الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسِّر بفضلك يا كريم، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين
(1)
.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، الموصوف بصفات الجلال، المنعوت بنعوت
(2)
الكمال، المُنزَّه عمَّا يضاد كماله مِن سلبِ حقائق أسمائه وصفاته، المستلزم لوصفه
(3)
بالنقائص وشبه
(4)
المخلوقين، فنفْيُ حقائق أسمائه وصفاته متضمِّنٌ للتعطيل والتشبيه، وإثباتُ حقائقها على وجه الكمال الذي لا يستحقه سواه هو حقيقة التوحيد والتنزيه، فالمُعطِّلُ جاحدٌ لكمال المعبود، والمُمثِّلُ مشبِّهٌ له بالعبيد، والمُوحِّدُ مُثبِتٌ
(5)
لحقائق أسمائه وكمال أوصافه، وذلك قُطب رَحَى التوحيد، فالمُعطِّل يعبد عدمًا، والمُمثِّل يعبد صنمًا، والمُوحِّد يعبد ربًّا ليس كمثله شيءٌ، له الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى، وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، فهو رحمته المهداة إلى العالمين، ونعمته التي أتمَّها على أتباعه من المؤمنين، أرسله على حين فترةٍ من الرُّسل، ودروسٍ من الكتب،
(1)
من قوله «رب يسر» إلى هنا في «ب» : «وبه أستعين» .
(2)
«ح» : «ونعوت» .
(3)
«ح» : «بوصفه» .
(4)
«ح» : «وسنة» .
(5)
«ح» : «مبين» .
وطموسٍ من السُّبل
(1)
، وقد استوجب أهل الأرض أن ينزل بساحتهم العذاب، وقد نظر الجبار جل جلاله إليهم، فمقتهم
(2)
عربَهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب، وكانت الأمم إذ ذاك ما بين مشركٍ بالرحمن، عابدٍ للأوثان، وعابدٍ للنيران، وعابدٍ للصلبان، أو عابدٍ للشمس والقمر والنجوم، كافرٍ بالله الحي القيوم، أو تائهٍ في بيداءِ ضلالتِه حيرانَ، قد استهواه الشيطان، وسدَّ عليه طريق الهدى والإيمان، فالمعروف عنده ما وافَقَ إرادته ورضاه، والمنكر ما خالف هواه، قد تخلى عنه الرحمنُ، وقارنَه الخِذلان، يسمع ويبصر بهواه لا بمولاه، ويبطش ويمشي بنفسه وشيطانِه لا بالله، فبابُ الهُدى دونه مسدود، وهو عن الوصول إلى معرفة ربِّه واتباع مرضاته مصدود، فأهل الأرض بين تائهٍ حيرانَ، وعبدٍ للدنيا فهو عليها لهفان، ومنقادٍ للشيطان، جاهلٍ أو جاحدٍ أو مشركٍ بالرحمن.
فالأرض قد غَشِيتها ظُلمةُ الكفر والشرك والجهل والعناد، وقد استولى عليها أئمة
(3)
الكفر وعساكر الفساد، وقد استند كلُّ قومٍ إلى ظُلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم، فسُوق الباطل نافقةٌ لها القيام، وسوق الحق كاسدةٌ لا تُقام، فالأرض قد صالت جيوش الباطل في أقطارها ونواحيها، وظنَّت أن تلك الدولة تدوم لها، وأنه لا مطمعَ بجند الله وحزبه فيها.
فبعث اللهُ رسولَه وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء،
(1)
«السبل» سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «فمنهم» .
(3)
«ح» : «أمة» .
ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ
(1)
الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فاقتضت رحمةُ العزيز الرحيم أنْ بَعَثَ الرسلَ به مُعَرِّفِين، وإليه دَاعِين، ولمن أجابهم مُبَشِّرِين، ولمن خالفهم مُنْذِرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزُبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن
(2)
الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعةٌ لمعرفة المَرْجُوِّ المَخُوف المَحْبُوب المُطَاع المَعْبُود.
ولمَّا كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الربِّ تعالى قال أفضلُ الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
…
» وذكر باقي الحديث، وهو في الصحيحين
(3)
، وهذا اللفظ لمسلم.
فأساسُ دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ معرفةُ الله سبحانه
(1)
جمع حِنْدِس، وهو الليل شديد الظلمة. «الصحاح» (3/ 916).
(2)
«ب» : «وإن» .
(3)
البخاري (1496) ومسلم (19).
بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلانِ عظيمان
(1)
:
أحدهما: تعريف الطريق المُوصِلة إليه، وهي شريعته المتضمِّنة لأمره ونهيه.
الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفَد، وقُرةِ العين التي لا تنقطع.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول، ومبنيَّان عليه، فأعرفُ الناس بالله أتبعُهم للطريق الموصل إليه، وأعرفُهم بحال السالكين عند القدوم عليه. ولهذا سمَّى اللهُ سبحانه ما أنزل
(2)
على رسوله رُوحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، ونورًا لتوقف الهداية عليه. قال الله تبارك وتعالى:{يُلْقِي اِلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 14] في موضعين من كتابه
(3)
. وقال [ق 2 أ] عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49].
فلا روحَ إلَّا فيما جاء به، ولا نورَ إلَّا فيما استضاء
(4)
به، فهو الحياة والنور، والعصمة والشفاء، والنجاة والأمن.
والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلَّا
(1)
«ب» : «أصلين عظيمين» .
(2)
«ب» : «أنزله» .
(3)
يقصد بالموضع الثاني قوله تعالى: {يُنزِلُ اُلْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2].
(4)
«ب» : «في الاستضاءة» .
فيما جاء به، ولا يقبل الله من أحدٍ دِينًا يَدِينه به إلَّا أن يكون موافقًا لدينه. وقد نزَّه سبحانه وتعالى نفسه عمَّا يصفه به العباد، إلَّا ما وصفه به المرسلون
(1)
فقال: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} [الصافات: 159 - 160] قال غيرُ واحدٍ من السلف: هم الرُّسل
(2)
.
وقال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اِلْعِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] فنزَّه نفسَه عمَّا يصفه به الخلقُ، ثم سلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسَه على تفرُّده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد.
الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون
(3)
، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا
(1)
«ح» : «ما وصف به المرسلين» . وهو يقلب المعنى.
(2)
لم نقف عليه، وقال ابن كثير في «تفسيره» (7/ 42):«وقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزَّه عن أن يكون له ولدٌ، وعمَّا يصفه به الظالمون الملحدون علوًّا كبيرًا، وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مُثبَت، إلا أن يكون الضمير في قوله: {عمَّا يَصِفُونَ} عائدًا إلى جميع الناس، ثم استثنى منهم المخلِصين، وهم المتَّبِعون للحق المنزَل على كل نبي ومرسَل» .
(3)
أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
فتضمنت هذه الكلمة إثبات صفات الكمال الذي أثبته لنفسه
(1)
، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل، وأنَّ ما وصف به نفسه فهو الذي يوصف به، لا ما وصفه به
(2)
(3)
. فأثبت في هذا القدر أنَّ فِعل الشكر إنَّما هو بنعمته على الشاكر، وهذا يدل على أنه رحمه الله مثبتٌ للصفات والقدر.
وعلى ذلك درَجَ يَزَكُ
(4)
الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون
(5)
، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا
(1)
«ح» : «لرؤيته» .
(2)
«به» . سقط من «ح» .
(3)
«الرسالة» (ص 7 - 8).
(4)
«ح» يزل. باللام، واليزك: كلمة فارسية معناها حرس الطليعة. «تكملة المعاجم العربية» (11/ 118) وقد استعملها المصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ في «النونية» وبيَّن معناها فقال:
2437 قومٌ أقامهم الإلهُ لحفظ هذا الـ
…
ـدين من ذي بدعةٍ شيطانِ
2438 وأقامهم حرسًا من التبديل
…
والتحريف والتتميم والنقصانِ
2439 يَزَك على الإسلام بل حصن له
…
يأوي إليه عساكر الفرقان
(5)
أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
إِلَى اَللَّهِ} فهو دليلٌ أنَّ أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل فهو صريح أنَّ أتباعَه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم
(1)
. والتحقيق أن العطف يتضمَّنُ المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله.
وقد شهِد سبحانه لمن يرى أن ما جاء به من عند الله هو الحقُّ لا آراء الرجال بالعلم، فقال تعالى:{وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 21]. فمن تعارَضَ عنده حقائقُ ما جاء به وآراء الرجال، فقدَّمها عليه أو
(2)
توقَّف فيه، أو قدحت في كمال معرفته وإيمانه به؛ لم يكن من الذين شَهِد الله لهم بالعلم، ولا يجوز أن يُسمَّى بأنه من أهل العلم.
فكيف يكون الداعي إلى الله على بصيرةٍ ـ الذي وصفه الله بأنه سراجٌ منيرٌ
(3)
، وبأنه هادٍ إلى صراطٍ مستقيم
(4)
، وبأنَّ من اتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح لا غيره
(5)
، وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون
(1)
ذكَر القولين في تفسير الآية: الواحدي في «البسيط» (12/ 263)، والبغوي في «معالم التنزيل» (4/ 284).
(2)
«ح» : «إذا» .
(3)
في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46].
(4)
في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 49].
(5)
في قوله تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
وينقاد لحُكْمِه، ولا يكون عنده حرجٌ منه، فليس بمؤمنٍ
(1)
ـ قد أخبر الأُمة عن الله وأسمائه وصفاته بما الحقُّ في خلاف ظاهره، والهُدى في إخراجه عن حقائقه، وحمله على وحشي اللغات ومستكرَهات التأويل، وأنَّ حقائقه ضلالٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ، والهدى والعلم في مجازه وإخراجه عن حقائقه، وإحالة
(2)
الأُمة فيه على آراء المتحيرين وعقول المتهوِّكين
(3)
؛
فيقول: إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيءٍ فلا تعتقدوا حقيقته، وخذوا معرفة مُرادي به من آراء الرجال ومعقولها؛ فإن الهدى والعلم فيه.
والدِّين إذا أُحِيلَ
(4)
على تأويلات المتأولين انتقضتْ عُرَاه كلها، ولا تشاء طائفةٌ من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلَّا وجدت السبيل إليه، وقالت لمن فتح لها باب التأويل: إنَّا تأولنا كما تأولتم، والنصوص أخبرتْ بما تأوَّلناه، كما أخبرتْ بما تأولتموه، فما الذي جعلكم في تأويلكم مأجورين، وجعلَنا عليه مأزورين
(5)
؟ والذي قادكم إلى التأويل
(1)
بعده في «ح» : «لأن الرسول عنده» . وأراها زائدة. وقوله: «وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون وينقاد لحُكْمِه ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمنٍ» . كذا وقع في النسختين وفي «المختصر» ، وفيه إشكال، والمعنى المراد ظاهر، مقتبَس من قوله تعالى:{* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64].
(2)
«ح» : «وأحال» .
(3)
التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير .. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 282).
(4)
«إذا أحيل» . سقط من «ح» .
(5)
«ب» : «مأزورين عليه» .
ما تقولون إنه معقول فمعنا نظيرُه أو أقوى منه أو دونه.
وسيأتي تمامُ هذا في بيان عجز المتأوِّلين عن الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ
(1)
.
والمقصود أنَّ
الله سبحانه قد أخبر أنه أكملَ له ولأُمَّتِه به دينَهم، وأتمَّ عليهم به نعمته،
ومحالٌ مع هذا أن يَدَع أهم ما خُلِق له الخَلْق، وأُرْسِلَت به الرُّسل، وأُنْزِلَت به الكتب، ونُصِبَت عليه القِبلة، وأُسِّست
(2)
عليه المِلَّة ـ وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ـ ملتبسًا مشتبهًا حقُّه بباطله، لم يتكلم فيه بما هو الحق، بل تكلم بما ظاهرُه الباطل، والحق في إخراجه عن ظاهره.
وكيف يكون أفضلُ الرُّسل وأجلُّ الكتب غيرَ وافٍ بتعريف ذلك على أتمِّ [ق 2 ب] الوجوه، مبيِّنٍ له بأكمل البيان، موضِّحٍ له غاية الإيضاح، مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته، ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلَّ ما حصَّلته القلوب.
ومن أبْينِ المُحَال أن يكون أفضلُ الرُّسل قد علَّم أُمَّتَه آدابَ البول قبله وبعده ومعه، وآدابَ الوطء، وآدابَ الطعام والشراب، ويترك أن يعلِّمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفتُه غايةُ المعارف، والوصول إليه أجلُّ المطالب، وعبادته وحده لا شريك له أقربُ الوسائل؛ ويخبرهم فيه بما ظاهره باطلٌ وإلحاد، ويحيلهم في فَهْم ما أخبرهم
(1)
وهو الفصل السادس.
(2)
«ح» : «وانتصبت» .
به على مستكرَهات التأويلات ومستنكَرات المجازات، ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم، وتُوجِبه آراؤهم.
هذا وهو القائل: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»
(1)
(2)
. وقال أبو ذرٍّ: «لقد تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلِّبُ جناحيه في السماء إلَّا ذَكَّرَنا منه عِلمًا»
(3)
. وقال عمر بن الخطاب: «قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقامًا، فذكر بدء الخَلْق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك مَن حفظَه ونسيه مَن نسيه» ذكره البخاري
(4)
.
و «صلَّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
(1)
أخرجه الإمام أحمد (17606) وابن ماجه (43) وابن أبي عاصم في «السنة» (48، 49) والحاكم (1/ 96) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. وهو قطعة من حديث الموعظة البليغة المشهور. وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 88): «رواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» بإسناد حسن».
(2)
أخرجه مسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (21970، 22053) والبزار في «المسند» (9/ 341) وابن حبان (65) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 155). وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 264): «ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم» . واختُلِف في وصل هذا الحديث وإرساله، ورجح الدارقطني إرساله. يُنظر:«علل الدارقطني» (1148) و «أطراف الغرائب» (4712). وروى مسلم في «صحيحه» (262)«قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل» .
(4)
«صحيح البخاري» (3192).
الظهر، ثم خطبهم حتى حضرت العصرُ، فصلى العصر، ثم خطب بهم حتى غربت الشمس، فلم يَدَع شيئًا كان ولا يكون مِن خَلْقِ آدم إلى قيام الساعة حتى أخبرهم به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه»
(1)
.
فكيف يتوهَّم مَن لله ولرسوله ودِينه في قلبه وقارٌ أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن بيان هذا الأمرِ العظيم، ولم يتكلم فيه بالصواب، بل تكلَّم بما ظاهره خلافُ الصواب؟! بل لا يتم الإيمان إلَّا باعتقاد أن بيان ذلك قد وقَعَ من الرسول على أتمِّ الوجوه وأوضحه غاية الإيضاح، ولم يدَعْ بعده لقائلٍ مقالًا ولا لمتأولٍ تأويلًا.
ثم من المحال أن يكون خيرُ الأُمة وأفضلُها وأعلمها وأسبقها إلى كل فضلٍ وهُدًى ومعرفةٍ قصَّروا في هذا الباب فجفَوْا عنه، أو تجاوزوا فغَلَوْا فيه، وإنما ابْتُلِيَ مَن خرج عن منهاجهم بهذين الداءين، وهُدوا لأحد الانحرافين.
ويَزَك الإسلام
(2)
وعصابة الإيمان وحُماة الدِّين هم الذين كانوا في هذا الباب قائلين بالحقِّ معتقدين له داعين إليه.
فإن قيل: القوم كانوا عن هذا الباب مُعرِضِين، وبالزهد والعبادة والجهاد مشتغلين، لم يكن هذا الباب من هِمَّتهم ولا عنايتهم به.
قيل: هذا من أَبْيَنِ المحال وأبطلِ الباطل، بل كانت عنايتهم بهذا الباب فوق كل عنايةٍ، واهتمامهم به فوق كل اهتمامٍ؛ وذلك بحسب حياة قلوبهم ومحبتهم لمعبودهم ومنافستهم في القرب منه، فمَن في قلبه أدنى حياةٍ أو
(1)
أخرجه مسلم (2892) عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه بنحوه.
(2)
أي: حرسه، كما تقدم (ص 8).
محبةٍ لربه وإرادةٍ لوجهه وشوقٍ إلى لقائه فطلبُه لهذا الباب وحرصُه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبرُ مقاصده، وأعظم مطالبه وأجلُّ غاياته، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيءٍ من الأشياء أشوقَ منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحُها بشيءٍ أعظمَ من فرحها بالظفر بمعرفة الحقِّ فيه. فكيف يمكن مع قيام هذا المقتضي ـ الذي هو من أقوى المقتضيات ـ أن يتخلف عنه أثره في خيار الأُمة وسادات أهل العلم والإيمان، الذين هِمَمهم أشرف الهمم، ومطالبهم أجلُّ المطالب، ونفوسهم أزكى النفوس، فكيف يُظن بهم الإعراضُ عن مثل هذا الأمر العظيم أو الغفلة عنه، أو التكلم بخلاف الصواب فيه واعتقاد الباطل.
ومن المُحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثةُ الصابئين وأفراخ اليونان ـ الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب، وأشهدوا اللهَ وملائكته عليهم به
(1)
، وشهد به عليهم الأشهادُ من أتباع الرُّسل ـ أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممَّن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان، وفضَّلهم على من سبقهم ومَن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، ما خلا النبيين والمرسلين. وهل يقول هذا إلَّا غبيٌّ جاهلٌ لم يَقدِر قدْر السلف، ولا عرف الله ورسوله وما جاء به!
قال شيخنا
(2)
: «وإنما أُتي
(3)
هؤلاء المبتدعةُ ـ الذين فضَّلوا طريقة الخلف على طريقة السَّلف ـ من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد
الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقهٍ ولا فهمٍ لمراد الله تعالى ورسوله منها، واعتقدوا أنهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 77]، وأن طريقة المتأخرين هي استخراجُ معاني النصوص وصرفُها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات.
فهذا الظن الفاسد أوجبَ تلك المقالةَ التي مضمونها نبذُ الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين [ق 3 أ] وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسببُ ذلك اعتقادُهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص. فلمَّا اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصِّفات في نفس الأمر، ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنًى، بقوا متردِّدين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى ـ وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم ـ وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وُضِعَ له إلى ما لم يُوضَع له ولا دَلَّ عليه بأنواع من المجازات والتكلُّفات
(1)
، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبهُ منها بالبيان والهدى، كما سيأتي بيانه مفصَّلًا إن شاء الله.
وصار هذا الباطل مركَّبًا من فساد العقل والجهل بالسمع، فلا سمعَ ولا عقل، فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهاتٍ فاسدةٍ ظنوها معقولاتٍ صحيحةً، فحرَّفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها، فلمَّا ابتُني
(2)
أمرُهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهالَ
(1)
«ح» : «وبالتكليفات» .
(2)
في «الفتوى الحموية» : «انبنى» .
السابقين ـ الذين هم أعلمُ الأُمة بالله وصفاته ـ واعتقاد أنهم كانوا أُميين بمنزلة الصالحين البُلْه، الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصَبَ السبقِ، واستولوا على الغاية، وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأوَّلين.
فكيف يتوهَّم مَن له أدنى مُسكةٍ
(1)
من عقلٍ وإيمانٍ أن هؤلاء المتحيِّرين الذين كَثُرَ في باب العلم بالله اضطرابُهم، وغلظ عن معرفة الله حجابُهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مَرَامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول
(2)
:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ
(3)
المَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
ويقول الآخر
(4)
:
(1)
يقال: فيه مُسكة من خير بالضم: أي بقية. «الصحاح» (4/ 1608).
(2)
البيتان أنشدهما الشهرستاني في «نهاية الإقدام» (ص 3) ولم ينسبهما لأحد. وقال ابن خلِّكان في «وفيات الأعيان» (4/ 274) في ترجمة الشهرستاني: «وذكر في أوَّل كتاب «نهاية الإقدام» بيتين وهما ـ فذكرهما ـ ولم يذكر لمن هذان البيتان. وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجه المعروف بابن الصائغ الأندلسي». وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (2/ 161) في ترجمة ابن سينا: «ويُنسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستاني في أول كتاب «نهاية الإقدام» .
(3)
زاد بعده في «ح» : «في تلك» .
(4)
الأبيات أنشدها الفخر الرازي في «رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 262) لنفسه، ورواها الشاطبي في «الإفادات والإنشادات» (1/ 84 - 85) بإسناده إليه.
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
ولَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وقال الآخر
(1)
: «لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ
(2)
، وتركتُ أهلَ الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهَوْني
(3)
عنه، والآن إن
(4)
لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي».
وقال آخر
(5)
: «أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام»
(6)
.
وقال آخر منهم عند موته
(7)
وقال آخر، وقد نزلت به نازلةٌ من سلطانه، فاستغاث بربِّ الفلاسفة فلم
(1)
هو إمام الحرمين الجويني، نسبَه له شيخُ الإسلام في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 407) وفي غيره، والسبكي في «الطبقات الكبرى» (5/ 185).
(2)
البحر الخضم: كثير الماء. «جمهرة اللغة» (1/ 608) شبَّه به الآراء والأهواء لكثرتها وتفرقها.
(3)
«ح» : «نهوا» .
(4)
«إن» سقط من «ب» .
(5)
نسبَه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 28) لأبي حامد الغزالي.
(6)
هذا آخر النقل من «الفتوى الحموية» .
(7)
هو الخونجي، قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 262):«وقد بلغني بإسنادٍ متصلٍ عن بعض رؤوسهم، وهو الخونجي صاحب «كشف الأسرار في المنطق» ، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن». فذكره.
يُغَثْ، قال
(1)
قال شيخنا
(2)
: «و
كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى
(3)
المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان،
ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!».
* * * * *
(1)
لم أقف على قائله.
(2)
«شيخنا» ليس في «ح» . والنقل من «الفتوى الحموية» (ص 196 - 200).
(3)
«ب» : «الجبارين» .
فصل
فهذه مقدِّمة بين يدَيْ جواب السؤال المذكور، وإنما يتبيَّنُ
(1)
حقيقةُ الجواب بفصول:
الفصل الأول: في
(2)
معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا.
الفصل
(3)
الثاني: في انقسام التأويل إلى صحيحٍ وباطلٍ.
الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء.
الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب.
الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير، وأنَّ الأول يمتنع وقوعُه في الخبر والطلب، والثاني يقع فيهما.
الفصل السادس: في تعجيز المتأوِّلين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ.
الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظيرَ ما فرُّوا منه.
الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فَهْمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأوَّلوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يقبل منه تأويله إلَّا بها.
(1)
«ح» : «تبيين» .
(2)
«الفصل الأول في» . في «ح» : «أحدها» .
(3)
من قوله: «الفصل الثاني» . إلى آخر فهرس الفصول ليس في «ح» .
الفصل العاشر: في أنَّ التأويل شرٌّ من التعطيل، فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص.
الفصل الحادي عشر: في أن قصدَ المتكلم من المخاطب حمْلَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد
(1)
.
الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونُصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته، وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه.
الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذِّكر يُنافي حمْله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره.
الفصل الرابع عشر: في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال.
الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرُّسل، وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل.
الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله.
الفصل السابع عشر: في أنَّ التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط عليها، ويرفع الثقة بالكلام إن سُلِّط عليه
(2)
، .......................................
(1)
«ب» : «والاعتقاد» . والمثبت من عنوان الفصل فيما سيأتي.
(2)
في «ب» : «عليها» . والصواب ما أثبت، وقد يكون «إنْ سُلِّط عليها» تكرَّر خطأ في «ب» ، فإنه لم يرد في عنوان الفصل فيما سيأتي.
ولا يمكن أُمةً من الأمم أن
(1)
تعيش عليه.
الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل، وأصحاب تخييل، وأصحاب تمثيل، وأصحاب تجهيل، وأصحاب سواء السبيل.
الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تُسهِّل على النفوس الجاهلة قَبولَ التأويل مع مخالفته للبيان
(2)
الذي علَّمه الله الإنسان وفطَرَه على قبوله.
الفصل العشرون: في بيان أنَّ أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطلٍ أبدًا.
الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالِبة للتأويل.
الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل، وانقسام الاختلاف إلى محمودٍ ومذمومٍ.
الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكُمهم إليه، وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله.
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحَوْا بها رُسومَ الإيمان، وهي:
قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظية لا تفيد علمًا ولا يحصل
(1)
«أن» أثبتُّه من عنوان الفصل فيما سيأتي.
(2)
«للبيان» سقط من «ب» في هذا الموضع، وأثبتناه من عنوان الفصل في موضعه.
منها يقين.
وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها.
وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن.
وقولهم: إذا تعارَضَ العقلُ ونصوصُ الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي
(1)
.
والله المسؤول أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويوفِّقَنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويُعِيننا على اجتنابه، وألَّا يجعلنا ممَّن يتقدم بين يديه ويدي رسوله، ولا ممن يُقَدِّم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي. وهو المسؤول أن يوفِّقَنا لما طلبناه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، مُدْنِيًا مِن رضاه، إنه خير مسؤولٍ، وأكرم مأمولٍ، وبه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
* * *
(1)
آخر السقط من «ح» .
الفصل الأول
في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا
التأويل: تفعيل مِن آلَ يؤولُ إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأَوَّلتُه تأويلًا: إذا صيرتَه إليه، فآلَ وتأوَّلَ، وهو مطاوِعُ أوَّلْتَه.
وقال الجوهري
(1)
: «التأويل: تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، وقد أوَّلتُه تأويلًا وتأوَّلْتُه بمعنًى؛ قال الأعشى
(2)
:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا
…
تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
قال أبو عبيدة: يعني تفسير حبِّها ومرجعه، أي أنه كان صغيرًا في قلبه فلم يزل يَنبُتُ حتى صار قديمًا كهذا [ق 3 ب] السَّقب
(3)
الصغير، لم يزل يشبُّ حتى صار كبيرًا مثل أمه وصار له ابنٌ يصحبه». انتهى كلامه.
ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا؛ لأنَّ الأمر يصير إليها، ومنه قوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58].
وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا؛ لأن الأمر ينتهي إليها، ومنه قوله:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52] فمجيءُ تأويله مجيءُ نفس ما أخبرت
(1)
«تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1627).
(2)
«ديوان الأعشى» (ص 113).
(3)
«ح» : «الشهب» . وهو تصحيف، قال الجوهري في «الصحاح» (1/ 148):«السقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى سقبة، ولكن حائل» .
به الرُسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله والجنة والنار.
ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وقال يوسف لأبيه:{يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: حقيقتها ومصيرها إلى هاهنا انتهت.
وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به. ومنه قول الخضر لموسى عليهما السلام بعد أن ذكَر له الحكمة المقصودة بما فعله من تخريق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا عوض: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 77]. فلمَّا أخبره بالعلة الغائية التي انتهى إليها فعله قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 81].
فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به: حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج، فإن الكلام نوعان: خبرٌ وطلبٌ. فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به، وتأويل ما أخبر الله به مِن صفاته وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوفٌ به من الصِّفات العُلى، وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها. قالت عائشة:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّلُ القرآنَ»
(1)
. فهذا التأويل هو نفس فِعل المأمور به
(2)
، فهذا التأويل في كلام الله ورسوله.
(1)
أخرجه البخاري (817) ومسلم (484).
(2)
«به» ليس في «ب» .
وأمَّا التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. ومنه قول ابن جرير وغيره: «القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا» ، يريد: تفسيره. ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في «الرد على الجهمية»
(1)
: «فيما تأولته مِن القرآن على غير تأويله» . فأبطلَ تلك التأويلاتِ التي ذكروها، وهي تفسيرها المراد بها، وهو تأويلها عنده. فهذا التأويل يرجع إلى فَهْم المعنى
(2)
وتحصيله في الذهن، والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج.
وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه
(3)
. وهذا هو الشائع في عُرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون:«التأويل على خلاف الأصل» ، و «التأويل يحتاج إلى دليل» .
وهذا التأويل هو الذي صُنِّف في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصَنَّف جماعةٌ في تأويل آيات
(4)
الصِّفات وأخبارها، كأبي بكر بن فُورَك
(5)
وابن مهدي الطبري
(6)
وغيرهما، وعارَضهم آخرون فصنَّفوا في إبطال تلك
(1)
«الرد على الجهمية» (ص 97).
(2)
«ح» : «المؤمن» .
(3)
«وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره» ليس في «ح» .
(4)
«ب» : «إثبات» .
(5)
كتابه «مشكل الحديث وبيانه» مطبوع معروف متداوَل.
(6)
هو أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، له كتاب «مشكل الأحاديث الواردة في الصفات» أو «تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات» ، كما في ترجمته في «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر (ص 195 - 196) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (8/ 492) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 466). وله مخطوط اسمه «تأويل الآيات المشكلة الموضحة» محفوظ في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب المصرية، في مجموع رقم 491.
التأويلات
(1)
، كالقاضي أبي يعلى
(2)
والشيخ موفَّق الدِّين ابن قُدامة
(3)
. وهو الذي حكى
(4)
غيرُ واحدٍ إجماعَ السلف على عدم القول به، كما سيأتي حكاية ألفاظهم، إن شاء الله تعالى.
* * * * *
(1)
«ح» : «ذلك التأويل» .
(2)
كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» مطبوع معروف متداوَل.
(3)
رسالته «ذم التأويل» مطبوعة معروفة متداوَلة.
(4)
«ب» : «حكي عن» .
فصل
وعلى هذا ينبني
(1)
الكلام في
(2)
الفصل الثاني
وهو: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل
فالتأويل الصحيح هو القسمان الأولان، وهما حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج، أو تفسيره وبيان معناه، وهذا التأويل يعمُّ المحكم والمتشابه والأمر والخبر.
قال جابر بن عبد الله في حديث حجة الوداع: «ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أَظهُرنا ينزل عليه القرآنُ، وهو يعلم تأويلَه، فما عَمِل به من شيءٍ عملنا به»
(3)
. فعِلْمُه صلوات الله وسلامه عليه بتأويله هو عِلمه بتفسيره وما يدل عليه، وعَملُه
(4)
به هو تأويلُ ما أُمِر به ونُهِيَ عنه.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة آخِذٌ بخِطام ناقته وهو يقول
(5)
:
(1)
«ح» : «يبنى» .
(2)
«في» ليس في «ب» .
(3)
أخرجه مسلم (1218) في حديث حجة الوداع الطويل.
(4)
«ب» : «وعلمه» . وهو تصحيف.
(5)
الحديث أخرجه الطبري في «تاريخه» (3/ 24) والطبراني في «المعجم الكبير» (14999) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4114) والبيهقي في «دلائل النبوة» (4/ 323) عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر مرسلًا. وأخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (627) عن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها به. وأخرجه الترمذي (2847) والنسائي (2873) وابن خزيمة (2680) وابن حبان (4521) عن أنس بن مالك رضي الله عنه دون قوله: «نحن قتلناكم على تأويله» ـ وهو موضع الشاهد هنا ـ وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب» .
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
…
خَلُّوا فكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
(1)
…
أَعْرِفُ حَقَّ اللهِ فِي قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
…
كَمَا قَتَلْنَاكُمْ
(2)
عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
…
وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِه
قال ابن هشام
(3)
: «نحن قتلناكم على تأويله
…
إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم. والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يُقِرُّوا بالتنزيل، وإنما يُقاتل على التأويل مَن أقرَّ بالتنزيل».
وهذا لا يلزم إن صحَّ الشِّعر عن ابن رواحة؛ لأن المراد بقتالهم على التأويل هو تأويل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. وكان دخولُهم المسجد الحرام عامَ القضية آمنين هو تأويلَ هذه الرؤيا التي أراها
(4)
[ق 4 أ] رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأنزلها الله في كتابه. ويدل عليه أن الشِّعر إنما يناسب خطاب الكفار.
(1)
«يا رب إني مؤمن بقيله» . في «ح» : «رسالة من هو من مثله» .
(2)
«ب» : «قلناكم» . وهو تصحيف.
(3)
«تهذيب السيرة» (2/ 371).
(4)
«ب» : «رآها» .
يبقى أن يقال: فلم يكن هناك قتالٌ حتى يقول: نحن
(1)
قتلناكم؟
فيقال: هذا تخويف
(2)
وتهديد، أي: إن قاتلتمونا قاتلناكم، وقتلناكم على التأويل والتنزيل. وعلى التقديرين فليس المرادُ بالتأويل صرْفَ اللفظ عن حقيقته إلى مجازه.
ومن هذا قول الزُّهري: «وقعت الفتنة وأصحاب محمدٍ متوافِرون، فأجمعوا أن كل مالٍ أو دمٍ أُصيب بتأويل القرآن فهو هدَرٌ، أَنزلوهم منزلة أهل الجاهلية»
(3)
.
أي: إن القبيلتين في الفتنة إنما اقتتلوا على تأويل القرآن ـ وهو تفسيره ـ وما ظهر لكل طائفةٍ منه حتى دعاهم إلى القتال. فأهلُ الجمل وصِفين إنما اقتتلوا على تأويل القرآن
(4)
، وهؤلاء يحتجون به وهؤلاء يحتجون به
(5)
.
نعم، التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى الله عليه وسلم لعمار:«تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»
(6)
. فقالوا: نحن لم نقتله، إنما قتله مَن جاء به حتى أوقعه بين
(1)
«نحن» ليس في «ح» .
(2)
في «ح» : «تحريف» . وهو تصحيف.
(3)
أخرجه الخلال في «السنة» (127).
(4)
من قوله: «وهو تفسيره» إلى هنا ليس في «ب» .
(5)
«وهؤلاء يحتجون به» ليس في «ح» .
(6)
أخرجه مسلم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة الأنصاري وأم سلمة رضي الله عنهم. ووقعت هذه اللفظة في بعض روايات «صحيح البخاري» (447) عن أبي سعيد الخدري، وينظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (35/ 74) و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 542). وقال ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 543):«روى حديث: «تقتلُ عمارًا الفئةُ الباغيةُ» جماعة من الصحابة، منهم: قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار ـ نفسه ـ وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدُّهم». وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (18/ 40):«قال العلماء: هذا الحديث حُجةٌ ظاهرةٌ في أن عليًّا رضي الله عنه كان محقًّا مصيبًا، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك» .
رماحنا. فهذا هو التأويل الباطل المخالِف لحقيقة اللفظ وظاهره؛ فإن الذي قتله هو الذي باشَرَ قتْلَه، لا مَن استنصر به. ولهذا ردَّ عليهم مَن هو أولى بالحق والحقيقة منهم؛ فقالوا: فيكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه؛ لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين.
ومن هذا قول عروة بن الزبير لمَّا روى حديث عائشة: «فُرضت الصلاةُ ركعتين ركعتين، فزِيدَ في صلاة الحضر، وأُقرَّت صلاةُ السفر. فقيل له: فما بال عائشة أتمَّت في السفر
(1)
؟ قال: تأوَّلت كما تأول عثمان»
(2)
. وليس مراده أن عائشة وعثمان تأوَّلا آية القصر على خلاف ظاهرها، وإنما مراده أنهما تأولا دليلًا قام عندهما اقتضى جوازَ الإتمام فعملا به، وكان عملُهما به هو تأويلَه، فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاَسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بامتثاله بقوله:
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»
(1)
. وكأن عائشة وعثمان تأوَّلا قوله: {فَإِذَا اَطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا اُلصَّلَاةَ} [النساء: 102] وإنَّ إتمامها من إقامتها.
وقيل: تأوَّلت عائشة أنها أُم المؤمنين، وأن أُمهم حيث كانت فكأنها مقيمة بينهم، وأن عثمان كان إمامَ المسلمين، فحيث كان فهو منزله. أو أنه كان قد عزم على الاستيطان بمنى، أو أنه كان قد تأهَّل بها، ومَن تأهَّل
(2)
ببلدٍ لم يثبت له حُكم المسافر. أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم، فأحبَّ أن يعلمهم فرض الصلاة وأنه أربعٌ. أو غير ذلك من التأويلات التي ظنَّاها أدلةً مقيِّدة لمطلق القصر أو مخصصة لعمومه، وإن كانت كلها ضعيفة.
والصواب هَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان إمامَ المسلمين، وعائشة أُم المؤمنين في حياته وبعد وفاته، وقد قَصَرَت معه، ولم يكن عثمان لِيقيمَ بمكة وقد بلغه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَخَّصَ بها للمهاجر
(3)
بعد قضاء نُسكه ثلاثًا»
(4)
. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت له حُكمُ الإقامة بمجرد التزوج ما لم يُزمِعِ
(5)
الإقامة وقَطْع السفر.
وبالجملة فالتأويل الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به السُّنَّة
(1)
متفق عليه، وقد تقدم.
(2)
من قوله: «أو أنه كان قد عزم» إلى هنا سقط من «ح» .
(3)
«ب» : «للمهاجرين» .
(4)
أخرجه البخاري (3933) ومسلم (1352) عن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
(5)
«ب» : «ترفع» . وهو تصحيف.
ويطابقها، هو التأويل الصحيح. والتأويل الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة هو التأويل الفاسد، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود.
ف
التأويل الباطل أنواعٌ:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظُ بوضعه، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم:«حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا رِجْلَهُ»
(1)
بأنَّ الرِّجْلَ جماعةٌ من الناس، فإن هذا لا يُعرف في شيءٍ من لغة العرب البتةَ.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظُ ببِنْيته الخاصة من تثنية أو جمعٍ، وإن احتملَه مفردًا، كتأويل قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقُه
(2)
وتركيبه، وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله:{* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] بأن إتيان الرب إتيانُ بعض آياته التي هي أمرُه. وهذا يأباه السياق كلَّ الإباء؛ فإنه يمتنع حملُه على ذلك مع التقسيم والترديد والتنويع.
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«ب» : «بسياقه» .
(3)
أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
وأحاديث الرؤية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها عنه جماعة كبيرة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد جمعها المصنف في آخر كتابه «حادي الأرواح» (2/ 625 - 685).
فتأويل الرُّؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتَها وظاهرها في غاية الامتناع، وهو ردٌّ وتكذيبٌ تَستَّرَ صاحبُه بالتأويل.
الرابع: ما لم يُؤلَف استعمالُه في ذلك المعنى في لغة المخاطب، وإنْ أُلِفَ في الاصطلاح الحادث. وهذا موضع زلَّت فيه
(1)
أقدامُ كثيرٍ من الناس، وضلَّت فيه أفهامهم؛ حيث تأولوا كثيرًا من ألفاظ النصوص بما لم يُؤلَفِ استعمالُ اللفظ له في لغة العرب البتةَ، وإن كان معهودًا في اصطلاح المتأخرين. وهذا ممَّا ينبغي التنبُّه له؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل.
كما تأوَّلت طائفةٌ قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 77، 78] بالحركة، وقالوا: استدلَّ بحركته على بطلان ربوبيته. ولا يُعرف في اللغة التي نزل بها القرآنُ أن الأفول هو الحركةُ البتةَ في موضعٍ واحدٍ.
وكذلك تأويل «الأحد» بأنه الذي لا يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ البتةَ. ثم قالوا: لو كان فوق العرش [ق 4 ب] لم يكن أحدًا. فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحدٌ من العرب ولا أهل اللغة، ولا يُعرَف استعمالُه في لغة القوم في هذا المعنى في موضعٍ واحدٍ أصلًا، وإنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومَن وافقهم.
وكتأويل قوله: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأن المعنى أقبل
(1)
زاد بعده في «ب» : «أكثر» .
على خلق العرش، فإن هذا لا يُعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأُمم أن مَنْ أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، ولا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه، ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو كتابة أو صناعة: قد استوى عليها، ولا لمن أقبل على الأكل قد استوى على الطعام. فهذه لغة القوم وأشعارهم وألفاظهم موجودة ليس في شيءٍ
(1)
منها ذلك البتة.
وهذا التأويل يَبطُل من وجوهٍ كثيرةٍ سنذكرها في موضعها
(2)
، لو لم يكن منها إلَّا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب هذا التأويل لكفاه، فإنه قد ثبت في الصحيح
(3)
: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . فكان العرش موجودًا قبل خلْقِ السماوات والأرض بأكثر من خمسين ألف سنة، فكيف يقال إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش.
والتأويل إذا تضمَّن تكذيب صاحبه
(4)
فحسبُه ذلك بطلانًا، وأكثر تأويلات القوم من هذا الطراز، وسيمر بك منها ما هو قُرة عين لكل موحدٍ، وسخنة عين لكل ملحدٍ.
(1)
«ب» : «بشيء» .
(2)
للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، وهو في «مختصر الصواعق» (3/ 888 - 946).
(3)
صحيح مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(4)
«ب» : «الرسول» .
الخامس: ما أُلِفَ استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النصُّ، فيحمله المتأوِّل في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيبٍ آخر يحتمله، وهذا مِن أقبحِ الغلط والتلبيس
(1)
، كتأويل اليدين في قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالنعمة. ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يدٌ، وقال عروة بن مسعود للصدِّيق:«لولا يدٌ لك عندي لم أَجْزِكَ بها لَأجبتُك»
(2)
؛ ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعلَ إلى نفسه، ثم تعدَّى الفعلُ إلى اليد بالباء التي هي نظير: كتبتُ بالقلم، وثنَّى
(3)
اليد، وجعل ذلك خاصةً خَصَّ بها صفِيَّه آدمَ دون البشر، كما خَصَّ المسيح بأنه نفَخَ فيه مِن رُوحه، وخَصَّ موسى بأنه كلَّمه بلا واسطة، فهذا ممَّا يحيل تأويل اليد في النصِّ بالنعمة، وإن كانت في تركيبٍ آخر تصلح لذلك، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنًى ما في تركيبٍ صلاحيته له في كل تركيبٍ.
وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 - 22] يستحيل فيها تأويلُ النظر بانتظار الثواب؛ فإنه أضاف النظرَ إلى الوجوه التي هي محلُّه، وعدَّاه بحرف «إلى» التي إذا اتصل بها فِعل النظر كان مِن نَظرِ العين ليس إلَّا، ووصَفَ الوجوهَ بالنضرة التي لا تحصل إلَّا مع حضور ما يُتنعَّم به لا مع التنغيص بانتظاره، ويستحيل مع هذا التركيب تأويلُ النظر بغير الرؤية، وإن
(1)
«ب» : «والبلية» .
(2)
أخرجه البخاري (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل.
(3)
«ح» : «وهي» .
كان النظرُ بمعنى الانتظار قد استُعْمِل في قوله: {اُنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] وقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اُلْمُرْسَلُونَ} [النمل: 36].
ومثلُ هذا قولُ الجهمي المُلبِّس: «إذا قال لك المشبِّه: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فقل له: العرش له عدَّة
(1)
معانٍ، والاستواء له خمسةُ معانٍ، فأي ذلك المراد؟ فإن المشبِّه يتحير ولا يدري ما يقول، ويكفيك مؤونته».
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون: ويلَك! ما ذنب الموحِّد الذي سمَّيتَه أنت وأصحابك مُشبِّهًا، وقد قال لك نفس ما قال الله، فوالله لو كان مُشبِّهًا ـ كما تزعم ـ لكان أولى بالله ورسوله منك؛ لأنه لم يتعدَّ النص.
وأمَّا قولك: «للعرش سبعة معانٍ أو نحوها، وللاستواء خمسة معانٍ» . فتلبيسٌ منك، وتمويهٌ على الجُهال، وكذبٌ ظاهرٌ؛ فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلَّا معنًى واحد، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معانٍ، فاللام للعهد، وقد صار بها العرشُ مُعَيَّنًا، وهو عرش الربِّ جل جلاله الذي هو سَرِير مُلكه، الذي اتفقت عليه الرُّسل
(2)
، وأقرَّت به الأُمم إلَّا مَن نابَذَ الرُّسلَ.
وقولك: «الاستواء له عدَّة معانٍ» . تلبيسٌ آخر؛ فإن الاستواء المُعدَّى بأداة «على» ليس له إلَّا معنًى واحد. وأمَّا الاستواء المطلق فله عدة معانٍ،
(1)
«ح» : «عنده» والمثبت من «ب» ، «م» ، وكتب فوقه في «ب»:«سبعة» . وعليه «ظ» أي أنه استظهار من الناسخ.
(2)
من قوله: «جل جلاله» إلى هنا سقط من «ح» .
فإن العرب تقول: استوى كذا: إذا انتهى وكملَ. ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13]. وتقول: استوى وكذا: إذا ساواه، نحو قولهم: استوى الماءُ والخشبةُ، واستوى الليلُ والنهارُ. وتقول: استوى إلى كذا: إذا قصدَ إليه عُلوًّا وارتفاعًا، نحو: استوى إلى السطح والجبل. واستوى على كذا أي: إذا ارتفع عليه وعلا عليه. لا تعرف العربُ غيرَ هذا.
فالاستواء في هذا التركيب نَصٌّ لا يحتمل غيرَ معناه، كما هو نصٌّ في قوله:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13] لا يحتمل غيرَ معناه، ونصٌّ في قولهم:«استوى الليلُ والنهارُ» في معناه لا يحتمل غيره. فدعوا التلبيس
(1)
فإنه لا يُجدِي عليكم إلَّا مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا.
السادس: اللفظ الذي اطَّرد استعمالُه في معنًى هو ظاهرٌ فيه، ولم يُعهَد استعمالُه في المعنى المؤوَّل، أو عُهِدَ استعمالُه فيه نادرًا، فتأويلُه حيث وردَ، وحملُه على خلاف المعهود من استعماله باطلٌ، فإنه يكون تلبيسًا وتدليسًا يُناقض البيانَ والهداية. بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفُّوا به من القرائن ما يُبيِّن للسامع مرادَهم به؛ لئلَّا يسبق فهمه إلى معناه المألوف. ومن تأمَّل [ق 5 أ] لغةَ القوم وكمالَ هذه اللغة وحكمةُ واضعها تبيَّن له صحة ذلك.
وأمَّا أنهم يأتون إلى لفظٍ له معنًى قد أُلف استعمالُه فيه، فيُخرِجونه عن معناه، ويطردون استعماله في غيره، مع تأكيده بقرائن تدل على أنهم أرادوا معناه الأصلي؛ فهذا من أمحلِ المحالِ. مثاله قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى
(1)
«ب» : «التلبس» .
يا تَكْلِيمًا} [النساء: 163]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ»
(1)
، وقوله:«إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا»
(2)
. وهذا شأن أكثر نصوص الصِّفات إذا تأمَّلها مَن شرح الله صدره لقَبولها، وفرح بما أُنزِلَ على الرسول منها، يراها قد حُفَّت
(3)
من القرائن والمؤكِّدات بما
(4)
ينفي عنها تأويلَ المتأوِّل.
السابع: كل تأويلٍ يعود على أصل النصِّ بالإبطال فهو باطلٌ، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ
(5)
نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»
(6)
بحمله على الأَمَةِ؛ فإن هذا التأويل ـ مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ ـ يرجع على أصل النصِّ بالإبطال، وهو قوله:«فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» ، ومهرُ الأَمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتَبة. وهذا
(1)
أخرجه البخاري (7443) ومسلم (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري.
(2)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3)
بعده في «ب» : «به» .
(4)
«ب» : «ما» .
(5)
«ب» : «نكحت» .
(6)
أخرجه أحمد (25104) وأبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879) وابن حبان (4074) والحاكم (2/ 182) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحسَّنَه الترمذي، وصححه الحاكم وابن حبان وابن عبد الهادي في «التنقيح» (4/ 286) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 533) ونقل ابن حجر في «البلوغ» (379) عن أبي عوانة تصحيحه. وينظر «نصب الراية» للزيلعي (3/ 184) و «موافقة الخُبر الخَبر» لابن حجر (2/ 205).
يرجع على أصل النص بالإبطال من وجهٍ آخر، فإنه أتى فيه بـ «أي» الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكَّدها بـ «ما» المقتضية تأكيدَ العموم
(1)
، وأتى بالنكرة في سياق الشرط، وهي تقتضي العموم، وعلَّق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضي لوجود الحكم بوجوده، وهو نكاحها نفسها، ونبَّهَ على العلة المقتضية للبطلان، وهي افتياتها على وليها، وأكد الحُكم بالبطلان مرةً بعد مرةٍ ثلاثَ مرات، فحملُه على صورة لا تقع في العالَم إلَّا نادرًا يرجع على مقصود النص بالإبطال
(2)
. وأنت إذا تأملتَ عامة تأويلات الجهمية رأيتَها من هذا الجنس بل أشنع.
الثامن: تأويل اللفظ الذي له معنًى ظاهر لا يُفهَم منه عند إطلاقه سواه بالمعنى الخفي الذي لا يطَّلع عليه إلَّا أفراد من أهل النظر والكلام، كتأويل لفظ الأحد الذي تفهمه الخاصةُ والعامة بالذات المجردة عن الصِّفات التي لا يكون فيها معنيان
(3)
بوجهٍ ما، فإن هذا لو أمكن ثبوتُه في الخارج لم يُعرَف إلَّا بعد مقدمات طويلة صعبة
(4)
جدًّا، فكيف وهو محال في الخارج، وإنَّما يفرضه الذهن فرضًا، ثم يستدل على وجوده الخارجي! فيستحيل وضعُ اللفظ المشهور عند كل أحدٍ لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء، وستمرُّ بك نظائرُه إن شاء الله تعالى.
التاسع: التأويل الذي يُوجِب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلوِّ
(1)
«وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم» . سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «بالبطلان» .
(3)
في النسختين: «معنيين» . والمثبت من «م» .
(4)
«ب» : «ضعيفة» .
والشرف، ويحطه إلى معنًى دونه بمراتبَ كثيرةٍ. وهو شبيه بعزلِ سلطانٍ عن مُلكه، وتوليته مرتبةً دون المُلك بكثيرٍ. مثالُه تأويل الجهمية قولَه:{وَهْوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 19] وقولَه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ونظائره بأنها فوقية الشرف، كقولهم: الدرهم فوق الفَلْس، والدينار فوق الدرهم. فتأمَّلْ تعطيلَ المتأوِّلين حقيقةَ الفوقية المطلقة التي هي من خصائص الربوبية، وهي المستلزِمة لعظمة الربِّ جل جلاله، وحطَّها إلى كَوْن قَدْره فوق قَدْر بني آدم، وأنه أشرفُ منهم.
وكذلك تأويلهم علوَّه بهذا المعنى، وأنه كعلوِّ الذهب على الفضة. وكذلك تأويلهم استواءَه على عرشه بقدرته عليه، وأنه غالب له. فيالله العجب هل ضلَّت العقول، وتاهت الأحلام
(1)
، وشكَّت العقلاءُ في كونه سبحانه غالبًا لعرشه قادرًا عليه، حتى يُخبِرَ به سبحانه في سبعة مواضعَ من كتابه مطردةٍ بلفظٍ واحدٍ، ليس فيها موضعٌ واحدٌ يُراد به المعنى الذي أبداه المتأوِّلون، وهذا التمدُّح والتعظيم كله لأجل أن يُعرِّفنا أنه قد غلب عرشَه وقدَرَ عليه، وكان ذلك بعد خلق السماوات والأرض! أفترى أنه
(2)
لم يكن سبحانه غالبًا للعرش قادرًا عليه في مدة تزيد على خمسين ألف سنةٍ، ثم تَجدَّدَ له ذلك بعد خَلْقِ هذا العالَم؟!
العاشر: تأويلُ اللفظ بمعنًى لم يدل عليه دليلٌ من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبيِّنُ الهادي بكلامه، إذ لو قصدَه لحفَّ بالكلام قرائنَ تدل على المعنى المخالِف لظاهره؛ حتى لا يُوقِعَ السامعَ في اللبس
(1)
«ح» : «الأحكام» . وهو تصحيف.
(2)
«أنه» من «ب» .
والخطأ، فإن الله سبحانه أنزل كلامه بيانًا وهدًى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحفَّ به قرائنَ تدل على المعنى الذي يتبادر غيرُه إلى فَهْم كل أحدٍ لم يكن بيانًا ولا هدًى.
فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل، وبالله المستعان.
* * * * *
الفصل الثالث
(1)
في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاءٌ
فهذا
(2)
الموضع ممَّا يغلط فيه كثيرٌ من الناس غلطًا قبيحًا، فإن المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم.
ويُعْرَف مراد المتكلِّم بطرقٍ متعددةٍ:
منها: أن يُصرِّح بإرادة ذلك المعنى.
ومنها: أن يستعمل اللفظَ الذي له معنًى ظاهر بالوضع، ولا تبيَّن
(3)
بقرينة تصحب الكلامَ أنه لم يُردْ ذلك المعنى.
فكيف إذا حفَّ بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتَه وما وُضِعَ له، كقوله:{وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. و «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي
(4)
الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ»
(5)
. و «اللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ
(6)
، عَلَيْهَا طَعَامُهُ
(1)
«ح» : «الثاني» .
(2)
«ب» : «هذا» .
(3)
كذا في النسختين.
(4)
«في» ليس في «ب» .
(5)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(6)
أمَّا دوية فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو والياء جميعًا، والدوية: الأرض القفر والفلاة الخالية، وأمَّا المهلكة فهي بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها، وهي موضع خوف الهلاك. «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/ 61).
وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُه عِنْدَ رَأْسِهِ، فاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ»
(1)
. فهذا ممَّا يقطع السامعُ فيه بمراد المتكلمِ، فإذا أخبر عن مراده [ق 5 ب] بما دلَّ عليه حقيقة لفظه الذي وُضِعَ له
(2)
مع القرائن المؤكِّدة له كان صادقًا في إخباره. وأمَّا إذا تأوَّل كلامَه بما لم
(3)
يدلَّ عليه لفظه، ولا اقترن به
(4)
ما يدلُّ عليه، فإخبارُه بأن هذا مراده كذبٌ عليه.
فقول القائل: يُحمَلُ
(5)
اللفظُ على كذا وكذا. يقال له: ما تعني بالحمل؟ أتعني به أن اللفظ موضوع لهذا المعنى، فهذا نقلٌ مجردٌ موضعُه كتب اللغة، فلا أثرَ لحملك. أم تعني به اعتقادَ أن المتكلم أراد ذلك المعنى الذي حملتَه عليه، فهذا قولٌ عليه بلا علمٍ، وهو كذبٌ مفترًى إن لم تأتِ بدليلٍ يدل على أن المتكلم أراده. أم تعني به أنك أنشأت
(6)
له معنًى، فإذا سمعتَه اعتقدت أن ذلك معناه؛ وهذا حقيقة قولك وإن لم تُرِدْه.
فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان
(1)
أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
«له» ليس في «ح» .
(3)
«لم» ليس في «ب» .
(4)
«ب» : «عليه» .
(5)
«ح» : «ويحمل» .
(6)
«ب» : «أن الشيء» .
لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير.
وحقيقة الأمر أن قول القائل: نحمله على كذا، أو نتأولُه بكذا. إنما هو من باب دفْعِ دلالة اللفظ على ما وُضِعَ له، فإن منازعَه لما احتجَّ عليه به، ولم يمكنه دفعُ ورودِه، دفَعَ معناه، وقال: أحملُه على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنًى آخر لم تذكروه، وهو أن اللفظ لمَّا استحال أن يراد به حقيقتُه وظاهرُه ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً، لا ابتداءً وإنشاءً.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إمَّا صدقٌ أو كذبٌ ـ كما تقدم ـ ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره، ولا يُبَيِّن للسامع المعنى الذي أراده، بل يقترن
(1)
بكلامه ما يُؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعميةَ على السامع حيث يسوغ ذلك، كما في المعاريض التي يجب أو يسوغ تعاطيها، ولكن المنكر غاية الإنكار أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته إذا قصد البيانَ والإيضاح وإفهام مراده. فالخطاب نوعان: نوعٌ يُقصَد به التعميةُ على السامع، ونوعٌ يُقصَد به البيانُ والهداية والإرشاد. فإطلاقُ اللفظ وإرادةُ خلاف حقيقته وظاهره من غير قرائنَ تحتفُّ به تُبيِّنُ المعنى
(2)
المراد، محلُّه النوع الأول لا الثاني، والله أعلم.
(1)
«ب» : «يعرب» .ولعله تحريف «يقرن» .
(2)
«المعنى» ليس في «ب» .
الفصل الرابع
(1)
في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب
لمَّا كان الكلام نوعان
(2)
: خبرٌ وطلبٌ، وكان المقصود من الخبر تصديقه، ومن الطلب امتثاله، كان المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكان كل تأويلٍ يعود على المخبِر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويلًا باطلًا.
والمقصود الفرقُ بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر، فالأول معرفته فرضٌ على كل مكلَّفٍ؛ لأنه لا يمكنه الامتثالُ إلَّا بعد معرفة تأويله.
قال سفيان بن عيينة: «السُّنَّة هي تأويل الأمر والنهي»
(3)
.
ولا خلاف بين الأُمة أنَّ الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل، وأرسخُهم في العلم أعلمُهم به. ولو كان معرفة هذا التأويل ممتنعًا على البشر لا يعلمه إلَّا اللهُ لكان العمل بنصوصه ممتنعًا، كيف والعمل بها واجبٌ، فلا بد أن يكون في الأُمة من يعرف تأويلَها، وإلا كانت الأُمة كلها مضيعةً لما أُمرت به.
وقد يكون معنى النَّص بيِّنًا جليًّا، فلا تختلف الأُمة في تأويله، وإن وقع الخلاف في حُكمه لخفائه على من لم يبلغه، أو لقيام معارضٍ عنده، أو
(1)
«ح» : «الثالث» .
(2)
كذا في النسختين بالألف، وهو خبر كان.
(3)
لم نقف عليه مسندًا إلى ابن عيينة بهذا اللفظ، وقد نسبه له شيخ الإِسلام ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 206) و «التدمرية» (ص 94).
لنسيانه = فهذا يُعذَر فيه المخالف إذا كان قصدُه اتباعَ الحق، ويثيبه اللهُ على قصده. وأمَّا من بلغه النَّصُّ وذكره، ولم يقم عنده ما يعارضه، فإنه لا يسعه مخالفتُه، ولا يُعذَر عند الله بتركه لقول أحدٍ كائنًا من كان.
وقد تكون دلالة اللفظ غير جليةٍ، فيشتبه المرادُ به بغيره، فهنا مُعترَك النزاع بين أهل الاجتهاد في تأويله، ولأجل التشابه وقع النزاع، فيَفهم منها هذا
(1)
معنًى فيؤولها به، ويَفهم منها غيره معنًى آخر فيؤولها به. وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا، والآية دلت على هذا وهذا، ويكون الراسخ في العلم هو الذي أوَّلَها بهذا وهذا، ومَن أثبت أحد المعنيين ونفى الآخر أقلُّ رسوخًا. وقد يكون أحدُ المعنيين هو المراد لا سيما إذا كانا متضادين، والراسخ في العلم هو الذي أصابه. فالتأويل في هذا القسم مأمورٌ به، مأجورٌ عليه صاحبُه، إمَّا أجرًا واحدًا وإمَّا أجرينِ
(2)
.
وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اُلنِّكَاحِ} [البقرة: 235] هل هو الأب أو الزوج
(3)
.
وتنازعوا في تأويل قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ اُلنِّسَاءَ} [النساء: 43] هل هو الجماع، أو اللمس باليد والقُبلة ونحوها
(4)
.
وتنازعوا في تأويل قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] هل
(1)
«ب» : «هذا منها» .
(2)
«ب» : «أجران» .
(3)
يُنظر: «تفسير الطبري» (4/ 317 - 332) و «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 30 - 31).
(4)
يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 62 - 75) و «الدر المنثور» (4/ 457 - 460).
هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة، أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب
(1)
.
وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين من الخُمس، هل هم قَرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرابة الإمام
(2)
.
وتنازعوا [ق 6 أ] في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِيئَ اَلْقُرْآنُ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا
(3)
؟
وتنازعوا في تأويل قوله: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] هل يتناول اللفظُ الحاملَ أم هو للحائل
(4)
فقط
(5)
؟
وتنازعوا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُلْمَيْتَةُ} [المائدة: 4] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا
(6)
؟
(1)
يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 49 - 54) و «الدر المنثور» (4/ 453 - 455).
(2)
يُنظر: «تفسير الطبري» (11/ 193 - 196) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1704 - 1705).
(3)
يُنظر: «تفسير الطبري» (10/ 658 - 667) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1645 - 1647).
(4)
«ب» : «للحامل» .
(5)
يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 119 - 120) و «الاستذكار» لابن عبد البر (18/ 175) و «زاد المعاد» للمصنف (5/ 528 - 529).
(6)
يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (1/ 132 - 135) و «التجريد» للقدوري (12/ 62 - 63) و «التمهيد» لابن عبد البر (23/ 12).
وتنازعوا في تأويل الكلالة
(1)
.
وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ}
(2)
[النساء: 11].
وأمثال ذلك.
ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصِّفات وأخبارها في موضعٍ واحدٍ، بل اتفقتْ كلمتُهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها، مع فهم معانيها وإثبات حقائقها. وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانًا، وأن العناية ببيانها أهمُّ؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبيَّنها الله ورسوله بيانًا شافيًا
(3)
لا يقع فيه لبسٌ ولا إشكالٌ يوقع الراسخين في العلم في منازعةٍ ولا اشتباهٍ.
ومَن شرَح الله لها صدره ونوَّر لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهرُ من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها. ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيَها إلَّا الخاصةُ من الناس، وأمَّا آيات الأسماء والصفات فيشترك
(1)
الكلالة: من قولك: تكلَّله النسب. وهو مَن مات ولم يكن له والد ولا ولدٌ، ورُوي عن ابن عباس أن الكلالة ما دون الولد، وروي عن غيره أن الكلالة ما خلا الأب. ويُنظر:«تفسير الطبري» (6/ 475 - 480) و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 887) و «الدر المنثور» (5/ 143 - 152).
(2)
اختُلف في عدد الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، فقيل اثنان، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أقلهم ثلاثة. ينظر:«تفسير الطبري» (6/ 464 - 467) و «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 227). وأفرد الحافظ ابن عبد الهادي لهذه المسألة جزءًا، ذكره ابن رجب في «ذيل الطبقات» (5/ 129).
(3)
«شافيا» ليس في «ب» .
في فهمها الخاص والعام، أعني: فَهْم أصل المعنى لا فهم الكُنْه والكيفية. ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} حتى بُيِّنَ لهم بقوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 185] وأمثالها من آيات الصِّفات، وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصِّفات
(1)
.
وأيضًا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عُرِفَ بيانها بالسُّنَّة؛ كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 195] فهذا مجملٌ في قدْر الصيام والإطعام، فبيَّنته السُّنَّة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة
(2)
. وكذلك قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اِلْعَتِيقِ} [الحج: 27] مجملٌ في مقدار الطواف، فبيَّنته السُّنَّة بأنه سبعٌ
(3)
. ونظائره كثيرة، كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج. وليس في آيات الصِّفات وأحاديثها مجملٌ يحتاج إلى بيانٍ مِن خارج، بل بيانها فيها، وإن جاءت السُّنَّة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصِّفات مجملةً محتملةً لا يُعلَم
(4)
المرادُ منها إلَّا بالسُّنَّة،
(1)
من قوله: «وأشكل على عمر» إلى هنا ليس في «ح» .
(2)
«بأنه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة» . في «ب» : «بنسك شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام» . والحديث أخرجه البخاري (1814) ومسلم (1201) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(3)
من قوله: «وكذلك قوله» إلى هنا ليس في «ح» .
(4)
في «ب» : «مجملة لا يفهم» .
بخلاف آيات الأحكام.
فإن قيل: هذا يرده ما قد عُرِفَ أن آياتِ الأمر والنهي والحلال والحرام مُحْكَمَةٌ، وآياتِ الصِّفات مُتشابهةٌ، فكيف يكون المُتشابه أوضحَ من المُحْكم؟!
قيل:
التشابه والإحكام نوعان:
تشابُه وإحكام يعمُّ الكتابَ كله، وتشابُه وإحكام يخص بعضه دون بعضٍ.
فالأول: كقوله تعالى: {اِللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 22] وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وقوله: {يس وَاَلْقُرْآنِ اِلْحَكِيمِ} [يس: 1].
والثاني: كقوله: {هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اُلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
فإن أردتم بتشابه آيات الصِّفات النوع الأول فنَعَم، هي متشابهة غير متناقضة، يشبه بعضها بعضًا، وكذلك آيات الأحكام. وإن أردتم أنه
(1)
يشتبه المرادُ بها بغير المراد، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي، فيكون متشابهًا بالنسبة إليه دون غيره. ولا فرقَ في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصِّفات، فإن المراد قد يشتبه
(2)
فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض.
وقد تنازَعَ الناس في المحكم والمتشابه تنازُعًا كثيرًا، ولم يُعرف عن أحدٍ
(1)
في «ح» : «أن» .
(2)
في «ح» : «تشبه» .
من الصحابة قط أن المتشابه آيات الصِّفات، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك، فكيف تكون آيات الصِّفات متشابهة
(1)
عندهم، وهم لا يتنازعون في شيءٍ منها، وآيات الأحكام هي المُحكَمة، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنَّما هذا قول بعض المتأخرين، وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى.
* * * * *
(1)
في «ح» : «متشابه» .
الفصل الخامس
(1)
في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير
وأن الأول ممتنعٌ
(2)
وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما
ذكَر الله سبحانه التحريف ـ وذمَّه حيث ذكره ـ وذكر التفسير وذكر التأويل.
فالتفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، قال الله تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] وهذا غاية الكمال، أن يكون المعنى في نفسه حقًّا، والتعبير عنه أفصحَ تعبيرٍ وأحسنه. وهذا شأن القرآن وكلام الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه. والنوعان مأخوذان في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيهما
(3)
، وهم شيوخ المحرِّفين وسلفُهم؛ فإنهم حرَّفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، وما غُلِبوا عن تحريف لفظه حرَّفوا معناه، ولهذا وُصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأُمم. ودرج على آثارهم في ذلك الرافضةُ؛ فهم أشبهُ بهم من القُذَّة بالقُذَّة
(4)
، والجهميةُ؛ فإنهم سلكوا في
(1)
«ح» : «الرابع» .
(2)
«ب» : «يمتنع» .
(3)
«ح» : «فيها» .
(4)
القذة: ريشة السهم، وقوله:«أشبه بهم من القذة بالقذة» أراد تمام الشبه بينهما؛ لأن كل واحدة من القذتين تُقَّدر على قدر صاحبتها وتقطع. ينظر «النهاية في غريب الحديث» (4/ 28).
تحريف النصوص الواردة
(1)
في الصِّفات مسالكَ إخوانهم من اليهود. ولمَّا لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرَّفوا معانيَه وسطَوْا عليها، وفتحوا باب التأويل لكل ملحدٍ يكيد الدِّين، فإنه جاء فوجد بابًا مفتوحًا وطريقًا مسلوكة، ولم يمكنهم أن يُخرِجوه من بابٍ، أو يردُّوه من طريقٍ قد شاركوه فيها. وإن كان الملحد قد وسَّع بابًا هم فتحوه وطريقًا [ق 6 ب] هم اشتقوه
(2)
فهُمَا بمنزلة رجلين ائتُمِنا على مالٍ، فتأوَّل أحدهما وأكل منه دينارًا، فتأوَّل الآخر، وأكل منه عشرة. فإذا
(3)
أنكر عليه صاحبُه قال: إن حلَّ
(4)
أكلُ الدينار بالتأويل حلَّ
(5)
أكلُ العشرة به. ولا سيما إذا زعم آكِلُ الدينار أن الذي ائتمنه إنما أراد منه التأويل، وأن المتأول أعلم بمراده من الممسك، فيقول له صاحبه: أنا أسعدُ منك وأولى بأكل هذا المال.
والمقصود أن التأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل.
فتأويل التحريف من جنس الإلحاد؛ فإنه هو المَيْل بالنصوص عمَّا هي عليه، إمَّا بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها. وكذلك الإلحاد في أسماء الله، تارةً يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارةً يكون بإنكار المُسمَّى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها. فالتأويل الباطل هو
(1)
«الواردة» ليس في «ب» .
(2)
«ح» : «استبقوه» .
(3)
«ح» : «وإذا» .
(4)
«ح» : «أكل» .
(5)
«ح» : «أكل» .
إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.
فمِن تأويل التحريف والإلحاد تأويل الجهمية قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] أي: جرَّحَ قلبَه بالحِكم والمعارف تجريحًا.
ومن تحريف اللفظ تحريف إعراب قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ} من الرفع إلى النصب، وقال: وكلم اللهَ، أي: موسى كلم الله، ولم يكلمه اللهُ. وهذا من جنس تحريف اليهود، بل أقبح منه، واليهود في هذا الموضع أولى بالحق منهم. ولمَّا حرَّفها بعض الجهمية هذا التحريفَ قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فبُهت المحرِّف.
ومن هذا أن بعض الفرعونية سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يُقرأ «العرشُ» بالرفع في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]؟ وقصد الفرعوني بهذا التحريف أن يكون الاستواءُ صفةً للمخلوق لا للخالق، ولو تيسر لهذا الفرعوني هذا التحريف في هذا الموضع لم يتيسر له في سائر الآيات!
ومن تأويل التحريف تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاواتِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ
(1)
عَلَى الصَّفْوَانِ فَيُصْعَقُونَ، فَيَكُون أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ جِبْرِيلُ»
(2)
.
قالوا: تأويله إذا تكلَّم مَلَكُ الله بالوحي، لا أن الله يتكلم. فجعلوا
(1)
كذا، وفي «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج:«صلصلة كجر السلسلة» .
(2)
أخرجه أبو داود (4738) وابن خزيمة في «التوحيد» (207) وابن حبان (37) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (548) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (433) عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا بنحوه.
ورواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (482، 484) وابن خزيمة في «التوحيد» (208) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (549) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (432) عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا. وعلقه البخاري في «صحيحه» (9/ 141).
ورجح الموقوف الدارقطني في «العلل» (852) والخطيب في «تاريخه» (13/ 328).
ولم أقف في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على قوله: «فيكون أول من يفيق جبريل» . وقد وجدت المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في «تهذيب السنن» (3/ 303) عقب ذكره لحديث ابن مسعود عزا نحو هذا اللفظ للبيهقي من حديث نعيم بن حماد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن يزيد بن جابر، عن ابن أبي زكريا، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه. قلت: والحديث في «الأسماء والصفات» (435)، وقد رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (515) وابن خزيمة في «التوحيد» (206) وغيرهما. لكن قال عنه عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم: لا أصل له. نقله عنه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1783).
وروى البخاري في «صحيحه» (7481) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا نحو حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعًا وموقوفًا، ينظر:«الدر المنثور» (12/ 208 - 211).
صعقَ الملائكة وخرورهم سُجَّدًا لكلام جبريل الذي قد صُعق معهم مِن كلام نفسه.
ومن تأويل التحريف تأويلُ القدرية المجوسية نصوصَ القَدَرِ بما أخرجها عن حقائقها ومعانيها، وتأويلُ الجهمية نصوصَ الصِّفات بما أخرجها عن حقائقها، وأوجبَ تعطيل الربِّ جل جلاله عن صفات كماله،
كما عطلته القدريةُ عن كمال قدرته ومشيئته.
فنحن لا ننكر التأويل، بل حقيقةُ العلم هو التأويلُ، والراسخون في العلم هم أهل التأويل، ولكن أي التأويلينِ؟ فنحن أسعدُ بتأويل التفسير من غيرنا، وغيرنا أشقى بتأويل التحريف منَّا، والله الموفِّق للصواب.
* * * * *
الفصل السادس
(1)
في تعجيز المتأولين عن تحقيق
(2)
الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات
(3)
الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أنَّ الله سبحانه وصف نفسه بصفات، وسمَّى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال. فسمَّى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، إلى سائر ما ذَكَر من أسمائه الحُسنى. ووصف نفسه بما ذكره من الصِّفات، كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب ويكره، ويمقت ويرضى، ويغضب ويأسف ويسخط، ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له عِلمًا وحياة وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا ووجهًا، وأنَّ له يدين، وأنَّه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأنَّ السماوات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك ممَّا وصف به نفسَه ووصفه به رسولُه.
فيقال للمتأوِّل: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حملَه على حقيقته، أم تُقِرُّ
(4)
الجميع على ظاهره وحقيقته، أم تفرِّق بين بعض
(1)
«ح» : «الخامس» .
(2)
«ح» : «حقيقة» .
(3)
«ح» : «إثبات» .
(4)
«ح» : «تفسر» .
ذلك وبعضه؟
فإن تأوَّلت الجميع وحملتَه على خلاف حقيقته كان ذلك عنادًا ظاهرًا وكفرًا صُراحًا وجحدًا للربوبية
(1)
، وحينئذٍ فلا تستقر لك قدمٌ على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله. فإن أعطيتَ هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقتَ
(2)
بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يُثْبتون للعالَم خالقًا ولا ربًّا.
فإن قلتَ: بل أُثْبِتُ أنَّ للعالَم صانعًا وخالقًا، ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه، وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوَّلُه.
قيل لك: فهذه الأسماء الحُسنى والصفات التي وصف بها نفسَه هل تدل على معانٍ ثابتة هي حقٌّ في نفسها أم لا تدل؟ فإن نفيتَ دلالتها على معنًى ثابت كان ذلك غايةَ التعطيل، وإن أثبتَّ دلالتها [ق 7 أ] على معانٍ هي حقٌّ ثابتٌ، قيل لك: فما الذي سوَّغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتَّه ونفيتَه وسكتَّ عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو
(3)
العقل؟
ودلالة النصوص
(4)
على أنَّ له سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرةً وإرادةً وحياةً وكلامًا كدلالتها على أن له رحمةً ومحبةً وغضبًا ورضًى وفرحًا وضحكًا ووجهًا ويدينِ، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلِمَ نفيتَ حقيقةَ رحمتِه
(1)
«ح» : «لربوبيته» .
(2)
«ح» : «ألحقت» .
(3)
«ب» : «و» .
(4)
«ح» : «النص» .
ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتَها بنفس الإرادة؟
فإن قلتَ: لأن
(1)
إثباتَ الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهًا وتجسيمًا، وإثباتَ حقائق هذه الصِّفات يستلزم التشبيهَ والتجسيم، فإنها لا تُعقَل إلَّا في الأجسام، فإن الرحمة رقَّة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسرُّه عليه.
قيل لك
(2)
: وكذلك الإرادة هي مَيْلُ النفس إلى جلب ما ينفعها ودفْعِ ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبتَّه من الصِّفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم
(3)
في نفس العالِم، أو صفة عَرَضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيهُ والتجسيم من إثبات تلك الصِّفات، ولم يلزم من إثبات هذه؟
فإن قلتَ: لأني
(4)
أثبتُّها على وجهٍ لا يُماثل صفاتنا ولا يشابهها.
قيل لك: فهلَّا أثبتَّ الجميع على وجه لا يُماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها
(5)
، ولِمَ فهمتَ من إطلاق هذا
(6)
التشبيهَ والتجسيم، وفهمتَ
(1)
«ح» : «إن» .
(2)
«ح» : «قبل ذلك» .
(3)
«ب» : «العلوم» .
(4)
«ح» : «أنا» .
(5)
من قوله: «قيل لك: فهلا أثبت» إلى هنا ليس في «ح» .
(6)
«ح» : «هذه» .
من إطلاق تلك التنزيهَ والتوحيد؟ وهلَّا قلتَ: أثبتُّ له رحمةً
(1)
ومحبةً وغضبًا ورضًى وضحكًا ليس من جنس صفات المخلوقين.
فإن قلتَ: هذا لا يُعقل.
قيل لك: فكيف عقلتَ سمعًا وبصرًا وحياةً وإرادةً ومشيئةً ليست من جنس صفات المخلوقين؟!
فإن قلتَ: أنا أفرِّق بين ما يُتأوَّل وبين
(2)
ما لا يُتأوَّل بأن
(3)
ما دلَّ العقل على ثبوته يمتنع تأويلُه، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر. وما لا يدل عليه العقلُ يجب أو يسوغ تأويله، كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى، فإن الفعل
(4)
المحكَم دلَّ على قدرة الفاعل، وإحكامه دلَّ على علمه، والتخصيص دلَّ على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دلَّ عليه صريح العقل.
قيل لك أولًا: وكذلك الإنعام والإحسان وكشْف الضر وتفريج الكربات دلَّ على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيصُ بالكرامة والاصطفاءُ والاجتباءُ دالٌّ على المحبة كدلالة ما ذكرتَ على الإرادة، والإهانةُ والطردُ والإبعادُ والحرمانُ دالٌّ على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى، والعقوبةُ والبطشُ والانتقامُ
(5)
دالٌّ على الغضب كدلالة ضدِّه على الرضى.
