أمه وما فيه من الأعضاء المختلفة وقواها ومنافعها هو الطبيعة كان قوله أظهر فسادا من تلك الأقوال التي فيها إضافة الحوادث إلى مجرد مشيئة القديم من غير إثبات سبب ولا حكمة أو إضافة الحوادث إلى قدرة القادر المختار سواء كان قديما أو حادثا فإن كلا من القولين خير من إضافة ذلك إلى طبيعة هي عرض بجسم من الأجسام ليس له إرادة ولا مشيئة مع أن الجنين المخلوق في الرحم أكمل من الرحم وقواها ثم فلاسفة هؤلاء إذا قالوا أن هذه الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك وأن ذلك يعدها لقبول الفيض عليها من العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه إلى إقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من إثبات العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه الى اقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من اثبات العقل الفعال كلام باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع وإنما يقوم الدليل على أن الحوادث تصدر عن حركات حي مختار وتلك هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وليست الملائكة هي العقول التي يثبتها هؤلاء فإن العقل الأول عند هؤلاء هو المبدع لكل ما سوى الله والعقل الفعال عندهم هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر

وأهل الملل يعلمون بالاضطرار من دين الرسل أنه ليس عندهم أحد غير الله يخلق جميع المبدعات ولا أنهم أثبتوا ملكا من الملائكة أبدع كل ما تحت السماء بل الملائكة عندهم عباد لله ليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث فضلا عن أن يكون مبدعا لكل ما سوى الله وسواه

ص: 156

كما يقوله هؤلاء الفلاسفة في العقل الأول قال الله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وقال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}

وأيضا فبتقدير ثبوت العقل الفعال وما قبله من العقول فهذه عندهم هي لازمة لذات الله متولدة عنه معلولة له وحينئذ فالحوادث الحادثة لا تجوز أن تصدر عنها لأن

ص: 157

ذلك يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإذا قالوا أن حركات الأفلاك توجب تحريك العناصر حتى تمتزج امتزاجات معدة لقبول الفيض كان هذا باطلا من وجوه منها أن يقال فالحوادث كلها من حركات الأفلاك وما يحدث عنها لا بد لها من محدث ومحدث الحوادث لا يجوز أن يكون علة تامة أزلية لأن العلة التامة الأزلية مستلزمة لمعلولها فيجب أن يكون معلولها مقارنا لها في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من الحوادث صادرا عن الواجب الوجود بواسطة أو بغير واسطة وحينئذ فلا يكون للحوادث محدث

وأيضا فنفس حركة الفلك الأعلى حركة واحدة متشابهة بسيطة لا توجب بنفسها آثارا مختلفة إلا لاختلاف القوابل كما أن الشمس تبيض جسما وتسود جسما وتلين جسما وتيبس جسما بحس القوابل المختلفة فإذا كان حركته بسيطة والعقل بسيطا لم يصدر عنهما أمور مختلفة وكذلك الأفلاك التي تحته لها حركات معدودة محصورة وكل منها حركته بسيطة وليس في شيء من هذه الحركات والمتحركات ما يوجب هذه الأعيان والحوادث المختلفة اختلافا لا يحصى عدده في الصفات والأقدار والحركات هذا مع قولهم أن الواحد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد فيعلم بالضرورة أن هذه الحوادث الكثيرة المختلفة ليست صادرة عن عدد محصور في البسائط وأيضا فيقال تلك الحركات والمتحركات والعقول المعلومة أمور مختلفة متعددة فإن صدرت عن واحد بطل قولهم لا يصدر عن الواحد إلا واحد وإن صدرت عن موصوف

ص: 158

بالصفات والأفعال القائمة بطل قولهم بالموجب بالذات وعلى التقديرين يبطل مذهبهم وأيضا فإن الواحد البسيط الذي يذكرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فإنه وجود مطلق والمطلق إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فظاهر وأما المطلق لا بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي فهذا أيضا لا يوجد في الخارج كليا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يوجد معينا مشخصا جزئيا لكن ما في الذهن كلي بمعنى أنه مطابق لتلك الجزئيات كمطابقة اللفظ العام لأفراده وأيضا فذلك الواحد إن كان الصادر عنه واحدا لم يصدر عن الآخر إلا واحدا وكذلك هلم جرا فيلزم أن لا يكون في العالم ثرة كثرت وإن صدر عنه أكثر من واحد بطل أصلهم وإذا قالوا فيه جهات كالوجوب والإمكان وعقله لمبدعه وعقله لنفسه ونحو ذلك فيصدر عنه باعتبار وجوبه عقل وباعتبار إمكانه جسم ونحو ذلك من الهذيان الذي يقولونه في هذا الموضع قيل لهم تلك الأمور إما أن تكون وجودية وإما أن تكون عدمية فإن كانت وجودية وقد اتصف بها الصادر الأول فقد صدر عن المبدع الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية كان الواحد صدر عنه باعتبار اتصافه بأمور عدمية أكثر من واحد وحينئذ فالواجب الوجود يتصف بالأمور العدمية بالاتفاق فيجب أن يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد هو أحق بذلك من الصادر الأول الذي هو العقل الأول عندهم

ص: 159

وبالجملة فالأدلة الدالة على بطلان قولهم كثيرا جدا والكلام على هذا وغيره قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن أقوال هؤلاء ليست مطابقة لما أخبرت به الرسل كما ليست مطابقة لما دل عليه العقل الصريح فلا هي موافقة للمنقول الصحيح ولا للمعقول الصريح ولكنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما ظهر ذلك في الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وأمثالهم وكما ظهر ذلك في متصوفة الفلاسفة الذين يزعمون أن أخبار الأنبياء مطابقة لأقول هؤلاء الفلاسفة وكما ظهر ذلك فيمن يريد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة كابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما وكما سلك نحوا من ذلك أهل الوحدة والحلول كابن عربي وابن سبعين وابن قسي صاحب خلع النعلين وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء أعظم مخالفة لصريح المعقول مع صحيح المنقول من المعتزلة

ونحوهم والمعتزلة ونحوهم أقرب منهم ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية

ص: 160

والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح والكلام في مثل هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا ذلك هنا لأن المعجزات من جملة الحوادث ففي حدوثها للطوائف من الكلام ما نبهنا عليه

والمقصود هنا بيان بطلان قول من يقول أن أسبابها قوى نفسانية وقد ذكرنا أن الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة ونحوهم يبطلون ذلك بناء على أصولهم وهؤلاء يبطلون ذلك بناء على أن المؤثر في جميع الحوادث هو قدرة الله وأما المعتزلة فلا يبلطون تأثير الحي القادر ولكن كثير منهم يقول بإبطال تأثير النفوس وإذا قال الفيلسوف قول هؤلاء باطل لثبوت القوى والطبائع قيل له القول الذي بنيت عليه هذا القول هو أبطل من أقوال هؤلاء فإنك بنيت ذلك على أن فاعل العالم موجب بالذات وأنه علة تامة مستلزمة لمعلولها وقد تبين بصريح العقل بطلان هذا القول وتبين انه مستلزم أن لا يكون للحوادث محدث وإذا كان كذلك لم يكن لك أن تبطل قولهم مع تصحيح قولك بل إما أن يبطل القولان أو يصح أحدهما

ص: 161

وحينئذ فيكون قولهم أولى بالصحة وقولك أولى بالبطلان فثبت بطلان قولك على التقديرين وبيان ذلك أن يقال صحة قولك تحتاج أولا إلى أن قوى النفوس يصدر عنها مثل هذه الآثار وهذا القدر منازعك فيه أكثر ممن يوافقك على تأثير الطبائع فجمهور الفلاسفة والطبائعيين لا يقرون بها كما يقرون بأن النار تسخن والخبز يشبع والماء يروي ثم بعد هذا إذا ثبت لقوي النفس تأثير لم يمكن أن يثبت تأثيرها في هذه الحوادث العظيمة ثم تحتاج مع ذلك أن تنفي أن يكون هناك أسباب أخر غير هذه ثم بعد ذلك كله يبقى الكلام في الأسباب والمسببات فأنت تحتاج إلى عقاب عظيمة لا تقدر على تقريرها حتى تصل إلى مسألة الأسباب وحينئذ فتجتمع أنت ومنازعوك من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية ونحوهم

وأما جمهور المسلمين فهم لا ينكرون الأسباب والمسببات لا في الجماد ولا في الحيوان كما تقدم لكن يعترفون بكل ما دل على صحته الدليل سواء كان الدليل نقليا أو عقليا وهم وإن بينا أن طريقة أهل الكلام أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من طريق الفلاسفة فإنهم يعترفون بما في طريقتهم من النقص والعيب وجحد بعض الحق والتزام بعض الباطل.

ص: 162

ولهذا كان السلف والأئمة يذمون أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا الكلام المشتمل على نوع من الباطل ويمنعون أن ترد بدعة ببدعة ويقابل الباطل بالباطل ويرد الفاسد بالفاسد ولكن مع كون هذا يذم ويعاب فلا ينكر كونه خيرا من كلام أولئك كما أنا وإن كنا نذم ما يوجد في بعض المسلمين من ظلم وجهل فنحن نعلم أن ما في الكفار من ذلك أعظم وإن كنا لا ننكر ما يوجد في بعض أهل السنة والجماعة من جهل وظلم فنحن نعلم أن الجهل والظلم في الرافضة أكثر

ص: 163

فصل

إذا تبين هذا فيقال الكلام على هؤلاء من وجوه

أحدها أن يقال قولكم هذا قول بلا علم وهو قول لا دليل على صحته وهذا يقال قبل الجزم ببطلان قولهم فإنهم أولا يطالبون بالدليل الدال على صحة قولهم وليس لهم على ذلك دليل أصلا بل عامة ما يعتمدون عليه التجويز الذهني والذي قرره ابن سينا وأمثاله ليس فيه ما يدل على أن هذا هو الواقع بل غاية مطلوبهم تجويز ذلك وإمكانه مع أن ذلك باطل وأيضا فإثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها والفلاسفة يسلمون ذلك لكن إنما يقرون من المعجزات بما يظنون أنه يمكن إحالته على قوى النفوس كإنزال المطر

ص: 163

وزلزلة الأرض ونحو ذلك مما يكون فيه استحالة الجسم من حال إلى حال قابل له فإذا حصل قوة فاعلة مع القوة القابلة حصل ذلك وإذا كان الهواء يستحيل ماء بأسباب تقتضي ذلك وحركة الأرض وزلزلتها ممكنة بأسباب وأمراض الجسم مما يحصل بأسباب أمكن حصول ذلك بالقوى النفسانية والساحر يؤثر في أحوال الأجسام ولا يؤثر في قلب الأعيان فيؤثر في أسباب المرض والموت ونحو ذلك وأما جعل الخشب حية فهذا عندهم غير ممكن لا بقوى نفسانية ولا غيرها وأما من أنكر أن يكون لقوى النفوس تأثير بالكلية كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة ومن الأطباء والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يسندون المنع إلى هذا الأصل

ولكن نحن لا نحتاج إلى ان ننبه على هذا الأصل بل لا يمتنع أن يكون لقوى النفوس نوع تأثير كما لقوى سائر الأعيان وإن كانت الأعيان وقواها متفاوتة فلا ريب أن قوة جبريل الذي قال الله فيه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} وقال فيه {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وقد روى أنه قلع قرى قوم لوط الستة ورفعها ثم قلبها عليها فلا ريب أن هذه القوة التي

ص: 164

للملك مما امتاز بها على أصحاب القوى المعروفة لما نشاهده من الحيوان

وقد بينا أن هؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا وأمثاله كما ختم إشاراته بأن قال الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة أحدها الهيئة النفسية وثانيها خواص الأجسام العنصرية مثل جذب المغناطيس للحديد بقوة تخصه وثالثها قوة سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئات وضعية أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فلكية فعلية أو انفعالية تستتبع حدوث آثار غريبة.

قال: والسحر من قبيل القسم الأول بل المعجزات والكرامات والنيرنجيات من قبيل القسم الثاني والطلمسات من قبيل القسم الثالث.

فزعم أن أسباب خوارق العادات في هذا العالم هي هذه الأسباب الثلاثة أما القوى النفسانية وأما القوى الجسمانية العنصرية وأما القوى الفلكية مع القوى الجسمانية أو النفسانية

ص: 165

وهذا النفي لم يذكر عليه دليلا ولا دليل له عليه والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل وهو يقول ليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن حكمته دون الخرق في تصديقك ما لم يقم بين يديك بينته وهذا كنفيهم للجن والملائكة وهؤلاء يلزمهم إقامة دليل علىالنفي ولا دليل لهم ولكن كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وهذا مما ينبغي أن يعرف فإن عمدة هؤلاء في حصرهم الفاسد هو النفي والتكذيب بلا علم أصلا.

وأيضا فإنا قد علمنا نحن وغيرنا بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية بطلان هذا الحصر وأنه يحدث في هذا العالم أمور كثيرة عن أحياء ناطقين من غير نفوس بني آدم وغير الأجسام العنصرية وغير الفلك وقواه

وقد ذكر ابن سينا لما تكلم عن إثبات الخوارق على أصول إخوانه الفلاسفة الذين يزعمون أن المبدع للعالم موجب بذات لا قدرة لها ولا مشيئة وأنه يمتنع انشقاق الأفلاك وتغير هذا العالم وهؤلاء يكذبون أو يكذب كثير منهم بكثير من الغرائب التي يقر بها ابن سينا وأمثاله فإن الالهيين من الفلاسفة يقرون بأمور كثيرة ينكرها الطبيعيون منهم.

فلما ذكر إمكان ما صدق به من الغرائب وذكر دليل

ص: 166

إمكانه على أصول إخوانه قال اعلم أن هذه الأشياء ليس القول بها والشهادة لها إنما هي ظنون إمكانية صير إليها من أمور عقلية فقط وإن كان ذلك أمرا معتمدا لو كان ولكنها تجارب لما بينت طلبت أسبابها ومن العادات المتفقة لمحبي الاستبصار أن تعرض لهم هذه الأحوال في أنفسهم أو يشاهدوها مرارا متوالية في غيرهم حتى يكون ذلك تجربة في إثبات أمر عجيب ليكون حجة وداعيا إلى طلب سببه فإذا اتضح حسمت الفائدة به واطمأنت النفس إلى وجود تلك الأسباب وخضع الوهم فلم يعارض العقل فيما قدر فعله أو رؤياه منها وذلك من أجم الفوائد وأعظم المهمات ثم إني لو اقتصصت جزئيات هذا الباب فيما شاهدناه وفيما حكاه من حدثناه لطال الكلام ومن لم يصدق الجملة هان عليه أيضا أن لا يصدق التفصيل فهذا كلامه

وقد تبين أنه إنما ذكر من أسباب الغرائب الأخبار بالمغيبات لم يذكره لمجرد كونه ظنا ممكنا علم إمكانه بأدلة عقلية بل لما علمت هذه الغرائب بالمشاهدة

ص: 167

والخبر الصادق فطلبت حينئذ أسبابها وهذا بعينه يقال له فيما علم غيره ثبوته بالمشاهدة والأخبار الصادقة فمن شاهد وجود الجن ورآهم أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة أو علم من الأدلة اليقينية ما يدل على ذلك كما قد علم ذلك من شاء الله كان قد علم يقينا أن الجن ليست قوى نفسانية وعلم أن من الغرائب ما يكون عن أفعال الجن وأخبارهم.

وهذا أمر معلوم لجميع الأمم من العرب والترك والهند وغيرهم والأمور المتواترة عند الأمم عن الكهان تفوق الإحصاء والذي علمناه في زماننا ممن تحمله الجن وتطير به في الهواء وتسرق له أنواع الأطعمة من الحلاوة وغيرها وتأتيه بها وتخبره عن بعض الأمور الغائبة عنه بأمور كثيرة يطول وصفها في هذا الباب

وأما أمر الملائكة فهو أجل وأعظم وأخبارهم متواترة عند أهل الكتب وأما آثارهم في العالم فيعلم بالمعاينة والمشاهدة فدعوى المدعي بعد هذا أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية من أبطل الباطل فإن السحر كثير منه يكون بالشياطين كما قال الله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} إلى آخر الآية.

ص: 168

وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم ولذلك كانت الإنس تستعيذ بالجن كما قال الله تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} كانوا إذا نزل الرجل منهم بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فأنزل الله هذه الآية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ففرق بين الشيطان وبين الهوام وبين أعين الإنس كما يدل ذلك على وجود الضرر في هذه الجهات الثلاث الإنس والجن والهوام وقد قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقال تعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخرها فأمره بالتعوذ من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس

ص: 169

وقد أخبر الله في كتابه عن خطابه للجن وأمره لهم ونهيه لهم كقوله {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وقوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} وقوله {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} إلى آخر السورة إلى قوله {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} إلى آخر السورة ونحن لو ذكرنا ما رأينا وسمعناه من أحوال الجن لطال الخطاب من أحوالهم مع المؤمنين الصالحين ومن أحوالهم مع أهل الكذب والفجور كما قال الله تعالى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} فهؤلاء قوم حصروا الوجود وأسبابه فيما علموه ولا علم عندهم بانتفاء ما لم يعلموه وغاية أحدهم أن ينفي الشيء لانتفاء دليل معين وهذا غاية الجهل وهم جهال من وجهين أحدهما عدم العلم بكثير من أنواع الموجودات وأحوالها والثاني عدم العلم بأسباب الحوادث فإنهم لما يثبتوا قدرة الرب على تغيير العالم ونفوا مشيئته التي بها تحدث الحوادث صاروا منكرين لخرق العادات فاحتاجوا في

ص: 170

إثبات الغرائب إلى إجرائها على ذلك القانون الباطل ولهذا بينا فساد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم وهو كون العالم متولدا عن علة موجبة بالذات مستلزمة لمعلولها فإن هذا الأصل إذا بطل بطل دعواهم أن الحوادث لا تكون إلا بهذه الأسباب وأمكن أن يكون الله هو الذي يحدثها سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته وإن كان ما يشاؤه ويخلقه بأسباب يخلقها وبحكمة يريدها هو سبحانه وتعالى ومما يبين جهلهم في حصرهم وأن ما ذكروه من أن أسباب المعجزات والكرامات والسحر قوى نفسانية أنهم مخطئون في فاعل السحر فخطاؤهم في فاعل المعجزات والكرامات أولى وأعظم

وذلك أن السحر ليس هو مجرد قوى النفس كما ذكره باتفاق أهل المعرفة بالسحر بل السحرة مستعينون بأرواح مقارنة لهم وكتب السحر الموروثة الكشدانيين والهند واليونانيين والقبط وغيرهم من الأمم مملوءة بذكر

ص: 171

ذلك مثل كتب طمطم الهندي وتنكلوشا البابلي وكتب ثابت بن قرة وأبي معشر البلخي وغيرهم ممن صنف في هذا الباب وأبو عبد الله محمد بن الخطيب قد ذكر في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر والطلمسات ومخاطبة النجوم في ذلك أمورا كثيرة

ص: 172

وهؤلاء يعبدون الكواكب بأنواع العبادات والقرابين وتتنزل عليهم الشياطين التي يسمونها هم روحانيات الكواكب وهي أشخاص منفصلة عنهم وإن لم يروها سمعوا كلامها فتخبرهم وتخاطبهم بأمور كثيرة وتقضي لهم أنواعا من الحوائج وهذا موجود اليوم كثيرا في بلاد الترك والخطأ والعجم والهند بل وفي بلاد مصر واليمن والعراق والشام وغير ذلك وأعرف من هؤلاء عددا وهم كما قال تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وقال تعالى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وقد تقدم ذكرها فإذا كان هؤلاء مع أهل الملل متفقين على ما شاهدوه وسمعوه من وجود هذه الأحياء الناطقين المنفصلين عن نوع

ص: 173

الإنسان وعن العناصر الأربعة والأفلاك وأنهم كثيرا ما تصدر منهم الغرائب فكيف يقال إن أسباب الغرائب هي الثلاثة فقط فتبين أن الذي يجعل السحر إنما يكون عن مجرد قوى نفسانية من أعظم الناس جهلا وضلالا وقائل ذلك في المعجزات أجهل منه وأضل بكثير

وأيضا فإن هؤلاء سواء قالوا بقدم العالم أو حدوثه وسواء قالوا مع الحدوث بدوام فعل الرب أو تجدده بعد أن لم يكن وسواء قالوا مع قدم العالم بأن له علة مبدعة أو لم يقولوا بذلك ليس معهم ما ينفي وجود ما لم يعلموا وجوده من الأفلاك والأرواح العلوية والسفلية وهم يصرحون بأنهم ليس معهم ما يدل على أن الأفلاك تسعة بل هم يثبتون ما اعتقدوا قيام الدليل على ثبوته وأما نفي الزيادة فلا دليل لهم على نفيه وإذا كان هذا في الأفلاك التي هي محسوسة ودلهم على عددها كسوف الكواكب بعضها بعضا واختلاف حركات الكواكب السبعة وغير ذلك أولى أن لا يكون لهم دليل على نفيه وحينئذ فلا دليل لهم على نفي ملائكة كثيرة أضعاف أضعاف العقول العشرة ولا على نفي ملائكة تدبر أمر السماء والأرض والسحاب والمطر وغير ذلك فلو أخبر بوجود ذلك من لم يعلم صدقه ولا كذبه لم يجز تكذيبه إلا بدليل فكيف إذا أخبر بذلك الأنبياء الصادقون المصدوقون وحينئذ فأفعالها من أعظم الأسباب في وجود الغرائب فكيف يقال لا سبب لها إلا هذه الأسباب الثلاثة.