(1)
«ح» : «وجه» .
(2)
«بين» ليس في «ب» .
(3)
«ب» : «فإن» .
(4)
«ب» : «العقل» .
(5)
«ح» : «والإسقام» .
ويقال ثانيًا: هَبْ أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصِّفات التي نفيتَها، فإنه لا ينفيها، والسمع دليلٌ مستقلٌّ بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظمُ من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يُسوِّغ لك نفيَ مدلوله؟
ويقال لك ثالثًا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهًا وتجسيمًا فهو يقتضيه في الجميع، فأوِّلِ الجميعَ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يَجُزْ تأويلُ شيءٍ منه. وإن زعمتَ أن
(1)
بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طُولِبتَ بالفرق بين الأمرين، وعادت المطالبة جذَعًا.
ولمَّا تفطَّنَ بعضُهم لتعذُّر الفرق قال: ما دلَّ عليه الإجماعُ كالصِّفات السبعة لا يُتأوَّل، وما لم يدلَّ عليه إجماعٌ فإنه يُتأوَّل. وهذا كما تراه مِن أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبتَ ما يدل على التجسيم والتشبيه، ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم، وهذا قدحٌ في الإجماع فإنه لا ينعقد على باطل.
ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصِّفات، وظاهرُها يقتضي التجسيم والتشبيه
(2)
، بطل نفيُكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريقُ به.
ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم تُجمِع
(3)
معكم على إثبات هذه الصِّفات.
(1)
«أن» ليس في «ب» .
(2)
«ح» : «التشبيه والتجسيم» .
(3)
في النسختين: «يجمع» . والمثبت من «م» .
فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم.
قيل: صدقتم والله، والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصِّفات أجمعوا على إثبات سائر الصِّفات ولم يخصُّوها بسبعٍ، بل تخصيصُها بسبع خلافُ قول السلف وقول الجهمية والمعتزلة. فالناس كانوا طائفتين: سلفية وجهمية، فحدَثَت الطائفةُ السَّبعية، واشتقت قولًا بين القولين، فلا للسلف اتبعوا، ولا مع الجهمية بقوا.
وقالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهرُه جوارح وأبعاض، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يُتأوَّل. وما كان ظاهره جوارح وأبعاض، كالوجه واليدين والقدم والسَّاق والإصبع، فإنه يتعين تأويلُه؛ لاستلزام إثباته التركيبَ والتجسيم.
قال المُثبِتون: جوابُنا لكم بعين الجواب
(1)
الذي تُجِيبون به
(2)
خصومَكم من الجهمية والمعتزلة نفاةِ الصِّفات، فإنهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفةٌ وجودية [ق 7 ب]، كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، لكان مَحَلًّا للأعراض، ولزم التركيبُ والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجهٌ ويدٌ وإصبعٌ لزم التركيبُ والانقسام. فحينئذٍ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به.
فإن قلتم: نحن نُثبِت هذه الصِّفات على وجهٍ لا تكون أعراضًا، ولا نسمِّيها أعراضًا، فلا يستلزم تركيبًا ولا تجسيمًا.
(1)
«الجواب» من «ب» .
(2)
«به» من «ب» .
قيل لكم: ونحن نُثبِت الصِّفات التي أثبتها اللهُ لنفسه و
(1)
نفيتموها أنتم عنه على وجهٍ لا يستلزم الأبعاضَ والجوارح، ولا يُسمَّى المتصفُ بها مركَّبًا ولا جسمًا ولا منقسمًا.
فإن قلتم: هذه لا يُعقل منها إلَّا الأجزاء والأبعاض.
قلنا لكم: وتلك لا يُعقل منها إلَّا الأعراض.
فإن قلتم: العَرَضُ لا يبقى زمانينِ، وصفاتُ الربِّ باقيةٌ قديمة أبدية فليست أعراضًا.
قلنا: وكذلك الأبعاض، هي ما جاز مفارقتُها وانفصالها وانفكاكها، وذلك في حقِّ الربِّ تعالى مُحالٌ، فليست أبعاضًا ولا جوارحَ، فمفارقة الصِّفات الإلهية للموصوف بها مستحيلٌ مطلقًا في النوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قلتم: إن كان الوجهُ عينَ اليد وعينَ الساق والإصبع فهو مُحالٌ، وإن كان غيرَه لزم التميزُ
(2)
، ويلزم التركيب.
قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر، وهما نفس العِلم، وهي نفس الحياة والقدرة، فهو مُحالٌ، وإن تميزت لزم التركيب. فما هو جوابٌ لكم فالجواب مشتركٌ.
فإن قلتم: نحن نعقل صفاتٍ ليست أعراضًا تقوم بغير جسمٍ متحيزٍ
(3)
،
(1)
«ب» : «إذ» .
(2)
«ح» : «التمييز» .
(3)
ليس في «ح» .
وإن لم يكن لها نظيرٌ في الشاهد.
قلنا لكم: فاعقلوا صفاتٍ ليست بأبعاض تقوم بغير جسمٍ، وإن لم يكن له
(1)
في الشاهد نظير.
ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة، ولكنْ فرقٌ غير نافعٍ لكم في التفريق بين النوعين، وأنَّ أحدهما يستلزم التجسيمَ والتركيب والآخرَ لا يستلزمه. ولمَّا أخذ هذا الإلزامُ بحُلُوق
(2)
الجهمية قالوا: الباب كله عندنا واحد، ونحن ننفي الجميعَ.
فتَبَيَّن
(3)
أنه لا بد لكم من واحدٍ من أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا هذا
(4)
النفي العام والتعطيل المحض، وإمَّا أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسولُه، ولا تتجاوزوا القرآن والحديث، وتتَّبعُوا في ذلك سبيل السلف الماضين
(5)
، الذين هم أعلمُ الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتًا، وأشد تعظيمًا لله وتنزيهًا له عمَّا لا يليق بجلاله. فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسُّنَّة لا تُرد بالشُّبهات، فيكون ردُّها من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه. ولا يترك تدبرها ومعرفتها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم خرُّوا عليها صُمًّا وعُميانًا.
(1)
من قوله: «نظير في الشاهد» إلى هنا ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «بحراق» .
(3)
«ح» : «فبين» .
(4)
«ح» : «هكذا» .
(5)
«ح» : «الماضي» .
ولا يقال: هي ألفاظ لا تُعقَل معانيها ولا يُعرف المرادُ منها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين لا يعلمون الكتاب إلَّا أمانيَّ. بل هي آياتٌ بيناتٌ دالةٌ على أشرف المعاني وأجلِّها، قائمة حقائقها في صدور الذين أُوتوا العلم والإيمان إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك.
فكان الباب عندهم بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فآنَسُوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطِّلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون. وعلموا أن الصِّفات حُكمها حكمُ الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تُشبِه الذوات فصفاتُه لا تشبه الصِّفات. فما جاءهم من الصِّفات عن المعصوم تلقَّوْه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار لعلمهم بأنه صفةُ مَن لا شبيهَ
(1)
لذاته ولا لصفاته.
قال الإمام أحمد: «إنما التشبيه أنِّي أقول
(2)
: يدٌ كَيَدٍ، أو وجهٌ كوجهٍ»
(3)
.
فأمَّا إثبات يدٍ ليست كالأيدي، ووجهٍ ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياةٍ ليست كغيرها من الحياة، وسمعٍ وبصرٍ ليس كالأسماع والأبصار.
(1)
«ح» : «يشبه» .
(2)
«ب» : «أن تقول» .
(3)
أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (7/ 326)
…
من رواية حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، ونقله القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (1/ 43).
وليس إلَّا هذا المسلك، أو مسلك التعطيل المحض، أو التناقض الذي لا يَثبُت لصاحبه قدمٌ في النفي ولا في الإثبات، وبالله التوفيق.
وحقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها
(1)
ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ
(2)
إليه والقواعد التي أصَّلَتْها
(3)
، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه.
ولهذا لما أصَّلتِ الرافضةُ عداوةَ الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأوَّلُوه.
ولمَّا أصَّلت الجهميةُ أنَّ الله لا يتكلم ولا يكلِّم أحدًا، ولا يُرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبايِنٌ لخلقه، ولا له صفة تقوم به. أوَّلوا كل ما خالف ما أصَّلوه.
ولمَّا أصَّلتِ القدريةُ أنَّ الله سبحانه لم يخلق أفعالَ عباده ولم يُقدِّرها عليهم، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم
(4)
.
(1)
«ح» : «نحلها» .
(2)
«ح» : «ذهب» .
(3)
«ح» : «أصلها» .
(4)
«ب» : «ذلك» .
ولمَّا أصَّلت المعتزلةُ القول بنفوذ الوعيد، وأن مَنْ دخل النار لم يخرج منها أبدًا، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم
(1)
.
ولمَّا أصَّلت المرجئةُ أنَّ الإيمان هو المعرفة، وأنَّها لا تزيد ولا تنقص، أوَّلوا ما خالف أصولهم.
ولمَّا أصَّلت الكُلَّابيةُ أنَّ الله سبحانه لا يقوم به ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وسمَّوْا ذلك حلولَ الحوادث، أوَّلوا كل ما خالف هذا الأصل.
ولمَّا أصَّلت الجبريةُ أنَّ قدرة العبد لا تأثيرَ لها في الفعل بوجهٍ من الوجوه، وأن حركات [ق 8 أ] العباد بمنزلة هُبوب الرياح وحركات الأشجار، أوَّلوا كل ما جاء بخلاف ذلك.
فهذا في
(2)
الحقيقة هو عيار التأويل عند الفرق كلِّها، حتى المقلِّدين في الفروع ـ أتباع الأئمة الذين اعتقدوا المذهب ثم طلبوا الدليل عليه ـ ضابطُ ما يُتأوَّل عندهم وما لا يُتأوَّل: ما خالف المذهبَ أو وافقَه. ومَن تأمَّل مقالات الفرق ومذاهبها رأى ذلك عِيانًا، وبالله التوفيق.
وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد
(3)
قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي
(4)
مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين
(5)
ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا
(6)
منهم أن يحتج على
(1)
قوله: «ولما أصَّلت المعتزلة» إلى هنا ليس في «ح» .
(2)
في «ب» : «هو» . وكتب فوقه: «في» .
(3)
«ب» : «شواهد» .
(4)
«ح» : «جلي» .
(5)
«به بين» من «ب» .
(6)
«ح» : «أحد» .
مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله
(1)
.
* * * * *
(1)
سيأتي في الفصل العشرين.
الفصل السابع
(1)
في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه
هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون
(2)
فيما هو أعظمُ محذورًا، كحال الذين تأوَّلوا
(3)
نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارًا من التحيز والحصر، ثم قالوا: هو في كل مكانٍ بذاته. فنزهوه عن استوائه على عرشه ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأمكنة التي
(4)
يُرغَب عن ذكرها. فهؤلاء قُدماء الجهمية، فلما عَلِم متأخِّروهم فسادَ ذلك قالوا: ليس وراء العالَم ولا فوق العرش إلَّا العدمُ المحض، وليس هناك ربٌّ يُعبد، ولا إله يُصلَّى له
(5)
ويُسجَد، ولا هو أيضًا في العالَم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخسِّ مكانٍ، تعالى اللهُ عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وكذلك فَعَل الذين نفَوُا القدَرَ السابق تنزيهًا لله عن مشيئة القبائح وخَلْقها، ونسبوه إلى أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، ولا يَقدِر على أن يَهدي ضالًّا ولا يُضِل مهتديًا، ولا يَقلِبُ قلبَ العاصي إلى
(1)
«ح» : «السادس» .
(2)
«ح» : «ينفون» . وهو تحريف.
(3)
«ح» : «قالوا» .
(4)
«ح» : «الذي» .
(5)
«ح» : «إليه» .
الطاعة ولا المطيعِ إلى المعصية.
وكذلك الذين نزَّهوه عن أفعاله وقيامها به، وجعلوه كالجماد الذي لا يقوم به فعلٌ. وكذلك الذين نزَّهوه عن الكلام القائم به بقدرته ومشيئته، وجعلوه كالأبكم الذي لا يَقدِر أن يتكلَّم. وكذلك الذين نزَّهوه عن صفات كماله وشبَّهوه بالناقص الفاقد لها أو بالمعدوم. وهذه حال كل مُبطِل مُعطِّل لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله.
والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ
(1)
، فيقع في نظيره.
مثاله: إذا تأوَّل المحبةَ والرحمة والرضى والغضب والمقت بالإرادة. قيل له: يلزمك في الإرادة ما لَزِمك في هذه الصِّفات، كما تقدَّم تقريره.
وإذا تأوَّل الوجهَ بالذات، قيل له: فيلزمك في الذات ما لَزِمك في الوجه، فإنَّ لفظ الذات يقع على القديم والمُحْدَث، كما يقع لفظ الوجه على القديم والمُحْدَث
(2)
.
وإذا تأوَّل لفظَ اليد بالقدرة، فالقدرة يُوصَف بها الخالقُ والمخلوق، فإن فررتَ من اليد لأنها تكون للمخلوق، ففِرَّ من القدرة لأنه يُوصف بها.
وإذا تأوَّل السمعَ والبصر بالعلم فِرارًا من التشبيه، لزمه ما فرَّ منه في العلم.
وإذا تأوَّل الفَوْقية بفوقية القهر، لَزِمه فيها ما فرَّ منه من فوقية الذات، فإن
القاهر مَنِ اتصف بالقوة والغلبة، ولا يُعقل هذا
(1)
إلَّا جسمًا، فإن أثبته العقل غير جسمٍ لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير جسمٍ.
وكذلك مَن تأوَّل الإصبعَ بالقدرة، فإن القدرة أيضًا صفةٌ قائمة بالموصوف وعَرَضٌ من أعراضه، ففَرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ.
وكذلك من تأوَّل الضحِكَ بالرضى، والرضى بالإرادة، إنما فرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ.
فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ
(2)
كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه.
فإن قال: أنا أثبتُّ ذلك المعنى على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا.
قيل له: فهلَّا أثبتَّ المعنى الذي تأوَّلتَه على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا.
فإن قال: ذلك أمر
(3)
لا يُعقَل.
قيل له: فكيف عَقلتَه في المعنى الذي أثبتَّه، وأنت وسائرُ أهل الأرض إنما تفهم المعانيَ الغائبة بما تفهمها به في الشاهد
(4)
، ولولا ذلك لما عقلتَ أنت ولا أحدٌ شيئًا غائبًا البتةَ، فما أبديتَه في التأويل إن كان له نظيرٌ في الشاهد
(1)
«هذا» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «أو» .
(3)
«ب» : «أمرًا» .
(4)
«ح» : «المشاهدة» .
لزمك التشبيهُ، وإن لم يكن له نظيرٌ لم يمكنك تعقله البتة. وإن أوَّلتَ النَّص بالعدم عطَّلتَه. فأنت في تأويلك بين التعطيل والتشبيه مع جِنايتك على النَّص وانتهاكك حُرمته، فهلَّا عظَّمتَ قَدْره، وحفظتَ حرمتَه، وأقررتَه وأمررتَه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل! وبالله التوفيق
(1)
.
* * * * *
(1)
«من التعطيل وبالله التوفيق» ليس في «ب» .
الفصل الثامن
(1)
في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل
هذا الفصل من عجيب [ق 8 ب] أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثالٍ ذكره بعض الجهمية، ونذكر ما عليه فيه.
قال الجهمي: ورد في القرآن ذِكرُ الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجَنْب الواحد، وذكر الساق الواحد
(2)
، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة
(3)
. فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخصٍ له وجهٌ، وعلى ذلك الوجه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ، ولا نرى
(4)
في الدنيا شخصًا أقبح صورة من هذه الصورة المتخيَّلة، ولا نظن أن عاقلًا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة
(5)
.
(1)
«ح» : «السابع» .
(2)
كذا بالتذكير، وسيأتي له نظائر، والساق مؤنث. وفي مصدر النقل وهو «أساس التقديس»:«الواحدة» على الأصل.
(3)
«وذكر اليدين وذكر اليد الواحدة» ليس في «ب» .
(4)
في النسختين: «يرى» . وهو تصحيف
(5)
قاله الرازي في «أساس التقديس» (ص 105).
قال السُّني
(1)
المعظِّم لحرمات كلام الله: قدِ ادعيتَ أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حُجَّة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقُه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى اللهُ به عباده، وجعله شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمةً للمؤمنين، ولم ينزل كتابٌ من السماء أهدى منه ولا أحسنُ ولا أكمل، فانتهكتَ حُرمته وعضهته
(2)
، ونسبتَه إلى أقبح النقص والعيب؛ فادعيتَ أن ظاهره ومدلوله إثبات شخصٍ له وجهٌ وفيه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ. فادعيتَ أن ظاهر ما وصف اللهُ به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبَحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصِّفات في ظاهر كلامه. فأيُّ طعنٍ في القرآن أعظمُ مِن طعن مَن يجعل هذا ظاهره ومدلوله؟! وهل هذا إلَّا مِن جنس قول الذين جعلوا القرآن عِضين
(3)
، فعضهوه
(4)
بالباطل، وقالوا: هو سحر أو شِعر أو كذبٌ مُفترى؟ بل هذا أقبح من قولهم من وجهٍ، فإن أولئك أقروا بعظمة الكلام وشرف قدْره وعلوِّه وجلالته، حتى قال فيه رأسُ الكفر: «والله إن لِكلامه لَحلاوةً، وإن عليه لَطلاوةً، وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لجنًى
(5)
(1)
«السني» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «وعظمته» . وعضهته: أي رميته بالكذب والبهتان. «الصحاح» (6/ 2241).
(3)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (12/ 662 - 663): «قال ابن عباس في قوله {اَلَّذِينَ جَعَلُوا اُلْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]: «يريد جزَّؤوه أجزاءً، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى» . وهذا قول قتادة، واختيار الزجاج وأبي العباس وأبي عبيدة».
(4)
في «ب» : «فعظهوه» بالظاء. وفي «ح» : «فعظموه» . وهو تحريف.
(5)
«ب» : «لمثمر» وعليه علامة نسخة. ثم كتب على الحاشية: «لجنًى» وصححه. قلت: المشهور في هذا الأثر لفظ «لمثمر» . فكأن المثبت رواية بالمعنى ..
وإنه لَيعلو وما يُعلى، وما يشبه كلام البشر»
(1)
.
ولم يَدَّعِ أعداءُ الرسول الذين جاهروه بالمحاربة والعداوة أن ظاهر كلامه أبطلُ الباطل وأبينُ المحال، وهو
(2)
وصف الخالق سبحانه بأقبحِ الهيئات والصور. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لَكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف تدعونا إلى عبادة ربٍّ له وجهٌ عليه عيون كثيرة وجَنْبٌ واحد، وساق واحد، وأيدٍ كثيرة؟ فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يُورِدُون عليه ما هو أقل من هذا بكثيرٍ، كما أوردوا عليه المسيح لما قال
(3)
: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 97] فتعلقوا
(4)
بظاهر ما لم يدل على ما أوردوه، وهو دخول المسيح فيما عُبِدَ من دون الله، إمَّا بعموم
(5)
لفظ «ما» ، وإمَّا بعموم المعنى، فأوردوا على هذا الظاهر هذا الإيرادَ.
(1)
قاله الوليد بن المغيرة، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 506) والبيهقي في «شعب الإيمان» (133) وفي «دلائل النبوة» (2/ 198) والواحدي في «أسباب النزول» (436) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن الوليد.
ورواه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 328) والطبري في «التفسير» (23/ 429) عن عكرمة عن الوليد بن المغيرة مرسلًا لم يذكر ابن عباس.
(2)
«هو» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «قالوا» .
(4)
«ب» : «فتعقلوا» .
(5)
«ب» : «لعموم» .
وأورد
(1)
أهلُ الكتاب على قوله: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 27] أن بين هارون وعيسى ما بينهما
(2)
، وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجهٍ. وكانوا يتعنتون فيما يوردونه على القرآن هذا ودونه
(3)
، فكيف يجدون ما ظاهره إثبات ربٍّ شأنُه وهيئته ما ذكَره هذا الجهمي، ولا يصيحون به على رؤوس الأشهاد، ويُشنِّعون عليه بإثباته في كل حاضرٍ وبادٍ! فالقوم على شِركهم وشدةِ عداوتهم لله ورسوله كانوا أصحَّ أفهامًا
(4)
من الجهمية الذين نسبوا ظاهر القرآن إلى هذه الصفة القبيحة، ولكنَّ الأذهان الغُلْف والقلوب العُمْيَ والبصائر الخُفَّاشية
(5)
لا يكثر عليها أن تفهم هذا من ظاهر القرآن.
قال أنصارُ الله: ونحن نبيِّن أن هذه الصورة الشنيعة ليست
(6)
ظاهرَ
(1)
«ح» : «وأوردوا» .
(2)
أخرج مسلم (2135) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «لما قدمتُ نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم» .
(3)
«على القرآن هذا ودونه» ليس في «ب» .
(4)
«ح» : «أذهانًا» .
(5)
نسبة للخفاش؛ وذلك لأنه لا يكاد يبصر بالنهار. «المصباح المنير» (1/ 175). قال المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (2/ 857): «أصحابُ البصائر الضعيفة الخفاشية الذين نسبة أبصارهم إلى هذا النور كنسبة أبصار الخفاش إلى جرم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينهم دين العادة والمنشأ» .
(6)
بعده في «ح» : «تفهم» . والسياق لا يستقيم بها.
القرآن من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الله سبحانه إنَّما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. فدعوى الجهمي أن ظاهر هذا إثباتُ
(1)
أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة فِرْيةٌ ظاهرة، فإنه إنْ دلَّ ظاهره على إثبات أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة دلَّ على خالقينَ كثيرينَ؛ فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع، فادَّعِ أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيدٍ كثيرة لآلهةٍ متعددةٍ، وإلَّا فدعواك أنَّ ظاهره أيدٍ كثيرة لِذاتٍ واحدة خلاف الظاهر. وكذلك قوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] إنما ظاهره بزعمك أعينٌ كثيرة على ذوات متعددة، لا على ذات واحدة.
الثاني: أن يقال لك: دعواك أن ظاهر القرآن إثبات أيدٍ كثيرة في جنبٍ واحدٍ كذبٌ آخر، فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في الجنب؟ وكأنك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم، فشبَّهتَ أولًا وعطَّلتَ ثانيًا. وكذلك جعْلك الأعينَ الكثيرة في
(2)
الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا، وإنما أخذتَه من التشبيه بالآدمي والحيوان. ولهذا قال بعض أهل العلم:«إن كل مُعطِّلٍ مشبِّهٌ، ولا يستقيم له التعطيل إلَّا بعد التشبيه» .
الثالث: أن يقال: أين في ظاهر القرآن إثبات ساقٍ واحدٍ لله وجنبٍ واحدٍ؟ فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42][ق 9 أ] وقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] فعلى
(1)
«إثبات» ليس في «ب» .
(2)
«في» ليس في «ب» .
تقدير أن يكون السَّاق والجنب من الصِّفات، فليس في ظاهر القرآن ما يُوجِب ألَّا يكون له إلَّا ساق واحد وجنب واحد، فلو دلَّ على ما ذكرتَ لم يدلَّ على نفي ما زاد على ذلك، لا بمنطوقه ولا بمفهومه. حتى إن
(1)
القائلين بمفهوم اللقب
(2)
لا يدل ذلك عندهم على نفي ما عدا المذكور؛ لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سببٌ غير الاختصاص
(3)
بالحكم لم يكن المفهوم مرادًا بالاتفاق. وليس المراد بالآيتين إثبات الصفة حتى يكون تخصيص أحد الأمرين بالذكر مرادًا، بل المقصود حُكم آخر؛ وهو بيان تفريط العبد في حقِّ الله وبيان سجود الخلائق إذا كشفَ عن ساقٍ، وهذا حُكم قد يختص بالمذكور دون غيره، فلا يكون له مفهومٌ.
الرابع: هَبْ أنه سبحانه أخبر أنه يكشف عن ساقٍ واحدةٍ هي صفة، فمن أين في ظاهر القرآن
(4)
أنه
(5)
ليس له إلَّا تلك الصِّفة الواحدة؟ وأنت لو سمعتَ قائلًا يقول: كشفتُ عن عيني، وأبديتُ عن ركبتي وعن ساقي أو قدمي أو يدي؟ هل يُفهَم منه أنه ليس له
(6)
إلَّا ذلك الواحدُ فقط، فكم هذا
(1)
«إن» ليس في «ب» .
(2)
«ب» : «القلب» . ومفهوم اللقب: إذا عُلق الحكم باسم جنس، كتخصيص الرِّبَوِيات الستة بتحريم التفاضل، أو اسم علم كقولك: زيد عالم. والجمهور على أنه ليس بحجة. ينظر «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/ 771 - 775).
(3)
«ب» : «سببا لاختصاص» .
(4)
«القرآن» ليس في النسختين، وأثبته من «م» .
(5)
في «ب» : «آية» .
(6)
في النسختين: «لك» . والمثبت من «م» .
التلبيس والتدليس! فلو قال واحدٌ من الناس هذا لم يكن ظاهر كلامه ذلك، فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام
(1)
وأبينه ذلك؟
الخامس: أن المفرد المضاف يُراد به ما هو أكثر من واحدٍ، كقوله:
{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ
(2)
} [التحريم: 12] وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 186]. فلو كان الجنب والساق صفةً لكان بمنزلة قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ}
(3)
[آل عمران: 26] و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39].
السادس: أن يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنبٍ واحدٍ هو صفة الله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يُثبِته أحدٌ من بني آدم، وأعظم الناس إثباتًا للصفات هم أهل السُّنَّة والحديث، الذين يثبتون لله الصِّفات الخبرية،
(1)
بعده في «ح» : «هذا لم يكن» .
(2)
قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع {وكُتُبِهِ} جماعة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ وحمزة والكسائي {وَكِتَابِهِ} واحدًا. حُجة مَن قال:{وكتبه} فجمع، أنه موضع جمع، ألا ترى أنها قد صدَّقتْ بجميع كُتب اللَّه، فمعنى الجمع لائق بالموضع حسن. ومَن قال:{كتابه} أراد الكثرة والشياع، وقد يجيء ذلك في الأسماء المضافة، كما جاء في المفردة التي بالألف واللام، قال:{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 36]، فكما أن المراد بنعمة اللَّه الكثرة، كذلك في قوله:{وكتابه} . قاله أبو علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (6/ 304).
(3)
قدمها في «ب» على قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} .
ولا يقولون إن لله جنبًا واحدًا ولا
(1)
ساقًا واحدةً.
قال عثمان بن سعيد الدارمي في «نقضه على المريسي»
(2)
: «وادَّعى المُعارِض زُورًا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] إنهم يعنون بذلك
(3)
الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه».
(4)
. وقال ابن مسعود: «لا يجوز من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ»
(5)
.
(1)
«لا» ليس في «ب» .
(2)
«نقض عثمان بن سعيد على المريسي» (2/ 807).
(3)
«بذلك» ليس في «ح» .
(4)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 196) والضياء في «المختارة» (1/ 145). وقال البيهقي: هذا موقوف، وهو الصحيح، وقد روي مرفوعًا. وينظر «المقاصد الحسنة» للسخاوي (796).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (3973) وسعيد بن منصور في «التفسير» (1047) وابن أبي شيبة في «المصنف» (26114). ورواه الحاكم في «المستدرك» (1/ 127) مرفوعًا، وقال:«إنما تواترت الرواياتُ بتوقيف أكثر هذه الكلمات» .
وقال الشَّعبي: «من كان كذابًا فهو منافقٌ»
(1)
.
وتوجيه ذلك أنَّ الله قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (53) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (54) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (55) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 - 56] فهذا إخبارٌ عمَّا تقوله هذه النفس الموصوفة بما وُصفت به، وعامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جَنبًا، ولا تقر بذلك كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك؟ وقد قال عنهم:{يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} . والتفريط فعلٌ أو تركُ فعلٍ، وهذا لا يكون قائمًا بذات الله، لا في جَنب ولا في غيره، بل يكون منفصلًا عن
(2)
الله، وهذا معلوم بالحسِّ والمشاهدة. وظاهر القرآن يدل على أن قول القائل:{يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} ليس أنه جعل فِعله أو تركَه في جَنبٍ يكون من صفات الله وأبعاضه، فأين في ظاهر القرآن ما يدل على أنه ليس لله إلَّا جنبٌ واحدٌ يعني به الشِّق؟
السابع: أن يقال: هَبْ أن القرآن دلَّ ظاهره على إثبات جَنبٍ هو صفة، فمن أين يدلُّ ظاهره أو باطنه على أنه جنبٌ واحدٌ وشِقٌّ واحدٌ؟ ومعلوم أن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (26118) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2/ 699). وأثر الشعبي آخر النقل عن الإمام الدارمي.
(2)
«ب» : «من» .
إطلاق مثل هذا لا يدلُّ على أنه شِقٌّ واحدٌ
(1)
، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين:«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»
(2)
. وهذا لا يدل على أنه ليس لعمران بن حصين
(3)
إلَّا جنبٌ واحدٌ.
فإن قيل: المراد على جنبٍ من جنبيك.
قلنا: فقد عُلم أن ذكر الجنب مفردًا لا ينفي أن يكون معه غيرُه، ولا يدل ظاهر اللفظ على ذلك بوجهٍ.
ونظير هذا اللفظ: «القَدَم» ، إذا ذُكِرَ مفردًا لم يدلَّ على أنه ليس لمن نُسِبَ إليه إلَّا قَدَمٌ واحدٌ، كما في الحديث الصحيح: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا
(4)
قَدَمَهُ»
(5)
. وفي الحديث: «أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي»
(6)
.
الثامن: [ق 9 ب] أن نقول: من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقًا؟ وليس معك إلَّا قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، والصحابة متنازعون في تفسير الآية: هل المراد
(7)
الكشف عن الشدة، .................
(1)
قوله: «ومعلوم أن إطلاق» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
أخرجه البخاري (1117).
(3)
«بن حصين» ليس في «ب» .
(4)
«ح» : «عليها رب العزة» .
(5)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(6)
أخرجه البخاري (3532) ومسلم (2354) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه بلفظ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» .
(7)
بعده في «ح» : «به» .
أو المراد بها
(1)
أن الربَّ تعالى يكشف عن ساقه
(2)
؟ ولا يُحفَظ عن الصحابة والتابعين نزاعٌ فيما يُذكَر أنه من الصِّفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن
(3)
ذلك صفةٌ لله؛ لأنه سبحانه لم يُضِف السَّاق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكَّرًا. والذين أثبتوا ذلك صفةً كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفَق على صحته ـ وهو حديث الشفاعة الطويل ـ وفيه:«فَيَكْشِفُ الرَّبُّ عَنْ سَاقِهِ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا»
(4)
.
ومَن حملَ الآية على ذلك قال: قولُه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ} [القلم: 42] مطابقٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُونَ لَهُ سُجَّدًا» . وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يُكشف عن ساقٍ عظيمةٍ جلَّت عظمتُها وتعالى شأنُها أن يكون لها نظيرٌ أو مثيلٌ أو شبيهٌ.
قالوا: وحملُ الآية على الشدة لا يصح بوجهٍ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة
(5)
، لا كشفت
(6)
عنها. كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اُلْعَذَابَ} [الزخرف: 49]، وقال:{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: 76]. فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
(1)
«ح» : «به» .
(2)
ينظر «الدر المنثور» (14/ 642 - 648).
(3)
بعده في «ح» : «بعد» .
(4)
أخرجه البخاري (4919) ومسلم (183).
(5)
بعده في «ح» : «عن القدم» . وبعده في «م» : «عن القوم» .
(6)
«ب» : «كشف» .
وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتدُّ لا تُزَال إلَّا
(1)
بدخول الجنة، وهناك لا يُدعَوْن إلى السجود، وإنما يُدعَوْن إليه أشد ما كانت الشدة.
التاسع: أنَّ دعوى الجهمي أنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنَّ لله سبحانه أيديًا كثيرةً على جنبٍ واحدٍ، وأعينًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، عضهٌ للقرآن وتنقُّصٌ له وذمٌّ، ولا يدل ظاهر القرآن ولا باطنه على ذلك بوجهٍ ما، ولا فَهِمَه مَن له عقلٌ. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لكان المخبِر به مُنفِّرًا للمدعوين عن الإيمان بالله ورسوله، ومُطَرِّقًا
(2)
لهم إلى
(3)
الطعن عليه. والله سبحانه قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقال:{وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال:{وَاَصْبِر لِّحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 46]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا
(4)
أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]، وقال في قصة موسى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39] فذكر العين المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعينَ مجموعةً مضافةً إلى ضمير الجمع.
وذِكرُ العين مفردةً لا يدل على أنها عينٌ واحدةٌ، ليس إلَّا كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني؛ وأحمله على عيني. ولا يريد به أن له عينًا واحدةً، فلو فهم أحدٌ هذا من
(5)
ظاهر كلام المخلوق
(1)
«ب» : «إنما تزال» .
(2)
طرَّق له: إذا جعل له طريقًا، ويقال: طرَّق طريقًا: إذا سهَّله حتى طرقه الناس بسيرهم. «تاج العروس» (26/ 80).
(3)
«إلى» ليس في «ب» .
(4)
«أو لم يروا» . في «ح» : «وآية لهم» . أدخل آيةً في آية.
(5)
«من» . سقط من «ب» .
لعُدَّ أخرقَ. وأمَّا إذا أُضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمَرًا فالأحسن جمعُها مشاكلةً للفظ، كقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقوله: {وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]. وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ}
(1)
[آل عمران: 26]. وإن أُضيفت
(2)
إلى ضميرِ جمعٍ جُمِعت كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اِلنَّاسِ} [الروم: 40] وقوله: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ اِلنَّاسِ} [الأنبياء: 61].
وقد نطق القرآنُ والسُّنَّة بذكر اليد مضافةً إليه سبحانه مفردةً ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافةً إليه مفردةً ومجموعة. ونطقت السُّنَّةُ بإضافتها إليه مثناةً، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ قَامَ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، إِلَى خَيْرٍ لَكَ مِنِّي»
(3)
.
(1)
«ب» : «بيده الخير» .
(2)
«ب» : «فإن أضفت» .
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «التهجد» (508) والمرزوي في «تعظيم قدر الصلاة» (128) والبزار في «المسند» (9332) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 234) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عطاء به. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 80): «وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف» . وقال البزار: «هذا الحديث رواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا» . قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (3270) وابن أبي شيبة في «المصنف» (4572) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 235) من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة موقوفًا بنحوه، وقال العقيلي:«هذا أولى من حديث إبراهيم» . وقد رُوِيَ في هذا المعنى عدة أحاديث، ينظر:«فتح الباري» لابن رجب (6/ 445 - 447).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»
(1)
صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عينٍ واحدةٍ ليس إلَّا، فإن ذلك عورٌ ظاهرٌ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وهل يَفهم مِن قول الداعي:«اللهم احرُسْنا بعينِكَ التي لا تنامُ» أنها عينٌ واحدةٌ ـ ليس إلَّا ـ إلَّا
(2)
ذهنٌ أقلفُ وقلبٌ أغلف.
قال خلف بن تميم
(3)
: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم بن أدهم: هذا السبع! فنادى: يا قسورة، إن كنت أُمرتَ فينا بشيءٍ وإلَّا. يعني: فاذهب. فضرب بذَنَبه، وولَّى مُدبِرًا. فنظر إبراهيم إلى أصحابه وقال: قولوا: اللهم احرُسْنا بعينك التي لا تنام، واكْنُفْنا بكَنَفِك الذي لا يُرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا
(4)
نَهلِكُ وأنت الرجاء»
(5)
.
قال عثمان الدارمي
(6)
: الأعور ضد البصير بالعينينِ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجَّال:«إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (7131) ومسلم (2933) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
«إلا» سقط من «ح» .
(3)
«ح» : «بهم» . وهوتحريف، وخلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي الدارمي ترجمته في «تهذيب الكمال» (8/ 276).
(4)
«لا» ليس في «ب» .
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (101) واللالكائي في «كرامات الأولياء» (224) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 4) والخطيب في «الزهد» (106) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ 319).
(6)
«النقض على المريسي» (1/ 305).
(7)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
وقد احتجَّ السلف على إثبات العينينِ له سبحانه بقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]. وممَّن صرَّح بذلك إثباتًا واستدلالًا أبو الحسن الأشعري في كُتبه كلِّها، فقال في «المقالات» و «الموجز» و «الإبانة» وهذا لفظه فيها: «وجملة قولنا: أن نُقِر بالله وملائكته وكتبه ورُسله
(1)
…
». إلى أن قال: «وأن الله مستوي على عرشه، كما قال:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وأن له وجهًا، كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اُلْجَلَالِ وَاَلْإِكْرَامِ} [الرحمن: 25]، وأن له يدينِ، كما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، وقال
(2)
: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، وأن له عينين بلا كيفٍ، كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]»
(3)
.
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده [ق 10 أ] ومعه لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرةً على وجهٍ، ولم يفهموا من الأيدي أيديًا كثيرةً على شِقٍّ واحدٍ، حتى جاء هذا الجهمي فعضَهَ القرآن، وادَّعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيعَ على مَن بدَّعه وضلَّله من أهل السُّنَّة والحديث. وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهُم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنِّعون {وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ اِلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 106].
فما ذنبُ أهل السُّنَّة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص، وأمسكوا عمَّا أمسكتْ عنه، ووصفوا الله بما وصف به نفسَه ووصفه رسولُه،
(1)
«ح» : «ورسوله» .
(2)
«قال» ليس في «ح» .
(3)
«الإبانة» (ص 21 - 21) بتصرف.
وردُّوا تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلِين الذين عقدوا ألوية الفتنة، وأطلقوا أَعِنَّة المحنة، وقالوا على الله وفي الله بغير علمٍ؛ فردوا باطلهم وبيَّنوا زيفهم، وكشفوا إفكهم، ونافحوا عن الله ورسوله؛ فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلَّا بأن سمَّوهم مشبِّهةً ممثِّلةً مجسِّمة حشويةً.
ولو كان لهؤلاء عقولٌ لَعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص، وتكلَّم
(1)
بها، ودعا الأُمة إلى الإيمان بها ومعرفتها
(2)
، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها. فدَعُوا التشنيع بما تعلمون ـ أنتم وكلُّ عاقلٍ منصفٍ ـ أنه كذبٌ ظاهرٌ، وإفكٌ مفترًى، لا يُعلَم به قائل يُناظر عن مقالته. فهل تدفعون عن أنفسكم التعطيلَ ونفْيَ حقائق صفات الكمال عن ربِّ العالمين، وأنها مجازٌ لا حقيقة لها، وأن ظاهرها كفرٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ؟ فلو كان خصومكم كما زعمتم ـ وحاشاهم ـ مشبِّهةً ممثلةً مجسمةً لكانوا أقلَّ تنقصًا لربِّ العالمين وكتابِه وأسمائه وصفاته منكم بكثيرٍ كثيرٍ، لو كان قولهم يقتضي التنقصَ
(3)
، فكيف وهو لا يقتضيه! ولو صرَّحوا به فإنهم يقولون: نحن أثبتْنا لله غاية الكمال ونعوت الجلال، ووصفناه بكل صفة كمالٍ، فإن لزم من هذا تجسيمٌ أو تشبيهٌ
(4)
لم يكن هذا نقصًا ولا عيبًا ولا ذمًّا بوجهٍ من الوجوه، فإن لازم الحقِّ حقٌّ، وما لزم من إثبات كمال الربِّ ليس بنقصٍ. وأمَّا أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال، ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه
بأضدادها من العيوب والنقائص. فما سوَّى اللهُ ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين مَن نفى كمالَه المقدس حذَرًا من التجسيم، وبين مَن أثبت كمالَه الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك كائنةً ما كانت.
فلو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له سمعٌ كسمع المخلوق وبصرٌ كبصره لكان أدنى إلى الحقِّ ممَّن يقول: لا سمعَ له ولا بصرَ.
ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه متحيِّزٌ على عرشه تحيط به الحدودُ والجهات، لَكان أقرب إلى الصواب مِن قول
(1)
مَن يقول: ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا ربٌّ يُصلى له
(2)
ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا ينزل مِن عنده شيءٌ ولا يَصعد إليه شيءٌ، ولا هو فوق خلقِه ولا مُحايِثهم ولا مُبايِنهم.
ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه يتكلم كما يتكلم الآدمي، وإن
(3)
كلامه بآلاتٍ وأدوات تُشبِه آلات الآدميين وأدواتهم، لَكان خيرًا ممَّن يقول: إنه ما تكلَّم ولا يتكلَّمُ، ولا قال ولا يقول، ولا يقوم به كلامٌ البتةَ. فإن هذا القائل يُشبِّهه بالأحجار والجمادات التي لا تَعقِل، وذلك المشبِّه وصفه بصفات الأحياء الناطقين.
وكذلك لو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له يدانِ كأيدينا، لَكان خيرًا ممَّن يقول: ليس له يدان. فإن هذا معطِّلٌ مكذِّبٌ لله رادٌّ على الله ورسوله، وذلك المشبِّه غالطٌ مخطئٌ في فَهْمه. فالمُشبِّه على زعمكم
(4)
الكاذبِ لم يُشبِّهْه
(1)
«من قول» سقط من «ب» .
(2)
«له» سقط من «ب» .
(3)
بعد في «ح» : «كان» . وهي زائدة.
(4)
«ح» : «زعمهم» .
تنقيصًا له وجحدًا لكماله، بل ظنًّا أنَّ إثبات الكمال لا يمكن إلَّا بذلك، فقابلتموه بتعطيل كماله، وذلك غاية التنقُّص
(1)
.
العاشر: أنك أيها الجهمي في فَهْمك عن الله أن ظاهر كلامه إثباتُ أيدٍ متعددة على جنبٍ واحدٍ، وعيون متعددة في وجهٍ واحدٍ، قد ضاهيتَ النصارى الذين احتجوا على تثليثهم وإثباتِ آلهة متعدِّدة بظاهر قوله:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ} [ق: 43] وأمثاله، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى:{فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاءَ اَلْفِتْنَةِ وَاَبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ»
(2)
.
وهذا الفهم الفاسد إنما أتى مِن قِبل عُجم القلوب والألسنِ، فَهُمُ الذين أفسدوا الدِّين وشوشوا على
(3)
الناس، وإلا فلغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه. فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفردٍ أفردوه، وإن أضافوه إلى اسم جمعٍ ظاهر أو مضمَر جمعوه، وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح من لغتهم جمعُه لقوله تعالى:{فَقَد صَّغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنما هما
(4)
قلبانِ لا غيرَ، وقوله:{وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَّارِقَةُ فَاَقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 40]. وتقول العرب: اضربْ أعناقهما، واقطعْ ألسنتهما. وهذا أفصحُ استعمالهم. وتارةً يُفرِدون المضاف،
(1)
«ب» : «النقص» .
(2)
أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665).
(3)
«على» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «وإنهما» .
فيقولون: لسانهما وقلبهما وظهرهما. وتارةً يُثنُّونه، كقوله
(1)
:
ظَهْرَاهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَينْ
والقرآن إنما نزل بلغة العرب، لا بلغة العجم [ق 10 ب] والطماطم
(2)
والأنباط الذين أفسدوا الدِّين، وتلاعبوا بالنصوص، وانتهكوا حرماتها، وجعلوها عرضةً لتأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين. وإذا كان من لغتهم وضْعُ الجمع موضعَ التثنية لئلَّا يجمعوا في لفظٍ واحدٍ بين تثنيتينِ، ولا لبسَ هناك، فلَأنْ يُوضَع الجمع موضعَ التثنية فيما إذا كان المضاف إليه مجموعًا أولى بالجواز. يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم: عَيْنَيْنا ويدينا ونحو ذلك. ولا يلتبس
(3)
على السامع قول المتكلم: نراك بأعيننا، ونأخذك بأيدينا ونحو ذلك. ولا يفهم منه بشرٌ على وجه الأرض عيونًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، وأيديًا متعددة على بدنٍ واحدٍ، فهل قَدَرَ القرآنَ حقَّ قدْرِه مَن زعم أن هذا ظاهره؟!
(1)
هو خطام المجاشعي، نسبه له سيبويه في «الكتاب» (2/ 48) وابن منظور في «لسان العرب» (2/ 89)، ونسبه سيبويه في «الكتاب» (3/ 622) لهميان بن قحافة، قال البغدادي في «خزانة الأدب» (7/ 548):«والصحيح أن هذين البيتين من رجز لخطام المجاشعي، وهو شاعر إسلامي، لا لهميان بن قحافة» . وقد جمع فيه بين اللغتين تثنية المضاف إلى المثنى وجمعه، فإنه أتى بتثنية المضاف في «ظهراهما» ، وبجمعه في «ظهور الترسين» .
(2)
رجل طِمطم وطِمطمي ـ بكسرهما ـ وطُمطماني ـ بالضم ـ أي: في لسانه عجمة لا يُفصح. «تاج العروس» (33/ 26).
(3)
«ح» : «يلبس» .
الوجه الحادي عشر: لفظ اليد جاء في القرآن
(1)
على ثلاثة أنواع: مفردًا ومثنًّى ومجموعًا. فالمفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1]، والمثنى كقوله:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، والمجموع كقوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]. فحيث ذكر اليدَ مثناةً أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدَّى الفعل
(2)
بالباء إليهما، فقال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]. وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها، ولم يُعدِّ الفعل بالباء، فهذه ثلاثة
(3)
فروق. فلا يحتمل {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]، فإن كل أحدٍ يفهم من قوله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] ما يفهمه من قوله: عَملْنا وخلَقْنا، كما يفهم ذلك من قوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
(4)
[الشورى: 28]. وأمَّا قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذِكر اليد بعد نسبةِ الفعل إلى الفاعل معنًى، فكيف وقد دخلت عليها الباءُ، فكيف إذا ثُنِّيت؟!
وسِرُّ الفرق أن الفعل قد يُضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله:{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28]. وأمَّا إذا أُضيف إليه الفعل، ثم عُدِّي بالباء إلى يده مفردةً أو مثناةً، فهو ما باشرته يدُه. ولهذا قال عبد الله بن عمرو: «إن الله لم يخلق بيده إلَّا ثلاثًا:
(1)
«ب» : «
…
عشر أن القرآن جاء في اليد».
(2)
«الفعل» ليس في «ب» .
(3)
في النسختين: «ثلاث» . والمثبت من «م» .
(4)
كُتبت الآية في النسختين في هذا الموضع والذي يليه بغير فاء.
خلقَ آدمَ بيده، وغرس جنة الفردوس بيده
…
»
(1)
، وذكر الثالثة
(2)
. فلو كانت اليد هي القدرةَ لم يكن لها اختصاصٌ بذلك، ولا كانت لآدم فضيلةٌ بذلك على شيءٍ ممَّا خُلق بالقدرة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يَأْتُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ»
(3)
. فذكروا أربعة أشياء كلُّها خصائصُ.
وكذلك قال آدم لموسى في محاجَّته له: «اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ»
(4)
. وفي لفظٍ آخر: «كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ»
(5)
. وهو من أصحِّ الأحاديث.
(1)
لم نَقِفْ عليه من قول ابن عمرو رضي الله عنهما، وسيأتي عن عبد الله بن الحارث مرفوعًا، وقد رُوي بنحوه موقوفًا على جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:«خلق اللهُ أربعةَ أشياء بيده: العرشَ وجنات عدن والقلم وآدم، وقال لسائر خلْقِه: كن فكان» . رواه الدارمي في «النقض» (1/ 261) والطبري في «التفسير» (20/ 145) والحاكم في «المستدرك» (2/ 319) والآجُرِّي في «الشريعة» (756) وأبو الشيخ في «العظمة» (213) وابن بطة في «الإبانة» (317) وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وجوَّد إسناده الذهبي في «العلو» (185) وابن ناصر الدين في «جامع الآثار» (2/ 160).
(2)
«وذكر الثالثة» ليس في «ح» .
(3)
أخرجه البخاري (7516) ومسلم (193) عن أنس رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (6614) ومسلم (2652) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه مسلم (2652).
(1)
.
وهذا التخصيص إنما فُهِم من قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، فلو كانت مثل قوله:{مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فَهِم المسلمون أن قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] يُوجِب
(2)
له تخصيصًا وتفضيلًا، بكونه مخلوقًا
(3)
باليدين، على من أُمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهلُ الموقف حتى
(4)
جعلوه من خصائصه،
(1)
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (13/ 658) و «المعجم الأوسط» (6173) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في «المجمع» (265): «فيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند «الأوسط» طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضًا». ونقله الزيلعي في «تخريج الكشاف» (2/ 276) وفيه ابن عمر بدل «ابن عمرو» .
وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 257) عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفًا، وقال الذهبي في «العلو» (183):«إسناده صالح» .
وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 256) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 48) عن ابن عمر مرفوعًا، وصحَّح الدارقطني في «العلل» (2843) وقفه.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا ومرسلًا، ينظر:«تخريج الكشاف» للزيلعي (2/ 276 - 278) و «الدر المنثور» للسيوطي (9/ 400 - 402).
(2)
«ب» : «موجبًا» . وفي «ح» : «فوجب» . والمثبت من «م» .
(3)
«بكونه مخلوقا» . سقط من «ب» .
(4)
«ح» : «حين» .
كانت التسوية
(1)
بينه وبين قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70] خطأً محضًا
(2)
.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى»
(3)
.
(4)
.
وقال تعالى: {وَقَالَتِ اِلْيَهُودُ يَدُ اُللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66].
وفي الحديث الذي رواه مسلمٌ في «صحيحه»
(5)
في أعلى أهل الجنة منزلةً: «أُولَئِكَ الَّذِينَ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدَيَّ وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا» .
وقال أنس بن مالكٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ»
(6)
.
(1)
«ب» : «كان تسوية» .
(2)
في النسختين: «خطأ محض» . والمثبت من «م» .
(3)
أخرجه أبو داود (4732) بنحوه، وأصل الحديث في البخاري (4812) ومسلم (2787).
(4)
أخرجه البخاري (7419) ومسلم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(5)
«صحيح مسلم» (189) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(6)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 329) وابن بطة في «الإبانة» (7/ 302) والحاكم في «المستدرك» (2/ 392) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (691) من طريق علي بن عاصم عن حميد به. وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . فتعقبه الذهبي بقوله: «بل ضعيف» . وقال الذهبي في «الميزان» (3/ 137): «وهذا باطل» .
ورواه الدارمي في «النقض» (1/ 264) والآجري في «الشريعة» (759) عن أنسٍ عن كعبِ الأحبار موقوفًا.
ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 184، 12/ 147) و «المعجم الأوسط» (738، 5518) عن ابن عباس رضي الله عنه بنحوه. وجوَّد المنذري في «الترغيب» (3942) والهيثمي في «المجمع» (18636) أحد إسنادَي «الأوسط» .
وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يَسْكُنُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا دَيُّوثٌ»
(1)
.
وفي «الصحيح»
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح الصلاة: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ»
(3)
.
وفي «الصحيح»
(4)
أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (39) والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (431) وأبو الشيخ في «العظمة» (1017) والدارقطني في «الصفات» (28) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (692) وقال: هذا مرسل. وقال ابن القيم في «حادي الأرواح» (1/ 215) المحفوظ أنه موقوف.
(2)
البخاري (6520) ومسلم (2792) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (2759) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ
(1)
بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
وقال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى»
(2)
.
وفي «الصحيح»
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ [ق 11 أ] مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ـ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ـ الَّذِيْنَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ
(4)
وَمَا وَلُوا».
(1)
«يبسط يده» ليس في «ب» . وفي «ح» : «يبسط يداه» . والمثبت من «م» . وكذا هو في «صحيح مسلم» .
(2)
أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4349) وابن خزيمة في «صحيحه» (2435) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198). وقال البيهقي: «رواه إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا وموقوفًا» .
ورواه الطيالسي في «مسنده» (310) من طريق شعبة عن إبراهيم الهجري به موقوفًا، وقال: غير شعبة يرفعه.
وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (16134، 17505) وأبو داود في «السنن» (1649) وابن خزيمة في «صحيحه» (2440) وابن حبان في «صحيحه» (3362) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198) عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة رضي الله عنه، وقال الحاكم:«حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال ابن حجر في «الإصابة» (9/ 489): «وسنده صحيح» .
(3)
أخرجه مسلم (1827) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
«ب» : «وأهاليهم» .
وفي «المسند» وغيره
(1)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ
(2)
الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ ـ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ـ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَذَهَبَ فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ ـ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ. ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ
…
» وذكر الحديث.
وقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في «السنن الكبرى» (9975) وابن خزيمة في «التوحيد» (89) وابن حبان (6167) والحاكم في «المستدرك» (1/ 64، 4/ 263) وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأعلَّه النسائي، وصحَّح وقْفه على عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
(2)
بعده في «ح» : «من» .
(3)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 898) وأحمد (318) وأبو داود (318) والترمذي (3075) وابن حبان (6166) والحاكم (1/ 27) عن مسلم بن يسار عن عمر رضي الله عنه به. وقال الترمذي: «حديث حسن» . وقال الحاكم: «الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 3 - 6): «هذا الحديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار هذا لم يلقَ عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضًا مع هذا الإسناد لا تقوم به حُجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، وقيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري» . وقال: «وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها، من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة» . وينظر: «الدر المنثور» للسيوطي (6/ 656 - 660).
وقال هشام بن حكيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ»
(1)
.
وقال عبد الله بن عمرو: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ الْمِزْوَدِ، فَخَرَجَ مِنْهُ مِثْلُ الذَّر، فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ لِمَا فِي الْيَمِينِ: فِي الْجَنَّةِ. وَلِمَا فِي الْأُخْرَى: فِي النَّارِ»
(2)
.
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ
(1)
رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (168) والفريابي في «القدر» (22) والطبراني في «مسند الشاميين» (1854، 1855) والآجري في «الشريعة» (330) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (712) من طريق راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة، واختلف عليه، فقيل عن هشام بن حكيم وقيل عن أبيه عن هشام بن حكيم، وقيل عن أبيه وهشام، وقيل عن عبد الرحمن بن قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعله ابن عبد البر في «الاستيعاب» (2/ 851) وابن السكن ـ كما في «الإصابة» لابن حجر (6/ 554) ـ بالاضطراب، وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (1/ 170):«هذا إسناد ضعيف غريب» .
(2)
أخرجه ابن وهب في «القدر» (15) والطبري في «التفسير» (20/ 471) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (713).
قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ
(1)
، فَمِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ»
(2)
.
(3)
.
وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ـ إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ» . متفقٌ على صحته
(4)
.
وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ. فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا، وجمَعَ يديه. قال: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا. قال: زدنا يا رسول الله. قال
(5)
عمرُ:
(1)
قوله: «فجاء بنو آدم على قدر الأرض» ليس في «ب» .
(2)
أخرجه أحمد (20170) وأبو داود (4693) والترمذي (2955) وابن خزيمة في «التوحيد» (101، 102) وابن حبان (6160) والحاكم (2/ 261). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
(3)
أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 274) والفريابي في «القدر» (10 - 13) والآجري في «الشريعة» (431، 432) وأبو الشيخ في «العظمة» (1006) وابن بطة في «الإبانة» (1650) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (716 - 717) وقال البيهقي: «ورُوِيَ ذلك من وجه آخر ضعيف عن التيمي مرفوعًا، وليس بشيء» . وصحح الموقوفَ الدارقطني في «العلل» (931).
(4)
أخرجه البخاري (1410) ومسلم (1014).
(5)
«ب» : «فقال» .
حسبك. فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يُدخِلنا الله الجنةَ كلَّنا. قال
(1)
عمر: إن شاء اللهُ أدخل خلقَه الجنةَ بكفٍّ واحدةٍ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عُمَرُ»
(2)
.
وقال نافع بن عمر: «سألتُ ابن أبي مليكة عن يد الله: أواحدة أم اثنتان؟ فقال: لا، بل اثنتان»
(3)
.
وقال ابن عباس: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلَّا كخردلةٍ في
(4)
يدِ أحدكم»
(5)
.
وقال ابن عمر
(6)
....................................................
(1)
«ب» : «فقال» .
(2)
أخرجه أحمد (13032) والطبراني في «المعجم الأوسط» (3400) و «المعجم الصغير» (342) والضياء في «المختارة» (7/ 254). وقال ابن حجر في «الفتح» (11/ 411): «سنده جيد، لكن اختُلِف على قتادة في سنده اختلافًا كثيرًا» . وقال الدارقطني في «العلل» (2642): «رواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، وخالفه أبو هلال الراسبي، فرواه عن قتادة عن أنس، وخالفهما هشام الدستوائي، فرواه عن قتادة عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عمير الأنصاري، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقول ما قال هشام؛ لأن أبا هلال ضعيف، ومعمر سيئ الحفظ لحديث قتادة والأعمش» . وصحح ابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 1218) إسناد الحديث من طريق هشام الدستوائي.
(3)
أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 286) وصححه الذهبي في «الأربعين في صفات رب العالمين» (79).
(4)
«ح» : «من» .
(5)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (1090) وابن جرير في «التفسير» (20/ 246).
(6)
أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (106) والفريابي في «القدر» (416) والآجري في «الشريعة» (339) وابن بطة في «الإبانة» (1365) عن ابن عمر مرفوعًا، وينظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (3136).
وابن عباس
(1)
: «أولُ شيءٍ خلقَه الله القلمُ، فأخذه بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فكتب
(2)
الدنيا وما فيها من عملٍ معمولٍ في برٍّ وبحرٍ ورطبٍ ويابسٍ، فأحصاه عنده».
وقال ابن عباسٍ في قوله تعالى: {وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64]«يقبض اللهُ عليها فما يُرى طرفاها في يده»
(3)
.
وقال ابن عمر: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر، فقال: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَبْضَتِهِ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا ـ وَمَدَّ يَدَهُ وَبَسَطَهَا ـ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، أَنَا الرَّحْمَنُ
…
»
(4)
وذكر الحديث.
(1)
أخرجه البيهقي في «القدر» (242) من طريق جويبر، عن رجل، عن مجاهد، عن ابن عباس موقوفًا بنحوه.
ورواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (253) وعبد الله بن أحمد في «السنة» (854) وأبو يعلى في «المسند» (2329) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (803) مرفوعًا بنحوه دون ذكر اليد.
(2)
«ح» : «فكانت» .
(3)
لم نقف عليه، وأقرب لفظ وقفنا عليه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 368) قال:«روى أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، في يد الرحمن إلَّا كخردلةٍ في يد أحدكم» ، وفي لفظ:«إنها لَتغيبُ في يده حتى لا يُرى طرفاها» . اهـ، ولم أقف عليه مسندًا.
(4)
أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (7662) وابن حبان (7234) وأصله في البخاري (7412) ومسلم (2788).
وقال ابن وهب: عن أسامة، عن نافع، عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64] قال: مَطْوِيَّةٌ فِي كَفِّهِ يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَةِ»
(1)
.
وقال عُبيد الله بن مِقْسَم: «نظرتُ إلى عبد الله بن عمر كيف صنع حيث يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ
(2)
بِيَدِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ. وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ
(3)
أَنَا الْمَلِكُ. حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ
(4)
مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»
(5)
؟!
وقال زيد بن أسلم: «لمَّا كتب اللهُ التوراةَ بيده قال: باسمِ الله، هذا كتابُ
(6)
الله بيده لعبده موسى، يسبِّحني ويقدِّسني، ولا يحلف باسمي آثِمًا؛ فإني لا أُزكِّي مَن حلفَ باسمي آثمًا»
(7)
.
(1)
أخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 247) وابن منده في «الرد على الجهمية» (13) وله شواهد، ورُوِيَ بألفاظ يصدق بعضُها بعضًا، وينظر «مجموع الفتاوى» (6/ 561) و «فتح الباري» (13/ 396).
(2)
«ب» : «وأرضه» .
(3)
بعده في «ح» : «أنا الرحمن» .
(4)
«شيء» ليس في «ح» .
(5)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (2788).
(6)
بعده في «ح» : «من» . وليس هذا اللفظ في «م» ولا في مصدري التخريج.
(7)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (576) والنجاد في «الرد على من يقول القرآن مخلوق» (101).
وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غَيْضٌ من فيضٍ؛ ليعلم الواقفُ عليها أنها لا يفهم أحدٌ من عقلاء بني آدم منها شخصًا له شِقٌّ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرة، وله ساقٌ واحدٌ، وله وجهٌ واحدٌ، وفيه عيونٌ كثيرةٌ. فهذه نصوص القرآن والسُّنَّة كما ترى، هل يفهم منها [عاقلٌ]
(1)
ما ذكره هذا الجهمي، أو أحدٌ ممَّن له أدنى فَهْم؟!
ومَن هذا قدْرُ النصوص عنده فهو حقيقٌ بألَّا يقبل منها شيئًا، ولا ينال منها هدًى، ولا يظفر منها بعلمٍ. وهي في حقِّه كما قال الله تعالى:{وَنُنزِلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ اُلظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (125) وَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125 - 126][ق 11 ب]، وقوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 43]، وقوله:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِين}
(2)
[البقرة: 25].
والله يعلم أن هذا من أعظم العضَهِ لها والتنقيص والطعن على مَن تكلَّم بها
(3)
وجاء بها
(4)
. أو يقال له: هذا ظاهر كلامك وحقيقته.
فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى
(1)
ليس في النسختين، وزدته ليستقيم الكلام.
(2)
من قوله: «وهي في حقه» . إلى هنا ليس في «ب» .
(3)
«ب» : «والتنقص بها ولَمْزِ من تكلم بها» .
(4)
«ح» : «وأجابها» .
التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد، والله المستعان.
* * * * *
الفصل التاسع
(1)
في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي
(2)
لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها
لمَّا كان الأصل في الكلام هو الحقيقةَ والظاهرَ كان العدول به عن حقيقته وظاهره مُخرجًا له عن
(3)
الأصل، فاحتاج مُدَّعِي ذلك إلى دليلٍ يُسوِّغ له إخراجه عن أصله. فعليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها:
الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله
في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده، فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغةً، وإن احتمله فقد لا يحتمله في ذلك التركيب الخاص.
وكثيرٌ من المتأوِّلين لا يبالي إذا تهيأ له
(4)
حملُ اللفظ على ذلك المعنى بأي طريقٍ أمكنه أن يدَّعي حملَه عليه، إذ مقصودُه
(5)
دفع الصائل، فبأي طريقٍ اندفع عنه دفَعَه، والنصوص قد صالت على قواعده الباطلة، فبأي طريقٍ تهيأ له دَفْعُها دَفَعَها
(6)
، ليس مقصودُه أخْذَ الهدى والعلم والإرشاد منها، فإنه قد أصَّلَ أنها أدلةٌ لفظيةٌ لا يُستفاد منها يقينٌ
(7)
ولا علمٌ ولا معرفةٌ
(1)
«ح» : «الثامن» .
(2)
«ح» : «الذي» .
(3)
«ب» : «من» .
(4)
«له» ليس في «ح» .
(5)
«ح» : «مقصود» .
(6)
«دفعها» ليس في «ح» .
(7)
«يقين» . سقط من «ح» .
بالحق، وإنما المُعوَّل على آراء الرجال وما تقتضيه عقولها.
وأنت إذا تأملتَ تأويلاتهم رأيت كثيرًا منها لا يحتمله اللفظ في اللغة التي وقع بها التخاطبُ، وإن احتمله لم يحتمله في ذلك التركيب الذي تأوَّلَه. وليس لأحدٍ أن يحمل كلامَ الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة أو الاصطلاح لبعض الشُّعراء أو الخُطباء أو الكُتَّاب أو العامة، إلَّا إذا كان ذلك غيرَ مخالفٍ لِمَا عُلِمَ من وصف الربِّ تعالى وشأنه، وما تضافرت به صفاتُه لنفسه وصفات رسوله له، وكانت إرادةُ ذلك
(1)
المعنى بذلك اللفظ ممَّا يجوز ويصلح نسبتها إلى الله ورسوله، لا سيما والمتأوِّل يخبر
(2)
عن مراد الله ورسوله، فإن تأويل كلام
(3)
المتكلم بما يوافق ظاهرَه أو يخالفه
(4)
إنما هو بيان لمراده. فإذا عُلم أن المتكلم لم يُرِدْ هذا
(5)
المعنى، وأنه يمتنع أن يريده، وأن في صفات كماله ونُعوت جلاله ما يمنع من إرادته، وأنه يستحيل عليه من وجوهٍ كثيرةٍ أن يريده = استحال الحُكمُ عليه بإرادته.
فهذا أصلٌ عظيمٌ يجب معرفته، ومَن
(6)
أحاط به معرفةً تبيَّنَ له أن كثيرًا ممَّا
(7)
(1)
من قوله: «ذلك غير مخالف» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «مخبر» .
(3)
بعده في «ح» لفظ الجلالة.
(4)
من هنا وقع في «ب» سقطٌ كبير حتى أثناء الفصل الحادي عشر، وسنُنبِّه على انتهائه في محله بإذن الله تعالى.
(5)
«ح» : «لهذا» . والمثبت من «م» .
(6)
«ح» : «وممن» . والمثبت من «م» .
(7)
«ح» : «ما» . والمثبت من «م» .
يدَّعِيه المحرِّفون من التأويلات ممَّا يُعلَم قطعًا أن المتكلم لا يصلح أن يريده بذلك الكلام، وإن كان ذلك ممَّا يُسوِّغ لبعض الشعراء وكُتَّاب الإنشاء واللغة من القاصدين التعمية لغرض من الأغراض. فلا بد أن يكون المعنى الذي تأوله المتأوِّل ممَّا
(1)
يسوغ استعمال اللفظ فيه في تلك اللغة التي وقع بها التخاطب، وأن يكون ذلك المعنى ممَّا يجوز نسبتُه إلى الله، وألَّا يعود على شيءٍ من صفات كماله بالإبطال والتعطيل، وأن يكون معه قرائنُ تحتفُّ به، تُبَيِّن
(2)
أنه مرادٌ باللفظ، وإلَّا كانت دعوى إرادته كذبًا على المتكلم. ونحن نذكر لذلك أمثلة
(3)
:
المثال الأول: تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأنه أقبل على خَلْقه، فهذا إنشاء منهم لوضع لفظ «استوى» على: أقبل على خَلْقِه. وهذا لم يقله أحدٌ من أهل اللغة، فإنهم ذكروا معانيَ «استوى» ، ولم يذكر أحدٌ منهم أصلًا في معانيه الإقبال على الخلق. فهذه كتب اللغة طَبَقُ الأرضِ
(4)
هل تجدون أحدًا منهم يحكي ذلك عن
(5)
اللغة؟ وأيضًا فإنَّ استواء الشيء والاستواء إليه وعليه يستلزم وجودَه، ووجودَ ما نسبتَ إليه الاستواء بـ «إلى» أو بـ «على» ، فلا يقال: استوى إلى أمرٍ معدومٍ، ولا استوى عليه. فهذا التأويل إنشاءٌ
(1)
«ح» : «ما» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «بين» . والمثبت من «م» .
(3)
لم يذكر هنا غير مثال واحد فقط.
(4)
يعني: كثرتها وانتشارها.
(5)
«ح» : «على» . والمثبت من «م» .
محضٌ لا إخبارٌ صادقٌ عن استعمال أهل اللغة.
وكذلك تأويلهم الاستواءَ بالاستيلاء؛ فإن هذا لا تعرفه العرب من لغاتها، ولم يقله أحدٌ من أئمة اللغة. وقد صرَّح أئمةُ اللغة كابن الأعرابي وغيره بأنه لا يُعرَف في اللغة. ولو احتمل ذلك لم يحتمله هذا التركيب؛ فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق السماوات والأرض، والعرشُ مخلوقٌ قبل خلْقِها بأكثرَ من خمسين ألف سنةٍ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق فيما صحَّ عنه
(1)
. وبطلان هذا التأويل من أربعين وجهًا، سنذكرها في موضعها في هذا الكتاب
(2)
إن شاء الله.
والمقصود ذِكر الوظائف التي على المتأوِّل، فعليه أن يُبيِّنَ احتمال اللفظ للمعنى الذي ذَكَره أولًا.
ويُبيِّن تعيين ذلك المعنى ثانيًا؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.
الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره
[ق 12 أ]، فإن دليل المُدَّعِي للحقيقة والظاهر قائمٌ، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه.
الرابع: الجواب عن المعارض،
فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة:
(1)
رواه مسلم، وتقدم تخريجه (ص 34).
(2)
للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، ينظر «مختصر الصواعق» للموصلي (3/ 888 - 945).
أمَّا السمعي فلا يمكنك المكابرة أنه معه.
وأمَّا العقلي فمن وجهين: عام وخاص. فالعام: الدليل الدال على كمال عِلم المتكلم وكمال بيانه وكمال نُصحه. والدليل العقلي على ذلك أقوى من الشُّبَه الخيالية التي يستدل بها النفاةُ بكثيرٍ. فإن جاز مخالفة هذا الدليل القاطع فمخالفةُ تلك الشُّبَه الخيالية أولى بالجواز. وإن لم تَجُزْ مخالفةُ تلك الشُّبَه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى.
وأمَّا الخاص فإنَّ كل صفةٍ وصف الله بها نفسَه ووصفه بها رسولُه فهي صفة كمال قطعًا؛ فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يُبطِل حقائقها.
فالدليل العقلي الذي دلَّ على ثبوت الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر دلَّ نظيرُه على ثبوت الحكمة والرحمة والرضى والغضب والفرح والضحك. والذي دلَّ على أنه فاعِلٌ بمشيئته واختياره دلَّ على قيام أفعاله به، وذلك عين الكمال المقدس. وكلُّ صفة دلَّ عليها القرآن والسُّنَّة فهي صفة كمالٍ، والعقل جازمٌ بإثبات صفات الكمال للربِّ سبحانه، ويمتنع أن يصف نفسه أو يصفه رسولُه بصفةٍ توهم نقصًا. وهذا الدليل أيضًا أقوى من كل شبهةٍ للنفاة. يوضحه أنَّ أدلةَ مُبايَنةِ الربِّ لخَلْقِه وعلوِّه على جميع مخلوقاته أدلةٌ عقلية
(1)
فطرية تُوجِب العلم الضروري بمدلولها.
وأمَّا السمعية فتقارب ألف دليلٍ، فعلى المتأوِّل أن يُجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجوابٍ صحيحٍ عن بعض ذلك! فنحن نطالبه بجوابٍ صحيحٍ عن دليلٍ واحدٍ، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى إمَّا أن يكون له وجودٌ خارجي عن
(1)
من قوله «الرب» إلى هنا سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
الذهن ثابت في الأعيان أو لا، فإن لم يكن له وجودٌ خارجي كان خيالًا قائمًا بالذهن لا حقيقةَ له. وهذا حقيقة قول المُعطِّلة وإن تستَّروا بزخرفٍ من القول. وإن كان وجوده خارج الذهن فهو مُبايِن له، إذ هو منفصل عنه، إذ لو كان قائمًا به لَكان عَرَضًا من أعراضه، وحينئذٍ فإما أن يكون هو هذا العالَمَ أو غيره، فإن كان هذا العالَم فهو تصريح بقول أصحاب وحدة الوجود، وأنه ليس لهذا العالَمِ ربٌّ مُبايِنٌ له منفصلٌ عنه. وهذا أَكفرُ أقوال أهل الأرض. وإن كان غيره فإمَّا أن يكون قائمًا بنفسه أو قائمًا بالعالَم، فإن كان قائمًا بالعالَم فهو جزءٌ من أجزائه، أو صفة من صفاته، وليس هذا بقيُّوم السماوات والأرض. وإن كان قائمًا بنفسه ـ وقد عُلم أن العالَم قائم بنفسه ـ فذاتان قائمتان بأنفسهما ليست إحداهما داخلةً في الأخرى، ولا خارجةً عنها، ولا متصلةً بها، ولا منفصلةً عنها، ولا مُحايِثة ولا مُبايِنة، ولا فوقها ولا تحتها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا عن يمينها ولا عن شمالها = كلامٌ له خبءٌ لا يخفى على عاقلٍ منصفٍ، البديهة
(1)
الضرورية حاكمة بامتناع هذا واستحالة تصوُّره، فضلًا عن التصديق به.
قالوا: فنحن نطالبكم بجوابٍ صحيحٍ عن هذا الدليل الواحد من جملة ألف دليل، ونعلم قبل المطالبة أنه لو اجتمع كلُّ جهميٍّ على وجه الأرض لَما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على أهل الإثبات بالتجسيم والسبِّ
(2)
، وهذه وظيفة كل مبطِل قامت عليه حُجةُ الله. فدعوا
(3)
الشناعة
(1)
في «م» : «والبديهة» .
(2)
«ح» : «والتفسير والسبب» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «قد عوام» . ولعل المثبت هو الصواب.
بالفِرْية والكذب والاختلاق
(1)
، هل يمكنكم الخروج من دائرة المعطِّلين الذين قالوا: لو كان للعالَم صانعٌ قائمٌ
(2)
بنفسه لَكان إمَّا داخلًا فيه أو خارجًا عنه، وإمَّا متصلًا أو منفصلًا عنه، وإمَّا مُحايِثًا له أو مُبايِنًا له، وإمَّا فوقه أو تحته، أو عن يمينه أو عن شماله، أو خلفه أو أمامه، فحيث لم يَثبُت له شيءٌ من ذلك استحالَ أن يكون مُغايِرًا للعالَم قائمًا بنفسه.
قالوا: وهذه العقول والفِطَر حاضرة، إذا عُرِض عليها ذلك وجدتَه من باب الجمع بين النقيضين. فدعونا من إخراج نصوص الوحي عن
(3)
حقائقها، ودعوى أنها مجازات لا حقائقَ لها، لا تفيد يقينًا، ولا يُستفاد منها علمٌ بما يجب لله ويمتنع عليه البتةَ؛ إذ هي أدلة لفظية، وظواهر غير مفيدة لليقين
(4)
، وأجيبوا
(5)
هؤلاء المعطِّلة وأولئك المجسِّمة بزعمكم، وإلَّا فَلْيستحْيِ مِن مراجمة
(6)
الناس بالأحجار مَن سقفُ بيتِه من الزُّجاج.
* * * * *
(1)
«ح» : «والاختلاف» .
(2)
«ح» : «صانعًا قائمًا» .
(3)
«ح» : «من» .
(4)
«ح» : «للتعيين» . والمثبت هو الصواب، وقد مر على الصواب مرارًا.
(5)
«ح» : «أحيسوا» . والمثبت هو الصواب.
(6)
«ح» : «مزاحمة» بالزاي والحاء، وهو تصحيف ما أثبت.
الفصل العاشر
(1)
في أن التأويل شرٌّ من التعطيل
فإنه
(2)
يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها
فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير:
اعتقادهم أن
(3)
ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا.
ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني: وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ جل جلاله.
المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد [ق 12 ب]. وإن المتحيِّرين
(4)
المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص، ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس.
(1)
«ح» : «التاسع» . والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب.
(2)
«فإنه» ليس في «ح» ، ومثبت من «م» .
(3)
«ح» : «إلى» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «المبحرين» . والمثبت من «م» .
المحذور الرابع: تلاعُبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتَها
(1)
وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلَّت بها المَثُلاتُ، وتلاعَبَ بها أمواج
(2)
التأويلات، وتقاذفت
(3)
بها رياحُ الآراء، واحتوشتها رماحُ الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سُوق مَن يزيد، فبذَلَ كل واحدٍ في ثمنها من التأويلات ما يريد. فلو شاهدتَها بينهم وقد تخطَّفها أيدي الاحتمالات، ثم قُيِّدَت بعدما كانت مطلَقةً بأنواع الإشكالات، وعُزِلَت عن سلطنة اليقين، وجُعِلَت تحت حُكم تأويل الجاهلين!
هذا وطالما نُصِبَت لها حبائلُ الإلحاد
(4)
، وبقيت عرضةً للمطاعن
(5)
والإفساد، وقعدَ النُّفاةُ على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز! فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين. فسندُك
(6)
آحادٌ وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صحَّ وتواتَرَ ففَهْم
(7)
مراد المتكلم منه موقوفٌ على انتفاء عشرة أشياء
(8)
،
(1)
«ح» : «رأينا» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «الأمواج» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «وتعاد فيه» .
(4)
«ح» : «الاتحاد» . ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
«ح» : «وعرضة ولمطاعن» .
(6)
«ح» : «فستذكر» . والمثبت من «م» .
(7)
«ح» : «فهم» . والمثبت من «م» .
(8)
«أشياء» سقط من «ح» . وأثبته من «م» . وسيأتي بيان المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ لهذه الأمور العشرة مفصَّلةً وردها بأحسن بيان.
لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين.
فلا إله إلَّا الله والله أكبر، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصونُ حقائق السُّنَّة والقرآن! وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهلٍ أخرق ومنافقٍ أرعن، وطرَّقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكل
(1)
مبتدعٍ وزنديقٍ!
ومَن نظَرَ في التأويلات المخالِفة لحقائق النصوص رأى من ذلك ما يُضحِك عجبًا، ويُبكِي حزنًا، ويثير حَمِيةً للنصوص وغضبًا، قد أعاد عَذْبَ النصوص مِلْحًا أُجاجًا، وخرجت الناسُ من الهدى والعلم أفواجًا، فتحيَّزت كل طائفة إلى طاغوتها، وتصادمت تصادُمَ النصارى في شأن ناسوتها ولاهوتها. ثم تمالَأَ الكل على غزو جند الرحمن، ومعاداة حزب السُّنَّة والقرآن، فتداعَوْا إلى حربهم تداعِيَ الأَكَلة إلى قصعتها، وقالوا: نحن وإن كنا مختلفين
(2)
فإنا على محاربة هذا الجند متفقون، فمِيلُوا بنا عليهم ميلةً واحدة، حتى تعود دعوتهم باطلة وكلمتهم خامدة. وغرَّ المخدوعين كثرتُهم التي ما زادتهم عند الله ورسوله وحزبه إلَّا قلةً، وقواعدهم التي ما زادتهم إلَّا ضلالًا وبُعدًا عن الملة. وظنوا أنهم بجموعهم المعلولة يملؤون قلوب أهل السُّنَّة إرهابًا منهم وتعظيمًا، {وَلَمَّا رَأَى اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأنت إذا تأملتَ تأويلات القرامطة والملاحدة والفلاسفة والرافضة
(1)
«ح» : «فكل» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «محلقين» . والمثبت هو الصواب.
والقدرية والجهمية، ومَن سلك سبيل هؤلاء من المقلِّدين لهم في الحُكم والدليل، ترى الإخبار بمضمونها عن الله ورسوله لا يقصر عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة، التي هي ممَّا عملته أيدي الوضَّاعين، وصاغته ألْسِنة الكذابين. فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظًا وضعوها، وهؤلاء اختلقوا في كلامه معانيَ ابتدعوها.
فيا محنة الكتاب والسُّنَّة بين الفريقين! ويا نازلة نزلت بالإسلام من الطائفتين؟ فهما عَدوانِ للإسلام كائدانِ، وعن الصراط المستقيم ناكبان، وعن قصد السبيل جائران.
فلو رأيتَ ما يصرف إليه المحرِّفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدًى وبيانٍ وعلم من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة، لَكدتَ تقضي من ذلك عجبًا، وتتخذ في بطن الأرض سَرَبًا! فتارةً تعجب، وتارةً تغضب، وتارةً تبكي، وتارةً تضحك، وتارة تتوجع لِمَا نزل بالإسلام، وحلَّ بساحة الوحي ممَّن هم أضل مِن الأنعام.
ف
كشفُ عورات هؤلاء وبيانُ فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَنْ رَسُولِهِ»
(1)
. وقال: «اهْجُهُمْ ـ أَوْ هَاجِهِمْ ـ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ»
(2)
. وقال: «اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 37) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأصل الحديث رواه البخاري (453) ومسلم (2485) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عن هجائه لهم: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ»
(1)
.
وكيف لا يكون بيانُ ذلك من الجهاد في سبيل الله، وأكثرُ هذه التأويلات المخالِفة للسلف الصالح ـ من الصحابة والتابعين وأهل الحديث قاطبةً وأئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ـ يتضمن مِن عبثِ المتكلم بالنصوص وسوء الظن بها
(2)
من جنس ما تضمنه طعنُ الذين يلمزون الرسول ودينه وأهلِ النفاق والإلحاد؛ لِمَا فيه من دعوى أن ظاهر كلامه إفكٌ ومحال، وكفرٌ وضلال، وتشبيهٌ وتمثيل أو تخييل. ثم صرفها إلى معانٍ يُعلَم أن إرادتها بتلك الألفاظ من نوع [ق 13 أ] الأحاجي والألغاز، لا يصدر ممَّن قصده نصحٌ وبيان. فالمدافعةُ عن كلام الله ورسوله والذبُّ عنه من أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله وأنفعها للعبد.
ومَن رزقه الله بصيرةً نافذةً عَلِمَ سخافةَ عقول هؤلاء المحرِّفين، وأنهم من أهل الضلال المبين، وأنهم إخوان الذين ذمَّهم اللهُ بأنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، الذين لا يفقهون ولا يتدبرون القول، وشبَّههم بالحُمُر المستنفِرة
(3)
(1)
أخرجه النسائي (2893) وابن خزيمة (2680) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعبد الله بن رواحة، وأصل الحديث رواه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال:«اهجُوا قريشًا، فإنه أشدُّ عليها مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ» . فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجُهُمْ» . فهجاهم، فلم يَرْضَ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت
…
الحديث.
(2)
«ح» : «به» . والمثبت هو الصواب.
(3)
يعني: قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اِلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
تارةً، وبالحمار الذي يحمل أسفارًا
(1)
.
ومَنْ قَبِلَ التأويلاتِ المُفتراة على الله ورسوله، التي
(2)
هي تحريفٌ لكلام الله ورسوله عن مواضعه، فهو من جنس الذين قَبِلوا قرآن مسيلِمة المختلَق المفترَى، وقد زعم أنه شريكٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
رئيسًا
(3)
وكبيرًا مطاعًا يجعله شريكًا له في التصديق والطاعة والقبول إن لم يقدِّمه عليه، لا سيما الغالية من الجهمية والباطنية والرافضة والاتحادية، فإن عندهم من كلام ساداتهم وكبرائهم ما يضاهون به كلامَ الله ورسوله. وكثيرًا ما يقدِّمونه عليه عِلمًا وعملًا، ويَدَّعون فيه من التحقيق والتدقيق والعلم والعرفان ما لا يثبتون مثلَه للسُنَّة والقرآن.
ومَن تلبَّس منهم بالإسلام يقول: كلامنا يُوصِل إلى الله، والقرآن وكلام الرسول يوصل إلى الجنة. وكلامنا للخواص، والقرآن للعوام.
وكثيرٌ منهم يقول: كلامنا برهانٌ، وطريق القرآن خطابة.
ومنهم من يقول: القرآن والسُّنَّة طريق السلامة، وكلامنا طريق العلم والتحقيق.
وكثيرٌ منهم يقول: لم يكن الصحابة مَعنيِّين بهذا الشأن، بل كانوا قومًا أُمِّيين، فتحوا البلاد وأقاموا الدِّين بالسيف، وسلَّموا إلينا النصوص نتصرف
(1)
يعني: قوله تعالى: {مَثَلُ اُلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اِلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
(2)
«ح» : «الذي» . وهو خطأ واضح.
(3)
سقط قبله شيء من «ح» ، نحو:«وكذا كل مَنِ اتخذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
فيها ونستنبط منها، فلهم علينا مَزيَّةُ الجهاد والزهد والورَع، ولنا عليهم
(1)
مزيةُ العلم بالحقائق والتأويل. وإن لم يعلموا هذا من قلوبهم ـ والله يشهد به عليهم ويعلمه كامنًا في صدورهم ـ يبدو على فَلتاتِ لسانِ مَن لم يصرِّح به منهم.
ومِن محققي هؤلاء مَن يدعي أن الرُّسل يستفيدون العلمَ بالله من طريقهم، ويتلقَّوْنه من مِشْكَاتهم، ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم، فلم يصرحوا لهم بالحق ولم ينصحوا لهم به.
وكلٌّ من هؤلاء قد نصب دون الله ورسوله طاغوتًا يُعوِّل عليه، ويدعو عند التحاكُم إليه. فكلامه عنده محكمٌ لا يسوغ تأويله ولا يخالَفُ ظاهره، وكلام الله ورسوله إذا لم يوافقه فهو مجملٌ متشابهٌ يجب تأويله أو يسوغ. فضابط التأويل عندهم ما خالف تلك الطواغيت.
ومَن تدبَّر هذا الموضع انتفع به غاية النفع، وتخلَّص به مِن أشراك الضلال. فإن الذين يقرُّون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم نوع إيمانٍ به، منهم مَن يجعل له شريكًا في الطاعة، كما كان المنافقون يطيعون عبد الله بن أُبَيٍّ رأس المنافقين وكبيرهم
(2)
، وكان كثيرٌ ممَّن في قلبه نوع مرضٍ ـ وإن لم يكن منافقًا خالصًا ـ يطيعه في كثير من الأمور ويَقبَل منه، كما قال تعالى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] والمعنى على أصحِّ القولين: وفيكم مستجيبون لهم قابلون منهم
(3)
. كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 43] أي:
(1)
«ح» : «لهم» .
(2)
«ح» : «وكيدهم» .
(3)
وهو قول قتادة وابن إسحاق، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 397). والقول الآخر هو قول مجاهد وابن زيد، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 396).
قابلون له. ومَن حملَ
(1)
الآية على العيون والجواسيس فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرةٍ، ليس هذا موضعها.
وكما كان أصحاب مسيلِمة يقولون: إنه شريكه في الطاعة، وإنه يُقبَل منه كما يُقبَل من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان عبد الله بن أُبَيٍّ يقدم سياسته ورأيه على ما جاء به أحيانًا، ويغضب إذا لم يسمع منه، ويغضب له قومه.
وكذلك رئيس الخوارج السَّجَّاد العَبَّاد الذي بين عينيه أثر السجود، قدَّم عقله وزايَدَ على ما جاء به في قسمة المال، وزعم أنه لم يعدل فيها
(2)
.
وكذلك غُلاة الرافضة قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل حيث أمَرَ أبا بكر أن يصلي بالناس
(3)
وابنُ عمِّه حاضر، ولم يعدل حيث أثنى على أبي بكر وعمر وعظَّمهما، فأوجبَ
(4)
أن الأمة بعده وَلَّوهما دون ابن عمِّه.
وكذلك الجهمية، قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل في العبارة، حيث عدل عن العبارة التي عبَّرُوا هم بها عن الله سبحانه، وعبَّر بما أوقع الأمةَ في اعتقاد التشبيه والتجسيم، وحمَّلَهم كلفةَ التأويل وجشَّمهم مشقتَه، وأوقع الخلافَ بين الأُمة بتلك العبارات التي عباراتهم
(1)
«ح» : «حلى» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
أخرجه البخاري (3150) ومسلم (1062) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (664) ومسلم (418) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(4)
«ح» : «أوجب» .
بزعمهم أعظمُ تنزيهًا لله وأقل إيهامًا للمحال منها.
فهؤلاء وأمثالهم هم السَّلف لكل خلفٍ يدَّعِي أن لغير الله ورسوله معه حُكمًا في مضمون الرسالة، إمَّا في العلميات وإمَّا في العمليات، وإمَّا في الإرادات والأحوال، وإمَّا في السياسات وأحكام الأموال. فيُطاع هذا الغير كما يُطاع الرسول، بل الله يعلم أن كثيرًا منهم أو أكثرَهم قد قدَّموا طاعته على طاعة الرسول.
فكل هؤلاء فيهم شبهٌ من أتباع مُسيلِمة وابن أُبَيٍّ وذي الخُويصِرة، فلكل خلفٍ سلفٌ، ولكل تابعٍ متبوعٌ، ولكل مرؤوسٍ رئيسٌ، فمَن قرنَ بالرسالة رئاسةً مطاعةً أو سياسةً حاكمةً، بحيث يجعل طاعتها كطاعة الرسالة، ففيهم شبهٌ من أتباع عبد الله بن أُبَي، ومَنِ اعترض على الكتاب والسُّنَّة بنوع تأويلٍ من قياسٍ أو ذَوقٍ أو عقلٍ أو حالٍ ففيه شبهٌ من الخوارج أتباع ذي الخويصِرة، ومَن نصبَ طاغوتًا دون الله ورسوله [ق 13 ب] يدعو ويحاكِم إليه ففيه شبهٌ من أتباع مسيلِمة. وقد يكون في هؤلاء مَن هو شرٌّ من أولئك، كما كان فيهم من هو خيرٌ منهم أو مثلهم. وهؤلاء كلُّهم قد أعقبهم هذا الصنيعُ نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقَوْن ربهم، وإنما تبيَّنُ لهم حقيقته إذا بُليت السرائر ومُدَّت الضمائر، وبُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، ولا يستقر للعبد قدمٌ في الإسلام حتى يعقد قلبه وسرَّه على أن الدِّين كله لله، [وأن الهدى هدى الله، وأن الحق دائرٌ مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجودًا وعَدَمًا، وأنه لا مطاع]
(1)
سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يُعرَض على كلامه، فإن وافقه قَبِلْناه، لا لأنه قاله، بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله؛ وإن خالَفَه ردَدْناه واطَّرَحْناه. ولا يُعرَض كلامه ـ
(1)
سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
صلوات الله وسلامه عليه ـ على آراء القيَّاسين، ولا عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا على سياسة الولاة الحاكمين والسلاطين، ولا أذواق المتزهِّدين والمتعبِّدين؛ بل تُعرَض هذه كلها على ما جاء به عَرْضَ الدراهم المجهولِ حاملُها على أخبرِ الناقدين، فما حَكمَ بصحته منها فهو المقبول، وما حَكمَ بردِّه فهو المردود، والله الموفِّق للصواب.
* * * * *
الفصل الحادي عشر
(1)
في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان
(2)
، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى
لمَّا كان المقصود بالخطاب دلالة السَّامع وإفهامه مرادَ المتكلم بكلامه، وتبيينه له ما في نفسه من المعاني ودلالته عليها بأقرب الطرق، كان ذلك موقوفًا
(3)
على أمرين: بيان المتكلم، وتمكُّن السامع من الفهم.
فإن لم يحصل البيانُ من المتكلم، أو حصل ولم يتمكن السامع من الفهم، لم يحصل مراد المتكلم. فإذا بيَّنَ المتكلم مرادَه بالألفاظ الدالة على مراده، ولم يعلم السامع معانيَ تلك الألفاظ، لم يحصل له البيان. فلا بد مِن تمكُّن السامع من الفهم، وحصول الإفهام من المتكلم.
فحينئذٍ لو أراد اللهُ ورسوله من كلامه خلافَ حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لَكان قد كلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، وأراد منه فَهْمَ النفي بما يدل على غاية الإثبات، وفَهْمَ الشيء بما يدل على ضدِّه، وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا إله يُصَلَّى له
(4)
ويُسجَد، وأنه لا داخلَ العالَم ولا خارجَه ولا فوقه
(1)
في «ح» : «العاشر» . والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب.
(2)
«ح» : «ينافيان» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «مرفوعًا» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «إليه» .
ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه، بقوله:{قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9]. وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إفهامَ أُمته هذا المعنى بقوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى»
(1)
.
وأراد إفهامَ كَوْنه خَلَقَ آدم بقدرته ومشيئته بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74].
وأراد إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتها إلى العدم بقوله: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ»
(2)
.
وأراد إفهام معنى: مَنْ ربُّك؟ ومَنْ تعبد؟ بقوله: «أَيْنَ اللهُ؟»
(3)
وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهِدًا بربه
(4)
، وليس هناك ربٌّ ولا إلهٌ، وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قولَه وقولهم، فأراد بالإشارة بإصبعه بيان كَوْنه قد سمع قولهم.
(1)
أخرج البخاري (3215) ومسلم (2376) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يَنبغِي لِعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بن مَتَّى» . ولم نقف عليه باللفظ الذي ذكره المصنِّف رحمه الله إلَّا في «الشفاء» للقاضي عياض (1/ 265) دون سند، وتبعه غير واحد، وقال السيوطي في «مناهل الصفا» (ص 75):«لم أقف عليه بهذا اللفظ» . وقال السخاوي في «الأجوبة المرضية» (2/ 429) نحوه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث حجة الوداع الطويل.
وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة:
كقول بعضهم في معنى قوله: «عامَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبرَ على شَطرِ ما يخرج منها مِن ثمرٍ وزرعٍ»
(1)
: إن معناه ضرَبَ عليهم الجزيةَ. وهذا كذبٌ على اللفظ، وكذبٌ على الرسول؛ فإنه ليس ذلك معنى اللفظ، وأهلُ خيبر لم يضرب عليهم الجزيةَ؛ لأنه صالَحَهم وفتحَها قبل نزول فرْضِ الجزية.
وكتأويل بعضهم قولَه صلى الله عليه وسلم: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ»
(2)
أن المراد به الْتِقامُ الثدي من غير ارتضاع اللبن ودخوله إلى جوفه.
إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامعُ قطعًا أنها لم تُرَد بالخطاب بقصد المتكلم لها بتلك الألفاظ الدالة على نقيضها من كل وجهٍ لا يجامع
(3)
قصدَ البيان والدلالة
(4)
.
قال شيخ الإسلام
(5)
: «إن كان الحقُّ فيما يقوله هؤلاء النُّفاة الذين لا يُوجد ما يقولونه في الكتاب والسُّنَّة، وكلام القرون الثلاثة المعظَّمة على سائر القرون، ولا في كلام أحدٍ من أئمة الإسلام المقتدَى بهم؛ بل ما في الكتاب والسُّنَّة وكلام السلف والأئمة يوجد دالًّا
(6)
على خلاف الحق عندهم، إمَّا نصًّا وإمَّا ظاهرًا، بل دالًّا عندهم على الكفر والضلال = لَزِمَ من
(1)
أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (1450) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(3)
كذا في «ح» ، والسياق غير بينٍ، فلعله قد سقط شيء.
(4)
«ح» : «والدالة» .
(5)
لم أقف على هذا الكلام الرائع لشيخ الإسلام في كتبه التي تحت يدي.
(6)
«ح» : «وإلا» .
ذلك لوازمُ باطلة:
منها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسُنة نبيه من هذه الألفاظ ما يُضِلُّهم ظاهرُه ويُوقِعهم في التشبيه والتمثيل.
ومنها: أن يكون قد ترك
(1)
بيانَ الحق والصواب لهم، ولم يفصح به، بل رمزَ إليه رمزًا وألغزه إلغازًا، لا يُفهم منه ذلك إلَّا بعد الجهد الجَهِيد.
ومنها: أن يكون قد كلَّف عبادَه ألَّا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلَّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تُفهِم ذلك.
ومنها: أن يكون دائمًا متكلمًا في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب، تارةً بأنه استوى على عرشه، وتارةً بأنه فوق عباده، وتارةً بأنه العلِيُّ الأعلى، وتارةً بأن الملائكة تعرُجُ إليه، وتارةً بأن الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارةً بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفلَ تنزل مِن عنده، وتارةً بأنه رفيع الدرجات، وتارةً بأنه في السماء، وتارةً بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، وتارةً بأنه فوق [ق 14 أ] سماواته على عرشه، وتارةً بأن الكتاب نزل من عنده، وتارةً بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وتارةً بأنه يُرى بالأبصار عيانًا يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك مِن تنوُّع الدلالات على ذلك، ولا يتكلم فيه بكلمةٍ واحدةٍ تُوافق ما يقوله النفاة، ولا يقول في مقامٍ واحدٍ قطُّ ما هو الصوابُ فيه لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا يُبَيِّنه
(2)
.
(1)
«ح» : «نزل» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يبينوه» . والمثبت من «م» .
ومنها: أن يكون أفضلُ الأُمة وخير القرون قد أمسكوا مِن أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ
(1)
العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان، وذلك إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ، ولقد أساء الظن بخيار الأُمة مَن نسبَهم إلى ذلك.
ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلمُ بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولَّدَ مِن بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لمَّا اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصًّا وظاهرًا، ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإذا وردَ عليهم من النصوص ما هو صريحٌ أو ظاهر في الإثبات حرَّفوه أنواعَ التحريفات، وطلبوا له مُستكرَه التأويلات.
ومنها: أنهم التزموا لذلك تجهيلَ السَّلف، وأنهم كانوا أُمِّيين مُقبِلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم.
ومنها: أنَّ ترْكَ الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفعَ لهم وأقربَ إلى الصواب، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرُّض للضلال، ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا علمًا بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها.
فإن قيل: استفدنا منها الثوابَ على تلاوتها وانعقادَ الصلاة بها.
قيل: هذا تابعٌ للمقصود بها بالقصد الأول، وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها؛ فإن القرآن لم ينزل
(1)
«ح» : «الثنا» . والمثبت من «م» .
لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه، بل أُنزل ليُتدبَّر ويُعقَل، ويُهتدى
(1)
به علمًا وعملًا، ويُبصِّر من العمى، ويُرشِد من الغي، ويُعلِّم من الجهل، ويَشفِي من العِيِّ
(2)
، ويهدي إلى صراط مستقيم. وهذا القصدُ ينافي قصدَ تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرَهة، التي هي مِن جنس الألغاز والأحاجي، فلا يجتمع قصدُ الهدى والبيان وقصدُ ما يضاده أبدًا، وبالله التوفيق»
(3)
.
وممَّا
(4)
يُبَيِّنُ ذلك أنَّ الله تعالى وصف كتابَه بأوضح البيان وأحسن التفسير، فقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اُلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. فأين بيانُ المختلَف فيه والهدى والرحمة في ألفاظٍ ظاهرها باطلٌ، والمراد منها يُطلب بأنواع التأويلات المستنكَرة المستكرَهة لها، التي
(5)
لا تُفهَم منها بل
(6)
يُفهَم منها ضدُّها.
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟ فأين بيَّن
(7)
الرسولُ ما يقوله النُّفاة والمتأوِّلون؟
(1)
«ح» : «يهدى» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «الغي» . والمثبت من «م» .
(3)
آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يبدو.
(4)
«ح» : «وما» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «الذي» . والمثبت من «م» .
(6)
«تفهم منها بل» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(7)
«ح» : «يبين» . والمثبت من «م» .
وقد قال تعالى: {وَاَللَّهُ يَقُولُ اُلْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي اِلسَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فأخبر أنه يقول الحقَّ ويهدي السبيل بقوله، وعند النُّفاة إنما
(1)
حصلت الهداية بأبكار أفكارهم، ونتائج آرائهم وعقولهم.
وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 5]. وعند النُّفاة المُخرِجين لنصوص الوحي عن إفادة اليقين إنَّما حصل
(2)
الإيمانُ بالحديث الذي أسَّسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فبه آمنوا وبه اهتدوا، وبه عرفوا الحقَّ من الباطل، وبه صحَّت عقولهم ومعارفهم.
وقال تعالى
(3)
: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81]. وأنت لا تجد الاختلاف في شيءٍ أكثرَ منه في آراء المتأولين وسوانح أفكارهم وزبالة أذهانهم
(4)
، التي يُسمونها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي عند
(5)
التحقيق خيالاتٌ وهمية وقوادحُ فكرية، نبذوا بها القرآن والسُّنَّة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا
(1)
«ح» : «إذا» . والمثبت من «م» .
(2)
بعده في «ح» : «له» . وليست في «م» .
(3)
عند قوله تعالى {وَلَوْ} انتهى السقط الطويل الواقع في «ب» ، الذي بدأ في أثناء الفصل التاسع.
(4)
«ح» : «رذالة أوهامهم» .
(5)
«ب» : «عين» .
مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 114) أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (115) وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْعَلِيمُ (116) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي اِلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( 117) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهْوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 113 - 118].
* * * * *
الفصل الثاني
(1)
عشر
في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه
نكتفي من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ، حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله بن تيمية رحمه الله، أنه جمعَه وبعضَ الجهمية مجلسٌ
(2)
، فقال الشيخ: قد تطابقت نصوص الكتاب والسُّنَّة والآثار على إثبات الصِّفات [ق 14 ب] لله، وتنوعت دلالتها عليها أنواعًا تُوجِب العلم الضروري بثبوتها، وإرادة المتكلم اعتقادَ ما دلَّت عليه. والقرآن مملوءٌ مِن ذِكر الصِّفات، والسُّنَّة ناطقةٌ بمثل
(3)
ما نطق به القرآن، مقرِّرةٌ له مصدِّقةٌ له، مشتمِلة على زيادة في الإثبات. فتارةً بذكر الاسم المشتمِل على الصِّفة، كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم، وتارةً بذكر المصدر، وهو الوصف الذي اشتُقَّت منه تلك الصفة، كقوله:{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 165]، وقوله:{إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اُلْقُوَّةِ اِلْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقوله:{إِنِّيَ اَصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، وقوله:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 81].
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ
(1)
«ح» : «الحادي» .
(2)
في النسختين: «مجلسًا» . وكذا في «م» .
(3)
«ح» : «على» .
سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»
(1)
.
وقوله في دعاء الاستخارة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ»
(2)
.
وقوله: «أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ»
(3)
.
وقول عائشة: «الحمد لله الذي
(4)
وَسِعَ سمعُه الأصواتَ»
(5)
.
ونحوه.
وتارةً يذكر
(6)
حُكم تلك الصفة، كقوله:{قَد سَّمِعَ اَللَّهُ} [المجادلة: 1] و {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45]، وقوله:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وقوله:{عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 186] ونظائر ذلك.
ويُصرِّح في الفوقية بلفظها الخاص، وبلفظ العلوِّ والاستواء، وأنه في
(1)
أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6382) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (18615) والنسائي (1305) وابن حبان (1971) والحاكم (1/ 524) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقال الحاكم:«حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
(4)
«الذي» ليس في «ب» .
(5)
علقه البخاري في «صحيحه» (9/ 117) ووصله الإمام أحمد (24832) والنسائي (3460) وابن ماجه (188) وصححه ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 339).
(6)
«يذكر» سقط من «ح» .
السماء، وأنه ذو المعارج، وأنه رفيع الدرجات، وأنه تعرُجُ إليه الملائكةُ وتنزل مِن عنده، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانًا مِن فوقهم، إلى أضعاف أضعاف
(1)
ذلك، ممَّا لو جُمعت النصوصُ والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها.
ومن أَبْيَنِ المحال وأوضح الضلال حملُ ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره، ودعوى المجاز فيه والاستعارة، وأن الحق في أقوال النُّفاة المعطِّلين، وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص؛ إذ يلزم من
(2)
ذلك أحدُ محاذيرَ ثلاثةٍ، لا بد منها أو من بعضها، وهي: القدحُ في علم المتكلم بها، أو في بيانه، أو في نُصحه.
وتقرير ذلك أنه يقال: إمَّا أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالمًا أن الحق في تأويلات النُّفاة المعطِّلين أو لا يعلم ذلك. فإن لم يعلم ذلك ـ والحقُّ فيها
(3)
ـ كان ذلك قدحًا
(4)
في علمه. وإن كان عالمًا أن الحق فيها فلا يخلو؛ إمَّا أن يكون قادرًا على التعبير بعباراتهم ـ التي هي تنزيهٌ لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وأنه لا يعرف اللهَ مَن لم ينزِّهه بها ـ أو
(5)
لا يكون قادرًا على تلك العبارات. فإن لم يكن قادرًا على التعبير بذلك لزم القدحُ في فصاحته، وكان ورثةُ الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة
(1)
«أضعاف» ليس في «ب» .
(2)
«من» سقط من النسختين، وأثبته من «م» .
(3)
«ب» : «فيهما» .
(4)
في «ح» : «قد جاء» .
(5)
«ح» : «إذ» .
والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصحَ منه وأحسنَ بيانًا وتعبيرًا عن الحق. وهذا ممَّا يعلم بطلانَه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، موافقوه ومخالفوه، فإن مخالفيه لم يشكُّوا في أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حُسن التعبير بما يُطابق المعنى ويُخلِّصه من اللبس والإشكال.
وإن كان قادرًا على ذلك، ولم يتكلم به، وتكلم دائمًا بخلافه وما يناقضه، كان ذلك قدحًا في نُصحه. وقد وصف الله رسله بكمال النُّصح والبيان، فقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 5]، وأخبر عن رسله بأنهم أنصحُ الناس لأُممهم. فمع النُّصح والبيان والمعرفة التامة كيف يكون مذهب النُّفاة المعطِّلة أصحاب التحريف هو الصوابَ، وقولُ أهل الإثبات أتباع القرآن والسُّنَّة باطلًا؟! هذا مضمون المناظرة.
فقال له الجهمي: انزل بنا إلى الوطاءة
(1)
.
قلت له: ما أراد بذلك؟
قال: أراد أنك خاطبتني مِن فوقُ، وتجوَّهْتَ
(2)
عليَّ بجاهٍ لا يمكنني مقاومته، فانزل بنا إلى مباحث الفضلاء وقواعد النُّظار، أو نحو هذا من الكلام.
فليتدبر الناصحُ لنفسه ـ الموقِن بأن الله
(3)
لا بد سائله عمَّا أجاب به
(1)
لعله من الوطأة التي هي موضع القدم، أراد: لا تتعاظمْ عليَّ وانزِلْ إليَّ. ينظر «تاج العروس» (1/ 494 - 495).
(2)
أراد: تعاظمت. ينظر «تاج العروس» (36/ 371).
(3)
«ح» : «بالله» .
رسوله ـ هذا المقامَ، ولْيتحيَّز بعدُ إلى
(1)
أين شاء، فلم يكن الله ليجمعَ بين النُّفاة المعطلين المحرِّفين وبين أنصاره وأنصار رسوله وكتابه
(2)
إلَّا جمعَ امتحانٍ وابتلاء، كما جمع بين الرُّسل وأعدائهم في هذه الدار.
قلت: وقريبٌ من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب
(3)
، فإنه جمعَني وإياه مجلسُ خلوةٍ، أفضى بنا
(4)
الكلام إلى أن جرى ذِكر مسبَّة النصارى لربِّ العالمين مسبةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، فقلت له: وأنتم بإنكاركم نبوةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قد سببتم الربَّ تعالى أعظمَ مسبةً.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأنكم تزعمون أن محمدًا مَلِكٌ ظالمٌ، ليس برسولٍ صادقٍ، وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه، فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريَّهم، ولا يقتصر على ذلك حتى يَكذِبَ على الله ويقولَ: الله أمرني بهذا وأباحه لي. ولم يأمره اللهُ ولا أباح له ذلك. ويقولَ: أُوحِيَ إليَّ. ولم يُوحَ إليه شيءٌ. وينسخَ شرائعَ الأنبياء مِن عنده، ويُبطِلَ منها ما يشاء، ويُبقِيَ منها ما يشاء، ويَنسُبَ ذلك كله إلى الله، ويقتلَ أولياءه وأتباعَ رُسله، ويسترقَّ نساءهم وذُرياتهم. فإمَّا أن يكون الله سبحانه رائيًا لذلك كله عالمًا به مطلعًا عليه أو لا.
فإن قلتم: إن ذلك بغير علمه واطلاعه [ق 15 أ] نسبتموه إلى الجهل
(1)
«ح» : «أجدال» .
(2)
«ح» : «وكأنه» .
(3)
ذكر المصنف رحمه الله هذه المناظرة أيضًا في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 270 - 274) وفي «هداية الحيارى» (ص 384 - 385) وبيَّن أنه كانت مع أكبر علماء اليهود.
(4)
«ب» ، «ح»:«بيننا» . والمثبت من «م» .
والغباوة، وذلك من أقبح السبِّ. وإن كان عالمًا به رائيًا له مشاهدًا لما يفعله فإمَّا أن يَقدِر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا.
فإن قلتم: إنه غير قادرٍ على منعه والأخذ على يده
(1)
نسبتموه إلى العجز والضعف.
وإن قلتم: بل هو قادر على منعه ولم يفعل نسبتموه إلى السفه والظلم والجور.
هذا، وهو مِن حين ظهرَ إلى أن توفاه ربُّه يُجيب دعواتِه ويقضي حاجاتِه، ولا يسأله حاجةً إلَّا قضاها له، ولا يدعوه بدعوةٍ إلَّا أجابها له، ولا يقوم له عدوٌّ إلَّا ظفر به، ولا تقوم له رايةٌ إلَّا نصرها، ولا لواء إلَّا رفعه، ولا مَن يُناوِئه ويعاديه إلَّا بتره ووضعَه. فكان أمرُه مِن حين ظهر إلى أن تُوفي يزداد على الأيام والليالي ظهورًا وعلوًّا ورفعةً، وأمرُ مخالفيه لا يزداد إلَّا سُفولًا واضمحلالًا. ومحبتُه في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات، وربه تعالى يؤيده بأنواع التأييد، ويرفع ذِكره غايةَ الرفع. هذا، وهو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررًا على الناس، فأيُّ
(2)
قدحٍ في ربِّ العالمين، وأيُّ مسبةٍ له، وأيُّ طعنٍ فيه أعظمُ من ذلك!
فأخذ الكلام منه مأخذًا ظهرَ عليه، وقال: حاشَ لله أن نقول فيه هذه المقالة، بل هو نبيٌّ صادقٌ، كلُّ مَنِ اتبعه فهو سعيدٌ، وكلُّ منصِفٍ منَّا يُقرُّ بذلك، ويقول: أتباعه سُعداء في الدارين.
قلت له: فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة
(1)
؟
فقال: وأتباع كل نبيٍّ من الأنبياء كذلك، فأتباع موسى أيضًا سُعداء.
قلت له: فإذا أقررتَ أنه نبيٌّ صادقٌ فقد
(2)
كفَّرَ مَن لم يتبعه، واستباح دمه وماله، وحكمَ له بالنار. فإنْ صدَّقتَه في هذا وجب عليك اتباعُه، وإن كذبتَه فيه لم يكن نبيًّا، فكيف يكون أتباعُه سعداءَ؟!
فلم يُحِرْ جوابًا
(3)
، وقال: حدِّثْنا
(4)
في غير هذا.
فانظر هذه الموازنة والمشابهة بين ما لزم الجهمية النُّفاة من القدح والطعن في المتكلم بنصوص الصِّفات، وما لزم منكري نبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الطعن والقدح في الربِّ تعالى.
وإذا ضممتَ هذا إلى ما يلزمهم من الطعن في كلامه ولمزه
(5)
واشتماله على ما ظاهرُه كفرٌ وضلالٌ وباطلٌ ومحالٌ علمتَ حقيقةَ الحال، وتبيَّن لك الهدى من الضلال، والله المستعان.
* * * * *
(1)
«السعادة» ليس في «ب» .
(2)
«ب» : «فهو» .
(3)
أي: لم يرجع ولم يرد. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 458).
(4)
«ب» : «خُذ بنا» .
(5)
«ح» : «أمره» .
الفصل الثالث
(1)
عشر
في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره
أنزل الله سبحانه الكتاب شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمة للمؤمنين، ولذلك
(2)
كانت معانيه أشرف المعاني، وألفاظه أفصح الألفاظ وأَبْينها وأعظمها مطابَقةً لمعانيها المرادة منها، كما وصف سبحانه به كتابه في قوله:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره وبيانه.
والتفسير أصله من
(3)
الظهور والبيان، ويلاقيه
(4)
في الاشتقاق الأكبر الإسفارُ، ومنه أسفر الفجرُ: إذا أضاء ووضحَ، ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره، ومنه السِّفْر
(5)
الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه. فلا بد من
(6)
أن يكون التفسير مطابقًا للمفسَّر مفهمًا له، وكلما كان فهم المعنى منه أوضحَ وأبينَ كان التفسير أكملَ وأحسن
(7)
. ولهذا لا تجد كلامًا
(1)
«ح» : «الثاني» .
(2)
«ب» : «فلذلك» .
(3)
«ح» : «في» .
(4)
«ح» : «وباقيه» . وفي «ب» : «تلاقيه» . والمثبت من «م» .
(5)
«السفر» ليس في «ح» .
(6)
«من» ليس في «ح» .
(7)
«ب» : «أحسن وأكمل» .
أحسن تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمَّاه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذِّكر. وتيسيرُه للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير:
أحدها
(1)
: تيسير ألفاظه للحفظ.
الثاني: تيسير معانيه للفهم.
الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال
(2)
.
ومعلوم أنه لو كان بألفاظٍ لا يفهمها المخاطب لم يكن مُيسَّرًا له، بل كان مُعسَّرًا عليه. فهكذا إذا أُريدَ مِن المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير
(3)
، وهو منافٍ للتيسير؛ فإنه لا شيءَ أعسرُ على الأمة من أن يُراد منهم أن يفهموا كَوْنه سبحانه لا داخل العالَم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه ولا مُبايِنًا له ولا مُحايِثًا، ولا يُرى بالأبصار عيانًا، ولا له وجه ولا يد، من قوله:{قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ومن قول رسوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى»
(4)
، ومن قوله:{اِلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 6]، وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلُّب
(5)
أنواع الاستعارات، وضروب المجازات، ووحشيِّ اللغات؛
(1)
«ح» : «إحداها» .
(2)
«ح» : «للأمثال» .
(3)
«ح» : «التفسير» . وهو تحريف.
(4)
تقدم تخريجه (ص 124).
(5)
«ح» : «طلب» .
ليحملوا عليه آيات الصِّفات وأخبارها، فيصرفوا قلوبهم وأفهامهم عمَّا تدل عليه، ويفهموا منها ما لا تدل عليه، بل تدل على خلافه.
ويقول: اعلموا يا عبادي أني أردتُ منكم أن تعلموا أني لست فوق العالَم ولا تحته، ولا فوق عرشي، ولا ترفع الأيدي إليَّ، ولا يعرُجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزل من عندي شيءٌ من قولي:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومن قولي:{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، ومن قولي:{تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومن قولي:{بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ}
(1)
[النساء: 157]، ومن قولي:{رَفِيعُ اُلدَّرَجَاتِ ذُو اُلْعَرْشِ} [غافر: 14] ومن قولي: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]، ومن قولي:{سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، ومن قولي:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 - 22]، ومن قولي:{* آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، ومن قولي:{تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، ومن قولي:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اُلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]. وأن تفهموا أنه ليس لي يدانِ من قولي: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، ومن قولي:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، ولا عين من قولي:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39]. فإنكم إذا فهمتم من هذه [ق 15 ب] الألفاظ حقائقَها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منها، بل مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها.
فأي تيسيرٍ يكون هناك! وأي تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصل بذلك! ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلَّا بترجمة أيسرُ عليه من خطابه بما كُلِّف أن
(1)
«ومن قوله {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ}» ليس في «ب» .
يفهم منه خلاف موضوعه
(1)
وحقيقته بكثيرٍ. فتيسيرُ
(2)
القرآن منافٍ لطريقة النُّفاة المحرِّفين أعظمَ منافاةً. ولهذا لمَّا عسر عليهم أن يفهموا منه النفي، وعزَّ
(3)
عليهم ذلك، عوَّلوا فيه على الشُّبَه الخيالية
(4)
التي سمَّوْها قواطع عقلية وقواعد يقينية
(5)
. وإذا تأملها مَن نوَّر اللهُ قلبَه، وكحَّل عينَ بصيرته بمِرْوَد الإيمان، رآها «لحم جملٍ غثٍّ على رأس جبلٍ وعرٍ، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقَل»
(6)
، وهي من جنس خيالات الممرورين
(7)
وأصحاب الهوس، وقد سودوا بها القلوب والأوراق.
فطريقتهم ضدُّ طريقة القرآن من كل وجهٍ، إذ طريقة القرآن حقٌّ بأحسن تفسيرٍ وأبينِ عبارةٍ، وطريقتهم معانٍ باطلة بأعقدِ عبارةٍ وأطولها وأبعدها من الفهم. فيجهد الرجل الظمآن
(8)
نفسَه وراءهم حتى تنفد قُواه، فإذا هو قد اطلع على سرابٍ بِقِيعَةٍ: {يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ ( 38) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
(1)
«ح» : «موضعه» .
(2)
«ح» : «تفسير» .
(3)
«ح» : «وعسر» .
(4)
«ح» : «الخالية» . وهو تحريف.
(5)
«ح» : «وقواطع تفنيد» . وهو تحريف.
(6)
مقتبس من حديث أم زرع الذي رواه البخاري (5189) ومسلم (2448) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(7)
أي: المجانين، قال الثعالبي في «فقه اللغة وسر العربية» (ص 108):«إذا كان الرجل يعتريه أدنى جنون وأهونه فهو موسوس، فإذا زاد ما به قيل: به رئي من الجن. فإذا زاد على ذلك فهو ممرور» .
(8)
«ب» : «المضمار» .
لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 38 - 39]. والله يعلم أنَّا لم نَقُلْ ذلك تقليدًا لغيرنا
(1)
، بل إخبارًا عمَّا شاهدناه ورأيناه.
وإذا أحببتَ أن تعلم ذلك حقيقةً فتأمَّل عامة مطالبهم وأدلتهم عليها، كيف تجدها مطالب ـ بعد التعب الشديد والجهد الجَهِيد ـ لا يحصل منها على مطلبٍ صحيحٍ، فإنهم بعد الكدِّ والجهد لم يثبتوا للعالَم ربًّا مباينًا عنه منفصلًا منه، بل بعد الجهد الشديد في إثبات موجودٍ لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، هم شاكُّون في وجوده: هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟ فمِن ذاهبٍ إلى أنه زائدٌ، ومن ذاهبٍ إلى أنه ليس بزائدٍ، ومن متوقفٍ في وجوده شاكٍّ فيه، هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟
ثم هم شاكُّون في أن صفاته هل
(2)
هي وجودية أو عدمية، أو لا وجودية ولا عدمية؟ وهل هي زائدة على الموصوف أو ليست زائدة؟ فكيف تثبت له على وجهٍ لا يُوجِب تكثُّرًا في الذات ولا مغايرة بينها، فبعضهم يجعلها أمورًا عدمية، وبعضهم أحوالًا نسبية
(3)
، وبعضهم يتوقف فيها. ومنهم مَن يجعل علمه نفس ذاته، فيجعل ذاته علمًا، ومنهم مَن يجعل علمه نفس معلومه، ومنهم من يجعل علمه واحدًا لا يتعدد
(4)
ولا ينقسم، فيجعل علمه بوجود
(1)
«ب» : «كغيرنا» .
(2)
«هل» ليس في «ب» .
(3)
«ح» : «سنية» .
(4)
«ح» : «يتعدى» .
الشيء هو عين
(1)
علمه بعدمه، وعلمه بكونه يُطاع هو نفس علمه بكونه يُعصَى. هذا إذا أثبتَ علمه بالمُعيَّنات والجزئيات، ومَن لم يُثبِته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة
(2)
شيئًا البتة.
وكذلك اضطربوا في كلامه: فمنهم مَن لم يُثبِت له كلامًا البتةَ، فلا قال عنده ولا يقول، ولا أمَرَ ولا نهى، ولا كلَّم ولا تكلَّم. ومَن يقرب منهم إلى الإسلام قال: كل ذلك مخلوق خلقه في الهواء أو في اللوح المحفوظ.
ومنهم من قال: كلامه معنًى واحد، فالمعنى
(3)
ليس له بعضٌ ولا كل، وليس بحروفٍ ولا أصواتٍ. وذلك المعنى الواحد الذي لا ينقسم هو معاني كُتُبِه كلها، فالقرآن هو نفس التوراة، وهما نفس الإنجيل والزبور، اختلفت أسماؤها باختلاف التعبير عن ذلك المعنى الواحد. ثم ذلك المعنى ليس من جنس العلوم
(4)
ولا الإرادات، بل
(5)
حقيقته مغايرة لحقيقتها
(6)
. ثم ذلك المعنى المشار إليه يجوز تعلُّق الحواس الخمس به؛ فيُسمَع ويُرى ويُلمَس ويُشم ويُذاق. وكذلك سائر الأعراض يجوز تعلق الإدراكات كلها بها، فيجوز أن تُشم الأصوات وتُرى وتُذاق وتُلمس، ويجوز أن تُسمع الروائح
(1)
«عين» ليس في «ح» .
(2)
«بالمعينات والجزئيات ومن لم يثبته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة» . في «ح» : «بالمغيبات» .
(3)
«ب» : «واحدا بالعين» .
(4)
«ح» : «المعلوم» .
(5)
بعده في «ح» : «هي» . وهو لفظ زائد.
(6)
«ح» : «لحقيقتهما» .
وترى
(1)
وتُلمس. قالوا: وهذا حكم
(2)
سائر الصِّفات.
فجعلوا الإرادة واحدةً بالعين
(3)
، وإرادة إيجاد الشيء هي عين إرادة إعدامه، وإرادة تحريكه هي عين إرادة تسكينه، وإرادة إبقائه
(4)
هي عين إرادة إفنائه
(5)
، وإنما المختلف تعلقاتها فقط، وكذلك قالوا في القدرة.
وأمَّا إذا حفروا
(6)
على مطلب الجوهر الفرد ومطلب العرض هل يبقى زمانين أم لا؟ ومطلب الأجسام هل هي متماثِلة أو متبايِنة؟ ومطلب الأحوال هل هي ثابتة أم لا؟ وهل هي وجودية أو عدمية أو لا ذا ولا ذا؟ ومطلب الزمان والمكان ما حقيقتهما؟ وهل هما وجوديان أو عدميان؟ ومطلب [ق 16 أ] الكسب هل له حقيقة أم لا؟ وما حقيقته؟ ومطلب الفعل هل هو قائم بالفاعل أم لا؟ فإن قام به فهل هو مقارِنٌ له أم لا؟ فإن تأخَّرَ عنه فما الموجب
(7)
لتأخُّره؟ وإنْ قارنه فهل
(8)
كان قديمًا بقِدَمه؟ وإن لم
(9)
يقم به فكيف يكون فاعلًا بلا
(10)
فعلٍ يقوم به؟ كما لا يكون سميعًا بصيرًا مريدًا
(1)
«وترى» ليس في «ح» .
(2)
«ب» : «وهكذا هم في» .
(3)
«ح» : «بالمعنى» .
(4)
«ح» : «إنعامه» . وهو تحريف.
(5)
«ح» : «إثباته» . وهو تحريف.
(6)
«ح» : «حضروا» .
(7)
«ب» : «فالموجب» .
(8)
«فهل» ليس في «ب» .
(9)
«لم» سقط من «ب» .
(10)
«ح» : «بل» .
قادرًا بلا سمعٍ ولا بصرٍ ولا إرادةٍ تقوم به.
إلى عامة
(1)
مطالبهم التي إذا انتهى حفرهم
(2)
وصَلُوا إلى ما يحيله
(3)
العقل والسمع، فترى أحدهم يبني، حتى إذا ظن أنه قد ارتفع بناؤه جاء الآخر بمَعاوِلَ من التشبيه
(4)
والتشكيك، فهَدَم عليه جميعَ ما بناه، وبنى مكانه بناءً آخر، حتى إذا ظن أن بناءه قد كمل عاد الباني الأول بنظير تلك المعاول فهدم بناءه، فلا يزالون كذلك، كما قال شاعرهم
(5)
:
وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى
…
فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ
فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحربُ العَوانُ، فأجهدوا أنفسهم وكدُّوا خواطرهم في الصُّلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق! وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآياتِ في شأنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى اَلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ اُلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَإِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (60) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ
(1)
«ب» : «غاية» .
(2)
«ح» : «جمعهم هم» .
(3)
«ب» : «تخيله» .
(4)
«ح» : «الشبه» .
(5)
البيت لأبي العلاء المعري في «ديوان اللزوميات» (2/ 336) وروايته:
وبصير الأقوام مثلي أعمى
…
فهلموا في حندس نتصادم
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (61) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اُللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 59 - 62].
* * * * *
الفصل الرابع
(1)
عشر
في أن التأويل يعود على المقصود من
(2)
وضع اللغات بالإبطال
لمَّا جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضُه إلى بعضٍ، فلا يمكن الإنسانَ
(3)
أن يعيش وحده، بل لا بد له من مشاركٍ ومعاوِنٍ من بني جنسه، كما قيل: الإنسان مدني بالطبع، وكان لا يعرف كل منهم ما يريد صاحبُه من الأفعال والتُّروك إلَّا بعلامة تدل على ذلك، وتلك العلامة إمَّا تحريك جسمٍ من الأجسام المنفصلة عنه، أو تحريك بعض أعضائه، فيجعل لكل معنًى حركة خاصة، ومعلوم أن في الأول من العُسر والمشقة وعدم الإحاطة بالتعريف ما يمنع وضعه، فكان تحريك الأعضاء أسهل وأدلَّ وأعمَّ، وكانت حركة الأعضاء نوعين، نوعٌ للبصر ونوعٌ للأذن، والذي للأذن أعم، والإنسان إليه أحوج. وكان أولى هذه الأعضاء بأن يجعل حركاتها
(4)
دالةً مُعَرِّفةً هو اللسان
(5)
؛ لأن حركته أخف وأسهل، وتنوُّعها أعظم وأكثر من تنوع حركة غيره، وترجمته عمَّا
(6)
في القلب أظهرُ من ترجمة غيره، ويتمكن المعرِّف بحركاته
(7)
من حركات مفردة ومؤلفة، يحصل بها من الفرق والتمييز ما
(1)
«ح» : «الثالث» .
(2)
«ح» : «في» .
(3)
«الإنسان» ليس في «ب» .
(4)
«ح» : «حركته» .
(5)
«ح» : «وهو الإنسان» . وهو تحريف.
(6)
«ح» : «كما» . وهو تحريف.
(7)
«ح» : «وتمكن المعروف لحركاته» . وهو تحريف.
لا يحصل بغيره
(1)
= كان
(2)
أقربُ الطرق إلى هذا المقصد
(3)
هو الكلامَ الذي جعله الله سبحانه في اللسان، وجعله دليلًا على ما في الجَنان، وجعل ذلك من دلائل ربوبيته ووحدانيته وكمال علمه وحكمته.
قال الله
(4)
تعالى: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَان} [الرحمن: 1 - 2] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].
وقال الشاعر
(5)
:
إِنَّ الْبَيَانَ مِنَ الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا
…
جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
هكذا قال الشاعر هذا البيت، وهكذا هو
(6)
في «ديوانه» ، قال أبو البيان
(7)
: أنا رأيته في «ديوانه»
(8)
كذلك، فحرَّفه عليه بعض النُّفاة وقالوا:
(1)
«ح» : «لغيره» .
(2)
جواب «لما» الواردة في أول الفصل.
(3)
«ح» : «القصد» .
(4)
«ب» : «فقال» .
(5)
نُسب هذا البيت إلى الأخطل، نسبه إليه ابن عصفور في «شرح الجمل» (ص 85) وابن هشام في «شرح الشذور» (ص 35). والبيت ليس في «ديوان الأخطل» ، إنما ألحقه محقق «الديوان» مما نسب إليه (ص 508).
(6)
«هو» ليس في «ح» .
(7)
هو الشيخ نبأ بن محمد بن محفوظ الشافعي (ت 551 هـ) شيخ الطريقة البيانية، ترجمته في «معجم الأدباء» لياقوت (6/ 2742) و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (20/ 326).
(8)
كان أبو البيان ينشد هذا البيت لابن صمصام الرقاش بلفظ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا
…
جُعِلَ اللِّسَانُ لِمَا يَقُولُ رَسُولَا
في تسعة أبيات، وينكر نسبته إلى الأخطل أصلًا، ويقول:«من زعم أن هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ» . نقله عنه اليونيني في «ذيل مرآة الزمان» (3/ 189). وقال ابن قدامة في «البرهان» (ص 152): «سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب رحمه الله، وكان إمام عصره في العربية ـ يقول: قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فلم أجد هذا البيت فيها» .
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا
…
جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْكَلَامِ دَلِيلَا
والمقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير
(1)
صاحبه إلَّا بالألفاظ الدالة على ذلك، فإذا حمل السامعُ كلامَ المتكلم على خلاف ما وُضع له وخلاف ما يُفهم منه عند التخاطب
(2)
عاد على مقصود اللغات بالإبطال، ولم يحصل مقصود المتكلم، ولا مصلحة
(3)
المخاطَب، وكان ذلك أقبحَ من تعطيل
(4)
اللسان عن كلامه، فإن غاية ذلك أن تفوت مصلحة البيان، وإذا حُمل على ضد مقصوده فوَّتَ مصلحة البيان، وأوقع في ضد المقصود. ولهذا قال بعض العقلاء: اللسان الكذوب شرٌّ من اللسان
(5)
الأخرس، لأن اللسان
(6)
الأخرس قد تعطلت منفعته، ولم يحدث منه فسادٌ، ولسان الكذوب قد تعطلت منفعته، وزاد بمفسدة الكذب. فالمتكلم بما ظاهره وحقيقته ووضعُه
(1)
«ح» : «ضميره» .
(2)
«ح» : «المخاطب» .
(3)
«ح» : «مصالحة» .
(4)
«ح» : «تعليل» .
(5)
«ب» : «لسان» .
(6)
«ب» : «لسان» .
باطلٌ وضلالٌ ـ وهو يريد به أن يفهم منه خلاف وضعه وحقيقته ـ أضرُّ على المخاطَب، ولسان الأخرس أقل مفسدةً منه. فترك وضع اللغات أنفعُ للناس
(1)
من تعريضها للتأويل المخالف لمفهومها وحقائقها. وهكذا كل عضوٍ خُلق لمنفعة إذا لم يحصل منه إلَّا ضد تلك المنفعة كان عدمه خيرًا من وجوده.
يوضح
(2)
ذلك أن المتكلم بكلامٍ ـ له حقيقةٌ وظاهرٌ [ق 16 ب] لا يُفهم منه غيره ـ مريدٌ بكلامه حقيقته وما يدل عليه ويُفهم
(3)
منه. فإذا ادَّعى أني أردتُ بكلامي خلاف ظاهره وما يُفهم منه كان كاذبًا؛ إمَّا في دعوى إرادة ذلك، أو في دعوى إرادة
(4)
البيان والإفهام؛ فحملُ كلامه على التأويل الباطل تكذيبٌ له في أحد الأمرين ولا بد.
ولهذا كان التأويل الباطل فتحًا لباب الزندقة والإلحاد، وتطريقًا لأعداء الدِّين على نقضه، وبيانه بذكر
(5)
:
* * * * *
(1)
«ح» : «للإنسان» .
(2)
«ح» : «أوضح» .
(3)
«ح» : «ما يفهم» .
(4)
«ح» : «إرادته» .
(5)
في النسختين: «يذكر» .
الفصل الخامس
(1)
عشر
في جنايات التأويل على أديان الرُّسل
وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل
إذا تأمل المتأمِّل فساد العالَم، وما وقع فيه من التفرق
(2)
والاختلاف، وما دُفِع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئًا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلوات الله وسلامه عليه، التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب، وتفرُّق الكلمة، وتشتُّت
(3)
الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاع الحبْل، وفساد ذات البَيْن، حتى صار يُكفِّر ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائف منهم تسفِكُ دماء الآخرين، وتستحلُّ منهم في
(4)
أنفسهم وحُرمهم وأموالهم ما هو أعظم ممَّا يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابِذين لهم.
فالآفات التي جَنَتْها وتجنيها
(5)
كل وقتٍ أصحابُها على الملة والأُمة من التأويلات الفاسدة أكثرُ من أن تُحصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ، أو يحيط بها ذِكْر ذاكرٍ، ولكنها في جملة القول أصل كل فسادٍ وفتنةٍ، وأساس كل
(1)
«ح» : «الرابع» .
(2)
«ح» : «التفريق» .
(3)
«ح» : «وتشتيت» .
(4)
«في» ليس في «ب» .
(5)
«ب» : «ويجنيها» .
ضلالٍ وبدعةٍ، والمولِّدة لكل اختلافٍ وفُرقةٍ، والناتِجة أسبابَ كلِّ تباينٍ وعداوةٍ وبغضة.
ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأُمة بها أن الأهواء المضِلة والآراء المهلِكة التي تتولد مِن قِبَلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممرِّ الأيام وتعاقُب الأزمنة. وليست الحال في الضلالات التي حدثت مِن قبل أصول الأديان الفاسدة كذلك؛ فإن فساد تلك معلومٌ عند الأُمة، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام، فلا يطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن يُدخِلوا أصول مللهم
(1)
في الإسلام، ولا يدعوا مسلمًا إليه، ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدًا، بخلاف فرقة التأويل، فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسُّنَّة وتعظيمهما، وأن لنصوصهما تأويلًا لا يُوجد إلَّا عند خواص أهل العلم والتحقيق، وأن العامة في عمًى عنه؛ فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له. ومثلهم ومثل أولئك كمثل قومٍ في حصنٍ حاربهم عدوٌّ لهم فلم يطمعوا
(2)
في فتح حصنهم والدخول عليهم، فعمَدَ جماعةٌ من أهل الحصن ففتحوه له، وسلَّطُوه على الدخول إليه، فكان مُصاب أهل الحصن مِن قِبَلهم.
وبالجملة، فالأهواء المتولِّدة من قبل التأويلات الباطلة فغير محصورة ولا متناهية، بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم، وما تُخرِجهم إليه ظنونهم وأوهامهم. ولذلك لا يزال المستقصي عند نفسه في البحث عن المقالات وتتبُّعِها يهجم على أقوال من مذاهب أهل التأويل لم
(1)
«ح» : «ملتهم» .
(2)
«ح» : «يطيعوا» .
تكن تخطر له على بالٍ، ولا تدور له في خيال، ويرى أمواجًا من زَبَد الصدور تتلاطم، ليس لها ضابط إلَّا سوانحُ وخواطر وهوسٌ تقذف به النفوس التي لم يؤيِّدها الله بروح الحق، ولا
(1)
أشرقت عليها شمسُ الهداية، ولا باشرت حقيقةَ الإيمان، فخواطرُها وهوسُها لا غايةَ له يقف عندها. فإن أردت الإشراف على ذلك فتأمَّلْ كُتب المقالات والآراء والدِّيانات، تجدْ كل ما يخطر ببالك قد ذهب إليه ذاهبون، وصار إليه صائرون، ووراء ذلك ما لم يخطر لك على بالٍ.
وكلُّ هذه الفرق تتأول نصوص الوحي على قولها، وتحمله على تأويلها؛ ومع ذلك فتجد أُولِي العقول الضعيفة إلى الاستجابة لهم مسارِعين، وفي القبول منهم راغبين. فهم مبادرون إلى أخْذِ ما يوردونه عليهم، وقبولهم إيَّاه عنهم، وعلى الدعوة إليه هم أشد حرصًا منهم على الدعوة إلى الحق الذي جاءت به الرُّسل. ولم يُوجد الأمر في قبول دعوة الرسل كذلك، بل قد عُلم ما لَقِيَ المرسلون في الدعوة إلى الله من الجَهْد والمشقة والمكابدة، ولقُوا أشد العناء والمكروه، وقاسوا أبلغ الأذى، حتى استجاب لهم مَنِ استجاب إلى الحق الذي هو مُوجِب الفِطَر، وشقيق الأرواح، وحياة القلوب، وقرة العيون، ونجاة النفوس، حتى إذا أطْلَعَ شيطان التأويل رأسَه، وأبدى لهم عن ناجذيه، ورفع لهم عَلَمًا [ق 17 أ] من التأويل، طاروا إليه زَرَافاتٍ ووُحدانًا. فهم إخوان السِّفِلة الطَّغَام، أشباه الأنعام، بل أضل من الأنعام، طَبْلٌ يجمعهم، وعصًا تفرِّقُهم! فانظر ما لَقِيَه نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في
(1)
«لا» ليس في «ح» .
الدعوة إلى الله، من الرد عليهم، والتكذيب لهم، وقصدهم بأنواع الأذى، حتى ظهرت دعوةُ مَن ظهرت دعوته منهم، وأقاموا دين الله.
وانظر سرعة المستجيبين لدعاة الرافضة والقرامطة الباطنية والجهمية والمعتزلة، وإكرامهم لدُعاتهم، وبذل أموالهم، وطاعتهم لهم
(1)
من غير برهانٍ أتوهم به، أو آية أروهم إيَّاها، غير أنهم دَعَوهم إلى تأويلٍ تستغربه النفوس وتستطرفه
(2)
العقول، وأوهموهم أنه من وظيفة الخاصة الذين ارتفعوا به عن طبقة العامة، فالصائر إليه معدودٌ في الخواص، مفارقٌ للعوام. فلم تر شيئًا من المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة المستخرجة بالتأويل قُوبِلَ الداعي إليه الآتي به أولًا بالتكذيب له والرد عليه، بل ترى المخدوعين المغرورين يُجفِلون إليه إجفالًا، ويأتون إليه أرسالًا، تؤزُّهم إليه شياطينهم ونفوسهم
(3)
أزًّا، وتزعجهم إليه إزعاجًا، فيدخلون فيه أفواجًا، يتهافتون فيه تهافُتَ الفراش في النار، ويَثُوبون إليه مثابة الطير إلى الأوكار.
ثم من عظيم آفاته سهولةُ الأمر على المتأوِّلين في نقل المدعوين عن مذاهبهم وقبيح اعتقادهم إليه، ونَسْخِ الهدى من صدورهم، فإنهم ربما اختاروا للدعوة إليه رجلًا مشهورًا بالديانة والصيانة، معروفًا بالأمانة، حسنَ الأخلاق، جميلَ الهيئة، فصيحَ اللسان، صبورًا على التقشف والتزهد، مرتاضًا لمخاطبة الناس على اختلاف طبقاتهم. ويتهيأ لهم مع ذلك مِن عيب أهل الحق، والطعن عليهم، والإزراء بهم، ما يظفر به المفتِّش عن العيوب.
(1)
«لهم» ليس في «ب» .
(2)
«ب» : «وتستظرفه» .
(3)
«ح» : «وتغويهم إليه» .
فيقولون للمغرور المخدوع: وازِنْ بين هؤلاء وهؤلاء، وحكِّمْ عقلك، وانظرْ إلى نتيجة الحق والباطل. فيتهيأ لهم بهذا الخداع ما لا يتهيأ بالجيوش، وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك
(1)
الجهة.
ثم من أعظم جنايات التأويل على الدِّين وأهله وأبلغها نكايةً فيه أن المتأول يجد بابًا مفتوحًا لما يقصده من تشتيت كلمة أهل الدِّين وتبديد نظامهم، وسبيلًا سهلة إلى ذلك. فإنه يحتجر
(2)
من المسلمين بإقراره معهم بأصل التنزيل، ويدخل نفسه في زُمرة أهل التأويل، ثم بعد ذلك يقول ما شاء ويدعي ما أحب. ولا يُقدَر
(3)
على منعه من ذلك لادعائه أن أصل التنزيل مشتركٌ بينك وبينه، وأن عامة الطوائف المُقِرَّة به
(4)
قد تأولت كل طائفةٍ لنفسها تأويلًا ذهبت
(5)
إليه، فهو يُبدِي نظيرَ تأويلاتهم ويقول: ليس لك أن تبدي في التأويل مذهبًا إلَّا ومثله سائغ لي، فما الذي أباحه لك وحظَرَه عليَّ، وأنا وأنت قد أقررنا بأصل التنزيل، واتفقنا على تسويغ
(6)
التأويل؟ فلِمَ كان تأويلك مع مخالفته لظاهر التنزيل سائغًا، وتأويلي أنا مُحرَّمًا؟ فتعلُّقه بهذا أبلغُ مكيدةٍ يستعملها، وأنكى سلاحٍ يحارب به. فهذه الآفات وأضعافها إنما لقيها أهل الأديان من المتأولين
(7)
، فالتأويل هو الذي فرَّق اليهود إحدى
(1)
من قوله: «بهذا الخداع» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «يحتجز» .
(3)
كذا ضبط في «ب» وقد يكون تصحيف: «ولا تقدر» لقوله فيما بعد: «بينك وبينه» .
(4)
«ح» : «المعروفة» ، تحريف.
(5)
«ح» : «وادعت» . ولعل صوابه «ودَعَتْ» .
(6)
«ح» : «تنويع» .
(7)
«ح» : «التأويل وإلا» .
وسبعين فرقةً، والنصارى ثنتين
(1)
وسبعين فرقة
(2)
، وهذه الأُمة ثلاثًا وسبعين فرقة
(3)
.
فأمَّا اليهود فإنهم بسبب التأويلات التي استخرجوها بآرائهم مِن كُتبهم صاروا فرقًا مختلفة، بعد اتفاقهم على أصل الدِّين والإيمان بما في التوراة والزبور وكُتب أنبيائهم التي يدرسونها ويؤمنون بها.
وبسبب التأويلات الباطلة مُسِخُوا قردةً وخنازير، وجرى عليهم من الفتن والمحن ما قصَّه الله. وبالتأويل الباطل عبدوا العجلَ حتى آلَ أمرُهم إلى ما آلَ. وبالتأويل الباطل فارقوا حُكمَ التوراة، واستحلوا المحارم، وارتكبوا المآثِمَ. فهُمْ
(4)
أئمة التأويل والتحريف والتبديل، والناسُ لهم فيه تبعٌ، فلا تبلغ فرقة مبلغَهم فيه
(5)
.
وبالتأويل استحلوا محارمَ الله بأدنى
(6)
الحِيَلِ. وبالتأويل قتلوا الأنبياء، فإنهم قتلوهم وهم مصدِّقون بالتوراة وبموسى. وبالتأويل والتحريف حلَّتْ بهم المَثُلات، وتتابعت عليهم العقوبات، وقُطِعُوا في الأرض أُممًا، وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله.
وبالتأويل دفعوا نبوة عيسى ومحمدٍ ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ وقد
(1)
«ح» : «اثنين» .
(2)
«فرقة» ليس في «ب» .
(3)
«فرقة» ليس في «ب» .
(4)
«ح» : «وهم» .
(5)
من قوله «والناس» إلى هنا سقط من «ح» .
(6)
«ح» : «بأقل» .
استُهِلَّت
(1)
التوراة وكُتبُ الأنبياء بالبشارة بهما وظهورهما، ولا سيما البشارات بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنها متظاهرة في كُتبهم بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَخرجه ومَبعثه ودعوته وكتابه وصفة أُمته وسيرتهم وأحوالهم، بحيث كان علماؤهم لمَّا رأَوْه وشاهدوه عرفوه معرفتهم أنبياءهم
(2)
. ومع هذا فجحدوا أمْرَه صلى الله عليه وسلم [ق 17 ب]، ودفعوه على قومه
(3)
وظهوره بالتأويلات التي استخرجوها من تلك الألفاظ التي تضمنتها
(4)
البشاراتُ، حتى التبس الأمرُ بذلك على أتباعهم ومَن لا يعلم الكتاب إلَّا أمانيَّ، وخُيِّل إليهم بتلك التأويلات ـ التي هي من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والقرامطة ـ أنه ليس هو، فسطَوْا على تلك البشارات بكتمان ما وجدوا السبيل إلى كتمانه، وما غُلبوا عن كتمانه حرَّفوا لفظه عمَّا هو عليه، وما عجزوا عن تحريف لفظِه حرَّفوا معناه بالتأويل.
ووَرِثَهم أشباهُهم من المنتسبين إلى الملة في
(5)
هذه الأمور الثلاثة، وكان عُصبة الوارثين لهم في ذلك ثلاثَ طوائفَ: الرافضة والجهمية والقرامطة؛ فإنهم اعتمدوا في النصوص المخالِفة لضلالهم هذه الأمور الثلاثة، والله سبحانه ذمَّهم على التحريف والكتمان. والتحريف نوعان: تحريف اللفظ، وهو تبديله. وتحريف المعنى، وهو صرف اللفظ عنه إلى
(1)
«ب» : «اشتملت» .
(2)
«ح» : «إياهم» . والمثبت من «ب» . وله وجه، والأوجه أن تكون:«أبناءهم» ، كما في قوله تعالى:{اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 145].
(3)
«قومه» كذا في النسختين، ولعله تحريف.
(4)
«ح» : «تضمنها» .
(5)
«ب» : «و» .
غيره مع بقاء صورة اللفظ.
وأمَّا
فسادُ دين النصارى من جهة التأويل،
فأولُ ذلك ما عَرَض في التوحيد الذي هو عمود الدِّين، فإن سلف المُثلِّثة قالوا في الربوبية بالتثليث وحديث الأقانيم والأب والابن وروح القدس، ثم اختلف مَن بعدَهم في تأويل كلامهم اختلافًا تباينوا
(1)
به غايةَ التبايُن، وإنما عرض لهم هذا الاختلافُ من جهة التأويلات الباطلة. وكانت حالهم فيما جنَتْ عليهم التأويلات الباطلة أفسدَ حالًا من اليهود، فإنهم لم يصِلُوا بتأويلهم إلى ما وصل إليه عُبَّاد الصليب من نسبة الربِّ تعالى إلى ما لا يليق به، ثم دفعوا بالتأويل إلى إبطال شرائع التوراة، فأبطلوا الختان، واستحلوا السبت، واستباحوا الخنزير، وعطلوا الغُسْل من الجنابة.
وكان الذي فتح عليهم أبواب هذه التأويلات بُولِس، فاستخف جماعةً من ضعفاء العقول، فقَبِلُوا منه تلك التأويلات، ثم أورثت
(2)
الخلاف بينهم حتى آل أمرهم إلى ما آلَ إليه مِنِ انسلاخهم عن شريعة المسيح في التوحيد والعمليات. ثم تأولت اليعقوبية ـ أتباع يعقوب البراذعي ـ تأويلًا، فتأولت النسطورية ـ أتباع نسطورس
(3)
. .....................................
(1)
«ح» : «باينوا» .
(2)
«ح» : «أورث» . وله وجه بعود الضمير إلى بولس.
(3)
«ب» : «نسطور بن» . وفي «ح» : «نسطورين» . ولعل المثبت هو الصواب؛ فنسطورس بَطْرق القسطنطينية، هو رأس الطائفة النسطورية، ويقال له: نسطوريوس ونسطور، كان قبل الإسلام، ذكره ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (1/ 301) وقال:«ومن العجائب أن الشهرستاني ـ مصنِّف كتاب «نهاية الإقدام» في الأصول، ومصنِّف كتاب «الملل والنحل» في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة ـ ذكر فيه أن نسطور كان أيام المأمون، وهذا تفرد به، ولا أعلم له في ذلك موافِقًا». قلتُ: وتابَعَ الشهرستاني غيرُ واحد من المتأخرين.
غيره
(1)
، فتأولت المَلِكية ـ وهم الذين على دين المَلِك ـ غيره، فاضمحل الدِّين، وخرجوا منه خروج الشعرة من العجين. فلو تأملتَ تأويلاتهم لَرأيتَها واللهِ من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والمعتزلة، ورأيتَ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، ولولا خوفُ التطويل لَذكرنا لك
(2)
تلك التأويلات، ليُعلَم أنها وتأويلات المحرِّفين من هذه الأُمة
رَضِيعَا لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا
…
بأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ
(3)
ولو رأيتَ تأويلاتِهم لنصوص التوراة في الأخبار والأمر والنهي لَقلتَ: إن أهل التأويل الباطل من هذه الأمة إنما تلَقَّوْا تأويلاتهم عنهم، وعجبتَ مِن تشابُهِ قلوبهم، ووقوع الحافر على الحافر، والخاطر على الخاطر. «ولم يزل أمرُ بني إسرائيل مستقيمًا حتى فشا فيهم المولَّدُون أبناءُ سبايا الأُمم
(4)
، فاشتقوا لهم الرأيَ، وسَلَّطُوا التأويلَ على نصوص التوراة، فضَلُّوا وأَضَلُّوا»
(5)
.
(1)
«ب» : «عبرة» .
(2)
«لك» ليس في «ح» .
(3)
البيت للأعشى في «ديوانه» (ص 225). والرواية: «رضيعي لبان» ، وقد تصرف فيها المصنِّف لتناسب السياق، كما فعل في «مسألة السماع» (ص 177، 241). وفي «البدائع» (ص 455) و «الداء والدواء» (ص 224): «رضيعي» على الأصل، وسيأتي البيت مرةً أخرى في كتابنا هذا، قوله «رضيعي لبان» يريد أنهما أخوان، و «بأسحم داج» يعني: الليل، أي: تحالفا بالليل. وقيل غير ذلك.
(4)
«الأمم» ليس في «ح» .
(5)
قد رُوِيَ نحو هذا اللفظ مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه (56) والبزار (6/ 402) والطبراني في «الكبير» (13/ 642) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وضعفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (21) وابن حجر في «إتحاف المهرة» (9/ 588) وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا وموقوفًا. ينظر:«ذم الكلام» للهروي (1/ 72 - 75) و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 347 - 348) و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 187).
وهؤلاء النصارى لم يزل أمرُهم بعد المسيح على منهاج الاستقامة حتى ظهر فيهم المتأوِّلون، فأخذت
(1)
عُرى دينهم تنتقض. والمتأوِّلون يجتمعون مَجمعًا بعد مجمعٍ، وفي كل مجمعٍ يخرج لهم تأويلات تُناقض الدِّين الصحيح، فيلعنهم
(2)
أصحابُ المجمع الآخر، ولا يوافقونهم عليها، حتى جمَعَهم الملكُ قُسْطَنطِين من أقطار الأرض، فبلغوا ثلاثمائة وثمانية عشر بَتْركًا
(3)
وأُسْقُفًّا
(4)
، فتأولوا
(5)
لهم هذه الأمانة التي بأيديهم اليوم، وأبطلوا من دين المسيح ما شاؤوا، وزادوا فيه ونقصوا، ووضعوا من الشرائع ما شاؤوا، وكلُّ ذلك بالتأويل، وقد ذكروا الظواهر التي تأولوها.
وبالتأويل جعلوا الله ثالث ثلاثة، وجعلوا المسيح ابنه، وجعلوه هو الله، فقالوا: هذا وهذا وهذا
(6)
. تعالى اللهُ عن قولهم. وبالتأويل تركوا الختان،
(1)
«ح» : «فأخذوا» .
(2)
«ح» : «فتلقنهم» . وفي «ب» : «فتلقيهم» . والمثبت أقرب إلى المعنى الصحيح والرسم.
(3)
البترك ويقال البطرك: مقدَّم النصارى. «لسان العرب» (10/ 401). ويظهر من كلام المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (3/ 1237) أنه فوق المطران وتحت الأسقف.
(4)
الأسقف: رئيس النصارى في الدِّين، أعجمي تكلمت به العرب. «لسان العرب» (9/ 156).
(5)
«ح» : «فتلوا» .
(6)
«وهذا» ليس في «ح» .
وأباحوا الخنزير، وهم
(1)
يعلمون أن المسيح اختتن وحرَّمَ الخنزير. وبالتأويل نقلوا الصوم من مَحِلِّه إلى الفصل الربيعي، وزادوه حتى صار خمسين يومًا. وبالتأويل عبدوا الصليب والصور. وبالتأويل فارقوا حُكم التوراة والإنجيل.
فصل
ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سُلِّط على أصول الإيمان والإسلام اجتثَّها وقلَعَها، فإن أصول الإيمان خمس
(2)
، وهي: الإيمان بالله وملائكتِه وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وأصول الإسلام خمسة، وهي: كلمة الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت؛ فعمد
(1)
«وهم» ليس في «ح» .
(2)
المشهور أن أصول الإيمان ستة، وهي الواردة في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان، فقال:«أن تؤمن بالله، وملائكتِه، وكُتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخِرِ، وتؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه» . رواه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولا شك أن الأصول الخمسة تتضمن الإيمان بالقدَرِ كذلك، وقد بيَّن الإمام ابن القيم مأخذَه ودليله؛ فقال في «مفتاح دار السعادة» (1/ 442):«أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فإن مَن لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن؛ قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَاَلْمَلَائِكَةِ وَاَلْكِتَابِ وَاَلنَّبِيِّينَ} [البقرة: 176]، وقال: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ فَقَد ضَّلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 135]. ولمَّا سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال: صدقت» . قلت: وهذا اللفظ رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب «السنة» (365) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل. وذلك أن مَعقِد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبَرَ وطاعته فيما أمَرَ. فعمدوا إلى أجَلِّ الأخبار، وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله، فأخرجوه عن [ق 18 أ] حقيقته وما وُضع له.
وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر، والإيمانُ به أصل الإيمان بما عدَاه، واشتمالُ القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوعُ الدلالة بها على ثبوت مَخبَره أعظم من تنوعها في غيره؛ وذلك لشرف متعلقه وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته، وكانت
(1)
الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبينَ من غيره.
وهذا من كمال حكمة الربِّ تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه، أنه كلما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى وأتمَّ كان بذلُه لهم أكثر، وطرقُ وصولهم إليه أكثر وأسهل. وهذا في الخَلْق والأمر، فإن حاجتهم لمَّا كانت إلى الهواء أكثر من الماء والقوت كان موجودًا معهم في كل مكانٍ وزمانٍ، وهو أكثر من غيره. وكذلك لمَّا كانت حاجتهم بعده إلى الماء شديدة ـ إذ هو مادة أقواتهم ولباسهم وفواكههم وشرابهم ـ كان مبذولًا لهم أكثر من غيره. وكذلك حاجتهم إلى القوت لمَّا كانت أشد من حاجتهم إلى الإيواء
(2)
كان وجود القوت أكثر، وهكذا الأمر في مراتب الحاجات.
ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم ومعبودهم جل جلاله فوق مراتب هذه الحاجات كلها؛ فإنهم لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح
(1)
«ح» : «وكا» .
(2)
«ح» : «الإبراء» . وفي «ب» : «الإبزار» . ولعل المثبت من المطبوع هو الصواب.
ولا نعيم إلَّا بأن يعرفوه ويعبدوه
(1)
، ويكون هو وحدَه غاية مطلوبهم، ونهاية مرادهم؛ وذِكرُه والتقرب
(2)
إليه قرةُ عيونهم وحياة قلوبهم. فمتى فَقَدُوا ذلك كانوا أسوأ حالًا من الأنعام بكثيرٍ، وكانت الأنعام أطيب عيشًا منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل.
وإذا عُلم أن ضرورة العبد إلى معرفة ربِّه ومحبته وعبادته والتقرب إليه فوق كل ضرورة، كانت الطُّرقُ المُعرِّفةُ لهم ذلك أيسرَ طرق العلم على الإطلاق وأسهلها وأهداها وأقربها، وبيانُ الربِّ تعالى لها فوق كل بيان. فإذا سُلِّط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه
(3)
على النصوص التي ذُكِرَت فيها الملائكة أقربُ بكثيرٍ.
يُوضحه أن الربَّ تعالى لم يذكر للعباد من صفات ملائكته وشأنهم وأفعالهم وأسمائهم عُشر مِعْشار ما ذَكَر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله وأسمائه وأفعاله. فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذُكِرَت فيها الملائكة أَوْلى بقبوله
(4)
. ولذلك تأولها
(5)
الملاحدةُ، كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأبدَوْا له تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصِّفات. وأوَّلت هذه الطائفةُ عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية، وقالوا للمتأولين من الجهمية: بيننا وبينكم حاكمُ العقل، فإن القرآن بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر
(1)
«ح» : «ويعتقدوه» .
(2)
«ح» : «والقرب» .
(3)
«ح» : «فتسلطه» .
(4)
«ب» : «بقوله» .
(5)
«ب» : «تأولتها» .
الفوقية وعلو الله تعالى على عرشه، وأنه تكلَّم
(1)
ويتكلم، وأنه موصوف بالصفات، وأن له أفعالًا تقوم به
(2)
هو بها فاعلٌ، وأنه يُرى بالأبصار، إلى غير ذلك من نصوص الصِّفات، التي إذا قِيسَ إليها نصوص حَشْرِ هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالَم آخر، وُجدت نصوصُ الصِّفات أضعافَ أضعافها، فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الربِّ تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تُقارِبُ الألفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ من أولهم إلى آخرهم. فما الذي سوَّغَ لكم تأويلها، وحرَّمَ علينا تأويل
(3)
نصوص حشْرِ الأجساد وخراب العالَم؟
فإن قلتم: الرُّسل أجمعوا على المجيء به، فلا يمكن تأويله.
قيل: وقد أجمعوا على أن الله فوق عرشه، وأنه متكلمٌ مُكلَّمٌ، فاعلٌ حقيقةً، موصوف بالصفات، فإنْ مُنِعَ إجماعهم هناك من التأويل وَجَبَ أن يمنع هاهنا.
فإن قلتم: العقل أوجبَ تأويلَ نصوص الصِّفات، ولم يوجب
(4)
تأويل نصوص المعاد.
قلنا: هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصِّفات، ونحضر نحن أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشْرَ الأجساد، ونوازن بينها ليتبَّينَ أيها
(5)
أقوى.
(1)
«ح» : «يكلم» .
(2)
«ب» : «يقوم» .
(3)
«تأويل» سقط من «ح» .
(4)
«ح» : «يجب» .
(5)
«ح» : «لتبيين أنها» .
فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيبٌ لِمَا عُلم من دِين الرسل بالضرورة.
قلنا: وإنكار صفات الربِّ وأنه متكلم آمرٌ ناهٍ
(1)
فوق سماواته، وأن الأمر ينزل مِن عنده ويصعد إليه تكذيبٌ لما عُلم أنهم جاؤوا به ضرورةً.
فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها لا يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم.
قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها في المعاد
(2)
يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم دون تأويلكم إلَّا لمجرد
(3)
التحكم والتشهِّي.
[ق 18 ب] فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية وقالت: ما الذي سوَّغَ لكم تأويل الأخبار، وحرَّم علينا تأويلَ الأمر والنهي والتحريم والإيجاب، وموردُ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، فنحن سلكنا في تأويل الشرائع العملية نظير ما سلكتم في تأويل النصوص الخبرية؟
قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من
(4)
نصوص الخبر؟
قالوا: وكثيرٌ
(5)
منكم قد فتحوا لنا باب التأويل في الأمر، فأوَّلُوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يُخرجها عن حقائقها وظواهرها. فهَلُمَّ
(6)
نضعها في كفةٍ، ونضع تأويلاتنا في كفةٍ، ونوازن
(1)
«ناه» سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «العناد» .
(3)
«إلا لمجرد» في «ب» : «بمجرد» .
(4)
«ب» : «و» .
(5)
«وكثير» ليس في «ب» .
(6)
«ح» : «فلهم» .
بينهما
(1)
! ونحن لا ننكر أنَّا أكثر تأويلًا منهم وأوسعُ، لكنَّا وجدنا بابًا مفتوحًا فدخلناه، وطريقًا مسلوكًا فسلكناه، فإن كان التأويل حقًّا فنحن أسعد الناس به، وإن كان باطلًا فنحن وأنتم مشتركون فيه، ومستقلٌّ ومستكثِرٌ!
فهذا من شؤم جناية التأويل على أصول الإيمان والإسلام.
وقد قيل: إنَّ طردَ إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل، فإنه عارَضَ النص بالقياس وقدَّمه عليه، وتأول لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدَّمٌ على نصِّ
(2)
الأمر بالسجود، فإنه
(3)
قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 11]. وهذا دليلٌ قد حُذفت إحدى مقدمتَيْهِ، وهي أن الفاضل لا يخضع للمفضول، وطوى ذِكر هذه المقدمة كأنها مقرَّرة لكونها معلومة
(4)
، وقرَّر المقدمة الأولى بقوله {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود. وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه في تأويله، فجرى عليه ما جرى، وصار إمامًا لكلِّ مَن عارض نصوص الوحي بتأويله الباطل إلى يوم القيامة. ولا إله إلَّا الله، كم لهذا الإمام اللعين من أتباعٍ من العالمين!
وأنت إذا تأملتَ عامة شُبَه المتأولين ـ التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها ـ رأيتها من جنس شبهته. والقائل: «إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا
(1)
«ب» : «بينها» .
(2)
«ح» : «نصوص» .
(3)
«ح» : «لأنه» .
(4)
هكذا في «ب» وفي «ح» : «المقدمة منها صورة لكونها معلومة» وفي «م» : «المقدمة كأنها صورة معلومة» والظاهر أن «صورة» تحريف «مقررة» .
العقل» من هاهنا اشتق هذه القاعدة، وجعلها أصلًا لردِّ نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها، كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نصَّ الأمر بالسجود حين
(1)
قدَّمه عليه. وعرضت لعدوِّ الله هذه الشبهة من ناحية كِبْره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي، وهكذا تجد
(2)
كل مُجادِلٍ في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كِبرٌ في صدره ما هو ببالغه. قال الله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاَسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [غافر: 56].
وكذلك خروج آدم من الجنة إنما كان بسبب التأويل، وإلَّا فهو صلى الله عليه وسلم لم يقصد بالأكل معصيةَ الربِّ، والتجرؤَ على مخالفة نهيه، وأن يكون ظالمًا مستحِقًّا للشقاء بخروجه من الجنة. هذا لم يقصده أبو البشر قطعًا.
ثم اختلف الناس في وجه تأويله، فقالت طائفة: تأول بحمله النهيَ المطلق على الشجرة المعينة، وغرَّه عدوُّ الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخُلْد، وأطمعه
(3)
في أنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة.
وفي هذا الذي قالوه نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن الله سبحانه أخبر أن إبليس قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اِلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} [الأعراف: 19]، فذكَرَ لهما عدو الله الشجرة التي نُهِيَا عنها، إمَّا بعينها أو بجنسها، وصرَّح لهما بأنها هي المنهي عنها، ولو كان عند آدم أن
(1)
«ح» : «حتى» .
(2)
«ح» : «نجد» .
(3)
«ح» : «وأطعمه» . وكذا كانت في «ب» ، ثم كتب الناسخ على الحاشية:«طمعه» وعليه: «ن» .
المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر النوع لم يكن عاصيًا بأكله من غيرها، ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه.
وقالت فرقة أخرى: تأول آدم أن النهي نهي تنزيهٍ لا نهي تحريمٍ، فأقدم على الأكل لذلك.
وهذا باطلٌ قطعًا من وجوهٍ كثيرةٍ، يكفي منها قوله تعالى:{فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 34]. وأيضًا فحيث نهى الله عن فعل الشيء بقربانه لم يكن إلَّا للتحريم، كقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 220]{وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32]{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153]. وأيضًا لو كان للتنزيه لَمَا أخرجه الله من الجنة وأخبر أنه عصى ربَّه.
وقالت طائفة: بل كان تأويله أن النهي إنما كان عن قُربانهما وأكلهما معًا، لا عن أكل كلٍّ منهما على انفراده؛ لأن قوله:{وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة: 34] نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حالَ الاجتماع حصوله حال الانفراد.
وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب في «تفسيره»
(1)
، وهو كما ترى في البطلان والفساد. ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتةَ، وهما كانا أعلمَ بالله من ذلك، وأصحَّ أفهامًا! أفترى فَهِمَ أحدٌ عن الله من قوله:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153]{وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32] ونظائره: أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم [ق 19 أ] على ذلك، دون انفراد
(1)
«مفاتيح الغيب» (3/ 462).
كل واحدٍ منكم به
(1)
؟! فيا للعجب من أوراق وقلوب تُسَوَّد على هذه الهذيانات، وتجد لها حاملًا وقابلًا يستحسنها ويُصغِي بقلبه وسمعِه إليها!
والصواب في ذلك أن يقال: إن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما قاسَمَه عدو الله أنه ناصحٌ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكيد:
أحدها: القَسَم.
الثاني: الإتيان بالجملة اسميةً لا فعلية.
الثالث: تصديرها بأداة التأكيد.
الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر.
الخامس: الإتيان به اسمَ فاعلٍ لا فعلًا دالًّا على الحدث.
السادس: تقديم المعمول على العامل فيه
(2)
.
ولم يكن آدم يظن أن أحدًا يُقسِم بالله كاذبًا يمينَ غَموسٍ يتجرأ فيها على الله هذه الجرأة، فغرَّه عدو الله بهذا التأكيد والمبالغة، فظن آدم صِدقَه، وأنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل ـ وإن كان فيه مفسدة ـ فمصلحة الخلود أرجحُ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة النهي في أثناء ذلك، إمَّا باعتذارٍ، وإمَّا بتوبةٍ، وإمَّا بغير ذلك. كما تجد هذا التأويل قائمًا في نفس كل مَن يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا لا شك فيه؛ إذا أقدم على المعصية؛ فوازِنْ بين هذا التأويل وبين تأويلات المحرِّفين يظَهْر لك الصوابُ من الخطأ. والله الموفِّق للصواب.
(1)
«به» ليس في «ب» .
(2)
«فيه» ليس في «ب» .
فصل
و
من جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا،
بل في حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن خالد بن الوليد قتل بني جَذِيمة بالتأويل، ولهذا تبرَّأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن صُنعه، وقال:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»
(1)
.
ومنعَ الزكاةَ مَن منعها من العرب ـ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بالتأويل، وقالوا: إنما قال الله لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 104]، وهذا لا يكون لغيره. فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهلِه ما جرى.
ثم جرت الفتنةُ التي جرَّتْ قَتْلَ عثمان بالتأويل، ولم يزل التأويلُ يأخذ مأخذَه حتى قُتل به عثمانُ، فأَخذَ في الزيادة والتولد حتى قُتِل به بين عليٍّ ومعاوية بصفين سبعين
(2)
ألفًا أو أكثر من المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحرَّة
(3)
بالتأويل، وقُتل نوبةَ الجمل بالتأويل مَن قُتل، ثم كان قُتِل ابن الزبير ونُصِبَ
(1)
أخرجه البخاري (4339) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
كذا في النسختين!
(3)
لما استباح جيش يزيد بن معاوية المدينة النبوية، «فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله فبعث إليهم جيشًا؛ وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون وينهبون ويفتضون الفروج المحرمة» . قاله شيخ الإسلام «مجموع الفتاوى» (3/ 412). وأخبار هذه المصيبة مبسوطة في كتب التاريخ في أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة.
المنجنيقُ على البيت بالتأويل، ثم كانت فتنة ابن الأشعث وقُتِل مَن قُتِل من المسلمين
(1)
بدَيْرِ الجماجم
(2)
بالتأويل، ثم كانت فتنة الخوارج ـ ما لقي المسلمون من حروبهم وأذاهم ـ بالتأويل
(3)
، ثم خروج أبي مسلم
(4)
وقتْله بني أُمية وتلك الحروب العظام بالتأويل، ثم خروج العلويين وقتْلهم وحبْسهم ونفْيهم بالتأويل، إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا من حوادث الإسلام التي جرها التأويل.
وما ضُرب مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرب الإمام أحمد بالسياط وطُلب قتله إلَّا بالتأويل، ولا قُتل أحمد بن نصر الخزاعي
(5)
إلَّا بالتأويل، ولا جرى على نُعيم بن حمادٍ الخُزاعي ما جرى
(6)
وتوجَّعَ أهلُ
(1)
«من المسلمين» ليس في «ب» .
(2)
كانت سنةَ اثنتين أو ثلاث وثمانين بين جيشين عظيمين، جيش بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجيش بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي. وينظر «تاريخ الطبري» (6/ 346) و «الكامل» لابن الأثير (3/ 494).
(3)
من قوله: «ثم كانت فتنة الخوارج» إلى هنا ليس في «ب» .
(4)
أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (6/ 48 - 73).
(5)
قال الذهبي في «العبر» (1/ 408): «قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن، ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب وقال له: يا صبي. وكان رأسًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام معه خلقٌ من المطوعة واستفحل أمرهم؛ فخافته الدولة من فتق يتم بذلك» .
(6)
قال الذهبي في «العبر» (1/ 405): «امتُحِن بخلق القرآن فلم يُجِب؛ فحُبس وقُيِّد، ومات في الحبس رحمه الله تعالى» .
الإسلام لمُصابه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونُفِيَ وأُخرِجَ من بلده إلَّا بالتأويل، ولا قُتل مَن قُتل مِن خلفاء الإسلام ومُلوكه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام عبد الله أبي
(1)
إسماعيل الأنصاري ما جرى، وطُلب قَتْلُه بضعةً وعشرين مرةً إلَّا بالتأويل، ولا جرى على أئمة السُّنَّة والحديث ما جرى حين
(2)
حُبِسُوا وشُردوا وأُخرجوا من ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خُصومه بالسَّجْن
(3)
، وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلَّا بالتأويل.
فقاتل الله التأويل الباطل
(4)
وأهلَه، وأخذ حقَّ دِينه وكتابه ورسوله وأنصاره منهم، فماذا هدموا من معاقل الإسلام، وهدُّوا من أركانه، وقلعوا من قواعده! ولقد تركوه أرقَّ من الثوب الخَلَق البالي، الذي تطاولت عليه السنون وتوالت عليه الأهوية والرياح.
ولو بسطنا هذا الفصل وحده وما جناه التأويل على الأديان والشرائع وخراب العالم لَقام منه عدةُ أسفار، وإنما نبَّهنا تنبيهًا يعلم به العاقلُ ما وراءه. وبالله التوفيق.
* * * * *
(1)
في النسختين: «بن» . وهوتصحيف، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (18/ 503).
(2)
«ح» : «حتى» .
(3)
«ح» : «بالسحر الباطلة» .
(4)
«الباطل» ليس في «ح» .
الفصل السادس
(1)
عشر
في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله
لمَّا
(2)
كان وضعُ الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يُعلَم إلَّا بكلامه، انقسم كلامه ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو نصٌّ في مراده لا يحتمل غيره.
الثاني: ما هو ظاهرٌ في مراده، وإن احتمل أن يريد غيره.
الثالث: ما ليس بنصٍّ ولا ظاهرٍ في المراد، بل هو مجمل يحتاج إلى البيان.
فالأول يستحيل دخول التأويل فيه، وتحميلُه التأويلَ كذبٌ ظاهرٌ على المتكلم. وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها كنصوص آيات الصِّفات والتوحيد، وأن الله سبحانه [ق 19 ب] مُكلَّمٌ متكلمٌ آمرٌ ناهٍ قائلٌ مخبرٌ مُوصِي حاكمٌ واعدٌ مُوعِدٌ مُنبِئٌ هادٍ داعٍ إلى دار السلام
(3)
، فوق عباده. عليٌّ
(4)
على كل شيءٍ، مستوٍ على عرشه، ينزل الأمرُ من عنده ويَعرُجُ إليه، وأنه فعالٌ حقيقةً، وأنه كلَّ يوم في شأنٍ، فعَّال لما يريد، وأنه ليس للخلق مِن دونه وليٌّ ولا شفيعٌ ولا ظهيرٌ، وأنه المنفرد بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية، وأنه يعلم السر وأخفى، وما تسقط من ورقة إلَّا يعلمها، وأنه
(1)
«ح» : «الخامس» .
(2)
«ب» : «ولما» .
(3)
«ب» : «الإسلام» . والمصنف رحمه الله يشير إلى قوله تعالى: {وَاَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ اِلسَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
(4)
«علي» ليس في «ح» .
يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر، ويرى ما في السماوات والأرض، ولا يخفى عليه منها ذرةٌ واحدةٌ، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، فلا يخرج مقدورٌ واحد عن
(1)
قدرته البتةَ، كما لا يخرج عن علمه ولا
(2)
تكوينه، وأن له ملائكة مدبِّرات بأمره للعالَم، تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وأنه يذهب بالدنيا ويُخرِّب هذا العالَم، ويأتي بالآخرة ويبعث مَن في القبور، جل جلاله. إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلوله، وكدلالة لفظ الشمس والقمر والليل والنهار والبَرِّ والبحر والخيل والبِغال والإبل والبقر والغنم
(3)
والذَّكَر والأنثى على مدلولها، لا فرقَ بين ذلك البتةَ.
ولهذا لما سلَّطت الجهميةُ التأويلَ على نصوص الصِّفات سلَّطت الباطنيةُ التأويلَ على هذه الأمور، وجعلوها أمثالًا مضروبةً أُريدَ بها خلاف حقائقها وظواهرها، وجعلوا القرآن والشرع كله مؤولًا
(4)
، ولهم في التأويل كتبٌ مستقلةٌ نظير كتب الجهمية في تأويل آيات الصِّفات وأحاديثها.
فهذا القسم إن سُلِّط التأويلُ عليه عاد الشرع كله متأوَّلًا؛ لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتًا وأكثرها ورودًا، ودلالةُ القرآن عليه متنوِّعةٌ غايةَ التنوع؛ فقَبولُ ما سواه للتأويل أقربُ من قبوله بكثيرٍ.
(1)
«ح» : «من» .
(2)
«لا» ليس في «ب» .
(3)
«والغنم» ليس في «ب» .
(4)
«كله مؤولًا» في «ح» : «أمثالًا كله» .
فصل
القسم الثاني: ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل. فهذا يُنظَر في وروده، فإن اطَّرد استعمالُه على وجهٍ واحدٍ استحال تأويله بما يخالف ظاهرَه؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع
(1)
جاء نادرًا خارجًا عن نظائره منفردًا عنها، فيُؤوَّل حتى
(2)
يُرَدَّ إلى نظائره. وتأويل هذا غير ممتنعٍ؛ لأنه إذا عُرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارُد
(3)
استعماله معنًى أَلِفَه ـ أي المخاطب
(4)
ـ فإذا جاء موضع يخالفه ردَّه السامع بما عَهِد من عُرف المخاطب إلى عادته المطردة. هذا هو المعقول في الأذهان والفِطر، وعند كافة
(5)
العقلاء.
وقد صرَّح أئمةُ العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادُّعي فيه حذفه قد استُعمِل فيه ثبوته أكثر مِن حذفه، فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحًا للثبوت، ويكون الثبوت مع ذلك أكثرَ من الحذف
(6)
، حتى
(7)
إذا جاء ذلك محذوفًا في موضع عُلِمَ بكثرة ذِكره في نظائره أنه قد أُزيلَ من هذا الموضع فحُمِلَ عليه. فهذا شأن مَن يقصد البيان
(1)
«ب» : «لوضع» .
(2)
في النسختين: «حين» . والمثبت من «م» .
(3)
«ب» : «موارد» .
(4)
«ب» : «المخاطبون» .
(5)
«ح» : «الكافة» .
(6)
من قوله: «عندهم صالحا» إلى هنا ليس في «ح» .
(7)
«حتى» ليس في «ب» .
والدلالة، وأما من يقصد التلبيس والتعمية فله شأنٌ آخر.
والقصد أن الظاهر في معناه إذا اطَّرد استعماله في موارده
(1)
اطرادًا مستويًا امتنع تأويله، وإن جاز تأويلُ ظاهرِ ما لم يطَّرِد في موارد استعماله. ومثال ذلك اطِّراد قوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] في جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ، فتأويله بـ «استولى» باطلٌ. وإنما كان يصح أنْ لو كان أكثَرُ مجيئه بلفظ «استولى» ، ثم يخرج موضع عن نظائره، ويرد بلفظ «استوى» ، فهذا كان يصح تأويله بـ «استولى» . فتفطَّنْ لهذا
(2)
الموضع، واجعلْه قاعدةً فيما يمتنع
(3)
تأويلُه من كلام المتكلم، وما يجوز تأويله.
ونظير هذا اطراد النصوص بالنظر إلى الله هكذا: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ»
(4)
، «تَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّكُمْ»
(5)
، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]. ولم يَجِئْ في موضعٍ واحدٍ: «ترون ثواب ربكم» ، فيُحمَلَ عليه ما خرج عن نظائره.
ونظير ذلك اطِّراد قوله: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 51]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}
(6)
[القصص: 62]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 21]، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ اِلطُّورِ إِذْ
(1)
«ب» : «مراده» .
(2)
«ب» : «بهذا» .
(3)
«ح» : «تمنع» .
(4)
أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(5)
أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (11640) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 296، 310) وهو أحد ألفاظ الحديث السابق.
(6)
{وَيَوْمَ} ليس في «ب» .
نَادَيْنَا} [القصص: 46]، و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ}
(1)
[النازعات: 16] ونظائرها، ولم يجئ في موضعٍ واحدٍ:«أمرْنا مَن يناديه» ولا «ناداه مَلَكُنا» ، فتأويله بذلك عينُ المُحالِ والباطل.
ونظير ذلك اطِّراد قوله: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ
…
»
(2)
في نحو ثلاثين حديثًا كلها مصرِّحةٌ بإضافة النزول إلى الربِّ، ولم يجئ موضعٌ واحدٌ بقوله:«ينزل مَلَكُ ربنا» ، حتى يُحمَلَ ما خرج عن نظائره عليه.
وإذا تأملتَ نصوص الصِّفات التي لا تسمح الجهمية بأن يُسمُّوها نصوصًا، فإذا احترموها قالوا: ظواهر سمعية، وقد عارضها القواطع العقلية = وجدتَها كلها من هذا الباب.
وممَّا يُقضى منه العجبُ أن كلام شيوخهم ومصنِّفيهم عندهم نصٌّ في مراده لا يحتمل التأويل، وكلام الموافقين
(3)
عندهم نصٌّ لا يجوز تأويله، حتى إذا جاؤوا إلى كلام الله ورسوله وقَفُوه على التأويل ووقفوا التأويل عليه، فقُلْ
(4)
ما شئتَ وحرِّف ما شئت. أفترى بيانَ هؤلاء لمرادهم أتمَّ من بيان الله ورسوله، أم كانوا مستولين على بيان الحقائق التي [ق 20 أ] سكت اللهُ ورسوله عن بيانها؟! بل
(5)
أولئك هم الجاهلون المتهوِّكون
(6)
.
(1)
{بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ} ليس في «ح» .
(2)
أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
«ب» : «الواقفين» .
(4)
«ب» : «قل» .
(5)
«بل» ليس في «ح» .
(6)
«ح» : «المهتوكون» . وقد تقدم (ص 10) بيان معناه.
فصل
القسم الثالث: الخطاب المُجمَل الذي أُحيل بيانه على خطابٍ آخر. فهذا أيضًا لا يجوز تأويله إلَّا بالخطاب الذي بيَّنه
(1)
، وقد يكون بيانه معه، وقد يكون منفصلًا عنه.
والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معانٍ، وليس معه ما يبيِّن مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجالٌ واسعٌ، وليس في كلام الله ورسوله من هذا النوع شيءٌ من الجُمَل المركبة، وإنْ وقَعَ في الحروف المفتتَح بها
(2)
السورُ. بل إذا تأمل مَن بصَّره اللهُ طريقةَ القرآن والسُّنَّة وجدها متضمِّنة لرفع ما يُوهِمه الكلام من خلاف ظاهره، وهذا موضع لطيف جدًّا في فهم القرآن نشير إلى بعضه:
فمن ذلك قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. رفَعَ سبحانه توهُّم المجاز في تكليمه
(3)
لكليمه بالمصدر المؤكِّد الذي لا يشكُّ عربي القلب واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة، كما تقول العرب: مات موتًا، ونزل نزولًا. ونظيره التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع، والتأكيد بقوله «حقًّا» ونظائره.
ومن ذلك قوله تعالى: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]
(1)
«ب» : «يبينه» .
(2)
«بها» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «تكلمه» .
فلا يشك صحيح الفهم البتةَ في هذا الخطاب أنه نصٌّ صريحٌ لا يحتمل التأويل بوجهٍ في إثبات صفة السمع للرب تعالى حقيقة، وأنه بنفسه سَمِعَ.
ومن ذلك قوله: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اُلصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 41]. فرَفَعَ توهُّمَ السامع أن المكلَّف به عَمِلَ جميع الصالحات المقدورة والمعجوز عنها، كما يجوِّزه أصحاب تكليف ما لا يُطاق= رَفَعَ هذا التوهم بجملة اعتُرض
(1)
بها بين المبتدأ وخبره تزيلُ
(2)
الإشكال. ونظيره قوله تعالى: {وَأَوْفُوا اُلْكَيْلَ وَاَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 153].
ومن ذلك قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 83]. فلمَّا أمَرَه بالقتال أخبره أنه لا يُكلَّف بغيره، بل إنما كُلِّف نفسه، ثم أتبع ذلك بقوله:{وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} لئلَّا يتوهم سامعٌ أنه وإن لم يُكلَّف بهم فإنه يهملهم ويتركهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 19]. فتأمل كم في هذا الكلام مِن رفعِ إيهامٍ وإزالة ما عسى أن يعرض للمخاطب من لبسٍ:
فمنها: قوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ} ، لئلا يُتوهَّم أن الإتباع في نسب أو تربية أو حرية أو رِقٍّ أوغير ذلك.
(1)
«ب» : «اعتراض» .
(2)
في النسختين: «يزيل» . والمثبت من «م» .
ومنها: قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} لرفع الوهم لمتوهمٍ أنه يحط الآباء إلى درجة الأبناء ليحصل الإلحاق والتبعية، فأزال هذا الوهم بقوله:{وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم}
(1)
أي: ما نقصنا الآباءَ بهذا الإتباع شيئًا مِن عملهم، بل رفعنا الذرية إليهم قرةً لعيونهم، وإن لم يكن لهم أعمالٌ يستحقون بها تلك الدرجة.
ومنها: قوله: {كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، فلا يتوهم متوهم أن هذا الإتباع حاصلٌ في أهل الجنة وأهل النار، بل
(2)
هو للمؤمنين دون الكفار، فإن الله سبحانه لا يعذِّب أحدًا إلَّا بكسبه، وقد يُثِيبه من غير كسبٍ منه.
ومنها: قوله تعالى: {يَانِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ اَلنِّسَا إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. فلمَّا أمرهن بالتقوى التي من شأنها التواضع ولِينُ الكلام نهاهن
(3)
عن الخضوع بالقول؛ لئلَّا يطمع فيهن ذو المرض، ثم أمرهن بعد ذلك بالقول المعروف رفعًا لتوهُّمِ الإذن في الكلام المنكر لمَّا نُهِينَ عن الخضوع بالقول.
ومن ذلك قوله: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186]، فرفعَ توهُّمَ فَهْم الخيطينِ من الخيوط بقوله:{مِنَ اَلْفَجْرِ}
(4)
.
(1)
{مِّنْ عَمَلِهِم} ليس في «ب» .
(2)
«النار بل» في «ح» : «التأويل» .
(3)
«ح» : «نهى» .
(4)
أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أُنزلت {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رِجْله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ اَلْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار» .
ومن ذلك قوله تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، فأثبت لهم مشيئةً، فلعل
(1)
متوهِّمًا يتوهَّم استقلاله
(2)
بها، وأنه إن شاء أتى بها
(3)
وإن شاء لم يأتِ بها
(4)
، فأزال سبحانه ذلك بقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ} [التكوير: 29]. ثم لعل متوهمًا يتوهم أنه يشاء
(5)
الشيء بلا حكمةٍ ولا علمٍ بمواقع مشيئته وحيث تصلح، فأزال ذلك بقوله:{إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]
(6)
. ونظير ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ
(7)
(55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اُلتَّقْوى وَأَهْلُ اُلْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54 - 56].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي اِلتَّوْراةِ وَاَلْإِنجِيلِ وَاَلْقُرْآنِ} [التوبة: 112]، فلعل
(8)
متوهمًا يتوهم أن الله سبحانه يجوز عليه تركُ الوفاء بما
(1)
«ح» : «فعل» .
(2)
«ح» : «استقلالا» .
(3)
«ح» : «به» .
(4)
«بها» ليس في «ح» .
(5)
«ب» : «شاء» .
(6)
يُلاحظ أن الكلام انتقل من الكلام على آيات من سورة التكوير، إلى الكلام على آية من سورة الإنسان، فربما يكون في النسختين سقط.
(7)
من «قوله تعالى» إلى هنا ليس في «ح» .
(8)
«ح» : «فعل» .
وعد به، فأزال ذلك بقوله:{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ} [التوبة: 112].
ومن ذلك قوله تعالى: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159]، فلمَّا ذَكَر إتيانه سبحانه ربما توهَّمَ متوهمٌ أن المراد إتيان بعض آياته أزال هذا الوهمَ ورفع الإشكالَ بقوله:{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فصار الكلام مع هذا التقسيم والتنويع نصًّا صريحًا في معناه لا يحتمل غيره.
وإذا تأملتَ أحاديث الصِّفات رأيت هذا لائحًا [ق 20 ب] على صفحاتها، باديًا على ألفاظها، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تُرَى الشَّمْسُ فِي
(1)
الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ»
(2)
. وقوله: «مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ
(3)
لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ»
(4)
. فلمَّا كان تكليم
(5)
الملوك قد يقع بواسطة الترجمان ومن وراء الحجاب أزال هذا الوهم من الأفهام.
وكذلك الحديث الآخر
(6)
: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {وَكَانَ اَللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
(1)
«في» ليس في «ب» .
(2)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 32).
(3)
«ربه» ليس في «ب» .
(4)
رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه (ص 38).
(5)
«ح» : «تكلم» .
(6)
أخرجه أبو داود (4728) وابن خزيمة في «التوحيد» (46، 47، 49، 50) وابن حبان (265) والحاكم في «المستدرك» (1/ 24) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (688) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الحاكم:«حديث صحيح ولم يخرجاه» . وقال اللالكائي: «وهو إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه» . ونقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (318) عن أبي محمد الخلال قوله: «هذا حديث إسناده شرط مسلم يلزمه إخراجه في «الصحيح» ، وهو حديث ليس فيه علة». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 373):«أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم» .
ووَضَعَ إِبْهَامَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ وعَيْنَيْهِ
(1)
» رفعًا لتوهم متوهمٍ أن المراد بالسمع والبصر غير الصفتين المعلومتين.
وأمثال هذا كثيرٌ في القرآن والسُّنَّة، كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:«يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِاليَدِ الْأُخْرَى. ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ يدَه ويَبسُطُها»
(2)
تحقيقًا لإثبات اليد وإثبات صفة القبض.
ومن هذا إشارتُه بإصبعه إلى السماء حين استشهد ربَّه تبارك وتعالى على الصحابة أنه قد بَلَّغَهم
(3)
تحقيقًا لإثبات صفة
(4)
العلوِّ، وأن الربَّ الذي استشهده فوق العالم مستوٍ على عرشه.
فهذه أمثلة يسيرة ذكرناها، يعرف الفَهِمُ المنصفُ القاصد للهدى والنجاة منها ما يقبل التأويل وما لا يقبله، ولا عِبرةَ بغيره. والله المستعان.
* * * * *
(1)
«ب» : «ووضع إبهاميه على أذنيه» . وفي «م» : «ووضع إبهاميه على أذنه وعينه» . والذي في «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج: «يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4)
«ب» : «صفات» .
الفصل السابع
(1)
عشر
في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط
(2)
عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه
معلومٌ أن العلوم إنما قصد بها مصنِّفوها بيانَها وإيضاحها للمتعلمين، وتفهيمهم إياها بأقربِ ما يَقْدِرون عليه من الطرق. فإن سُلِّط التأويل على ألفاظهم، وحملها على غير ظواهرها
(3)
، لم يُنتفَع بها وفسدت، وعاد ذلك على موضوعها ومقصودها بالإبطال.
فإذا حُمل كلام الأطباء على غير عُرفهم المعروف من خطابهم، وتأوَّلَ المخاطَبُ كلامَهم على غير ظاهره، لم يصل إلى فهم مرادهم البتةَ، بل أفسد عليهم عِلمهم وصناعتهم.
وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سُلِّط التأويل على كلامهم لم يُوصِل إلى شيءٍ من تلك العلوم، مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية، ومع قصورهم في البيان وجودة التعبير، ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم.
فكيف يُسلَّط التأويلُ على كلام مَن لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد؟! هذا مع كمال علمه، وكمال قدرته على
(1)
«ح» : «السادس» .
(2)
«ح» : «يسلط» .
(3)
«ب» : «ظاهرها» .
أعلى أنواع البيان، وكمال نُصحِه وهُداه وإحسانه، وقصده الإفهامَ والبيانَ لا التعميةَ والإلغاز.
ولهذا لما سلَّط المحرِّفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدِّينُ فسادًا، لولا أن الله سبحانه تكفَّل بحفظه، وأقام له حرسًا وَكَلَهم بحمايته
(1)
من تأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين
(2)
، لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة. ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأُمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة مَن يُجدِّد لها دينها، ولا يزال يغرس في دِينه غرسًا يستعملهم فيه علمًا وعملًا.
وكما أن التأويل إن سُلِّط على علوم الخلائق أفسدها، فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسدَ الإفهام والفهم، ولم يمكن لأُمة أن تعيش عليه أبدًا؛ فإنه ضد البيان الذي علَّمه اللهُ الإنسانَ لقيام مصالحه في مَعاشه ومَعاده. وقد تقدَّم تقرير ذلك بما فيه كفاية
(3)
، وبالله التوفيق.
* * * * *
فصل
(1)
في بيان أنه إنْ سُلِّط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطُه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفةً وقصدًا
هذا فصلٌ عظيم النفع جليل القدر، إنما ينتفع به مَن عرف نوعَيِ التوحيد: القولي العلمي الخبري، والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دلَّ على الأول سورة:{قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} ، وعلى الثاني سورة:{قُلْ يَاأَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ} . وكذلك دلَّ على الأول قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 135]، وعلى الثاني قوله تعالى: {* قُلْ يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
…
} الآية [آل عمران: 63]. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سُنة الفجر
(2)
، وسُنة المغرب
(3)
،
ويقرأ بهما
(4)
في ركعتَيِ الطواف
(5)
. ويقرأ بالآيتين في سُنة الفجر
(6)
لتضمُّنهما التوحيدَ
(1)
«ح» : «الفصل السابع عشر» . «ب» : «الفصل الثامن عشر» . والصواب أن هذا الفصل تابع للفصل السابق، فلم يُعد فصلًا منفصلًا في الفهرس الوارد في مقدمة الكتاب، وسيأتي الفصل الثامن عشر في النسختين موافقًا للفهرس المتقدم.
(2)
أخرجه مسلم (726) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الترمذي (431) وابن ماجه (1166) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث غريب.
وفي الباب عن علي وابن عمر رضي الله عنهم، ينظر:«نتائج الأفكار» لابن حجر (1/ 489 - 492).
(4)
«ب» : «ويقرأهما» .
(5)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(6)
أخرجه مسلم (727) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
العلمي والعملي. والتوحيدُ العلمي أساسُه إثبات صفات الكمال للربِّ تعالى ومباينته لخَلْقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل. والتوحيدُ العملي أساسُه تجريد القصد بالحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والعبودية بالقلب واللسان والجوارح لله وحده لا شريك له
(1)
. فمدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كُتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومُهم بهما علمًا وعملًا. ولهذا كانت الرُّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ [ق 21 أ] أقربَ الخلق إلى الله، وأقربُهم إليه وسيلةً أولو العزم، وأقربُهم الخليلانِ، وخاتَمُهم سيِّد ولد آدم وأكرمُهم على الله بكمال توحيده وعبوديته لله.
فهذان الأصلان هما قُطب رحى القرآن، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور. والله سبحانه بيَّنَهما غايةَ البيان بالطرق الفطرية والعقلية والنظرية والأمثال المضروبة، ونوَّع سبحانه الطرق في إثباتهما أكمل التنويع، بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة والفِطَر السليمة لهما بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها
(2)
للشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء، فذاك للبصيرة بمنزلة هذا
(3)
للبصر.
فإنْ سُلِّط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهلَ، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمينِ، لا ينفك أحدهما
عن صاحبه. وإمام المعطِّلين المشركين فرعون، فهو إمام كل معطِّلٍ ومشركٍ إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ إلى يوم القيامة. قال الله تعالى لإمام المعطِّلين وأتباعه:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ} [القصص: 41]، وقال لإمام الحنفاء {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 123] وقال لأتباعه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فلا
(1)
يأتي المعطِّل للتوحيد الخبري بتأويلٍ إلَّا أمكن المشرك المعطِّل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويلٍ من جنسه، وقد اعترف بذلك حُذَّاق الفلاسفة وفضلاؤهم، فقال أبو الوليد ابن رشد في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة»
(2)
:
«القول في الجهة: وأمَّا هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يُثبِتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلةُ، ثم تَبِعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومَنِ اقتدى بقوله. وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات
(3)
الجهة، مثل قوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومثل قوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [البقرة: 253]، ومثل قوله:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 16]، ومثل قوله:{يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 4]، ومثل قوله تعالى:{تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومثل قوله: {* آامِنتُم
(1)
«ح» : «ولا» .
(2)
«مناهج الأدلة» (ص 176 - 182).
(3)
«ح» : «إثباتها» .
مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، إلى غير ذلك من الآيات التي إنْ سُلِّط التأويل عليها عاد الشرعُ كله مؤولًا
(1)
. وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهًا؛ لأن الشرائع كلها مبنيةٌ على أن الله في السماء، وأن
(2)
منه تنزل الملائكةُ بالوحي إلى النبيين، وأن مِن السماء نزلت الكتبُ، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قُرِّب من سدرة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت
(3)
جميع الشرائع على ذلك.
والشبهة التي قادت نُفاةَ الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثباتَ الجهة يوجب إثباتَ المكان، وإثباتَ المكان يوجب إثباتَ الجسمية.
ونحن نقول: إن إثبات هذا كله غير لازمٍ؛ فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إمَّا سُطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة. وبهذا تقول: إن للحيوان فوق وأسفل ويمينًا وشمالًا وأمامَ وخلفَ. وإمَّا سُطوح جسمٍ آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست، فأمَّا الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا، وأمَّا سطوح الأجسام المحيطة به
(4)
فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضًا مكان
(5)
للهواء، وهكذا الأفلاك بعضها
(1)
«ح» : «متأولا» .
(2)
«أن» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «ارتفعت» . وهو تحريف ظاهر.
(4)
«به» ليس في «ح» .
(5)
«ح» : «فكان» .
محيطةٌ ببعض ومكان له. وأمَّا سطح الفلك الخارج
(1)
فقد تبرهن
(2)
أنه ليس خارجه جسمٌ؛ لأنه لو كان ذلك
(3)
كذلك لوجب أن يكون خارجَ ذلك الجسم جسمٌ آخر، ويمر
(4)
الأمر إلى غير نهاية. فإذًا سطحُ آخر أجسام العالم ليس مكانًا أصلًا؛ إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسمٌ؛ لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسمٌ. فإذًا إنْ قام البرهانُ على وجود موجود في هذه الجهة فواجبٌ أن يكون غير جسمٍ، فالذي يمتنع
(5)
وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم.
وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء. وذلك أن الخلاء قد تبيَّن في العلوم النظرية امتناعُه؛ لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئًا أكثرَ من أبعادٍ ليس فيها جسمٌ، أعني: طُولًا وعرضًا وعمقًا؛ لأنه إنْ رُفِعت الأبعادُ
(6)
عنه عاد عَدَمًا، وإن أُنزِلَ الخلاء موجودًا لزم أن يكون أعراضٌ موجودة في غير جسمٍ؛ وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد. ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الرُّوحانيين، يريدون الله والملائكة، وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان
(7)
ولا يحويه زمانٌ. وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان
(1)
«مناهج الأدلة» : «الخارجي» .
(2)
«ح» : «برهن» .
(3)
«ذلك» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «وممر» .
(5)
«ح» : «والذي يمنع» .
(6)
«ب» : «الأبصار» .
(7)
«ب» : «مكان» .
فاسدًا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غيرَ فاسدٍ ولا كائنٍ [ق 21 ب]. وقد تبيَّن هذا المعنى ممَّا
(1)
أقوله، وذلك أنه لمَّا
(2)
لم يكن ها هنا شيءٌ، إلَّا هذا الموجود المحسوس أو العدم
(3)
، وكان من المعروف بنفسه
(4)
أن الموجود إنما يُنسَب إلى الوجود، أعني أنه
(5)
يقال إنه موجودٌ ـ أي: في الوجود ـ إذ لا يمكن أن يقال إنه موجودٌ في العدم. فإن كان ها هنا موجودًا هو أشرفُ الموجودات فواجبٌ أن يُنسَب من الموجود المحسوس إلى الجزء
(6)
الأشرف وهي السماوات. ولشرفِ هذا الجزء
(7)
قال تعالى: {لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.
فقد ظهر لك من هذا أن
(8)
إثبات الجهة واجبٌ بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطالٌ للشرائع
(9)
، وأن وجه العُسر في تفهيم
(10)
هذا المعنى مع نفي الجسمية
(11)
هو أنه ليس
(1)
«ح» : «ما» .
(2)
«لما» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «المعدوم» .
(4)
بعده في «ح» : «به» .
(5)
«ح» : «أن» .
(6)
«ح» : «الحيز» .
(7)
«ح» : «التحيز» .
(8)
«أن» ليس في «ح» .
(9)
«ح» : «الشرائع» .
(10)
«ح» : «العرفي يفهم» .
(11)
«ح» : «الجهمية» .
في الشاهد مثالٌ له، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرِّح الشرع بنفي الجسم عن
(1)
الخالق سبحانه؛ لأن الجمهور إنما يقع لهم
(2)
التصديقُ بحكم الغائب متى كان ذلك معلومَ الوجود في الشاهد، مثل العلم بالصانع، فإنه لما كان في الشاهد شرطًا في وجوده كان شرطًا في وجود الصانع الغائب. وأمَّا متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلَّا العلماء
(3)
الراسخون، فإن الشرع يَزجُر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثالًا من الشاهد إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم
(4)
.
والشبهة الواقعة في نفي الجهة ـ عند الذين نفَوْها ـ ليس يتفطن الجمهور إليها، لا سيما إذا لم يصرِّح لهم بأنه
(5)
ليس بجسمٍ، فيجب أن يمتثل في هذا كله فِعل الشرع، وأن لا يتأول ما لم يُصرِّح الشرع
(6)
بتأويله.
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب:
صِنفٌ لا يشعرون بالشكوك العارضة
(7)
في هذا المعنى، وخاصة متى
(1)
«ح» : «على» .
(2)
«ب» : «على» .
(3)
«العلماء» ليس في «ب» .
(4)
من قوله: «إن كان بالجمهور» إلى هنا ليس في «ب» . وفي «ح» تحرف لفظ «سعادتهم» إلى «معادتهم» . وصوبته من «م» و «مناهج الأدلة» لابن رشد.
(5)
من قوله: «ليس يتفطن» إلى هنا ليس في «ب» .
(6)
من قوله: «وأن لا يتأول» إلى هنا ليس في «ب» .
(7)
«ح» : «للمعارضة» .
تُركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثر، وهم الجمهور.
وصِنفٌ عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم العلماء الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس.
وصِنفٌ عرضت لهم في هذه الأشياء شكوكٌ ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصِّنف هم الذين يُوجد في حقهم التشابهُ في الشرع، وهم الذين ذمَّهم الله. وأمَّا عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابهٌ، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يُفهم التشابه. ومثال ما عرض لهذا الصِّنف مع الشرع مثالُ ما يعرض في خبز البُرِّ مثلًا ـ الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان ـ أن يكون لأقل الأبدان ضارًّا، وهو نافعٌ للأكثر، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما ضرَّ الأقل، ولهذا
(1)
الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِينَ} [البقرة: 25]
لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في
(2)
الأقل منها والأقل من الناس، وأكثرُ ذلك هي الآيات التي تتضمَّن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيُعبَّر
(3)
عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات
(4)
إليها، وأكثرها شبهًا
(5)
بها، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ
(1)
في النسختين: «وبهذا» . وفي «م» : «وإلى هذا» . والمثبت من «مناهج الأدلة» .
(2)
«في» ليس في «ب» .
(3)
«ح» : «فيصير» .
(4)
«ب» : «الوجودات» .
(5)
«ح» : «تشبيهًا» .
الممثَّل به هو المثال نفسه
(1)
، فيلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يُسمَّى متشابهاً في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور، وهم صِنفَا الناس في الحقيقة؛ لأن هؤلاء هم الأصِحَّاء، والغذاء الملائم إنما يُوافق أبدان الأصحاء
(2)
. وأمَّا أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل، ولذلك قال الله تعالى:{فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وهؤلاء أهل الجدل
(3)
والكلام.
وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرًا ممَّا ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أتى اللهُ به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم. ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجِزًا من جهة الوضوح والبيان. فإذًا ما أبعدَ مِن مقصد الشرع مَن قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه. ثم أوَّلَ ذلك المتشابِهَ بزعمه، وقال لجميع
(4)
الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش، وغير ذلك ممَّا قالوا إن ظاهره متشابِهٌ.
وبالجملة فأكثرُ التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تُؤمِّلَت وُجدتْ ليس يقوم عليها برهانٌ، ولا تفعل فِعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم
(5)
عنها. فإن المقصود الأول بالعلم في حق
(1)
«ب» : «يقيسه» .
(2)
«والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء» . في «ح» : «عن» .
(3)
«الجدل» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «فجميع» .
(5)
«ب» : «وعلمهم» .
الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفعَ في العمل فهو أجدرُ. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعًا، أعني العلم والعمل.
ومثال مَن أوَّلَ شيئًا من الشرع، وزعم أن ما أوَّلَه هو الذي قصده الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور: مثال مَن أتى إلى دواءٍ قد ركَّبه طبيبٌ ماهرٌ ليحفظ صحةَ جميع الناس أو الأكثر، فجاء رجلٌ فلم يلائمه ذلك [ق 22 أ] الدواء المركَّب الأعظم لرداءة مزاجٍ كان به ليس يعرض إلَّا للأقل من الناس، فزعَمَ أن بعض الأدوية الذي
(1)
صرَّح باسمه الطبيبُ الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركَّب لم يُرِدْ به ذلك الدواءَ التي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخَرَ ممَّا يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعلَ فيه بدلَه الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيبُ، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيبُ الأول. فاستعمل الناسُ ذلك الدواء المركَّب على الوجه الذي تأوَّله عليه ذلك المتأوِّل
(2)
، ففسدت به أمزجةُ كثيرٍ من الناس. فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركَّب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواءٍ آخرَ غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوعٌ من المرض غير النوع
(3)
الأول. فجاء ثالثٌ فتأوَّل في أدوية ذلك المركَّب غيرالتأويل الأول والثاني، فعرض من ذلك للناس
(4)
نوعٌ ثالثٌ من المرض
(1)
«ب» : «التي» .
(2)
في النسختين: «المثال» . والمثبت من «م» و «مناهج الأدلة» .
(3)
(4)
«للناس» ليس في «ب» .
غير النوعين المتقدمين. فجاء متأوِّلٌ رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة. فعرض منه للناس نوعٌ رابعٌ من المرض
(1)
غير الأمراض المتقدمة، فلمَّا طال الزمان بهذا الدواء المركَّب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيَّروها وبدَّلوها، عرض منه للناس أمراضٌ شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركَّب في حق أكثر الناس.
وهذه هي حال هذه الفِرَق الحادثة في الشريعة. مع الشريعة، وذلك أن كل
(2)
فرقةٍ منهم تأوَّلت في الشريعة تأويلًا غير التأويل الذي تأوَّلته الفرقةُ الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع، حتى تمزَّقَ الشرعُ كلَّ مُمزَّقٍ، وبَعُدَ جدًّا عن موضوعه الأول. ولمَّا علم
(3)
صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض، ولا بد، في شريعته، قال:«سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»
(4)
. يعني بالواحدة: التي سلكت ظاهرَ الشرع
(1)
«ح» : «الأمراض» .
(2)
«كل» سقط من «ح» .
(3)
«ح» : «علمه» .
(4)
أخرجه الإمام أحمد (17211) وأبو داود (4597) والحاكم في «المستدرك» (1/ 128) عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وقال الحاكم: «هذه أسانيد تقام بها الحُجة في تصحيح هذا الحديث» . وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (19/ 38): «تفرد به أبو داود، وإسناده حسن» .
وأخرجه أحمد (12815) وابن ماجه (3993) والضياء في «المختارة» (7/ 89) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1412):«إسناد صحيح رجاله ثقات» .
قلنا: وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ينظر:«تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1/ 447 - 451) و «الأجوبة المرضية» للسخاوي (147). وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (3/ 345): «الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند» .
ولم تؤوِّله.
وأنت إذا تأملتَ ما
(1)
عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض
(2)
فيها من قِبَل التأويل
(3)
تبيَّنتَ أن هذا المثال صحيح، وأولُ مَن غيَّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارجُ، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فَطَمَّ الوادي على القَرِيِّ
(4)
».
وذكر كلامًا بعد ذلك يتعلق
(5)
بكُتب أبي حامد
(6)
ليس لنا غرضٌ في حكايته.
* * * * *
(1)
«ب» : «في» .
(2)
«ح» : «المعارض» .
(3)
«التأويل» ليس في «ح» .
(4)
يقال: «جرى الوادي فطمَّ على القَرِيِّ» . أي: جرى سيل الوادي فطمَّ أي: دفن، يقال: طمَّ السيلُ الركيةَ. أي: دفنها، والقريِّ: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان، و «على» من صلة المعنى: أي أتى على القري، يعني: أهلكه بأن دفنه، يُضرب عند تجاوز الشر حده». قاله الميداني في «مجمع الأمثال» (1/ 159).
(5)
«ح» : «متعلق» .
(6)
«أبي حامد» ليس في «ح» .
الفصل الثامن عشر
في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ
(1)
وأصحاب سواء السبيل
هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أُريدَ بالنصوص:
الصنف الأول: أصحاب التأويل،
وهم أشد الأصناف
(2)
اضطرابًا، إذ لم يثبت لهم قدمٌ في الفرق بين ما يُتأول وما لا يُتأول، ولا ضابط مطَّرِد منعكس يجب مراعاته ويمنع مخالفته؛ بخلاف سائر الفرق، فإنهم جَرَوْا على ضابطٍ واحدٍ، وإن كان فيهم من هو أشد خطأً من أصحاب التأويل كما سنذكره.
الصنف الثاني: أصحاب التخييل،
وهم الذين اعتقدوا أن الرُّسل لم تُفصِحْ للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قُواهم إدراكها، وإنما خَيَّلَت
(3)
لهم، وأبرزت المعقولَ في صورة المحسوس. قالوا: ولو دعتِ الرُّسلُ أُمَمَهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخلَ العالم ولا خارجَه ولا مُحايِثًا له ولا مُبايِنًا له
(4)
، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره. لنفرت عقولُهم من ذلك، ولم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده. وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه، وأنه فيضٌ
(1)
قدَّم في «ب» قوله «وأصحاب تمثيل» على قوله «وأصحاب تجهيل» .
(2)
«ح» : «الناس» .
(3)
«ح» : «حلت» .
(4)
«ح» : «به» .
فاضَ من
(1)
المبدأ الأول على العقل الفعَّال، ثم فاضَ من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة؛ لم يفهموا ذلك. ولو أخبروهم عن المعاد الرُّوحاني بما هو عليه لم يفهموه، فقرَّبوا لهم الحقائقَ المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور، ومصيرها إلى جنةٍ فيها أكلٌ وشربٌ ولحمٌ وخمرٌ وجوارٍ حِسانٌ، أو نارٍ فيها أنواع العذاب، تفهيمًا للذة الرُّوحانية بهذه الصورة، والألم الرُّوحاني بهذه الصورة
(2)
.
وهكذا فعلوا في وجود الربِّ وصفاته وأفعاله، ضربوا لهم الأمثال بموجودٍ
(3)
عظيمٍ جدًّا أكبر من كل موجودٍ، وله سريرٌ عظيمٌ وهو مستوٍ فوق سريره، يسمع ويبصر ويتكلم، ويأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويأتي ويجيء وينزل، وله يدانِ ووجهٌ، ويفعل بمشيئته وإرادته، وإذا تكلم العبادُ سمع
(4)
كلامَهم، وإذا تحركوا رأى حركاتِهم، وإذا هجسَ في قلب أحدٍ منهم هاجسٌ عَلِمَه، وأنه ينزل كل ليلة إليهم
(5)
إلى سمائهم هذه فيقول: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ
(6)
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»
(7)
. إلى غير ذلك ممَّا نطقت به الكتبُ الإلهية.
(1)
«من» ليس في النسختين، وأثبته من «م» .
(2)
«والألم الروحاني بهذه الصورة» ليس في «ب» .
(3)
«ح» : «بوجود» .
(4)
«ب» : «يسمع» .
(5)
«ح» : «لهم» .
(6)
«ب» : «من» .
(7)
أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قالوا: ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور؛ لأنه يُفسِد ما وُضِعت له [ق 22 ب] الشرائع والكتب الإلهية. وأمَّا الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثالٌ مضروبةٌ لأمور عقلية تَعجِزُ عن إدراكها عقولُ الجمهور، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة، وإقرارها
(1)
إقرارٌ للشريعة والحكمة. قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق
(2)
أضعفُ من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاءُ الرجال وأهل الحِكمة منهم. والحكيم إذا أراد أن يخوِّف الصغير أو يبسط أملَه خوَّفه ورجَّاه بما يناسب فَهمَه وطبعَه.
وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة: أن الذي أخبرت به الرُّسلُ عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقةَ له تُطابِق ما أخبروا به، ولكنه أمثالٌ وتخييلٌ وتفهيمٌ بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أربابُ التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وصرَّحوا في ذلك بمعنى
(3)
ما صرَّح به هؤلاء في باب المَعاد وحشْر الأجساد، بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفَوْقية ونصوص الصِّفات الخبرية. لكن هؤلاء أوجبوا أو سوَّغوا تأويلها بما يُخرِجها عن حقائقها وظواهرها، وظنوا أن الرُّسل قصدت ذلك من المخاطَبين تعريضًا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد
(4)
في تأويلها واستخراج معانٍ تليق بها وحملها عليها؛ وأولئك حرَّموا التأويل،
(1)
«ح» : «والإقرار» .
(2)
من قوله: «إقرار للشريعة» إلى هنا ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «معنى» .
(4)
«ح» : «تبدل الجهة» .
ورأوه عائدًا على ما قصدته الأنبياءُ بالإبطال. والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.
و
الصنف الثالث: أصحاب التجهيل،
الذين قالوا: نصوص الصِّفات ألفاظٌ لا يُعقَل معانيها، ولا يُدرى ما أراد اللهُ ورسوله منها، ولكن نقرؤُها
(1)
ألفاظًا لا معانِيَ لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله، وهي عندنا بمنزلة:{كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1] و {المص} [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلًا ولا تشبيهًا، ولم نعرف معناه، ونُنكِر على مَن تأوَّله، ونَكِل علمه إلى الله.
وظن هؤلاء أن هذه طريقةُ السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] وقوله: {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64]، وقوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات. وبنَوْا هذا المذهب على أصلين:
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابِه.
والثاني: أن للمتشابه تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله.
فنتج مِن هذين الأصلين استجهالُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]،
(1)
«ح» : «يقروها» .
ويَرْوُون
(1)
: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا»
(2)
، ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أُريدَ به؛ ولازمُ قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبحَ تناقُضٍ، فقالوا: تُجرَى على ظواهرها، وتأويلُها بما
(3)
يخالف الظواهر باطلٌ، ومع ذلك فلها تأويلٌ لا يعلمه إلَّا الله. فكيف يُثبِتون
(4)
لها تأويلًا، ويقولون: تجرى على ظواهرها، ويقولون
(5)
: الظاهر منها غير
(6)
مرادٍ، والربُّ منفرد بعلم تأويلها. وهل في التناقض أقبحُ من هذا؟!
وهؤلاء غلطوا
(7)
في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كَوْن المتشابه لا يعلم معناه إلَّا الله، فأخطؤوا في المقدِّمات الثلاث. واضطرهم إلى هذا التخلصُ من تأويلات المبطِلين وتحريفات المعطِّلين، وسدُّوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصولَ لنا إلى الصواب.
فهؤلاء تركوا التدبُّر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص، الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبَّدوا بالألفاظ المجردة التي أُنزلت في ذلك، وظنوا أنها أُنزلت للتلاوة والتعبُّد بها دون تعقُّل
(1)
«ح» : «ويرون» .
(2)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3)
«ح» : «مما» .
(4)
«ح» : «ينسبون» .
(5)
«ح» : «ظواهر أو يقولون» .
(6)
«غير» ليس في «ح» .
(7)
في النسختين: «عطلوا» . والمثبت من «م» .
معانيها وتدبُّرها والتفكر فيها. فأولئك جعلوها عُرضة للتأويل والتحريف، كما جعلها أصحاب التخييل أمثالًا لا حقيقة لها.
وقابلهم الصنف الرابع، وهم أصحاب التشبيه والتمثيل، ففهموا منها مثل
(1)
ما للمخلوقين، وظنوا أنْ لا حقيقةَ لها سوى ذلك، وقالوا: مُحال أن يخاطبنا اللهُ سبحانه بما لا نعقله، ثم يقول:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72]{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 217]{لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 28]، ونظائر ذلك. وهؤلاء هم المشبِّهة
(2)
.
فهذه الفِرَق لا تزال تُبدِّع بعضُهم بعضًا وتضلِّله وتجهِّله، وقد تصادمت كما ترى، فَهُمْ كزُمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة
(3)
منهم
(4)
:
وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى
…
فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ
وهدى الله أصحابَ سواء السبيل للطريقة المُثلى، فلم يتلوثوا بشيءٍ من أوضار
(5)
هذه الفرق وأدناسها
(6)
، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفَوْا عنها مماثلة المخلوقات، فكان
(7)
مذهبهم [ق 23 أ] مذهبًا بين مذهبين
(1)
«مثل» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «المثبتة» .
(3)
«ح» : «البصيرة والبصر» .
(4)
يعني: أبا العلاء المعري، وقد تقدم البيت (ص 145).
(5)
«ح» : «أوصاف» .
(6)
«ح» : «أديانها» .
(7)
«ح» : «وكان» .
وهُدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطِّلين والمخيِّلين والمجهِّلين والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا
(1)
سائغًا للشاربين.
وقالوا: نَصِفُ اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا إثباتُ حقائق الأسماء والصفات، ونفْيُ مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل ولا نؤوِّل ولا نمثِّل ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ ولا وجهٌ ولا سمعٌ ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استواءٌ على عرشه. ولا نقول: له يدانِ كأيدي المخلوقين
(2)
، ووجه كوجوههم، وسمعٌ وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذاتٌ حقيقةً ليست كالذوات، وله صفاتٌ حقيقةً لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعِه وبصرِه وكلامه واستوائه، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصِّفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَن أثبت لله شيئًا من صفات الكمال مِن فَهْمِ معنى الصفة وحقيقتها
(3)
، فإن مَن أثبتَ له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً وفَهِمَ معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة
(4)
يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيلَ لنا
(5)
إلى
(1)
«خالصًا» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «المخلوق» .
(3)
«ح» : «وتحقيقها» .
(4)
«ح» : «المتقدمة» .
(5)
«ح» : «له» .
معرفة كُنْهها وكيفيتها؛ فإن الله سبحانه لم يكلِّف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا. بل كثيرٌ من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم ـ التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ
(1)
ـ قد حجَبَ عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، و [ما]
(2)
جعَلَ لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز
(3)
بينها وبين أرواح البهائم.
وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائقُ ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولُهم، ولم يعرفوا كيفيته وكُنْهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمرٍ، وأنهارًا من عسلٍ، وأنهارًا من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كُنْهَ ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلَّا ما اعتُصِرَ من الأعناب، والعسل إلَّا ما قذفت به النحلُ في بيوتها، واللبن إلَّا ما خرج من الضروع، والحرير إلَّا ما خرج من فم دود القزِّ، وقد فهموا معانيَ ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثِلًا لما في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ:«ليس في الدنيا ممَّا في الآخرةِ إلَّا الأسماءُ»
(4)
.
ولم يمنعهم عدم النظير في الدُّنيا مِن فَهْمِ ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا
(1)
«ح» : «ذات» .
(2)
سقط من النسختين، وأثبته ليستقيم السياق.
(3)
«ب» : «وبالتمييز» .
(4)
أخرجه هناد في «الزهد» (3) والطبري في «تفسيره» (1/ 416) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 66) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (124) والبيهقي في «البعث والنشور» (1/ 210) والضياء في «الأحاديث المختارة» (10/ 16) ولفظه «الجنة» بدل «الآخرة» . وجوَّد المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 316) إسناده، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2188).
الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها مِن فَهْم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:
أحدها: قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60].
الثاني: قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26].
الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9].
فنفى سبحانه المماثلةَ عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمَنَ
(1)
به المؤمنون، وأَنِسَ به العارفون، وقامت شواهدُه في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقلُ والسمعُ والفطرة. فإذا قال المثبت: يا الله، قام بقلبه ربًّا قيُّومًا قائمًا
(2)
بنفسه، مستويًا على عرشه، مُكلَّمًا مُتكلِّمًا سامعًا رائيًا
(3)
قديرًا مريدًا فعَّالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائجَ السائلين، ويُفرِّج عن
(4)
المكروبين، تُرضيه الطاعات،
(1)
«ب» : «أنس» .
(2)
«قائما» ليس في «ح» .
(3)
«رائيا» ليس في «ح» .
(4)
«ب» : «عند» . وهو تحريف.
وتُغضبه المعاصي، تَعرُجُ الملائكةُ بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده.
وإذا شئتَ زيادةَ تعريفٍ بهذا المثل الأعلى فقدِّر
(1)
قُوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحدٍ منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبتَ قوته إلى قوة الربِّ تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإيَّاها البتةَ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد. فإذا قدرتَ علوم الخلائق اجتمعت لرجلٍ واحدٍ، ثم قدرتَ جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى عِلمه تعالى كنقرة عصفورٍ من بحرٍ. وإذا قدرتَ حِكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حِكمته. وكذلك إذا قدَّرتَ كل جمالٍ في الوجود اجتمع لشخصٍ [ق 23 ب] واحدٍ، ثم كان الخَلْق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الربِّ تعالى وجلاله دون نسبة السِّراج الضعيف إلى
(2)
جرم الشمس.
وقد نبَّهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي اِلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَاَلْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اُللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 26]. فقدِّرِ البحر المحيط بالعالَم مِدادًا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مِدادٌ تُكتب
(3)
به كلماتُ الله، نفدت البحارُ، وفنيت الأقلامُ ـ التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خُلِقت إلى آخِر الدنيا ـ ولم تنفد كلمات الله.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ
(1)
«ح» : «فعد» .
(2)
«ح» : «في» .
(3)
«ح» : «يكتب» .
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيَّ فِي
(1)
الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ
(2)
فَلَاةٍ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا عِبَادُهُ عَلَيْهِ»
(3)
.
فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدِّقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به
(4)
فأحبوه وخافوه ورجَوْه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذِكره، وأَنِسُوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك فَهمُ
(5)
استوائه على عرشه، وسائرِ ما وصف به نفسَه من صفات كماله
(6)
؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظيرَ لذلك ولا مثلَ له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلتُه لشيءٍ من المخلوقات.
وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله «أَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ
(1)
«ب» : «و» .
(2)
«ب» : «بأرض» .
(3)
أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في «العرش» (58) والطبري في «التفسير» (4/ 539) وابن حبان (361) وأبو الشيخ في «العظمة» (206) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (861، 862) عن أبي ذر رضي الله عنه دون قوله: «والعرش لا يَقدر قَدْره إلا الله
…
» الحديث، وقال الذهبي في «العلو» (307):«الخبر منكر» . وقال ابن حجر في «الفتح» (13/ 411): «وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» بسند صحيح». وقد روي معناه موقوفًا من عدة طرق، ينظر:«الدر المنثور» للسيوطي (3/ 193، 7/ 617).
(4)
«به» ليس في «ح» .
(5)
«فهم» ليس في «ح» .
(6)
«ب» : «جماله» .
وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ»
(1)
. «وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفِّهِ تَعَالَى كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ
(2)
»
(3)
(4)
. فأيُّ أيدٍ للخلق وأي إصبع تُشبه
(5)
هذه اليدَ وهذه الإصبعَ حتى يكون إثباتها تشبيهًا وتمثيلًا.
فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل
(6)
، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ
(7)
والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء.
فأوَّلُ هذا الصنف إبليسُ ترَكَ السجود لآدم كِبرًا؛ فابتلاه الله بالقيادة
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«ب» : «أحدنا» .
(3)
لم نقف عليه مرفوعًا، وهو أثر مشهور موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وقد تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري (7414) ومسلم (2786) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(5)
«ب» : «يشبه» .
(6)
«وأصحاب التجهيل» ليس في «ح» .
(7)
«ح» : «الثوم» . والفوم: الثُّوم، وفي قراءة عبد الله:«وثُومِها» . ويقال: هو الحِنْطة. «الصحاح» (5/ 2004).
لفُسَّاق ذريته. وعُبَّادُ الأصنام لم يُقروا بنبيٍّ من البشر، ورَضُوا بآلهةٍ
(1)
من الحجر. والجهميةُ نزَّهوا الله عن عرشه لئلَّا يحويه مكانٌ، ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكانٍ. وهكذا طوائف الباطل لم يَرضَوْا بنصوص الوحي، فابتُلوا بزُبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين، و {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17].
* * * * *
(1)
«ح» : «بإله» .
الفصل التاسع عشر
في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان
(1)
الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله
التأويل يجري مَجرى مخالفة
(2)
الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فَطَر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع
(3)
:
السبب الأول: أن يأتي به صاحبه مموَّهًا مُزخرَف الألفاظ مُلفَّق المعاني، مكسوًّا حُلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة،
فتسرع العقولُ الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده. ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها، فيُحسِّنها في عينه، ويُحبِّبها إلى نفسه. وهذا الذي يعتمده
(4)
كلُّ مَن أراد ترويج باطلٍ؛ فإنه لا يتم له ذلك إلَّا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته.
قال الله
(5)
تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ
(1)
«للبيان» ليس في «ح» .
(2)
«ب» : «مخالفته» .
(3)
«أنواع» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «يعتمد» .
(5)
لفظ الجلالة ليس في «ب» .
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يُزخرفه بعضُهم لبعضٍ من القول، فيغترُّ به الأَغْمارُ
(1)
وضعفاء العقول، فذكر السببَ الفاعل والقابل. ثم ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة عنه بصَغْوِها وميلها إليه
(2)
ورضاها به؛ لِمَا كُسِيَ من الزُّخرف الذي يغرُّ السامعَ. فلمَّا أصغت إليه ورَضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولًا وعملًا. فتأمَّلْ هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدْر الذي فيه بيان أصول الباطل، والتنبيه [ق 24 أ] على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها.
وإذا تأملتَ مقالات أهل الباطل رأيتَهم قد كسَوْها من العبارات المُستحسنة، وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يُسرِع إلى قَبوله كل مَن ليس له بصيرةٌ نافذةٌ، وأكثر الخلق كذلك، حتى إن
(3)
الفُجَّار
(4)
ليُسمُّون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيُسمُّون أم الخبائث: أم الأفراح، ويُسمون اللقمة الملعونة
(5)
: لُقيمة الذِّكر والفكر التي تُثير
(6)
العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ويُسمُّون مجالس الفجور
(1)
الأغمار: جمع غُمْر بالضم، وهو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرب الأمور. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 385).
(2)
«إليه» ليس في «ب» .
(3)
«ح» : «جيران» .
(4)
«الفجار» ليس في «ح» .
(5)
«ح» : «الكفرية» . وهذه اللقمة الملعونة هي الحشيشة، كما في «مجموع الفتاوى» (34/ 210).
(6)
«ح» : «الذي يثير» .
والفسوق: مجالس الطيبة. حتى إن بعضهم لمَّا عُذل عن شيءٍ من ذلك قال لعاذله: «ترك المعاصي والتخوف منها إساءةُ ظنٍّ برحمة الله، وجُرأة على سعة عفوه ومغفرته» . فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلبٍ ممتلئٍ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة.
فصل
السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورةٍ مستهجَنةٍ، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع،
فيتخير له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولًا إلى القلوب، وأشدَّها نفرةً عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ. فيُسمِّي التديُّن: ثَقَالةً، وعدمَ الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين: سُوءَ خُلق، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه: فتنةً وشرًّا وفضولًا.
وكذلك
(1)
أهل البدع والضلال من جميع الطوائف تُعظِّم ما يُنفِّرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيُسمُّون إثبات صفات الكمال لله: تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلًا، ويُسمون إثبات الوجه واليدين له: تركيبًا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوِّه على خَلْقه فوق سماواته: تحيُّزًا وتجسيمًا، ويسمون العرش: حيزًا وجِهةً، ويُسمُّون الصِّفات: أعْراضًا، والأفعال: حوادثَ، والوجه واليدين: أبعاضًا، والحِكَم والغايات التي يفعل لأجلها: أغراضًا. فلمَّا وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكَرة الشنيعة تمَّ لهم مِن نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغمار والأغفال:
(1)
«ح» : «فكذلك» .
اعلموا أن ربكم منزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه. فلم يشكَّ أحدٌ ـ لله في قلبه وقارٌ وعظمةٌ ـ في تنزيه الربِّ تعالى عن ذلك.
وقد اصطلحوا على تسمية سَمْعه وبصره وعِلمه وقدرته وإرادته وحياته: أعراضًا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين: أبعاضًا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خَلقه وأنه فوق عباده: تحيزًا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكلُّمه بقدرته ومشيئتِه إذا شاءَ وغضبِه بعد رضاه ورضاه بعد غضبه: حوادث، وعلى تسمية الغاية التي يفعل ويتكلَّم لأجلها: غرضًا. واستقر ذلك في قلوب المتلقِّين
(1)
عنهم، فلمَّا صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرًا أعظمَ حيرةٍ بين نفي هذه الحقائق ـ التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ـ وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم.
فمن الناس مَن فرَّ إلى التخييل، ومنهم من فرَّ إلى التعطيل، ومنهم من فرَّ إلى التجهيل، ومنهم من فرَّ إلى التمثيل. ومنهم مَن فرَّ إلى الله ورسوله، وكشَفَ زيف هذه الألفاظ وبيَّنَ زخرفها وزَغَلها
(2)
، وأنها ألفاظٌ مُموَّهةٌ بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل، ولكن الطعام مسمومٌ، فقالوا ما قاله إمامُ السُّنَّة باتفاق أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل
(3)
:
(1)
«ح» : «المبلغين» .
(2)
الزَّغَل محركة: الغش. «تاج العروس» (14/ 308).
(3)
في رواية ابن عمه حنبل ابن إسحاق عنه، كما نقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (6).
«لا نُزيل
(1)
عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين».
ولمَّا أراد المتأولون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السُّنَّة الألقاب القبيحة، فسموهم: حَشْوية، ونوابت، ونواصب، ومُجبِرة، ومجسِّمة، ومشبِّهة، ونحو ذلك
(2)
.
فتولَّد
(3)
مِن بين
(4)
تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب: لعنةُ أهل الإثبات والسُّنَّة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومَن عليها.
فصل
السبب الثالث: أن يعزو المتأوِّل تأويله وبدعته إلى جليل القدْر نبيه الذِّكر من العقلاء، أو مِن آل البيت النَّبويِّ،
أو مَن حلَّ
(5)
له في الأُمة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ؛ ليُحليه بذلك في قلوب الأغمار والجُهَّال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام مَن يَعظُم قدْرُه في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ، حتى
(1)
«ح» : «يزال» .
(2)
أفرد المصنِّف في «النونية» (2/ 573 - 581، 610 - 611) فصلين في الرد على من سمَّى أهل السنة بهذه الأسماء القبيحة وبيَّن أنهم أحق بها.
(3)
«ح» : «فيتولد» .
(4)
«بين» ليس في «ح» .
(5)
«م» : «حصل» .
إنهم لَيقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا.
[ق 24 ب] وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنُّصَيْرية
(1)
إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم، حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم ـ فانتموا إليهم
(2)
وأظهروا من محبتهم وموالاتهم، واللَّهَج بذِكرهم وذِكر مناقبهم، ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم، ثم
(3)
نفَّقوا باطلهم وإفكَهم بنسبته إليهم.
فلا إله إلَّا الله، كم مِن زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نَفَقَت في الوجود بنسبتها إليهم، وهم بَرَاء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدع والضلالات.
وإذا تأملتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل، بلا برهانٍ من الله، ولا حُجةٍ قادتهم
(4)
إلى ذلك. وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دِين الرُّسل بما كان عليه الآباء
(1)
«ب» : «البصرية» . وهو تصحيف، والنُّصيرية: بضم النون وفتح الصاد المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين بعدها راء مهملة، طائفة من غلاة الشيعة، كانوا يزعمون أن علي بن أبي طالب هو الله، وهؤلاء شر الشيعة. «الأنساب» للسمعاني (13/ 121).
(2)
«ح» : «لهم» .
(3)
«ثم» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «قادهم» .
والأسلاف، فإنهم لحُسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما
(1)
كانوا عليه على ما جاءتهم به الرُّسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل. وهذا شأن كل مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة.
فصل
السبب الرابع: أن يكون ذلك
(2)
التأويل قد قَبِله ورضيه مُبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم
الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذِكرٌ في الناس، ويشتهر له به صيتٌ. فإذا سمع الغُمْرُ الجاهلُ بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظنَّ به وارتضاه مذهبًا لنفسه، ورضي مَن قَبِله إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختار ـ مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه ـ إلَّا الأصوب والأفضل من الاعتقادات، والأرشد والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري مِن اختياره
(3)
، فرضيت لنفسي ما رَضِيَه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله
(4)
على الصواب، كما دلته على ما خَفِيَ عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك
(5)
بها أُممٌ لا يحصيهم إلَّا الله، رأوا الفلاسفة قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم
(1)
«ح» : «بما» .