وأيضا فالدلائل الدالة على وجود الملائكة غير إخبار الأنبياء كثيرة منها أن يقال الحركات الموجودة في العالم

ص: 174

ثلاثة قسرية وطبيعية وإرادية ووجه الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من سبب خارج فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه كصعود الحجر إلى فوق فهذه الحركة القسرية وإن كانت بسبب منه فإما أن يكون المتحرك له شعور وإما أن لا يكون فإن كان له شعور فهي الحركة الإرادية وإلا فهي الطبيعية والحركة الطبيعية في العنصار إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعي وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك من خارج علم أن أصل الحركات كلها الإرادة فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلوي والسفلي هو الإرادة وحينئذ فإن كان الرب هو المحرك للجميع بلا واسطة ثبت أنه فاعل مختار فبطل أصل قولهم وجاز حدوث المعجزات عن مشيئته بلا سبب وإن كان حركها بتوسط إرادات أخرى فأولئك هم الملائكة وقد علم بالدلائل الكثيرة أن الله خالق الأشياء بالأسباب فعلم أن الملائكة هم الوسائط فيما يخلقه الله تعالى كما قال تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرا} وإذا كانوا موجودين أمكن حدوث الحوادث عنهم وبطل قول من يزعم أنه ليس لها إلا الأسباب الثلاثة المتقدمة.

ص: 175

وأيضا فهؤلاء يقولون أن المقتضي لخوارق العادات إما أن يكون قوى نفسانية أو جسمانية وإن كانت جسمانية فإما أن تكون جسمانية عنصرية أو جسمانية فلكية فالخوارق الحاصل من التأثيرات النفسانية هي عندهم من المعجزات والكرامات والسحريات والحاصلة من القوى العنصرية كجذب المغناطيس وهي النيرنجيات والحاصلة من القوى الفلكية هي الطلسمات والقوى الفلكية لا تؤثر في الخارق إلا عند انضمام القوى العنصرية القابلة أو القوى النفسانية الأرضية الفاعلة وهذا هو الطلسمات

ومن أعظمهم إثباتا لخوارق العادات ابن سينا وقد ذكر أسباب الخوارق في أربعة أمور في سبب التمكن من ترك الغذاء مدة وهو أن النفس تشتغل بما يعرض لها من معرفة أو محبة وخوف ونحو ذلك حتى لا تجوع بسب أن القوى الهاضمة مشتغلة عن تحليل الغذاء وفي سبب التمكن من الأفعال الشاقة مثل أن يطيق العارف فعلا أو حركة تخرج عن وسع مثله وهذا كما أن النفس إذا حصل لها غضب وفرح أو انتشاء ما بسكر معتدل وأمثاله حصل لها قوة لم تكن قبل ذلك وكذلك إذا حصل لها من أحوال العارفين ما يقويها وفي سبب التمكن من الإخبار عن الغيوب ومضمونه أنه قد

ص: 176

يعلم الغيب في اليقظة كما يعلمه في النوم وادعوا أن سبب ذلك أن العلم بالحوادث منتقش في العقل الفعال أو النفس الفلكية فإذا اتصلت النفس الناطقة بذلك علمت ذلك ثم تارة يصوره الخيال في المثال وتارة لا يصوره والسبب الموجب لاتصال النفس ضعف تعلقها بالبدن والضعف تارة يكون لجنون أو مرض كما يصيب أهل المرة السوداء وتارة يكون لفرط الجوع أو التعب أو غير ذلك من الأحوال وتارة يكون لرياضة النفس وهذه الأقسام الثلاثة الصبر عن الأكل مدة وقوة البدن والإنذار بالمنامات وما يجري مجراها أمر يحصل للمسلم والكافر والبر والفاجر فيكون سبب الخوارق وتصرفها في العناصر فإن النفس كما أثرت في بدن نفسها بالتحريك والتحويل من حال إلى حال جاز أن تؤثر في عنصر العالم ويكون كالبدن لها فتؤثر بالزلزلة وإنزال المطر ونحو ذلك قال فالذي يقع له هذا في جبلة النفس ويكون رشيدا مزكيا لنفسه فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء والذي يقع له هذا ويكون شريرا

ص: 177

ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث.

قال: والإصابة بالعين تكاد أن تكون من هذا القبيل، قال: وإنما يستبعد هذا من يفرض أن يكون المؤثر في الأجسام ملاقيا أو مرسل جزءا ومنفذ كيفية بواسطة ومن تأمل ما وصفناه استسقط هذا الشرط عن درجة الاعتبار فهذا ملخص كلامهم في هذا الباب ومعلوم أن جميع ما ذكروه هو أمر معتاد كثير ليس من خوارق العادات ولا من جنس المعجزات ولهذا قال ابن سينا بعد ذكر ذلك وذكر ما تقدم حكايته من أنه من لم يصدق بالجملة هان عليه التفصيل ثم قال ولعلك قد بلغك عن بعض العارفين أخبار تكاد تأتي بتقلب العادة فتبادر إلى التكذيب وذلك مثل ما يقال أن نبيا ربما استسقى للناس فسقوا

ص: 178

أو استشفى فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان أو السيل أو الطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنه طير أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسبابا من أسرار الطبيعة وربما تأتي لي أن أقص بعضها عليك

ثم ذكر أن ذلك قد يكون سببه من قوة النفس فإنها إذا كانت تتصرف في بدنها جاز أن تتصرف في غيره

ومعلوم أن ما ذكروه لا يفيد الجزم بما قالوه وإنما غايته إمكان ذلك وجوازه بأن يقال إذا جاز أن يرى الإنسان مناما يدل على أمور غائبة أمكن أن يكون العلم بجميع الأمور الغائبة من هذا الباب وإذا جاز أن تؤثر النفس في بدنها وفي شيء صغير جاز أن تؤثر في مجموع الهواء والماء والتراب والنار وإذا جاز أن تقوى النفس على بعض الأفعال جاز أن تقوى على الطيران في الهواء والمشي على الماء وقلب قرى قوم لوط وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وتفجير اثنى عشر عينا من الحجر وقلب العصا حية وإخراج القمل والضفادع

ص: 179

وإنزال المائدة عليها خبز وسمك وزيتون وأمثال ذلك ومن المعلوم أن هذا لا يدل على نوع هذا الممكن بلا ريب فلم قلتم أن هذا هو الواقع وكلامهم في هذا مثل كلامهم في إضافة سائر أنواع الصرع إلى الخلط السوادي والبلغمي فإن هذا إنما يصح أن لو لم تكن الجن موجودين والأطباء ليس عندهم دليل على نفي الجن ولا في صناعتهم ما يمنع وجود الجن وقدماء الأطباء كأبقراط وغيره معترفون بذلك ولكن يقولون ليس في صناعتهم ما يدل على ثبوت الجن وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل ليس علما بعدم المدلول عليه فإن عدم ما يدل على الشيء المعين لا يقتضي انتفاؤه فكيف إذا علم بالدلائل الكثيرة أن الجن قد تصرع الإنس كما قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي أن الأطباء يقولون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه

ص: 180

وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعا ما لا يمكن معه الشك لكن المقصود هنا أن نبين أنهم ينفون الشيء بلا علم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل فهم ليس معهم في كون هذه الآيات حادثة عن القوى النفسانية إلا مجرد التجويز والإمكان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وأيضا فلا دلالة لهم على إمكان كون النفوس تؤثر في مثل هذا أصلا إلا مجرد قياس بعيد لا يقتضي ذلك فهذا أول الوجوه أن يقال أنتم لا دليل لكم بكون هذه الآثار من قوى النفوس

الوجه الثاني أن يقال من هذه الآثار أمور كثيرة تعترفون أنتم بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كما تقدم التنبيه عليه فبطل قولكم أن الآثار المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى من آثار النفوس فإن مجموع ما ذكروه ليس فيه ما يكاد يخرج عن قياس الأمور المعتادة إلا حوادث الأكوان كنزول المطر وشفاء المريض وزلزلة الأرض والخسف وصرف السيل والوباء ورجوع السبع والطير وهذه الأمور يحصل جنسها بأسباب معتادة فإن المطر ينزل بأسباب متعددة وكذلك شفاء المريض وحدوث الخسف والهلاك يحصل بأسباب معتادة كما يحصل نوعه بأسباب معتادة وهذا

ص: 181

بخلاف انفلاق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وانقلاب العصا حية ونزول المن والسلوى وانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجارة ومثل نبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام والشراب حتى يكفي أضعاف من كان يكفيه وانقلاع الشجرة ثم عودها إلى مكانها ثابتة فهذه الأمور وأمثالها لا يصدر جنسها عن سبب معتاد فهذه خارقة للعادة بخلاف ما يكون خارقا للعادة في قدره لا في جنسه وهذا الجنس هم يمنعون حصوله في العالم لا بقوي نفس ولا غيرها والعلم بحصول مثل ذلك إما بالمعاينة وإما بالأخبار الصادقة يبين فساد أصلهم وهذا مما ينبغي للعاقل أن يتدبره فإن القدر الذي بينوا سببه من الغرائب ليس من جنس خوارق العادات بل هو من جنس الأمور المعتادة وعلى هذا فيكونون منكرين لجنس الخوارق وهذا هو أصلهم الفاسد الذي يعلم فساده بدلائل كثيرة ولكن ابن سينا سلك طريقة أراد أن يجمع فيها بين أصولهم الفاسدة وبين التصديق بنوع من الغرائب وأن يجعل الكرامات والمعجزات من هذا النمط فإن السحر هو من الأمور المعتادة كالأسباب التي يحصل بها المرض والموت ونحو ذلك ومنه أمور تخالف العادة والطبيعة ولكن هو مما اعتيد أنه يحصل بالشياطين لكن مقرونا بما يدل على كذبه وفجوره فلا يشبه كرامات الصالحين فضلا عن المعجزات والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا بيان فساد قول من جعل المعجزات قوى نفسانية

ص: 182

الوجه الثالث: أن يقال الخوارق ثلاثة أنواع منها ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية ومنها ما هو من جنس العلم الخارج عن قوى البشر ومنها ما هو من جنس المقدورات الخارجة عن قدرة البشر ولهذا قال نوح عليه السلام وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} وقال الله تعالى لخاتم الرسل {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فالغناء من جنس الاستغناء عن الأكل والشرب مدة والعلم من جنس الإخبار عن الغيوب والقدرة من جنس الأفعال الشاقة ببدنه والتصرف في العناصر بالاستحالة والزلزلة ونحو ذلك فهم إنما ذكروا سبب مثل هذا أما سبب انقلاب العصا حية وخروج الناقة من الأرض وأمثال ذلك فهم معترفون بأنه غير ممكن ولا يمكنهم إحالة سببه على قوى النفس

الوجه الرابع أن يقال النوع الذي يقولون عنه أنه لقوى النفس يؤثر تأثيرا لا يدعون أن تأثيره يبلغ إلى أن ينزل ماء الطوفان الذي غرق أهل الأرض ولا أن يرسل الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما التي أهلكت عادا ولا أن تقتلع قرى قوم لوط وتقلبها حتى هلك كل من

ص: 183

فيها واتبعوا بحجارة تتبع الشارد منهم ولا ترسل طيرا أبابيل بحجارة من سجيل تنزل على أصحاب الفيل واحدا واحدا مع كل طير ثلاثة أحجار صغار حجر في منقاره وحجران في رجليه حتى هلك أصحاب الفيل وصار كيدهم في تضليل حتى أرسل عليهم حجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ولا في قوى النفس أنها صبيحة كل يوم ينزل المن والسلوى الذي يكفي عسكر موسى وتظللهم بالغمام حيثما ساروا وتطيل الثبات معهم كلما طالوا وتفجر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين ولا يفرق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم حتى إذا خرج منه عسكر موسى ودخله عسكر فرعون انطبق عليهم فأغرقهم كلهم وكذلك أيضا من الخوارق الخارجة عن قوى النفوس إحياء الموتى من الآدميين والبهائم وقد ذكر الله ذلك في غير موضع من كتابه فذكره في خمسة مواضع في سورة البقرة وقال تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}

ص: 184

وقال تعالى {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقد ذكر الله سبحانه إحياء المسيح للموتى بإذن الله وذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ومكثهم ثلاثمائة سنة شمسية وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية نياما لا يأكلون ولا يشربون وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} وهذه الأمور التي قصها الله من أحياء الآدميين من بعد موتهم مرة بعد مرة ومن إحياء الحمار ومن إبقاء الطعام والشراب مائة عام لم يتغير ومن إبقاء النيام ثلاثمائة وتسع سنين ومن تمزيق الطيور الأربعة وجعلهن أربعة أجزاء على الجبال ثم أتيانهن سعيا لما دعاهن إبراهيم الخليل عليه السلام فيها أنواع من الاعتبار منها تثبيت المعجزات

ص: 185

للأنبياء وأنها خارجة عن قوى النفس فإن الفلاسفة وسائر العقلاء متفقون على أن قوى النفوس لا تفعل مثل هذا بل ولا شيء من القوى المعروفة في العالم العلوي والسفلي الثاني أن في ذلك إثبات أن الله فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته يحدث ما يشاء بحسب مشيئته وحكمته ليس موجبا بالذات فإن الموجب بالذات مستلزم لآثاره فيمتنع أن تتغير أفعاله عن القانون الطبيعي

والأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإن كانت تحدث بها أنواع من الغرائب في هذا العالم فلا بد من استعداد القوابل ولا بد أن تكون تلك الاتصالات جارية علىالقانون المعتاد عندهم وكلاهما منتف في هذه الخوارق فالمادة السفلية لا تقبل مثل هذا في العادة والاتصالات الفلكية لا يحدث عنها مثل هذا ولهذا كان ما يحدث من الغرائب بسبب تمزيج القوى الفعالة السماوية أو القوى المنفعلة الأرضية ليس هو من هذا الباب بل هو مما اعتيد نظيره مثل دفع بعض الحيوان عن مكان أو جذبهم إليه أو أمراض بعض الأبدان أو موتها أو غير ذلك من الأمور الثالث أن هذا من أعظم الدلالة على إمكان معاد الأبدان وإعادة الأرواح إليها فإنه لا أدل على إمكان الشيء من وقوعه أو وقوع نظيره فلما كان هذا واقعا علم أنه ممكن وكذلك

ص: 186

إنزال عيسى عليه السلام المائدة من السماء كل يوم عليها زيتون وسمك وغير ذلك هو من الأمور الخارجة عن قوى النفس فإن تأثير النفس في هيولي العالم إنما هو بحسب ما يقبل الهيولي وتعليق هذا في الهواء ليس هو مما يقبله الهواء وأيضا فتأثير النفس في البسيط يكون بسيطا لا يكون فيه من التركيب مثل هذا كما أن النفس ليس في قواها توليد حيوان من بطن أمه من غير جماع إلى أمثال ذلك من خوارق العادات التي يعترفون هم أن قوى النفس وإن كانت لها تأثير في الجنس العالي من ذلك فلا يبلغ تأثيرها إلى هذا الحد وهذا كما أن قوى البدن معروفة من المشي والهرولة ونحو ذلك وليس في قوى بدن أحد أن يحمل جبلا ولا ست مدائن على كاهله ولا في قوى بدنه أن يطير في الهواء وأمثال ذلك فتبين أنهم معترفون أن هذه الأمور لا يمكن إضافتها إلى قوى النفس

الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف أما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها وهذا هوالكشف النفساني لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم والناس يسمعون من المصروع من أنواع الكلام والأخبار عن الغائبات واللغة الغريبة التي يعلمون باضطرار أنها ليست في قوة ذلك الإنسان وكذلك أهل العبادات

ص: 187

الشيطانية من البراهمة والبخشية ونحوهم من عباد المشركين ومن أشبههم من المنتسبين إلى أهل القبلة كأنواع من اليونسية والأحمدية والخالدية والدسوقية وأمثال هؤلاء من أهل العبادات المشركية المخالفة للكتاب والسنة فيسمع منهم حال السماع من أنواع

ص: 188

الكلام واللغة الغريبة التي لا يمكن ذلك الشخص أن يتكلم بها ما يعلم أن المتكلم على لسان غيره أو الملقن له ذلك الكلام غيره لا أن مجرد نفسه فعلت ذلك بدون سبب منفصل من الأرواح وإذا كان هذا مما شوهد في النفوس الخبيثة وأن كثيرا من إخباراتها تكون عن إخبار أرواح شيطانية لها فلأن يكون إخبار الأنبياء عن إخبار أرواح الملائكة

بطريق الأولى وهم يقولون الشياطين عندنا قوى النفس الخبيثة والملائكة قوى النفس الصالحة

قلنا قد تقدم أن جمهور المسلمين لا ينكرون وجود هذه القوى كما تقدم ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني وأما القسم الثالث وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية

وإذا ثبت أن الإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية كان ما ذكروه نوعا من الأنواع الثلاثة وهو أضعفها فكان غاية إيمانهم بالنبوة جعلهم النبي بمنزلة رجل من أضعف صالحي الناس

ص: 189

الوجه السادس: أن يقال قد علمنا بالضرورة والتواتر أن الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان تعجز قدرته عن الوصول إليه وهذا قد علمناه نحن في غير صورة وغيرنا يعلم من جزئيات ذلك ما لم نعلمه ومن شك في أصل ذلك فليرجع إلى من عنده علم ذلك وإلا فليس للإنسان أن يكذب بما لا يعلم ونحن نعرف من ذلك أمورا كثيرة جدا ونعرف عددا كثيرا حملوا في الهواء من مدائنهم إلى عرفات وإلى مكة في غير وقت عرفات وبعضهم كان كافرا لم يسلم وبعضهم منافق لا يقر بوجوب الصلاة وبعضهم جاهل يعتقد أن وقوفه بعرفات بلا إحرام مع رجوعه إلى بلده بلا طواف وسعي ولا إحرام عبادة وكرامة من كرامات الصالحين ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة ولو ذكرت ما أعرفه من هذا لطال الخطاب وأعرف شخصا من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها ووصوه بأمور الدين وتاب وحصل له خير وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية يلدى نحو

ص: 190

فرسخ وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال وصلوا إليه أياما وأخبروهم أن هذه الشريعة تغير وتنسخ حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر وكانوا في مغارة واستتابوهم فلم يتوبوا بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام ثم تابوا بعد ذلك وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان وآخر أتى قوما يرقصون في سماع فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم فرآه شخص فصرخ به فسقط وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي فقال الشيخ هذا سلبني حالي فسأله فقال لم يكن له حال وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا فصرخت فيه فألقاه وهرب وجرى نظير هذه القصة لغير واحد ومن المشهور المتواتر عند الترك ما تفعله سحرتهم وكهانهم من البخشية والطوينية وشيخهم الذي يقال له البوا ومن شرطه عندهم أن يكون مخنثا مأبونا ينكح ينصب له خركاة في ظلمة فيذبحون ذبيحة للشيطان ويغنون له فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة كأحوال غائبيهم وسرقاتهم وغير ذلك ويحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم ولا كتاب فيه قرآن هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت أخبرنا به غير واحد

ص: 191

وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا وأتى قوم بحلاوة من الهواء وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها ووصفت الآنية التي كانت فيها فرد ثمنها إليه وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء وتحمل الأموال إليه من مكان بعيد وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين علم أن هذه الخوارق ليست من قوى النفوس بل بفعل الجن وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا فالملائكة أعلى منهم وأقدر وأكمل وأفضل وهذه الأمور كما يصدق بها أهل الملل من المسلمين والنصارى واليهود فجمهور الفلاسفة يصدقون بها وكتب الروحانيات التي لهم مشحونة بذكر أمثال هذه الأمور وأنواع العزائم والرقي التي يذكرونها مشحونة بالأقسام على الجن والأقسام بهم والدعاء لهم والطلب منهم والذين يخاطبون الكواكب منهم وتتنزل على أحدهم روحانية الكواكب هي شيطان ينزل عليه ويخبره بأمور ويتصرف له بأمور وهذه معلومة بالتواتر عندهم فمن قال إن هذه الخوارق من آثار مجرد النفوس وأنكر وجود الجن والشياطين وأن يكون لهم تأثير في الإخبارات والخوارق كان مبطلا باتفاق أهل الملل واتفاق جمهور الفلاسفة وكان كذبه معلوما بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة أو الأخبار المعلومة بالصدق