(2)
«ذلك» ليس في «ب» .
(3)
«من اختياره» ليس في «ب» .
(4)
«ب» : «يدل» .
(5)
«ح» : «تملك» . وهو تحريف.
وصحة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فضلًا عن استنباطه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الرَّبانية أسوة بذلك، فحالُهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواء.
فلا إله إلَّا الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أُمةٍ، وكم خرَّبت من دارٍ، وكم أزالت من نعمةٍ، وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرُّسل واستجهالهم! وما عرف أصحابُ هذه الشُّبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحِذْق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما يعجِزُ عنه عقول أعلم الناس ومعارفهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ»
(1)
.
وصدَقَ صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن
(2)
العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن
(3)
ـ وهو علم جر
(4)
الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون ـ وعلم الفلاحة، وعلم الحُمَّيات وأجناسها ومعرفة الأبوال وألوانها وصفائها وكَدَرِها وما يدل عليه، وعلم الشِّعر وبُحوره وعِلله وزِحافه، وعلم الفنيطة
(5)
، ونحو ذلك من العلوم، هم أعلم بها، وأحذق فيها.
وأمَّا العلم بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى
(1)
أخرجه مسلم (2363) عن أم المؤمنين عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما.
(2)
«ب» : «وإن» .
(3)
كذا في «ب» . وفي «ح» : «وأيون» . ولم أتبين المراد منها.
(4)
«جر» ليس في «ح» .
(5)
كذا في «ب» . ورسمها في «ح» : «العسطة» . ولم أتبين المراد منها.
الرُّسل، قال الله
(1)
تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ لَا يُخْلِفُ اُللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (5) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ اَلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَهُمْ عَنِ اِلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 5 - 6]. قال بعض السلف: «يبلغ مِن علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظُفُره فيعلم وزنَه، ولا علم له بشيءٍ من دينه»
(2)
. وقال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم
(3)
بها: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [غافر: 82].
وقد فاوَتَ الله سبحانه بين عباده فيما تناله عقولهم وأذهانهم أعظمَ تفاوُت، والعقل يُعطي صاحبه فائدته في النوع الذي يلزمه به ويشغله به ويَقصُره عليه ما لا يعطيه في غيره، وإن كان غيره أسهلَ منه بكثيرٍ، كما يعطيه هِمَّته وقريحته في الصناعة التي هو معنيٌّ بها ومقصور العناية عليها ما لا يعطيه في صناعةٍ غيرها. وكثيرًا ما تجد الرجل قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر، وتخلَّف في
(4)
الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدق منها، وأخطأ الأجل الأوضح. هذا أمرٌ واقع تحت العيان، فكيف [ق 25 أ] وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طَوْر العقل. والعقلُ وإن لم يستقلَّ بإدراكها فإنه لا يحيلها، بل إذا وردت عليه أقرَّ
(5)
بصحتها، وبادَرَ إلى قبولها، وأذعنَ
(1)
لفظ الجلالة ليس في «ب» .
(2)
أخرجه المحاسبي في «ماهية العقل» (ص 214) وأبو حاتم في «الزهد» (66) عن الحسن البصري رحمه الله بمعناه، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 484) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
«ح» : «واعتراهم» .
(4)
«ح» : «عن» .
(5)
«أقر» ليس في «ح» .
بالانقياد إليها، وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها
(1)
دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدرك.
فصل
السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به
من المعاني الغريبة
(2)
التي إذا ظفر الذِّهن بإدراكها نالَه لذةٌ من جنس لذة الظفَر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه. وهذا شأن النفوس، فإنها مُوكَلة بكل غريبٍ تستحسنه وتُؤثِره وتنافس فيه، حتى إذا كثر ورخص وناله المثري
(3)
والمقلُّ زهدت فيه وأعرضت عنه
(4)
، مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها، ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه تَزْهد
(5)
فيه وتطلب ما تتميز به عن غيرها للَّذة التفرد والاختصاص.
ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها؛ فتحركت النفوس لطلب فَهْم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني. واتفقَ أن صادفت قلوبًا خالية من حقائق الإيمان وما بعث اللهُ به رسولَه، فتمكَّنت منها، فعزَّ على أطباء الأديان استنقاذها منها وقد تحكمت فيها، كما قيل
(6)
:
(1)
«وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها» . سقط من «ب» .
(2)
من قوله: «الإغراب» . إلى هنا ليس في «ح» .
(3)
المثري: كثير المال.
(4)
«وأعرضت عنه» ليس في «ح» .
(5)
«ح» : «يزهد» .
(6)
البيت من قصيدة لظافر الحداد في «ديوانه» (ص 127)، ورواية «الديوان»:
تاللهِ ما علقتْ محاسنُكَ امرءًا
…
إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ
وأنشده له ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» (4/ 1464) وغيره، وأنشده المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 879):
تاللهِ ما أسرتْ لواحظُك امرءًا
…
إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ
تَاللهِ مَا أَسَرَ الْهَوَى مِنْ وَامِقٍ
(1)
…
إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى اسْتِنْقَاذُهُ
وبمكان
(2)
الاستغراب وقبول النفس لكل غريبٍ لهَجَ الناسُ بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة
(3)
، وإن كانت المألوفةُ أعجبَ منها وأحسن وأتمَّ خِلقةً.
فصل
السبب السادس: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون
(4)
كالأطناب والأوتاد لفسطاطه:
فمنها: ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قومٌ جُهالٌ لا عقول
(5)
لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبَلَهِهم ما بعضه صدقٌ
(6)
وأكثره كذبٌ، كما يُحكى أن بعضهم سُئل عن قوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] هل هو حقيقة أو مجاز؟ قال:
(1)
«ب» : «واثق» . والوامق: المحب. «الصحاح» (4/ 1568).
(2)
«ب» : «ولما كان» .
(3)
«والصور الغريبة» ليس في «ح» .
(4)
«ب» : «يكون» .
(5)
«ب» : «معقول» .
(6)
«صدق» . سقط من «ح» .
لا حقيقة ولا مجاز. فقال له: جزاك الله عن ظاهريتك خيرًا. وأمثال هذا. ويحكون عنهم إنكار أدلة العقول
(1)
، والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوس طالبة للنظر والبحث والتعقل.
ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذبُ وأوفق وألطف. وقد قال بعض أئمة النحاة
(2)
: أكثر اللغة مجاز. فإذا كان أكثر اللغة
(3)
مجازًا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقُلْ ما شئتَ، وأوِّلْ ما شئتَ وانزِلْ عن الحقيقة، ولا يضرك أي مجازٍ ركبتَه.
ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسُّنَّة أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول
(4)
وقواعد المنطق.
ومنها: قولهم: إذا تعارَضَ العقلُ والنقل قدِّم العقل على النقل.
فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعضٍ وتقارَنَت
(5)
، فيا محنة القرآن والسُّنَّة، وقد
(6)
سلكا في قلوبٍ قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال.
(1)
«ب» : «المعقول» .
(2)
بيَّنه المصنف بقوله: «وقد صرح ابن جني أن أكثر اللغة مجاز» كما في «مختصر الصواعق» (2/ 771). وكلام ابن جني في «الخصائص» (2/ 447).
(3)
«مجاز فإذا كان أكثر اللغة» . سقط من «ح» .
(4)
«ح» : «العقول» .
(5)
«ح» : «تقاربت» .
(6)
«قد» ليس في «ح» .
الفصل العشرون
في بيان أن أهل التأويل
لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا
هذا من أعظم آفات التأويل وجنايته على الإسلام، أنه يُبطِل حُجج الله على المبطِلين على ألسنة المتأوِّلين، وإلَّا فلا تبطل حُجج الله
(1)
وبيِّناته أبدًا.
من المعلوم أن كل مبطلٍ أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره، فإنه لا يتمكن مِن دحْضِ حُجته وكسرِ باطله؛ لأن خصمه تسلَّط
(2)
عليه بمثل ما تسلط
(3)
هو به عليه. وهذا شأن أهل الأهواء مع بعضهم بعضًا
(4)
، ولهذا كان غايةَ ما يأتون به إبداءُ تناقض بعضهم بعضًا، وكسرُ أقوال بعضهم ببعضٍ. وفي هذا منفعةٌ جليلةٌ لطالب الحقِّ؛ فإنه يكتفي بإبطال كل فرقةٍ لقول الفرقة الأخرى. فيقول: إذا احتج المتأوِّل بحُجةٍ سمعيةٍ على مبطلٍ أمكن خصمَه أن يقول له: أنا أتأوَّل هذه الحُجة كما تأوَّلتَ أنت كَيْتَ وكيت.
مثاله: أن يحتجَّ مَن يتأول الصِّفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على مَن ينكر ثبوت صفة السمع والبصر والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها، فيقول له خصمُه: هذه عندي مؤوَّلة، كما أوَّلتَ أنت نصوص الاستواء
(1)
من قوله: «على المبطلين» . إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «يسلط» .
(3)
«ح» : «سلط» .
(4)
كذا، وهو أسلوب عامي، والعربية:«بعضهم مع بعضٍ» . وسيأتي نظيره (ص 234).
والفوقية والوجه واليدين والنزول والضحك والفرح والغضب والرضا ونحوها، فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك منِّي. فلا يذكر سببًا
(1)
حمَلَه
(2)
على التأويل إلَّا أتاه خَصمه بسببٍ مِن جنسه أو أقوى منه أو دونه يحمله على التأويل.
وإذا استدل المتأوِّل على مُنكري المَعاد وحشر الأجساد بنصوص الوحي أبدَوْا لها تأويلات تخالف ظاهرها وحقائقها، وقالوا لمن استدل بها عليهم: تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك لنصوص الصِّفات، ولا سيما أنها أكثر
(3)
وأصرح؛ فإذا تطرَّق التأويل إليها فهو إلى [ق 25 ب] ما دونها أقرب تطرقًا.
وإذا استدل على الرافضة بالنصوص الدالة على فضل الشيخين وسائر الصحابة تأولوها بما هو مِن جِنس تأويل الجهمي لآيات الصِّفات، وقد تكون تأويلاتهم في كثيرٍ من المواضع أقوى من تأويلات الجهمي
(4)
كما تكون مثلها ودونها.
وإذا احتجَّ الجهمي على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر، وأنه لا يَكفُر ولا يَخلُد في النار، واحتج بها على الوعيدية القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد، قالوا: هذه متأوَّلةٌ، وتأويله أقرب من تأويل نصوص الصفات.
وإذا احتجَّ على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ، يزيد وينقص. قالوا: هذه النصوص قابلة للتأويل، كما قبلته نصوص
(1)
«ح» : «شيئًا» .
(2)
«حمله» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «أكبر» .
(4)
من قوله: «لآيات الصِّفات» إلى هنا سقط من «ح» .
الاستواء والفوقية والصفات الخبرية، فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص، والقواعد التي حملتكم على تأويلها، عندنا قواعد حملتنا على تأويل هذه الظواهر.
وإذا احتج أهل الجبر على أهل القدر بالنصوص الدالة على أن أعمال
(1)
العباد مخلوقةٌ لله، واقعةٌ بقدرته ومشيئته، تأولوها بنظير ما تأول به خصومهم النصوص الدالة على أنها أفعال للعباد حقيقة، وأنها واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، وكذلك خصومهم معهم بهذه المثابة.
وإذا احتجَّ مَن أثبت الرؤية في الآخرة من أهل التأويل على من نفاها قال له: أنا
(2)
أتأول هذه الظواهر بما تأوَّلتَ به أنت آيات الصِّفات الخبرية وأحاديثها.
وإذا احتجَّ مَن أثبت العلم بجميع المعلومات جزئياتها وكلياتها لله من أهل التأويلات
(3)
بالنصوص الدالة على ذلك، قال له المنكر: ليست هذه النصوص بأكثرَ من نصوص الفوقية والعلو واستواء الربِّ على عرشه ونزول الأمر من عنده وعروج الملائكة إليه، فإذا كانت تلك مؤولة عندك ـ على كثرتها وتضافرها ـ فهذه أولى بقبول التأويل.
فقد بان أنه لا
(4)
يمكن أهل التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حُجةً من
(1)
«أعمال» سقط من «ح» .
(2)
«أنا» ليس في «ح» .
(3)
«ب» : «التأويل» .
(4)
«لا» سقط من «ب» .
كتابٍ ولا سُنةٍ، فحينئذٍ فيترك
(1)
الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة على كل مبطِلٍ، ولم يبقَ إلَّا تصادم الآراء ونتائج الأفكار، لا سيما وقد أعطى الجهمي من نفسه أن أكثر اللغة مجازٌ، وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأن العقل إذا
(2)
عارَضَ السمعَ وجب تقديم العقل والإعراض عن السمع وإهداره. ثم إما أن يشتغل بتأويله وهي طريقة الخلف العالمين، أو يفوضه ولا يحتج به، وهي طريقة السلف السالمين، فكيف يقوم بعد هذا حُجةٌ من كتابٍ أو سُنةٍ على مبطلٍ من العالمين.
ولهذا كان فتْحُ باب التأويل على النصوص يتضمن عيبها والطعن فيها وعزْلها عن سلطانها، وولاية الآراء الباطلة والشُّبَه الفاسدة.
بل نقول: إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حجةً عقليةً أبدًا، وهذا أعجب من الأول. وبيانه: أن الحُجج السمعية مطابقة للمعقول، والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح، بل هما أخوانِ نصيران، وصل الله بينهما، وقرن أحدَهما بصاحبه؛ فقال تعالى
(3)
: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأحقاف: 25]، فذكر ما ينال به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل.
(1)
«ب» : «فترك» .
(2)
«ب» : «إذ» .
(3)
من قوله: «فيه وجعلنا لهم سمعا» إلى قوله: «ما ذكرنا من تصرف» . في الصفحة بعد التالية سقط من «ح» .
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11] فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67]{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 25] فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبُّرِه بعقولهم. ومثله قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ} [المؤمنون: 69]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَهْوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حُجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا، فالكتاب المنزل والعقل المدرِك حُجة الله على خَلْقه. وكتابه هو الحجة العظمى، فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيلٌ إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، فليس لأحدٍ عنه مذهبٌ، ولا إلى غيره مفزعٌ في مجهولٍ يعلمه، ومشكلٍ يستبينه، وملتبسٍ يوضحه. فمن ذهب عنه فإليه يرجع، ومَن دفع حكمه فبه يُحاجُّ خصيمه، إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية التي بالعباد إليها أعظم حاجة. فمَن ردَّ من مدَّعِي البحث والنظر حكومته ودفع قضيته فقد كابَرَ وعاند، ولم يكن لأحدٍ سبيل إلى إفهامه ولا محاجته ولا تقرير الصواب عنده. وليس لأحدٍ أن يقول إني غير راضٍ بحكمه بل بحكم العقل، فإنه متى ردَّ حُكمه فقد ردَّ حكم العقل الصريح، وعانَدَ الكتاب والعقل.
والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما؛ إنما أُتوا مِن جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقولٍ معقولًا، وهو في الحقيقة شبهات توهَّم أنه عقلٌ
صريحٌ، وليست كذلك؛ أو مِن جهلهم بالسمع، إمَّا نسبتهم إلى الرسول ما لم يقله أو نسبتهم إليه ما لم
(1)
يرده بقوله، وإمَّا لعدم تفريقهم بين ما لا يُدرك بالعقول وبين ما لا يُدرك استحالته بالعقول. فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظنَّ التعارض بين السمع والعقل:
أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول.
الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول.
الثالث: عدم فَهم مراد المتكلم به.
الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله
(2)
العقل وما لا يدركه.
والله سبحانه حاجَّ عباده على أَلسُن رسله وأنبيائه فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إيَّاه بأقربِ الطرق إلى العقل، وأسهلِها تناولًا، وأقلها تكلفًا، وأعظمها غَناءً ونفعًا، وأجلِّها ثمرةً وفائدةً. فحُجَجه سبحانه العقلية التي بيَّنها في كتابه جمعت بين كونها عقليةً سمعيةً ظاهرةً واضحةً، قليلةَ المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة الشكوك والشُّبه، مُلزِمة للمعاند والجاحد. ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ، ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبَّع المتتبِّع ما في كتاب الله ممَّا حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد وإثبات الصِّفات وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفيٍّ وظاهرٍ، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما
ذكرناه مِن تصرُّف
(1)
المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحِجَاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمةً للعقول، وأبعدها من الشكوك والشُّبه، في أوجز لفظٍ وأبينِه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقِه
(2)
وأدله على المراد.
وذلك مثل قوله تعالى فيما حاجَّ به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك، وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها:{قُلُ اُدْعُوا اُلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَلَا فِي اِلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ اُلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أُذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اُلْحَقَّ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23].
فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين مَجامع
(3)
الطُّرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سدٍّ وأبلغه! فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو مِن نفعه، وإلَّا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلق قلبه به
(4)
، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا ووزيرًا ومعاونًا
(5)
له، أو وجيهًا ذا حُرمةٍ وقدرٍ يشفع عنده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجهٍ وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.
(1)
هنا انتهى السقط من «ح» .
(2)
«ح» : «وأرسنه» .
(3)
«ب» : «بمجامع» .
(4)
«به» ليس في «ح» .
(5)
«ح» : «أو وزيرا أو معاونا» .
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرةٍ في السماوات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكةٌ لمالك
(1)
الحق، فنفى شركتها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيرًا ووزيرًا ومعاونين
(2)
، فقال:{وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} فلم يبق إلَّا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع. فإن
(3)
لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق
(4)
المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له، فيقبل شفاعته، وإن لم يأذن له فيها. وأمَّا مَن كلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بذاته، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فكيف يشفع عنده [ق 26 أ] أحدٌ بدون إذنه.
وكذلك قوله سبحانه مقرِّرًا لبرهان التوحيد أحسن تقرير وأوجزه وأبلغه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لَّاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي اِلْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون بأنها عبيده ومماليكه ومحتاجةٌ إليه، فلو كانوا آلهةً كما يقولون لعبدوه وتقربوا إليه وحده دون غيره، فكيف يعبدونهم من دونه.
وقد أفصحَ سبحانه بهذا بعينه في قوله: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ اِلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] أي: هؤلاء الذين يعبدونهم مِن دوني هم عبيدي ـ كما أنتم عبيدي ـ يرجون
(1)
«ب» : «المالك» .
(2)
كذا في النسختين، والذي في «م»:«ومعاونًا» .
(3)
«ح» : «وإن» .
(4)
«ح» : «بأحق» .
رحمتي، ويخافون عذابي، كما ترجون أنتم رحمتي، وتخافون عذابي، فلماذا تعبدونهم من دوني؟
وقال تعالى: {مَا اَتَّخَذَ اَللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 92]. فتأمَّلْ هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البيِّن
(1)
، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا، يُوصِل إلى عابده النفعَ، ويدفع عنه الضرَّ، فلو كان معه سبحانه إلهٌ لكان له خلقٌ وفعلٌ، وحينئذٍ فلا يرضى بشركة الإله الآخر
(2)
معه، بل إنْ قَدَر على قهره وتفرُّده بالإلهية دونه فعَلَ
(3)
، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخَلْقه وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضًا بممالكهم
(4)
؛ إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد أمورٍ ثلاثة:
إمَّا أن يذهب كل إلهٍ بخَلْقه وسلطانه.
وإمَّا أن يعلو بعضهم على بعضٍ.
وإمَّا أن يكون كلهم تحت
(5)
قهر إلهٍ واحدٍ وملكٍ واحدٍ، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع مِن حُكمهم عليه
(6)
، ولا يمتنعون مِن حُكمه
(1)
«البين» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «الآمر» .
(3)
«ح» : «فعلي» .
(4)
«ح» : «بمماليكهم» .
(5)
«تحت» ليس في «ح» .
(6)
«عليه» ليس في «ح» .
عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون.
وانتظامُ أمر العالم العلوي والسفلي، وارتباطُ بعضه ببعضٍ، وجريانُه على نظامٍ محكمٍ لا يختلف ولا يفسد = من أدلِّ دليلٍ على أن مدبره واحدٌ لا إله غيره، كما دلَّ
(1)
دليل التمانع على أن خالقه واحدٌ لا ربَّ له غيره، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في الغاية والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربَّانِ
(2)
خالقينِ متكافئينِ
(3)
، يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.
ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اُللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 10]. فلله ما أحلى هذا اللفظَ وأوجزَه وأدلَّه على بطلان الشرك، فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خَلقت شيئًا مع الله طُولبوا بأن يُروه إيَّاه، وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلاهيَّتها باطلًا ومحالًا.
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اِلسَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 3]، فطالبهم بالدليل العقلي والسمعي.
(1)
«ب» : «يدل» .
(2)
«ح» : «ربين» .
(3)
كذا في النسخ.
تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق، وعلى بطلان إلاهية ما سواه بعجزهم عن الخَلْق، وعلى أنه واحدٌ بأنه قهار، والقهر التام يستلزم الوحدة، فإن الشركة تنافي تمام القهر.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71 ) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 71 - 72]. فتأمَّلْ هذا المثل ـ الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يستمعه
(1)
فقد عصى أمره ـ كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصحِّ برهانٍ في أوجز عبارةٍ وأحسنها وأحلاها، وأَسْجَلَ
(2)
على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيدٍ واحدٍ، وساعد بعضهم بعضًا وعاونه بأبلغ المعاونة، لَعجزوا عن خَلْق ذبابٍ واحدٍ. ثم بيَّن
(3)
ضعفهم وعجزهم عنِ استنقاذ ما يسلبهم الذباب إيَّاه حين يسقط عليهم. فأي شيءٍ
(4)
أضعف من هذا الإله المطلوب، ومِن عابدِه الطالبِ نفعَه وخيرَه
(5)
! فهل قدَّر القويَّ العزيزَ حقَّ قدره من أشرك معه آلهةً هذا شأنها!
فأقام سبحانه حُجة التوحيد، وبيَّن إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموضٌ، ولم يُشِنْها تطويلٌ، ولم يعبها
(1)
«ح» : «يسمعه» .
(2)
أسجلَ لهم الأمرَ: أطلقه لهم. «تاج العروس» (14/ 334).
(3)
«ح» : «تبين» .
(4)
«ح» : «إله من» .
(5)
«ح» : «وحده» .
تقصيرٌ
(1)
، ولم يُزْرِ
(2)
بها زيادةٌ ولا نقصٌ، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهم متوهمٌ ولا يظن ظانٌّ أن يكون أبلغَ في معناها منها. وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجلُّ من الألفاظ.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله، وصحة [ق 26 ب] ما جاء به من الكتاب، وأنه من عنده وكلامه الذي تكلَّم
(3)
به، وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم = بقوله:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 22]. فأمر مَن ارتاب في هذا القرآن الذي نزَّله على
(4)
عبده وأنه كلامه أن يأتي بسورةٍ واحدةٍ مثله، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره. ثم فسحَ له إن عجزَ عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانةُ
(5)
به من المخلوقين، وقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقال:{أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (31 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 31 - 32].
(1)
«ح» : «تعقيد» .
(2)
«ح» : «تزر» .
(3)
«ح» : «يتكلم» .
(4)
«على» سقط من «ح» .
(5)
«ح» : «لاستعماله» .
ثم أَسجَلَ سبحانه عليهم إسجالًا عامًّا في كل
(1)
زمانٍ ومكانٍ بعجزهم عن ذلك، ولو تظاهر عليه الثقلان، فقال:{قُل لَّئِنِ اِجْتَمَعَتِ اِلْإِنسُ وَاَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فانظر أي موقعٍ يقع من الأسماع والقلوب هذا الحِجَاج القاطع الجليل الواضح، الذي لا يجد طالبُ الحقِّ ومُؤثِره ومريده
(2)
عنه مَحيدًا، ولا فوقه مزيدًا، ولا وراءه غاية، ولا أظهر منه آية، ولا أصحَّ منه
(3)
برهانًا، ولا أبلغ منه بيانًا.
وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمُّل دعوته وما جاء به: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اُلْأَوَّلِينَ ( 69 ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (70) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69 - 71]. فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمُّل حال القائل، فإن كون القول
(4)
كذبًا وزورًا يُعلم من نفس القول تارةً، وتناقُضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب بادٍ على صفحاته، وبادٍ
(5)
على ظاهره وباطنه. ويُعرف من حال القائل تارةً؛ فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلَّا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البارِّ الصادق، المبرَّأ من
(1)
«كل» سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «ويريده وليس» .
(3)
«منه» ليس في «ح» .
(4)
بعده في «ح» : «للشيء» .
(5)
«ح» : «مباد» . ومن قوله «وظهور شواهد» إلى هنا سقط من «ب» .
كل فاحشةٍ وغدرٍ وكذبٍ وفجورٍ، بل قلب
(1)
هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضًا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده يشبه
(2)
بعضُه بعضًا. فدعاهم سبحانه إلى تدبُّر القول، وتأمُّل سيرة القائل وأحواله، وحينئذٍ يتبين لهم حقيقة الأمر، وأن ما جاء به في
(3)
أعلى مراتب الصدق.
وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْراكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثتُّ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. فتأمَّلْ هاتين الحُجتين القاطعتين تحت هذا اللفظ الوجيز:
إحداهما: أن هذا من الله لا مِن قِبَلي، ولا هو مقدور لي، ولا من جنس مقدور البشر، وأن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم وأفهامكم، فلم أتمكن من تلاوته عليكم، ولم تتمكنوا من درايته وفَهْمه.
الحُجة الثانية: أني قد لبثتُ فيكم عُمُري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي، وتصحبوني
(4)
حضرًا وسفرًا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي، هل كانت سيرة مَن هو مِن أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم؟ فإنه لا أكذبَ ولا أظلم ولا أقبح سيرةً ممَّن جاهَرَ ربَّه وخالقه بالكذب والفِرية عليه، وطلب إفساد العالم، وظلم النفوس، والبغي في الأرض بغير الحق. هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابًا ولا أخطُّه
(1)
«ح» : «قلت» .
(2)
«ح» : «نسبة» .
(3)
«ح» : «من» .
(4)
قوله: «تشاهدوني» ، «وتصحبوني» كذا في النسختين بحذف نون الرفع.
بيميني، ولا صاحبت من أتعلم منه، بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما
(1)
لم أشارككم فيه بوجهٍ، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علمُ الأولين والآخرين وعلمُ ما كان وما
(2)
سيكون على التفصيل. فأي برهانٍ أوضح من هذا، وأي عبارةٍ أفصح
(3)
وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له؟
وقال تعالى: {* قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. ولمَّا كان للإنسان
(4)
ـ الذي يطلب معرفة الحق والصواب ـ حالتان
(5)
:
إحداهما
(6)
: أن يكون ناظرًا مع نفسه.
والثانية: أن يكون مناظرًا لغيره
(7)
.
أمَرَهم بخَصلةٍ واحدةٍ، وهي أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران ويتساءلان بينهما، وواحدًا واحدًا، يقوم كل واحدٍ مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلةَ الصدق والكذب، ويعرض ما جاء
(1)
«ح» : «مما» .
(2)
«ما» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «أنصح» .
(4)
«ح» : «الإنسان» .
(5)
النسختين: «حالتين» . والمثبت من «م» : «حالتان» . وهو الصواب.
(6)
«ح» : «أحدهما» .
(7)
«ح» : «لمعرفة» .
به عليها ليتبين
(1)
له حقيقة الحال، فهذا هو الحِجاج الجليل والإنصاف البيِّن والنصح التام.
وقال سبحانه في تثبيت أمر البعث [ق 27 أ]: {* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ (77) قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 - 78] إلى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحُجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه
(2)
هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ووضوح الدلالة وصحة البرهان، لَألفى نفسه ظاهر العجز منقطعَ الطمع مستحكم اليأس
(3)
من ذلك.
فإنه سبحانه افتتح هذه الحُجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابًا، فكان في قوله سبحانه:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفَّى بالجواب، وأقام الحُجة، وأزال الشُّبهة، لولا ما أراد سبحانه من تأكيد
(4)
حُجته وزيادة تقريرها، وذلك أنه سبحانه أخبر أن هذا الملحد السائل عن هذه المسألة لو لم ينسَ خَلْق نفسه وبدْء كونه
(5)
وذِكْر خَلْقه لكانت فكرته فيه كافية في جوابه، مُسكِتة له عن هذا السؤال.
ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ، وصرَّح به جوابًا له عن مسألته، فقال:{قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78]. فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقلٍ يعلم
(1)
«ح» : «لتبين» .
(2)
«ح» : «مشابه» .
(3)
في النسختين: «يستحكم الناس» . والمثبت هو الصواب إن شاء الله.
(4)
«ح» : «تأكيده» .
(5)
«ح» : «وتذاكر به» .
علمًا ضروريًّا أن مَن قدر على هذه قدر على هذه، وأنه
(1)
لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز.
ولما كان الخَلْق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78]، فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وجزئياته ومواده وصورته وعلله الأربع، وكذلك هو عليم بالخلق الثاني وتفاصيله ومواده وكيفية إنشائه. فإذا كان تامَّ العلم كاملَ القدرة، فكيف
(2)
يتعذر عليه أن يُحْيي العظام وهي رميمٌ.
ثم أكَّد الأمر بحُجةٍ قاهرةٍ وبرهانٍ ظاهرٍ يتضمن جوابًا عن سؤال ملحدٍ آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردةً يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعةً حارة رطبة لتقبل صورة الحياة. فتولَّى سبحانه جواب هذا السؤال
(3)
بما يدل على أمر البعث؛ ففيه الدليل والجواب معًا، فقال:{اِلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَلشَّجَرِ اِلْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 79]، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة. فالذي يخرج الشيء من ضدِّه، وتنقاد
(4)
له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي
(5)
عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه مِن إحياء
(1)
«وأنه» سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «كيف» .
(3)
من قوله: «رطبة لتقبل» إلى هنا سقط من «ح» .
(4)
«ح» : «ينقاد» .
(5)
«ح» : «يستعصي» .
العظام وهي رميم.
ثم
(1)
أكَّد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ
(2)
الأعظم على الأيسر الأصغر، وأن كل عاقلٍ يعلم أن مَن قدَرَ على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثيرٍ أقدرُ وأقدر
(3)
، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال:{أَوَلَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 80]. فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السماواتِ والأرضَ
(4)
على جلالتهما، وعِظَم شأنهما، وكبر أجسامهما وسعتهما، وعجيب خلقتهما = أقدرُ على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر:{لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتَى}
(5)
[الأحقاف: 32].
ثم أكَّد
(6)
سبحانه ذلك وبيَّنه ببيانٍ آخر يتضمَّن مع إقامة الحُجة دفْعَ شبهةِ كل ملحدٍ وجاحدٍ، وهو أنه ليس في فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكُلْفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلةٍ
(1)
«ثم» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «الأصلي» .
(3)
«وأقدر» ليس في «ح» .
(4)
من قوله: {بِقَادِرٍ عَلَى} إلى هنا سقط من «ح» .
(5)
النسختين: «أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يحيي الموتى» . وقد أدخل آيتين بعضهما في بعض.
(6)
«ح» : «أخذ» .
ومشاركٍ ومعينٍ، بل
(1)
يكفي في خَلْقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفسُ إرادته، وقوله للمكوَّن: كن، فإذا هو كائنٌ كما شاءه وأراده. فأخبر عن نفاذ مشيئته وإرادته، وسرعة تكوينه وانقياد المكوَّن له، وعدم استعصائه عليه.
ثم ختم هذه الحُجة بإخباره أن ملكوت كل شيءٍ بيده، فيتصرف فيه بفعله، وهو
(2)
قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82].
فتبارك الذي تكلَّم
(3)
بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوَجَازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل وجواب الشبهة، ودحْض حُجة الملحد، وإسكات المعاند، بألفاظٍ لا أعذب منها عند السمع، ولا أحلى منها
(4)
ومن
(5)
معانيها للقلب، ولا أنفع من ثمرتها للعبد.
فتأمَّلْ ما أُجيبوا به عن كل سؤال سؤال
(6)
على التفصيل، فإنهم قالوا
(1)
«ب» : «ما» .
(2)
«ح» : «و» .
(3)
«ح» : «يعلم» .
(4)
«ب» : «أعلى من» .
(5)
«ح» : «من» .
(6)
«سؤال» ليس في «ح» .
أولًا: {أَاذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} ، فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالقَ لكم ولا ربَّ فهلا كنتم خَلْقًا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، أو
(1)
ما هو أكبر في صدوركم من ذلك. فإن قلتم: لنا ربٌّ خالقٌ خلقنا على هذه الصفة، وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء، ولم يجعلنا حجارة [ق 27 ب] ولا حديدًا = فقد قامت عليكم الحُجة بإقراركم، فما الذي يحول بين خالقكم ومُنشِئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا.
وللحُجة تقرير آخر وهو: أنكم لو كنتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو خلقٍ أكبر منهما لكان قادرًا على أن يُفنِيكم، ويُحِيل ذواتكم وينقلها من حالٍ إلى حالٍ. ومَن قَدَر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ونقْلِها من حالٍ إلى حالٍ، فما يُعجِزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حالٍ إلى حالٍ؟
فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالًا آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفَنِيَت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ اِلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]. وهذا الجواب نظير جواب قول السائل: {مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77]. فلمَّا أخذتهم الحُجة، ولزمهم حُكمُها، ولم يجدوا عنها معدلًا = انتقلوا إلى سؤالٍ آخر يتعللون به كما يتعلل المقطوع بالحِجاج بمثل ذلك، وهو قولهم:{مَتَى هُوَ} .فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثتُّمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 51 - 52].
(1)
«ح» : «و» .
ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسِبُ اُلْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (35) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى (36) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى (37) فَجَعَلَ مِنْهُ اُلزَّوْجَيْنِ اِلذَّكَرَ وَاَلْأُنثى (38) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتى} [القيامة: 35 - 39]. فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسانَ مهملًا معطلًا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حِكمته وقدرته تأبى ذلك. فإن مَن نقَلَه من نطفة منيٍّ إلى العَلَقة، ثم إلى المُضْغة، ثم خَلَقه وشقَّ سمعَه وبصرَه، وركَّب فيه الحواسَّ والقُوى والعظام والمنافع، والأعصاب والرباطات التي هي أَسْرُه
(1)
، وأتقن خلقَه وأحكمه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتمُّ الصور وأحسن الأشكال، كيف يَعجِز عن إعادته وإنشائه مرةً ثانيةً؟! أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سُدًى؟! فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الحِجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجزُ منه، والبيان الجليل الذي لا يُتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب
(2)
الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكذلك ما احتجَّ به سبحانه على النصارى مُبطِلًا لدعوى إلهية المسيح كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاَتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17]، فأخبر أن هذا الذي أضافه مَن نسَبَ الولدَ إلى الله من مشركي العرب والنصارى غير سائغٍ في العقول إذا تأمله المتأمل. ولو أراد الله أن يفعل هذا
(1)
الأَسْر الشد بالإسار، والعصب كالإسار، وقد أَسَرْتُه أسرًا وإسارًا، والأسر في كلام العرب: شدة الخلق. «تاج العروس» (10/ 48).
(2)
«ح» : «أقرب» .
لكان يصطفي لنفسه، ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر، المجبول على الثبات والبقاء، لا من جوهر هذا العالَم الفاني الداثر
(1)
الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار.
ولمَّا كان هذا الحِجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. ونظير هذا قوله: {لَّوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاَصْطَفَى ممَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 5]
وقال سبحانه: {مَّا اَلْمَسِيحُ اُبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ اِلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ اِلطَّعَامَ اَنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اُلْأيَاتِ ثُمَّ اَنظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 77] وقد تضمنت هذه الحُجة دليلين يبطلان إلهيَّة المسيح وأمه:
أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب، وضعف بِنْيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يُقِيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهًا؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنيًّا.
الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه، بل يستحي من التصريح بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ كنَّى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة،
(1)
في النسختين: «الدائر» . ولعل الصواب ما أثبته. والداثر: الدارس، يقال: دثَرَ الرسمُ وتداثر واندثر: قَدُمَ ودرَسَ وعفا. «تاج العروس» (11/ 270 - 271).
فكيف يليق بالربِّ سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدًا من هذا الجنس؟! ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأَوْلى به أن يكون من جنسٍ لا يأكل ولا يشرب، ولا يكون منه الفضلات المستقذَرة التي يُستحى منها ويُرغب عن ذكرها.
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مَغْمزًا له، ولا مَطْعنًا فيه، ولا تشكيكًا ولا سؤالًا يُورِده عليه، بل يأخذ بقلبه وسمعه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهْوَ كَظِيمٌ 16 أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 16 - 17]. احتجَّ سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات، وإذا بُشِّر بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السوادُ على وجهه، فإذا كان أحدكم لا يرضى بالإناث بناتًا
(1)
؛ فكيف تجعلونها لي؟! كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62].
ثم ذكر سبحانه ضَعْف هذا الجنس الذي جعلوه له، وأنه أنقصُ الجنسين، ولهذا يحتاج في كماله إلى الحلية [ق 28 أ] وأضعفهما بيانًا، فقال تعالى:{أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 17]، فأشار بنشأتهن في الحلية إلى أنهن
(2)
ناقصات، فيحتجن إلى حلية يَكمُلن بها، وأنهن عَيِيَّات فلا يُبِنَّ عن حُجتهن وقت الخصومة.
(1)
كذا منصوبًا بالفتحة، قال السيوطي في «همع الهوامع» (1/ 67):«ما جُمع بألف وتاء فينصب بالكسرة، وأجاز الكوفية الفتح» .
(2)
في النسختين: «أنها» . والمثبت من «م» .
مع أن في قوله: {أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ} تعريضًا بما وُضِعَت له الحليةُ من التزين
(1)
لمن يستفرشهن ويطؤهن، وتعريضًا بأنهن لا ينشأن في الحرب والطِّعَان والشجاعة، فذكر الحلية التي هي علامة الضعف والعجز والوهَن.
ومن هذا ما حكاه سبحانه في
(2)
فهذا الكلام لم يخرج في ظاهره مخرجَ كلام البشر الذي يتكلَّفه أهل النظر والجدال والمقايسة والمعارضة، بل خرج في صورة كلامٍ خبريٍّ يشتمل
(3)
على مبادئ الحِجاج ومقاطعه
(4)
، مشيرًا إلى مقدمات الدليل ونتائجه
(5)
بأوضح عبارةٍ وأفصحها وأقربها تناولًا.
والغرض منه أن إبراهيم قال لقومه متعجبًا ممَّا دعوه إليه من الشرك: أتحاجُّوني في الله، وتطمعون أن تستنزلوني عن توحيده بعد أن هداني، وتأكدت بصيرتي، واستحكمت معرفتي بتوحيده بالهداية التي رَزَقَنيها، وقد
(1)
«التزين» . في «ح» ، «م»:«القرين» . وفي «ب» : «الزين» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ب» : «من» .
(3)
«ب» : «مشتمل» .
(4)
«ومقاطعه» ليس في «ح» .
(5)
«ب» : «وتناسخه» .
علمتم أن من كانت هذه حاله في اعتقاده أمرًا من الأمور عن بصيرةٍ لا يعارضه فيها ريبٌ ولا يتخالجه فيها شكٌّ؛ فلا سبيل إلى استنزاله عنها
(1)
.
وأيضًا فإن المُحاجَّة والمجادلة بعد وضوح الشيء وظهوره نوعٌ من العبث، بمنزلة المُحاجة
(2)
في طلوع الشمس وقد رآها مَن تحاجُّونه بعينه، فكيف يؤثر حجاجكم له أنها لم
(3)
تطلع بعد؟!
ثم قال: ولا أخاف ما أشركتم إلَّا أن يشاء ربي شيئًا. فكأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يذكر أنهم خوَّفوه آلهتهم أن يناله منها معرَّةٌ، كما قاله قوم هود له:{إِن نَّقُولُ إِلَّا اَعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] فقال إبراهيم: إن أصابني مكروهٌ، فليس ذلك من قبل هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله، وهي أقلُّ من ذلك، فإنها ليست ممَّا يُرجى ويُخاف، بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعَّال الذي يفعل ما يشاء، الذي بيده الضر والنفع، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم ذكر سَعة علمه سبحانه في هذا المقام منبهًا على موقع احترازٍ لطيفٍ، وهو أن لله سبحانه علمًا فيَّ وفيكم وفي هذه الآلهة لا يصل إليه علمي. فإذا شاء أمرًا من الأمور فهو أعلم بما يشاء
(4)
، فإنه وسع كل شيءٍ علمًا، فإن أراد أن يصيبني بمكروهٍ لا علم لي من أي جهةٍ أتاني؛ فعلمه محيطٌ بما لم أعلمه. وهذا غاية التفويض والتبرِّي من الحول والقوة وأسباب النجاة، وأنها بيد الله لا بيدي.
(1)
«ح» : «فيها» .
(2)
«ح» : «الحاجة» .
(3)
«لم» سقط من «ح» .
(4)
«ب» : «يشاؤه» .
وهكذا قال شعيب لقومه: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88]، فردَّت الرُّسل العلم بما يفعله الله إليه، وأنه إذا شاء شيئًا فهو أعلم بما يشاؤه، ولا علم لنا بامتناعه وعدم كونه.
ثم رجع الخليل إليهم مُقرِّرًا للحُجة فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 82].
يقول لقومه: كيف يسوغ في عقلٍ أو عند ذي لبٍّ أن أخاف ما جعلتموه لله شريكًا في الإلهية، وهي ليست بموضع نفعٍ ولا ضرٍّ، وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حُجة عليكم، ولا شرعها لكم. فالذي أشرك بخالقه وفاطره وبارئه ـ الذي يُقرُّ بأنه خالق السماوات والأرض، وربُّ كل شيءٍ ومليكه، ومالك الضر والنفع= آلهةً لا تخلق شيئًا وهي مخلوقةٌ، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ وجعلها ندًّا له
(1)
، ومثلًا في الإلهية تُعبَد ويُسجَد لها ويُخضَع لها ويُتقرَّب إليها= أحقُّ بالخوف ممَّن لم يجعل مع الله إلهًا آخر، بل وحَّده وأفرَده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء. فأي الفريقين أحقُّ بالأمن إن كنتم تعلمون؟!
فحكَمَ الله سبحانه بينهما بأحسن حكمٍ خضعت له القلوب، وأقرت به
(1)
«له» ليس في «ب» .
الفِطَر، وانقادت له العقول؛ فقال:{اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83].
فتأمل هذا الكلام وعجيبَ موقعه في قطع الخصوم، وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يردَّ به ما دعوه إليه وأرادوا حمْله عليه، وأخذه بمجامع الحُجة التي لم تُبقِ لطاعنٍ مطعنًا ولا سؤالًا. ولمَّا كانت بهذه المثابة أشاد
(1)
سبحانه بذكرها، وعظَّمها بالإشارة إليها، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لشأنها؛ فقال:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ} [الأنعام: 84][ق 28 ب]، فعلم السامع بإضافته إيَّاها إلى نفسه أنه هو الذي فهَّمها خليلَه ولقَّاه
(2)
إيَّاها، وعنه سبحانه أخذها الخليل. وكفى بحُجةٍ يكون الله عز وجل ملقِّيها
(3)
لخليله وحبيبه أن تكون قاطعةً لمواد العِناد، قامعةً لأهل الشرك والإلحاد.
وشبيهٌ
(4)
بهذا الاحتجاج القصة الثانية
(5)
لإبراهيم في محاجة المشرك الذي أخبر الله سبحانه عمَّا جرى بينه وبينه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اُللَّهُ اُلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي اِلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 257]، فإن
(1)
في النسختين: «أشار» . وهو تصحيف ما أثبت.
(2)
«ح» : «ولقاها» .
(3)
«ب» : «ملقنها» .
(4)
«وشبيه» سقط من «ح» .
(5)
«ح» : «الثابتة» .
مَن تأمَّلَ موقع الحِجاج وقطع المجادِل فيما تضمنته هذه الآية وقَفَ على أعظم برهانٍ بأوجز عبارةٍ. فإن إبراهيم لمَّا أجاب المُحاجَّ له في الله بأنه الذي يحيي ويُميت أخَذَ عدوُّ الله في
(1)
معارضته بضربٍ من المغالطة، وهو أنه يقتل مَن يريد ويستبقي مَن يريد، فقد أحيا هذا وأمات هذا. فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، إذا كان
(2)
بزعمه قد ساوى
(3)
الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقًا فليتصرف في الشمس تصرفًا تصحُّ به دعواه. وليس هذا انتقالًا من حُجة إلى حُجة أوضح منها ـ كما زعم بعض النُّظار ـ وإنما هو إلزام للمدَّعي بطرد حُجته إن كانت صحيحةً.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على إثبات علمه بالجزئيات كلها بأحسن دليلٍ وأوضحه وأصحه، حيث يقول:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اِلصُّدُورِ} [الملك: 14]، ثم قرَّر علمَه بذلك بقوله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهْوَ اَللَّطِيفُ اُلْخَبِيرُ} [الملك: 15]. وهذا من أبلغ التقرير، فإن الخالق لا بد أن يعلم مخلوقه، والصانع يعلم مصنوعه، وإذا كنتم مقرِّين بأنه خالقكم وخالق صدوركم
(4)
وما تضمنته، فكيف يخفى عليه وهي خَلْقُه؟! وهذا التقرير ممَّا يصعب على القدرية فهمُه، فإنه لم يخلق عندهم ما في الصدور، فلم يكن في الآية على أصولهم دليلٌ على علمه بها، ولهذا طرد غلاة القوم
(1)
«في» سقط من النسختين، وأثبته من «م» .
(2)
«إذا كان» سقط من «ح» .
(3)
«ح» : «تساوى» .
(4)
«ح» : «صوركم» .
ذلك ونفوا علمه؛ فأكفرهم السلف قاطبةً.
وهذا التقرير من الآية صحيحٌ على التقديرين، أعني: تقدير أن تكون «مَن» في محل رفع على الفاعلية، وفي محل نصب على المفعولية، فعلى التقدير الأول: ألا يعلم الخالق الذي شأنه الخلق. وعلى التقدير الثاني
(1)
: ألا يعلم الربُّ مخلوقَه ومصنوعه
(2)
.
ثم ختم الحُجة باسمَيْنِ مقتضيين لثبوتها، وهما:
{اَللَّطِيفُ} : الذي لَطُفَ صُنْعُه وحكمته ودقَّ حتى عجزت عنه الأفهام.
و {اُلْخَبِيرُ} الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها.
فكيف يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور؟!
ومن هذا احتجاجه سبحانه على المشركين بالدليل المقسم الحاصر
(3)
الذي لا يجد سامعه إلى ردِّه ولا معارضته سبيلًا، حيث يقول تبارك وتعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ (33 ) أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 33 - 34]. فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحُجة بأقرب طريقٍ وأفصح عبارةٍ. يقول تعالى: هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا، فهل خُلقوا من غير خالقٍ خلقهم، فهذا من المحال الممتنع عند كل
(1)
من قوله: «ألا يعلم الخالق» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
ذكَرَ القولين الواحديُّ في «التفسير البسيط» (22/ 51 - 52) والبغوي في «معالم التنزيل» (8/ 178).
(3)
«ح» : «الخاص» .
مَن له فهمٌ وعقلٌ أن يكون مصنوعٌ من غير صانعٍ، ومخلوقٌ من غير خالقٍ. ولو مرَّ رجلٌ بأرضٍ قفرٍ لا بناءَ فيها، ثم مرَّ بها فرأى فيها بنيانًا وقصورًا وعمارات مُحكَمة، لم يتخالجه شكٌّ ولا ريب أن صانعًا صنعها وبانيًا بناها.
ثم قال: {أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ} ، وهذا أيضًا من المستحيل أن يكون العبد موجِدًا خالقًا لنفسه، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعةً واحدةً، ولا إصبعًا ولا ظفرًا ولا شعرة، كيف يكون خالقًا لنفسه في حال عدمه؟
وإذا بطل القسمان تعيَّن أن لهم خالقًا خلقهم، وفاطرًا فطرهم، فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر، فكيف يشركون به إلهًا غيره، وهو وحده الخالق لهم؟
فإن قيل فما موقع قوله: {أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [الطور: 34] من هذه الحجة؟
قيل: أحسن موقعٍ، فإنه بيَّن بالقسمين الأولين أن لهم خالقًا وفاطرًا وأنهم مخلوقون، وبيَّن بالقسم الثالث أنهم بعد أن وُجدوا وخُلقوا فهم عاجزون غير خالقين، وإنهم لم
(1)
يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السماوات والأرض، وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، فهو المتفرِّد بخلق المسكن والساكن، بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه.
ومِن هذا ما حكاه الله سبحانه عن محاجة صاحب يس لقومه بقوله: {قَالَ
(1)
«ح» : «فإنهم لا» .
يَاقَوْمِ اِتَّبِعُوا اُلْمُرْسَلِينَ (19 ) اَتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 19 - 20]. فنبَّه على موجِب الاتباع، وهو كون المتبوع رسولًا لمن لا ينبغي أن يُخالف ولا يُعصى، وأنه على هداية، ونبَّه على انتفاء
(1)
المانع، وهو عدم سؤال الأجر، فلا يريد منكم دنيًا [ق 29 أ] ولا رياسة، فموجِب الاتباع كونه مهتديًا، والمانع منه منتفٍ، وهو طلب العلو في الأرض والفساد وطلب الأجر.
ثم
(2)
قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 21] أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم، ونبَّه على أن عبادة العبد لمن فطره أمرٌ واجبٌ في العقول، مستهجنٌ تركها، قبيحٌ الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعد
(3)
تابعةٌ لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم ومحبة المحسن ـ ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك؛ فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع ـ ثم أقبل
(4)
عليهم مخوِّفًا لهم تخويف الناصح فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 21]
ثم أخبر عن الآلهة التي تُعبَد من دونه أنها باطلةٌ، وأن عبادتها باطلةٌ، فقال: {آاتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ
(5)
اِلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ
(1)
«ح» : «انتقال» .
(2)
«ثم» ليس في «ح» .
(3)
«بعد» ليس في «ح» .
(4)
«ح» : «اجعل» .
(5)
في «النسختين» : «يردني» بإثبات الياء، وهي قراءة، قال ابن الجزري في «النشر في القراءات العشر» (2/ 188 - 189): «وأما {إن يردن} فأثبت الياء فيها مفتوحة في الوصل أبو جعفر وأثبتها ساكنة في الوقف أبو جعفر أيضًا
…
وتقدم مذهب يعقوب في الوقف عليها بالياء من باب الوقف، وحذفها الباقون في الحالين».
شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ} [يس:22] فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقتَ حاجته إليه، وإنما إذا أرادنِيَ الرحمنُ الذي فطرني بضرٍّ لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضرِّ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه، لأتخلص من ذلك الضرِّ؛ فبأي وجهٍ يستحق العبادة؟ {إِنِّيَ إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يس: 23] إنْ عبدتُ من دون الله ما هذا شأنه.
وهذا الذي ذكرناه من حِجاج القرآن يسيرٌ من كثيرٍ، وإنما نبَّهنا على ما لم نذكر منه. والمقصود أنه متضمِّنٌ للأدلة
(1)
العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمعَ في التشكيك والأَسْوِلة عليها إلَّا لمعاندٍ مكابرٍ.
والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطلٍ حُجةً نقليةً ولا عقليةً. أمَّا النقل فلأنه عنده قابلُ التأويل وهو لا يُفيد اليقين، وأمَّا العقل فلأنه قد خرج عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها عن ظواهرها وحقائقها، فصارت تلك القواعد الباطلة حجابًا بينه وبين العقل والسمع، فإذا احتجَّ على خصمه بحُجةٍ عقليةٍ نازعه خصمه في مقدماتها بما سَلِمَ له من القواعد التي يخالفها، فإن المعقول الصريح هو ما دلت عليه النصوص، فإذا أبطله
(2)
بالتأويل لم يبقَ معه معقولٌ صحيحٌ يحتجُّ به على خَصْمه، كما لم يبقَ معه منقولٌ صريحٌ؛ فإنه قد عرض المنقول للتأويل، والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول.
(1)
«ح» : «يتضمن الأدلة» .
(2)
«ح» : «بطل» .
ومثال هذا أن العقل الصريح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حُكمًا لا يقبل الغلط، أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما؛ إمَّا أن يكون كل منهما مُبايِنة للأخرى أو مُحايِثة لها، وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة
(1)
بنفسها وهذه قائمة بنفسها، وإحداهما ليست فوق الأخرى ولا تحتها، ولا عن يمينها ولا عن يسارها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا متصلة بها
(2)
ولا منفصلة عنها، ولا مُجاوِرة لها ولا مُحايِثة، ولا داخلة فيها ولا خارجة عنها.
فإذا خُولِفَ
(3)
مقتضى هذا المعقول الصريح ودُفِعَ موجبُه، فأي دليلٍ عقليٍّ احتجَّ به المخالفُ بعد هذا على مبطلٍ أمكنه دفعه بما دفع هو به حُكم هذا العقل؟! فإذا قال الجهمي: هذا من حُكم الوَهْم لا من حكم العقل، قال له خصمه فيما احتج به عليه من قضايا العقل: هذا أيضًا مِن حُكم الوهم.
فإنك لو قلتَ
(4)
: إن في النفس حاكمينِ: الوهم والعقل، فإذا ادعيتَ فيما تشهد به العقول والفِطَر أنه من حكم الوهم، كان ادعاء ذلك فيما هو دون هذه القضية بكثيرٍ أقرب وأقرب. وأمثلة ذلك لا يتسع لها هذا الموضع.
وإذا تأمَّلتَ القواعد الحاملة لأرباب التأويل عليه وجدتَها مخالفةً لصريح العقل
(5)
، ومَن خالفَ صريحَ العقل لم تقم له حُجةٌ عقليةٌ ولا سمعيةٌ، وبالله التوفيق.
* * * * *
(1)
«ح» : «فإنه» .
(2)
«بها» ليس في «ح» .
(3)
«ب» : «خلف» .
(4)
«ب» : «أعطيت» .
(5)
«ح» : «تخالفه تصريح» .
الفصل الحادي والعشرون
في الأسباب الجالبة
(1)
للتأويل
وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع. فالسببان اللذان من المتكلم: إمَّا نقصان بيانه، وإمَّا سوء قَصْده. واللذان من السامع: إمَّا سوء فهمه، وإمَّا سوءُ قَصْده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وُجدت أو بعضها وقَعَ التأويل.
فنقول وبالله التوفيق: لمَّا كان المقصودُ من التخاطب التقاءَ قصْدِ المتكلم وفَهْم المخاطب على محزٍّ
(2)
واحدٍ، كان أصحَّ الأفهام وأسعد الناس بالخطاب ما التقى فيه فهْمُ السامع ومرادُ المتكلم. وهذا هو حقيقة الفقه الذي أثنى اللهُ ورسوله به على أهله وذمَّ مَن فقَدَه، فقال تعالى:{وَلَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]، وقال:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ اِلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 77]. وقال في الثناء على أهله: {قَدْ فَصَّلْنَا اَلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 99]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
(3)
. وقال لزياد بن لبيد: «إِنْ كُنْتُ لَأعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ»
(4)
.
(1)
«الجالبة» سقط من «ح» .
(2)
المحز: موضع الحز، أي: القطع. «تاج العروس» (15/ 110).
(3)
أخرج البخاري (71) ومسلم (1037) عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه الترمذي في «الجامع» (2653) والحاكم في «المستدرك» (1/ 99) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح من حديث البصريين» .
فالفقه فهمُ مقصود المتكلم من كلامه، وهذا أمرٌ
(1)
زائدٌ على مجرد الفهم.
فإذا كان المتكلم قد وفَّى البيانَ حقَّه وقصَدَ إفهامَ المخاطَب وإيضاحَ المعنى له وإحضارَه في ذهنه [ق 29 ب]، فوافَقَ مِن المخاطب معرفةً بلغة المتكلم وعُرفه المطَّرِد في خطابه، وعَلِمَ مِن كمال نصحِه أنه لا يقصد بخطابه التعميةَ والإلغاز، لم يخفَ عليه معنى كلامه، ولم يقع في قلبه شكٌّ في معرفة مراده.
وإن كان المتكلمُ قد قصَّر في بيانه، وخاطَبَ السامع بألفاظ مجمَلة تحتمل عدةَ معانٍ، ولم يبيِّن له ما أراده منها؛ فإن كان عاجزًا عن ذلك أُتي السامعُ مِن عجزِه لا مِن قصده، وإن كان قادرًا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فِعله أُتي السامعُ مِن سُوء قصده.
وقد يحسن ذلك من المتكلم إذا كان في التعمية على المخاطب مصلحةٌ راجحةٌ، فيتكلم بالمجمل لِيجعلَ
(2)
لنفسه سبيلًا إلى تفسيره بما يتخلص به، أو ليُوهِم السامع أنه أراد ما لا
(3)
يخاف إفهامَه إياه، أو لغير ذلك من الأسباب التي يحسن معها التعريضُ والكناية والخطاب بضدِّ البيان، وهذا من خاصة العقل. وقد قال تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاءِ} [البقرة: 233]. وفي الحديث: «إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ»
(4)
.
وقد عرَّضَ
(1)
«ح» : «الأمر» .
(2)
«ح» : «لتعجل» .
(3)
«لا» : ليس في «ح» .
(4)
أخرجه ابن الأعرابي في «المعجم» (993) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (327) وأبو الشيخ في «الأمثال» (230) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعًا.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (857) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ 106) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين رضي الله عنه موقوفًا، وقال البيهقي:«هذا هو الصحيح موقوف» .
وفي الباب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفًا، يُنظر:«المقاصد الحسنة» للسخاوي (227).
إبراهيم الخليل للجبار بقوله عن امرأته: «هَذِهِ أُخْتِي»
(1)
. وعرَّض النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله في طريقه ممَّن أنتم؟ فقال: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ»
(2)
. وعرَّضَ الصدِّيق لمن جعل يسأله في طريق الهجرة: مَن هذا معك؟ فقال: «هادٍ يَهديني السبيلَ»
(3)
.
فهذه المواضع ونحوها يحسُن فيها تركُ
(4)
البيان، إمَّا بكنايةٍ عن المقصود، أو تعريضٍ عنه. والفرق بينهما
(5)
أنه في الكناية قاصدٌ لإفهام المخاطب مرادَه بلفظ أخفى لا يفهمه كلُّ أحدٍ، فيكني عن المعنى الذي
(1)
أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» ـ كما في «تهذيب السيرة» لابن هشام (1/ 616) ـ ومن طريقه ابن جرير في «تاريخه» (2/ 435 - 436) عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا.
(3)
أخرجه البخاري (3911) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
«ترك» ليس في «ب» .
(5)
يُنظر للزيادة في بيان الفرق بين الكناية والتعريض: «المثل السائر» لضياء الدين ابن الأثير (3/ 49 - 57) و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور» له (ص 156 - 157).
يريده بلفظ أخفى من لفظه الصريح، كما كنَّى الله سبحانه عن الجماع بالدخول وبالمَسِّ واللمس والإفضاء، وكما يُكنى عن الفرج بالهَنِ، ونحو ذلك.
وأمَّا التعريض فإيهام
(1)
السامع معنًى ومرادُه
(2)
خلافه، كالتعريض بالقذف مثلًا. فإذا قال: ما أنا بزانٍ أوهَمَ
(3)
السامع نفي الزِّنا عن نفسه، ومراده إثباته للسامع، قال الحماسي
(4)
:
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ
…
لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا
كَأَنَّ رَبَّكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ
…
سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا
فإنه أوهم السامع تنزيههم عن الشرور ووصفهم بخشية الله، ومرادُه وصفُهم بالعجز والجبن.
ومثله قول الآخر
(5)
:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ
…
وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً
…
إِذا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَل
(1)
«ح» : «فإفهام» .
(2)
«ح» : «ويراد» .
(3)
«ح» : «أفهم» .
(4)
البيتان لقُرَيط بن أُنَيف أحد بني العنبر، يُنظر «ديوان الحماسة» لأبي تمام (1/ 57 - 58).
(5)
البيتان للنجاشي الحارثي، ينظر «الوحشيات» لأبي تمام (ص 215 - 216)، و «جمهرة الأمثال» للعسكري (1/ 81).
فصل
وأمَّا السببان اللذان من السامع، فأحدهما: سوءُ الفهم
(1)
.
فإن درجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط.
وقد سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل خصَّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ دون الناس فقال: «لا، والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرَأَ النسَمَةَ إلَّا
(2)
فَهْمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابِه، وما في هذه الصحيفةِ. وكان فيها العقل ـ أي: الدِّيَات ـ وفَكاكُ الأسيرِ»
(3)
.
وكان أبو بكر الصدِّيق أفهمَ الأُمة لكلام الله ورسوله. ولهذا لما أشكَل على عمر ـ مع قوة فَهْمه ـ قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: «إِنَّكُمْ تَأْتُونَهُ وَتَتَطَوَّفُونَ بِهِ
(4)
»، فأورده عليه عامَ الحديبية، فقال له الصدِّيق: أقال لك إنك تأتيه العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتِيهِ ومُطوِّفٌ
(5)
به. فأجابه بجواب النبي صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
لم يُفرِد المصنِّف رحمه الله الكلام على السبب الثاني، وهو سوء القصد، إنما أشار إليه إشارة.
(2)
«إلا» سقط من «ح» .
(3)
أخرجه البخاري (3047) ومسلم (78).
(4)
«ح» : «وتطوفونه» .
(5)
«ح» : «تأتيه وتطوف» .
(6)
أخرجه البخاري في «الصحيح» (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل.
وأشكَل عليه قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إَلَّا اللهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» . فقال: ألم يقل «إلَّا بِحَقِّهَا» ؟ فإن
(1)
الزكاة من حقها
(2)
.
ولمَّا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ» بكى أبو بكر، وقال:«نَفْدِيك بآبائنا وأُمَّهاتنا»
(3)
. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّرَ، وكان أبو بكر هو
(4)
أعلمَ الأُمة به.
وكذلك فَهِم عمرُ بن الخطاب وعبد الله بن عباس من سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اُللَّهِ وَاَلْفَتْحُ} أنها إعلامٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحضور أجله
(5)
.
وكذلك كان الصحابة أعلمَ الأُمة على الإطلاق، وبينهم وبين مَن بعدهم في العلم واليقين كما بينهم وبينهم في الفضل والدِّين. ولهذا كان ما فَهِمه الصحابةُ من القرآن أَوْلى أن يُصار إليه ممَّا فهمه مَن بعدهم.
فانضاف حُسنُ قصدِهم إلى حُسن فَهْمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يُحفَظ عنهم في ذلك خلافٌ لا مشهورٌ ولا شاذٌّ.
(1)
«ب» : «فإيتاء» .
(2)
أخرجه الشافعي في «مسنده» (678، 679) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأصله في البخاري (1399) ومسلم (20).
(3)
أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
«هو» ليس في «ب» .
(5)
أخرجه البخاري (3627) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فلمَّا حدث بعد انقضاء عصرهم مَنْ ساء فهمُه وساء قصدُه
(1)
وقعوا في أنواع من
(2)
التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد [ق 30 أ]. وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا
(3)
اجتمعا تولَّد من بينهما جهلٌ بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرَّم الله منهم.
وإذا تأملتَ أصول المذاهب الفاسدة رأيتَ أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلينِ، وحملهم عليها منافسةٌ في
(4)
رياسةٍ أو مالٍ أو توصُّلٍ إلى عَرَض من أعراض
(5)
الدُّنيا، تخطبه الآمالُ، وتتبعه الهممُ، وتشرئبُّ إليه النفوسُ، فيتفق للعبد شبهةٌ وشهوةٌ، وهما أصل كل فسادٍ، ومنشأ كل تأويلٍ باطلٍ.
وقد ذمَّ الله سبحانه مَن اتبع الظنّ وما تهوى الأنفس، فالظن: الشبهات وما تهوى الأنفس
(6)
: الشهوات، وهما اللذان ذكرهما في سورة براءة في قوله تعالى:{كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69].
فذكر الاستمتاعَ بالخَلاقِ، وهو التمتع بالشهوات، وهو نصيبهم الذي
(1)
وسوء القصد هو السبب الثاني الذي من السامع.
(2)
«من» ليس في «ب» .
(3)
«ب» : «فإذا» .
(4)
«في» ليس في «ح» .
(5)
«ب» : «غرض من أغراض» .
(6)
«فالظن الشبهات، وما تهوى الأنفس» . سقط من «ح» .
آثَروه في الدنيا على حظِّهم من الآخرة؛ والخوضَ الذي اتبعوا فيه الشُّبهاتِ. فاستمتعوا بالشهوات، وخاضوا بالشبهات، فنشأ عنهما التفرقُ المذموم الذي ذمَّ اللهُ أهله في كتابه، ونهى عبادَه المؤمنين عن التشبه بهم، فقال:{وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاَخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 105 - 106]. قال ابن عباس: «تبيضُّ وجوهُ أهل السُّنَّة والائتلاف، وتسودُّ وجوهُ أهل الفرقة والاختلاف»
(1)
.
وأخبر سبحانه أن الحامل لهم على التفرق بعد البيان إنما هو البغي، فقال تعالى:{* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اُلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هُدوا
(2)
لِمَا اختلف
(3)
فيه أهلُ التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق.
وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اُلْكِتَابَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3950) والآجري في «الشريعة» (2074) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (74) والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 375) وسندُه واهٍ جدًّا، يُنظر «تكميل النفع» للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف (ص 55).
(2)
«ح» : «وهدوا» .
(3)
«ح» : «اختلفوا» .
مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 12].
فأخبر سبحانه أن المختلفين بالتأويل لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرُّسل عليهم، وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم. وهذا كثير في القرآن، كقوله:{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اَخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93]. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَةُ
(1)
} [البينة: 4]. فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون، والحامل لهم على التفرق والاختلاف: البغي وسوء القصد.
* * * * *
(1)
«ب» : «البينات» .
الفصل الثاني والعشرون
في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل
وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم
الاختلاف في كتاب الله نوعان
(1)
:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين.
وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا اللهُ سبحانه عن التشبه بهم في قوله:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهم الذين تسودُّ وجوهُهم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 175]، فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاقٍ بعيدٍ
(2)
. وهذا النوع هو الذي وصف اللهُ أهله بالبغي، وهو الذي يُوجب الفرقةَ والاختلاف وفسادَ ذات البين، ويُوقع التحزب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمودٍ ومذمومٍ،
فمن أصاب الحقَّ فهو محمودٌ، ومَن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذمِّ موضوعٌ عنه، وهو محمودٌ في
(3)
اجتهاده معفوٌّ عن خطئه؛ وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذمومٌ.
(1)
ينظر «اقتضاء الصراط المستقيم» لشيخ الإسلام (1/ 130 - 148).
(2)
«فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاق بعيد» . سقط من «ح» .
(3)
«ب» : «على» .
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا اَقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 251]. وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8].
والاختلاف المذموم كثيرًا ما يكون مع كل فِرقةٍ من أهله بعضُ الحقِّ، فلا يقرُّ له خَصمه به، بل يجحده إيَّاه بغيًا ومنافسةً، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه. وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحقَّ مِن كل [ق 30 ب] مَن جاء به، فيأخذون حقَّ جميع الطوائف، ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لِمَا اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيْكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(1)
.
فمَن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَن كان، ولو كان مع مَن يُبْغِضُه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع من كان ولو كان مع مَن يحبه ويُوالِيه؛ فهو ممَّن هُدي لما اختلف فيه من الحقِّ، فهذا أعلم الناس،
(1)
أخرجه مسلم (770) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وأهداهم سبيلًا، وأقومهم قِيلًا.
وأهلُ هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمةٍ وهدًى، يقرُّ بعضهم بعضًا عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناصر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي، وإجالتهم الفِكرَ في الأسباب المُوصِلة إلى دَرَك الصواب، فيأتي كلٌّ منهم بما قَدَحَه زِنادُ فِكره، وأدركَه قوةُ بصيرته. فإذا قُوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعُرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، وتجرَّد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ
(1)
أن يخفى عليه الصوابُ من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ وما هو أقرب إليه
(2)
؛ فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب
(3)
وما هو أقرب إليه، والخطأ
(4)
وما
(5)
هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة.
وهذا النوع من الاختلاف لا يُوجِب معاداةً ولا افتراقًا في الكلمة، ولا تبديدًا للشمل؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائلَ كثيرةٍ من مسائل الفروع، كالجَدِّ مع الإخوة، وعِتق أُم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخليَّة والبريَّة والبتَّة، وفي بعض مسائل
(1)
«ح» : «قول» .
(2)
«والخطأ وما هو أقرب إليه» . سقط من «ح» .
(3)
«ب» : «صواب» .
(4)
«ح» : «وخطأ» .
(5)
«ح» : «ما» .
الربا، وفي بعض نواقص الوضوء، ومُوجِبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصبْ بعضُهم
(1)
لبعضٍ عداوةً، ولا قطع بينه وبينه عصمةً، بل كانوا كلٌّ منهم يجتهد في نصر قولِه بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الأُلفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يُضمِر بعضُهم لبعضٍ ضغنًا، ولا ينطوي له على مَعتبةٍ ولا ذمٍّ، بل يدلُّ المستفتيَ عليه مع مخالفته له
(2)
، ويشهد له بأنه خيرٌ منه وأعلم منه. فهذا الاختلاف أصحابُه بين الأجرين والأجر، وكلٌّ منهم مطيعٌ لله
(3)
بحسب نِيته واجتهاده وتحريه الحق.
وهنا نوع آخر من الاختلاف ـ وهو وِفاقٌ في الحقيقة ـ وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد
(4)
الاتفاق على جواز الجميع، كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يُحرِم به قاصدُ الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك، فهذا وإن كان صورتُه صورةَ اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة.
(1)
«بعضهم» سقط من «ح» .
(2)
«له» ليس في «ب» .
(3)
«ح» : «يطيع ذلك» .
(4)
هذا الحرف لم يظهر لي في «ح» .
فصل
و
وقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروريٌّ لا بد منه
(1)
؛ لِتفاوُتِ إراداتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم،
ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعضٍ وعدوانه، وإلَّا فإذا كان الاختلافُ على وجهٍ لا يُؤدي إلى التباين والتحزب، وكلٌّ من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمرٌ لا بد منه في النشأة الإنسانية.
ولكن إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدةً، والطريق المسلوكة واحدةً، لم يكد يقعُ اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، والقصدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظرُ في أدلة القرآن والسُّنَّة وتقديمها على كل قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ.
* * * * *
(1)
«منه» ليس في «ح» .
الفصل الثالث والعشرون
في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله
ذكر الحميدي في هذا فصلًا من كلام أبي محمد بن حزم ـ وهو من أحسن كلامه ـ فرأينا سياقَه بلفظه، قال الحميدي
(1)
:
«قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه:
تَطَلَّعَتِ النفسُ بعد تيقُّنها أن الأصل المتفَق عليه
(2)
المرجوع إليه أصلٌ واحدٌ لا يَختلِف ـ وهو ما جاء عن صاحب الشرع؛ إمَّا في القرآن، وإمَّا من فِعْله أو قوله الذي لا ينطق عن الهوى فيه ـ لمَّا رأتْ
(3)
وشاهدتْ من اختلاف علماء الأُمة فيما سبيله [ق 31 أ] واحدٌ وأصله غير مختلف، فبحثتْ عن السبب الموجِب للاختلاف، ولِتَرْكِ مَن ترك كثيرًا ممَّا صحَّ من السُّنن، فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحدٍ من العلماء بشرٌ ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره، فيُفتي بخلافه. وقد يَعرض هذا في آي القرآن، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أَمَرَ على المنبر ألَّا يُزاد مهور النساء على عَدَدٍ ذَكَرَه ميلًا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَزِدْ على ذلك العدد
(1)
«الجمع بين الصحيحين» (4/ 323 - 328). وأصله في «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (2/ 124 - 130).
(2)
«عليه» سقط من «ح» .
(3)
في النسختين: «رأيت» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
في مهور نسائه، حتى ذكَّرته امرأةٌ من جانب المسجد بقول الله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20] فترك قولَه، وقال: «كلُّ أحدٍ
(1)
أعلم منك حتى النساء»
(2)
ـ وفي رواية أخرى: «امرأةٌ أصابت، ورجلٌ أخطأ»
(3)
ـ علمًا منه رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يَزِدْ في مهور النساء على عددٍ ما؛ فإنه لم يمنع ممَّا
(4)
سواه، والآية أعمُّ.
(1)
«ح» : «واحد» .
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (598) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي بنحوه، وقال البيهقي: هذا منقطع. ورواه أبو يعلى ـ كما في «مسند الفاروق» (809) و «المطالب العالية» (1566) ـ من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق، وجوَّد إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 293). وقال الهيثمي في «المجمع» (7502):«رواه أبو يعلى في «الكبير» وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق». وقد رُويت القصة عن عمر رضي الله عنه من وجوهٍ كثيرةٍ، ينظر:«تخريج الكشاف» للزيلعي (1/ 294 - 297) و «المقاصد الحسنة» للسخاوي (814) و «الدر المنثور» للسيوطي (4/ 293 - 294) .. وقد رُوي نهي عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور دون مراجعة من أحد عن أبي العجفاء السلمي عنه، رواه أحمد (291) وأبو داود (2106) والترمذي (1114) وابن ماجه (1887) وابن حبان (4620) والحاكم (2/ 175). وقال الدارقطني في «العلل» (1/ 246):«ولا يصح هذا الحديث إلا عن أبي العجفاء» . وينظر: «إرواء الغليل» (1927).
(3)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (864) عن عبد الله بن مصعب عن عمر رضي الله عنه، قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» (2/ 244) وفي «مسند الفاروق» (2/ 505):«فيها انقطاع» .
(4)
«ح» : «ما» .
وكذلك «أمر رضي الله عنه برَجْم امرأةٍ وَلَدَتْ لستة أشهُرٍ، فذكَّره
(1)
علي رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14] مع قوله تعالى: {وَاَلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 231] فرجع عن الأمر برَجْمها»
(2)
.
وهمَّ أن يسطو
(3)
بعُيينة بن حصن
(4)
إذ جفا عليه حتى ذكَّره الحُرُّ بن قيس بقول الله عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ اِلْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمسك عمر
(5)
.
وقال رضي الله عنه يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يكون آخرنا. حتى قُرئ عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29] فرجع عن ذلك»
(6)
، وقد كان عَلِمَ الآية، ولكنه نَسِيَها؛ لعِظَم الخَطْب الوارد عليه.
وقد يَذكُر العالم الآية والسُّنَّة ولكن يتأوَّل فيهما تأويلًا من خصوصٍ أو نسخٍ أو معنًى
(7)
ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل.
(1)
«ح» : «فذكر» .
(2)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (13444)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 727).
(3)
سطا به: وثب عليه وبطش به. «أساس البلاغة» (1/ 454).
(4)
«ح» : «محصن» . «ب» : «حصين» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» . وعيينة بن حصن الفزاري له صحبة، وكان من المؤلَّفة، ترجمته في «الإصابة» (7/ 598).
(5)
أخرجه البخاري (4642) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
(6)
أخرجه البخاري (3667، 7219) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(7)
«ح» : «تعيين» .
ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا بالمدينة حوله صلوات الله وسلامه عليه مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنكٍ من القوت، فمن محترفٍ في الأسواق، ومن قائمٍ على نَخْله، ويَحضُره
(1)
صلى الله عليه وسلم في كل وقتٍ منهم طائفةٌ إذا وجدوا أدنى فراغ ممَّا هم بسبيله. وقد نصَّ على ذلك أبو هريرة فقال: «إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق
(2)
، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم
(3)
، وكنت امرأً مسكينًا أَصحَبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على مِلْء بطني»
(4)
.
وقد قال عمر رضي الله عنه: «ألهاني الصفق بالأسواق» في حديث استئذان أبي موسى
(5)
.
وكان صلى الله عليه وسلم يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه
(6)
من حضره، ويغيب عمَّن غاب عنه.
فلمَّا مات صلوات الله وسلامه عليه ووليَ أبو بكر كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نصٌّ سأل من بحضرته من الصحابة عنها، فإن وَجد عندهم
(7)
نصًّا رجع إليه، وإلَّا اجتهد في الحكم فيها. وكان اجتهاده واجتهاد
(1)
«ح» : «وبحضرته» .
(2)
الصفق بالأسواق: التصرف في التجارة. «مشارق الأنوار» (2/ 50).