ص: 192

الوجه السابع: أنه من هذا الباب ما تواتر في هذه الباب من أخبار كهان العرب وما كانت تخبرهم به من الأمور الغائبة لإخبار الجن لهم بذلك

الوجه الثامن: أن المدعي لكون الخوارق التي أتت بها الأنبياء من الأخبار بالغيب من الأمور الخارجة عن قدرة البشر هي من قوى النفس إما أن يكون مصدقا للرسل فيما علم أنهم أخبروا به وإما أن يكون مكذبا لهم فإن كان مكذبا لهم كان الكلام معه أولا في تثبيت النبوات والإقرار بها وهؤلاء الفلاسفة والصابئة وأتباعهم من باطنية أهل الملل ونحوهم يعظمون أمر الأنبياء ويقرون بكمال علمهم ودينهم وصدقهم ويدعون أن ما جاءت به الأنبياء لا يناقض أصول الفلسفة وهذه طريقة القائلين بأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية وإذا كان كذلك فكلام الأنبياء حق باتفاقهم مع سائر أهل الملل وإذا كان كذلك فيقال من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست إعراضا قائمة بغيرها وأخبروا بأنهم يأتون بأخبار الأمور الغائبة وأنهم يفعلون أفعالا خارجة عن قدرة البشر كما أخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذهبوا منه إلى لوط

قال تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ

ص: 193

بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيم قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}

وقال تعالى {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً

ص: 194

سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} وهذه القصة مذكورة في التوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب كما هي مذكورة في القرآن مع العلم بأن كلا من النبيين موسى ومحمد لم يأخذها عن الآخر وهذا مما يوجب العلم بصحتها قبل ثبوت نبوتهما فإن الاتفاق على مثل هذه الحكاية من غير تواطؤ يمتنع في العادة فإذا اتفق إخبار المخبرين بمثل هذه القصة الطويلة التي يمتنع في العادة اتفاق

ص: 195

الاثنين فيها على الكذب من غير تواطؤ علم أنها حق فكان إخبار كل منهما بها دليلا على نبوته

وقال {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} فهذه القصة فيها إثبات الملائكة وأنهم أحياء ناطقون منفصلون عن الآدميين يخاطبونهم ويرونهم في صور الآدميين الأنبياء وغير الأنبياء كما رأتهم سارة امرأة الخليل عليه السلام وكما كان الصحابة يرون جبريل إذا جاء لما جاء في

ص: 196

وقال تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} فهذا الروح تصور بصورة بشر سوى وخاطب مريم ونفخ فيها

ومن المعلوم أن القوى النفسانية التي تكون في نفس النبي وغير النبي لا يراها الحاضرون ولا يكون منها مثل هذه الأحوال والأقوال والأفعال

ومريم لم تكن نبيه بل غايتها أن تكون صديقة كما قال {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}

وقد حكى الإجماع على انه لم يكن في النساء نبية غير واحد كالقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وخلاف ابن حزم شاذ مسبوق بالإجماع فإن دعواه أن أم موسى كانت نبية هي ومريم قول لا يعرف عن أحد من السلف والأئمة وقد ثبت في الصحيح عدد من كمل من النساء وليس فيهن أم موسى بل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت

ص: 198

عمران وآسية بنت مزاحم" يعني ممن قبلنا فذكرتا والتي حضنت موسى وفيمن كمل ممن ليس بنبي خديجة وآسية امرأة فرعون وغيرهما والأنبياء أفضل من غيرهم فلو كانت نبية لكان غير النبي أفضل منه أو غير الكامل أفضل من الكامل

وأيضا فإن الله وصف الملائكة بصفات تقتضي أنهم أحياء ناطقون خارجون عن قوى البشر وعن العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة فعلم أن الملائكة التي أخبرت عنها الأنبياء ليسوا مطابقين لما يقوله هؤلاء الذين يقولون أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية

ص: 199

وهذا كقوله {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وقال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فأخبر أن الذي جاء بالقرآن رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين وأنه مطاع ثم أمين وهذا يمتنع أن تكون صفة أعراض تقوم بنفوس البشر ولا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الذين يمنعون أن يكون لدعاء البشر تأثير في الملأ الأعلى وقد أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رآه بالأفق المبين وما يحصل في نفس الرسول لا يكون هنا ولا هنا

وغايتهم أن يقولوا هذا تخيل في نفسه وإن لم يكن موجودا في الخارج وحينئذ فيكون الرسول من جنس آحاد

ص: 200

المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك مما يراه آحاد الناس ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الخلق ولا يكون مثل هذا ذا قوة عند ذي العرش مكين ولا يكون مطاعا ثم أمين

ومنهم من يقول جبريل هو العقل الفعال الذي يفيض وليس بضنين أي بخيل بالفيض وهذا أيضا باطل من وجوه كثيرة

منها أن ذاك لا يتصور في صورة أعرابي ولا دحية ولا ضيف إبراهيم الخليل ولا لوط ولا في صورة بشر سوى فنفخ في مريم

ومنها أنه قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين والعقل الفعال ليس مطاعا ثم وغايته عندهم أن يتحرك الفلك الأسفل تشبها به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه وهم قد يقولون أن العرش هو الفلك التاسع وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن العرش فوق الفلك التاسع ليس هو إياه

وأيضا فإنه أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى وأنه رآه بالأفق المبين مرتين وقد ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وأنه رآه وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب وهذه الصفة

ص: 201

لا تنطبق على العقل الفعال فإنه لا يرى في موضعين ولا له أجنحة وهؤلاء القوم قد يقولون أن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم وقد يحسنون العبارة فيقولون لم يخبروا بالحقائق بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنتفع به العامة وأما الحقيقة فلم يخبروا بها ولا يمكن إخبار العامة بها وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين وقد بسطنا الكلام في إبطال هذا في غير هذا الموضع

ص: 202

ومن عرف مذهبهم وعرف ما قالته الرسل علم بالضرورة أن ما يقولونه مخالف لما يقوله الرسل لا موافق له فيلزم إما تصديق الرسل وتكذيبهم وإما تكذيب الرسل وتصديقهم وهم يؤمنون بالرسل من وجه ويكفرون بهم من وجه فلا يقولون إنهم كاذبون ولا جاهلون ولا يصدقونهم في كل ما أخبروا به ومن المعلوم أن المخبر بالخبر إذا لم يكن خبره مطابقا لمخبره فإما ان يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وهم يسلمون أن الرسل من أعلم الخلق بالحقائق وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به وأنهم من أبر الناس وأصدقهم فإذا كانوا مقرين بغاية الكمال لهم في العلم والصدق كان هذا مناقضا لما يذكرونه في إخباراتهم فإنها تستلزم إما تكذيبهم وإما تجهيلهم

ولهذا كان هؤلاء متناقضين في أمر النبوات فلا هم كذبوا بهم تكذيب المكذبين الذين كذبوا بالنبوات مطلقا ولا صدقوهم تصديق المؤمنين الذين آمنوا بهم مطلقا بل كانوا كمن آمن ببعض وكفر ببعض وهؤلاء من الكافرين حقا وهم من المنافقين المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وفيهم من يكثر نفاقة وزندقته وفيهم من يكون نفاقة أقل من نفاق غيره

وأيضا فإن الله تعالى يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ

ص: 203

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ يشاء} ففرق سبحانه بين الوحي وبين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء كما فرق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه لموسى عليه السلام كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء وهذا يناقض مذهبهم في الأصلين فإنهم لا يثبتون إلا ما هو من جنس الوحي والإلهام كالذي يسمونها القوة القدسية بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله فوق ما يثبتونه من القوة القدسية فدل على أن أحوال الرسل الذين يرسلهم الله إلى الأنبياء خارجة عن قوى النفس وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك كما قال الله تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (سورة الحج 75) فتبين أنه يصطفي رسلا من الناس ورسلا من الملائكة

وكذلك أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب كما أخبر أنه كلم موسى تكليما وكما قال تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وقال {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} وهذا يقتضي انه يكلم بعض عباده تكليما خارجا عن جنس

ص: 204

ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها وأيضا فإنه قد قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} فأخبر أنه أرسل مع الريح جنودا لم يرها المؤمنون وقال تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} فأخبر أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل مع ذلك جنودا لم يروها

وقال تعالى {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} وقال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} إلى قوله {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فقد

ص: 205

أخبر أنه أمدهم بجنود من الملائكة تنصرهم ففي تلك الآيات أخبر بنزول الملائكة بالعلم والوحي وفي هذه الآيات أخبر بنزولها بالنصر والقدرة وهذا يبين أن ما كان يحصل للرسول من العلم والقدرة من المكاشفة والتأثير في العالم حاصل بما هو خارج عن قوى نفسه من العلم الذي تنزل به الملائكة والنصر الذي تنزل به الملائكة وأيضا فقد قال الله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فهذه الآيات يخبر فيها بتوفي الملائكة للأنفس وخطابهم للموتى إما بخير وإما بشر وفعلهم ما يفعلونه بهم من نعيم وعذاب وكما قال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ

ص: 206

وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} وقال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وقال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ}

فهذه النصوص وأمثالها صريحة بإثبات الملائكة وأفعالها وكلامها وتأثيرها في العالم بالقول والفعل وهذا يبطل قولهم إن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا وحينئذ فما يحصل من خوارق العادات بأفعال الملائكة أعظم مما يحصل بمجرد القوى النفسانية والأنبياء أحق الناس بمعاونة الملائكة لهم وتأييد الله تعالى لهم كما أخبر الله سبحانه بذلك وأيضا فقد قال تعالى {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} وقوله في آخر السورة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ

ص: 207

مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} فأخبر أن الملائكة صافون يسبحون وأنها صافات صفا زاجرات زجرا وهذا مناقض لقولهم فإن العقول العشرة لا تصطف بل بعضهم فوق بعض في المرتبة والتعلق مع امتناع المصافة عليها عندهم والأعراض القائمة بالنفس يمتنع وصفها بما ذكره سبحانه وتعالى من الاصطفاف والزجر والتلاوة وغير ذلك من الصفات

وكذلك قوله تعالى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقد ثبت أن جبريل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا" فانزل الله هذه الآية وهذا يبين أن نزول جبريل إلى الأرض وأنه لا يتنزل إلا بأمر الله وعندهم يمتنع نزول ملك إلى الأرض ويمتنع أن يكون الله أمر جبريل بنزوله

وقال تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

ص: 208

ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فبين سبحانه أنهم عباد أكرمهم وأنهم لا يسبقونه بالقول فلا يقولون حتى يقول وهم بأمره يعملون فلا يعملون حتى يأمرهم وأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وأنهم من خشيته مشفقون

وهذا مناقض لقولهم فإن العقول عندهم بل العالم كله متولد عن الله تولدا لازما يمتنع معه خوفها أو أن يحدث لها من الله أمر أو قول أو يكون لها إليه شفاعة والشفاعة عندهم ليس معناها دعاء الله ورسوله كما هو مذهب المسلمين بل الشفاعة عندهم تعلق القلب بالوسائط حتى يفيض عليها بواسطة تلك الوسائط ما ينتفع به كما يفيض شعاع الشمس على الحائط بواسطة فيضه على المرآة وهذه من جنس الشفاعة التي يثبتها المشركون وهي التي نفاها الله في كتابه

ولما وقع في كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه ما هو من جنس كلام هؤلاء في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك حتى جعل خواص النبي ثلاثة كما تقدم ذكره وغير ذلك من كلامهم اشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام وتكلموا في أبي حامد وأمثاله بكلام معروف

ص: 209

كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما تكلم فيه أهل بيت القشيري وأتباعه والشيخ أبو البيان وأبو الحسن ابن شكر وأبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا وكما تكلم

ص: 210

فيه أبو بكر الطرطوشي وأبو عبد الله المازري وابن حمدين القرطبي وصنف في ذلك وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكما تكلم فيه

ص: 211

أبو الوفاء بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي وأبو محمد المقدسي وغيرهم وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة ومن أعظم ما تكلم فيه أئمة المحققين لأجله ما وافق فيه هؤلاء الصابئة المتفلسفين مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة وبين تهافتهم وكفرهم وبين أن طريقتهم لا توصل إلى حق بل ورد أيضا على المتكلمين ورجح طريق الرياضة والتصوف ثم لما لم يحصل مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف ومال إلى طريقة أهل الحديث فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم

والمقصود هنا أن ما ذكره الله في كتابه من شفاعة الأنبياء والملائكة نفيا وإثباتا يناقض قول هؤلاء كقوله تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

ص: 212

وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ويصعقون حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" وهذا المعنى ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه رواه البخاري من حديث أبي هريرة ورواه مسلم عن ابن عباس عن رجال من الأنصار

ص: 213

وهو معروف من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وعن ابن عباس وغيره وفيه بيان أنه لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له فلا بد من إذن للشفيع لا أن مجرد التوجه إليه ينفع المشفوع له وذلك يقتضي تجدد إذن للشفعاء وعندهم أنه لا يحدث من الله شيء للوسائط بل هي متولدة عنه لازمة لذاته أزلا وأبدا وفيه أنه يفزع عن قلوب الملائكة أي يزال الفزع عنها وقد وصف الملائكة في القرآن بالخشية والخوف وعندهم لا يتصور خشية لله ولا خوف قال الله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى في الشفاعة {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}

وقوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} يقتضي إذنا مستقبلا فإن أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وطرد هذا أن يقال مثل ذلك في كل ما جاء في القرآن من هذا الباب وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة وهو المنقول عن أئمة السلف وعليه تدل الدلائل العقلية السليمة عن التناقض

ص: 214

ومما يوضح الأمر في هذا الباب أن الله نزه نفسه عن الشريك والولد في غير موضع كقوله تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال الله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} وقال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (سورة المؤمنون 91) وقال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وقال تعالى {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} فنزه نفسه عن الولد والكفو وهذا القول يوجد في مشركي العرب وفي النصارى وغيرهم والذي يوجد في هؤلاء شر من هذا كله وذلك أن مشركي العرب والنصارى ونحوهم يقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن يثبتون تولدا من بعض الوجوه وهو تولد حادث كما تقوله النصارى في المسيح وكما كانت تقوله مشركو العرب في الملائكة ونحو ذلك وأما هؤلاء فيقولون إن

ص: 215

العقول والنفوس متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته والعالم متولد عن ذلك فالعالم كله متولد عندهم عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته وإن كانوا قد لا يعبرون بلفظ الولد فهم يعبرون بلفظ المعلول والعلة وهو أخص أنواع التولد ويعبرون بلفظ الموجب والموجب وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولد يبطل قولهم عقلا وسمعا وذلك أنه قال تعالى {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهؤلاء المتفلسفة يجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى قال سبحانه وتعالى {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وذلك أن التولد لا يكون إلا عن أصلين لا يكون عن واحد فيمتنع أن يكون له ولد من غير صاحبة وهو سبحانه لم يكن له كفوا أحد وهؤلاء جعلوه واحدا وجعلوا العالم معلولا عنه وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا باطل فإن الواحد البسيط لا يصدر عنه وحده شيء بل الواحد الذي قدروه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ولا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها فالاحتراق حاصل بسببين لا بسبب واحد وكذلك الشعاع وكذلك جميع الأمور قال الله تعالى {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال بعض العلماء تعلمون أن خالق الأزواج واحد وقال {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}

ص: 216

فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء ولا علة مستقلة بمعلولها من غير مشارك أصلا وما يذكره طائفة من أهل الكلام من كون العلم علة العالمية هو عند أكثرهم لا حقيقة له فليس العالمية زائدة على العلم وأهل الأحوال الذين أثبتوها زائدة علىالعالم قالوا أنها ليست وجودية فلم يكن في الوجود علة مستقلة بمعلولها من غير شريك لها فتبين أن ما ذكروه من أن الواجب علة مستقلة بمعلولها مخالف لما الوجود عليه ودعواهم أن الواحد البسيط يكون علة تامة مستقلة بمعلولها أمر مخالف لما الوجود عليه وهذا غير معلوم بالعقل بل هو باطل فيه ولكن المعلوم في العقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء معلول متولد عنه إلا بمقارنة شيء آخر له فلو كان العالم معلولا متولدا عن الله لكان له مقارنا يصدر التولد عنهما جميعا فإن التولد لا يكون إلا عن أصلين فإثبات التعليل والتولد يقتضي إثبات شريك في إبداع العالم وهذا لازم لهم لا محيد عنه من وجه آخر فإن الحوادث الموجودة في العالم لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية لأن تلك يلزمها معلولها فيكون قديما معها فلا يكون محدثا فوجب أن يكون للحوادث فاعل آخر غير العلة التامة القديمة وذلك أيضا يوجب إثبات مشارك لله يحدث الحوادث وهذا أيضا باطل فإن ذلك الذي قدر محدثا للحوادث إن كان محدثا فهو من جملة الحوادث التي تحتاج إلى فاعل محدث وإن كان قديما فقد صدرت الحوادث عن قديم فإن كان علة تامة أزلية امتنع حدوث الحوادث عنه وإن كان فاعلا باختياره يحدث عنه الحوادث بطل قولهم سواء قيل أنه صار محدثا للحوادث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث أو قيل أنه لم يزل فاعلا قادرا بفعل اختياري يقوم بنفسه.

ص: 217

فتبين أن القوم قولهم في إثبات الشريك والولد لله من شر أقوال من يقول بذلك وكل ما في القرآن من إبطال ذلك بالأدلة العقلية والخبرية يبطل قولهم لكن فهم هذا يحتاج إلى أن نفهم حقيقة أقوال الأمم ومراتبها وكيف يتناولها القرآن ويبطلها ويميز الحق من الباطل بالأدلة العقلية البرهانية كما قد بسط في غير هذا الموضع فهذا كله مما يبين أن الرسل أخبرت بالملائكة وأنهم عباد الله ليسوا متولدين عنه ولا خالقهم علة موجبة لهم وأنهم لا يتصرفون إلا بإذنه ولا يسبقونه بالقول وأنهم يخبرون الأنبياء بالغيب وأنهم يفعلون من خوارق العادات وغيرها ما فيه نصر الأنبياء وحجة لهم وهذا يبين أن هؤلاء الفلاسفة مناقضون للرسل فيما أخبرت به من أمر التوحيد والملائكة وأمر معجزات الأنبياء ويبين أن المعجزات خارجة عن قوى نفوس البشر وأن ما قاله هؤلاء في المعجزات قول بلا دليل وهو قول باطل مبني على أصل باطل مع أنا لا ننكر أن للقوى التي في النفوس وسائر الأجسام آثارا في العالم بحسبها كما تقدم لكن إضافة الخوارق إلى ذلك باطل كما لو أضافها مضيف إلى قوى الأجسام وادعى أنها من باب النيرنجيات التي هي قوى طبيعية كالقوى التي في حجر المغناطيس فإنه يعلم بوجوه كثيرة أن معجزات الأنبياء خارجة عن هذا الجنس وهذا الجنس وإن كان القائل أن معجزات الأنبياء قوى

ص: 218

نفسانية ممن يكذب مطلقا أثبتنا بعض ماغ ذكرناه من المعجزات بطرق متعددة كالأخبار المتواترة وكتطابق السنن على الإخبار بما يمتنع الاتفاق عليه من غير تواطؤ وغير ذلك

الوجه التاسع أن يقال تأثير النفوس مشروط بشعورها فإن النفس حية مريدة تفعل بإرادتها ففعلها مشروط بإرادتها والفعل الاختياري الإرادي مشروط بالشعور وخوارق العادات التي للأنبياء منها ما لا يكون النبي شاعرا به ومنها ما لا يكون مريدا له فلا يكون ذلك من فعل نفسه بل ومنها ما يكون قبل وجوده ووجود قدرته ومنها ما يكون بعد موته ومفارقة نفسه لهذا العالم ومن المعلوم أن ما يكون قبل أن تصير لنفسه قوة ونحو ذلك يمتنع أن يكون مضافا إلى قوته فإن المعدوم لا قوة له وذلك مثل قصة أصحاب الفيل التي أنزلها الله لما أتى بالفيل إلى مكة وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكان أهل الفيل نصارى ودينهم كان خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك فإنهم كانوا مشركين ودين النصارى خير من دين المشركين الذين يعبدون الأوثان لكن كان ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم المبعوث بحرمة البيت وكان عام الفيل عام مولده صلى الله عليه وسلم قبل مولده بنحو خمسين ليلة ولم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ولا شعور بما جرى ولا إرادة له في ذلك وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده صلى الله عليه وسلم وكذلك إخبار الكهان بأموره وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب وما وجد مكتوبا عند أهل