(3)
«ح» : «عملهم» .
(4)
أخرجه البخاري (118) ومسلم (2492).
(5)
أخرجه البخاري (2062) ومسلم (2153).
(6)
في النسختين: «فيحضره» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(7)
في النسختين: «عنهم» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
غيره منهم رضي الله عنهم رجوعهم إلى نصٍّ عامٍّ، أو إلى أصل إباحة متقدِّمة، أو إلى نوعٍ من هذا يرجع إلى أصل. ولا يجوز أن يظن أحدٌ أن اجتهاد أحدٍ منهم هو أن يُشَرِّع شريعة باجتهادٍ ما، أو يَختَرِع حُكمًا لا أصل له، حاشاهم من ذلك.
فلمَّا وليَ عمر رضي الله عنه فُتحت الأمصار، وتفرَّقت الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِمَ به، وإلَّا اجتهدوا في ذلك، وقد يكون في تلك القضية نصٌّ موجودٌ عند صاحبٍ آخر في بلدٍ آخر.
وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، والبصري ما لم يحضر الكوفي، والكوفي ما لم يحضر البصري، والمدني ما لم يحضر الكوفي والبصري، كل هذا موجودٌ في الآثار، وتقتضيه الحالة التي ذَكَرْنا من مَغِيب بعضهم عن مجلسه
(1)
في بعض الأوقات، وحضور غيره، ثم مغيب
(2)
الذي حضر وحضور الذي غاب، فيدري كل واحدٍ منهم ما حضره، ويفوته ما غاب عنه، هذا أمرٌ مُشاهَدٌ.
وقد كان عِلْمُ التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا:«لا يتيمم الجُنُب، ولو لم يجد الماء شهرين»
(3)
.
(1)
«ح» : «محله» .
(2)
في النسختين: «يغيب» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(3)
أخرجه البخاري (347) ومسلم (368). وذِكْرُ الشهرين ورد في رواية أحمد (19395) وأبي داود (322) والنسائي (316) وابن حبان (1305).
وكان حكم المسح على الخفين عند علي
(1)
وحذيفة
(2)
، ولم تَعلَمْه عائشة
(3)
ولا عمر
(4)
ولا أبو هريرة
(5)
، على أنهم مدنيون.
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب ذلك عن أبي موسى
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (276) عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها أحالت مَنْ سألها عن المسح على الخف إلى علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (273).
(3)
روى أبو عبيد في «الطهور» (394) وابن أبي شيبة في «المصنف» (1956، 1965) عن عائشة قالت: «لأن أحزهما بالسكاكين أحب إلي أن أمسح عليهما» . وصححه الدارقطني في «العلل» (3582). وقال أبو عبيد: «على أن بعض أصحاب الحديث كان يتأوله في المسح على القدمين، ويُصدِّق ذلك حديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار» . فهل يكون هذا إلا على الأقدام، وهي كانت أعلم بمعنى حديثها».
وقد تقدم أنها أحالت في المسح على الخفين على علي رضي الله عنه. وينظر: «السنن الكبرى للبيهقي» (1/ 272).
(4)
أخرجه البخاري (202).
(5)
روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (1964) عن أبي رزين عنه رضي الله عنه قال: «ما أبالي على ظهر خُفِّي مسحت أو على ظهر حمار» . وصححه مسلم في «التمييز» (ص 209) وروى عن أبي زرعة عنه معناه، وصحَّحه أيضًا.
وقد روى ابن ماجه (555) وابن حبان (1334) عنه جوازَ المسح على الخفين مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد:«هذا حديث منكَر، وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح» . «علل الدارقطني» (8/ 276) وكذا ضعفها البخاري ومسلم والدارقطني. ينظر: «التمييز» (ص 208 - 209) و «علل الترمذي» (61) و «علل الدارقطني» (1563).
(6)
أخرجه البخاري (6736).
وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأُبي
(1)
، وغاب عن عمر
(2)
.
وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس
(3)
وأم سليم
(4)
، ولم يعلمه ابن
(5)
عمر
(6)
وزيد بن ثابت
(7)
.
وكان حكم المتعة والحُمُر الأهلية عند عليٍّ
(8)
وغيره، ولم يعلمه
(9)
ابن عباس
(10)
.
وكان حكم الصَّرف
(11)
عند عمر
(12)
وأبي سعيد
(13)
وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة
(14)
وابن عباس وابن عمر
(15)
.
(1)
«وأبي» ليس في «ح» .
(2)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1760) ومسلم (1328).
(4)
أخرجه البخاري (1758).
(5)
«ابن» ليس في «ب» .
(6)
أخرجه البخاري (1761) وفيه: «أنه بلغه بعدُ أنه رُخِّصَ لهن» .
(7)
أخرجه مسلم (1328) وفيه: «أنه رجع بعدُ لقول ابن عباس رضي الله عنهما» .
(8)
أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407).
(9)
«ح» : «يقله» .
(10)
أخرجه البخاري (1761) ومسلم (1939).
(11)
الصرف: بيع الدراهم بالذهب أو عكسه.
(12)
أخرجه البخاري (2174) ومسلم (1586).
(13)
أخرجه مسلم (1594) وأصله في البخاري (2312).
(14)
كان طلحة رضي الله عنه هو صاحب القصة في حديث عمر رضي الله عنه المتقدم تخريجه.
(15)
وهو في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم تخريجه.
وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس
(1)
وعمر
(2)
، فنسيه عمر سنين
(3)
، فتركهم، حتى ذُكِّر بذلك فذكره
(4)
؛ فأجلاهم
(5)
.
ومثل هذا كثيرٌ.
فمضى الصحابة على هذا، ثم خَلَفَ [ق 31 ب] بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقةٍ من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقَّهوا بمن كان عندهم من الصحابة، وكانوا
(6)
لا يَتَعَدَّوْن فتاويهم، لا تقليدًا لهم؛ ولكن لأنهم أخذوا ورووا عنهم، إلَّا اليسير ممَّا بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس، واتباع أهل الكوفة في الأكثر
(7)
فتاوى ابن مسعود.
ثم أتى من بعد التابعين فقهاءُ الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن المَاجِشُون بالمدينة، وعثمان
(1)
أخرجه البخاري (3168) ومسلم (1637).
(2)
أخرجه مسلم (1767).
(3)
في النسختين: «سنتين» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(4)
«ح» : «فذكرهم» .
(5)
أخرجه البخاري (2730) وفيه: «أظننت أني نسيت» .
(6)
«ب» : «فكانوا» .
(7)
من قوله «فتاوى ابن عباس» إلى هنا سقط من «ح» .
البَتِّيِّ وسَوَّار
(1)
بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجَرَوْا على تلك الطريقة من أَخْذ كل واحدٍ منهم عن التابعين من أهل بلده وتابعيهم
(2)
عن الصحابة فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها.
وكل من ذكرنا مأجورٌ على ما أصاب فيه أجرين، ومأجورٌ فيما خفي عنه ولم يبلغه أجرًا واحدًا، قال تعالى:{لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 20].
وقد يَبلُغ الرجلَ ممَّن ذكرنا نصَّان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما بضربٍ من الترجيحات، ويميل غيره إلى النصِّ الآخر ـ الذي تركه ـ بضربٍ آخر من الترجيحات، كما روى
(3)
عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين: «أحلتهما آية، وحرمتهما آية»
(4)
. وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219] وقال: «لا أعلم شركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها»
(5)
. وغلَّبَ ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى. ومثل هذا كثير.
(1)
هو سوار بن عبد الله بن قدامة بن عنزة التميمي العنبري أبو عبد الله البصري القاضي، توفي سنة ست وخمسين ومائة. ترجمته في «تهذيب التهذيب» (4/ 296).
(2)
في النسختين: «وتابعوهم» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(3)
«ب» : «روي عن» .
(4)
أخرجه مالك في «الموطأ» (1520) والشافعي في «الأم» (5/ 3) وعبد الرزاق في «المصنف» (12732) وابن أبي شيبة في «المصنف» (16512) والدارقطني في «السنن» (3/ 281) وهو في الجمع بين الأختين في ملك اليمين.
(5)
أخرجه البخاري (5285).
فعلى هذه الوجوه تَرَكَ بعض العلماء ما تركوا
(1)
من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا
(2)
قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها؛ ولكن لأحد الأعذار التي ذَكَرْنا، إمَّا من نسيان، وإمَّا أنها لم تبلغهم، وإمَّا لتأويلٍ
(3)
ما، وإمَّا لأخذٍ
(4)
بخبرٍ ضعيفٍ لم يَعلَم الآخذُ به ضَعْفَ رواته، وعَلِمَه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه، أو بظاهر آية. وقد يتنبَّه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنًى ويَلُوح منه حُكْمٌ بدليل ما، ويغيب عن غيره.
وقد كَثُرت الرِّحَل إلى الآفاق، وتداخل الناس، وانتدب أقوام لجَمْع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وضمِّه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيءٌ منه، وجُمعت الأحاديث المبيِّنة
(5)
لصحة أحد
(6)
التأويلات المتأوَّلة في الحديث، وعُرف الصحيح من السقيم، وزُيف
(7)
الاجتهاد المؤدِّي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمَّن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها
(1)
«ما تركوا» ليس في «ح» .
(2)
«لا» سقط من «ح» .
(3)
«ح» : «التأويل» .
(4)
«ح» : «الأخذ» .
(5)
في النسختين: «المثبتة» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(6)
في النسختين: «أخذ» . والمثبت من «الجمع بين الصحيحين» .
(7)
«ب» : «وزاف» . «ح» : «راق» . وفي «الجمع بين الصحيحين» : «وزلف» . والمثبت من «الإحكام» .
عليه، ولم يبق إلَّا العناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة رضي الله عنهم وكثيرٌ من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيام الكثيرة طلبًا للسُّنن، والتزامًا لها.
وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في حديثٍ واحدٍ إلى عقبة بن عامر
(1)
، ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وابن
(2)
عمر
(3)
، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام
(4)
، وكتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة
(5)
: اكتب إليَّ بما
(6)
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(7)
. ومثل هذا كثير». انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
(8)
:
جماع الأعذار في ترك من ترك من الأئمة حديثًا ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده
(9)
أن ذلك الحكم منسوخ.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17855) وعبد الرزاق في «المصنف» (18936) والحميدي في «المسند» (388).
(2)
«ابن» ليس في «ب» .
(3)
لم نقف عليه.
(4)
أخرجه البخاري (3742) ومسلم (824).
(5)
«بن شعبة» ليس في «ح» .
(6)
«ح» : «مما» .
(7)
أخرجه البخاري (1477) ومسلم (593).
(8)
«رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص 9) وما بعدها.
(9)
«ب» : «عدم اعتقاده» .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:
السبب الأول: ألَّا يكون الحديث قد بلغه،
ومن لم يبلغه الحديث لم يُكلَّف أن يكون عالمًا بموجَبه، فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق الحديث المتروك تارةً، ويخالفه أخرى. وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحدٍ من الأئمة. واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين
(1)
هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننه وأحواله، خصوصًا
(2)
الصدِّيق الذي لم يكن يفارقه حَضَرًا ولا سفرًا
(3)
، وكان عنده غالب الأوقات حتى كان يَسمُر عنده بالليل، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
(4)
»
(5)
.
ثم مع ذلك الاختصاص خفي عن أبي بكر ميراث الجدة، وكان عِلْمُه عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة
(6)
وعمران بن حصين
(7)
، وليس
(1)
«الذين» ليس في «ح» .
(2)
«ب» : «وخصوصا» .
(3)
«ح» : «لا سفرًا ولا حضرًا» .
(4)
«وعمر» سقط من «ب» .
(5)
أخرجه البخاري (3685) ومسلم (2389) عن علي رضي الله عنه.
(6)
أخرجه أحمد (18465) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) وابن ماجه (2724) وابن حبان (6031) والحاكم (4/ 376). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (31952) والدارمي في «السنن» (2980) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 226) عن عمران أنه كان يورث الجدة وابنها حي. وصححها البيهقي عنه.
هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر، ولا قريبًا منه في العلم.
وخفي على عمر سُنة الاستئذان
(1)
، وتوريث المرأة من دِيَة زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي ـ أميرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي ـ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَّث امرأة أشيم الضبابي [ق 32 أ] من دِيَة زوجها»
(2)
. فترك رأيه لذلك، وقال: لو لم نسمع
(3)
هذا لقضينا بخلافه.
وخفي عليه حكم المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»
(4)
.
(1)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (16158) وأبو داود (2927) والترمذي (1415، 2110) وابن ماجه (2642) والضياء في «المختارة» (8/ 85) عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 116): «وهو صحيح عن سعيد بن المسيب، ورواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم، وهذا الحديث عند جماعة أهل العلم صحيح معمول به، غير مختلف فيه» .
(3)
«ح» : «أسمع» .
(4)
أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 278) والشافعي في «المسند» (1773) وعبد الرزاق في «المصنف» (10025) وابن أبي شيبة في «المصنف» (10870) والبزار في «المسند» (3/ 264) عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه. وقال البزار: «والحديث مرسل، ولا نعلم أحدًا قال: عن جعفر عن أبيه عن جده إلا أبو علي الحنفي عن مالك» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 116): وهو مع هذا كله منقطع، ولكن معناه متصل من وجوه حسان». وينظر:«فتح الباري» لابن حجر (6/ 261).
ومن شواهده ما رواه البخاري (3156) عن بجالة «أن عمر لم يكن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر» .
وخفي عليه أمر
(1)
الطاعون حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ»
(2)
.
وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي شكَّ في صلاته، فلم يكن قد بَلَغَتْه السُّنَّة في ذلك حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطرح الشكَّ، ويبني على ما استيقن
(3)
.
وكان مرةً في السفر فهاجت ريحٌ، فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح؟ قال أبو هريرة: فبلغني ذلك وأنا في أُخريات الناس، فحثثت راحلتي حتى أدركته، فحدثته بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح
(4)
.
فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلَّغه إياها مَنْ عُمَر أعلمُ منه بكثيرٍ.
(1)
من قوله: «المجوس حتى» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3476) وأحمد في «المسند» (1678) والدارقطني في «السنن» (2/ 213) والحديث دون القصة أخرجه البخاري (401) ومسلم (571) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد في «المسند» (7846، 9537، 10999) وأبو يعلى في «المسند» (6142) والحاكم (4/ 285). والحديث عند أبي داود (5097) دون ذكر قصة عمر مع أبي هريرة.
ومواضع أُخر لم يَبلُغه ما فيها من السُّنَّة؛ فقضى
(1)
وأفتى بغيرها، كما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها
(2)
، وقد كان عند أبي موسى
(3)
وابن عباس
(4)
ـ وهما دونه في العلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» . فبلغت هذه السُّنَّة معاويةَ في إمارته، فقضى بها، ولم يجد المسلمون بُدًّا من اتِّباع ذلك
(5)
.
وكان عمر ينهى المُحْرم عن التَّطيُّب قبل الإحرام وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي الجمرة
(6)
، هو وابنه عبد الله
(7)
وغيرهما من أهل العلم، ولم
(1)
«فقضى» ليس في «ح» .
(2)
أخرجه الشافعي في «مسنده» (1661) وعبد الرزاق في «المصنف» (17698) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27552) عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه. وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 451).
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (20077، 20084) وابن ماجه (2654) وأبو داود (4556) والنسائي (4844) وابن حبان (6013).
(4)
أخرجه البخاري (6895).
(5)
لم نقف على اختلاف معاوية وعمر رضي الله عنهما في الأصابع، والمشهور هو خلافهما في الأضراس، روى مالك في «الموطأ» (2/ 861) وعبد الرزاق في «المصنف» (17507) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27532) عن ابن المسيب «أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير، ولما كان معاوية وسقطت أضراسه قضى فيه خمس فرائض» . وقال الخطابي في «معالم السنن» (4/ 28): «واتفق عامة أهل العلم على ترك التفضيل، وأن في كل سن خمسة أبعرة، وفي كل إصبع عشرًا من الإبل» .
(6)
أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 329) وابن أبي شيبة في «المصنف» (13674) عن أسلم مولى عمر عنه.
ورواه الإمام أحمد في «المسند» (24516) عن سليمان بن يسار عنه.
(7)
أخرجه البخاري (270) ومسلم (1192).
يبلغهم حديثُ عائشة رضي الله عنها: «طَيَّبْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت»
(1)
.
وكان أمر
(2)
لابس الخُفِّ أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت
(3)
، واتَّبعه على ذلك طائفة من السَّلف، ولم يبلغهم أحاديث التوقيت التي صَحَّتْ عند مَنْ عُمَر أعلمُ منه.
وكذلك عثمان لم يكن عنده علمٌ بأن المتوفى
(4)
عنها زوجها
(5)
تعتدُّ في منزل الموت حتى حدَّثته الفريعة بنت مالك ـ أخت أبي سعيد الخدريِّ ـ بقصتها لمَّا تُوفي زوجها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:«امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . فأخذ به عثمان، وترك فتواه
(6)
.
وأُهدي له مرَّةً صيدٌ ـ صِيدَ لأجله ـ وهو محرمٌ، فهَمَّ بأكله حتى أخبره علي رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ لحمًا أُهدي له وهو محرمٌ
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (1754) ومسلم (1189).
(2)
«ح» : «يأمر» .
(3)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (763) وأحمد (242). وينظر «الإمام» لابن دقيق العيد (2/ 172 - 196) و «نصب الراية» (1/ 177 - 180).
(4)
من قوله: «أعلم منه» إلى هنا سقط من «ح» .
(5)
«زوجها» ليس في «ب» .
(6)
أخرجه أحمد (27846) وأبو داود (2300) والترمذي (1204) والنسائي (3532) وابن حبان (4292) والحاكم (2/ 208) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وصححه ابن القيم في «زاد المعاد» (5/ 604).
(7)
رواه أحمد (794) والبزار (914) وأبو يعلى (365) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 229): «وفيه علي بن زيد، وفيه كلام كثير، وقد وثق» .
ورواه أبو داود (1849) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194) عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه مختصرًا، وليس في إسنادهما علي بن زيد، وقد صحح إسناده الألباني في «صحيح أبي داود» (1621).
وأثر علي هذا ليس فيه أن عليًا قد جوَّز لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد لأجله، وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194):«وأما علي وابن عباس رضي الله عنهما فإنهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقًا» . وينظر: «معالم السنن» للخطابي (2/ 186) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 139).
وأفتى علي
(1)
وابن عباس
(2)
وغيرهما أن المتوفى عنها إذا كانت حاملًا تعتدُّ أقصى الأجلين، ولم يكن قد بلغتهم
(3)
سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُبيعة الأسلمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها حين وضعت حملها بأنها قد حلَّت للأزواج
(4)
.
وأفتى هو
(5)
وزيد بن ثابت
(6)
وابن عمر وغيرهم بأن المفوِّضة إذا
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1516) وابن أبي شيبة في المصنف (17385، 17386) والطبري في «التفسير» (23/ 56) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 430).
(2)
أخرجه البخاري (4909) ومسلم (1485) عن سليمان بن يسار.
(3)
«ح» : «بلغهم» .
(4)
أخرجه البخاري (3991) ومسلم (1484).
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (922، 924) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17404، 17406) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 247) عن علي رضي الله عنه.
(6)
أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (925) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17403) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 246) عن زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما.
مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم يكن بلغتهم سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت واشق
(1)
.
وهذا بابٌ واسعٌ. وأمَّا المنقول فيه عمَّن بعد الصحابة والتابعين فأكثر من أن يُحصى.
فإذا خفي على أَعْلَمِ الأُمَّة وأفقهها بعضُ السُّنَّة؛ فما الظنُّ بمَن بعدهم، فمن اعتقد أن كل حديثٍ صحيحٍ قد بلغ كلَّ فردٍ فردٍ من الأئمة أو إمامًا معيَّنًا فقد أخطأ خطأً فاحشًا.
(2)
.
وصدق أبو عمر رضي الله عنه؛ فإن
(3)
مجموع سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وإقراره لا يُوجد عند رجلٍ واحدٍ أبدًا، ولو كان أَعلَمَ أهل الأرض.
فإن قيل: فالسُّنَّة قد دُونت وجُمعت وضُبطت، وصار ما تفرَّق منها عند الفئة الكثيرة مجموعًا عند واحدٍ.
قيل: هذه الدَّواوين المشهورة في السُّنن إنما جُمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يُدَّعى انحصار سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه أحمد (4180، 4181) وأبو داود (2114) والترمذي (1145) والنسائي (3355) وابن ماجه (1891) وابن حبان (4098) والحاكم (2/ 180) عن معقل بن سنان رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .
(2)
لم نقف عليه بهذا اللفظ في كتب ابن عبد البر.
(3)
«ح» : «إن» .
في دواوين معينة. ثم لو فُرض انحصار السُّنَّة في هذه الدَّواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم، ولا يكاد يحصل ذلك لأحدٍ أبدًا، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علمًا بما فيها. بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسُّنَّة من المتأخرين بكثيرٍ؛ لأن كثيرًا ممَّا بلغهم وصحَّ عندهم قد لا يبلغنا إلَّا عن مجهولٍ، أو بإسنادٍ منقطعٍ، أو لا يبلغنا بالكلية، وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين.
فصل
(1)
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه
(2)
لم يثبت عنده
؛ إمَّا لأن محدِّثه أو من فوقه مجهول عنده، أو سيئ الحفظ، أو مُتَّهَمٌ، أو لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا، أو لم يضبط له لفظ الحديث، ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسنادٍ صحيحٍ متصلٍ بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول، أو يرويه له ثقةٌ غيره، ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة، ويضبطه له من لم يضبطه للآخر، أو يقع له من الشواهد والمتابعات ما لم يقع لغيره، فيكون الحديث حجةً على من بلغه من هذا الوجه، وليس بحجة
(3)
على من بلغه من الوجه الأول. ولهذا علَّق كثيرٌ من الأئمة القول بموجَب الحديث على صحته فيقول: قولي فيها [ق 32 ب] كَيْتَ وكيت، وقد روي فيها حديثٌ بخلافه، فإن صحَّ فهو قولي. وأمثلة هذا كثيرة جدًّا.
(1)
«فصل» ليس في «ح» .
(2)
«لكنه» ليس في «ح» .
(3)
«ب» : «حجة» .
فصل
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ قد خالفه فيه غيره،
فقد يعتقد أحد المجتهدين ضَعْفَ رجلٍ، ويعتقد الآخَرُ ثقتَه وقُوَّتَه، وقد يكون الصواب مع المضعِّف
(1)
لاطلاعه على سببٍ خَفِيَ على الموثِّق. وقد يكون الصواب
(2)
مع الآخر؛ لعلمه بأن ذلك السبب غير قادحٍ في روايته وعدالته؛ إمَّا لأن جنسه غير قادح، وإمَّا لأن له فيه عذرًا وتأويلًا يمنع الجرح.
وقد لا يعتقد الذي بلغه الحديث أن راويه سمعه
(3)
من غيره لأسباب معروفة عنده خَفِيَت على غيره
(4)
.
وقد يكون للمحدِّث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، فلا
(5)
يدري الرجل أن حديثه المعيَّن حدَّث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب، فيتوقف فيه؛ ويعلم غيره أنه حدَّث به في حال الاستقامة فيقبله.
وقد يكون المحدِّث قد نسي الحديث الذي قد
(6)
حدَّث به فينكره، فيبلغ المجتهد إنكاره له، فلا يعمل به؛ ويرى غيره أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به.
(1)
«ح» : «الضعف» . تحريف، وفي «رفع الملام»:«من يعتقد ضعفه» .
(2)
من قوله: «وقد يكون الصواب» إلى هنا سقط من «ب» .
(3)
في النسختين: «معه» . والمثبت هو الصواب؛ ففي «رفع الملام» : «سمع الحديث» .
(4)
هذه العبارة غير بينة المعنى، والذي في «رفع الملام»:«ألَّا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه، وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب تُوجِب ذلك معروفة» .
(5)
«ح» : «ولا» .
(6)
«قد» ليس في «ب» .
وأيضًا فكثيرٌ من
(1)
الحجازيين لا يحتجُّ بحديث عراقيٍّ ولا شاميٍّ إن لم يكن له أصل بالحجاز، حتى قال بعض من يذهب هذا المذهب:«نزِّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم»
(2)
.
وقيل لبعض من كان يذهب إلى هذا المذهب: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ قال: إن لم يكن له أصلٌ بالحجاز فلا
(3)
.
وكان الشافعي يرى هذا المذهب أولًا، ثم رجع عنه، وقال للإمام أحمد:«يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأَعْلِمْني حتى أذهب إليه، شاميًّا كان أو عراقيًّا»
(4)
. ولم يقل: أو حجازيًّا؛ لأنه لم يكن يشك هو ولا غيره في أحاديث
(5)
أهل الحجاز.
(1)
«من» سقط من «ح» .
(2)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2165، 2166) عن الإمام مالك رحمه الله. وينظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (8/ 68) و «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (4/ 356).
(3)
عزا هذا الكلامَ للإمام الشافعي شيخُ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 449) والزركشي في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 152). وأخرج ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 153) عنه: «إذا جاوز الحديث الحرمين، فقد ضعف نخاعه» . وينظر «تدريب الراوي» (1/ 89).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 70) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 170).
(5)
«أحاديث» ليس في «ح» .
وأكثر أهل العلم على خلاف هذا المذهب، وأن الحديث إذا صحَّ وجب العمل به من أي مِصْرٍ من الأمصار كان مَخرَجُه، وعلى هذا إجماع أهل الحديث قاطبة.
فصل
السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطًا يخالفه فيها غيره،
كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهًا إذا خالف ما رواه القياس، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان ممَّا تعُمُّ به البلوى، واشتراط بعضهم ألَّا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نصِّ القرآن؛ لئلَّا يلزم منه
(1)
نسخ القرآن به. وهذه مسائل معروفة.
فصل
السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية
كما نسي عمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29]، ونسي قوله:{وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20]، ونسي فتوى النبي صلى الله عليه وسلم له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر
(2)
.
وكذلك ما رُوي أن عليًّا ذَكَّرَ الزبيرَ يوم الجمل شيئًا عَهِدَه إليهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذَكَّرَه فانصرف عن القتال
(3)
.
(1)
«ح» : «فيه» .
(2)
أخرجه البخاري (347) ومسلم (368).
(3)
روى عبد الرزاق في «المصنف» (20430) وابن أبي شيبة في «المصنف» (38982) والحاكم في «المستدرك» (3/ 366)«أن عليًّا ذكَّر الزبير بقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «لتقاتلنه وأنت ظالم له» . وصححه الحاكم، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/ 548):«ولا يُروى هذا المتن من وجه يثبت» .
قلت
(1)
: فيكون الناسي معذورًا بفتواه بخلاف النص، فما عُذْر الذاكر للنص إذا قلَّد الناسي، وخالف الذاكرَ والذِّكْرَ؟!
فصل
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث
؛ إمَّا لكون لفظ الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ: المزابنة
(2)
، والمحاقلة
(3)
، والمخابرة
(4)
، والملامسة
(5)
، والمنابذة
(6)
، ...........................................
(1)
القائل هو الإمام ابن القيم، يعقب على قول شيخه ابن تيمية.
(2)
المزابنة: بيع الرُّطب في رؤس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 294).
(3)
المحاقلة: قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 416).
(4)
المخابرة: قيل: هي المزارعة على نصيب معين، كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب. وقيل: هي من الخبار: الأرض اللينة. وقيل: أصل المخابرة من خيبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم: أي عاملهم في خيبر. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 7).
(5)
الملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 269 - 270).
(6)
المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، فيكون البيع معاطاة من غير عقد. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 6).
والحَصاة
(1)
، والغَرَر
(2)
،
ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها.
ومثل قوله: «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»
(3)
، فإنهم فسَّروا الإغلاق بالإكراه.
قلت: هذا تفسير كثير من الحجازيين، ومنهم من فسَّره بالغضب، وهو تفسير العراقيين، ونصَّ عليه أحمد
(4)
وأبو عبيد
(5)
وأبو داود
(6)
.
ومنهم من فسَّره بجمع الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ، فإنه
(7)
مأخوذ من غلق
(1)
بيع الحصاة: هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 398).
(2)
الغرر: ما كان له ظاهرٌ يغر المشتري وباطن مجهول .. وقال الأزهري: بيع الغرر: ما كان على غير عهدة ولا ثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، من كل مجهول. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 355).
(3)
أخرجه أحمد (27002) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) والحاكم (2/ 198) عن عائشة رضي الله عنها، وقال الحاكم:«حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وتعقبه الذهبي، وينظر «تنقيح التحقيق» (4/ 407) و «البدر المنير» (8/ 84) و «إرواء الغليل» (2047).
(4)
قال في «الفروع» (9/ 11): «قال في رواية حنبل: يريد الغضب» .
(5)
نقله ابن بطال في «شرح البخاري» (7/ 411).
(6)
قال في «السنن» (2193): «الغلاق أظنه في الغضب» .
(7)
«ب» : «كأنه» .
الباب، أي: أُغلِق عليه باب الطلاق جملةً
(1)
. وصحَّح بعضهم هذا التفسير، وجعله أولى التفاسير
(2)
.
وممَّن حكى الأقوالَ الثلاثة صاحبُ «مطالع الأنوار»
(3)
، وصاحبُ «مشارق الأنوار»
(4)
.
وهذا الباب يعرض منه اختلافٌ كثيرٌ، سببه أن يكون لذلك اللفظ في لغته وعُرْفه معنًى غير معناه في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أعم منه أو أخص. فتَفَطَّنْ لهذا الموضع فإنه مَنشأ لغلطٍ كثيرٍ على صاحب الشرع.
والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يُغلِق على صاحبه باب تصوُّره أو قصده، كالجنون والسُّكر والإكراه والغضب، كأنه لم
(5)
ينفتح قلبُه لقصده، ولا وَطَرَ له فيه
(6)
.
ومن هذا لفظ الخمر، فإنه في لغة الشارع اسم لكل مُسكِرٍ لا يختص بنوعٍ من أنواعه. وهذا المعنى مطابق
(7)
لاشتقاقه، فتخصيصه ببعض الأنواع المسكرة دون بعض اصطلاحٌ حادثٌ [ق 33 أ] حصل بحَمْل كلام الشارع
(1)
حكاه أبو عبيد الهروي في «الغريبين» (4/ 1384) ولم يُسم قائله.
(2)
لم أقف على تسمية هذا المصحح.
(3)
ابن قرقول في «المطالع» (5/ 150).
(4)
القاضي عياض في «المشارق» (2/ 134).
(5)
«ح» : «ألم» .
(6)
ينظر: «زاد المعاد» (5/ 215) و «أعلام الموقعين» (4/ 50) و «تهذيب السنن» (1/ 524).
(7)
«ح» : «يطابق» .
عليه تخصيص لِمَا قَصَدَ الشارعُ تعميمَه. ولهذا لم يختلف المخاطَبون بالقرآن أولًا ـ وهم الصحابة ـ في تحريم ذلك كله
(1)
.
فصل
ومن هذا الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركًا أو مجملًا أو مترددًا بين حمله على معناه عند الإطلاق ـ وهو المسمَّى بالحقيقة ـ أو على معناه عند التقييد ـ وهو المسمَّى بالمجاز ـ كاختلافهم في المراد من القُرْء هل هو الحيض أو الأطهار، ففَهِمَتْ طائفةٌ منه الحيضَ، وأخرى الطُّهْرَ
(2)
.
وكما فهمت طائفةٌ من الخيط الأبيض والأسود الخيطين المعروفين، وفَهِمَ غيرهم بياضَ النهار وسوادَ الليل
(3)
.
وكما فهمت طائفةٌ من قوله في التيمم: {فَاَمْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم
(1)
«كله» ليس في «ب» .
(2)
اختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض. وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار. وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 87 - 105) و «التفسير البسيط» للواحدي (4/ 209 - 216) و «تفسير القرطبي» (3/ 113 - 117).
(3)
أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أُنزلت: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل: {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ اَلْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار» .
مِّنْهُ} [المائدة: 7] المسحَ
(1)
إلى الآباط، ففعلوه، وفَهِمَ آخرون المسح إلى المرافق، ففعلوه
(2)
. وأسعد الناس بفَهْمِ الآية مَن فَهِمَ منها المسحَ إلى الكوع
(3)
. وهذا هو الذي فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية
(4)
، وهو نظير فهمه صلوات الله وسلامه عليه القطعَ من الكوع من آية السرقة
(5)
.
وكما فهمت طائفةٌ من قوله: {وَاَمْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} البعضَ مُقَدَّرًا أو غير مُقَدَّرٍ، وفَهِمَ آخرون مسحَ الجميع
(6)
. وفهمُهم مؤيدٌ بفِعْل الرسول
(7)
.
وكما فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ} [النساء: 11] الثلاثة فصاعدًا؛ اعتمادًا على الحقيقة، وفهم الآخرون الاثنين فصاعدًا؛ اعتمادًا على فهم الجنس الزائد على الواحد
(8)
. وهؤلاء أسعدُ
(1)
«المسح» ليس في «ب» .
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 83 - 91) و «تفسير القرطبي» (5/ 238 - 240).
(3)
من قوله: «المرافق ففعلوه» إلى هنا ليس في «ب» .
(4)
كما في حديث عمار رضي الله عنه، أخرجه البخاري (338) ومسلم (368).
(5)
أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 270 - 271) عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم رضي الله عنهم، وينظر «التلخيص الحبير» (5/ 2650 - 2651) و «موافقة الخُبر الخبر» (1/ 85 - 86).
(6)
ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 185 - 188) و «التفسير البسيط» للواحدي (7/ 281) و «تفسير القرطبي» (6/ 87 - 88).
(7)
أخرج البخاري (185) ومسلم (235) عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه» .
(8)
ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 464 - 468) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 361 - 363) و «تفسير القرطبي» (5/ 72 - 73).
بفَهْمِ الآية.
وكما فهم الصدِّيق ومَن معه من الكلالة ـ التي يرث
(1)
معها الإخوة والأخوات للأب ـ عدمَ الولد وإن سَفَلَ والأبِ وإن علا
(2)
. وفهم آخرون منها عدمَ الأب دون مَن فوقه. والصدِّيق أسعدُ بفهم الآية، كما اتفق المسلمون على أن الكلالة في قوله:{وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا اَلسُّدُسُ} [النساء: 12] أنها عدم الولد وإن سَفَلَ، والأبِ وإن علا
(3)
.
وكما فَهِمَ مَن فهم من السلف والخلف من قوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] أنه مرة بعد مرة، مثل قوله:{سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} [التوبة: 102] وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وقوله في الحديث: «فلمَّا أقرَّ أربع مرات رَجَمَه رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(4)
. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَئْذِنكُمُ اُلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اُلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 56]. وجميع ما ذُكر فيه تعدُّد المرة فهذا سبيله، فالثلاث المجموعة بكلمةٍ واحدةٍ مرة واحدة
(5)
. وفهم آخرون منها
(1)
«ب» : «ترث» .
(2)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (19190، 19191) وابن أبي شيبة في «المصنف» (32255) وسعيد بن منصور في «التفسير» (591) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 368) من طريق الشعبي عن أبي بكر الصديق، والشعبي لم يسمع من أبي بكر.
(3)
بعده في «ح» : «وكما فهم الصديق» . وينظر: «تفسير الطبري» (6/ 475 - 479) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 367 - 371) و «تفسير القرطبي» (5/ 76 - 77).
(4)
أخرجه البخاري (6825) ومسلم (1691) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
ينظر: «زاد المعاد» للمصنف (5/ 323) و «إغاثة اللهفان» له (1/ 501).
الجمع والإفراد، ولا يخفى أي الفهمين أولى.
وكما فَهِمَ من أباح نكاح التحليل ذلك من قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وفهم المُحرِّمون المُبطِلون له بطلانه من نفس الآية من عدة أوجه:
منها: قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ونكاح التحليل
(1)
لا يدخل في النكاح المُطلَق، كما لم يدخل فيه نكاح الشغار والمتعة، ونكاح المعتدة، ونكاح المحرمة، فإن الذي أخرج هذه الأنواع من النكاح المُطلَق المأذون فيه هو الذي أخرج نكاح التحليل منه بنصوص أكثر وأصرح من تلك النصوص.
ومنها: تسميته سبحانه لهذا الثاني زوجًا. وأحكام الزوج عرفًا وشرعًا منتفية عن المحلِّل، وانتفاء الأحكام مستلزم لانتفاء الاسم شرعًا وعرفًا، وكذلك هو، فإن أهل العُرْف لا يُسمُّونه زوجًا، والشارع إنما سمَّاه «تيسًا مستعارًا»
(2)
. فلا يجوز تسميته زوجًا إلَّا على وجه التقييد، بأن يقال: زوج ملعون، أو زوج في نكاح تحليل، أو في نكاح باطل.
(1)
«ب» : «المحلل» .
(2)
أخرجه ابن ماجه (1936) والطبراني في «المعجم الكبير» (17/ 299) والدارقطني في «السنن» (3/ 251) والحاكم في «المستدرك» (2/ 198) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. وحسَّن إسناده عبدُ الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (3/ 156) وقد رد المصنف في «أعلام الموقعين» (4/ 417 - 419) على من ضعَّفه، وينظر:«بيان الوهم» لابن القطان (3/ 5040) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 239).
ومنها: أنه جعل الزوج الثاني وطلاقه بمنزلة الزوج الأول وطلاقه، فالمفهوم منها واحد
(1)
.
وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر
(2)
، ولا ريب أن فَهْمَ هؤلاء أولى بالصواب.
ومن هذا فَهْم بعضهم إباحة العِينَة من قوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 281] وفَهِمَ آخرون منها تحريمها وبطلانها؛ فإن لفظ التجارة: البيع المقصود الذي يَقصِد به كلُّ واحدٍ من المتعاقدينِ الربحَ أو
(3)
الانتفاع، ولا يَعرِف أهل اللغة والعُرْفِ من لفظ التجارة إلَّا ذلك، ولا يَعُدُّ أحدٌ منهم قط الحيلة على الربا تجارةً، وإن كان المرابي يَعُدُّ ذلك تجارةً، كما
(4)
يَعُدُّ بيع الدرهم بالدرهمين، فالعِينَة لا تُعَدُّ تجارةً لغة ولا شرعًا ولا عُرْفًا
(5)
.
وكما فَهِمَ مَن فهم من قوله تعالى: {اَلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أنه العقد
(6)
، .....................................................
(1)
«واحد» سقط من «ح» .
(2)
«ب» : «مواضع أخر» . وينظر عن نكاح التحليل «زاد المعاد» للمصنف (5/ 154 - 157) و «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 473 - 495).
(3)
«ح» : «و» .
(4)
«ح» : «وكما» .
(5)
توسع المصنِّف في الكلام على بيع العينة في: «تهذيب سنن أبي داود» (2/ 457 - 479) و «أعلام الموقعين» (4/ 53 - 62) و «إغاثة اللهفان» (1/ 602 - 604).
(6)
«ح» : «العقدة» .
وفَهِمَ آخرون أنه نفس الوطء
(1)
وفَهْمُ الأوَّلين
(2)
أصوب لِخُلُوِّ الآية عن الفائدة إذا حُمل على الوطء
(3)
.
وكما فَهِمَ أهل الحجاز من قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ} [المائدة: 35] طَرْدَه من الأرض
(4)
من موضعٍ إلى موضعٍ، وفَهِمَ أهل العراق منه الحبس
(5)
.
وبالجملة فهذا الفصل مُعتَرَك النزاع.
فصل
السبب السابع: أن يكون عارفًا بدلالة اللفظ وموضوعه ولكن لا يَتفطَّن لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ
؛ [ق 33 ب] إمَّا لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد، وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته، وإمَّا لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإمَّا لاعتقاده اختصاصَه بخصيصة تُخرِجه من اللفظ العام، وإمَّا لاعتقاده
(6)
العموم فيما ليس بعامٍّ، أو الإطلاق فيما هو مقيدٌ، فيَذهَل عن المقيِّد
(7)
، .............................................................
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (17/ 149 - 160) و «التفسير البسيط» للواحدي (16/ 101 - 117) و «تفسير القرطبي» (12/ 167 - 170).
(2)
«ح» : «الأولون» .
(3)
وينظر: «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 108 - 110).
(4)
«من الأرض» ليس في «ح» .
(5)
ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 372 - 390) و «التفسير البسيط» (7/ 357 - 359) و «تفسير القرطبي» (6/ 152 - 153).
(6)
من قوله «اختصاصه» إلى هنا سقط من «ح» .
(7)
«ح» : «التقييد» .
كما يَذهَل عن
(1)
المخصِّص.
فصل
السبب الثامن: اعتقاده أنْ لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازَع فيه، فها هنا أربعة أمور:
أحدها: ألَّا يَعرِف مدلول اللفظ في عُرْف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله.
الثاني: أن يكون له في عُرْف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله غيره على المعنى الآخر.
الثالث: أن يَفهم من العامِّ خاصًّا أو من الخاصِّ عامًّا، أو من المطلق مقيَّدًا، أو من المقيَّد مطلقًا.
الرابع: أن ينفي دلالة اللفظ، وتارةً يكون مُصيبًا في نفي
(2)
الدلالة
(3)
، وتارةً يكون مخطئًا، فمَن نفى دلالة قوله:{وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ} [البقرة: 186] على حلِّ
(4)
أكل ذي الناب والمِخْلَب أصاب.
ومَن نفى دلالة قوله: {وَأَنكِحُوا اُلْأَيَامَى مِنكُمْ} [النور: 32] على جواز نكاح الزانية أصاب.
(1)
«ح» : «في» .
(2)
«ب» : «نفس» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«في نفي الدلالة» ليس في «ح» .
(4)
«حل» ليس في «ح» .
ومَن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 146] على الإذن في أكل ما عدا المذكور في الآية أصاب
(1)
.
ومَن نفى دلالة العام على ما عدا مَحَلِّ التخصيص غَلِطَ.
ومَن نفى دلالته على ما عدا مَحَلِّ
(2)
السبب غَلِطَ.
ومَن نفى دلالة الأمر على الوجوب
(3)
والنهي على التحريم غَلِطَ.
ومِن هذا ما يعرض من الاختلاف في الأفعال المنفية بعد وجود صورتها، كقوله:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
(4)
. و «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ»
(5)
...............................................
(1)
من قوله: «ومن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ} إلى هنا ليس في «ب» .
(2)
«محل» ليس في «ح» .
(3)
«على الوجوب» سقط من «ح» .
(4)
أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أحمد (27814) وأبو داود (2454) والترمذي (730) والنسائي (2332) وابن ماجه (1700) وابن خزيمة (1933) عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح وَقْفَه الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم الرازي والترمذي والنسائي والدارقطني، وصحح رَفْعَه الخطابي والبيهقي وابن حزم وابن تيمية. ينظر:«العلل الكبير» للترمذي (202) و «العلل» لابن أبي حاتم (654) و «العلل» للدارقطني (3939) و «معالم السنن» للخطابي (2/ 134) و «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 202) و «المحلى» (4/ 288) و «شرح العمدة» لابن تيمية (128 الصيام) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 177 - 183) و «البدر المنير» لابن الملقن (5/ 651 - 655).
«وَلَا صَلَاةَ لِفَذٍّ
(1)
خَلْفَ الصَّفِ»
(2)
ونحو ذلك.
فطائفة
(3)
لم تفهم المراد منه، فجعلته مُجْمَلًا، يتوقف العمل به على البيان.
وطائفةٌ فهمت منه نَفْيَ الكمال المستحبِّ، وهذا ضعيف جدًّا؛ فإن النفي المطلق بعيدٌ منه.
وطائفةٌ فهمت نفي الإجزاء والصحة. وفَهْم هؤلاء أقرب إلى اللغة والعُرْف والشرع.
وطائفةٌ فهمت
(4)
نفي المسمَّى الشرعي. وهؤلاء أَسْعَدُ الناس بفَهْم المراد.
فصل
هذا كله قبل الوصول إلى:
السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارَضَها ما هو مساوٍ لها
(1)
الفذ: الفرد. «الصحاح» (2/ 568).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1735) وابن ماجه (1003) وابن خزيمة (1569) وابن حبان (2202) عن علي بن شيبان رضي الله عنه، وحسَّنه الإمام أحمد والنووي، وقوَّاه جماعة، كابن عبد الهادي والذهبي، وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وينظر:«جامع الترمذي» (230) و «خلاصة الأحكام» للنووي (2517) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 497) و «التنقيح» للذهبي (1/ 263).
(3)
«ح» : «وطائفة» .
(4)
«ح» : «وفهمت طائفة» .
فيجب التوقف، أو ما هو
(1)
أقوى منها فيجب تقديمه
(2)
. وهذه المعارضة نوعان: معارضة في الدليل، ومعارضة في مقدمة من مقدماته.
فالمعارضة في الدليل أن يعتقد أنه قد عارضه ما هو أرجح منه
(3)
، فيجب عليه العمل بالراجح، وقد يكون مصيبًا في ذلك، وقد
(4)
لا يكون مصيبًا. فالمصيب من اعتقد المعارضة بناسخٍ يصح فيه دلالته ومقاومته وتأخُّره
(5)
، فإن انتفى بعضها كان واهمًا في اعتقاد المعارضة وإبطال النصِّ بها.
وأمَّا المعارضة في المقدمة فأن يقوم عنده
(6)
معارضٌ لجرِّ
(7)
الدليل، مثاله: أن يعتقد تحريم المَيْسِر بالنصِّ الدالِّ على تحريمه، ويدل عنده دليل على دخول الشِّطْرَنج فيه، ثم يقوم عنده دليلٌ معارِضٌ لهذا الدليل يدل على أن الشِّطْرَنج ليس من المَيْسِر. فهاهنا أربعة أمور:
أحدها: ألَّا يعتقد دلالة اللفظ على المعنى.
الثاني: أن يعتقد دلالته ولكن يقوم عنده معارِضٌ للدليل.
الثالث: أن يقوم عنده معارِض لمقدمة من مقدماته.
الرابع: أن يتعارض عنده الدلالتان.
(1)
«هو» ليس في «ح» .
(2)
«ب» : «تقويمها» . «ح» : «تقديمها» . والمثبت أصوب.
(3)
«منه» ليس في «ب» .
(4)
«قد» سقط من «ح» .
(5)
من قوله «فالمصيب من اعتقد» إلى هنا تكرر في «ح» .
(6)
«ح» : «عنه» .
(7)
«ح» : «كجر» .
والتعارُض قد يقع في الدليلين، وقد يقع في الدلالتين
(1)
. والفرق بينهما أن تَعارُض الدليلين يكون مع اعتقاد دلالة كل واحدٍ منهما على مطلوبه، وتَعارُض الدلالتين يقع في الدليل الواحد فيكون له وجهان، ثم قد يعتقد رجحان المعارض، فيصير إلى الراجح، وقد لا يتبين له الرجحان، فيتوقف.
وقد يَترك الحديث لظنِّه انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ
(2)
لم يبلغه الخلاف، ويكون إنما معه عدم العلم بالمخالف، لا العلم بوجود
(3)
المخالف. وهذا العذر لم يكن أحدٌ من الأئمة والسلف يصير إليه، وإنما لَهِجَ به المتأخرون. وقد أنكره أشدَّ الإنكار الشافعي والإمام أحمد، وقال الشافعي:«ما لا يُعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع»
(4)
، هذا لفظه
(5)
. وأمَّا الإمام أحمد فقال: «مَن ادَّعى الإجماع فقد كَذَبَ، وما يدريه لعل الناس اختلفوا»
(6)
. وقد كتبتُ نصوصه ونصوص الشافعي في غير هذا الموضع
(7)
.
ولا خلاف بين الأئمة أنه إذا صحَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
(8)
يكن
(1)
«ح» : «الرابع أن يتعارض عنده الدليلين» .
(2)
«ب» : «إذا» .
(3)
«ح» : «فوجود» . والعبارة مشكلة، تبدو لي مقلوبة، وصوابها فيما أظن:«ويكون ما معه عدم العلم بالمخالف لا العلم بعدم المخالف» .
(4)
ينظر «الأم» (8/ 552، 9/ 30).
(5)
«هذا لفظه» ليس في «ب» .
(6)
«مسائل عبد الله بن أحمد» (1587).
(7)
ينظر «أعلام الموقعين» (1/ 61 - 62).
(8)
«لم» . سقط من «ح» .
عدم العلم بالقائل به مسوِّغًا لمخالفته، فإنه دليل
(1)
مُوجِب للاتباع
(2)
، وعدم العلم بالمخالف لا يصلح أن يكون معارضًا، فلا
(3)
يجوز ترك الدليل له.
وإذا تأمَّلْت هذا الموضع وجدت كثيرًا من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوال متمسَّكُهم فيها عدمُ العلم بالمخالف، مع قيام الأدلة الظاهرة على خلاف تلك الأقوال. وعُذْرُهم رضي الله عنهم أنهم لم يمكن أحدًا منهم أن يبتدئ قولًا لم يَعلم به قائلًا، مع علمه بأن الناس قد قالوا [ق 34 أ] خلافه، فيتركَّب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل.
وها هنا انقسم العلماء
(4)
ثلاثة أقسام:
فقسمٌ أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم، وقالوا: لا يجوز لنا أن نخالفهم ونقول قولًا لم نُسبَق إليه. وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم. فأمَّا مَن وصل إليه الخلاف وعَلِمَ بذلك القول قائلًا فما أدري ما عذره عند الله في مخالفته صريح الدليل
(5)
؟!
وقسمٌ توقفوا وعلَّقوا القول، فقالوا: إن كان في المسألة إجماعٌ فهو أحق ما اتُّبِعَ، وإلا فالقول فيها كَيْتَ وكَيْتَ، وهو موجَب الدليل. ولو عَلِمَ هؤلاء قائلًا به لصرحوا بموافقته. فإذا عُلم به قائلٌ فالذي ينبغي ـ ولا يجوز غيره ـ أن يُضاف ذلك القول إليهم؛ لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائل به، وأنه لو كان
(1)
«دليل» ليس في «ح» .
(2)
«ح» : «الاتباع» .
(3)
«ح» : «ولا» .
(4)
«العلماء» سقط من «ح» .
(5)
«ب» : «مخالفة صريح الدليل منه» .
به قائل لصاروا إليه. فإذا ظهر به قائل لم يَجُزْ أن يُضاف إليهم غيره إلَّا على الوجه المذكور، وهذه الطريقة أسلم.
وقسمٌ ثالثٌ: اتبعوا موجَب الدليل، وصاروا إليه، ولم يُقدِّموا عليه قول مَن ليس قوله حجة، ثم انقسم هؤلاء قسمين:
فطائفةٌ علمت أنه يستحيل أن تُجمِع الأُمة على خلاف هذا الدليل، وعلمت أنه لا بد أن يكون في الأُمة مَن قال بموجَبه
(1)
، وإن لم يبلغهم قوله، فما كل ما قاله كل واحدٍ من أهل العلم وصل إلى كل واحدٍ واحدٍ من المجتهدين، وهذا لا يدَّعيه عاقلٌ، ولا يُدَّعى في أحدٍ. وقد نصَّ الشافعي على مثل ذلك، فذكر البيهقي عنه في «المدخل»
(2)
أنه قال له بعض مَن ناظره: فهل تجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنة ثابتة متصلة خالفها الكل؟ قلت: لا
(3)
، لم أجدها قط كما وجدت المُرْسَل.
وطائفةٌ قالت: يجوز ألَّا يتقدم به قائلٌ، ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثيرٌ منهم أو أكثرهم بذلك القول، ولم يُسْتَفْتَ فيها الباقون، ولم تبلغهم، فحُفِظَ فيها قول طائفة من أهل العلم، ولم يُحفَظ لغيرهم فيها قول، والذين حُفِظَ قولُهم فيها ليسوا كلَّ الأُمة، فيَحْرُم مخالفتهم.
قالوا: فنحن
(4)
في مخالفتنا لمَن ليس قوله حجةً أعذرُ منكم في
مخالفتكم لمَن قوله حجة. فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول مَن بلغتكم أقوالهم ـ مع أنهم ليسوا كلَّ الأُمة ـ فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم. وهذا كما تراه لا يمكن دَفْعُه إلَّا بمكابرة أو إجماعٍ متيقَّنٍ معلومٍ لا شك فيه، وبالله التوفيق.
وممَّا يوضِّح هذا أن كل مَن ترك موجَب الدليل لِظَنِّ الإجماع فإنه قد تبيَّن لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة، والخلاف فيها قائمٌ، ونحن نَذكُرُ من ذلك طَرَفًا يسيرًا يَستدِلُّ به العالم على ما وراءه.
فمن ذلك:
قول مالك: «لا أعلم أحدًا أجاز شهادة العبد»
(1)
. وصدق رضي الله عنه، فلم يَعلم أحدًا أجازها، وعَلِمَه غيره. فأجازها علي بن أبي طالب
(2)
وأنس بن مالك
(3)
وشريح القاضي
(4)
، حكاه الإمام أحمد وغيره، وروى أحمد
(5)
عن أنس قال: «لا أعلم أحدًا ردَّ شهادة العبد» .
(1)
لم نقف عليه عن الإمام مالك بهذا اللفظ، والذي في «المدونة» (4/ 541):«قال مالك: لا تجوز شهادة العبد في شيء من الأشياء» . انتهى. وهو في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لمالك، وعزا شيخ الإسلام في «النبوات» (1/ 479) نحوه إلى الشافعي.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (20656).
(3)
علقه البخاري في «صحيحه» (3/ 173) ووصله ابن أبي شيبة في «المصنف» (20652).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (20653).
(5)
أخرجه الخلال من طريق المروذي عن أحمد كما في «النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر» لابن مفلح (2/ 305).
وقال: «لا أعلم أحدًا أَوْجَبَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
(1)
»
(2)
. ووجوبها محفوظٌ عن أبي جعفر الباقر
(3)
.
وقال الشافعي: «أجمعوا على أن المعتَق بعضُه لا
(4)
يرث»
(5)
. وقد صحَّ توريثه عن عليٍّ وابن مسعودٍ
(6)
.
وقال الشافعي
(7)
وقد قيل له: فهل من مرسلٍ ما قال به أحدٌ؟ قال: نعم، أخبرنا ابن عُيينة، عن محمد بن المنكدر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، يريد أن يأخذ مالي فيُطعِم عياله. فقال:«أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»
(8)
.
(1)
«في الصلاة» ليس في «ب» .
(2)
لم نقف عليه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) دون تسمية قائله، وينظر «الأوسط» لابن المنذر (3/ 212 - 213).
(3)
عزاه له شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) وينظر «جلاء الأفهام» لابن القيم (ص 331).
(4)
«لا» سقط من «ب» .
(5)
نقله ابن المنذر في «الإشراف» (8/ 110) عن الشافعي، ولم نجد في كتب الشافعية حكاية الإجماع على ذلك؛ بل ذكروا الخلاف، ينظر «الحاوي» للماوردي (8/ 83) و «الروضة» للنووي (6/ 30). وهذا القول في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لأحد.
(6)
ينظر «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (4/ 371 - 372).
(7)
«الرسالة» (ص 467).
(8)
أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي وقال: «هذا منقطع، وقد روي موصولًا من أوجُه أُخر، ولا يثبت مثلها» . وسيأتي الإشارة إلى من وصله قريبًا.
قال الشافعي
(1)
: فقال محمد بن الحسن: أما نحن فلا نأخذ بهذا
(2)
، ولكن هل من أصحابك مَن يأخذ به؟ قلت: لا
(3)
؛ لأن من أخذ بهذا جعل للأب المُوسِر أن يأخذ من مال ابنه
(4)
. قال: أَجَلْ، ما يقول بهذا أحدٌ، فلِمَ يخالفه الناس؟ قلت: لأنه لم يَثبُت؛ فإن
(5)
الله لمَّا فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارثِ غيرِه، وقد يكون أنقص حظًّا من كثيرٍ من
(6)
الورثة، دلَّ ذلك على أن
(7)
ابنه مالكٌ للمال دونه.
وقد قال بهذا الحديث جماعةٌ من السلف
(8)
، منهم شيخ الشافعي سفيان بن عيينة
(9)
، وصاحبه الإمام أحمد وغيرهما
(10)
، ولم يَعلم به .......
(1)
«الرسالة» (ص 467).
(2)
«ح» : «بها» .
(3)
«لا» سقط من «ح» .
(4)
«ب» : «أبيه» . وهو تصحيف.
(5)
«ح» : «وأن» .
(6)
«من» سقط من «ح» .
(7)
«أن» سقط من «ح» .
(8)
قد أفرد الحافظ ابن عبد الهادي هذه المسألة في جزءٍ لطيفٍ، طُبع في مجموع باسم «رِيُّ الفسائل في مجموع الرسائل» (ص 283 - 298)، قال فيه (ص 287):«وقد قال به عائشة ومسروق وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشعبي والحسن البصري وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم» . ثم ذكر آثارهم في ذلك.
(9)
قال الحافظ ابن عبد الهادي في «مجموعه» المشار إليه سابقًا (ص 288 - 289): «وقال سفيان بن عيينة: ذكر الله بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم؛ لأنهم دخلوا في قوله: {بُيُوتِكُمْ} [النور: 59] فلما كان بيوت أولادهم كبيوتهم لم يَذكُر بيوت أولادهم» .
(10)
ينظر «المغني» لابن قدامة (8/ 272 - 274) و «مجموع ابن عبد الهادي» (ص 285 - 286).
الشافعي قائلًا، واعتذر عن
(1)
مخالفته بأنه مُرسَلٌ لم يثبت، ولم يعتذر عن مخالفته بالإجماع، وقد صحَّ اتصاله
(2)
.
وقال الثوري فيما إذا طَلَّقَ المدخول بها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخول ثانٍ
(3)
بعد الرجعة، فإن أكثر العلماء على أنها تستأنف العدة، قال سفيان: أجمع الفقهاء على هذا.
(1)
«ح» : «وأعذر من» .
(2)
أخرجه ابن ماجه (2291) والطبراني في «المعجم الصغير» (947) وفي «المعجم الأوسط» (6570، 6728) عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه موصولًا. وقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي مرسلًا، ثم قال:«قد روي موصولا من أوجُه أُخَر، ولا يثبت مثلها» . وصحح إسناده ابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 103) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 665) والبوصيري في «مصباح الزجاجة» (811) وقال المنذري في «مختصر السنن» (5/ 183): إسناده ثقات. ورجَّح إرساله أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (1399) وقال الحافظ ابن عبد الهادي: «المشهور فيه الإرسال كما ذكره الشافعي» .
وأخرجه ابن حبان (410) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. قال ابن الملقن في «خلاصة الإبريز» (2/ 304): «وهو أصحُّ طُرُقِه الثمانية» .
وأخرجه أحمد (6902) وأبو داود (3530) وابن ماجه (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه.
وفي الباب عن سمرة بن جندب وعمر بن الخطاب وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم. ينظر: «تنقيح التحقيق» (4/ 230 - 231) و «نصب الراية» (3/ 337 - 339) و «البدر المنير» (7/ 665 - 671).
(3)
«ح» : «بها» .
وسفيان من كبار
(1)
أئمة الإسلام، وقد حكى الإجماع على هذا. والنزاع في ذلك موجود قبله وبعده
(2)
، فإن مذهب عطاء أنها تبني على ما مضى، كما لو طَلَّقها قبل الرجعة، وهو أحد قولَي الشافعي، وأحد الروايتين عن أحمد. وحُكي عن مالك قولٌ ثالث: إنه إن قصد الإضرار بها بنت، وإلَّا استأنفت. وحُكي عن داود قولٌ رابع: إنه لا عِدَّة عليها بحال. جعلها مطلقة قبل الدخول، فلا عدة عليها بالطلاق الثاني، والأول انقطعت عدته [ق 34 ب] بالرجعة. والأكثرون يقولون: هي زوجةٌ مدخولٌ بها
(3)
.
ومن ذلك: أن
الليث بن سعد حكى الإجماع على
(4)
أن المسافر لا يَقصُر الصلاة في أقل من يومين.
هذا مع سَعة عِلْمه وفقهه وجلالة قدره، والنزاع في مسافة القصر عن الصحابة والتابعين أَشهَرُ من أن يُذكَر.
ومن ذلك: ما ذكره مالك في «موطَّئه»
(5)
فقال: «فمن الحجة على من قال ذلك القول ـ أي إنه لا يقضى بشاهدٍ ويمينٍ؛ لأنه ليس في القرآن ـ فيقال: أرأيت لو أن واحدًا ادعى على رجلٍ مالًا أليس يُحلَّف المطلوب ما ذلك الحق عليه، وإن حلف بَطَلَ ذلك الحق عنه، وإن نَكَلَ عن اليمين
(6)
حُلِّف صاحب الحق إن حقه لَحَقٌّ، وثبت حقُّه على صاحبه». قال: «فهذا ممَّا
(1)
«من كبار» «ح» : «كان من» .
(2)
«وبعده» ليس في «ب» .
(3)
ينظر: «الاستذكار» (18/ 105) و «المغني» (10/ 571).
(4)
«على» ليس في «ب» .
(5)
«الموطأ» (2/ 724).
(6)
أي: امتنع عنه.
لا خلاف
(1)
فيه عند أحدٍ من الناس، ولا ببلدٍ من البلاد».
والخلاف في القضاء بالنكول وَحْدَه دون اشتراط ردِّ اليمين أشهرُ من أن يُذكَر. وإبراهيم النخَعي لا يقول بالردِّ بحالٍ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه لا يرون لزوم تحليف المدَّعي بحالٍ، بل يَقضُون بالنكول. وأبو ثور ذكر في المسألة قولًا ثالثًا: أنه إذا امتنع أن يحلف وسأل حَبْسَ المَدِين حبسه له.
وأحمد وإن كان يُحَلِّف المدَّعي في بعض الصور كالقَسامة والقضاء بشاهدٍ ويمينٍ، فإن المشهور عنه أنه يقضي بالنكول دون الردِّ. وفي مذهب أحمد قول آخر: أنه يقضي بالرد، وهو اختيار أبي الخطاب
(2)
وأبي محمد المقدسي في «العمدة»
(3)
. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه من قضى بالنكول نُقِضَ
(4)
حكمه
(5)
.
ومع هذا فأبو عُبيد يحكي الإجماع على خلاف هذا، فإنه قال في كتاب «القضاء» لمَّا ذكر أحاديث القضاء: إن اليمين على المدعَى عليه. قال: وفي ذلك سُنة يُستدَلُّ عليها بالتأويل، وذلك أنه لما قضى أنه لا براءةَ للمطلوب
(1)
«ب» : «اختلاف» . وكذا في «الموطأ» .
(2)
ينظر «الهداية» لأبي الخطاب الكَلْوَذاني (ص 582) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 285).
(3)
«العمدة» (ص 147).
(4)
من قوله: «بالرد وهو اختيار أبي الخطاب» إلى هنا سقط من «ح» .
(5)
ينظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/ 384) و «الحاوي» للماوردي (16/ 316) و «المحلى» (9/ 372 - 380) و «الاستذكار» (22/ 57) و «المغني» (14/ 233).
إلَّا باليمين إلى الطالب، كان فيه دليل على أن ترك أدائها إيجابٌ للدعوى
(1)
عليه، وتصديق لِمَا يُدَّعى. قال: وقد زعم بعض من يدَّعي النظر في الفقه أن إباء اليمين لا يُوجِب عليه حقًّا، ولكنه ـ زعم ـ يُحبَس حتى يُقِرَّ أو يَحلِف، وهذا خلاف التأويل والأخبار وإجماع العلماء.
ومن ذلك: ما
(2)
قاله مالك في «موطَّئه»
(3)
: «الأمر المجمع عليه عندنا والذي سَمِعتُ ممَّن أرضى به في القَسامة
(4)
، والذي اجتمعت عليه الأُمة في القديم والحديث، أن يبدأ بيمين المدَّعين في القسامة، وأن القسامة لا تجب إلَّا بأحد أمرين: إمَّا أن يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي وُلاة الدم بلَوْثٍ
(5)
، فهذا يوجب القسامة للمدَّعين للدم على مَنِ ادَّعوه عليه. قال مالك: ولا تجب القسامة إلَّا بأحد هذين الوجهين. قال مالك: وتلك السُّنَّة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يَزَلْ عليه الناس أن المُبَدَّئين بالقسامة
(1)
«ح» : «الدعوى» .
(2)
«ما» . سقط من «ب» .
(3)
«الموطأ» (2/ 787).
(4)
القسامة: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلًا بين قومٍ ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 62).
(5)
اللوث: أن يشهد شاهدٌ واحدٌ على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانًا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما، أو تهديد منه له، أو نحو ذلك، وهو من التلوث: التلطخ. يقال: لاثه في التراب ولوثه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 275).
أهلُ الدم الذين
(1)
يَدَّعونه في العمد والخطأ».
قال ابن عبد البر
(2)
وكذلك أنكروا عليه أيضًا في هذا الباب قولَه: «الأمر المُجمَع عليه عندنا أن يبدأ المدَّعون بالأيمان في القسامة» . قالوا: فكيف اجتمعت الأئمة في الفقه والحديث، وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن رجلٍ من الأنصار «أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ اليهود في الأيمان» ؟!
قال: وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته عن ابن شهاب، فمن روايته عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادَّعى دية وَلِيِّه على رجلٍ من بني سعد بن ليث ـ وكان أجرى فرسه فوَطِئَ على إصبع الجهني فنُزِي
(3)
منها الدمُ فمات، فقال عمر للذي ادَّعى عليهم ـ: أتحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأَبَوْا وتَحرَّجوا، وقال للمدَّعين: احلفوا. فأَبَوْا، فقضى [بشَطْر الدية]
(4)
على السعديينَ
(5)
. قالوا: فأيُّ
(1)
في النسختين: «الذي» . والمثبت من «الموطأ» و «الاستذكار» .
(2)
«الاستذكار» (25/ 324 - 325).
(3)
أي: جرى ولم ينقطع. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 43).
(4)
في النسختين: «بالدية» . والمثبت من «الموطأ» وغيره.
(5)
أخرجه مالك في «الموطأ» (طبعة الأعظمي)(3150) وعنه الشافعي في «الأم» (8/ 648) وعبد الرزاق في «المصنف» (18297) وابن أبي شيبة في «المصنف» (28202) وقال الإمام مالك: «ليس العمل على هذا» . قال ابن عبد البر: «لأن فيه تبدئة المدَّعى عليه بالدم بالأيمان، وذلك خلاف السُّنَّة التي رواها وذكرها في كتابه «الموطأ» في الحادثين من الأنصار المدَّعين على يهود خيبر قَتْلَ وليِّهم». انتهى. وقال ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 449): «هذا إسناد صحيح، والأثر غريب جدًّا» .
أُمةٍ اجتمعت
(1)
على هذا».
ومن ذلك: قال الشافعي في «مختصر المُزَنيِّ»
(2)
في مسألة اليمين الغموس: «ودلَّ إجماعهم على أن مَن حَلَقَ في الإحرام عمدًا أو خطأً أو قَتَلَ صيدًا عمدًا أو خطأ في الكفارة سواءٌ، وعلى أن الحالف بالله وقاتِلَ المؤمنِ عمدًا أو خطأً في الكفارة سواءٌ
(3)
».
فقد ذكر الإجماع على التسوية بين العامد والمخطئ في قَتْل الصيد وحَلْق الشعر، ومعلومٌ ثبوتُ النزاع في ذلك قديمًا وحديثًا. فمذهب جماعةٍ من السلف أن قاتل الصيد خطأً لا جزاء عليه، ويُروى ذلك عن ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير، ويُروى ذلك عن القاسم وسالم وعطاء ومجاهد، وهو قول ابن
(4)
المنذر وداود وأصحابه، وقول إسحاق في الشَّعر. وهو رواية عن أحمد في الصيد، وخرَّج أصحابُه في مذهبه في الحلق والتقليم قولًا مثله. وكذلك ذكره
(5)
ابن أبي هريرة
(6)
قولًا للشافعي في الصيد، وذكر أبو
(1)
«ب» : «أجمعت» .
(2)
«مختصر المزني» (ص 397).
(3)
من قوله: «وعلى أن الحالف» إلى هنا سقط من «ب» .
(4)
«ابن» سقط من «ب» . وقول ابن المنذر في كتابه «الإشراف» (3/ 229).
(5)
«ذكره» ليس في «ح» .
(6)
«ب» : «هبيرة» . وأبو علي بن أبي هريرة هو الإمام الجليل القاضي الحسن بن الحسين، ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 256) وقال عنه:«أحد عظماء الأصحاب ورفعائهم، المشهور اسمه، الطائر في الآفاق ذكره» .
إسحاق وغيره أن له قولًا مُخرَّجًا في الحلق والتقليم في الخطأ: أنه لا كفارةَ فيه كالطِّيب واللباس. فصار في المسألة ثلاثة أقوال: الكفارة فيهما
(1)
، وعدم الكفارة فيهما، والكفارة [ق 35 أ] في الصيد دون الحلق والتقليم
(2)
.
ومن ذلك:
(3)
ما حكاه ابن المنذر
(4)
قال: «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إن دخلتِ الدار. فطلَّقها
(5)
ثلاثًا ثم تزوجت بعد ما انقضت عدتها، ثم نكحها الحالف الأول، ثم دخلت الدار أنه لا يقع عليها الطلاق؛ لأن طلاق المِلْك قد
(6)
انقضى».
والنزاع في هذه المسألة معروفٌ، فإن هذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: ألَّا توجد
(7)
الصفة، فإن الصفة تعود في المشهور في مذهب أحمد، حتى إن من أصحابه مَن يقول: بعود
(8)
الصفة هنا روايةً واحدةً. وهذا
(1)
«فيهما» ليس في «ب» .
(2)
ينظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 229) و «الاستذكار» (13/ 382) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 218) و «الحاوي» (4/ 282) و «المغني» لابن قدامة (5/ 391، 396).
(3)
تأخر هذا المثل برُمَّته في «ب» فجاء بعد المثل التالي.
(4)
«الأوسط» (9/ 287) و «الإشراف» (5/ 245).
(5)
«ح» : «وطلقها» .
(6)
«قد» ليس في «ب» .
(7)
«ح» : «يوجد» .
(8)
«ح» : «تعود» .
أحد أقوال الشافعي، بل هو الصحيح عند العراقيين من أصحابه، كما ذكره أبو إسحاق وغيره. وهو قولُ حماد بن أبي
(1)
سليمان وزُفَرَ، وكذلك ذكره الطحاوي
(2)
عن الأوزاعي وعثمان البَّتِّي وابن المَاجِشُون: إذا طلَّق ثم تزوج تعود اليمين. قال الطحاوي: ولم يذكروا بعد الثلاث.
والقول الثاني: لا تعود الصفة بحال، وهو قول أبي ثور والمزني، وقد حكى ابن حامد روايةً فيمن قال لعبده: إن دخلتَ الدار فأنت حُرٌّ. ثم باعه قبل الدخول، ثم اشتراه، لم يُعتق عليه بحالٍ. فذكر عنه في العتق أن الصفة لا تعود، وفي الطلاق أولى، كما صرَّح أصحابه بمثل ذلك القول.
الثالث
(3)
: أنه إن أبانها بالثلاث لم ترجع الصفة، وبدونها ترجع. وهو مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي
(4)
.
ومن ذلك: ما حكاه ابن المنذر
(5)
قال
(6)
: «أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا
(7)
إن شئتِ.
(1)
«أبي» ليس في «ب» . وحماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي فقيه العراق ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (5/ 231).
(2)
في كتابه «اختلاف العلماء» ، وعنه الرازي في «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 445).
(3)
«الثالث» سقط من «ح» .
(4)
ينظر: «التجريد» للقدوري (9/ 4801) و «الحاوي» للماوردي (10/ 20) و «المغني» لابن قدامة (10/ 320).
(5)
«الأوسط» (9/ 295) و «الإشراف» (5/ 248).
(6)
«قال» ليس في «ح» .
(7)
«ثلاثًا» ليس في «ح» .
فقالت: قد شئتُ إن شاء فلان. أنها قد رَدَّتِ الأمر، ولا يلزمه الطلاق إن شاء فلان. كذلك قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الشافعي
(1)
».
ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة وجهان، حكاهما الماوردي
(2)
وغيره.
ومن ذلك: قال ابن المنذر
(3)
: «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إلَّا اثنتين. أنها تُطَلَّق واحدةً، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا واحدة. أنها تُطَلَّق ثنتين، فإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. طُلِّقَت ثلاثًا، وممَّن حُفِظ هذا
(4)
عنه الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي».
والخلاف في المسألة مشهور؛ فمذهب أحمد المنصوص عنه: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثنتين. وقعتِ الثلاث؛ لأن استثناء الأكثر عنده باطل، وإذا قال: ثلاثًا إلَّا واحدة. صحَّ الاستثناء في المشهور من مذهبه. وقال أبو بكر عبد العزيز: لا يصح الاستثناء في الطلاق. وهو نظير أَشهَر الروايتين عن شريح فيما إذا قال: أنت طالق إن دخلتِ الدار. أنها تُطلَّق، ولا يتعلَّق بالشرط المؤخَّر. وهي رواية ثابتة
(5)
عن أحمد، وأكثر أجوبته كقول الجمهور
(6)
.
(1)
في «الأوسط» و «الإشراف» : «وأصحاب الرأي» .
(2)
«الحاوي» للماوردي (10/ 145).
(3)
«الأوسط» (9/ 288) و «الإشراف» (5/ 243).
(4)
«هذا» ليس في «ح» .
(5)
«ب» : «ثانية» .
(6)
ينظر «المغني» (10/ 404 - 405).
ومن ذلك
(1)
: أن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الاعتكاف يلزم بالشروع، فقال
(2)
: «وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول، وإن قَطَعَه لَزِمَه قضاؤه» . قال ابن عبد البر
(3)
: «لا يختلف في ذلك الفقهاء» . ويلزمه القضاء عند جمهور
(4)
العلماء.
والخلاف في ذلك أشهر شيءٍ، فمذهب الشافعي وأحمد في مشهور قوله: أنه لا يلزم. وقال الشافعي: كل عملٍ لك ألَّا تَدخُل فيه، فإذا دخلت فيه فليس عليك أن تقضي إلَّا الحج والعمرة
(5)
.
ومن ذلك: ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال: لا اختلاف أنه لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ
(6)
. والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة والتابعين.
ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر
(7)
في «الاستذكار»
(8)
قال: «وأمَّا القراءة في الركوع والسجود فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز» .
وليس ذلك بإجماعٍ، فقد سُئل عطاء عن ذلك، فقال: رأيت عُبيد بن
(1)
بعده في «ب» : «ما حكاه» وعليه حاشية: «أي: ابن حامد» .
(2)
ينظر «الاستذكار» (10/ 305 - 306).
(3)
«الاستذكار» (10/ 306).
(4)
«ح» : «جميع» .
(5)
ينظر «الأم» (3/ 260) و «المغني» (3/ 457).
(6)
«مسائل صالح بن أحمد بن حنبل» (1496).
(7)
«بن عبد البر» ليس في «ح» .
(8)
«الاستذكار» (4/ 154).
عمير يقرأ وهو راكع
(1)
. وحُكي عن سلمان
(2)
بن ربيعة: أنه كان يقرأ وهو ساجد
(3)
. وقال مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقرأ فيترك الآية فيَذْكُرها وهو راكع قال: يقرأها وهو راكع
(4)
. وقال مغيرة: كانوا يقرءون في الركوع الآية والآيتين إذا بقي على الرَّجل من قراءته
(5)
.
ومن ذلك: ما حكاه إبراهيم بن مسلم الخُوارِزمي في كتاب «الطهور»
(6)
وقد ذكر من كان يتوضأ مِن مسِّ الذكر ثم قال: «وهذا منسوخٌ؛ لأن أهل العلم اجتمعوا على خلاف هذا» .
ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: «وأما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع الفقهاء على أنه لا يُقبل في شهادة شوال في الفطر إلَّا شهادة رجلين عدلين»
(7)
.
والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد حكى ابن المنذر
(8)
عن أبي ثور
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2841) وابن أبي شيبة في «المصنف» (8150).
(2)
«ح» : «سليمان» . وهو سلمان بن ربيعة الباهلي، ترجمته في «تهذيب الكمال» (11/ 240 (.
(3)
قال ابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 416): «روى أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخي سليمان بن ربيعة وهو ساجد وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ ثم يجيء وهو ساجد لَفعل» .
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8151).
(5)
نقله عنه ابن رجب في «فتح الباري» (7/ 189).
(6)
لم نقف على كتاب «الطهور» للخوارزمي.
(7)
«التمهيد» (14/ 354).