ص: 219

الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته وأمر الناس باتباعه أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته كائنة قبل مولده وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقير وانجذاب القلوب إليه ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوى إليه ما لا يعلمه إلا الله وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم والذي بناه قد مات من ألوف سنين ولهذا كان أمر البيت مما حير هؤلاء الفلاسفة والمنجمين والطبائعية لكون خارجا عن قياس عقولهم وقوانين علومهم حتى اختلفوا لذلك من الأكاذيب ما يعلمه كل عاقل لبيب مثل قول بعضهم أن تحت الكعبة بيتا فيه صئم يبخر ويصرف وجهه إلى الجهات الأربع ليقبل الناس إلى الحج

ص: 220

وهذا مما يعلم كل من عرف أمر مكة أنه من أبين الكذب وأنه ليس تحت الكعبة شيء من هذا وأنه لا ينزل أحد من أهل مكة إلى ما تحت الكعبة ولا يحفره أحد ولا يبخر أحد شيئا هناك ولا هناك صنم ولا غير صنم وكان ابن سبعين وأمثاله من هؤلاء يحارون من هذا وربما قالوا ليت شعرنا ما هو الطلسم الذي صنعه إبراهيم الخليل حتى صار الأمر هكذا وهم يعلمون أن أمور الطلاسم لا تبلغ مثل هذا وأنه ليس في الأرض ما يقارب هذا وأن الطلاسم أمور معتادة معروفة بأسباب معروفة ولهذا يصنع الرجل طلسما ويصنع الآخر مثله أو أعظم منه وأما هذا فخارج عن قدرة البشر وليس في الوجود طلسم يستحوذ على أهل الأرض ولا يتصرف في قلوب أهل الأقاليم الثلاثة وهم أفضل الإنس وأكملهم عقولا وأديانا والطلاسم إنما يقوى تأثيرها إذا ضعف العقل فيؤثر في الجماد أكثر من الحيوان ويؤثر في البهائم أكثر من الأناسي ويؤثر في الصبيان والمجانين أكثر من العقلاء وهكذا تأثير الشياطين كلما ضعفت العقول قوى تأثيرهم وأما البيت والقرآن والنبوة فإنما قوى تأثيرها في أكمل الناس عقلا وأتمهم علما ومعرفة والإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها كما قال صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها" وانتشر في الأقاليم المتوسطة الثالث

ص: 221

والرابع والخامس الذين هم أعدل وأكمل من غيرهم فتبين أن تأثير النبوات على خلاف تأثير السحر والطلاسم فتلك يقوى تأثيرها عند ضعف العقل وهذه يكمل تأثيرها عند قوة العقل فتبين أن هذه ليست تأثير مجرد قوى البشر لا نفوسهم ولا أبدانهم ولا قوى الأجسام الطبيعية ولا القوى الفلكية الممزوجة بالقوى العنصرية بل أمر خارج عن هذا كله وإذا قدر أن لبعض هذه في بعض ذلك معونة مثل أن يقال أن صدق إبراهيم في دعائه وكمال تمكينه وعلمه وخلته لله اوجب إجابة الله دعاءه فهذا حق لا ننكره فإنا لا ننكر حصول خوارق العادات بإجابة الدعوات لكن المنكر أن يقال مجرد قوة النفس التي تصرفت في العالم من غير أن يكون الله هو الذي أحدث بذلك الدعاء من الأسباب الإلهية ما فعل بها ذلك المخلوق فالدعاء سبب وقد علم غير مرة أن السبب لا يستقل بل له مشاركات وموانع وليس هو سببا مقتضيا للمسبب بنفسه ولكن هو سبب لأن يجيب الله الدعاء كما أن العمل الصالح سبب لأن يثيب الله عبده في الآخرة وأن الناس يحبونه ويثنون عليه ولا يمكن أن

ص: 222

يقال أن قوة أحد البشر أو عمله الصالح هو الذي أوجب بنفسه محبة الخلق وثناءهم ودعاءهم أو الثواب في الدار الآخرة بل هذا سبب لما يفعله الله بمشيئته وقدرته ما يخلقه في نفوس عباده الملائكة والجن والبشر مما يفعلونه باختيارهم وقدرتهم التي يخلقها الله فالدعاء سبب الإجابة والعمل سبب الإثابة قال الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فأمرهم أن يستجيبوا له وأن يؤمنوا به أنه يجيب دعاءهم واستجابتهم له وطاعتهم لأمره وذلك سبب الإثابة كما أن الدعاء سبب الإجابة وأيضا فما حصل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مثل حفظ الله للكتاب الذي جاء به وإبقائه مئين من السنين مع كثرة الأمة وتفرقها في مشارق الأرض ومغاربها والكتاب بعد هذا محفوظ وكذلك الشريعة محفوظة فهذا أمر خارق خارج عن مقدوره ولم تبق شريعة مثل هذه المدة الطويلة إلا شريعة موسى وإلا فالملوك والفلاسفة لهم نواميس وضعوها لا تبقى إلا مدة يسيرة وأما البقاء مثل هذه المدد مع كون الكتاب محفوظا فليس هذا إلا للأنبياء

وأيضا فما جعله الله في القلوب قرنا بعد قرن من المحبة والتعظيم والعلم بعظيم منزلته وعلو درجته من غير مكره يكره القلوب على العلم والمعرفة ومع كمال عقول الناظرين في ذلك فإن كل من يعرف أحوال الأمم يعلم أن أمة محمد أكمل الأمم

ص: 223

عقلا وعلما وخلقا ودينا ويعلم أن من كان أعظم علما وعقلا كان أعلم بعظمة قدر الرسول فهذا العلم والتعظيم والمحبة القائمة في قلوب الخلق من أعظم الأمور الخارقة للعادة وهي أمور خارجة عن قوى البشر

وكذلك ما في القلوب لإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وغيرهم كما قال تعالى {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال تعالى لموسى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} .

ونحو ذلك فهذا الثناء والمحبة والدعاء والتعظيم الذي للأنبياء وأتباعهم خارج عن قوى أنفس الأنبياء وكذلك اللعن والبغض الذي جعل الله للكفار وأتباعهم في قلوب المؤمنين

ص: 224

خارج عن قوى أنفس الأنبياء فإن هذا كله بعد موتهم ونظائر هذا كثيرة الوجه العاشر أن يقال إن الناس تنازعوا في النبوة هل هي مجرد صفة قائمة بنفس النبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة أو مجرد تعلق خطاب الله بالنبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الأشعرية ونحوهم أو هي مجموع الأمرين كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال كما اختلفوا على هذه الأقوال الثلاثة في الأحكام الشرعية وحينئذ فالقائل أن قال أن النبي خص بقوى في نفسه يمتاز بها عن غيره في علمه وعمله فهذا مما يقر به الجمهور ولا ريب في تفضيل الله للأنبياء بفضائل في أنفسهم وأن من خصه الله بالفضائل فقد أراد به خيرا كما قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي وخاف على نفسه: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فاستدلت بعقلها على أن من جعل الله فيه هذه المحاسن والمكارم التي جعلها من أعظم أسباب السعادة لم تكن من سنة الله وحكمته وعدله أن يخزيه بل يكرمه ويعظمه فإنه قد عرف من سنة الله في عباده وإكرامه لأهل الخير وإهانته لأهل الشر

ص: 225

ما فيه عبرة لأولى الأبصار فإن الناس قد عرفوا بالآثار الموجودة المعاينة في الأرض والأخبار المتواترة عاقبة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأتباعهم وعاقبة من كذب هؤلاء وعلموا إكرام الله لهؤلاء ونصره لهم وعقوبته لهؤلاء وإهانته لهم وعلموا أيضا عاقبة أهل العدل والإحسان من الولاة والرعايا وعاقبة أهل الظلم والشر من هؤلاء وهؤلاء وهذا أمر موجود في جميع الأمم عربهم وعجمهم على اختلاف أصناف العجم من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم وقد قال تعالى {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} وقال تعالى {قَدْ

ص: 226

خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وهذا باب واسع ولهذا دعا الله الخلق إلى الاعتبار بالعقل المستند إلى الحس وبين أن ذلك موافق لما جاءت به الرسل من السمع قال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فأخبر أنه سيرى الخلق من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أن القرآن الحق فيتطابق السمع المنقول وما عرف بالحس المعقول وقال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وقال تعالى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وقال عن أصحاب النار {ووَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا

ص: 227

أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ومثل هذا كثير

والمقصود هنا أن الأنبياء خصهم الله بفضائل ومحاسن ومكارم أخلاق يميزهم بها عن غيرهم فمن قال أن الله خص النبي بقوى في نفسه وأراد بذلك إثبات خصائص وفضائل له فهذا حق وإن قال إن هذه الخصائص تكون أسبابا لخوارق عادات يكرمهم الله بها وتكون معجزات وكرامات أو قال نفس هذه الخصائص والفضائل مما خرقت له فيها العادة فهذا مما لا ينكر ولكن يبقى الكلام في أمور: أحدها أنه لا يظن أن جميع خوارق العادات هذا سببها فإن هذا باطل قطعا فلا ينكر أن يكون الله خص الأنبياء بفضائل خرق لهم بها العادة ولا ننكر أن تكون تلك الفضائل سببا لخرق عادات أخرى لكن دعوى المدعي أن تلك القوى التي فضلوا بها على غيرهم هي الموجبة لما جاءوا به من أنواع الآيات والإخبارات الإلهيات وأنواع المعجزات الخارقة للعادات الحاصلة في العالم في السموات والأرض والهواء والسحاب والحيوان والأشجار والجبال وغير ذلك هو الباطل لأن من هذه الأمور ما لا يمكن أن تكون قوى النفس سببا له إما لعجزها عن ذلك أو لعدم قبول ذلك لتأثير النفوس كما أن النفوس لا تكون موجبة لوقوف الشمس وانشقاق القمر واهتزاز العرش وانتثار الكواكب وانقلاب الخشب حية عظيمة وخروج الناقة من تراب وإحياء الموتى والحيوان

ص: 228

وإحياء الطيور الأربعة بعد تمزيقها وإنزال المائدة وغير ذلك مما نبه عليه

الوجه الثاني أنه لا يظن أن هذا هو مجرد النبوة وأن من حصلت له هذه الخصال التي ذكروها فقد صار نبيا فإن كثيرا من آحاد المؤمنين تحصل له هذه الثلاث وما هو أكمل منها تحصل له قوة علمية في نفسه وقوة عملية في نفسه يكون بها مؤثرا ويحصل له إحساس باطن فيرى ويسمع في باطنه وهو من آحاد المؤمنين فمن جعل هذا حد النبي ومنتهاه كان مبطلا جاحدا لحقيقة ما خص الله به أنبياءه

والمقصود أن ما أثبتوه من الفضائل الثابتة للأنبياء لا تنكر إذا كانت حقا لكن اقتصارهم على هذا الحد باطل وجعلهم أن هذا هو السبب لخوارقهم باطل

الوجه الثالث أن تعرف أن النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب فإن هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره ولا قدروا الأنبياء قدرهم لما ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرأة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس وأن حصول النبوة ليس هو أمرا يحدثه الله بمشيئته وقدرته وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل صار كثير منهم يطلب النبوة كما يحكى عن طائفة من قدماء اليونان وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام

ص: 229

ولهذا عظم نكير الناس على صاحب كيمياء السعادة وصاحب المضنون به على غير أهله ومشكاة الأنوار لما كان في كلامه ما هو من جنس كلام هؤلاء الملاحدة وقد عبر عنه بالعبارات الإسلامية والإشارات الصوفية وبسبب ذلك اغتر صاحب خلع النعلين وابن سبعين وابن عربي وأمثالهم ممن بنى على هذا الأصل الفاسد بل لا بد في النبوة من إيحاء إلهي يختص الله به من يخصه بذلك من عباده بمشيئته وقدرته وهو سبحانه عالم بذلك النبي وبما يوحيه إليه من الوحي وبقدرته خصه بما خصه به من كراماته فهؤلاء الملاحدة يدعون أن خطابه لموسى بن عمران ليس هو إلا ما حصل في نفس موسى من الإلهام والإيحاء والواحد من أهل الرياضة والصفاء قد يخاطب كما خوطب موسى بن عمران وأعظم من ذلك وأنه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى كما زعم ذلك صاحب الأحياء في بعض المواضع وأن قيل أنه رجع عن ذلك

ومن هؤلاء من يقول أن الخطاب الذي يحصل لهم أفضل مما حصل لموسى وغيره وهذا مذهب ابن العربي صاحب الفتوحات المكية وأمثاله ممن يدعي أن ما حصل لموسى ومحمد أنما كان بواسطة الخيال النفساني الذي هو عنده جبريل وأن ما يحصل لابن عربي هو فوق ذلك فإنه

ص: 230

يأخذ من المعدن العقلي المحض الذي يأخذ منه الملك الذي هو عندهم خيال في نفس النبي ومرتبة العقل فوق مرتبة الخيال فلما اعتقدوا أن الملائكة التي تخاطب الأنبياء إنما هي خيالات تقوم بنفس الأنبياء زعموا أنهم إذا اخذوا عن العقل المحض كانوا قد أخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة الذين أخذ عنهم الأنبياء فكانوا أفضل من الأنبياء عند أنفسهم وعند أتباعهم فهذا ونحوه مما يعلم بالاضطرار من دين الرسل أنه كفر وباطل من دينهم فمن فهم القرآن وفهم كلام هؤلاء لزمه أحد أمرين إما تكذيب القرآن وإما تكذيب هؤلاء وإلا فقولهم وما جاء به الرسول متناقض تناقضا يعلمه كل من فهم كلامهم وكلام الأنبياء ولا يتصور أن يقول هذا وأن يوافق على هذا الكلام إلا أحد رجلين إما جاهل لا يعلم حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء بل هو عنده تعظيم مجمل للأنبياء وهؤلاء كالذين كانوا يعظمون محمدا ومسيلمة

ص: 231

ويقولون نشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وهذا الضرب كثير فيمن لم يعرف حقيقة النبي الصادق والمتنبي الكذاب ويوجد كثير من هؤلاء في المنتسبين إلى الفقه والحديث والتصوف والزهد والعبادة والملك والإمارة والوزارة والكتابة والقضاء والفتيا والتدريس وفيمن له دعوات مجابة وفيه صلاح وزهد وعبادة وذلك لنقص معرفتهم بكمال النبوة والرسالة وحقيقة أقوال من يناقضها من بعض الوجوه دون بعض

وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فلا بد عند حدوث المرتدين من وجود المحبين المحبوبين كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإخوانه يقاتلون المرتدين عقيب وفاة خاتم المرسلين وما حدث من الفتنة في الدين وأما منافق زنديق يعرف مناقضة هذا لهذا لكنه يظهر الموافقة والائتلاف لاعتقاده أن النبوة من جنس حال هؤلاء ويلبس ما يقوله على من لم يعرف حقائق الأمور ومن هؤلاء من لا يكون قصده الزندقة والنفاق لكن لا يكون عارفا بحال الرسول وقدر ما جاء به ولكنه يعظمه تعظيما مجملا ويرى هؤلاء قد تكلموا في النبوة وحقيقتها بكلامهم وهو عاجز عن معرفة حقيقة الأمر فيعتقد هذا في النبوة وهؤلاء يكثرون

ص: 232

في أماكن الفترات التي تضعف فيها آثار النبوة إذا لم يكن هناك من يقوم بحقائقها وهؤلاء يكونون في الدول الجاهلية كدولة بني عبيد ودولة التتار ونحوهم ومن هؤلاء من يغفر الله له فإنه إذا اجتهد وسعه في الإيمان بالرسول ولم يبق له قدرة على أكثر مما حصل له من الإيمان به لم يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن كان قوله بعد قيام الحجة عليه كفرا كالذي قال لأهله إذا انا مت فاسحقوني ثم اذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين والحديث في الصحيحين من غير وجه فإن هذا جهل قدرة الله على إعادته ورجا أنه لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة ومع هذا لما كان مؤمنا بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده خائفا من عذابه وكان جهله بذلك جهلا لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله غفر الله له ومثل هذا كثير في المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأولين ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة والمقصود هنا أن نبين أن ما أثبته هؤلاء في فضائل الأنبياء الثابتة فهو حق ولكن جهلهم وكفرهم فيما أنكروه وكذبوا به وما قالوه من الباطل من هذه الوجوه الثلاثة وغيرها فالوجهان الأولان الباطلان أبطلوا بهما كون الله هو الخالق بقدرته ومشيئته لمخلوقاته وأبطلوا ما خلقه من الملائكة والجن وغير ذلك مما لا يعرفونه وأبطلوا ما امتازت به الأنبياء على غيرهم وجعلوا الأنبياء من جنس العارفين المعرفة المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين

ص: 233

فلهذا صارت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب أن يصير نبيا من متقدميهم ومتأخريهم وصار منهم من يظن أنه نبي وأنه يضع ناموسا ينسخ به شرائع الأنبياء كما جرى لأئمة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم والذي يقرون به من النبوة يحصل وما هو أعلى منه لآحاد الناس الذين فيهم فضيلة علمية وعملية لكن أهل العلم والإيمان بالرسل يعلمون أن نسبتهم إلى الأنبياء من جنس نسبة أهل الرؤيا الصادقة إلى الأنبياء فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما في السنن عنه أنه قال: "الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"

ص: 234

فلا ريب أن الشيء يكون جزءا من النبوة أو الإيمان ويكون من أصغر الشعب والأجزاء كإماطة الأذى في الإيمان أو كالرؤيا في النبوة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أنه لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ولهذا كان هذا الجزء أول بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تدريجا له كما في الصحيح عن عائشة قالت: " أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد " الحديث

ص: 235

وإذا كان بعض أجزاء النبوة يحصل لآحاد المؤمنين وليس هو نبيا تبين أن ما يذكره هؤلاء من الحق هو جزء من أجزاء النبوة وما يذكرونه من الباطل هو مردود عليهم وقد تبين أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوى النفسانية والطبيعية في العالم العلوي والسفلي وتبين أن الله سبحانه خالق كل شيء بمشيئته وقدرته وأنه يخلق ما يشاء بالأسباب التي يحدثها وللحكمة التي يريدها

ص: 236

وهذا قدر ما احتملته هذه الأوراق في جواب هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة تبنى عليها أصول العلم والإيمان أجبنا فيها بحسب ما احتمله الحال وفيها من البسط والقواعد الشريفة ما يعرفه من عرف كلام الناس في هذا الباب وإن كان ما يجب لله ورسوله من الحق أعظم من هذا الخطاب فإن تمام البسط في الرد على هؤلاء لا يناسب هذا الموضع ولكل مقام مقال ولكن نبهنا على المآخذ التي تعرف منها حقيقة قولهم وفساده فإن هؤلاء أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم وهم يكثرون ويظهرون في ما يناسبهم من الدول الجاهلية كدولة القرامطة الباطنية العبيدية ودولة التتر ونحوهم من أهل الجهل والضلال وفي دول أهل الردة والنفاق

وذلك أن هؤلاء أعظم جهلا وضلالا من اليهود والنصارى والمجوس ومشركي العرب والهند والترك وكثير من الصابئين فإن أكثر المشركين يقرون بأن العالم محدث وأن الله يفعل بمشيئته وقدرته وكذلك الصابئة الحنفاء على هذا القول وهو قول أساطين الفلاسفة القدماء الذين كانوا قبل أرسطو طاليس وإنما ظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة المشهورين من جهة أرسطو وأتباعه وهو المعلم الأول الذي

ص: 236

وضع التعاليم التي يقرونها من المنطق والطبيعي والإلهي وظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة من هذه الجهة

ص: 237

وهذا الرجل وأتباعه إنما عامة كلامهم في الطبيعيات فهي علم القوم الذي شغلوا به زمانهم وأما الإلهيات فكلام الرجل فيها وأتباعه قليل جدا إلى غاية ولكن ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية وهم في الباطن يقولون أن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر وإنما هو تخييل وتمثيل وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم وإن كان مخالفا للحق في نفس الأمر وقد يجعلون خاصة النبوه هي التخييل ويزعمون أن العقل دل على صحة أصولهم وأكثر الناس لا يجمعون بين معرفة حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء ولا يعقلون لوازم قولهم التي بها يتبين فساد قولهم بالعقل الصريح ثم إن كثيرا من الناس آخذ مذاهبهم فغير عباراتها وربما عبر عنها بعبارات إسلامية حتى يظن المستمع أن قول هؤلاء هو الحقيقة التي بعثت بها الرسل ودلت عليها العقول كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأصحاب دعوة القرامطة الباطنية حيث عبروا بالسابق والتالي عن العقل والنفس ويحتجون على ذلك بالحديث الذي يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما خلق الله العقل" ثم إن هذه الأمور راجت على كثير من أهل التصوف والكلام والتأله والنظر كصاحب جواهر القرآن