(8)
«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (3/ 113).
وطائفة من أهل الحديث القول بقبول الواحد في الصوم والفطر.
ومن ذلك: ما قاله أبو ثور: لا يختلفون أن أقل الطُّهر خمسة عشر يومًا.
والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد قال إسحاق: توقيت هؤلاء بخمسةَ عشرَ باطلٌ. وقال أحمد في إحدى
(1)
الروايتين عنه: أَقَلُّه ثلاثة عشر يومًا
(2)
.
ومن ذلك: ما حكاه غير واحدٍ من العلماء: أن الحالف بالطلاق والعتاق إذا حَنِثَ في يمينه أنه يُطلق عليه زوجته، ويُعتق عليه عبده أو جاريته.
حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم [ق 35 ب]، وعذرهم أنهم قالوا بموجَب عِلْمِهم، وإلَّا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوهٍ:
الوجه الأول: ما رواه الأنصاري: حدثنا أشعث
(3)
، ثنا بكر، عن أبي رافع «أن مولاته أرادت أن تُفرِّق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية، وكل مملوكٍ لها حرٌّ، وكل مالٍ لها في سبيل الله، وعليها المشي إلى بيت الله، إن لم تفرِّق
(4)
بينهما. فسألت عائشةَ وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة، فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بينهما»
(5)
.
(1)
في النسختين: «أحد» .
(2)
ينظر: «التمهيد» (16/ 73 - 74) و «المغني» (1/ 390).
(3)
في النسختين: «أشعب» . وهو تصحيف، والتصويب من مصادر التخريج، وهو أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري، ترجمته في «تهذيب الكمال» (3/ 277).
(4)
«ب» : «يفرق» .
(5)
أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8914) والدارقطني في «السنن» (5/ 288 - 289) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 65) وابن حزم في «المحلى» (8/ 8) من طريق الأنصاري به. وصححه ابن القيم في «أعلام الموقعين» (3/ 518). وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق في «المصنف» (16000، 16013) والبخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 281) والأثرم كما في «مجموع الفتاوى» (33/ 188).
وقال يحيى بن سعيد القطان: عن سليمان التيمي، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع فذكره عن زينب
(1)
.
ورواه الأوزاعي: حدثني جَسْر
(2)
بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رفيع
(3)
فذكره، وذكر فيه العتق
(4)
.
فهذه ثلاث طرقٍ، فقد بَرِئَ سليمان التيمي من عُهدة التفرُّد بذِكْر العتق بمتابعة أشعث
(5)
وجَسر
(6)
بن الحسن له، حتى ولو تَفرَّد بها التيمي فهو
(1)
«عن زينب» ليس في «ب» . والأثر أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8913) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 66) والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3/ 1087).
(2)
في «ح» : «حسن» . وهو تصحيف. وهو أبو عثمان جسر بن الحسن اليمامي ويقال: الكوفي ويقال: البصري، الجمهور على تضعيفه. ترجمته في «تهذيب الكمال» (4/ 556) و «ميزان الاعتدال» (1/ 398).
(3)
كذا وقع في هذه الرواية، وفي الروايتين السابقتين:«أبو رافع» . وأبو رافع هو نفيع ـ بالنون ـ الصائغ المدني، نزيل البصرة، مولى ابنة عمر بن الخطاب، وقيل: مولى ليلى بنت العجماء. أدرك الجاهلية، ولم يَرَ النبي صلى الله عليه وسلم. ترجمته في «تهذيب الكمال» (30/ 14).
(4)
أخرجه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في «المترجم» ـ كما في «العقود» لابن تيمية (ص 260) و «أعلام الموقعين» للمصنف (3/ 50) ـ وأبو العباس الأصم في «الثاني من حديثه» (18).
(5)
«ب» : «أشعب» . وهو تصحيف تقدم التنبيه عليه.
(6)
«ح» : «وحسن» . وهو تصحيف، تقدم التنبيه عليه أيضًا.
أَجَلُّ مِنْ أن يُرَدَّ ما تفرَّد به، وهو أَجَلُّ مِنَ الذين لم يذكروا الزيادة. فصحَّ ذِكْرُ العتق في هذا الأثر وزال الارتياب.
فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُعلم لهم مخالفٌ أفتَوْا من قالت: كل مملوكٍ لها حرٌّ إن لم يفرق بين مملوكها وبين امرأته، أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بين الرجل وامرأته. وهُم ابن عباس في سَعة علمه، وابن عمر في شِدَّة وَرَعه وتحرِّيه، وأبو هريرة مع كثرة حِفْظه، وعائشة وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء من أفقه نساء الصحابة، أو أَفْقَهُهن على الإطلاق.
فإن كان التقليد
(1)
فمَن جعل هؤلاء بينه وبين الله أَعْذَرَ عند الله ممَّن جعل بينه وبينه مَن لا يدانيهم، وإن كان الدليل
(2)
والحجة فهاتوا دليلًا واحدًا لا مَطْعَنَ
(3)
فيه من كتاب الله أو سُنة رسوله أو قياسٍ يستوي فيه حكم الأصل والفرع على وقوع الطلاق المحلوف به. وأكثركم لم يعوِّل في ذلك إلَّا
(4)
على ما ظنه من الإجماع، وهو معذورٌ قبل الاطلاع على النزاع، فما عذره بعد الاطلاع على أن المسألة مسألة خلافٍ بين الأئمة إذا استحل عقوبة من يُفتي بها وجاهَرَ بالكذب والبَهت أنه خالفَ إجماع الأُمة، أَفَتَرى هؤلاء الذين هم من سادات الأُمة وعلمائها يُفتُون بالكفارة في العتق وبلزوم الطلاق، وهل يمكن بشرًا على وجه الأرض أن يُفرِّق بين قول الحالف: إن فعلتُ كذا فعبدي حرٌّ. وبين قوله: إن فعلتُ كذا وكذا
(5)
فامرأتي طالق. بفرقٍ
(1)
«ب» : «للتقليد» .
(2)
«ب» : «للدليل» .
(3)
«ح» : «يطعن» .
(4)
«إلا» سقط من «ح» .
(5)
«وكذا» ليس في «ب» .
تَلُوح منه رائحة الفقه.
الوجه الثاني من الوجوه المبينة
(1)
أن المسألة مسألة نزاعٍ، لا مسألة إجماعٍ: ما رواه عبد الرزاق في «جامعه»
(2)
: حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:«أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري» .
الوجه الثالث: ما رواه سُنيد
(3)
بن داود في «تفسيره»
(4)
حدثنا عباد بن عباد المهلَّبي، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه:«إن لم أَجلِدْك مائة سوطٍ فامرأتي طالق. قال: لا يَجلِد غلامَه، ولا يُطلِّق امرأتَه، هذا من خُطوات الشيطان» .
الوجه الرابع: أن في الطلاق المعلَّق بالشرط قولين للعلماء:
أحدهما: يقع عند وقوع شرطه.
والثاني: لا يقع بحالٍ، ولا يتعلق الطلاق بالشرط، كما لا يتعلق النكاح به. وهذا اختيار أَجَلِّ أصحاب الشافعي الذي أخذ عنه وكان يلازمه: أبو عبد الرحمن
(5)
، ولا ينزل اختياره عن درجة من له وجهٌ من المتأخرين، بل
(1)
«ح» : «المثبتة» .
(2)
«المصنف» (11401) لكن شيخ عبد الرزاق فيه ابن جريج، لا معمر.
(3)
«ح» : «سيد» . وهو تصحيف، وسنيد هو الحسين بن داود المصيصي أبو علي المحتسب، وسنيد لقب غلب عليه، ترجمته في «تهذيب الكمال» (12/ 161).
(4)
عزاه إليه المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 791)
…
وابن كثير في «تفسيره» (1/ 479).
(5)
سمَّاه المصنِّف في «أعلام الموقعين» (5/ 553) وزاد مقامه تعريفًا؛ فقال: «هذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الأجلة أو أجلهم، وكان الشافعي يُجِلُّه ويكرمه ويكنيه ويعظِّمه
…
وذكره أبو إسحاق الشيرازي في «طبقات أصحاب الشافعي» ، ومحل الرجل من العلم والتضلُّع منه لا يُدفَع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، وكان رفيق أبي ثور، وهو أجلُّ من جميع أصحاب الوجوه من المنتسبين إلى الشافعي، فإذا نزل بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا، وهو أقل درجاته».
هو أجلُّ من أصحاب الوجوه. وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني وابن حزم وأصحابهما.
قال أبو محمد بن حزم
(1)
: «واليمين بالطلاق لا يلزم، سواء برَّ أو حَنِثَ لا يقع به طلاق. ولا طلاق إلَّا كما أمره الله عز وجل، ولا يمين إلَّا كما أمر الله على لسان رسوله. والطلاق بالصفة عندنا
(2)
كما هو اليمين لا يجوز. وكل ذلك لا يلزم، ولا يكون طلاقًا إلَّا كما أمر الله عز وجل به وعلمه، وهو القصد إلى الطلاق، وأمَّا ما عدا ذلك فباطل. وممَّن قال بقولنا في أن اليمين بالطلاق ليس شيئًا، ولا يُقضى به على من حلف به: علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ولا يُعرف لعليٍّ مخالفٌ من الصحابة».
الوجه الخامس: أن أبا الحسين القدوري ذكر في «شرحه»
(3)
أنه إذا قال: طلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو فرضٌ أو ثابتٌ، أو إن فعلتِ كذا فطلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو ثابتٌ
(4)
؛ ففعلتْ، قال: فعلى قول أبي حنيفة لا يقع
(1)
«المحلى» (9/ 476 - 478).
(2)
«ح» : «عند» .
(3)
«شرح مختصر الكرخي» ، ولم يُطبع بعد، وله نسخ متفرقة في مكتبات العالم، ينظر «الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط الفقه وأصوله» (5/ 462 - 463).
(4)
«أو إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو لازم أو ثابت» ليس في «ب» .
الطلاق في الكل، وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد يقع في قوله لازم، ولا يقع في قوله واجب. قال صاحب «الذخيرة»
(1)
: وكان
(2)
الشيخ ظهير الدِّين
(3)
المرغيناني يُفتي بعدم
(4)
الوقوع في الكل
(5)
.
الوجه السادس
(6)
: أن القَفَّال أفتى في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه لا يقع به الطلاق، نواه أو لم يَنوِه. قال
(7)
أبو القاسم عبد الرحمن بن يونس
(8)
في «شرح التنبيه» في قول المصنِّف: وإن قال: الطلاق والعتاق لازمٌ لي ونواه
(1)
«ذخيرة الفتاوى» المشهورة بـ «الذخيرة البرهانية» ، للإمام برهان الدِّين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري المتوفى سنة 616، اختصرها من كتابه «المحيط البرهاني» . «كشف الظنون» (1/ 823). والنقل في «المحيط البرهاني» (3/ 209).
(2)
«ح» : «وكا» .
(3)
«ب» : «ابن» . والمرغيناني هو الإمام ظهير الدِّين أبو الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني المتوفى سنة ست وخمسمائة، ترجمته في «الجواهر المضية» (1/ 364).
(4)
«ح» : «بعد» .
(5)
ينظر: «المبسوط» للسرخسي (9/ 34).
(6)
في النسختين: «الخامس» . فتكرر فيهما الخامس مرتين، ومشيا على هذا الخطأ إلى آخر الأوجه الأحد عشر، وقد صوبناها، واكتفينا بالتنبيه عليها هنا.
(7)
«قال» تكرر في «ح» .
(8)
لم أعرفه، ولمعرفة شروح «التنبيه» ينظر «كشف الظنون» (1/ 489 - 492) والمشهور من شراح «التنبيه» بابن يونس هو الإمام شرف الدِّين أبو الفضل أحمد بن موسى بن يونس الإربلي الشافعي، المتوفى سنة 622 هـ، قال الذهبي:«شرح كتاب «التنبيه» فأجاد». ترجمته في «تاريخ الإسلام» للذهبي (13/ 696) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (8/ 36).
لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل
(1)
[ق 36 أ] فجُعِل كناية. وقال الروياني: الطلاق لازم لي صريح. وعدَّ ذلك في صرايح
(2)
الطلاق. ولعل وجهه غلبة
(3)
استعماله لإرادة الطلاق. وقال القَفَّال في «فتاويه» : ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ حتى لا يقع به الطلاق، وإن نواه
(4)
.
الوجه السابع: أن أشهب بن عبد العزيز ـ وهو من أَجَلِّ أصحاب مالك ـ أفتى فيمن قال لامرأته: إن فعلتِ كذا وكذا فأنت طالق، ففَعَلَتْه تَقصِد وقوعَ الطلاق به، أنها لا تُطلَّق، مقابلةً لها بنقيض قَصْدِها
(5)
؛ كما لو قتل الوارث مَوْرُوثَه
(6)
أو المدبَّر سيِّدَه أو الموصى له الموصي
(7)
ونظائر ذلك ممَّا يُقابَل به الرجل بنقيض قَصْدِه. ذكر ذلك عنه ابن رشد في «مقدماته»
(8)
وهذا محض الفقه لو كان الحالف يقع به الطلاق
(9)
.
الوجه الثامن: أن أصحاب مالكٍ من أشد الناس في هذا الباب، فلا يَعذِرون الحالف بجهلٍ ولا نسيان، و
(10)
يُوقِعون الطلاق على من حلف
(1)
«ح» : «يحتمل» .
(2)
«ح» : «صراح» .
(3)
في النسختين: «عليه» . وهو تصحيف.
(4)
ينظر «كفاية النبيه» لابن الرفعة (14/ 431).
(5)
من قوله «ففعلته» إلى هنا تكرر في «ح» .
(6)
أي: من يرثه.
(7)
«الموصي» سقط من «ح» .
(8)
«المقدمات الممهدات» (1/ 576) ووصفه ابن رشد بقوله: «وهو شذوذ» .
(9)
ينظر «مواهب الجليل» للحطاب (4/ 46).
(10)
«نسيان و» . سقط من «ح» .
على ما لا يعلم فبان كما حلف عليه، ومع هذا فقد حكوا
(1)
عدم الوقوع بالحلف بالطلاق عن علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ونحن نذكر ألفاظهم. قال أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بَزِيزَة في كتاب «مطامح الأفهام في شرح كتاب الأحكام»: «الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق: فقد
(2)
قدَّمْنا في كتاب الأيمان اختلافَ العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس: لا يلزم من
(3)
ذلك شيءٌ، ولا يُقضى بالطلاق على مَن حلف به فحَنِثَ
(4)
. ولا يُعرف لعليٍّ في ذلك مخالِفٌ من الصحابة». هذا لَفْظُه مع اعتقاده وقوعَ الطلاق على من حلف به فحَنِثَ
(5)
، ولم يطعن في هذا النقل، ولم يَعتَرِضْه باعتراضٍ.
الوجه التاسع: أن فقهاء الإمامية مِن أوَّلهم إلى آخرهم يَنقُلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به، وهذا متواترٌ عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت.
وهَبْ أن مكابرًا كذَّبهم كلَّهم، وقال: قد تواطؤوا على الكذب عن أهل البيت. ففي القوم فقهاءُ وأصحاب علمٍ ونظرٍ في اجتهاد، وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة، فلا يُوجِب ذلك الحكمَ عليهم كلِّهم بالكذب
(1)
«ح» : «حكموا» .
(2)
«ب» : «قد» .
(3)
«ب» : «عن» .
(4)
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومَن ذُكر معه هو في يمين الطلاق قبل الزواج.
(5)
من قوله: «ولا يعرف لعلي في ذلك» إلى هنا ليس في «ب» .
والجهل. وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة، وحملوا حديثهم، واحتج به المسلمون، ولم يزل الفقهاء يَنقُلون خلافهم ويبحثون معهم. والقوم وإن أخطؤوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأً حتى يُردَّ عليهم. هذا لو انفردوا بذلك عن الأُمة، فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممَّن لم نقف على قوله!
الوجه العاشر: أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ. وإذا شئت أن تقف على ذلك فانظر إلى كثيرٍ من فتاوى الأئمة التي لا تُحفَظ عن أحدٍ من أهل العلم قبلهم.
قال إسحاق بن منصور الكَوْسَجُ: سألت إسحاق عن مسألةٍ، فذكر قوله فيها، فقلت: إن أخاك أحمد بن حنبل أجاب فيها بمثل جوابك. فقال: ما ظننت أن أحدًا يوافقني عليها
(1)
.
وقال ابن المنذر
(2)
ـ وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف ـ: «لم
(1)
نقله ابن حزم في «المحلى» (7/ 224) بنحو هذا اللفظ. والذي في «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (5/ 2074 - 2075): «قلت لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: العمرة واجبة؟ قال: هي واجبة. قلت: ويقضي منها المتعة؟ قال: نعم. قال إسحاق: كما قال، وأجاد، ظننت أنَّ أحدًا لا يتابعني عليه» . وهذا اللفظ لا يصلح للاستدلال به هنا، لأن المصنِّف وضعه تحت عنوان:«أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ» . ولا ينطبق هذا على مسألة وجوب العمرة وأنه يقضي منها المتعة.
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وووجدت ابن المنذر يقول في كتاب «الإجماع» (ص 35):«أجمعوا أن الصلاة في مرابض الغنم جائزة. وانفرد الشافعي فقال: إذا كان سليمًا من أبوالها» . بل وجدت ابن المنذر يقول في «الأوسط» (2/ 322): «وقال أبو ثور كقول الشافعي في الأبوال والأرواث أنها كلها نجسة رطبًا كان أو يابسًا. وقال الحسن: البول كله يُغسل. وكان يكره أبوال البهائم كلها، يقول: اغسل ما أصابك منها. وقال حماد في بول الشاة: اغسله» . ووجدت الماوردي يقول في «الحاوي الكبير» (2/ 249): «مذهب الشافعي أن أبوال جميعها وأرواثها نجسة بكل حال، وبه قال من الصحابة ابن عمر، ومن التابعين الحسن، ومن الفقهاء أبو ثور» .
يَسبِقِ الشافعيَّ إلى نجاسة الأبوال أحدٌ». يريد بول ما يُؤكل لحمُه.
وقال شيخنا
(1)
: «لم يَسبِق أحمدَ بن حنبل
(2)
إلى الحكم بإسلام أولاد أهل
(3)
الذمة الصغار بموت آبائهم أحدٌ
(4)
. ولم يسبقه إلى إقعاد المرأة أوَّلَ ما ترى الدم يومًا وليلةً ثم تُصلِّي وهي ترى الدم أحدٌ
(5)
.
وأمَّا غيره فمَن له أدنى اطلاع على أقوال السلف والخلف لا يخفى عليه
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ووجدت ابن تيمية يقول في «درء تعارض العقل والنقل» (8/ 433 - 434):«فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه، لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» . فإذا مات أبواه بقى على الفطرة. والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه. وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسُّنة التي لا ريب فيها».
(2)
«بن حنبل» ليس في «ح» .
(3)
«أهل» . سقط من «ح» .
(4)
قال المصنِّف في «أحكام أهل الذمة» (2/ 896): «وهذا قولٌ في مذهب أحمد، اختاره بعض أصحابه، وهو معلوم الفساد» .
(5)
قال المرداوي في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (1/ 360): «هذا المذهب بلا ريب، نصَّ عليه في رواية عبد الله وصالح والمروذي» . ثم قال: «وجلوسها يومًا وليلةً قبل انقطاعه من مفردات المذهب» . وينظر «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 558 - 561).
ذلك، ولكثرته تركنا ذِكْرَه.
الوجه الحادي عشر: أنَّا لو لم نعلم النزاع في هذه المسألة لم يكن لنا عِلْمٌ بالإجماع المعلوم الذي تكون مخالفته كفرًا أو فسقًا عليها بل ولا ظَنٌّ به، فإنا قد رأينا أكثر هؤلاء الذين يحكون الإجماع إنما يحكونه على حَسَب اطلاعهم، ومعناه عدم العلم بالمخالف، وقد رأيتَ مِن نَقْضِ إجماعاتهم التي حكوها ما هو قليلٌ من كثيرٍ.
ف
غاية هذه الإجماعات أن تفيدنا عدم علم ناقلها بالخلاف، وهذا بمجرده لا يكون عذرًا للمجتهد في ترك موجَب الدليل،
والله أعلم.
فصل
ومن ذلك: نقل من نقل الإجماع على أن المتكلم بالطلاق الثلاث في مرةٍ واحدةٍ يقع به الثلاث، وقال بموجَب عِلْمِه وما بلغه، وإلَّا فالخلاف في هذه المسألة ثابتٌ من وجوهٍ
(1)
:
الوجه الأول: أنه على عهد الصديق إنما كان يُفتى بأنها واحدة، كما روى مسلم في «صحيحه»
(2)
أن أبا الصهباء قال لعبد الله بن عباسٍ
(3)
: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر مَن طَلَّقَ ثلاثًا جُعلت واحدة؟! قال: نعم
…
» وذكر الحديث. ومَن تتبع ألفاظه
(1)
في حاشية «ب» تعليق طويل لبيان هذه المسألة، يظهر أنه نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرُّف يسير، وهو في «جامع المسائل» (1/ 357).
(2)
«صحيح مسلم» (1472).
(3)
«ح» : «عامر» .
وطُرُقه جزم ببطلان تلك التأويلات التي غايتها أن يَتطرَّق إلى بعض ألفاظه، وسياق طُرُقه
(1)
وألفاظه صريحٌ في المراد. فلو قال القائل: إن هذا مذهب أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في عهده، أصاب وصدق، حاش مَن لم يُصَرِّح منهم بأنها ثلاثٌ [ق 37 ب] وهم جَمْعٌ من الصحابة صحَّ ذلك عنهم بلا ريب. فأقلُّ أحوال المسألة أن تكون مسألة نزاع بين الصحابة.
الوجه الثاني: أنه صحَّ عن ابن عباس بإسنادٍ صحيحٍ أنه أفتى بأنها واحدة، ذكر ذلك أبو داود
(2)
وغيره.
الوجه الثالث: أن هذا مذهب الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح
(3)
وابن مغيث في «وثائقه»
(4)
وغيرهما.
الوجه الرابع: أنه إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود وابن عباس
(5)
..
الوجه الخامس: أنه مذهب طاوس وخِلَاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وداود وجمهور أصحابه
(6)
.
الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في غير المدخول بها،
(1)
من قوله: «جزم ببطلان» إلى هنا سقط من «ح» .
(2)
«سنن أبي داود» (2197) وذكر أنه روي عن عكرمة.
(3)
ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 83).
(4)
«المقنع في علم الشروط» (ص 80).
(5)
ينظر «أحكام القرآن» للقرطبي (3/ 132).
(6)
ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 8).
صرَّح به في كتاب «اختلاف العلماء» له، وهو مذهب بعض فقهاء التابعين
(1)
.
الوجه السابع: أنه أحد القولين في مذهب مالك، حكاه التلمساني في «شرح التفريع». قال ابن الجلاب: ومَن طَلَّقَ امرأته ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ
(2)
حَرُمَتْ عليه. قال الشارح: إذا كان ذلك في كلمات فلا خلاف في حُرمَتِها؛ لقوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] إلى قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وإن كان في كلمة ففيه خلاف، هل يَرجِع إلى الواحدة؟ والمشهور من المذهب أنها ثلاث. ثم قال الشارح في موضع آخر في قوله: مَن طلَّق امرأته ثلاثًا في كلمة. قال: هذا تنبيه على الخلاف، وهو أن الثلاث في كلمة تَرجِع إلى الواحدة، وهو قول شاذٌّ في المذهب، ووجهه ما رُوي أن الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت واحدة.
الوجه الثامن: أنه أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، اختاره محمد بن
(3)
مقاتل الرازي، حكاه عنه الطحاوي
(4)
.
(1)
السياق في «ح» : «وهو مذهب بعض فقهاء التابعين في غير المدخول بها صرح به في كتاب اختلاف العلماء» . قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) عن طاوس وعطاء وأبي الشعثاء.
(2)
«واحدة» ليس في «ب» .
(3)
«ب» : «و» . ومحمد بن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، ترجمته في «تاريخ الإسلام» (5/ 1247) و «الجواهر المضية» (2/ 134).
(4)
لم أجده في كتب الطحاوي، وقال المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 563):«حكاه عنه المازري في كتابه «المعلم بفوائد مسلم» . والذي وقفت عليه في «المعلم» (2/ 191) قوله: «طلاق الثلاث في مرة واحدة واقع لازم عند كافة الفقهاء، وقد شذ الحجاج بن أرطاة وابن مقاتل فقالا: لا يقع» . فلم يقيد ابن مقاتل، ووجدت في «المفهم» (4/ 237):«وهو مذهب مقاتل» . فالله أعلم.
وقال المصنِّف في «أعلام الموقعين» (3/ 479): «حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل» . ولم أجده فيما وقفت عليه من كتب أبي بكر الرازي حيث ذكر المسألة، وهي «أحكام القرآن» (2/ 83 - 89) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 411) و «شرح مختصر الطحاوي» (5/ 33 - 46).
الوجه التاسع: أنه أحد القولين في مذهب أحمد، حكاه شيخنا واختاره وأفتى به
(1)
، وأقلُّ درجات اختياراته أن يكون وجهًا في المذهب. ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب
(2)
والشيخ أبي محمد
(3)
وجوهًا يُفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة. فالذي يُجزَم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدة
(4)
أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج. والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر
(5)
.
(1)
هذه إحدى المسائل الكبار التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر من التصنيف في نصرتها، حتى أصبح يُعرف بها، وله فيها أجوبة كثيرة، مختصرة ومطولة، وينظر المجلد الثالث والثلاثون من «مجموع الفتاوى» ، وقد أُوذي بسببها وحُبس رحمه الله تعالى.
(2)
أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذاني أحد أعيان المذهب الحنبلي، توفي سنة عشر وخمسمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 270 - 290).
(3)
شيخ الإسلام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، صاحب «المغني» وغيره من الكتب السائرة، توفي سنة عشرين وستمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 281 - 298).
(4)
«واحدة» سقط من «ح» .
(5)
ينظر: «زاد المعاد» (5/ 344 - 383) و «إغاثة اللهفان» (1/ 499 - 569) و «بدائع الفوائد» (3/ 31 - 38). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كذلك. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 523): «وقد كان مُتصدِّيًا للإفتاء بمسألة الطَّلاق الَّتي اختارها الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيمية رحمه الله وجرت له بسببها فصولٌ يطول بَسطُها مع قاضي القضاة تقيِّ الدِّين السُّبكيِّ وغيره» .
الوجه العاشر: أنه من المحال أن تُجمِع الأُمة على لزوم الثلاث وفيها حديثان صحيحان صريحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا معارض لهما ولا ناسخ، وحديث آخر ظاهر في عدم الوقوع.
الحديث الأول: حديث أبي الصهباء عن ابن عباسٍ، وقد رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
.
الحديث
(2)
الثاني: قال الإمام أحمد في «مسنده»
(3)
: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة ـ مولى ابن عباس ـ عن ابن عباس قال: «طَلَّقَ رُكانة بن عبد يزيد ـ أخو المطلب ـ امرأتَه ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ طَلَّقَهَا؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قال: نعم. قال: فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ. قال فرَجَعَها، قال: وكان
(1)
«صحيح مسلم» (1472).
(2)
«الحديث» ليس في «ح» .
(3)
«المسند» (2429). والحديث رواه أبو يعلى في «المسند» (2500) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 339) والضياء في «المختارة» (11/ 362 - 363) ونقل ابن حجر في «الفتح» (9/ 362) تصحيحه عن أبي يعلى، وقد ضعفه البيهقي وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 640). وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (8/ 102 - 107) و «إرواء الغليل» (7/ 144).
ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر».
ورواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مختارته»
(1)
التي هي أصح من صحيح الحاكم.
فهذا من رواية عكرمة عن ابن عباس، والأول من رواية طاوس
(2)
، وكان طاوس
(3)
وعكرمة
(4)
يقولان: هي واحدة.
قال إسماعيل بن إبراهيم: ثنا أيوب عن عكرمة: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحدٍ فهي واحدة
(5)
.
قال أبو داود
(6)
: وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحد فهي واحدة.
فهؤلاء رواة الحديث عن ابن عباس قد أفتَوْا به، ومنهم محمد بن إسحاق كان يفتي بأن مَن قال: أنتِ طالق ثلاثًا، فهي واحدة، وكان يقول: «مَن جَهِلَ السُّنَّة يُرَدُّ
(7)
إليها»
(8)
.
(1)
«الأحاديث المختارة» (11/ 363).
(2)
يعني حديث أبي الصهباء عن ابن عباس المتقدِّم، وهو في «صحيح مسلم» (1472) فإنه من رواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) وابن أبي شيبة في «المصنف» (18179).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11081).
(5)
«سنن أبي داود» (11081).
(6)
«السنن» (2/ 260).
(7)
«ح» : «فيرد» .
(8)
حكى قولَ ابن إسحاق الإمامُ أحمد عنه كما في «أعلام الموقعين» (3/ 478).
وهذا عين
(1)
الفقه؛ فإن العامِّيَّ الجاهل إذا جَهِلَ سُنة الطلاق وطلق رُدَّ طلاقُه إلى السُّنَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(2)
.
وأمَّا الحديث الظاهر في عدم لزوم الثلاث فهو حديث محمود
(3)
بن لَبيد قال: «أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام
(4)
غضبانَ، ثم قال: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أَقتُلُه». رواه النسائي
(5)
.
ولم يُقل إنه أجازه عليه، بل الظاهر برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يَقرُبُ من القطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُجِيزُ حكمًا تلاعَبَ مُوقِعه بكتاب الله، بل هو أشدُّ ردًّا له وإبطالًا، والله المستعان.
(1)
«ح» : «غير» . وهو تحريف.
(2)
أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظ مسلم.
(3)
«ب» : «محمد» . والمثبت هو الصواب، ومحمود بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه صحابي صغير، ترجمته في «الإصابة» (10/ 67 - 68).
(4)
«فقام» سقط من «ح» .
(5)
«المجتبى» (3401) وفي «السنن الكبرى» (5564) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد به. وأعله النسائي في «الكبرى» فقال: «لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة» . وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 621): «فيه انقطاع» . وقال ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 362): «رجاله ثقات؛ لكن محمود بن لبيد وُلِدَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَثبُت له منه سماعٌ» . وقال: «رواية مخرمة عن أبيه عن مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه» . وقد صحَّحه المصنف في «زاد المعاد» (5/ 220) وأجاب عمَّا أُعِلَّ به.
فصل
ومن ذلك: حكاية مَن حكى الإجماع على وقوع الطلاق في الحيض بحَسَب ما بلغه، والمسألة مسألة نزاع،
لا مسألة إجماع، فصحَّ عن ابن عمر أنه قال في الرجل يُطلِّق امرأته [ق 37 أ] وهي حائض: لا يُعتَدُّ
(1)
بذلك.
وصحَّ
(2)
وصحَّ عن خِلَاس بن عمرو أنه قال في الرجل يُطلِّق امرأته وهي حائض قال: «لا يُعتَدُّ بها»
(3)
.
قال أبو محمد بن حزم
(4)
: «ويكفي من هذا كلِّه المسندُ البيِّن الثابت الذي خرَّجه أبو داود السِّجستاني
(5)
قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع عبد الرحمن بن
(1)
«ح» : «تعتد» .
(2)
من هنا بدأ سقط طويل في «ح» وكتب بالحاشية: «هكذا وجدنا في الأصل» .
(3)
أخرجه ابن حزم في «المحلى» (10/ 163).
(4)
«المحلى» (10/ 165 - 166).
(5)
«سنن أبي داود» (2185). والحديث أخرجه مسلم (1471/ 14) دون قوله: «ولم يرها شيئًا» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 65 - 66): «قوله في هذا الحديث «ولم يرها شيئًا» منكَرٌ عن ابن عمر؛ لِمَا ذكرنا عنه أنه اعتدَّ بها، ولم يقله أحدٌ عنه غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة جلة، فلم يقل ذلك واحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه».
أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر ـ قال أبو الزبير: وأنا أسمع ـ كيف ترى في رجل طَلَّق امرأته حائضًا؟ فقال ابن عمر: طَلَّقَ ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض. قال عبد الله: فردَّها عليَّ ولم يَرَها شيئًا، وقال: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ»
(1)
. قال: وهذا إسنادٌ في غاية الصحة، لا يحتمل التوجيهات.
والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ»
(2)
وبيان عدم التعارض بينهما له موضعٌ آخَرُ
(3)
.
والمقصِد أن المسألة من مسائل النزاع، لا من مسائل الإجماع، فأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقع الطلاق في زمن الحيض، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وبالله التوفيق.
(1)
قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» (4/ 233): «وقوله: «وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم «فطلقوهن في قبل عدتهن» هذا تصريح برفع هذه القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنها شاذة عن المصحف، ومنقولة آحادًا، فلا تكون قرآنًا، لكنها خبر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح
…
، وهي قراءة ابن عمر وابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود:«لقبل طهرهن» . قال جماعة من العلماء: وهي محمولة على التفسير، لا التلاوة».
(2)
أخرجه البخاري (5258) ومسلم (1471).
(3)
تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه المسألة بتوسُّع في «تهذيب السنن» (2/ 483 - 516) وختمها بقوله: «وقد أفردت لهذه المسألة مصنفًا مستقلًّا، ذَكَرتُ فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عمَّا احتجَّ به أصحاب القول الآخر» .
(4)
«مجموع الفتاوى» (33/ 75 - 101).
فلنرجع إلى ما كنا فيه وهو المقصود بذِكْر هذا الفصل، وهو الوهم الواقع بظنِّ الإجماع فيما فيه النزاع حتى يُقَدَّمَ على مقتضى الحديث أو مقتضى الدليل، ثم يَسلُكُ من ظَنَّ الإجماع في تلك الأدلة مَسلَكَ التأويل، فيكون الحامل له على التأويل ما ظَنَّه من الإجماع، فإذا تبيَّن الخلاف الثابت في المسألة لم يَبْقَ للتأويل بما يخالف الظاهر مساغٌ، وبالله التوفيق.
* * * * *
الفصل الرَّابع والعشرون
في ذكر الطَّواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين
وانتهكوا بها حُرمة القرآن ومحَوْا بها رسومَ الإيمان
وهي:
قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد عِلْمًا، ولا يَحصُل منها يقينٌ.
وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها.
وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة التي رواها العُدول وتلقَّتْها الأُمة بالقَبول لا تُفيد العلم، وغايتها أن تُفيد الظنَّ.
وقولهم: إذا تعارَضَ العقل ونصوص الوحي أخَذْنا بالعقل، ولم نلتفت إلى الوحي.
فهذه الطَّواغيت الأربع هي التي فعلتْ بالإسلام ما فعلتْ، وهي التي مَحَتْ رُسُومَه، وأزالتْ مَعالِمَه، وهدمتْ قواعِدَه، وأسقطتْ حُرمةَ النُّصوص من القلوب، ونهجتْ طريق الطَّعن فيها لكل زنديقٍ ومُلحِدٍ، فلا يحتجُّ عليه المحتجُّ بحجَّة من كتاب الله أو سُنَّة رسوله إلَّا لجأ إلى طاغوتٍ من هذه الطَّواغيت واعتصم به، واتخذه جُنَّةً يصدُّ به عن سبيل الله.
والله تعالى بحوله وقُوَّته ومنِّه وفضله قد كسر هذه [ب 77 أ] الطَّواغيت طاغوتًا طاغوتًا على أَلسنة خُلفاء رُسُله وورثة أنبيائه، فلم يَزَلْ أنصار الله ورسوله يَصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشُهُب الوحي،
وأدلة المعقول، ونحن نُفرِد الكلام عليها طاغوتًا طاغوتًا:
الطَّاغوت الأول: قولهم: نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين.
قال متكلِّمهم
(1)
: «مسألة: الدليل [اللفظي]
(2)
لا يُفيد اليقينَ إلَّا عند [تيقُّن]
(3)
أمور عشرة: عِصمة رواة مفردات تلك الألفاظ، وإعرابها، وتصريفها، وعدم الاشتراك والمجاز [والنَّقل]
(4)
والتَّخصيص بالأشخاص والأزمنة، وعدم الإضمار والتَّقديم والتَّأخير [والنَّسخ]
(5)
، وعدم المُعارِض العقلي الذي لو كان لرَجَحَ
(6)
؛ إذ ترجيح النَّقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النَّقل لافتقاره إليه، فإذا كان المنتج ظنيًّا فما ظنُّك بالنتيجة».
قال شيخ الإسلام
(7)
: والجواب عن هذا من وجوهٍ:
أحدها: أنَّا لا نُسلِّم أنه موقوفٌ على هذه المقدمات العشرة،
بل نقول ليس موقوفًا [إلَّا]
(8)
على ما به يُعرف مراد المتكلِّم، فإن مراد القائل بقوله:
(1)
قاله الرازي في «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين» (ص 51).
(2)
ليس في «ب» . والمثبت من «المحصل» .
(3)
ليس في «ب» . والمثبت من «المحصل» .
(4)
ليس في «ب» . والمثبت من «المحصل» .
(5)
ليس في «ب» . والمثبت من «المحصل» .
(6)
بعده في «المحصل» : «عليه» .
(7)
لم أقف عليه فيما تحت يدي من كتب شيخ الإسلام رحمه الله، والظاهر أنه من «شرح أول المحصل» له، ولم يُوجد بعد.
(8)
ليس في «ب» . وأثبته لاستقامة النص.
«الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» أنه لا يُعلم بها مراد المتكلم. فأمَّا كون مراده مطابقًا للحق فذاك مبنيٌّ على ثبوت صِدْقه وعِلْمه، وليس مرادهم هذا، وإن أرادوا ذلك دون الأول فهو موقوفٌ على ثبوت عصمة المتكلم، ومعرفة صِدْقه فقط، فمَن عَرَف أن الرَّسول أراد هذا المعنى وعرف أنه صادق؛ حصل له العلم اليقيني، والمقدمة الثَّانية إيمانية؛ فإن كل من شَهِدَ أن محمدًا رسول الله عَلِمَ أنه خبرٌ طابقَ لمُخبره، فلا يجوز عليه الإخبار بما لا يُطابق مخبره، وأمَّا المقدمة الأولى فتعرفها علماء أُمته وورثتُه وخلفاؤه.
قلت: هاهنا أمران:
أحدهما: اليقين بمراد المتكلم.
والثَّاني: اليقين بأن ما أراده هو الحق.
فقول القائل: «كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين» يحتمل أن يريد به مجموع الأمرين، أي: لا يفيد علمًا بمراده، ولو أفاد علمًا بالمراد لم يُفِد علمًا بكون ذلك المراد مطابقًا للحقِّ في نفس الأمر.
ويحتمل أن يريد به المعنى الأول فقط، وأنه لو حصل لنا اليقين بمراده لحصل لنا اليقين بكونه حقًّا في نفس الأمر.
ويحتمل أن يريد به المعنى الثَّاني فقط، وهو أنه لو حصل اليقين بمراده لم يحصل اليقين بكونه مطابقًا للحقِّ، فإن ذلك لا يعلم إلَّا بأدلة المعقول، لا يُعلم بمجرَّد الخبر.
فهذه ثلاثة احتمالات. فإن أراد المعنى الأوَّل أو الثَّالث كان ذلك قدحًا في الإيمان به، وتجويز [ب 77 ب] الكذب عليه، وأمثال ذلك منافٍ للجزم
بتصديقه. وإن أراد المعنى الثَّاني وَحْدَه وهو أنها لا يحصل منها اليقين بمراده، ولو حصل ذلك منها لحصل اليقين بكونه حقًّا؛ فهذا وإن لم يقدح في تصديقه فهو قادحٌ في تحكيمه، والتحاكُم إليه، والاهتداء بكلامه، موجبٌ لعَزْله عن ذلك والإعراض عنه؛ فإن التحاكم إلى من لا يُفيدُك كلامُه عِلْمًا ولا يقينًا لا يحصل به المقصود. فإذا انضم إلى هذه المقدِّمة أن النَّقل إذا عارَضَ العقل وجب تقديم العقل كمل عزلُ الوحي، واستحكم الإعراض عنه في باب معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فنقول: معرفة مراد المتكلم تحصل بالنقل المتواتر، كما حصل العلم بأنه قال ذلك اللفظَ بالنقل المتواتر، فإنَّا نعلم أن قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حَجُّ اُلْبَيْتِ} [آل عمران: 97] متواترٌ نَقْلُ لفظِه ونَقْلُ معناه عن الرسول، ونعلم أن المراد بالله ربُّ العالمين، وبالنَّاس بنو آدم، وبالبيت الكعبة التي يحُجُّها النَّاس بمكة، كما علمنا بالتواتر أن الرَّسول بلَّغ هذا الكلام عن الله. وكذلك نعلم بالتواتر أن قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ اِلْقُرْآنُ} [البقرة: 184] المراد به هذا الشَّهر الذي بين شعبان وشوال، وأن القرآن هذا الكتاب الذي بين دَفَّتَيِ المصحف.
وكذلك عامَّة ألفاظ القرآن، نعلم قطعًا مرادَ الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أن الرَّسول بلَّغها عن الله. فغالب معاني القرآن معلومٌ أنها مراد الله؛ خبرًا كانت أو طلبًا، بل العلم بمراد الله من كلامه أَوضَحُ وأَظهَرُ من العلم بمراد كل متكلمٍ من كلامه؛ لكمال علم المتكلم، وكمال بيانه، وكمال هُداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن حفظًا وفهمًا، وعملًا وتلاوةً. فكما بلَّغ الرَّسولُ ألفاظَ القرآن للأُمة بلَّغهم معانيَه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظمَ
من مجرَّد تبليغ ألفاظه؛ ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى مَن لم يَصِلْ إليه حِفْظ ألفاظه. والنقل لتلك المعاني أشدُّ تواترًا وأقوى اضطرارًا، فإن حِفْظَ المعنى أيسرُ من حفظ اللفظ، وكثيرٌ من النَّاس يعرف صورة المعنى ويحفظها، ولا يحفظ اللفظ، والذين نقلوا الدِّين عنه علموا مراده قطعًا لمَّا تلا عليهم تلك الألفاظ.
ومعلومٌ أن المقتضى التَّام لفهم الكلام الذي بلَّغهم إيَّاه قائمٌ، وهم قادرون على فَهْمِه، وهو قادر على إفهامهم، وإذا حصل المقتضى التَّامُّ لَزِمَ وجود مقتضاه.
وبالجملة فالأدلة السَّمعية اللفظية قد تكون مبنيَّة على مقدِّمتين يقينيتين:
إحداهما: أن النَّاقلين إلينا فَهِمُوا مراد المتكلم.
والثَّانية: أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد، كما نقلوا اللفظ الدَّالَّ عليه.
وكلا المقدِّمتين معلومةٌ بالاضطرار، [ب 78 أ] فإن الذين خاطبهم النَّبي صلى الله عليه وسلم باسم الصَّلاة والزَّكاة والصَّوم والحجِّ والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها، يُعلم بالاضطرار أنهم فَهِمُوا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظمَ من حفظهم لها. وهذا ممَّا جرت به العادة في كلِّ مَن خاطب قومًا بخطبةٍ، أو دارسهم علمًا، أو بلَّغهم رسالةً: أن حِرْصَه وحرصهم على معرفة مراده أعظمُ من حرصهم على مجرد حِفْظ ألفاظه. ولهذا يضبط النَّاس من معاني المتكلِّم أكثرَ ممَّا يضبطونه من لفظه، فإن المقتضي لضبط المعنى أقوى من المقتضي لحفظ اللفظ؛ لأنه هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، وإن
كانا
(1)
مقصودين فالمعنى أعظم المقصودين، والقدرة عليه أقوى، فاجتمع عليه قوة الدَّاعي وقوة القدرة وشدة الحاجة. فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلِّغًا لها عن الله، وألفاظه التي تكلَّم بها يقينًا؛ فكذلك نقلهم لمعانيها، فهم سمعوها يقينًا، وفهموها يقينًا، ووصل إلينا لفظها يقينًا، ومعانيها يقينًا.
وهذه الطَّريقة إذا تدبَّرها العاقل علم أنها قاطعةٌ، وأن الطَّاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شرٌّ من الطَّاعن في حصول العلم بألفاظه. ولهذا كان الطَّعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة، وأمَّا الطَّعن في حصول العلم بمعانيه فإنه من فِعْل الباطنية الملاحدة، فإنهم سلَّموا أن الصَّحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرَّسول، وأن القرآن منقولٌ عنه، لكن ادَّعَوْا أنَّ لها معانيَ تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون، وتلك هي باطن القرآن وتأويله. وقول القائل:«الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» دِهليز
(2)
إلى مذهب هؤلاء، ومرقاة إليه، لكن الفرق بينهما أنه يقول: لا أعلم مراد المتكلم بها، وهم يقولون: مراده هذه التأويلات الباطنة.
وما جاء به الرَّسول نوعان: طلبٌ وخبرٌ، فالطلب يقولون: المراد به تحصيل الأخلاق التي تستعدُّ بها النَّفس لنَيْل العلوم العقلية، فإذا حصلت لها تلك المعارف لم يكن لاشتغالها بتلك الأسباب التي أُمِرَت بها فائدةٌ، فسقط عنها ما يجب على غيرها من النُّفوس الجاهلة، ويُباح لها ما يَحرُم على
(1)
«ب» : «كان» .
(2)
الدِّهليز: المدخل إلى الدار، فارسي معرَّب، والجمع الدهاليز. «المصباح المنير» (1/ 201).
غيرها. وعند هؤلاء مقصود الشَّرائع تعديل النفوس بالأخلاق التي [ب 78 ب] تُعِدُّها لإدراك العلوم.
وأمَّا الأخبار فعقلاؤهم ورؤوسهم يعلمون قطعًا أن الرُّسل إنَّما أرادت إفهام الخَلْق ظواهرها وما دلَّت عليه، لكن لا حقيقة لها في نفس الأمر، والرسل كانت تعلم ذلك، لكن خيَّلوا إلى النَّاس ما ينتفعون به، ويكونون به أدعى إلى الانقياد، ولم يكن ذلك إلَّا بإظهار ما لا حقيقة له. وذلك سائغٌ للمصلحة، إذ كان فهمُ الجمهور عندهم للحقائق في نفس الأمر يُوجِب انحلالهم وانهماكهم في الشَّهوات.
وطائفة منهم تزعم أن الرُّسل إنَّما قصدت إفهام تلك التأويلات، لكن أهل الظَّاهر غَلُظَ حجابهم، وكَثُفَت أفهامُهم عن إدراكها، فوقعوا بسبب قصور أفهامهم في العناء والمشقَّة وتَحمُّل أعباء التَّكاليف. وهؤلاء وضعوا لهم قانونًا في تأويل الأمر والنَّهي والخبر، كما وضعت الجهميَّة والقَدَرية لهم قانونًا في تأويل آيات الصِّفات وأخبارها، [واتفقت]
(1)
الطَّائفتان على تقديم ما ظنُّوه من العقليات على نصوص الوحي، وأنها لا يُستفاد منها علمٌ أصلًا.
ولا يُعرف أحدٌ من فرق الإسلام قبل ابن الخطيب وَضَعَ هذا الطَّاغوت وقرَّره وشيَّد بُنيانَه وأَحكَمَه مثله، بل المعتزلة والأشعرية والشِّيعة والخوارج وغيرهم يقولون بفساد هذا القانون، وإن اليقين يُستفاد من كلام الله ورسوله، وإن كان بعض هذه الطَّوائف يوافقون صاحب هذا القانون في بعض المواضع، فلم يقل أحدٌ منهم قطُّ إنه لا يحصل اليقين من كلام الله ورسوله البتَّةَ.
(1)
«ب» : «وانقطعت» . والمثبت هو الصواب.
فصل
الطريق الثَّاني في إبطال هذا الأصل أن يُقال: من المعلوم أن دلالة الأدلة اللفظية لا تختصُّ بالقرآن والسُّنَّة؛ بل جميع بني آدم يَدُلُّ بعضُهم بعضًا بالأدلة اللفظية. والإنسان حيوانٌ ناطقٌ، فالنطق ذاتيٌّ له، وهو مدنيٌّ بالطبع، لا يُمكن أن يعيش وَحْدَه كما يعيش الوحش، بل لا يمكنه أن يعيش إلَّا مع بني جِنْسه؛ فلا بد أن يَعرِف بعضُهم مراد بعضٍ ليحصل التَّعاون. فعلَّمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضًا مراده بالألفاظ، كما قال تعالى:{اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 2] وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 30] وقال: {عَلَّمَ اَلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]. فكانت حكمة ذلك التَّعليم تعريف مراد المتكلِّم، فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطالٌ لحكمة الله، وإفسادٌ لمصالح بني آدم، وسَلْبُ الإنسان خاصيَّتَه التي ميَّزه بها على سائر الحيوان.
وهذه [ب 79 أ] الطريق يُستدلُّ بها من وجوهٍ:
أحدها: أن هذا المقصود ضروريٌّ في حياة بني آدم، فلا بد من وجوده،
فلو لم تُفِدِ الأدلة اللفظية العلمَ بمراد المتكلِّم لم يعش بنو آدم، واللازم مُنتَفٍ، فالملزوم مثله.
الثَّاني: أنَّا نعلم قطعًا أن جميع الأمم يَعرِف بعضهم مراد بعضٍ بلفظه، ويقطع به، ويتيقَّنه. فقول القائل:«الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين» قدحٌ في العلوم الضَّرورية التي اشترك النَّاس في العلم بها.
الثَّالث: أن معرفة النَّاس مراد المتكلِّم منهم بكلامه أعظمُ من معرفتهم
عامَّة العلوم العقلية، فمعرفتهم مراد المتكلم لهم بكلامه أتمُّ وأقوى من معرفتهم بتلك القوانين التي وضعها أربابها للقدح في إفادة الخطاب لليقين.
الرَّابع: أنَّ الطِّفل أولَ ما يميِّز يَعرِف مراد مَن يُرَبِّيه بلفظه قبل أن يُعرِّفه شيئًا من العلوم الضرورية،
فلا أقدمَ عنده ولا أسبقَ من تيقُّنه لمراد مَن يخاطبه بلفظه، فالعلم بذلك مقدَّمٌ على سائر العلوم الضَّرورية. فمَن جعل العقليات تُفيد اليقين، والسَّمعيات لا تُفيد معرفة مراد المتكلِّم؛ فقد قَلَبَ الحقائق، وناقَضَ الفطرة، وعَكَسَ الواقع.
الخامس: أن كلَّ إنسانٍ يَدُلُّ غيره بالأدلة اللفظية على ما يعرفه، ويعرف مراد غيره بالأدلة اللفظية،
وأمَّا الاستدلال بالعقليات الكُليَّة فلا يعرفه إلَّا بعضُ النَّاس، وما يعرفه كلُّ أحدٍ ويتيقَّنه فهو أظهر ممَّا لا يعرفه إلَّا بعض النَّاس.
السَّادس: أن التَّعريف بالأدلة اللفظية أصل للتَّعريف بالأدلة العقلية،
فمَن لم يكن له سبيلٌ إلى العلم بمدلول هذه لم يكن له سبيلٌ إلى العلم بمدلول تلك. بل العلم بمدلول الأدلة اللفظية أسبقُ، فإنه يُوجد في أول تمييز الإنسان. وحينئذٍ فالقدح في حصول العلم بمدلول الأدلة اللفظية قدحٌ في حصول العلم بمدلول العقلية، بل هي أصل العلم بها، فإذا بَطَلَ الأصل بطل فرعه، يوضِّحه:
الوجه السَّابع: وهو أن الإنسان في فهمه وإفهامه للدليل العقلي محتاجٌ إلى معرفة مراد المخبِر به الذَّاكر
(1)
له لِمَن يخاطبه، فإذا لم يحصل له علمٌ
(1)
«ب» : «الذكر» .
بمراده من الدَّليل فكيف يحصل له علم بالمدلول؟!
الوجه الثَّامن: أن تعليم الأدلة اللفظية يُحسنه كلُّ أحدٍ، فما من أحدٍ إلَّا ويمكنه أن يُعرِّف غيرَه لغتَه، ويُعرِّفَه ما يَعرِفُه بالأدلة اللفظية. وأمَّا تعليم الدَّلالة العقلية فلا يُحسنه كلُّ أحدٍ.
الوجه
التَّاسع: أن الله سبحانه هدى البهائم والطَّير أن يُعرِّف بعضها بعضًا مرادها بأصواتها،
كما يُشاهد [ب 79 ب] في أجناس الحيوان والطيور، فالديك يُصوِّت فيَعرِف الدجاجُ مراده، والفرس يَصهَل فيَعرِف الخيلُ مراده، والكلب يَنبَح فتعرف الكلاب مراده، والهرُّ تَمُوءُ
(1)
فتَعرِف أولادها مرادها، والدجاجة تُعرِّف أفراخها مرادها بصوتها. وهذا من تمام عناية الخالق سبحانه بخَلْقه وهدايته العامة؛ كما قال موسى:{رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 49]، وقال تعالى:{سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى (1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 1 - 3]، فكيف لا يعلم الآدميون مراد بعضهم من بعضٍ بألفاظهم وخطابهم ولا يَجزِمون به؟!
الوجه العاشر: أن أبلد النَّاس وأبعدَهم فهمًا يَعلَم مراد أكثر مَن يخاطبه بالكلام الرَّكيك العادِم للبلاغة والفصاحة، فكيف لا يعلم أذكى النَّاس وأصحُّهم أذهانًا وأفهامًا مرادَ المتكلِّم بأفصح الكلام وأَبيَنِه وأَدَلِّه على المراد، ويحصل لهم اليقين بالعلم بمراده، وهل ذلك إلَّا من أَمحَلِ المُحال؟!
الوجه الحادي عشر: أن هذا يستلزم الطَّعنَ والقدح في بيان المتكلِّم
(1)
«ب» : «تنور» ، ولعل المثبت هو الصواب.
وفصاحته، أو في فهم السَّامع وذهنه، أو فيهما معًا؛ فإن عَدَمَ العلم بمراده إن كان لتقصيرٍ في بيانه كان ذلك قدحًا فيه، وإن كان لقصور فَهْم السَّامع كان كذلك. فإذا كان المتكلم تامَّ البيان والمخاطب تامَّ الفهم فكيف يَتخلَّف العلم عنه بمراده!
الوجه الثَّاني عشر: أنه إذا كان التفاهُم والعلم بمراد الحيوان من غيره حاصلًا للحيوانات، فما الظنُّ بأشرف أنواعها وهو الإنسان، فما الظنُّ بأشرف هذا النَّوع، وهم العقلاء المعتنون بالبيان والإيضاح، فما الظنُّ بالأنبياء المخصوصين من العلم والبيان والإفهام بما ليس مثله لسواهم، فما الظنُّ بأفضل الأنبياء وأعلمهم وأكملهم بيانًا، وأتمِّهم فصاحةً، وأَقدَرِهم على التعبير عن المعنى باللفظ الذي لا يَزيد عليه ولا يَنقص عنه ولا يُوهِم غيرَه، وأَحرَصِهم على تعليم الأُمة وتفهيمهم؟! وأصحابه أَكمَل الأُمم عقلًا وفهمًا وفصاحةً وحرصًا على فَهْم مراده، فكيف لا يكونون قد تيقَّنوا مراده بألفاظه، وكيف لا يكون التَّابعون لهم بإحسانٍ قد تيقَّنوا مرادهم ممَّا بلَّغوهم إيَّاه عن نبيهم، ونقلوه إليهم؟!
الوجه
الثَّالث عشر: أنَّا نعلم بالضَّرورة أن شيوخنا الذين كانوا يخاطبوننا كانوا يُعرِّفونا مرادهم بألفاظهم، وقد عَرَفنا مرادهم يقينًا،
وهكذا نحن فيمن نعلمه ونخاطبه، وهم كانوا أفضل منَّا وأكمل علمًا وتعليمًا، ومَن قبلَهم كانوا أفضل منهم وأكمل علمًا [ب 80 أ] وتعليمًا، ومَن قبلَهم كذلك، وهلم جرًّا إلى أوائل هذه الأُمة؛ فكيف يكون هؤلاء كلُّهم لم يعلموا مراد الله ورسوله من كلامه، ولا حصل لهم يقينٌ بمعرفة مراده من ألفاظه؟!
ومَن تدبَّر هذا أو تَصوَّره تبيَّن له أن قول القائل: «الأدلة اللفظية التي جاء
بها الرَّسول لا تفيدنا علمًا ولا يقينًا» من أعظم أنواع السَّفسطة، وأكثر أسباب الزَّندقة، وأنَّ هؤلاء شرٌّ من اللاأدرية
(1)
، وشرٌّ من الباطنية.
الوجه
الرَّابع عشر: أن دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلِّم أقوى من دلالة الأدلة العقلية على الحقائق الثَّابتة
ـ كما تقدَّم تقريره
(2)
ـ فكيف بدلالة المقدِّمات المشتبهة التي غايتها أن يكون فيها حقٌّ وباطلٌ، وليس مع أصحابها إلَّا إحسان الظنِّ بمَن قالها، فإذا طُولِبوا بالبرهان على صحَّتها قالوا: هكذا قال العقلاء، وهذا أَمْرٌ قد صَقَلَتْه أذهانهم، وقَبِلَته عقولهم. فبين دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم ودلالة هذه المقدِّمات على الحقائق تفاوتٌ عظيمٌ، فكيف تفيد هذه اليقين دون تلك، وهل هذا إلَّا قَلْبٌ للفِطَر وتعكيسٌ للأذهان؟!
الوجه
الخامس عشر: أن دلالة قول الرَّسول على مراده أكمل من دلالة شبهات هؤلاء العقلية على معارضته بما لا نسبة بينهما،
فكيف تكون شبهاتهم تُفيد اليقين، وكلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين؟!
الوجه
السَّادس عشر: أنك إذا تأمَّلْت العقليات التي زعموا أنها تُفيد اليقين وقدَّموها على كلام الله ورسوله وجدتها مخالفةً لصريح المعقول،
وقد اعترفوا أنها مخالفةٌ لظاهر المنقول، وهذا لا يُعرف إلَّا بالامتحان.
كحُكْم عقولهم بأن العَرَض لا يبقى زمانينِ، وأن الأجسام كلَّها متماثلة،
(1)
«ب» : «البلادرية» . والمثبت هو الصواب، وسيأتي (ص 567) قول المصنف عن خلفهم:«اللاأدرية الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أريد منها، ولا ما دلت عليه» .
(2)
تقدم (ص 350).
فجِسْم النَّار مساوٍ لجسم الماء
(1)
في الحقيقة، وإنما اختلفا بالأعراض، وجسم البول مساوٍ لجسم المِسْك بالحقيقة، وإنما اختلفا في أعراضهما.
وحُكْم عقولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، وأن ذلك المصدر لا يُسمَّى باسمٍ، ولا يوصف بصفةٍ، ولا له ماهية غير الوجود المطلق؛ ثم الذي صدر عنه إن وجب أن يكون كذلك كان مصدره أيضًا كذلك، ولم يكن بالعالم تكثُّر
(2)
، وإن كان فيه نوع تكثُّر فقد صدر عنه أكثر من واحدٍ.
ومثل حُكمِهم بأن العاقل والمعقول والعقل شيءٌ واحدٌ، فالمبدأ الأول عاقل ومعقول وعَقْل.
ومثل حُكمِهم بأن في الخارج كلياتٍ لا تتقيَّد بقيدٍ، ولا تَتشخَّص بتشخيصٍ، ولا تتعيَّن بتعيينٍ، [ب 80 ب] وليست داخلةَ العالم ولا خارجَه، وأنها جزءٌ من هذه المعينات.
ومثل حُكمِهم بأن ذات الرَّبِّ تعالى مع كونها خارجة الذِّهن فليست خارجة العالم ولا داخلة فيه، ولا متصلة به، ولا منفصلة عنه، ولا حالَّة فيه، ولا مُباينة له.
ومثل حُكمِهم بأن الرَّبَّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعل في الأزل، وحصول المقدور فيه محالٌ، ثم انتقل الفعل من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي، فلا يُحدَّد
(3)
بسببٍ أصلًا، وحَدَثَ من غير تجدُّد أمرٍ يقتضي حدوثه،
(1)
«ب» : «الماثل» . والمثبت هو الصواب، فستأتي العبارة في كلام المصنف (ص 796) مرة أخرى على الصواب.
(2)
«ب» : «به العالم يكثر» . والمثبت هو الصواب الذي دل عليه السياق.
(3)
كذا في «ب» ، ولعلها:«يحدث» .
بل حال الفاعل قبله ومعه وبعده واحدة.
ومثل حُكمِهم بأن كلامه معنًى واحدٌ، لا ينقسم ولا يتجزَّأ، ولا له بعض ولا كلٌّ، وأن الأمر هو عين النَّهي، وهما عين الخبر والاستخبار، فالكل حقيقةٌ واحدةٌ.
وأن الحواسَّ والإدراكات يصحُّ تعلُّقها بكل موجودٍ، فتُؤكل الأصوات وتُشمُّ وتُذاقُ، وتُسمَع الرَّوائح والطُّعوم.
إلى أضعاف أضعاف ذلك من خواصِّ علومهم التي جعلوها قواطعَ عقلية تُفيد اليقين، وكلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تُفيد اليقين. فقد تبيَّن أنَّ ما نفى عنه هؤلاء اليقين من أعظم ما يُفيد اليقين، وما أثبتوا له اليقين أبعدُ شيءٍ عن اليقين.
الوجه
السَّابع عشر: أن هذا من أنواع السَّفسطة، بل هو شر أنواعها،
فإن أنواعها ثلاثة:
أحدها: التجاهل، وهو لا أدري، وأصحابه يُسمَّوْن اللاأدرية.
الثَّاني: النَّفي والجحود.
الثَّالث: قلب الحقائق، وهو جعل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا؛ إمَّا في نفس الأمر، وإمَّا بحسب الاعتقاد.
والذي يدَّعي قلب الحقائق في نفس الأمر أشد سفسطةً ممَّن يدَّعي أنها تَبَعٌ لاعتقاد الإنسان فيها، فإذا جُعلت الأدلة العقلية ـ التي هي من جنس ما تقدَّمَ وغيره ـ تُفيد اليقين بمدلولاتها الخارجية، والأدلة اللفظية التي أعلاها كلام الله ورسوله لا تُفيد اليقين، كان ذلك من أعظم أنواع السفسطة، وأكثر
أسباب الزَّندقة.
فإن قلت: فهُم لم يجعلوا كل دليلٍ عقليٍّ يفيد اليقين، بل ما كانت مقدماته يقينية وتأليفه صحيحًا، يوضحه:
الوجه
الثَّامن عشر: أن قول القائل: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين؛ إمَّا أن يُريد به نَفْيَ العموم، أو عمومَ النَّفي،
فإن أراد نَفْيَ العموم لم يُفِدْه شيئًا، فإنَّ عاقلًا لا يدَّعي أن كلَّ دليلٍ لفظيٍّ يفيد اليقين حتى يَنصِبَ معه الخلاف ويحتجَّ عليه. وإن أراد به عموم النَّفي كان هذا مكابرةً للعيان، وبَهْتًا ومجاهرةً بالكذب [ب 81 أ] والباطل.
الوجه
التَّاسع عشر: أنَّا نعلم بالاضطرار أن مصنِّفي العلوم على اختلاف أنواعها عَلِم النَّاس مرادهم من ألفاظهم علمًا يقينًا،
وإنما يقع الشك في قليلٍ من كلامهم، ويَقِلُّ ذلك ويَكثُرُ بحسَب القابل، وقوة إدراكه، وجودة تصوُّره، وإِلْفه لكلامهم وغرائبه منه؛ ومعلوم قطعًا أنَّ عِلْمَ الرَّسول بما يقوله وحرصَه على إفهامه وتعليمه وشدَّة بيانه له، وحرصَ أُمَّته على فهمه= أعظمُ من حرص هؤلاء المصنِّفين ومَن يتعلم منهم، فإذا حصل لأولئك اليقين بمعرفة مراد أرباب التَّصانيف، فحصولُ اليقين لأهل العلم بكتاب الله وسُنَّة رسوله أولى وأحرى.
وليس الكلام في هذا المقام في تثبيت نبوته؛ بل الكلام مع مَن يُقرُّ بنبوته ويشك في معرفة مراده بألفاظه، فيقال: لا ريبَ عند كل مؤمنٍ بالله ورسوله أنه كان أعلم الخلق بما يُخبر به وما يأمر به، فهو أعلم الخلق بما أخبر به عن الله واليوم الآخر، وأعلمهم بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده، وأنه كان أفصح
الأُمَّة، وأقدرهم على البيان وكشف المعاني؛ فإنه عربيٌّ والعربُ أفصح الأُمم، وقرشيٌّ وقريشٌ أفصح العرب، وهو في نفسه كان أفصحَ قريش على الإطلاق، وقد أَقَرَّ له أعداؤه بذلك، ولهذا قال:«أَنَا أَفْصَحُ العَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ»
(1)
.
وقد تكلَّم النَّاس في فصاحة الحاضرة والبادية، وفي شعر الحاضرة والبادية، ورُجِّحَ هؤلاء من وجهٍ، وهؤلاء من وجهٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له كمال فصاحة البادية والحاضرة، ومَن تدبَّر كلامه الذي تكلَّم به، والقرآن الذي بلَّغه عن الله وأخبر أن الله تكلَّم به؛ وَجَدَ التفاضُل بين كلامه هو عليه السلام وكلام غيره من البشر؛ ثُمَّ من المعلوم بالاضطرار مِن حاله أنه كان أحرص النَّاس على هُدى أُمته وتعليمهم والبيان لهم، فاجتمع في حقِّه كمالُ القدرة، وكمال الدَّاعي، وكمال العلم. فهو أعلم النَّاس بما يدعو إليه، وأقدرهم على أسباب الدعوة، وأعظمهم رغبةً، وأتمُّهم نصيحةً. فإذا كان مَن هو دونه بمراتب لا تُحصى في كل صفةٍ من هذه الصِّفات قد بيَّن مراده بلفظه؛ كان هو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أحقَّ وأولى من كل وجهٍ أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان.
فمَن قال: إن اليقين لا يحصل بألفاظه ولا يُستفاد العلم من كلماته؛ كان
(1)
أورده القاضي عياض في «الشفا» ، وقال السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» (ص 52):«أورده أصحاب الغريب، ولا يُعرف له إسناد» . وأقرب لفظ وجدناه له ما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (6/ 35) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3180) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنَّى يأتيني اللحن» . وفي إسناده مبشر بن عبيد، وهو متروك، كما قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 218) وابن حجر في «التلخيص الحبير» (5/ 2570).
قَدحُه في بيانه أعظمَ مِن قدحه في مراد سائر العلماء المصنِّفين، ومِن قدحٍ في [ب 80 ب] حصول العلم واليقين بمرادها، وإلَّا كان قدحه في مراد عامة الآدميين أقربَ، وقَدحُه في معرفته مراد البهائم بلغاتها أقربَ، ومَن كان قوله مستلزمًا لهذه اللوازم كان قوله من أفسد أقوال بني آدم، وكان قوله قدحًا في العقليات والشرعيات والضَّروريات.
الوجه
العشرون: أنه من المعلوم أن الصَّحابة سمعوا القرآن والسُّنَّة من النبي صلى الله عليه وسلم وقرؤوه، وأقرؤوه مَن بعدهم،
وتكلَّم العلماء في معانيه وتفسيره، ومعاني الحديث وتفسيره، وما يتعلَّق بالأحكام وما لا يتعلَّق بها، وهم مُجمِعون على غالب معاني القرآن والحديث، ولم يتنازعوا إلَّا في قليلٍ من كثيرٍ، لا سيما القرون
(1)
الأُوَل، فإن النِّزاع بينهم كان قليلًا جدًّا بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، وكان النِّزاع
(2)
في التَّابعين أكثر. وكلما تأخَّر الزَّمان كثُر النِّزاع، وحدث من الاختلاف بين المتأخرين ما لم يكن في الذين قبلهم.
فإن القرآن تضمَّن الأمر بأوامرَ ظاهرةٍ وباطنةٍ، والنَّهيَ عن مناهٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن مقادير الصَّلوات ومواقيتها وصفاتها، والزَّكوات ونُصبها ومقاديرها، وكذلك سائر العبادات، وعامَّةُ هذه الأمور نقلتها الأُمَّة نقلًا عامًّا متواترًا خَلَفًا عن سَلَفٍ، وحصل العلم الضَّروري للخلق
(3)
بذلك، كما حصل لهم العلم الضروري بأنه بلَّغهم ألفاظها، وأنه قاتل المشركين وأهل الكتاب، وأنه بُعِثَ بمكة، وهاجَرَ إلى المدينة، وأنه دعا الأُمَّة إلى أن
(1)
«ب» : «القران» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ب» : «الناس» .
(3)
«ب» : «للخلف» .
شهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنَّ هذا القرآن كلام الله الذي تكلَّم به، لا كلامه، ولا كلام مخلوقٍ، وأنه ليس قول البشر، وأنه أَعلَمَهم أن ربَّه فوق سماواته على عرشه، وأن الملَك نزل من عنده إليه، ثم يَعرُج إلى ربِّه، وأن ربَّه يسمع ويرى، ويتكلَّم ويُنادي، ويُحِبُّ ويُبغِض، ويرضى ويَغضَب، وأن له يدَيْن ووجهًا، وأنه يعلم السِّرَّ وأخفى، فلا يخفى عليه خافيةٌ في السَّماء ولا في الأرض، وأنه يُقيمهم من قبورهم أحياءً بعدما مزَّقهم البِلَى إلى دار النَّعيم أو إلى الجحيم، فالعلم الضَّروري بأنه جاء بذلك وأراده كالعلم الضَّروري بوجوده ومبعثه ومخرجه وقتاله لمَن خالفه، فالقَدْح فيما أَخبر به من ذلك وأنه لا يُفيد اليقين كالقدح في مُخْبَر الأخبار المتواترة وأنه لا يُفيد اليقين.
الوجه الحادي والعشرون: أن كل صِنْفٍ من أصناف العلماء تكفَّلوا بعلمٍ من العلوم المنقولة عن الرَّسول، متَّفقون على أكثر علمهم مسائله ودلائله.
فالفقهاء [ب 82 أ] متَّفقون على غالب الشَّريعة عامِّها وخاصِّها، وهم متفقون على أكثر خاصِّها الذي لا يَعرِفه العامَّة، وإذا كانوا قد عرفوا مراده بهذا فكيف لا يعرفون مراده بالذي هو أظهر وأشهر وأكثر نصوصًا وأعظم بيانًا؟!
والمفسِّرون فسَّروا القرآن، واتفقوا على المراد منه في غالب القرآن، ونزاعهم في القليل من ذلك، وأكثره عند التحقيق ليس نزاعًا في نفس الأمر؛ بل هو اختلاف في التَّعبير، واختلاف تمثيلٍ وتنويعٍ، لا اختلافُ تناقضٍ ولا تضادٍّ.
وأهل الحديث متَّفقون على أحاديث الصَّحيحين، وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدًّا، وهم متَّفقون على لفظها ومعناها، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه، وهذا ممَّا ينفرد به
(1)
بعلمه الخاصة، وهم القليل من النَّاس، وهم مع ذلك يعلمون بالاضطرار بطلانَ تأويل القرآن والحديث بما يتأوَّله به الفلاسفة والقرامطة والجهمية، ويعلمون أنه خلاف مراد الرَّسول بالضَّرورة، فكيف ما اشتركت الأُمَّة عامَّتُها وخاصَّتُها في نقله قرنًا بعد قرنٍ، فكيف لا يعرفون مراد الرَّسول منه يقينًا؟!
فإن الأُمَّة كلها تَنقُل عمَّن قبلها، ومَن قبلها عمَّن قبلها، حتى ينتهي الأمر إلى الرَّسول: أن الله يرى ويسمع، ويتكلَّم ويعلم، وأنه فوق السَّماوات السَّبع على العرش، وأنه يُرى يوم القيامة جهرةً؛ وعِلْمُ الأُمة بمراد الرَّسول من ذلك فوق عِلْمِهم بمراده من أحاديث الشُّفعة والرِّبا والحيض والفرائض ونحوها، فكيف يُقال: حصل لهم اليقين بمراده من ذلك دون هذا، وهل هذا إلَّا من أقبح المكابرة؟!
الوجه الثَّاني والعشرون: أن يُقال: من المعلوم بالضَّرورة أن المخاطبِين أوَّلًا بالقرآن والسُّنَّة لم يتوقف حصول اليقين لهم بمراده على تلك المقدِّمات العشرة التي ذكروها، ولا على شيءٍ منها. أمَّا عصمة رواة اللغة فإنهم خُوطبوا شِفاهًا، فلم يحتاجوا إلى واسطةٍ في نقل الكلام، فضلًا عن واسطة في نقل اللغة، ولا إلى قاعدةٍ يَنفُون بها نفيَ احتمالِ اللفظ لغير المعنى الذي قصده المتكلِّم، فإنهم عَلِموا مراده بالضَّرورة، وإذا كانوا عالِمين بمراده
(1)
كذا، ولعلها زائدة.
بالضَّرورة مع علمهم بصدقه امتنع عندهم أن يكون في نفس الأمر معارِضٌ يُنافي مراده.
وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ من كبار التَّابعين: «حدَّثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم ـ أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم [ب 82 ب] يتجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»
(1)
.
وكان يَمكُث أحدُهم في السُّورة مدَّةً حتى يَتعلَّمها، وقد أقام ابن عمر على تعلُّم سورة البقرة ثمانيَ سنين
(2)
، وقال أنس:«كان الرَّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيُننا»
(3)
.
ولم يتوقف معرفة مراد الله ورسوله من كلامه عندهم على شيءٍ من تلك الأمور العشرة، ولا تابعي التَّابعين، ولا أئمة الفقه المتبوعين، ولا أئمة الحديث، ولا أئمة التفسير، حتى نبغت قُلْف الأذهان
(4)
عُجْم القلوب فزعموا أنهم لا يحصل اليقين بمراده إلَّا بعد هذه الأمور، ثم قالوا: ولا سبيل
(1)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23965) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30549) والطبري في «تفسيره» (1/ 74).
(2)
ذكره مالك في «الموطأ» (238) بلاغًا، ووصله ابن سعد في «الطبقات» (4/ 153) بلفظ:«في أربع سنين» .
(3)
أخرجه أبو داود الطيالسي في «المسند» (2132) وأحمد في «المسند» (12215، 12216) وابن حبان (744) وأصله في البخاري (3617) ومسلم (2781).
(4)
يقال: هو أقلف القلب: لا يعي خيرًا، وقلوب غُلْف: قُلْف. «أساس البلاغة» (2/ 98) و «لسان العرب» (9/ 291).
إلى العلم بانتفائه؛ إذ غاية ما يقدر بعد البحث والطلب التَّام عدم العلم بها، ولا يلزم من عدم العلم عدم المعلوم، فلا سبيل لنا إلى العلم بمراد الرَّسول البتَّةَ، وطلبت نفوسهم ما يحصل له به العلم، فعادوا إلى العقول، فوجدوها قد تصادمت فيما تقضي به من جائزٍ على الله وواجبٍ ومستحيلٍ أعظمَ تصادُم، فخرجوا عن السَّمع الصَّحيح، ولم يظفروا بدلالة العقل الصريح، ففاتهم العقل والسَّمع جميعًا.
الوجه
الثَّالث والعشرون: أن جميع ما ذكروه من الوجوه العشرة يرجع إلى حرفٍ واحدٍ، وهو احتمال اللفظ لمعنًى آخر غير ما يظهر من الكلام،
فإنه لا يُنازِع عاقلٌ أن غالب ألفاظ النُّصوص لها ظواهر هي موضوعةٌ لها ومفهومةٌ عند الإطلاق منها، لكن النِّزاع أن اعتقاد ذلك المعنى يقينيٌّ، لا يُحتمل غيرُه، أو ظنِّيٌّ يُحتمل غيرُه؛ فالمدار كلُّه على احتمال إرادته صلى الله عليه وسلم معنًى آخر غير الظَّاهر، وعدم ذلك الاحتمال.
ومعلوم أن الطُّرق التي يُعلم بها انتفاء إرادته معنى يناقض ذلك المعنى طُرقٌ كثيرةٌ لا يَحتاج شيءٌ منها إلى ما ذكروه، بل قد يعلم السَّامع انتفاءَ معنًى يُناقض المعنى الذي ذَكَره المتكلِّم ضرورةً، وتارةً يغلب على ظنِّه غلبةً قريبةً
(1)
من الضَّرورة، وتارةً يحصل له ذلك ظنًّا، وتارةً لا يفهم مراده، وتارةً يشتبه عليه المراد بغيره.