ص: 237

ومشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها ومن سلك هذا المسلك مثل أصحاب البطاقة وابن أجلى والشوذي وصاحب خلع النعلين وابن العربي الطائي وابن سبعين وغيرهم وكثير من الناس تجده تارة مع أهل الكلام وتارة مع أهل الفلسفة كالرازي والآمدي وغيرهما وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث أول ما خلق الله العقل وما يتعلق به وتكلمت على ما ذكره ابن سينا في شفائه في واجب الوجود وما ذكره ابن سبعين وابن العربي وغيرهم في غير هذا الموضع وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث كما ذكر أبو حاتم البستي وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما ومع هذا فلفظه أول ما خلق الله العقل قال

ص: 238

له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب فهذا الحديث الذي يحتجون به من جهة الشريعة يدل على نقيض مقصودهم من وجوه كثيرة منها أن قوله أول ما خلق الله العقل قال له يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيدا سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فأول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبد الملك ومنه قوله تعالى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} مصدر أدبر يدبر إدبارا

ومنها أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله:

ص: 239

ما خلقت خلقا أكرم علي منك وعندهم هو أول المبدعات ومنها أن هذا يقتضي أن العقل مخلوق وحقيقة الخلق منتفية عندهم عن العقل الأول بل عن العالم وإنما هو عندهم معلول ومبدع لكنهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون العالم محدث ومخلوق ويعنون بقولهم محدث أنه معلول ممكن بنفسه واجب بغيره وأن وجوده من غيره لا من نفسه وكذلك يعنون بقولهم مخلوق لكن من المعلوم بالاضطرار أن أهل اللغة لا يريدون بقولهم هو محدث ومخلوق هذا المعنى المتضمن أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال بل الحدوث عندهم يناقض القدم وكذلك الخلق ولا تحتمل اللغة بوجه من الوجوه أن القديم الذي لم يزل ولا يزال يقال له محدث ومخلوق والمخلوق عندهم أبلغ من المحدث والحادث فكل مخلوق فهو محدث وحادث باتفاق أهل اللغة وأهل الكلام وأما أن كل حادث ومحدث فهو مخلوق فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر واللغة لا يوجب أن كل ما كان حادثا يسمى مخلوقا لأن المخلوق هو الذي خلقه غيره والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير وأما لفظ حادث فلا يقتضي أنه مفعول ولو قيل محدث فمعنى الخلق أخص من معنى الحدوث ومنها أنه قال في هذا الحديث فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب فأخبر أنه يفعل به هذه الأمور الأربعة وهذا ينطبق على عقل الإنسان الذي هو عرض فيه وأما العقل الذي يدعونه فهو عندهم أبدع السماوات والأرض وما بينهما فهو عندهم رب جميع العالم فأين هذا من شيء يفعل الله بن أمورا أربعة والكلام على هؤلاء مبسوط في غير هذا الموضع

ص: 240

والمقصود هنا أن قول هؤلاء هو من أفسد أقوال أهل الأرض وأن قول جمهور الصابئين والمشركين والمجوس خير من قولهم فضلا عن اليهود والنصارى

ص: 241

يبين ذلك أن هؤلاء الأمم عامتهم يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن فالمشركون من العرب والهند والترك والنبط وغيرهم من الأمم وأهل السحر منهم والكهانة وغيرهم معترفون بوجود الجن وبأنهم يخاطبونهم ويدعونهم ويقسمون عليهم وعند أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم ويعبدونها ويسجدون لها كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك وكا يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء وأنهي يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيرا من حوائجه ويسمونها روحانية الكوكب فهؤلاء المشركون والصابئون من أنواع الأمم الفلاسفة وغيرهم معترفون بوجود الجن المنفصلين وتأثيرهم في العالم وإخبارهم بالأمور وغير ذلك من أحوالهم

فتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون أن أسباب

ص: 241

الغرائب منحصرة في القوى الفلكية والطبيعية والنفسانية الآدمية أجهل وأضل من المشركين والصابئين ومما يوضح الأمر في ذلك أن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع فإن هؤلاء نوعان طبائعيون والهيون فأما الطبيعيون فلا يقرون بوجود موجود وراء الفلك وما يحويه وحقيقة قولهم أن العالم واجب الوجود بنفسه ليس له مبدع ولا فاعل وهذا هو التعطيل الذي كان يعتقده فرعون حيث أنكر رب العالمين وقال لموسى على سبيل الإنكار وما رب العالمين فاستفهمه استفهام إنكار لا استفهام استعلام كما يظنه من يزعم أنه سأل موسى عن الماهية والمسئول عنه ليس له ماهية فعدل موسى عن ذكر الماهية فإن هذا قول باطل وإنما كان استفهام فرعون استفهام إنكار وجحود ولهذا أجابه موسى بما يقيم الحجة عليه ويبين أن الرب معروف معلوم لا سبيل إلى إنكاره وجحده وكان فرعون مقرا به في الباطن وإن جحده في الظاهر كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} وهذا القول الذي أظهره فرعون هو قول المعطلة من الطبيعين وأما الإلهية الدهريون الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن علة قديمة كابن سينا وأمثاله فهؤلاء وإن

ص: 242

كانوا مقرين بمبدع هذا العالم فقولهم مستلزم لقول أولئك المعطلة وإن كانوا لا يلتزمون قولهم وذلك أن الموجودات العقلية التي يثبتها هؤلاء من واجب الوجود كالعقول العشرة هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والواحد المجرد الذي يقولون أنه صدر عنه العالم لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والوجود المطلق الذي يقولون أنه الوجود الواجب إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان وأيضا فهم يثبتون أنه لا بد في الوجود من موجود واجب وهذا متفق عليه من العقلاء سواء قالوا بقدم العالم أو بحدوثه وسواء جحدوا الخالق أو أقروا فإثبات موجود واجب بنفسه لا يتضمن الإقرار بالصانع إن لم يثبت أنه مغاير للعالم وقد بسطنا القول في غير هذا الموضع وبينا أن الطريقة التي سلكها ابن سينا وأتباعه في إثبات الصانع وفي إثبات واجب الوجود هي أضعف الطرق وأقلها فائدة وإن كان أتباعه كالسهروردي المقتول وكالرازى والآمدي وغيرهم يعظمونها فإن غايتها إثبات موجود واجب وهذا لا نزاع فيه وإنما الشأن في كون الواجب مغاير لهذا العالم وهم بنوا ذلك على طريقة نفي الصفات وهي توحيدهم الذي بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع فانهم ادعوا أن الوجود الواجب لا يكون إلا بسلوب الصفات لأن إثباتها يقتضي التركيب والواجب لا يكون مركبا وقد تقدم التنبيه على ما في هذا الكلام من التلبيس والفساد قالوا والعالم حامل الصفات مركب فلا يكون واجبا

ص: 243

وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا نتم إلا بنفي الصفات ونفي الصفات باطل كان طريقهم في إثبات الصانع باطلا ولهذا كان الصانع الذي يثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان فقولهم يستلزم التعطيل

ص: 244

وهكذا أقوال من نسج على منوالهم وأخذ معانيهم فاخرجها في قالب المكاشفة والمشاهدة والتحقيق والعرفان كابن عربي وأمثاله ومن سلك هذا المسلك كابن سبعين وغيره فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع وأنه ليس وراء الأفلاك شيء فلو عدمت السموات والأرض لم يكن ثم شيء موجود ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقا له ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور وكان لا يحرم الفواحش ولا المنكرات ولا الكفر والفسوق والعصيان وكان يقول عن شيخه ابن عربي وصاحبه القونوي أحدهما روحاني متفلسف يعني ابن عربي والآخر فيلسوف متروحن يعني القونوي وإنما حرر مذهب التحقيق أنا يعني نفسه وهو كما قال فإن تحقيقهم الذي حقيقته التعطيل للصانع وجحده وأنه ليس وراء العالم شيء لم يحققه أحدهما كما حققه التلمساني وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشف له أسرارهم أنه قرأ عليه فصوص الحكم لابن عربي قال فقلت له هذا الكلام يخالف القرآن فقال القرآن كله شرك وإنما التوحيد

ص: 244

في كلامنا قال فقلت له فإذا كان الكل واحد فلماذا تحرم على ابنتي وتحل لي زوجتي فقال لا فرق عندنا بين الزوجة والبنت الجميع حلال لكن المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرم عليكم وقال أيضا لما قرأ عليه مواقف النفري جعلت أتأول موضعا بعد موضع إلى أن تبين مراده الذي لا يمكن تغطيته وأنه يقول بالوحدة فقلت هذا يخالف الكتاب والسنة والإجماع فقال إن أردت هذا التحقيق فدع الكتاب والسنة والإجماع فقلت هذا لا سبيل إليه ونحو هذا الكلام ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وهذا غاية التعطيل وأما الإيمان باليوم الآخر فادعى ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة وأنه يسمى عذابا من عذوبة طعمه وأنشد في

ص: 245

كتاب الفصوص:

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

وما لوجود الحق عين تعاين

فإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

على لذة فيها نعيم مباين

نعيم جنان الخلد فالأمر واحد

وبينهما عند التجلي تباين

يسمى عذابا من عذوبة طعمه

وذاك له كالقشر والقشر صاين

ولهذا قال بعض أصحابنا لبعض أتباع هؤلاء لما أثاروا محنة أهل السنة التي انتصروا فيها لهؤلاء الملاحدة قال له الله يذيقكم هذه العذوبة وهذا المذهب قد حكاه أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته عن طائفة من سواد أهل الإلحاد سموهم

ص: 246

البطيخية وهو مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام

وأما الإيمان بالرسل فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وهذا مناقض للعقل والدين كما يقال في قول القائل فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإنه من المعلوم بالعقل أن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس ومن المعلوم في الدين أن أفضل الأولياء يستفيدون من الأنبياء وأفضل الأولياء من هذه الأمة هم صالحو المؤمنين الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}

وأفضل هؤلاء أبو بكر وعمر باتفاق أئمة السلف والخلف والشيعة يفضلون عليا واتفق المسلمون على أن أفضل الأولياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو بكر وأما علي وإن كان بعض الناس يحكي خلافا في غيرهما من الصحابة ومن قال من مخطئي الصوفية أنه قد يمكن أن يكون في المتأخرين من هو أفضل من أبي بكر وعمر كما ذكره الترمذي الحكيم في كتاب خاتم الأولياء واتبعه على ذلك

ص: 247

ابن حمويه وأمثاله فهؤلاء مخطئون في ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والترمذي مع فضله وعلمه لما صنف كتاب خاتم الأولياء أنكر المسلمون عليه ذلك وأخرجوه كما ذكر ذلك أبو عبد الرحمن السلمي في محنة الصوفية وقال إنهم نفوه وأخرجوه من بلدته وشهدوا عليه بالكفر وذلك بسبب تصنيف كتاب خاتم الولاية ونسبوه إلى القبائح في الدين وجاء إلى بلخ فقبله أهل بلخ بسبب موافقته إياهم على المذهب وفي هذا الكتاب من الكلام الباطل ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام وهو الذي فتح الكلام في ختم الأولياء حتى جاءه هؤلاء المتأخرون الذين يدعي كل منهم أنه خاتم الأولياء كابن عربي وابن حمويه وغيرهما وأتى بالعظائم التي لم يسبق إليها الترمذي ولا غيره وفي كلام هؤلاء ونحوهم تفضيل بعض الأولياء على الأنبياء أو بعضهم وشيوخ الصوفية متفقون على تفضيل الأنبياء على الأولياء كما اتفق على ذلك سائر علماء المسلمين وقد ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتابه اعتقاد الصوفية إجماع الصوفية على ذلك

ص: 248

وهؤلاء الملاحدة من المتصوفة سلكوا مسلك ملاحدة الفلاسفة في تفضيل الفيلسوف الكبير على النبي ولهذا قال ابن عربي إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى النبي وهذا قول من يقول من الكلابية أن جبريل أخذ القرآن عن الله إلهاما وعبر عنه بعبارته وهذا قول يخالف الكتاب والسنة والإجماع كما بسط الكلام عليه في مواضع أخر وقد يقال أن هذا مبني على أصل ملاحدة الفلاسفة وذلك أن المعدن الذي يأخذ منه النبي عندهم هو العقل الفعال والقوة العقلية التي يسمونها القوة القدسية ثم إن النفس تخيل ما يعقله الإنسان كما يتخيله النائم في منامه فيرى في نفسه صورا نورانية ويسمع أصواتا وهي في نفسه فيما يراه النبي ويسمعه عندهم هو في نفسه لا في الخارج وهذا يقع الصحيح منه لعامة المؤمنين ويقع فاسده لأهل الماخوليا ونحوهم من الممرورين والصور الخيالية التي في نفس النبي وغيره هي الملائكة عندهم فلهذا قال ابن عربي أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإنه على لأصله في الإلحاد يقول يأخذ من العقل الذي هو القوة القدسية والنبي يأخذ من الصور الخيالية التي تأخذ من العقل ومن أخذ من العقل كان أكمل ممن يأخذ من الخيال الذي يأخذ من العقل ولهذا يدعي بعضهم أنه أفضل من موسى ابن عمران وأن التكليم الذي حصل لهم أعظم من التكليم الذي حصل لموسى لأن الكلام عندهم ليس خارجا عن نفس موسى بل هو فيض فاض عليه كما يفيض على غيره ولهذا يقول بعضهم كلم موسى من سماء عقله وصاحب

ص: 249

مشكاة الأنوار أشار إلى هذا الأصل الفاسد ولهذا بنى ابن قسي على ذلك في كتابه في خلع النعلين وادعى في خلع النعلين أن وارداته عبرانية الأصل أي أشبه فيها موسى بن عمران حيث خلع الدنيا والآخرة فوردت عليه المخاطبات الإلهية ولهذا تكلم الناس في صاحب مشكاة الأنوار بالعظائم والمتفلسفة ينتحلونه لهذا الكتاب وأمثاله وأهل الانتصار له يقولون رجع عن هذا كله كما ذكر ذلك في غير كتاب ومنهم من يقول هذه الكتب مكذوبة عليه ليست من كلامه وأنكروا عليه في الأحياء وغيره أيضا مواضع مثل هذا وأمثاله كما فعل أتباع أبي القاسم القشيري وأتباع أبي المعالي الجويني كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما فعل صاحبه أبو بكر بن عربي وقال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكذلك أبو بكر الفهري الطرطوشي وأبو عبد الله المازري وأبو الوفاء بن عقيل وأبو البيان الدمشقي وأبو الفرج بن الجوزي وأبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي وأبو محمد المقدسي وأبو عمرو بن الصلاح وغير هؤلاء والمقصود هنا أن الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى فيض فاض عليه منهم من يقول أنه كلم أفضل مما كلم موسى وكان في زماننا من يقول هذا ويقول أن موسى كلم من وراء حجاب الحرف والصوت وهو يكلم دون ذلك الحجاب ومقصوده أنه سمع في نفسه حروفا وأصواتا وهي التي سمعها

ص: 250

فإنه ليس عند هؤلاء أنه سمع شيئا خارجا عن ما في نفسه وتلك الحروف والأصوات الخيالية هي التي تبين له المعاني العقلية قالوا ونحن خوطبنا بتلك الحقائق العقلية من غير احتياج إلى هذه الواسطة وهذا من جنس قول شيخهم الطائي أن خاتم الأولياء يأخذ من المشكاة التي يأخذ منها الملك الذي يوحى به إلى الرسول ويقول أيضا أن الولاية أفضل من النبوة وولاية النبي عنده أفضل من نبوته ورسالته لأنه بزعمه من حيث الولاية يأخذ من الله بلا واسطة ومن حيث النبوة يأخذ بواسطة

ص: 251

وهذا الكلام قد يقولونه مطلقا وتوجيهه على أصولهم أن النبوة هي مقام تخييل المعقولات والولاية هي المعقول الصرف فالولي ترد عليه المعقولات صرفا والنبي من جهة ولايته له هذه المعقولات لكن جهة نبوته هي تخييل هذه المعقولات فيأخذ بواسطة الخيال وجهة رسالته عندهم أنزل الدرجات وهي جهة تبليغه للناس ولهذا قالوا:

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

وهذا قلب للحقيقة التي اتفق عليها المسلمون وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي والرسالة تنتظم النبوة والولاية كما ان النبوة تنتظم الولاية وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقيا عن الأنبياء وهو أبو بكر الصديق فإنه أفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعمر كان كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنه قد كان في الأمم

ص: 252

قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر" فعمر كان محدثا ملهما وهو أفضل المحدثين من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس وليس في أولياء هذه الأمة من يأخذ عن الله سبحانه شيئا بلا واسطة نبي أفضل من عمر ومع هذا فكل ما يرد عليه بدون واسطة النبي عليه أن يعتبره بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه رده كما كان عمر بن الخطاب يفعل فإنه كان إذا وقع له شيء وجاءت السنة بخلافه ترك ما عنده لما جاءت به السنة حتى كانت المرأة إذا نازعته فيما قاله بآية من كتاب الله ترك ما رآه لما دل عليه النص

وهذا هو الواجب عليه وعلى كل من آمن بالله ورسوله فإن ما جاء به الرسول معصوم أن يستقر فيه خطأ قد فرض الله على خلقه تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وأما ما يرد على قلوب الأولياء فليس معصوما وليس عليهم تصديقه بل وليس لهم العمل بشيء منه إذا خالف الكتاب والسنة

قال الشيخ أبو سليمان الداراني أنه ليقع بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين من الكتاب والسنة وقال أيضا: ليس لمن ألهم شيئا من الخير

ص: 253

أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورا على نور وقال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدي به في هذا والمقصود أن عمر بن الخطاب إذا كان هو أفضل الأولياء الذين لهم من الله تحديث إلهي بغير واسطة نبي وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر" وهذا حاله فكيف يكون غيره من الأولياء وكيف يكون ما يأخذه الولي بدون واسطة نبي أفضل مما يأخذه بواسطة النبي وذاك شيء لا يوثق به بمجرده ولا يعمل به إلاأن يعتبر بالكتاب والسنة وما جاء به الكتاب والسنة معصوم يجب تصديقه والعمل به ومع هذا فأبو بكر الصديق أفضل من عمر وأبو بكر لم يكن محدثا مثل عمر بل كان ياخذ من مشكاة النبوة ما يأخذه غيره عن التحديث

ص: 254

وهذا أفضل وأكمل فإن من كان الرسول واسطة بينه وبين الله في كل شيء فهو أكمل وأفضل ممن الواسطة بينه وبين الله قلبه وإن كان ما يحدثه به قلبه عن ربه موافقا للكتاب والسنة كفضيلة أبي بكر على عمر ولهذا كان أفضل أولياء الله هم الصديقون الآخذون عن الأنبياء عليهم السلام فالأولياء تبع للأنبياء وإنما يقرنهم بهم فيجعل لهم طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء ملاحدة الصوفية ونحوهم كما أن ملاحدة الفلاسفة يقرنون الفلاسفة بالأنبياء ويقولون اتفقت الأنبياء والحكماء وقالت الأنبياء والحكماء كما يفعل ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفاء وأمثالهم وهذا كله من فعل من لم يؤمن بالرسل والنبيين الإيمان الذي يستحقونه وجعلهم من جنس غيرهم فيما يخبرون به ويأمرون به وجعل ما يأتون به من جنس ما يأتي به الذين سماهم هو أولياء وحكماء وهذا بناء على الأصل الفاسد وهو أن النبوة هي هذه الخصائص الثلاثة وهذه الخصائض مشتركة توجد لكثير من آحاد الناس

ومما يبين الفرق بين النبيين وغيرهم أن الله سبحانه أوجب الإيمان بما أوتيه كل نبي من غير استثناء كما قال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية وقال {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ

ص: 255

الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وأيضا فإنه أخبر بعضمة ما جاءت به الأنبياء ونسخ ما يلقيه الشيطان من الباطل في أمنياتهم قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}

فإن قيل ففي قراءة ابن عباس أو محدث وبهذا احتج الحكيم الترمذي وغيره

قيل أولا هذه القراءة إذا ثبت أنها قراءة فلا يعرف

ص: 256

لفظ بقية سائر الكلام معها كيف كان فإنها بتقدير صحتها إما من الحروف السبعة وإما مما نسخت تلاوته وعلى التقديرين فيجوز أن يكون نظم سائر الآية كان على وجه لا يدل على عصمة المحدث بل فيها نسخ ما يلقيه في أمينته النبي والرسول دون المحدث وإن ثبت أن الله تعالى كان ينسخ ما يلقى الشيطان في قلوب المحدثين قبلنا فلا يقتضي أن ذلك بوحي يأتيه بل يكون ذلك بعرضه ذلك على نبوات الأنبياء فإن خالف ذلك كان مردودا

وحينئذ فيكون حفظ الولي بمتابعة الكتاب والسنة ولا ريب أن السنة كما كان الزهري يذكر عمن مضى من سلف المؤمنين قال كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة وقال مالك السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق

وإن قدر أن المحدث ممن قبلنا كان ينسح ما يلقيه الشيطان فيما يلقي إليه من غير استدلال بالنبوة فيكون من كان قبلنا كانوا مأمورين باتباع المحدث مطلقا لعصمة الله إياه ونحن لم نؤمر بذلك وسبب ذلك أن من كان قبلنا لم يكن يكفيهم نبوة واحدة بل كانوا يأخذون بعض الدين عن هذا النبي وبعضه عن هذا النبي بتصديق الآخر له كما كان أنبياء بني إسرائيل مأمورين باتباع التوراة وكما ان المسيح أحل لهم بعض ما حرم عليهم وأحالهم في أكثر الأحكام على التوارة

وأما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهي كافية لأمته كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

ص: 257

وفي النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: "أمتهوكون يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم" وفي مراسيل أبي داود كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم ونحن نعلم يقينا بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب الله تعالى علينا طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر ولم يأمر بطاعة غيره إلا إذا وافق طاعته لا نبيا ولا غير نبي ونحن إذا قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه فإنما ذاك لكونه مشروعا على لسان محمد بالأدلة الدالة على ذلك وقد علمنا بالاضطرار من دينه أن من أطاعه دخل الجنة فلا يحتاج مع ذلك إلى طاعة غيره لا نبي ولا محدث فلم يكن المتبعون لنبوته محتاجين إلى اتباع نبي غيره فضلا عن محدث قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

ص: 258

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} فقد أكمل الله الدين لأمته على لسانه فلا يحتاجون إلا إلى من يبلغ الدين الكامل لا يحتاجون إلى محدث ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر" فلم يجزم بأن في أمته محدثا كما جزم أنه قد كان في الأمم قبلنا مع أن أمتنا أفضل الأمم وأكمل ممن كان قبلهم وذلك لأن أمتنا مستغنية عن المحدثين كما استغنوا عن نبي يأخذون عنه سوى محمد وما علموه من أمور الأنبياء فبواسطة محمد هو الذي بلغهم ما بلغهم من أمور الأنبياء وما لم يبلغهم إياه من أمور الأنبياء فلا حاجة لأمته به ولهذا لم يحجب عليهم معرفة ذلك حتى يميزوا بين صدقه وكذبه كما ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب بشيء فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم" فأمر بالإيمان العام المتناول لجميع

ص: 259

ما جاءت به الأنبياء وما لم يعلم أن ناقلها عنهم صدق أو كذب لا تصدق ولا تكذب

وإذا كانت أمتنا مستغنية عن أن تأخذ من نبوة غير نبوة محمد فاستغناؤها عن المحدثين أولى ومن كانوا قبلنا كانوا محتاجين إلى الأنبياء فكذلك ربما احتاجوا إلى المحدثين وما احتاجت الأمم إليه من الأخبار الإلهية فلا بد أن يكون محفوظا معصوما لتقوم به الحجة ويحصل به مقصود الدعوة وهذا مما دل على وجوب عصمة ما جاءت به الأنبياء وعصمة ما جاء به نبينا بعد موته فحفظ الله الذكر الذي أنزله وقد أنزل عليه الكتاب والحكمة والحكمة هي السنة فحفظ الله هذا وهذا ولله الحمد والمنة

ومن وجد من هذه الأمة محتاجا إلى شيء غير ما جاء به الرسول فلضعف معرفته واتباعه لما جاء به الرسول مثل كثير منهم من يقول أنه يحتاج إلى الإسرائيليات وغيرها من أحوال أهل الكتاب وآخرون منهم من يقول أنهم محتاجون إلى حكمة فارس والروم والهند واليونان وغيرهم من الأمم وآخرون يقولون أنهم محتاجون إلى ذوقهم أو عقلهم أو رأيهم بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة

ولا تجد من يقول أنه محتاج إلى غير آثار الرسول إلا من هو ضعيف المعرفة والاتباع لآثاره وإلا فمن قام بما جاء به الكتاب والسنة أشرف على علم الأولين والآخرين وأغناه الله بالنور الذي بعث به محمدا عما سواه

ص: 260

قال الله تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}

وأيضا فإنه أخبر أن وحي محمد كوحي النبيين كما في قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}

وأيضا فمن خصائص الأنبياء أن من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة وكان مرتدا كما أن من كفر به وبما جاء

ص: 261

به كان مرتدا فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله

وأما الولي الذي ليس بنبي فلا يجب القتل بمجرد سبه ولا يكون مرتدا عن الإسلام من لم يؤمن به فمن غلا في الأولياء أو من يسميهم أولياء الله أو يسميهم أهل الله أو يسميهم الحكماء أو الفلاسفة أو غير ذلك من الأسماء التي يقرنها بأسماء الأنبياء وجعلهم مثل الأنبياء أو أفضل من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل

فكيف بمن جعل الأنبياء يستفيدون من المسمى بخاتم الأولياء وجعل هذا المسمى بخاتم الأولياء هو بمنزلة منتظر الرافضة وبمنزلة غوث الغلاة من الصوفية وأمثالهم ممن يعتقد ما لا حقيقة له في الخارج جعله يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فكيف بمن جعل النبي يأخذ من الصور الخيالية التي في نفسه المطابقة للعقل فيجعله يأخذ من العقل كما يأخذ ذوو العقول من الناس ويجعل النبوة حاصلها خلاصة العقل كما يقوله الطوسي شارح الإشارات وأمثاله من المتفلسفة الباطنية

والمقصود هنا بيان أن هؤلاء الذين يدعون التحقيق والمعرفة والولاية القائلين بوحدة الوجود أصل قولهم قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم وأن هؤلاء من جنس فرعون لكن هؤلاء أجهل من فرعون وفرعون أعظم عنادا منهم فإن فرعون كان في الباطن مقرا بالصانع المباين للأفلاك ولكن أظهر الإنكار طلبا للعلو والفساد وأظهر أن ما قاله موسى لا حقيقة له قال تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ

ص: 262

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} وأما هؤلاء فإنهم عند أنفسهم مقرون بالصانع مثبتون له لكن لم يثبتوه مباينا للعالم بل جعلوا وجوده وجود العالم أو جعلوه حالا في العالم وقولهم مضطرب متناقض فإنهم مترددون بين الإتحاد والحلول وأصل ضلالهم إنكارهم مباينة الصانع للعالم وصارت قلوبهم تطلب موجودا وهي تأبى أن يكون مباينا للعالم فصاروا يطلبونه في العالم أو يجعلون وجوده هو وجود العالم فيجعلونه إما العالم وإما جزءا منه وإما صفة له وإما أن يقولوا هو العالم وليس هو العالم فيجمعوا بين المتناقضين وهو حقيقة قول ابن عربي فإنه يجعل وجوده وجود العالم ويقول إن ذات الشيء غير وجوده كما يقول من يقول أن المعدوم شيء فيفرق ين الوجود والثبوت وهذا فرق باطل فلهذا كان قوله متناقضا

وهكذا كثير من الناس يقولون بشيء من الحلول والاتحاد مع تناقضهم في ذلك كما يوجد شيء من ذلك في كلام كثير من الصوفية

والناس في هذا الباب على أربعة

أقوال فالقول الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وكان عليه سلف الأمة وأئمتها هو القول بإثبات الصانع وأنه مباين للعالم عال عليه وأما الجهمية ونحوهم فصاروا على ثلاثة أقوال أحدها قول النفاة وهم أكثر متكلمي الجهمية ونظارهم الذين ينفون

ص: 263

المتقابلين ويجمعون في قولهم بين سلب النقيضين فغلاتهم يقولون ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ونحو ذلك ومقتصدوهم يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه ولا يقرب من شيء ولا بقرب إليه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يشار إليه ونحو ذلك

وهؤلاء النفاة قولهم مستلزم للتعطيل وإنكار الصانع كما صرح به فرعون أما المعطلة فلهذا صار عبادهم وصوفيتهم وعامتهم ومحققوهم إلى القول بالوحدة والحلول والإتحاد لأن القلب العابد يطلب موجودا يقصده ويسأله بخلاف النظر والبحث والكلام فإنه يتعلق بالموجود والمعدوم وأما العبادة والطلب والسؤال فلا يكون إلا لموجود فصار هؤلاء ينظرون فيما ذكره أولئك من سلب المتقابلين فلا تقبله قلوبهم وهم قد شاركوهم في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم فصاروا يطلبون الإله الموجود في العالم لا مباينا للعالم فيترددون بين الحلول والإتحاد وأشباه ذلك من أنواع الإلحاد

وفيهم صنف ثالث أمثل من هذين يجمعون بين الحلول والمباينة وهو قول طائفة من الناس كأبي معاذ التومني وغيره وقد يوجد في كلام أبي طالب المكي

ص: 264

وابن برجان من الكلام الذي أنكره طائفة من الشيوخ كالشيخ أبي البيان الدمشقي وغيره ما يقال أن فيه ما يشبه هذا وعامة هؤلاء يتكلمون بكلام متناقض أو بكلام لا حقيقة له إذ كان الأصل الذي بنوا كلامهم عليه أصلا باطلا والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتا غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاده

ص: 265

وهذا الإلحاد الذي وقع في كلام ابن عربي صاحب الفتوحات وأمثاله في أصول الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر لم يكن في كلام العلماء والشيوخ المشهورين عند الأمة الذين لهم لسان صدق ولكن هؤلاء أخذوا مذهب الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله الذي دخل كثير منها في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثاله فأخرجوها في قالب الإسلام بلسان التصوف والتحقيق كما فعل ابن عربي مع أنه يقدح في توحيد الشيوخ الأكابر كالجنيد وسهل بن عبد الله وأمثالهما ويطعن في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال التوحيد أفراد الحدوث عن القدم ويقول لا يميز بين المحدث والقديم إلا من كان ليس واحدا منهما ذكر هذا وأشباهه في كتابه التجليات وله كتاب

ص: 265

الإسراء الذي سماه الإسراء إلى المقام الأسري وجعل له إسراء كإسراء النبي صلى الله عليه وسلم وحاصل إسرائه من جنس الإسراء الذي فسر به ابن سينا ومن اتبعه كالرازي والهمداني ونحوهم إسراء النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوه من نوع الكشف العلمي كما فعلوا مثل ذلك في تكليم موسى وجعلوا ما خوطب به كله في نفسه فلهذا ادعى ابن عربي إسراء وهو كله في نفسه وخياله منه المتكلم ومنه المجيب وباب الخيال باب لا يحيط به إلا الله وابن عربي يدعي أن الخيال هو عالم الحقيقة ويعظمه تعظيما بليغا فجعل في خياله يتكلم على المشايخ وتوحيدهم بكلام يقدح في توحيدهم ويدعي أنه علمهم التوحيد في ذلك الإسراء وهذا كله من جنس قرآن مسيلمة بل شر منه وهو كلام مخلوق اختلقه في نفسه والجنيد رحمه الله تكلم بكلام الأئمة العارفين فإن كثيرا من الصوفية وقعوا في نوع من الحلول والإتحاد كما ذكر ذلك أبو نعيم في الحلية وكما ذكره القشيري في رسالته فبين الجنيد أن التوحيد لا يكون إلا بأن يميز بين القديم والمحدث

ص: 266

كما قالوا لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وهكذا قال سائر الأئمة كأحمد بن حنبل وإسحق ابن راهويه وعثمان بن سعيد والبخاري وغيرهم حتى قال محمد بن إسحق ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما ذكر ذلك عنه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وصاحبه الملقب بشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وغيرهما

والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وأبو القاسم القشيري في الرسالة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي وغيرهم وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم وتارة على اعتقاد صوفية وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة

ولهذا ذكر ابن عربي في أول الفتوحات ثلاث عقائد عقيدة مختصرة من إرشاد أبي المعالي بحججها الكلامية

ص: 267

ثم عقيدة فلسفية كأنها مأخوذة من ابن سينا وأمثاله ثم أشار إلى اعتقاده الباطن الذي أفصح به في فصوص الحكم وهو وحدة الوجود فقال وأما عقيدة خلاصة الخاصة فتأتي مفرقة في الكتاب ولهذا كان هؤلاء كابن سبعين ونحوه يعكسون دين الإسلام فيجعلون أفضل الخلق المحقق عندهم وهو القائل بالوحدة وإذا وصل إلى هذا فلا يضره عندهم أن يكون يهوديا أو نصرانيا بل كان ابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم

ص: 268

يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام ويجعلون هذه طرقا إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين ويقولون لمن يختص بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضركم بقاؤكم على ملتكم بل يقولون مثل هذا للمشركين عباد الأوثان حتى أن رجلا كبيرا من القضاة كان من غلمان ابن عربي فلما قدم ملك المشركين الترك هولاكو خان المشرك إلى الشام وولاه القضاء وأتى دمشق أخذ يعظم ذلك الملك الذي فعل في الإسلام وأهله ببغداد وحلب وغيرهما من البلاد ما قد شهر بين العباد فقال له بعض من شهده من طلبة الفقهاء ذلك الوقت يا سيدي ليته كان مسلما فبالغ في خصومته مبالغة أخافته وقال أي حاجة بهذا إلى الإسلام وأي شيء يفعل هذا بالإسلام سواء كان مسلما أو غير مسلم ونحو هذا الكلام

ص: 269

وهذا كان من آثار مذهب الذين يدعون التحقيق ويجعلون المتحقق الذي يسوغ التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى والمشركين هو أفضل الخلق وبعده عندهم على ما ذكره ابن سبعين وأخوانه هو الصوفي يعنون المتصوف على طريقة الفلاسفة ليس هو الصوفي الذي على مذهب أهل الحديث والكتاب والسنة فلفظ الصوفي صار مشتركا فهؤلاء القائلون بالوحدة إذا قالوا الصوفي يريدون به هذا ولهذا كان عندهم أفضل من الفيلسوف لأنه جمع بين النظر والتأله كالسهروردي المقتول وأمثاله وبعده عندهم المتكلم الأشعري فجعلوا الأشعرية دون الفلاسفة وأنقص منهم ومعلوم باتفاق المسلمين أن من هو دون الأشعرية كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما رواءه فهم خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة كالأشعرية والكرامية والسالمية وغيرهم فإن هؤلاء مع إيجابهم دين الإسلام وتحريمهم ما خالفه يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة كالخوارج

ص: 270

والشيعة والقدرية والجهمية ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى خيرا من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم فكيف بمن جعله خيرا من طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى الذب عن السنة والجماعة ثم جعل بعد هؤلاء كلهم الفقيه فمن جعل أئمة المذاهب وأتباعهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري وإسحق وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والبويطي والمزني وابن سريج وابن القاسم وأشهب وابن وهب وإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم والمروزي والخلال والخرقي وأمثال هؤلاء دون أهل الكلام وأهل الكلام دون الفلاسفة والفلاسفة دون صوفية الفلاسفة وصوفية الفلاسفة دون أهل التحقيق القائلين بالوحدة وهؤلاء أرفع الخلق أليس يكون قد ناقض الرسول في دينه مناقضة ظاهرة لكل أحد فمن كان إلى الرسول أقرب كان عنده أخفض ومن كان عن الرسول أبعد كان عنده أفضل، ولهذا لما وقعت محنة هؤلاء بمصر والشام وأظهروا مذهب الجهمية الذي هو شعارهم في الظاهر وكتموا مذهب الإتحادية الذي هو حقيقة تجهمهم وأضلوا بعض ولاة الأمور حتى يرفعوا إخوانهم ويهينوا من خالفهم وصار كل من كان إلى الإسلام أقرب أقصوه وعزلوه وخفضوه وكل من كان عن الإسلام أبعد رفعوه حتى رفعوا شخصا كان نصرانيا وصيروه بعد الإسلام سبعينيا كان يقال له ابن سعيد الدولة وهو كان شقي دولته وكان مما أنشده:

ص: 271

تشير إلي في كل البرايا

وتخبر بالذي اختار عني

وذلك أنني أنا كل شيء

وكل مصادر الأشياء عني

فرفعوا درجته حتى جعلوا لا يصل إلى أحد رزق ولا ولاية إلا بخطه هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا حتى أزال الله كلمتهم عن المسلمين وأذلهم بعد العز وأهلك من أهلك منهم وكشف أسرارهم وهتك أستارهم وهؤلاء يتصلون بالكفار اتصال القرامطة الباطنية بهم لما بين الكفار والمنافقين من معاداة أهل الإيمان ولهذا كانت الباطنية وأتباعهم الرافضة بالشام وغيره مواصلين للكفار معادين لأهل الإيمان وهم من جنس هؤلاء ومن أسباب ضلال هؤلاء أنهم لما رأوا الكمال في العلم والعمل والعلم متقدم على العمل في السلوك وأما العلم النظري فجعلوه هو الغاية بناء على ان كمال النفس في العلم فرأوا الفقه هو العلم العملي فجعلوه أدنى المراتب ثم الكلام بعده لأنه عندهم العلم النظري الذي يليق بالعامة لأن المتكلم يقول أنه ينصر العقيدة الشرعية بالأدلة القطعية والأدلة العقلية فهي عقيدة مبرهنة وهؤلاء يعتقدون أن ما أخبرت به الرسل هو للعامة وأما الحقيقة التي لا يعلمها إلا الخواص فأمر باطن لا يعرف من مفهوم خطاب الرسل فلهذا جعلوا المتكلم بعد الفقيه إلى فوق وجعلوا هذا الاعتقاد على وجهين فالاعتقاد المجرد للعامة والاعتقاد المقرون بحججه للخاصة ثم بعد ذلك المتفلسف لأنه عندهم دخل من النظريات الباطنة التي لم تظهرها الرسل بل أشارت إليها ورمزت وبعد ذلك الصوفي لأنه عندهم جمع بين النظر وبين التأله الباطن فصار العلم له شهودا ثم بعد ذلك المحقق على أصلهم وهو الذي شهد أن الموجود واحد

ص: 272

وهو الذي انتهى إلى الغاية ويدعون أن هذا هو لباب ما جاءت به الأنبياء وما كان عليه الفلاسفة القدماء ولهذا يقول ابن سبعين في أول الإجابة إني عزمت على إفشاء سر الحكمة التي رمز إليها هرامس الدهور الأولية وبيان العلم الذي رامت إفادته الهداية النبوية وهو وابن عربي وأمثالهما في ترتيب دعوتهم من جنس ملاحدة الشيعة الباطنية فإن عقيدتهم في الابتداء عقيدة الشيعة ثم ينقلون المستجيب لهم إلى الرفض ثم ينقلونه إلى ترك الأعمال ثم ينقلونه إلى الإنسلاخ من خصوص الإسلام ثم إلى الإنسلاخ من الملل إلى أن يصل إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم عندهم فيصير معطلا محضا حتى يقولون ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في إثبات الوجود يعنون المبدع للعالم فلو تركته الفلاسفة لم يبق بيننا وبينهم خلاف وهذا في الحقيقة هو متنهى دعوة أولئك الملاحدة وقوى ضلالهم أمور منها اعتقادهم أن لما جاءت به الرسل باطنا يناقض ظاهره ومن أسباب ذلك ما حصل لهم من الحيرة والإضطراب في فهم ما جاءت به الرسل ومنها أنهم رأوا الطريق التي سلكها المتكلمون لا تفيد

ص: 273

علما بل هي إما سفسطة وجدل بالباطل عند من عرفه وإما جدل يفيد المغالبة عند من لم يعرف حقيقته وذلك أن هؤلاء سلكوا في الكلام طريقة صاحب الإرشاد ونحوه وهي مأخوذعه في الأصل عن المعتزلة نفاة الصفات وعليها بنى هؤلاء وهؤلاء أصل دينهم وجعلوا صحة دين الإسلام موقوفا عليها وذلك أنه موقوف على الإيمان بالرسول والإيمان به موقوف على معرفة المرسل وزعموا أن المرسل لا يعرف إلا بها

ص: 274

قالوا لأنه لا يعرف إلا بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع قالوا ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم قم قالوا ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث الأجسام قالوا ولا دليل على ذلك إلا الإستدلال بالأعراض أو ببعض الأعراض كالحركة والسكون أو الإجتماع والإفتراق وهي الأكوان فإن الجسم لا يخلو منها وهي حادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث قالوا وهذا الأصل يشتمل على أربعة مقامات إثبات الأعراض ثم إثبات حدوثها ثم إثبات استلزام الجسم لها أو أنه لا يخلو منها ثم إبطال حوادث لا أول لها وحينئذ فيلزم حدوث الجسم فيلزم حدوث العالم لأنه أجسام وأعراض فيلزم إثبات الصانع لأن المحدث لا بد له من محدث وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له ولأجلها قالوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش وأنكروا الصفات

ص: 274

والذامون لها نوعان منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام فإنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها ولا الصحابة لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه وهذه طريقة الأشعري في ذمه لها والخطابي والغزالي وغيرهم ممن لا يفصح ببطلانها ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل لمقصود بل تناقضه وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف فجاء هؤلاء المتفلسفة لما رأوا هذه عمدة هؤلاء المتكلمين في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع وتفطنوا لموضع المنع فيها وهو قولهم يمتنع دوام الحوادث قالوا هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلا عن الكلام والفعل دائما إلى أن أحدث كلاما وفعلا بلا سبب أصلا قالوا وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل قالوا وليس معكم من نصوص الأنبياء ما يوافق هذا وأما إخبار الله أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فهذا يدل على أنه خلقها من مادة قبل ذلك كما أخبر أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وكذلك في أول التوارة ما يوافق هذا قالوا وهذا النص وإن كان يناقض قولنا بقدم العالم فليس فيه ما يدل على قولكم بتعطيل الصانع عن الصنع وحينئذ فنحن نقول في هذا

ص: 275

هذا النص وأمثاله من نصوص المبدأ والمعاد ما نقوله نحن وأنتم في نصوص الصفات ثم من هؤلاء من سلك طريق التأويل كما فعل ذلك من فعله من القرامطة كالنعمان قاضيهم صاحب كتاب أساس التأويل وكأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وكتاب الافتخار وأمثالهما وألقى هؤلاء جلباب الحياء وكابروا الناس وباهتوهم حتى ادعوا أن الصلاة معرفة أسرارهم أو موالاة أئمتهم والصوم كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وهذا يبوحون به إذا انفردوا بإخوانهم وأما الذين سكنوا بين المسلمين كالفارابي وابن سينا وأمثالهما فما أمكنهم أن يقولوا مثل هذا وعلموا أنه مما يظهر بطلانه فقالوا أن الرسل إنما خاطبت الناس بما يخيل إليهم أمورا ينتفعون باعتقادها في الإيمان بالله واليوم الآخر وإن كان ما يعتقدون من تلك الأمور باطلا لا يطابق الحقيقة في نفسه والخطاب الدال على ذلك كذب في الحقية عندهم لكنه يسوغ الكذب الذي يصلح به الناس ومن تحاشى منهم على إطلاق الكذب على ذلك فعنده أنه من باب تورية العقلاء الذين يورون لمصلحة أتباعهم

ص: 276

فكان ما سلكه أولئك المتكلمون في العقليات الفاسدة والتأويلات الحائدة هي التي أخرجت هؤلاء إلى غاية الإلحاد ونهاية التكذيب للمرسلين وفساد العقل والدين وأخذ ابن سينا وأمثاله ينقضون الطريقة التي سلكها أولئك في حدوث العالم وإثبات الصانع إذ كان مدارها على امتناع تسلسل الحوادث وأن حكم الجميع حكم الواحد فأبو الحسين البصري من حذاق هؤلاء يجعلون أصل الدين مبنيا على أنه إذا كان كل واحد من الحوادث كائنا بعد أن لم يكن فالجميع كذلك كما انه إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع كذلك وأبو المعالي وأمثاله يقولون إثبات الحدوث ونفي الفعل في الأزل جمع بين النقيضين فقال لهم المنازعون أتباع الأنبياء وأتباع الفلاسفة الفرق بين النوع والشخص معلوم والمنتفي وجود حادث معين في الأزل بحيث يكون حادثا قديما أو وجود مجموع الحوادث في الأزل بحيث تكون كل الحوادث قديمة وأما دوام الحوادث شيئا بعد شيء كما هي دائمة شيئا بعد شيء في المستقبل فليس في العقل ما يحيل هذا ولا يمكن الفرق بين الماضي والمستقبل بفرق مؤثر في مناط الحكم وليس كل مجموع يوصف بما يوصف به أفراده بل قد يوسف بذلك إذا لم يستفد بالاجتماع حكما آخر وقد لا يوصف بذلك إذا حصل له بالاجتماع حكم آخر فالأول كاجتماع الموجودات والمعدومات والممكنات والممتنعات فإنه لا يخرجها عن حكم هذه الصفات والثاني كاجتماع أجزاء الخط والسطح والجسم والطويل

ص: 277

والبيت والإنسان والدائم والعشرة والألف ونحو ذلك فإنه إذا اجتمعت هذه الأجزاء حصل باجتماعهما حكم لا توصف به الأجزاء والمقصود هنا التنبيه على مبدأ ضلال هؤلاء الملاحدة وأن من جملته تقصير من جادلهم عن نصر الحق ودخوله في نوع من الباطل إما في باطل وافقوه عليه وجعلوه حجة لهم عليه في مكان آخر كنفي الصفات وإما من باطل نازعوه فيه وبينوا بطلانه كترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإما تقصيره في الحق تارة يقصر في معرفة ما جاءت به الرسل وتارة يقصر في إقامة الحجة على منازعه فتقصيره في تصور الحق وبيان الحجة على التصديق به مما سلط أولئك الملحدين

ص: 278

لكن بكل حال حجة الملاحدة أدحض وقولهم أضعف فأنهم أنكروا على هؤلاء إحداث حوادث بدون سبب حادث من قادر مختار لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وأنكروا عليهم كونهم عطلوا الصانع عن الصنع في الأزل

وهم قد عطلوا الصانع عن صفات الكمال بل وعطلوه في الحقيقة عن الفعل وعطلوا الحوادث عن محدث لها بل عطلوا العالم عن الصانع فإنهم لم يثبتوا إلا وجودا مطلقا مجردا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وجعلوا الحوادث تحدث بلا فاعل يوجب حدوثها وغايتهم أنهم يجعلون الفلك حيوانا يحدث تصوره وإرادته وحركاته وذلك هو سبب حدوث الحوادث والرب تعالى لم يحدث شيئا من ذلك، لكنهم يقولون هو علة تامة في الأزل للعالم بما فيه من الأجناس المختلفة والأمور الحادثة مع العلم الضروري بعد

ص: 278

التصور التام أن الواحد البسيط الذي قدروه لا يوجد إلا في الذهن ولا يصدر عنه شيء فإن الواحد البسيط من كل وجه الذي لا صفة له ولا قدرة ولا فعل لا يعقل وجوده في الخارج ولا يعقل انه يوجد عنه شيء لا واحد ولا غير واحد ولا يوجد في العالم أثر إلا عن سببين لا عن واحد مع أن الواحد الموجود في العالم إذا قدر مقدر أثر عنه كالسخونة والبرودة فهو واحد له صفة وقدر وفعل يقوم به وأما الواحد الذي قدروه فإنما هو شيء يقدره الذهن كما يقدر وجود خالقين وتسلسل المؤثرات وكما يقدر رفع النقيضين مثل كونه لا موجودا ولا معدوما أو جمع النقيضين مثل كونه موجودا معدوما وكما يقدر عالم بلا علم وقادر بلا قدرة أو يقدر أن العلم هو العالم والقدرة هو القادر أو يقدر ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح أو يقدر حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات التي تفتقر إلى واجب بلا واجب وأمثال ذلك مما يقدره الذهن مع أنه ممتنع ووجه ثالث أن الواحد البسيط الذي فرضوه إذا قدر وجوده في الخارج امتنع صدور المختلفات عنه بوسط أو غير وسط سواء قيل أن الصادر الأول عنه واحد له ثلاث جهات أو قيل غير ذلك فإن كل ما يقدرونه يستلزم صدور الأنواع المختلفة عن الواحد البسيط وإن شئت قلت صدور الكثرة عن الوحدة فالجمع بين صدور الكثرة عنه وكونه واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد جمع بين المتناقضين

ص: 279

وإذا قيل أن الكثرة حصلت في الصادر الأول كان القول فيها كالقول في الكثرة الصادرة عن المعلول الأول إن كانت أمورا وجودية لزم أن يصدر عن الواحد البسيط الذي لا يصدر عنه إلا واحد أكثر من واحد وإن كانت عدمية لزم أن يصدر عن الواحد البسيط الموصوف بالسلوب أمور موجودة مختلفة فقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد مع صدور هذه المختلفات عن المبدع يقتضي انتفاء ما ذكروه من الوحدة أو انتفاء كون المختلفات صدرت عنه بوسط أو بغير وسط ولو لم يكن إلا الفلك الثامن ذو الكواكب الكثيرة فإنه ليس فوقه من العلل المختلفة ما يوجب كثرة الكواكب التي فيه عندهم وكذلك العقل العاشر في كثرة ما تحته من الأركان وغيرها ووجه رابع وهو أنه إذا كان علة تامة أزلية لزم مقارنة معلوله له وكل ماسواه معلول له فيلزم أن لا يكون في الوجود حادث أو أن لا يكون للحوادث محدث وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة وإن قيل تخلف عنه بعض الحوادث لوقوفه على حادث قبله قيل والقول في الحادث الأول كالقول في الثاني يمتنع إذا كان علة موجبا بذاته أن يتخلف عنه شيء أو أن يكون اقتضاؤه موقوفا على حدوث حادث إلا إذا كان هناك غيره كما يقولون في العقل الفعال أنه عام الفيض لكن فيضه متوقف على استعداد القوابل وهذا ممتنع ممن صدر عنه كل شيء ولا يوقف إبداعه على غير ذاته أصلا فإن هذا لا يجوز أن يتراخى عنه شيء

ص: 280

من فيضه وإن تراخى عنه شيء من فيضه لم تكن نفس ذاته هي الموجبة لفيضه بل لا بد من آخر ينضم إليها وإذا قيل ذاته تحدث شيئا بعد شيء فإنه لا يمكن إحداث المحدثات جميعا قيل فهذا ينقض قولكم لأن من أحدث شيئا بعد شيء لم يكن موجبا بذاته في الأزل لشيء بل يكون كلما صدر عنه حادث وإن كانت أفعاله دائمة شيئا بعد شيء فليس فيها واحد قديم وكذلك مفعولاته بطريق الأولى فإن المفعول تابع للفعل فلا يكون في أفعاله ولا مفعولاته شيء قديم وإن كانت دائمة لم تزل فإن دوام النوع وقدمه ليس مستلزما قدم شيء من الأعيان بل ذلك مناقض لقدم شيء منها إذ لو كان فيها واحد قديم لكان ذلك الفعل المعين هو القديم ولم تكن الأفعال المتوالية هي القديمة والشيء الذي من شأنه أن يكون متواليا متعاقبا كالحركة والصوت يمتنع قدم شيء من أجزائه ودوام شيء من أجزائه وبقاء شيء من أجزائه وإن قيل أنه دائم قديم باق أي نوع هو الموصوف بذلك وأيضا فقولهم باطل على تقدير النقيضين فيلزم بطلانه في نفس الأمر وذلك أنه إما أن يمكن دوام الحوادث وهو قولهم بوجود حوادث لا أول لها وإما أن لا يمكن فإن لم يمكن كما يقوله كثير من أهل الكلام لزم أن يكون لجنس الحوادث أول ولزم أن ما لا يخلو عن الحوادث أن يكون حادثا فيلزم حدوث العالم وإن أمكن دوام الحوادث أمكن أن يكون هذا العالم الذي خلقه الله في ستة أيام مسبوقا بحوادث قبله فلا يجوز القول بقدمه

ص: 281

وأيضا فإذا أمكن دوام الحوادث لزم دوام إحداث المحدث لها وأن يكون محدثا لها شيئا بعد شيء والعلة التامة الأزلية التي يقارنها معلولها لا يفعل شيئا بعد شيء فإن ذلك يناقض مقارنة معلولها لها وأيضا فالأثر إما أن يجب مقارنته للمؤثر التام المستجمع لجميع شروط التأثير وإما أن يجوز تراخيه عنه فإن جاز تراخيه عنه أمكن كون المؤثر التام ثابتا في الأزل والعالم حادث عنه بعد ذلك وهذا يبطل أصل حجتهم ثم هذا يستلزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب فإنه إذا كان المؤثر حال أن يفعل وقبل أن يفعل على السواء من غير اختصاص إحدى الحالتين بوجه من الوجوه كانت الحالات سواء وحينئذ فكونه يفعل في أحدهما ولا يفعل في الآخر ترجيح للفعل بلا مرجح وهذا ممتنع في بديهة العقل وهو يسد باب إثبات الواجب القديم الخالق وإن وجب مقارنة الأثر للمؤثر التام لزم من ذلك أن يكون كل ما حدث في الوجود لم يحصل مؤثره التام إلا مقارنا له وحينئذ يكون المؤثر التام صار مؤثرا بعد أن لم يكن ويكون الأثر مفتقرا إلى مؤثر تام مقارن له والتسلسل ممتنع في أصل كون المؤثر مؤثرا وتمام كونه مؤثرا كما تقدم فإنه إذا كان لا يوجد تمام المؤثر في هذا حتى يوجد تمام المؤثر في هذا المؤثر ولا يوجد تمام المؤثر في هذا حتى يوجد تمام المؤثر في هذا لزم أن لا يوجد شيء من تمام المؤثرات كما إذا قيل لا يوجد هذا المؤثر حتى يوجد هذا المؤثر فإن هذا غايته تقدير أمور معدومة متعاقبة وتعاقب المعدومات وكثرتها وتقدير عدم

ص: 282

تناهيها لا يقتضي أن يكون فيها شيء موجود وإذا كان كذلك فلا بد أن ينتهي إلى من هو مؤثر بنفسه لا يتوقف تأثيره على غيره وإن جاز أن يصير مؤثرا لهذا بعد أن يصير مؤثرا لهذا إذا كان لا يفتقر في ذلك إلى غيره وحينئذ فيكون المؤثر التام لكل المحدث عند وجود ذلك المحدث وإذا كان بنفسه صار مؤثرا تاما فيها ويمتنع أن يكون مؤثرا تاما إلا عند وجود الأثر المحدث امتنع أن يكون لشيء من المحدثات مؤثر تام في الأزل وإذا كان العالم لا يخلو عن الحوادث والمؤثر التام لا يكون لشيء من الحوادث في الأزل امتنع أن يكون للعالم مؤثر تام في الأزل فإن وجود الملزوم بدون اللازم محال وليس الأزل وقتا محدودا بل هو عبارة عن الدوام الماضي الذي لا ابتداء له الذي لم يسبق بعدم الذي ما زال وإذا امتنع أن يكون تمام التأثير لشيء من الحوادث أو ملزوم الحوادث أزليا امتنع أن يكون شيء ن الحوادث أو ملزوم الحوادث أزليا وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أصل أقوال هؤلاء أهل الوحدة الذين يدعون التحقيق وأنهم تعدوا مراتب الأمم كلهم حتى الأنبياء وغيرهم كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما

ص: 283

وكان ابن سبعين أحذق بالفلسفة وابن عربي أحذق بالتصوف وأظهر انتسابا إلى الإسلام ولهذا كان

ص: 283

منتهى ابن عربي دعواه أنه كان خاتم الأولياء وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء يستفيدون منه العلم بالله فراعى كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في الصورة وإن كان في الحقيقة قد ادعى ما هو أعظم من مرتبة خاتم النبيين وأما ابن سبعين فعلم أن هذه منافقة ظاهرة الفساد لا تخفى إلا على أجهل الناس فكان يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان يطمع أن يصير نبيا وذكروا أنه جدد غار حراء لينزل عليه فيه الوحي كما يجيء بعض الناس يجدد بعض معابد المشايخ ليفتح عليه كما فتح عليه وكل من هذين في كثير من كلامه يعظم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما بليغا لكن قد تكون أحوالهم مختلفة وقد يكون ذلك نفاقا وقد يكونون معظميه على ما سواه ومعظمي أنفسهم عليه

ص: 284

كما كان ابن هود لما سلك هذه السبيل وأراد أن يظهر بأمر أعظم مما ظهرت به الأنبياء فكان يتكلم على الأنبياء الثلاثة أصحاب الملل الذين هم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ثم جعل الرابع المنتظر أعظم من هؤلاء الثلاثة ويرجو أن يكون هو ذلك الرابع أو يصرح بذلك ويقول على طريقة الفلاسفة موسى في الجسم وعيسى في النفس ومحمد في العقل أو يقول سبحان الله لموسى والحمد لله لعيسى ولا إله إلا الله لمحمد والله أكبر لهذا الرابع المنتظر ويقول موسى له علم اليقين وعيسى له عين اليقين ومحمد له حق اليقين وهذا الرابع له حقيقة حق

ص: 284

اليقين والرابع هو صاحب الوجود الواجب وهو الإحاطة عندهم ولهذا أمر ابن سبعين أن ينقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة والإحاطة عندهم هي الوجود المطلق المجرد الذي لا يتقيد بقيد وهو الكلي الذي لا يتقيد بإيجاب ولا إمكان ثم بعده الوجود الذي يصدق على الواجب والممكن أو الذي لا يصدق على واحد منهما فإن المطلق لا بشرط يصدق عليهما والمطلق بشرط الإطلاق لا يصدق على واحد منهما وكان قد اجتمع بي حذاق هؤلاء لما أظهروا محنة أهل السنة لينصروا طريقهم واستعانوا في الظاهر بمن يوافقهم على نفي الصفات أما نفي علو الله على خلقه وصفاته الخبرية أو نفي الصفات مطلقا ونفي الأفعال والكلام ونحو ذلك من مذاهب الجهمية فإنهم إنما يتظاهرون بقول معتزلة الأشعرية النافين للصفات الخبرية ولغيرها وبقول متفلسفة الأشعرية نفاة الصفات مطلقا كما أن الباطنية القرامطة إنما يتظاهرون بالتشيع ولهذا كان ابن سبعين يقول للشيخ الجليل تقي الدين الحوراني الذي كان بمكة مجاورا وكان من أهل العلم والدين وكان يناقض ابن سبعين ويرد عليه قال له إنما أنت تبغضني لأني أشعري فقال: لو كنت

ص: 285

أشعريا لقبلتك أو كما قال وهل أنت مسلم وهذا كما يقول القرمطي لأهل السنة إنما تبغضوني لأني من الشيعة فيقال له لو كنت من الشيعة لأكرمناك وهل أنت مسلم فإن ما في أقوال الشيعة من الأقوال المخالفة للسنة هي الباب الذي دخل منه القرامطة الباطنية وما في أقوال المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية من الأقوال التي تخالف السنة هي الباب الذي دخل منه هؤلاء الملاحدة الجهمية وكلام الملاحدة من الشيعة وأهل الكلام مقرون بكلام ملاحدة المتفلسفة ولهذا كان عبد الرحمن بن مهدي يقول هما صنفان احذروهما الرافضة والجهمية ولهذا انتصر هؤلاء بمن وافقهم على نفي علو الله على خلقه ونفي الصفات الخبرية وغير ذلك مما يخالف الكتاب والسنة مما دخل فيه من دخل من أهل الكلام الأشعرية وغيرهم كما ينتصر أولئك الملاحدة بالشيعة وكان مما سلط هؤلاء جميعا على النفي قصور المنتسبين إلى السنة وتقصيرهم تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات ومعلوم أن العلم إنما يتم بصحة مقدماته والجواب عن معارضاته ليحصل وجود المقتضي وزوال المانع وقد قال الإمام أحمد رحمه الله معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه بل تجد

ص: 286

الرجل الكبير منهم ينصف كتابا في أخبار الصفات أو في إبطال تأويل أخبار الصفات ويذكر فيه الأحاديث الموضوعة مقرونة بالأحاديث الصحيحة المتلقاه بالقبول ويجعل القول في الجميع واحدا وقد رأيت غير واحد من المصنفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يعتمد عليها في فضائل الأعمال فضلا عن مسألة فقه فضلا عن أصول الدين والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يعلم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين لأن ذلك يقوي بعضه بعضا كما تذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف فثم أمور تذكر للإعتماد وأمور تذكر للإعتضاد وأمور تذكر لأنها لم يعلم أنها من نوع الفساد ثم بعد المعرفة بالنصوص لا بد من فهم معناها وكثير من المنتسبين إلى السنة وغيرهم ظنوا أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو معنى الكلام الذي أنزل القرآن لبيانه فصاروا يجعلون كثيرا من القرآن كلاما خوطب به الناس وأنزل إليهم وأمروا بتلاوته وتدبره وهو كلام لا يفهم معناه ولا سبيل إلى معرفة مراد المتكلم به وقد يحكى عن بعضهم أنه سمع كلام لا معنى له في نفس الأمر كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بحشوية أنهم قالوا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا لكن هذا القول لا أعرف به قائلا بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين

ص: 287

ولهذا كنا مرة في مجلس فجرت هذه المسألة فقلت هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله فقال بعض الذابين عنه هذا قالته الكرامية فقلت هذا لم يقله لا كرامي ولا غير كرامي ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم وبتقدير أن يكون قولا فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث والعبث على الله محال وهذه الحجة فاسدة على أصله لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة هل يجوز أن ينزل حروفا لا معنى لها والحروف عنده من المخلوقات وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء لأن فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا وإنما النزاع المشهور هل يجوز أن ينزل الله تعالى ما لا يفهم معناه والرازي ممن يجوز هذا في أحد قوليه ووافق من قال أن التأويل لا يعلمه إلا الله مع قولهم أن التأويل هو المعنى

ص: 288

وأصل الخطأ في هذا أن لفظ التأويل مجمل يراد به ما يؤول إليه الكلام فتأويل الخبر نفس المخبر عنه وتأويل أسماء الله وصفاته نفسه المقدسة بمالها من صفات الكمال ويراد بالتفسير التأويل وهو بيان المعنى المراد وإن لم نعلم كيفيته وكنهه كما أنا نعلم أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وعسلا وذهبا وحريرا وغير ذلك وإن كنا

ص: 288

لا نعرف كيفية ذلك ويعلم أن كيفيته مخالفة لكيفية الموجود في الدنيا ويراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح وهذا لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان ولهذا قال أكثرهم أن الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} بناء على أن التأويل هو ما استأثر الله بعلمه وهو الكيف الذي لا نعلمه نحن كما قال الإمام مالك الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك سائر الأئمة قولهم مثل قول مالك ينفون علم الخلق بالكيف وعلمهم بالحكمة فلا يقولون في صفاته كيف ولا في أفعاله لم لأنهم لا يعلمون كيفية صفاته ولا لمية أفعاله وكثير من المتأخرين نفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر لم ينفوا علم المخلوق به فالأولون يقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ويقولون منع الخلق أن يتفكروا في ماهية ذاته كما يقول مثل ذلك أبو محمد بن أبي زيد

ص: 289

والشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهم وكلام السلف كله موافق لقول هؤلاء كما في كلام عبد العزيز بن الماجشون نظير مالك بالمدينة قال أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتباعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره إلى أن قال فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو فكيف يعرف والذين نازعوهم من المتأخرين قالوا لا ماهية فتجري في مقال ولا كيفية له فتخطر ببال والنزاع موجود في أصحاب الأئمة الأربعة

ص: 290

والمقوصد هنا أن السلف كان أكثرهم يقفون عند قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} بناء على أن التأويل الذي هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو وطائفة منهم كمجاهد وابن قتيبة وغيرهما قالوا بل الراسخون يعلمون التأويل ومرادهم بالتأويل المعنى الثاني وهو التفسير فليس بين القولين تناقض في المعنى

وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال أنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هوالتفسير لكونه تفسيرا للكلام وبيانا لمراد المتكلم به أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجا في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده وقد ينكرون من التأويل الذي هو التفسير ما لا يعلم صحته فننكر الشيء للعلم بأنه باطل أو لعدم العلم بأنه حق ولا ينكرون ترجمة الكلام لمن لا يحسن اللغة وربما أنكروا من ذلك ما لا يفهمه المستمع أو ما تضره معرفته كما ينكرون

ص: 291

تحديث الناس بما تعجز عقولهم عن معرفته أو بما تضرهم معرفته كما قال علي عليه السلام حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وهذا قد تحمله الباطنية على مذهب النفاة المعطلة التي بينا فسادها والأمر على نقيض ذلك فإن قوله: "أتحبون أن يكذب الله ورسوله" دليل على أن ذلك قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسكت عنه وهذا نظير الحديث المأثور إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فإن هذا الحديث وإن لم يكن ثابتا فقد ذكره شيخ الإسلام وكما ذكره أبو حامد الغزالي وقال يحيى بن

ص: 292

عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري المذكور وغيرهما أن هذا مثل أحاديث الصفات التي يضيق عنها من لم يسعها عقله وهؤلاء يردون على من حمل هذه الآثار على أقوال الباطنية كما يوجد شيء من ذلك في كلام أبي حامد وغيره فإنه من المعلوم بالإضطرار لمن عرف نصوص الرسول أنه جاء بالإثبات لا بالنفي وأن الرسل جاءوا بإثبات الصفات لله على وجه التفصيل مع التنزيه العام عن التعطيل والتمثيل وإنما جماع الشر تفريط في حق أو تعدي إلى باطل وهو تقصير في السنة أو دخول في البدعة كترك بعض المأمور وفعل بعض المحظور أو تكذيب بحق وتصديق بباطل ولهذا عامة ما يؤتى الناس من هذين الوجهين فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم كما ذكرت تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها فهذا عجز وتفريط في الحق وقد يحصل منهم دخول في باطل إما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوزامها وإما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة كما أصاب الناس في مسألة كلام الله وغير ذلك من صفاته

ص: 293

ومن ذلك أن أحدهم يحتج بكل ما يجده من الأدلة السمعية وإن كان ضعيف المتن والدلالة ويدع ما هو أقوى وأبين من الأدلة العقلية إما لعدم علمه بها وإما لنفوره عنها وإما لغير ذلك وفي مقابلة هؤلاء من المنتسبين إلى الإثبات بل إلى السنة والجماعة أيضا من لا يعتمد في صفات الله على أخبار الله ورسوله بل قد عدل عن هذه الطريق وعزل الله ورسوله عن هذه الولاية فلا يعتمد في هذا الباب إلا على ما ظنه من المعقولات ثم هؤلاء مضطربون في معقولاتهم أكثر من اضطراب أولئك في المنقولات تجد هؤلاء يقولون أنا نعلم بالضرورة أمرا والآخرون يقولون نعلم بالنظر أو بالضرورة ما يناقضه وهؤلاء يقولون العقل الصريح لا يدل إلا على ما قلناه والآخرون يناقضوهم في ذلك ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر إلى تكافؤ الأدلة فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولا ويقول هنا قولا يناقضه كما تجد من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الإعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي كما يتردد بين الإرادتين المتناقضتين

وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأما ابن سينا وأمثاله

ص: 294

فأعظم تناقضا واضطرابا والمعتزلة بين هؤلاء وهؤلاء في التناقض والإضطراب وسبب ذلك جعل ما ليس بمعقول معقولا لاشتباه الأمر ودقة المسائل وإلا فالمعقولات الصريحة لا تتناقض والمنقولات الصحيحة عن المعصوم لا تتناقض وقد اعتبرت هذا في عامة ما خاض الناس فيه من هذه الأمور دقيقها وجليلها فوجدت الأمر كذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد يشكل الشيء ويشتبه أمره في الإبتداء فإذا حصل الإستعانة بالله واستهداؤه ودعاؤه والإفتقار إليه أو سلوك الطريق الذي أمر بسلوكها هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولم يكن في سلف الأمة وأئمتها من يرد أدلة الكتاب ولا السنة على شيء من مسائل الصفات ولا غيرها بل ينكرون على أهل الكلام الذين يعدلون عما دل عليه الكتاب والسنة إلى ما يناقض ذلك ولا كانوا ينكرون المعقولات الصحيحة أصلا ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية كما قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع ولكن طائفة من أهل الكلام والفلسفة ظنوا أن دلائل القرآن إنما هي مجرد أخباره فيتوقف على العلم بصدق

ص: 295

المخبر وهذا من بعض ما فيه من الأدلة ولكن فيه الإرشاد والبيان للأدلة التي يعلم بالعقل دلالتها على المطلوب فهي أدلة شرعية عقلية وغالب ما في القرآن من هذا الباب ولكن هذا ليس موضع بسط ذلك ولكن المقصود هنا التنبيه على حال هؤلاء أهل الإحاطة القائلين بالوجود المطلق

ص: 296

ولما اجتمع بي بعض حذاقهم وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق ولا يفهمه إلا خواصهم وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق قلت له فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا بل لا يوجد إلا معينا فلا يكون الوجود المطلق موجودا في الخارج فبهت ثم أخذ يفتش لعله يظفر بجواب فقال نستثني الوجود المطلق من الكليات فقلت له غلبت وضحكت لظهور فساد كلامه وذلك أن القانون المذكور لو فرق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه وهو يعم كل مطلق فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن

ص: 296

يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج

ص: 297

وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن

ص: 297

وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود

ص: 298

الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله

ص: 299

الذين يجعلونه مقيدا بالأمور السلبية والإضافة دون الثبوتية أبلغ في التعطيل ممن يقول لا يقيد لا بأمور سلبية ولا ثبوتية فإذا قالوا هو الوجود المقيد بالسلب العام بحيث يسلبون عنه كل أمر ثبوتي فقد جمعوا بين النقيضين فحقيقة قولهم هو موجود ليس بموجود هو واجب الوجود ممتنع الوجود وأولئك إذا قالوا ليس بموجود ولا معدوم فقد رفعوا النقيضين ولكن أولئك يرفعون الأمور المتناقضة جميعها من الجانبين فيقولون لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء لا يرفعون جميع الأمور الثبوتية ولا يثبتون إلا وجودا مجردا مسلوبا عنه كل أمر ثبوتي لا يثبتون من الأمور الثبوتية بقدر ما ينفونه من الأمور العدمية فكانوا أدخل في العدم من هذا الوجه وإن كانوا يتناقضون إذا قالوا معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق فإنهم يثبتون معاني متعددة وجودية ثم يجعلونها أمورا عدمية ومنها أنه إذا كان مقيدا بقيد سلبي أو إضافي كان مشاركا لغيره في مسمى الوجود ممتازا عنه بالقيود السلبية والأمور السلبية لا تميز بين مشتركين سواء سمي فصلا أو خاصة بل متى كان المميز بين المشتركين في الوجود أمرا سلبيا فلا يتضمن ثبوتا فلم يحصل به تمييز فهم مضطربون إلى أحد أمرين إما رفع الإمتياز بالكلية فيبقى وجودا مطلقا لا يمتاز لا بثبوت ولا عدم فلا تبقى له حقيقة وإما التمييز بأمور ثبوتية فتبين أنه لا بد من حقيقة تخصه ليست هي الوجود المطلق وأهل الإحاطة إن فسروا الوجود الإحاطي بالوجود

ص: 300

المطلق المجرد عن الإثبات والنفي فهو أبلغ في التعطيل من قول ابن سينا من بعض الوجوه حيث كان ما ذكروه يمتنع أن يكون موجودا أو معدوما لرفعهم النقيضين من جميع الجهات وابن سينا جمع بين النقيضين من بعض الوجوه ورفع النقيضين من كل وجه أبلغ في النفي من رفع النقيضين من بعض الوجوه وقوله أبلغ في التعطيل من جهة أخرى من جهة أن الأمور العدمية التي قيده بها أمور كثيرة جدا ولم يثبت من الناحية الأخرى إلا وجودا مجردا لا حقيقة له هذا قول الباطنية كأبي يعقوب إسحق بن أحمد السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية والافتخار وغيرهما فإنهم ينفون عنه الثبوت والانتفاء وهو معلوم الفساد بالاضطرار كما تبين وقولهم يستثنى الوجود من الأمور المطلقة هو بالعكس أحرى فإن الوجود المطلق يعم كل شيء فهو أعم للأمور الموجودات كسائر الأسماء العامة مثل الشيء والثابت والحق والحقيقة والماهية والذات ونحو ذلك فهذه أعم الكليات وأوسع المطلقات فمتى جوز الإنسان أن يكون هذا المطلق

ص: 301

ثابتا في الخارج بشرط الإطلاق بحيث يكون وجود ذلك الوجود لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره ولا قديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا خالق ولا مخلوق ولا واحد ولا متعدد ولا جوهر ولا عرض ولا صفة ولا موصوف ولا ثابت ولا منتفي كان هذا مع ما فيه من مكابرة العقل وجحد الضروريات مسوغا تجويز مثل ذلك فيما هو أخص من الوجود فإن الخطر فيه أهون فإن ما انتفى عن المطلق العام انتفى عن المعين الخاص فما انتفى عن الموجود انتفى عن الجسم والحيوان والإنسان وليس ما انتفى عن الخاص يجب نفيه عن العام فليس ما انتفى عن الإنسان من كونه ليس حمارا ولا بهيمة يجب نفيه عن الموجود مطلقا فإذا جوز هؤلاء المخذولون في عقلهم ودينهم أن يكون الموجود ثابتا في الخارج مع وصفه بهذه السلوب الجامعة للمتقابلين كان تجويز ذلك فيما هو أخص من الوجود أولى وأحرى وقال لي رجل من أعيانهم بلغنا أنك ترد على الشيخ عبد الحق نحن نقول أن الناس ما يفهمون كلامه فإن كنت تشرحه لنا وتبين فساده قبلنا وإلا فلا فقلت له نعم أنا أبين لك مراده من كتبه كالبد والإحاطة والفقرية وغير ذلك فقال عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى لوح الأصالة وهو سر السر وهو الذي نطلب بيانه ولم أكن رأيته فذهب وجاء به ففسرته له حتى تبين مراده وكتب أسئلة

ص: 302

سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم وقول ابن عربي وابن سينا ومن ضاهى هؤلاء وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق ثم بينت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وكان له فضيلة فلما تبين له ذلك أخذ يصنف في الرد عليهم وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام قال نعم قال أي شيء قال لك قال فقال لي آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق قال جيد قال بأي شيء يرد ذلك قال المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان فقال أخرب بيوتنا وقلع أصولنا هذا ونحوه فيقال في هذا أما المطلق لا بشرط فهو الذي يصدق على الأعيان وهو الذي يسمى الكلي الطبيعي فإذا قيل إنسان لا بشرط كونه واحدا ولا كثيرا ولا بشرط كونه موجودا ومعدوما فهذا يوجد في الخارج معينا مقيدا ومن ظن أنه يوجد كليا في الخارج فقد غلط وإنما يوجد في الخارج جزئيا معينا فهو كلي في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد إلا جزئيا وسمي كليا كما يسمى الاسم عاما والمعنى الذي في النفس عاما لشموله الأفراد الثابتة في الخارج لا لأنه في حال وجوده في الخارج يكون عاما أو مطلقا فإن هذا ممتنع فليس في الخارج إلا ما له حقيقة تخصه لا عموم فيها ولا إطلاق والمنطقيون يقولون الكلي سواء كان جنسا أو فصلا

ص: 303

أو نوعا أو خاصة أو عرضا عاما له ثلاثة اعتبارات طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط الذي لا تقيد فيه الحقيقة بقيد أصلا لا ثبوتي ولا سلبي ثم أصحاب المثل الأفلاطونية يزعمون أن هذه الكليات ثابتة في الخارج دائمة أزلية بدون أعيانها وأرسطو وأتباعه ينكرون ذلك ويقولون لا يوجد إلا مع الأعيان والتحقيق أنه ليس لها وجود في الخارج منفصل عن وجود الأعيان ومن قال المطلق جزء من المعين كما يقولون الإنسان جزء من هذا الإنسان وأرادوا بذلك تركيبا في الخارج من المطلق والمعين فهذا غلط وإن أرادوا أن الإنسان هذا المعين في الخارج هو الذي كان كليا في النفس فهذا صحيح وقولنا هذا الإنسان بمنزلة قولنا الرجل العالم والحيوان الناطق وذلك يفيد اتصاف المعين بصفتين أحدهما أنه حيوان والأخرى أنه ناطق والحياة والنطق صفتان قائمتان به ليسا جزأين تركب منهما في الخارج وكذلك قولنا هذا الإنسان يفيد أن المعين موصوف بالإشارة إليه وبالإنسانية وقد بسط هذا في غير هذا الموضع قالوا فهذا هو الكلي الطبيعي والمنطقي هو كون هذا الكلي يوصف بالعموم والكلية والعقلي هو ما تركب منهما وهو الإنسان المقيد بقيد كونه كليا وهذا ليس له وجود إلا في الذهن باتفاقهم إلا ما يحكى عن الأفلاطونية ثم هذا الإنسان المقيد بكونه كليا لا تدخل فيه المعينات لأنها ليست كليا ولا يصدق على زيد وعمرو أنه إنسان كلي

ص: 304

فإنه لا يصدق عليها مع كونه كليا وإنما يصدق عليها مع سلب الكلية وإذا كانت عامة مشتركة وقيل أن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقيل أن العموم صادق على الأنواع والأشخاص فالعموم ليس هو الكلي الطبيعي فإن العموم لا يكون إلا ما يتصف بالكثرة القابلة للقسمة ولعدتها وهذا ليس هو الطبيعي بل العموم هو الكلي العقلي وذلك متناول للأنواع والأشخاص وهو صادق عليها ولكن حال تناوله للأعيان لا يكون كليا كما يقال أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج مع أنه حال وجوده في الخارج لا يكون كليا ولكن ما كان مطلقا وكليا في الذهن لا يكون ما في الخارج مماثلا له من كل وجه بل يكون ما في الخارج معينا وكذلك سائر ما في الذهن إذا قيل أنه موجود في الخارج فهو موجود في الذهن بحسب ما يناسب الخارج كما إذا قيل فعلت ما في نفسي وقلت ما في نفسي فهو في النفس تصور له وارداه

ص: 305

وفي الخارج وجود المتصور والمراد وهذا أمر يعقله الناس ويعرفونه فلا يتصور عاقل أن المتصور في الذهن إذا قيل أنه موجود في الخارج يكون حقيقة هذا مماثلا لحقيقة هذا من كل وجه وأن هذا كما يقال إن هذا المحتوى مطابق لهذا اللفظ وهذا اللفظ مطابق لهذا المعنى والاعتقاد والتصور مطابق للحق فمن فهم هذا انحلت عليه شبهات تعرض في مثل هذا الوضع حتى ظن شخص كالرازي أن العلم ليس هو عمل أو انطباع العلوم في العالم واحتج بأن ذلك يوجب أن يكون في نفس العالم بالنار نار كالنار الموجودة في الخارج ولولا إدراكها وتصور المراد ما كانت ولا يخطر مثل هذا ببال عاقل يتصور ما يقول وكونه كليا قد يراد به وجوب شموله للأفراد فيكون عاما وقد يراد به أنه لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون مطلقا وهو مرادهم بكونه كليا وهو مورد التقسيم بين أنواع الموجودات فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام شامل لها متناول لها إما على سبيل الجمع وهو تناول العموم الجمعي وإما على سبيل

ص: 306

البدل وهو الإطلاق والعموم البدلي كقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وطائفة من هؤلاء يقولون أن الوجود الواجب هو هذا المطلق لا بشرط وعلى هذا التقدير فيكون هو عين وجود الموجودات الممكنة الموجودة أو جزء من ذلك فيكون الوجود الواجب الخالق للعالم هو نفس وجود المخلوق أو جزء من وجود المخلوق فقد تبين أنه إذا قيل أنه وجود مطلق فإن عنى به المطلق لا بشرط وهو الطبيعي لزم أن لا يكون للواجب وجود إلا وجود مخلوقاته أو جزء من وجود مخلوقاته وإن عنى به المطلق بشرط الإطلاق أمتنع وجوده إلا في الذهن وهو الكلي العقلي وإن عنى به الوجود المقيد بالقيود السلبية فقط كما قاله ابن سينا وأتباعه فهو وإن كان أخص من المطلق لا بشرط فهو أعم من المطلق بشرط الإطلاق عن السلب والثبوت وهو أعظم امتناعا منه عن الوجود في الخارج فإن المطلق المقيد بالثبوت أولى بالوجود من المطلق المقيد بالسلب والمقيد بسلب الثبوت والعدم ممتنع وهو أحق بالامتناع من وجه لكونه سلب فيه النقيضان والمقيد بالعدم أحق بالعدم من وجه من جهة كونه مشروطا فيه العدم فيمتنع أن يكون موجودا مع كونه معدوما فهذ0627

ص: 307

يستلزم العدم بنفسه وذاك يستلزم العدم بواسطة علمنا بأنه ممتنع وكل ممتنع معدوم فذاك أحق بظهور العدم وعلمنا بأنه معدوم مانعه من أن يكون موجودا وقد امتنع أن يكون معدوما كما يمتنع أن يكون موجودا إذ كان مقيدا بسلب الأمرين والعدم قد يكون له تحقق في الخارج كما يعدم عن الإنسان كونه فرسا وأما بين الوجود والعدم جميعا فلا يتحقق في الخارج لكن إذا قيل كل موجود مقيد بسلب جميع الحقائق كان هذا جمعا بين النقيضين وهذا يناسب قول من قال لا يوصف الرب إلا بصفة سلبية وذاك يناسب قول من قال لا يوصف الرب لا بسلبه ولا ثبوته

تم الجزء الأول بحمد الله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله وهذا الثاني قول غلاة القرامطة

ص: 308