وهذا القطع والظنُّ والشكُّ له أسبابٌ غير الأمور التي ذكروها، فقد يكون سبب الاحتمال كون السَّامع لم يألف ذلك اللفظ في لغة قومه، أو أن له
(1)
«ب» : «عليه قرينة» . وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب، فالمصنف يتكلم عن مراتب العلم: اليقين، فغلبة الظن، فالظن.
في لغتهم معنًى غير معناه في لغة المتكلِّم، أو أن اللفظ قد اقترنت به قرينةٌ يقطع السَّامع معها بالمراد فخَفِيَت عليه أو ذَهَلَ عنها، ولو نُبِّه عليها لتنبَّه، كما اقترن بلفظ المفاداة في آية الخُلْع تَقَدُّمُ طلقتين وتأخُّر طلقة ثالثة، ووقع بين الطلقتين [ب 83 أ] والطلقة الثَّالثة
(1)
، ففَهِمَ جمهور الصَّحابة منه أنه غير محسوبٍ من الثلاث، واحتج بذلك ابن عباسٍ
(2)
وغيره
(3)
.
وقد تكون القرينة منفصلة في كلامٍ آخر، بحيث يجزم السَّامع بالمراد من مجموع الكلام، فيخفى أحدهما على السَّامع، أو لا يَتفطَّن له فلا يعرف المراد، فهذا قد يقع لأعلم النَّاس بخطابه صلى الله عليه وسلم، وهو من لوازم الطبيعة الإنسانية، ولكنه قليلٌ جدًّا، بالإضافة إلى ما تيقَّنوه من مراده، لا نسبةَ له إليه، فلا يجوز أن يُدَّعى لأجله أن كلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين بمرادٍ،
(1)
(2)
أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (11765، 11767، 11771) وسعيد بن منصور في «السنن» (1455) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 316) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع بين ذلك؛ فليس الخلع بطلاق» . وقال ابن المنذر في «الأوسط» (9/ 324): «وليس في الباب حديث أصح من حديث ابن عباس، كان أحمد يقول: جيد الإسناد» .
(3)
ينظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/ 485 - 487) و «الأوسط» لابن المنذر (9/ 321 - 324).
ولا سبيل لنا إلى اقتباس العلم واليقين منه.
الوجه
الرَّابع والعشرون: أن قول القائل: «الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلَّا عند [تيقُّن]
(1)
أمورٍ عشرة» نفيٌ عامٌّ، وقضيةٌ سالبةٌ كليةٌ،
فإنْ أراد قائلها أن أحدًا من النَّاس لا يعلم مراد متكلِّمٍ ما يقينًا إلَّا عند هذه الأمور العشرة؛ فكَذِبٌ ظاهرٌ. وإن أراد به أنه لا يعلم أحدٌ المراد بألفاظ القرآن والسُّنَّة إلَّا عند هذه الأمور ففِرْيةٌ ظاهرةٌ أيضًا؛ فإن الصَّحابة كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم، والتَّابعون
(2)
كلهم، وأئمة الفقه كلهم، وأئمة التَّفسير كلهم، لم يتوقَّفْ عِلمُهم بمراد الرَّسول على هذه الأمور؛ بل لم تخطر ببالهم، ولم يذكرها أحدٌ منهم في كلامه.
وإن أراد أن مَن بعد الصَّحابة لا يَعرِف مراد الرَّسول إلَّا بهذه الأمور العشرة فكَذِبٌ أيضًا، فإن التَّابعين ومَن بعدهم جازمون متيقِّنون لمراده أعظم يقينٍ، بل نحن ـ ونسبتنا إليهم أقلُّ نسبةٍ ـ متيقِّنون لمراد الله ورسوله
(3)
من كلامه يقينًا لا ريبَ فيه، وجازمون به جزمًا لا شكَّ فيه، ومَن قبلَنا كان أعلمَ منَّا وأعظمَ جزمًا، ومَن قبلَهم كان كذلك، فكيف يستحلُّ الرَّجُل أن يحكم حُكمًا عامًّا كليًّا أن أحدًا لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله؟!
وإن أراد به أنها لا تُفيد اليقين في شيءٍ وتفيده في شيءٍ آخر؛ قيل له: هذا لا يُفيدك شيئًا حتى تُبيِّن أن محلَّ النِّزاع بينك وبين أهل السُّنَّة وأنصار الله ورسوله من النَّوع الذي لا يُفيد اليقين، فهم يزعمون أن استفادتهم اليقينَ منه
(1)
ليس في «ب» . ومثبت من «المحصل» للرازي (ص 51).
(2)
كذا، والجادة «التابعين» معطوفة على منصوب.
(3)
بعده في «ب» : «أكثر» . وأراها زائدة.
أعظمُ من استفادتهم اليقين من كلام كل متكلِّمٍ، وليس لك أن تحكم عليهم بأنهم لم يستفيدوا منه اليقين، فإن غاية ما عندك أنك أنت فاقد اليقين، لم تظفر ببرده، ولم تَفُز به، فكيف ساغ لك أن تحكم على غيرك بهذا؟!
فإن أردت بذلك أنِّي أنا لا أستفيد اليقين من هذه الأدلة إلَّا بعد هذه الأمور العشرة فعَلِمت أن غيري كذلك؛ قيل له: هذا من أبطل الباطل عند كل عاقلٍ؛ [ب 83 ب] فإنه من المعلوم بالضَّرورة أن الشَّيء الواحد يكون مجهولًا عند رجلٍ أو طائفةٍ، ومعلومًا عند آخر، وضروريًّا عند شخصٍ ونظريًّا عند آخر، فالاشتراك في المعلومات والضَّروريات غير واجبٍ ولا واقعٍ، والواقع خلافه، فالصَّحابة كانوا يعلمون من أحوال النَّبي صلى الله عليه وسلم بالاضطرار ما لم يعلمه غيرهم، وكان أبو بكر يعلم من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه يقينًا ما لا يعلمه غيره، ولا يفهمه، كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ:«وكان أبو بكر أَعلَمَنا به»
(1)
.
وكان التَّابعون يعلمون من أحوال الصَّحابة بالاضطرار ما لا يعلمه غيرهم.
والفقهاء وأهل الحديث يعلمون بالاضطرار أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السَّهو في الصَّلاة، وقضى بالشُّفعة، وجعل الدِّية على العاقلة، وأخبر أن الله يَنزل إلى سماء الدنيا كلَّ ليلةٍ، وأنه يُرى بالأبصار جَهْرةً يوم القيامة، وأنه يُدخِل النَّار قومًا من أهل التَّوحيد، ثم يُخرِجهم بالشَّفاعة، وأنه أخبر بخروج الدَّجَّال، ونزول المسيح من السَّماء، وطلوع الشَّمس من مغربها، وغير ذلك ممَّا يَجهله كثيرٌ من النَّاس، ومَن أقرَّ به فهو عنده ظنِّيٌّ، وأهل الحديث جازمون به، متيقِّنون
(1)
أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382).
له كتيقُّنِهم أنه بُعث من مكة، وهاجَرَ إلى المدينة، ومات بها.
وأهل المغازي والسِّيَر والحديث يعلمون بالاضطرار أن غزوة بدر كانت قبل أُحُدٍ، وأن أُحُدًا قبل الخندق، والخندق قبل الحديبية، والحديبية قبل خيبر، وخيبر قبل فتح مكة، وفتح مكة قبل حُنين، وحُنين قبل الطَّائف، والطَّائف قبل تبوك، وتبوك آخر الغزوات، ولم يكن فيها قتالٌ؛ وكان الغزو فيها للنصارى أهل الكتاب، وفي خيبر لليهود، وفي بدرٍ وأُحدٍ للمشركين؛ وأنه أَوقَعَ باليهود أربع مرَّات: ببني قينُقاع وكانت بعد بدرٍ، وبالنَّضير، وكانت بعد أُحدٍ، وبقُريظة وكانت بعد الخندق، وبأهل خيبر وكانت بعد الحديبية. وأكثر النَّاس ـ بل كثيرٌ من العلماء والفقهاء ـ لا يعلمون هذا التَّفصيل.
وكذلك العلماء بالتَّفسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن سورة البقرة وآل عمران والنِّساء والمائدة والأنفال وبراءة مدنياتٌ نَزَلْنَ بعد الهجرة، وسورة الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف والنَّحل مكياتٌ نَزَلْنَ قبل الهجرة، وأكثر النَّاس لا يعلمون ذلك ضرورةً ولا نظرًا.
فليس المعلوم من أقوال الرَّسول وسيرته ومراده بكلامه أمرًا مشتركًا بين جميع النَّاس ولا بين المسلمين [ب 84 أ] ولا بين العلماء، وإذا لم يكن هذا أمرًا مضبوطًا لا من العالم ولا في العلوم أمكن في كثيرٍ من مراد الرَّسول بالاضطرار [أن تكون نظريةً عند قومٍ]
(1)
، ضروريةً عند آخرين، وغير معلومةٍ البتَّةَ عند آخرين.
وإن قال: أردت أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين عند من لا يعرف
(1)
ما بين المعقوفين ليس في «ب» والزيادة من مفهوم السياق.
مدلولها إلَّا بهذه المقدِّمات.
قيل له: فهذا لا فائدة فيه، فكأنك قلت: من لم يعرف مراد المتكلِّم إلَّا بمقدِّمةٍ ظنيةٍ كان استدلاله بكلامه ظنيًّا، وذلك من باب تحصيل الحاصل. وكذلك من لم يعرف الدَّليل العقلي إلَّا بمقدِّمةٍ ظنيةٍ كان استدلاله به ظنِّيًّا. وأيضًا فإنه إذا كان هذا مرادك فكيف تحكم حكمًا عامًّا كُليًّا أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين.
فبَطَلَ حُكم هذه القضية الكاذبة: أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين على كل تقديرٍ، ولله الحمد. يوضِّحه:
الوجه
الخامس والعشرون: أن الذين لم يحصل لهم اليقين بالأدلة العقلية أضعاف أضعاف الذين حصل لهم اليقين بالأدلة السَّمعية،
والشُّكوك القادحة في العقليات أقوى وأكثر بكثيرٍ من الشُّكوك القادحة في السَّمعيات. فأهل العلم والكتاب والسُّنَّة متيقِّنون لمراد الله ورسوله، جازمون به، معتقدون لموجبه اعتقادًا لا يتطرَّق إليه شكٌّ ولا شبهةٌ.
وأمَّا المتكلمون الذين عَدَلوا عن الاستدلال بالأدلة السَّمعية إلى الأدلة العقلية في المسائل الكبار كمسألة حدوث العالم، ومسألة ما هي الحوادث، ومسألة تماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ومسألة وجود الشيء هل هو زائد على ماهيته أو هو نفس ماهيته، ومسألة المعدوم هل هو شيءٌ أم لا، ومسألة المصحِّح للتأثير هل هو الحدوث أو الإمكان، وهل يمكن أن يكون الممكن قديمًا أم لا، ومسألة الجوهر الفرد، وهل الأجسام مركبة منه أم لا، ومسألة الكلام وحقيقته، وأضعاف ذلك من المسائل التي عوَّلوا فيها على مجرَّد عقلٍ= أفضلُهم أشدُّهم حَيْرةً وتناقضًا واضطرابًا فيها، لا يَثبُت له فيها قولٌ،
بل تارةً يقول بالقول ويجزم به، وتارةً يقول بضِدِّه ويجزم به، وتارةً يَحار ويقف ويتعارض عنده الأدلة العقلية!
وأهل الكلام والفلسفة أشدُّ اختلافًا وتنازُعًا بينهم فيها من جميع أرباب العلوم على الإطلاق. ولهذا كلما كان الرجل منهم أفضل كان إقراره بالجهل والحَيْرة على نفسه أعظم، كما قال بعض العارفين
(1)
: أكثر النَّاس شكًّا عند الموت أهل الكلام.
وقال أفضل المتأخرين
(2)
[ب 84 ب] من هؤلاء لتلاميذه عند الموت: «أشهدكم أني أموت وما عَرَفت مسألةً واحدةً إلَّا مسألة افتقار الممكن إلى واجب «. ثم قال: «والافتقار أمرٌ عدميٌّ فها أنا ذا أموت وما عَرَفت شيئًا» .
وقال ابن الجويني
(3)
وقال آخر في خطبة كتابه في الكلام
(4)
:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
(1)
هو أبو حامد الغزالي، وتقدم (ص 17).
(2)
هو الخونجي، وتقدم (ص 17).
(3)
تقدم (ص 17).
(4)
هو الشهرستاني في «نهاية الإقدام» (ص 3) وتقدم (ص 16).
وقال الرَّازي في كتابه «أقسام اللذات»
(1)
وقد ذكر أنواعها، وأن أشرفها لذة العلم والمعرفة، وأشرفَ العلم: العلم الإلهي لشرف معلومه وشدة الحاجة إليه، وأنه على ثلاثة أقسام:«العلم بالذَّات وعليه عُقدة، وهي أن الوجود هل هو الماهية أو زائد عليها؟ والعلم بالصفات، وعليه عقدة، وهي أن الصِّفات هل هي أمور وجودية زائدة على ذات الموصوف أم ليست بزائدة على الذَّات؟ والعلم بالأفعال وعليه عقدة، وهي هل الفعل مقارنٌ للفاعل أو متراخٍ عنه؟ ثم قال: ومَن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب؟» . ثم أنشد
(2)
:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا
…
رِجَالٌ فَمَاتُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
لقد تأمَّلْت الطُّرُق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تَشفي عليلًا، ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطُّرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النَّفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9]{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 107]. ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».
(1)
«رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 252 - 263) والنقل باختصار كبير، وبعضه بالمعنى، وبعضه ليس موجودًا في المطبوع.
(2)
«رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 262).
فليتأمَّل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العِبَر، فإنه لم يأتِ في المتأخِّرين مَن حصَّل من العلوم العقلية ما حصَّله، ووقف على نهايات أقدام العُقلاء، وغايات مباحث الفُضلاء، وضرب بعضَها ببعضٍ ومَخَضها أشدَّ المخض، فما رآها تَشفي علَّةَ داء الجهالة، ولا تُروي غُلَّةَ ظمأ الشَّوق والطلب، وأنها لم تَحُلَّ عنه عُقدةً واحدةً من هذه العُقَد الثَّلاث التي عَقَدها أرباب المعقولات على قافية القلب، فلم يستيقظ لمعرفة [ب 85 أ] ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله.
وصَدَقَ والله، فإنه شاكٌّ في ذات ربِّ العالمين: هل له ماهية غير الوجود المطلق يختص بها، أم ماهيَّته نفس وجوده الواجب؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في صفاته: هل هي أمور وجودية، أم نِسَبٌ إضافية عدمية؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عُقدتها. وشاكٌّ في أفعاله: هل هي مقارنة له أزلًا وأبدًا لم تَزَلْ معه، أم الفعل متأخر عنه تأخُّرًا لا نهاية لأمده، فصار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا؟ ومات ولم تَنحَلَّ له عقدتها. فتنظر في كتبه الكلامية قول المتكلمين، وفي كتبه الفلسفية قول الفلاسفة، وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ويجلس بينهما حائرًا، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد؛ فإنه مع بَحْثِه ونظره وتصدِّيه للرد على الرَّازي حتى يقول في قصيدةٍ له
(1)
:
(1)
الأبيات باختلاف يسير نسبها إليه الصفدي في «الوافي بالوفيات» (18/ 46)، وابن شاكر في «فوات الوفيات» (2/ 260).
وَحَقِّكَ لَوْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ قُلْتُ لِلْـ
…
لَذِينَ بِهَا قَدْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحِبُّهُ
وَأَفْنَيْتُ عُمْرِي فِي فُنُونٍ دَقِيقَةٍ
…
وَمَا بُغْيَتِي إِلَّا رِضَاهُ وَقُرْبُهُ
أَمَا قُلْتُمُ مَنْ كَانَ فِينَا مُجَاهِدًا
…
سَيُكْرَمُ مَثْوَاهُ وَيَعْذُبُ شِرْبُهُ
أَمَا رَدَّ شَكَّ ابْنِ الْخَطِيبِ وَزَيْفَهُ
…
وَتَمْوِيهَهُ في الدِّينِ إِذْ جَلَّ خَطْبُهُ
يعترف بأن المعقولات لم تُعطِه إلَّا حَيْرةً، وأنه لم يَصِل منها إلى يقينٍ ولا عِلْمٍ، حيث يقول
(1)
:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ
…
ضَاعَ دَهْرِي
(2)
وَانْقَضَى عُمُرِي
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا
…
رَبِحَتْ إلَّا أَذَى السَّفَرِ
(3)
قَاتَلَ اللهُ الْأُلَى زَعَمُوا
…
أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ
(4)
كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا
…
خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَر
وقال بعض الطَّالبين من المتأخرين، وقد سافر في طلب ربِّه على هذه الطَّريق فلم يزدد إلَّا حَيْرةً وبُعدًا من مطلبه، حتى قيَّض الله له مَن أخذ بيده، وسلك به على الطَّريق الَّتي سَلَكَ عليها الرُّسُل وأتباعُهم، فجعل يهتف
(1)
الأبيات أنشدها ابن أبي الحديد لنفسه في «شرح نهج البلاغة» (13/ 51). ونسب ياقوت في «معجم الأدباء» (3/ 1163) بعضها للحسين بن هداب النوري.
(2)
في «شرح نهج البلاغة» : «تاه عقلي» .
(3)
زاد بعده في «شرح نهج البلاغة» :
رَجَعَتْ حَسْرَى وَمَا وَقَفَتْ
…
لَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَر
(4)
جاء هذا البيت في «شرح نهج البلاغة» هكذا:
فَلَحَى اللهُ الْأُلَى زَعَمُوا
…
أنَّكَ المعلومُ بالنَّظر
بصوته لأصحابه: هَلُمُّوا، فهذه والله الطريق، وهذه أعلام مكة والمدينة، وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياحُ، ولم تُزِلْها الأهوية. ثم قال
(1)
:
وَكُنْتُ وَصَحْبِي فِي ظَلَامٍ مِنَ الدُّجَى
…
نَسِيرُ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ وَلَا نَدْرِي
/وَكُنَّا حَيَارَى فِي الْقِفَارِ وَلَمْ يَكُنْ
…
دَلِيلٌ لَنَا نَرْجُو الْخَلَاصَ مِنَ الْقَفْرِ
ظِمَاءً إِلَى وِرْدٍ يَبُلُّ غَلِيلَنَا
…
وَقَدْ قَطَعَ الْأَعْنَاقَ مِنَّا لَظَى الْحَرِّ
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَبَدَّى لِنَاظِرِي
…
سَنَا بَارِقٍ يَبْدُو كَخَيْطٍ مِنَ الْفَجْرِ
فَقُلْتُ لِصَحْبِي هَلْ تَرَوْنَ الَّذِي أَرَى
…
فَقَالُوا اتَّئِدْ ذَاكَ السَّرَابُ الَّذِي يَجْرِي
فَخَلَّفْتُهُمْ خَلْفِي وَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ
…
فَأَوْرَدَنِي عَيْنَ الْحَيَاةِ لَدَى الْبَحْرِ
فَنَادَيْتُ أَصْحَابِي فَمَا سَمِعُوا النِّدَا
…
وَلَوْ سَمِعُوهُ مَا اسْتَجَابُوا إِلَى الْحَشْر
فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سَيْرِهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضد اليقين، ومن الحَيْرة والشكِّ؛ فمَن الذي شكا من القرآن والسُّنَّة والأدلة اللفظية هذه الشكاية، ومَن الذي ذَكَرَ أنها حيَّرَتْه ولم تَهْدِه؟ أوَلَيس بها هدى الله أنبياءه ورُسلَه وخيرَ خَلْقه؟ قال تعالى لأكمل خَلْقه وأوفرهم عقلًا:{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّيَ} [سبأ: 50]. فهذا أكمل الخَلْق عقلًا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يُخبِر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه، وهؤلاء المتهوِّكون المتحيِّرون يقولون: إنها لا تُفيد يقينًا ولا عِلْمًا ولا هُدًى. وهذا موضع المَثَل المشهور: «رمتني بدائها وانسلَّتْ»
(2)
.
(1)
الأبيات لم نقف على قائلها، ولعلها للإمام ابن القيم نفسه، وينظر «النونية» له (2/ 570 - 572).
(2)
يُضرب لمن يُعَيِّر صاحبه بعيبٍ هو فيه. ينظر: «الأمثال» لأبي عبيد (ص 73 - 74) و «مجمع الأمثال» للميداني (1/ 102، 286).
الوجه
السَّادس والعشرون: أن ألفاظ القرآن والسُّنَّة ثلاثة أقسام:
نصوص لا تحتمل إلَّا معنًى واحدًا، وظواهرُ تحتمل غير معناها احتمالًا بعيدًا مرجوحًا، وألفاظ تحتاج إلى بيانٍ، فهي بدون البيان عُرضة الاحتمال.
فأمَّا القسم الأول: فهو يُفيد اليقين بمدلوله قطعًا، كقوله تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 13]. فلَفْظ الأَلْف لا يَحتمل غير مسمَّاه، وكذلك لفظ الخمسين، وكذلك لفظ نوحٍ، ولفظ قومه، وكقوله:{وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] وقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي اِلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 195] وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] وعامَّة ألفاظ القرآن من هذا الضَّرْب.
هذا شأن مفرداته، وأمَّا تركيبه [ب 86 أ] فجاء على أصحِّ وجوه التَّركيب، وأبعدِها من اللبس، وأشدِّها مطابقةً للمعنى. فمفرداته نصوصٌ أو كالنُّصوص في مسمَّاها، وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قُصِدَ بها، والمخاطبون به تلك اللغة سجيَّتهم وطبيعتهم غير متكلَّفةٍ لهم، فهم يعلمون بالاضطرار مراده منها.
والقسم الثَّاني: ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظَّاهرة منها، ولكن قد اطَّرَدَتْ في موارد استعمالها على معنًى واحدٍ، فجرت مَجرى النُّصوص التي لا تحتمل غير مسمَّاها.
والقسمان يُفيدان اليقين والقطع بمراد المتكلِّم.
وأمَّا القسم الثَّالث: إذا أُحْسِنَ ردُّه إلى القسمين قبله عُرف مراد المتكلِّم منه.
فالأول يُفيد اليقين بنفسه، والثَّاني يُفيده باطِّراده في موارد استعماله، والثَّالث يفيده إحسان ردِّه إلى القسمين قبله. وهذا ظاهر جدًّا لمن له عنايةٌ بالقرآن وألفاظه ومعانيه، واقتباس المعارف واليقين منه. فاستفادته اليقين من أدلته أعظم من استفادة كل طالب علمٍ اليقينَ من موادِّ عِلْمِه وبراهينه.
الوجه
السَّابع والعشرون: أن الذي حال بين هؤلاء وبين استفادتهم
(1)
اليقينَ من كلام الله ورسوله أن كثيرًا من ألفاظ القرآن والسُّنَّة قد صار لها معانٍ، اصطلح عليها النُّظار والمتكلِّمون وغيرهم،
وأُلِفَ ذلك الاصطلاح، وجرى عليه النَّشءُ، وصار هو المقصودَ بالتَّخاطب، وإليه التَّحاكم، فصار كثيرٌ من النَّاس لا يعرف سواه. فلمَّا أرادوا أن يُطابقوا بين معاني ألفاظ القرآن وبين تلك المعاني التي اصطلحوا عليها أَعجَزَهم ذلك، فمرةً قالوا: ألفاظ القرآن مجازٌ، ومرةً طلبوا لها وجوهَ التأويل، ومرةً قالوا: لا تُفيد اليقين، ومرةً جعلوها وقفًا تُتلى في الصَّلاة، ويُتبرَّك بقراءتها، ولا يُتحاكم إليها.
مثال ذلك: لفظ الجسم في القرآن هو البدن، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]. وهم اصطلحوا على تسمية كل قائمٍ بنفسه جسمًا، مرئيًّا كان أو غير مرئيٍّ، وسَمَّوا الموصوف بالصِّفات جسمًا، وسَمَّوْا مَن له وجهٌ ويدانِ جسمًا، ثم نَفَوا الجسم عن
(2)
الصَّانع،
(1)
«ب» : «استفادته» مفردًا، والسياق يقتضي الجمع.
(2)
«ب» : «على» . والمثبت هو الصواب.
وأوهموا أنهم ينفون معناه لغةً، وقَصْدُهم نَفْيُ معناه اصطلاحًا، فسَمَّوْه بخلاف اسمه في اللغة، ونَفَوْا به ما أثبته الرَّبُّ لنفسه من صفات الكمال.
وكذلك سَمَّوْا صفاته [ب 86 ب] أعراضًا، ثم نَفَوْا عنه الأعراض بالمعنى الذي اصطلحوا عليه، لا بالمعنى الذي وُضِعَتْ له ألفاظ الأعراض في اللغة.
وكذلك سَمَّوْا أفعاله حوادثَ، ثم نَفَوْها عنه بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بمعناه في اللغة، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَعَنَ اللهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا»
(1)
. وقال: «إِيَّاكُمْ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ»
(2)
. وقال: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»
(3)
. فإذا قالوا: لا تَحِلُّه الحوادث. أوهموا النَّاس هذه الحوادث، ومرادهم أنه لا يتكلَّم ولا يُكلِّم، ولا يرى ولا يَسمع، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويًا، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، ولا يُنادِي عبادَه يوم القيامة، ولا يشاء مشيئةً، إلى أمثال ذلك.
وكذلك لفظ الاستواء حقيقةٌ في العلوِّ، ثم حَدَثَ له معنى الاستيلاء في قول الشَّاعر إن كان قاله
(4)
:
(1)
أخرجه البخاري (7306) ومسلم (1366).
(2)
لم نقف عليه مرفوعًا بهذا اللفظ، وإنما وقفنا عليه من كلام عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد (20559) والترمذي (244) وابن ماجه (815) وقال الترمذي:«حديث حسن» .
(3)
أخرجه البخاري (6954) ومسلم (225).
(4)
صدر بيت، وعجزه:
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ
يُنسب للأخطل النصراني، وليس في «ديوانه» ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 146):«ولم يثبت نقلٌ صحيحٌ أنه شعرٌ عربيٌّ، وكان غير واحدٍ من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيتٌ مصنوعٌ، لا يُعرف في اللغة، وقد عُلم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يُعرف إسنادُه، وقد طَعن فيه أئمة اللغة» .
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاق
فهذا شِعرٌ مُوَلَّدٌ حَدَثَ بعد كتاب الله، ولم يكن معروفًا قبل نزول القرآن، ولا في عصر من أُنزِل عليه القرآن، فحملوا لفظ القرآن على الشِّعر المولَّد الحادث بعد نزوله، ولم يكن من لغة مَن نزل القرآن عليه.
وكذلك لفظ المحلِّل والمحلَّل له، فإنه في لغة مَن تكلَّم به ولغة أصحابه هو محلِّل النِّكاح، الذي يُريد أن يتزوج المرأة ليُحلَّها لِمُطَلِّقها. وفي اصطلاح بعض الفقهاء هو الذي يُحَلِّل مُوَلِّيَتَه لغيره بلا مهرٍ، أو الذي يَشترط التَّحليل لفظًا في صُلب العقد.
وكذلك لفظ الخمر في لغة مَن تكلَّم به وصرَّح بتحريمه: كلُّ مُسكرٍ. فاصطلح بعض الفقهاء على تخصيص بعض أنواع الأشربة المسكرة باسم الخمر، ثم حملوا النُّصوص على تلك المعاني التي اصطلحوا عليها.
وكذلك لفظ الجار في لغته صلى الله عليه وسلم هو الجار المعروف، فإذا اصْطُلح على تسمية الشَّريك جارًا قياسًا على تسمية الزوجة جارًا في قول الشَّاعر
(1)
:
(1)
صدر بيت، وعجزه:
كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
وهو للأعشى في «ديوانه» (ص 263).
أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ
ثم حُمل لفظ الشَّارع على المعنى الاصطلاحي لم يَجُزْ ذلك.
ومِن هذا لفظ التركيب، فإنه في لغة القرآن تركيب الشَّيء في غيره، كقوله:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، ثم اصطلح عليه بعض النَّاس، وجعل كل ما تميَّز منه شيءٌ عن شيءٍ مركبًا، وإن كان حقيقته واحدة. فالعرب إنما تُطلِق لفظ التركيب والمركَّب في نحو تركيب الدَّواء، وتركيب الخشبة على الجدار، وتركيب المادة في صورة من الصُّوَر، ولا يُسمَّى الهواء مركبًا ولا النَّار ولا الماء ولا التراب، وإنما المركَّب عندهم ما رُكِّب فيه شيءٌ على شيءٍ. خالف المتأخرون [ب 87 أ] الاصطلاح الحادث، ثم نَفَوْا مُسمَّاه الاصطلاحيَّ عن الرَّبِّ سبحانه، ورأوُا الأدلة اللفظية من القرآن والسُّنَّة لا تساعدهم على ذلك فقالوا: لا تفيد اليقين.
الوجه الثَّامن والعشرون: أن هؤلاء القائلين: «إن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ» إمَّا أن يريدوا
(1)
به نفي اليقين في باب الأسماء والصِّفات فقط دون باب المعاد والأمر والنَّهي، أو في باب الصِّفات وباب المعاد فقط دون الأمر، أو في الجميع.
فإن أراد الأول ـ وهو مُراد الجهمية ـ قيل له: فما جوابك للفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان؟ حيث احتجَجْت عليهم بأنَّا نعلم بالضَّرورة أن الرُّسل جاؤوا به، فردُّه عليهم تكذيبٌ لهم. فقالوا: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
(1)
«ب» : «يريد» ، والمثبت أنسب للسياق.
فإن قلت: الفرق بيننا وبينهم أن آيات الصِّفات وأخبارها قد عارضتها قواطع عقلية تنفيها، بخلاف نصوص المعاد.
قيل: أمَّا أهل القرآن والسُّنَّة فيجيبونك بأن تلك المعارضات هذيانات لا حقيقة لها، وشبهات خيالية:{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ} [النور: 38].
وأمَّا أشباهك من الفلاسفة فيقولون: ونصوص المعاد قد عارضها قواطعُ عقلية بنفيها.
فإن قلت: بل هذه شبهاتٌ باطلةٌ ومقدِّماتٌ كاذبةٌ.
قيل: صدقت، والشُّبهات التي تُعارِض نصوص الصِّفات أَبطَلُ، والمقدمات التي تخالفها أَكذَبُ بكثيرٍ، فإنَّ الشُّبهات العقلية المعارضة لنصوص الأنبياء ليس لها حدٌّ تقف عليه؛ بل قد عارض أرباب المعقول الفاسد جميع ما جاؤوا به من أوَّله إلى آخره بعقولهم، ومعارضة المشركين لما دعت إليه الرسل من التوحيد بشُبُهاتهم من جنس معارضة الدهرية لما أخبروا به من المعاد بشبهاتهم، فهَلُمُّوا نَضَعِ الشبهات جميعها في الميزان، ونحُكَّها على المحكِّ يتبين أنها زَغَلٌ وزَيْفٌ كلُّها.
وإن زعمت أنها لا تفيد اليقين لا في باب الخبر عن الله وصفاته، ولا في باب المعاد واليوم الآخر، ولا في باب الأمر والنهي، فقد انسلختَ من العقل والإيمان انسلاخَ الحيَّة من قشرها، وجاهرتَ بالقدح في النبوات والشرائع. وكنت في العقل الصحيح أشدَّ قدحًا، فإنه ليس في [ب 87 ب] المعقول شيءٌ
أصحَّ ممَّا جاءت به الرسل عن الله. وقد تقدَّم تقرير هذا، والمؤمنون يعرفونه جملةً، والرَّاسخون في العلم يعرفونه تفصيلًا.
الوجه
التَّاسع والعشرون: أن دعوى المدَّعي أن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه يقينٌ ولا علمٌ، إمَّا أن يدعيه حيث لا يعارض العقلُ السمعَ بل يوافقه، أو حيث يعارضه في زعمه، أو حيث لا يعارضه ولا يوافقه
؛ فإن ما جاء به الشرع عند هؤلاء ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يخالف ظاهرُه صريحَ العقل.
والثَّاني: ما يوافق العقل.
والثَّالث: ما لا يُحِيلُه العقل ولا يقتضيه.
فقول القائل: إن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين؛ يُقال له: لا يفيد في شيءٍ من هذه الأقسام الثلاثة عندك، أو في الأول منها خاصةً، أو فيه وفي الثَّالث. فإن كان مراده النفي في جميع الأقسام كان ذلك عنادًا ظاهرًا وإلحادًا في كلام الله ورسوله. وإن كان مراده أنه لا يفيده فيما يخالف صريح العقل ـ وهو الذي يريده هؤلاء ـ قيل له: هذا الفرض وإن اعتقدته واقعًا فهو محالٌ، فلا يعارض السمع الصحيح الصريح إلَّا معقولٌ فاسدٌ، تنتهي مقدماته إلى المكابرة أو التقليد أو التلبيس والإجمال. وقد تدبَّر أنصار الله ورسوله وسُنته هذا فما وجدوا ـ بحمد الله ـ العقلَ الصريح يفارق النقل الصحيح أصلًا، بل هو خادمه وصاحبه والشَّاهد له، وما وجدوا العقل المعارض له إلَّا من أفسد العقول وأسخفها وأشدها منافاةً لصريح العقل وصحيحه.
ولولا الإطالة لذكرنا ذلك على التفصيل، وقد تقدَّمَت الإشارة إلى اليسير منه
(1)
. ويجب على المسلم الذي لله ولكتابه وقارٌ وعظمةٌ في قلبه أن يعتقد هذا، وإن لم يظهر له تفصيله، فإذا ظهر له تفصيله كان نورًا على نور؛ فإن الله سبحانه أقام الحجَّة على الخَلْق بكتابه ورسوله، فلا يمكن أن يكون فيهما ما يَظهر منه خلاف الحق، ولا ما يُخالف العقل، ولا يمكن أن يُحيل الرَّسول النَّاس في الهدى والعلم وصفاته وأفعاله على ما يناقض كلامه من عقلياتهم. وهذا واضح ولله الحمد.
الوجه الثلاثون: أن قول القائل: «الأدلة اللفظية موقوفةٌ على هذه المقدمات» ؛ أتريدُ به أن كلَّ دليلٍ منها يقف على مجموع [ب 88 أ] الأمور العشرة، أم تريد به أن جنسها يقف على جنس هذه العشرة؟!
فإن أردت الأول فهو مكابرةٌ ظاهرةٌ يَرُدُّها الواقع، فإن جمهور النَّاس يعلم مدلول الكلام من غير أن تخطر هذه العشرة أو شيءٌ منها بباله. وإن أردت الثَّاني فالأدلة العقلية تتوقَّف على ما به مقدمة أو أكثر بهذا الاعتبار، فإنه [ما]
(2)
من مسألةٍ عقليةٍ إلَّا وهي متوقفة على مقدِّمات غير المقدِّمات التي يتوقَّف عليها مسألةٌ أخرى؛ فما يتوقف عليه دلالة الدليل لا ضابِطَ له، وإنما هو أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ.
الوجه
الحادي والثلاثون: أن حكمك بتوقف دلالة الدليل على معرفة الإعراب والتصريف خطأٌ ظاهرٌ،
فإن مَن عَرَف أن لله الأسماء الحسنى
(1)
تقدم (ص 255).
(2)
سقط من «ب» .
كالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن، وأن الاسم يَدُلُّ على المسمَّى في لغة العرب؛ لم يتوقف في العلم بدلالة هذه الأسماء على الربِّ سبحانه على معرفته بأن الاسم مشتقٌّ من السمو أو من السِّمة، والاختلاف بين البصريين والكوفيين في ذلك، ومعرفة أرجح القولَيْنِ؛ فإن جماهير أهل الأرض يعرفون أن الله اسم لذات الخالق فاطر السماوات والأرض، ولا يعرفون تصريف الاسم واشتقاقَه. وأمَّا الإعراب فهؤلاء العامة يجزمون ويتيقَّنون مراد مُكلِّمهم بكلامه، ولا يتوقف ذلك على معرفتهم بوجوه الإعراب.
فإن قلت: إنما كلامنا في كلام العرب الفُصحاء الذين يتوقَّف فَهْمُ معاني كلامهم على الإعراب.
قيل: ما يتوقف عليه فَهْمُ كلامهم من الإعراب سجيَّة وطبيعة لهم، وأمَّا مَن بعدهم فقد نُقِلَ إلينا ذلك نقلًا متواترًا عنهم، كما نُقِلَ إلينا معاني مفردات ألفاظهم.
الوجه
الثَّاني والثلاثون: قولك: «إن ذلك يتوقف على نفي التخصيص والإضمار» ؛ فهذا لا يُحتاج إليه في فَهْم معاني الألفاظ المفردة،
فإنها تدلُّ على مُسمَّاها دلالةَ سائر الألفاظ على معانيها، كدلالة الأعلام ولفظ العدد وأسماء الأزمنة والأمكنة والأجناس على موضوعاتها.
واحتمال كون اللفظ العامِّ خاصًّا كاحتمال كون اللفظ الذي له حقيقة مستعملًا في غير حقيقته، وهذا منفيٌّ بالأصل، ولا يُحتاج في فَهْمِ ما هو جارٍ على أصله إلى أن يُعلم انتفاء الدليل الذي يُخرجه عن أصله، وإلَّا لم يفهم مدلول لفظ أبدًا لجواز أن يكون خرج عن أصل موضوعه بنَقْلٍ أو مجازٍ أو
غير ذلك. ولو ساغ ذلك لم يكن [ب 88 ب] أحدٌ يحتجُّ بدليلٍ شرعيٍّ لجواز أن يكون منسوخًا وهو لا يعلم ناسخه، ولم يشهد أحدٌ لأحدٍ بمِلْك لجواز أن يكون خرج عن مِلْكه ببيعٍ أو تبرُّعٍ، ولم يشهد أحدٌ لأحد بزوجيةِ امرأةٍ ولا رِقِّ عبدٍ لجواز أن يكون طلَّق وأعتق. وفتح باب التجويزات لا آخِرَ له، ولا ثقةَ معه البتَّةَ.
وهذا الباب قد دخل منه على الإسلام دَخَلٌ
(1)
عظيمٌ وخَطْبٌ جسيمٌ، وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلَّقون
(2)
به، ولا تزال تَعمِد كلُّ طائفةٍ منهم إلى آيةٍ من كتاب الله فيقودها
(3)
إلى مذهبه الذي يدعو إليه، ويدَّعي أن لها دلالةً خاصةً عليه، وكذلك يفعل في كثيرٍ من الأخبار التي يَجُرُّها إلى معتقده.
وليست المحنة التي عرضت في هذا الباب مقصورة على أهل الإسلام فقط، بل هي مشترِكة بين جميع أهل الأديان والمِلَل. ومَن أعطى التَّأمُّل حقَّه وجد أكثر ما ادَّعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها، وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها، وتغليب الخصوص على العموم، وادِّعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذَهابًا منهم في ذلك إلى أن البيان الشَّافي إنما هو في المعنى الخاص دون العام، وأنه المتيقَّن من اللفظ، فإن ظَفَرَ به وإلَّا قال:
(1)
«ب» : «مدخل» . ولعل المثبت هو الصواب، والدخل: الفساد. «الصحاح» (4/ 1697).
(2)
«ب» : «يتقلقون» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
كذا في «ب» بتذكير الفعل وما بعده في العبارة.
المراد خاصٌّ محتملٌ
(1)
، فتُعطَّل دلالة اللفظ العام الكلي بهذه الطريق، كما تُعطَّل دلالة اللفظ على حقيقته باحتمال إرادة المجاز والاستعارة، ودلالة أوامر الله ورسوله على وجوب الامتثال باحتمال إرادة الاستحباب ومطلق الرجحان، ودلالة نواهيه على التحريم باحتمال دلالتها على مجرَّد الكراهة وترك الأَوْلى، ودلالة النصِّ الصريح الذي لا يحتمل غير معناه باحتمال كونه منسوخًا.
فقد أَعَدَّ لكل دليلٍ قانونًا يدفع به دلالته، فإن كان خبر واحدٍ قال: يحتمل أن يكون راويه كَذَبَ أو أَخطَأَ. فإن أعجزه القدح في راويه لشُهرَته بالصدق والعدالة قال: لعله رواه بالمعنى الذي فَهِمَه وهو غير فقيه، فإذا عارضه القياس كان المصير إليه أَوْلى، كما قال هؤلاء: إذا عارض النص العقل كان المصير إليه أولى. فإن غُلب وأمكنه ادِّعاء انعقاد الإجماع على خلافه عارضه بالإجماع، فإن غُلب عن ذلك عارضه باحتمال النَّسْخ، فإن غُلب عارض [ب 89 أ] دلالته بالاحتمالات وأنواع التأويلات. فلله ما لَقِيَتِ النصوص من هذه الفِرَق وأرباب التأويلات والمتعصبين لمذاهبهم! وإلى مُنْزلها الشِّكاية، وبه المستعان، وعليه التُّكْلان.
الوجه
الثَّالث والثلاثون: أن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذُكر؛ يُبطِل حُجَجَ الله على خَلْقه بآياته، ويُبطِل أوامره ونواهيَه،
وفائدة أخباره. ونحن نبيِّن ذلك بحمد الله بيانًا شافيًا، ونقدِّم قبل بيانه مقدمة بين يديه، وهي ذِكْر الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن، وهي عشرة أقسام:
(1)
«ب» : «مجمل» . ولعل المثبت هو الصواب.
القسم الأول: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وأنه واحدٌ لا شريك له، وما يتبع ذلك.
القسم الثَّاني: ما استَشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خَلَقَ وذَرَأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريَّته وأصناف خليقته، محتجًّا به على من أَلحَدَ في أسمائه وتوحيده وعَطَّلَه عن صفات كماله وعن أفعاله، وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها
(1)
.
القسم الثَّالث: ما اشتمل عليه بَدْء الخلق وإنشاؤه ومادَّته، وابتداعه له وسَبْق بعضه على بعضٍ، وعدد أيام التخليق، وخَلْق آدم، وإسجاد الملائكة، وشأن إبليس وتمرُّده وعصيانه، وما يتبع ذلك.
القسم الرَّابع: ذِكْر المعاد والنشأة الأخرى، وكيفيته، وصورته، وإحالة الخَلْق فيه من حالٍ إلى حالٍ، وإعادتهم خَلْقًا جديدًا.
القسم الخامس: ذِكْر أحوالهم في معادهم، وانقسامهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ، ومسرورٍ بمَنقَلَبه ومثبورٍ
(2)
به، وما يتبع ذلك.
القسم السَّادس: ذِكْر القرون الماضية والأُمم الخالية وما جرى عليهم، وذِكْر أحوالهم مع أنبيائهم، وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المَثُلات، وما حلَّ بهم من العقوبات؛ ليكون ما جرت عليه أحوال الماضين
(1)
تقدم (ص 229 - 254).
(2)
مثبور: قال الفراء: أي مغلوب ممنوع من الخير. وقال ابن الأعرابي: المثبور الملعون المطرود المعذب. «لسان العرب» (4/ 99).
عبرةً للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.
القسم السَّابع: الأمثال التي ضربها لهم، والمواعظ التي وعظهم بها، يُنبِّههم بها على قَدْر الدنيا وقِصَر مُدَّتها وآفاتها؛ ليزهدوا فيها ويتركوا الإخلاد إليها، ويَرغَبوا فيما أَعَدَّ لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدَّائم.
القسم الثَّامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم، [ب 89 ب] وبيان ما فيه طاعته ومعصيته، وما يُحِبُّه من الأعمال والأقوال والأخلاق، وما يكرهه ويُبغِضه منها، وما يُقرِّب إليه ويُدني من ثوابه، وما يُبعِد منه ويُدني من عقابه. وقَسَّمَ هذا القسم إلى فروض فرضها، وحدود حَدَّها، وزواجر زَجَرَ عنها، وأخلاق وشِيَم رغَّب فيها.
القسم التَّاسع: ما عرَّفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم ومكايده لهم وما يريده بهم، وعرَّفهم إيَّاه من طريق التحصُّن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم، وما يتداركون به ما أُصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه، وما يتبع ذلك.
القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده من أوامره ونواهيه، وما اختصه به من الإباحة والتحريم، وذِكْر حقوقه على أُمته، وما يتعلق بذلك.
فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن. وإذا تأمَّلْت الألفاظ المتضمِّنة لها وجدتَها ثلاثة أنواع:
أحدها: ألفاظٌ في غاية العموم، فدعوى التخصيص فيها يُبطِل مقصودَها وفائدة الخطاب بها.
الثَّاني: ألفاظ في غاية الخصوص، فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.
الثَّالث: ألفاظ متوسِّطة بين العموم والخصوص.
فالنوع الأول كقوله: {وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 281] و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 108] و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله:{* يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنتُمُ اُلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ} [فاطر: 15] و {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20] و {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُتَّقُوا رَبَّكُمُ اُلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] وأمثال ذلك.
والنوع الثَّاني كقوله: {* يَاأَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 69] وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وقوله: {وَاَمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ اِلْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
والنوع الثَّالث كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 37] وقوله: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 103] و {يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ} [آل عمران: 64] و {يَاعِبَادِي اِلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 50] ونحو ذلك ممَّا يَخُصُّ طائفة من النَّاس دون طائفة. وهذا النوع وإن كان متوسِّطًا بين الأول والثَّاني فهو عامٌّ فيما قصد به ودلَّ عليه.
وغالب هذا النوع أو جميعُه قد عُلِّقت الأحكام فيه بالصفات المقتضية لتلك الأحكام، فصار عمومه لِمَا تحته من جهتين: من جهة اللفظ والمعنى. فتخصيصُه ببعض نوعه إبطالٌ لما قُصِدَ به، وإبطال دلالته؛ إذ الوقف فيها لاحتمال إرادة الخصوص به أشد إبطالًا وعودًا على مقصود المتكلم به
بالإبطال. فادَّعى قومٌ من أهل التأويل [ب 90 أ] في كثيرٍ من عمومات هذا النوع التخصيص، وذلك في باب الوعد والوعيد وفي باب القضاء والقدر.
أمَّا باب الوعيد فإنه لمَّا احتَجَّ عليهم الوعيدية بقوله: {* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 92] وبقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وأمثال ذلك لجؤوا إلى دعوى الخصوص، وقالوا: هذا في طائفةٍ معيَّنةٍ. ولجؤوا إلى هذا القانون وقالوا: الدليل اللفظي العامُّ مبنيٌّ على مقدِّمات، منها عدم التخصيص، وانتفاؤه غير معلومٍ.
وأمَّا باب القدر فإن أهل الإثبات لمَّا احتجوا على القدرية بقوله: {اِللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 18] وقوله: {وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 122] ونحوه ادَّعَوْا تخصيصه.
وأكثر طوائف أهل الباطل ادِّعاءً لتخصيص العمومات هم الرَّافضة، فقلَّ أن تَجِدَ في القرآن والسُّنَّة لفظًا عامًّا في الثناء على الصَّحابة إلَّا قالوا: هذا في عليٍّ وأهل البيت.
وهكذا تجد كل أصحاب مذهبٍ من المذاهب إذا ورد عليهم عامٌّ يخالف مذهبهم ادَّعَوْا تخصيصه، وقالوا: أكثر عمومات القرآن مخصوصة. وليس ذلك بصحيحٍ، بل أكثرها محفوظةٌ باقيةٌ على عمومها. فعليك بحِفْظ العموم، فإنه يُخلِّصك من أقوالٍ كثيرةٍ باطلةٍ قد وقع فيها مُدَّعُو الخصوص بغير برهانٍ من الله، وأخطؤوا من جهة اللفظ والمعنى.
أمَّا من جهة اللفظ فلأنك تجد النصوص التي اشتملت على وعيد أهل الكبائر مثلًا في جيمع آيات القرآن خارجة بألفاظها مَخرَج العموم المؤكد
المقصود عمومه، كقوله:{وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} [الأنفال: 16] وقوله: {* وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 92] و {مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعةً فاذَّةً
(1)
. أي: عامة فذَّة في بابها
(2)
. وقوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (73) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلدَّرَجَاتُ اُلْعُلى} [طه: 73 - 74] وقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامَى} [النساء: 10] وقوله: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].
وأضعاف أضعاف ذلك من عمومات القرآن المقصودُ عمومها، التي إذا أُبطِل عمومها بَطَلَ مقصود عامَّة القرآن. ولهذا قال شمس الأئمة السرخسيُّ
(3)
: «إنكار العموم بدعة حدثت في الإسلام بعد القرون الثلاثة»
(4)
.
[ب 90 ب] وأمَّا خطؤهم من جهة المعنى، فلأن الله سبحانه إنما علَّق الثواب والعقاب على الأفعال المقتضية له اقتضاءَ السبب لمسببه، وجعلها
(1)
أخرجه البخاري (4963) ومسلم (987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
معنى جامعة: أي عامة لجميع أفعال الخير، ومعنى فاذة: منفردة قليلة المِثْل في بابها. «مشارق الأنوار» (2/ 150) و «مطالع الأنوار» (5/ 207).
(3)
الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي صاحب «المبسوط» توفي في حدود سنة خمسمائة. ترجمته في «الجواهر المضية» للقرشي (2/ 28 - 29) و «تاج التراجم» لابن قطلوبغا (ص 234 - 325).
(4)
لم نقف عليه.
عللًا لأحكامها، والاشتراكُ في الموجب يقتضي الاشتراك في موجِبه، والعلةُ إذا تَخلَّف عنها معلولها من غير انتفاء شرطٍ أو وجود مانعٍ فسدت، بل يستحيل تخلُّف المعلول عن علَّته التَّامة، وإلَّا لم تكن تامَّة، ولكن غَلِطَ هاهنا طائفتانِ من أهل التأويل:
الوعيدية حيث حجَرَت على الربِّ تعالى بعقولها الفاسدة أن يترك حقَّه ويعفوَ عمَّن يشاء من أهل التوحيد، وأوجبوا عليه أن يُعذِّب العُصاة ولا بدَّ، وقالوا: إن العفو عنهم وتَرْكَ تعذيبهم إخلالٌ بحكمته وطعنٌ في خبره.
وقابلتهم الطَّائفة الأخرى فقالوا: لا نجزم بثبوت الوعيد لأحدٍ، فيجوز أن يعذب الله الجميع، وأن يعفو عن الجميع، وأن يُنفِّذَ الوعيد في شخصٍ واحدٍ يكون هو المراد من ذلك اللفظ، ولا نعلم هل هذه الألفاظ للعموم أو للخصوص. وهذا غلوٌّ في التعطيل، والأول غلوٌّ في التقييد. والصواب غير المذهبين، وأن هذه الأفعال سببٌ لما عُلِّق عليها من الوعيد، والسبب قد يتخلَّف عنه مسببه لفوات شرطٍ أو وجود مانعٍ، والموانع متعددة، منها ما هو متفَق عليه بين الأُمة كالتوبة النصوح، ومنها الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وما يلحق العبد بعد موته من ثوابٍ تسبَّب إلى تحصيله، أو دعاءٍ، أو استغفارٍ له، أو صدقةٍ عنه. ومنها شفاعة يأذن الله فيها لمن أراد أن يشفع فيه. ومنها رحمة تُدرِكه من أرحم الرَّاحمين، يترك بها حقَّه قِبَله ويعفو عنه. وهذا لا يُخْرِج العموم عن مقتضاه وعمومه، ولا يُحجَر على الربِّ تعالى حجرَ الوعيدية والقدرية. وللرد على الطَّائفتين موضع غير هذا
(1)
.
(1)
قد بسط المصنِّف الرد على الطائفتين في كتابه «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» .
والمقصود أن الأقسام الثلاثة التي تضمنها القرآن وهي: الأعمُّ والعامُّ والأخصُّ، كل منها يُفِيدُ العلم بمدلوله، ولا يتوقَّف فَهْم المراد منه على العلم بانتفاء المخصص والإضمار والحذف والمجاز؛ فإن ذلك يُبطِل أحكام تلك الأقسام العشرة التي اشتمل عليها القرآن، وتَحُولُ بين الإنسان وبين فائدتها، مع كونها أهمَّ الأمور، والعنايةُ الإلهية بها أشدُّ، وبيانُها واقعٌ موقع الضرورة. فلو صحَّ قول القائل: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، لم يحصل لنا [ب 91 أ] اليقين من القرآن في شيءٍ من تلك الأقسام العشرة البتَّةَ، وهذا مِن أَبْطَلِ الباطل وأَبْيَنِ الكذب.
الوجه
الرَّابع والثلاثون: أنك تجد عند كثيرٍ من المعروفين بالتفسير مِن ردِّ كثيرٍ من ألفاظ القرآن عن العموم إلى الخصوص نظيرَ ما تجده من ذلك عند أرباب التأويلات المستنكرة.
ومتى تأمَّلْت الحال فيما سوَّغوه من ذلك وجدتها عائدة من الضرر على الدِّين بأعظم ممَّا عاد من ضرر كثيرٍ من التأويلات. وذلك لأنهم بالقصد إلى ذلك فتحوا لأرباب التأويلات الباطلة السبيل إلى التهافُت فيها، فعَظُمَتْ بذلك الجناية من هؤلاء وهؤلاء على الدِّين وأهله.
وتجد الأسباب الدَّاعية للطائفتين قصدَ الإغراب على النَّاس في وجوه التفسير والتأويل، وادعاءَهم أن عندهم منها نوادر لا توجد عند عامة النَّاس؛ لعِلْمِهم أن الأمر الظَّاهر المعلوم يشترك النَّاس في معرفته فلا مزيَّةَ فيه، والشيءُ النَّادرُ المستظرَف يَحُلُّ مَحَلَّ الإعجاب، وتتحرَّك الهِمَم لسماعه واستفادته؛ لِمَا جُبل النَّاس عليه من إيثار المستظرَفات والغرائب. وهذا من أكثر أسباب الأكاذيب في المنقولات، والتحريف لمعانيها، ونِحْلَتها معانيَ
غريبة غير مألوفة، وإلَّا فلو اقتصروا على ما يُعرف من الآثار وعلى ما يفهمه العامة من معانيها لَسَلِمَ عِلْم القرآن والسُّنَّة من التأويلات الباطلة والتحريفات.
وهذا أمرٌ موجودٌ في غيرهم، كما تجد المتعنِّتين بوجوه القرآن يأتون من القراءات البديعة المستشنَعة في ألفاظها ومعانيها الخارجة عن قراءة العامة وما أَلِفُوه ما يُغرِبون به على العامَّة، وأنهم قد أُوتوا مِن عِلْم القرآن ما لم يُؤتَه سواهم. وكذلك أصحاب الإعراب يذكرون من الوجوه المستكرَهة البعيدة المتعقِّدة ما يُغرِبون به على النَّاس. وكذلك كثيرٌ من المفسرين يأتون بالعجائب التي تَنفِر عنها النفوس ويأباها القرآن أشدَّ الإباء.
كقول بعضهم: {طه} [طه: 1] لفظة نَبَطِيَّة، معناها: يا رجل ويا إنسان
(1)
. وقال بعضهم: هي من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مع يس. وعَدُّوا في أسمائه طه ويس
(2)
.
(1)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (14/ 347): «{طه} قال ابن عباس في رواية عطاء: يا رجل. يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم. وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن أبي نجيح عن مجاهد والكلبي» . وينظر «تفسير الطبري» (16/ 5 - 7).
(2)
قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (11/ 166): «وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه الله تعالى به كما سمَّاه محمدًا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لي عند ربي عشرة أسماء
…
» فذكر أن فيها طه ويس». قلت: هذا الحديث وهَّاه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (1/ 488) وقال ابن ناصر الدين في «جامع الآثار» (3/ 129): «قلت: ولم تجئ في حديث صحيح ولا أثر عن الصحابة تسميته صلى الله عليه وسلم بـ «طه» و «يس» والله أعلم، وإنما مجراها في القرآن كـ:{الم} و {الر} و {حم} ونحوها».
وقال بعضهم في {ن وَاَلْقَلَمِ} [القلم: 1] إنها الدواة
(1)
. كأنه لمَّا رأى هذا الحرف قد اقترن بالقلم جعله الدواة.
وقال بعضهم في {ص} [ص: 1] إنها فِعْل أَمْر
(2)
مثل رامِ وقاضِ.
وكما قال بعضهم في قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الفرقان: 8]: [ب 91 ب] وهو الذي له سَحْر
(3)
أي: رئة
(4)
. أَفَتَرَى أراد
(1)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (22/ 70): «وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {ن} الدواة. ونحو هذا روى الضحاك، وهو قول الحسن وقتادة» .
(2)
قال الطبري في «جامع البيان» (20/ 5): «قال بعضهم: هو من المصاداة، من صاديت فلانًا، وهو أمرٌ من ذلك، كأن معناه عندهم: صاد بعملك القرآن: أي عارِضْه به، ومن قال هذا تأويله، فإنه يقرؤه بكسر الدال، لأنه أمرٌ، وكذلك روي عن الحسن» . وقال القرطبي في «الجامع» (15/ 142): «وقرأ أُبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم «صادِ» بكسر الدال بغير تنوين، ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارَضَ، ومنه {فَأَنتَ لَهُ تَصَدّى} [عبس: 6] أي: تَعَرَّضُ، والمصاداة المعارضة، ومنه الصدى، وهو ما يُعارِض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صادِ القرآن بعملك، أي: عارِضْه بعملك وقابِلْه به، فاعْمَل بأوامره، وانْتَهِ عن نواهيه».
(3)
السحر: الرئة. وفيه ثلاث لغات: وزان فَلْس وسَبَب وقُفْل. «المصباح المنير» (1/ 267).
(4)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 353): «وقال أبو عبيدة: يريد بشرًا ذا رئةٍ. قال ابن قتيبة: ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المستكرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه. قال مجاهد في قوله: {رَجُلًا مَّسْحُورًا}: أي مخدوعًا؛ لأن السحر حيلة وخديعة. وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {مَّسْحُورًا} قال: يريد مخلوقًا. وهذا يؤكد قول أبي عبيدة: ذو سحر» .
فرعونُ بقوله لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] هذا المعنى؟! وأراد الكفار بقولهم: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 15] هذا المعنى
(1)
؟!
وكما قال آخرون في قوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ} [الحج: 15] أن المعنى يرزقه
(2)
، واستشهدوا بقولهم: أرض منصورة أي: ممطورة. ولو تأمَّلَ هذا القائلُ سياقَ [الآية]
(3)
وآخرها لَعَلِمَ أن تفسير النصر بالرزق يُزيل معنى الآية عن وَجْهِه الذي قُصِدَ به
(4)
.
وقال آخرون في قوله: {فَاَلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] أي: بدِرْعِك، و {نُنَجِّيكَ} نُلقِيك على نَجوةٍ من الأرض
(5)
.
وقال آخرون في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاَنْحَرْ} [الكوثر: 2]: إن المراد به ضَعْ يَدَكَ على نَحْرك. وتكايَسَ غيره
(6)
وقال: المعنى استقبلِ القبلة بنحرك
(7)
.
(1)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 355): «والاختيار هو القول الأول؛ لقوله تعالى إخبارًا عن فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] لا يجوز أن يكون أراد مخلوقًا، وذا سحرٍ، وإنما أراد: مخدوعًا، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم ما يأتي به ويُخدع بذلك، يدل على هذا قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. فلذلك قالوا له: {مَسْحُورًا}» .
(2)
رواه الطبري في «جامع البيان» (16/ 480) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما من طرق.
(3)
«ب» : «الآخرة» .
(4)
وجَّهه الطبريُّ في «جامع البيان» (16/ 483 - 484) توجيهًا حسنًا.
(5)
ينظر: «النكت والعيون» للماوردي (2/ 449) و «معالم التنزيل» للبغوي (4/ 149) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (8/ 379 - 381).
(6)
كذا في «ب» ، وظاهر السياق أن تكون:«غيرهم» .
(7)
قال القرطبي في «الجامع» (20/ 219): «وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب: المعنى ضع اليمنى على اليسرى حِذاءَ النحر في الصلاة. ورُوي عن ابن عباس أيضًا. ورُوي عن علي أيضًا: أن يرفع يدَيْه في التكبير إلى نحره. وكذا قال جعفر بن علي {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاَنْحَرْ} قال: يرفع يديه أوَّل ما يكبِّر للإحرام إلى النحر
…
وعن أبي صالح عن ابن عباس قال: استقبل القبلة بنحرك. وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص».
فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاةِ والنُّسُكِ.
وقال آخرون في قوله: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]: إنهم الزُّرَّاع
(1)
. وهل أطلق الله سبحانه الكفار في موضعٍ واحدٍ على غير الكافرين به؟!
وكما قيل في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]: إن المشكاة هذا الموضع الذي يشكو المتعبِّدُ فيه إلى الله
(2)
.
وأضعافُ أضعافِ ذلك من التفاسير المستنكَرة المستكرَهة التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يتعارفه النَّاس، كـ «حقائق السُّلَمي»
(3)
(1)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (21/ 301): «قوله تعالى: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} يعني: الزُّرَّاع، عن عبد الله ومجاهد. قال الأزهري: والعرب تقول: للزارع كافرًا؛ لأنه يَكفُر البَذْرَ الذي يَبذُره بتراب الأرض، ومنه قوله: {أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي: الزُّرَّاع، وإذا أعجب الزُّراعَ نباتُه مع عِلْمهم به فهو غاية ما يُستحسَن. قال: وقيل: الكفار في هذه الآية الكفار بالله، وهم أشدُّ إعجابًا بزينة الدنيا وحَرْثها من المؤمنين» .
(2)
لم أقف على هذا التفسير.
(3)
«حقائق التفسير» لأبي عبد الرحمن السُّلَمي قال عنه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (9/ 211): «ليته لم يصنفه، فإنه تحريف وقَرمَطَة، فدُونَك الكتاب فسترى العجب» . وقال في «تذكرة الحفاظ» (3/ 1046): «أتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية، نسأل الله العافية» . وينظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا التفسير في «مجموع الفتاوى» (6/ 376، 11/ 581، 13/ 242 - 243).
وغيره ممَّا لو تُتبِّع وبُيِّن بطلانه لجاء عدة أسفارٍ كبارٍ، ولولا قَصْدُ الإغراب والإتيان بما لم يَسبق إليه غيرُه لما أَقدَمَ على ذلك، كما قال بعض الرَّافضة في قوله:{مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 17]: هما علي وفاطمة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 18] هو النبي صلى الله عليه وسلم {يُخْرَجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَاَلْمَرْجَانُ} [الرحمن: 20] هما الحسن والحسين
(1)
.
وجناية هؤلاء على القرآن جناية عظيمة، وبسبب ما اعتمدوه قال القائل: كلام الله لا يُستفاد منه يقينٌ؛ لاحتمال اللفظة منه عدَّة وجوهٍ، وقد فُسِّرت بذلك كله. ولو شُرح كتابٌ من كتب العلوم هذا الشرح لأفسده الشَّارح على صاحبه، ومسخ مقاصده، وأزالها عن مواضعها.
والمقصود أن حَمْل عمومات القرآن على الخصوص تعطيلٌ لدلالتها،
(1)
أخرجه الثعلبي في «الكشف والبيان» (25/ 316 - 317) عن سفيان الثوري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (7/ 246): «ذكره بإسناد رواته مجهولون لا يُعرفون عن سفيان الثوري، وهو كذبٌ على سفيان» . ثم ساقه وعقَّب قائلًا: «وهذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض، لا يثبت بمثله شيء» . ثم بيَّن كذب هذا التفسير من وجوه. وقال شيخ الإسلام في «منهاج السنة النبوية» (7/ 245) أيضًا: «هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن، وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه» .
وإخراجٌ لها عمَّا قُصِدَ بها، وهَضْمٌ لمعناها، وإزالةٌ لفائدتها، كقول بعضهم في قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اُللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا اُلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 57][ب 92 أ]: إن المراد به عليُّ بن أبي طالب
(1)
. وهذا كَذِبٌ قطعًا على الله أنه أراد عليًّا وَحْدَه بهذا اللفظ العامِّ الشَّامل لكل من اتَّصف بهذه الصفة.
وقولِ هذا القائل أو غيره في قوله تعالى: {وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُتَّقُونَ (32 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اُلْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 32 - 33] إنه علي بن أبي طالب
(2)
.
وفي قوله: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ
(1)
قال شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (2/ 30): «وقد وضع بعض الكذابين حديثًا مفترًى أن هذه الآية نزلت في عليٍّ لمَّا تصدَّق بخاتمه في الصلاة، وهذا كَذِبٌ بإجماع أهل العلم بالنقل، وكَذِبُه بيِّنٌ من وجوه كثيرة» ثم ذكرها مفصَّلة. وينظر «منهاج السنة» (7/ 5 - 31) فقد أبطل هذا التفسير بما لا مزيد عليه.
(2)
أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (6/ 191) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (42/ 359 - 360) من طريق نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعيد، عن ليث، عن مجاهد. وقال العقيلي: نصر بن مزاحم المنقري كان يذهب إلى التشيع، وفي حديثه اضطرابٌ وخطأٌ كثيرٌ. وذكر أنه لا يُتابع على هذا الأثر. وقال شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (7/ 188):«هذا ليس منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم، لو كان هذا النقل صحيحًا عنه، فكيف إذا لم يكن ثابتًا عنه؟! فإنه قد عُرف كثرة الكذب. والثابت عن مجاهد خلاف هذا، وهو أن الصدق هو القرآن، والذي صَدَّقَ به هو المؤمن الذي عَمِلَ به. فجعلها عامَّة، رواه الطبري وغيره عن مجاهد قال: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتَّبَعْنا ما فيه» . ثم أفاض في بيان خطأ هذا التفسير.
مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] إنه علي بن أبي طالب
(1)
.
وقول ِالآخر في قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اُللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ} عمر بن الخطاب {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أبو بكر {تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عثمان {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اَللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] علي
(2)
.
وقولِ الآخر في قوله: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ} [فاطر: 34] هَمَّ الخبز
(3)
.
(1)
لم أقف على هذا التفسير.
(2)
وهذا التفسير عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (13/ 524) لابن مردويه، والقاضي أحمد بن محمد الزهري في «فضائل الخلفاء الأربعة» والشيرازي في «الألقاب» عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه الثعلبي في «الكشف والبيان» (24/ 322 - 323) عن الحسن البصري.
(3)
أخرجه الطبري في «جامع البيان» (19/ 378) والثعلبي في «الكشف والبيان» (22/ 208 - 209) عن شمر بن عطية. وأخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (1785) وغيره عن شمر بلفظ «حزن الطعام» .
وفي قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي اِلزَّبُورِ مِن بَعْدِ اِلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] إنها أرض فلسطين والأردن
(1)
.
وفي قوله: {وَآتَيْنَاهُ اُلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ اَلْخِطَابِ} [ص: 19] هو أمَّا بعدُ
(2)
. فهَضَمُوا هذا المعنى العظيم المتضمِّن لإعطائه الحق في أتمِّ بيان.
(1)
قال القرطبي في «الجامع» (11/ 349): «أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قد وَرِثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ} [الزمر: 71]. وعن ابن عباس: أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضًا: أنها أرض الأُمَم الكافرة تَرِثُها أُمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح» . وينظر «الروح» للمصنف (ص 324 - 325).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (10/ 3237) وابن أبي عاصم في «الأوائل» (191) والطبراني في «الأوائل» (40) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (1835) وابن أبي شيبة في «المصنف» (23422، 26369) وابن سعد في «الطبقات الكبير» (9/ 99) عن زياد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
وأخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 51) عن الشعبي.
واختار الطبري في «التفسير» (20/ 52) عموم الآية، وقال:«فالصواب أن يعم الخبر كما عمَّه الله، فيقال: أُوتي داود فَصْلَ الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب» .
وفي قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]: المراد به المُشْط
(1)
. ومن هذا يضع الرَّافضة المشطَ بين أيديهم في الصلاة.
فصل
وقد يقع في كلام السلف تفسير اللفظ العامِّ بصورةٍ خاصةٍ على وجه التمثيل، لا على تفسير معنى اللفظة في اللغة بذلك،
فيغيِّر به المعنى، فيجعله معنى اللفظة في اللغة، كما قال بعضهم في قوله:{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اِلنَّعِيمِ} [التكاثر: 8]: إنه الماء البارد في الصيف
(2)
. فلم يُرد به أن النعيم المسؤول عنه هو هذا وحدَه.
وكما قيل في قوله: {وَيَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: إنه القِدْر والفأس والقَصْعة
(3)
. فالماعون اسمٌ جامعٌ لجميع ما يُنتفَع به، فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلًا وتنبيهًا بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الويل لمن منع هذا،
(1)
نسبه الثعلبي في «الكشف والبيان» (12/ 327) لعطية وأبي روق. ونسبه ابن الجوزي في «زاد المسير» (3/ 187) لأبي رزين. وعدَّه ابن قتيبة في «غريب القرآن» (ص 5) من منكَر التأويل ومنحول التفسير، وقال السمعاني في «تفسيره» (2/ 177):«وفي شواذ التفاسير: أنه المشط، ولُبْس النعل» .
(2)
نسبه الثعلبي في «الكشف والبيان» (30/ 212) لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 399) وسعيد بن منصور في «التفسير» (2528 - 2530) والطبري في «التفسير» (24/ 668 - 674) وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 674 - 675) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 677) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وينظر «الدر المنثور» (15/ 690 - 691).
فكيف بمن منع ما الحاجة إليه أعظم؟! وإذا كان العبد يُسأل عن شُكر الماء البارد، فكيف بما هو أعظم نعيمًا منه؟!
وفي قوله: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ} [فاطر: 34] هَمَّ الغداء والعشاء
(1)
.
وفي قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي اِلدُّنْيا حَسَنَةً} [البقرة: 199] إنها المرأة الموافقة
(2)
.
فهذا كله من التمثيل للمعنى العام ببعض [ب 92 ب] أنواعه. فإن أراد القائل «إن الأدلة اللفظية موقوفةٌ على عدم التخصيص» أنها موقوفةٌ على عدم قصرها على هذا وأشباهه، فنَعَمْ هي غير مقصورةٍ عليه، ولا مختصةٍ به، ولا يُقال لفهم هذه الأنواع منها تخصيصًا.
ونظير هذا ما يذكره كثيرٌ من المفسرين في آياتٍ عامَّةٍ أنها في قومٍ مخصوصين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وهذا تقصيرٌ ظاهرٌ منهم، وهَضْم لتلك العمومات المقصود عمومها. وكأن الغلط في ذلك إنما عرض من جهة أن أقوامًا في عصر الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالوا أقوالًا وفعلوا أفعالًا في الخير والشر، فنزلت بسبب الفريقين آياتٌ، حَمِدَ الله فيها المحسنين، وأثنى عليهم، ووعدهم جزيل ثوابه، وذمَّ المسيئين، ووعدهم
(1)
وهو قول الشعبي، ينسبه السيوطي في «الدر المنثور» (12/ 297) لابن أبي حاتم.
(2)
أخرج ابن أبي حاتم في «التفسير» (2/ 358، 5/ 1577) عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: «المرأة الصالحة من الحسنات» . ونسبه أبو المظفر السمعاني في «التفسير» (1/ 204) والبغوي في «التفسير» (1/ 232) لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وَبِيلَ عقابه، فعَمَدَ كثيرٌ من المفسرين إلى تلك العمومات فنسبوها إلى أولئك الأشخاص، وقالوا: إنهم المعنيون بها.
وكذلك الحال في أحكام وقعت في القرآن كان بُدُوَّ افتراضها أفعالٌ ظهرت من أقوامٍ، فأنزل الله بسببها أحكامًا، صارت شرائعَ عامة إلى يوم القيامة، فلم يكن من الصواب إضافتها إليهم وأنهم هم المرادون بها، إلَّا على وجهِ ذِكْرِ سبب النزول فقط، وأن تناولها لهم ولغيرهم تناولٌ واحدٌ.
فمن التقصير القبيح أن يُقال في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20]: إن المراد بالنَّاس أهل مكة. فيأتي إلى لفظٍ من أشمل ألفاظ العموم أُريد به النَّاس كلهم عربهم وعجمهم قرنًا بعد قرن إلى أن يطوي الله الدنيا، فيقول: المراد به أهل مكة. نعم هم أَسْبَق وأَوَّل من أُريد به؛ إذ كانوا هم المواجهين بالخطاب أوَّلًا.
وهذا كثيرٌ في كلامهم، كقولهم: المراد بقوله كذا وكذا أبو جهل، أو أُبيُّ بن خلف، أو الوليد بن المغيرة، أو عبد الله بن أُبي، أو عبد الله بن سلَام من سادة المؤمنين، كما يقولون في كل موضعٍ ذُكر فيه:{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ اُلْكِتَابِ} [الرعد: 44]: إنه عبد الله بن سلَام
(1)
. وهذا باطلٌ قطعًا؛ فإن هذا مذكورٌ في سُوَرٍ مكيةٍ، كسُّورة الرعد؛ حيث لم يكن عبد الله بن سلَام قد
(1)
أخرجه الطبري في «التفسير» (13/ 583) عن عبد الله بن سلَام نفسه.
وأخرجه سفيان الثوري في «التفسير» (460) والطبري في «التفسير» (13/ 582) عن مجاهد. وهو في «تفسير مجاهد» (ص 409).
وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 339) والطبري في «التفسير» (13/ 583) عن قتادة.
أَسلَمَ، ولا كان هناك
(1)
.
وكذلك يقولون في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشْبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]: إن المراد به عبد الله بن أُبيٍّ، وكان من أحسن [ب 93 أ] النَّاس جسمًا
(2)
. والصواب أن اللفظ عامٌّ فيمن اتصف بهذه الصِّفات، وهي صحة الجسم وتمامه، وحُسْن الكلام وخُلُوُّه من روح الإيمان ومحبَّة الهدى وإيثاره، كخلوِّ الخُشُب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعضٍ من روح الحياة التي يعطيها النموَّ أو الزيادة والثمرة، واتصافُهم بالجُبْن والخَوَر الذي يَحسِب صاحبُه أن كل صيحةٍ عليه، فمن التقصير الزَّائد أن يُقال: إن المراد بهذا اللفظ هو عبد الله بن أُبيٍّ.
ومن هذا قولهم في قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ اَلزَّقُّومِ (43) طَعَامُ اُلْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44]: إنه أبو جهل بن هشام
(3)
.
وكذلك في قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلّى ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلّى} [القيامة: 31، 32]: إنه أبو جهل
(4)
.
(1)
أخرج الطبري في «التفسير» (13/ 586) وغيره عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ اُلْكِتَابِ} أهو عبد الله بن سلام؟ قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام؟!
(2)
أخرجه البخاري (4903) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 54) عن ابن زيد.
(4)
قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 513). ونسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (22/ 523) لابن عباس والكلبي وغيرهما.
وكذلك في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى آخرها
(1)
.
وكذلك قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] إلى آخرها: إنه الوليد بن المغيرة
(2)
.
وكذلك قوله: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ} [لقمان: 5]: إنه النضر بن الحارث
(3)
.
وفي قوله: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 7]: إنها في أناسٍ معيَّنين
(4)
.
وأضعاف ذلك ممَّا إذا طرق سمع كثيرٍ من النَّاس ظنَّ أن هذا شيءٌ أُريد به هؤلاء، ومضى حكمه، وبَقِيَ لفظُه وتلاوته، حتى قال بعض مَن قدَّم العقل على النقل وقد احتُجَّ عليه بشيءٍ من القرآن: دعني من كلام قيل في أُناسٍ
(1)
قال القرطبي في «الجامع» (19/ 267): «{إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا} وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم، والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث» .
(2)
قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 404).
(3)
قاله مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (3/ 432). ونسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (18/ 92) وغيره للكلبي أيضًا.
(4)
أخرجه الطبري في «التفسير» (1/ 275) وابن أبي حاتم في «التفسير» (1/ 42) عن ابن عباس قال: «يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم» . وقال الطبري: وقد سُمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أُبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهةَ إطالة الكتاب بذكرهم».
مضوا وانقرضوا.
ومَن تأمَّل خطاب القرآن وألفاظه وجلالة المتكلِّم به وعظمة ملكه وما أراد به من الهداية العامة لجميع الأُمم قرنًا بعد قرنٍ إلى آخر الدهر، وأنه جعله إنذارًا لكل من بلغه من المكلفين، لم يَخْفَ عليه أن خطابه العامَّ إنما جُعل بإزاء أفعال حسنة محمودة، وأخرى قبيحة مذمومة، وأنه ليس منها فعل إلَّا والشركة فيه موجودة أو ممكنة، وإذا كانت الأفعال مشتركة كان الوعد والوعيد المعلَّق بها مشتركًا. ألا ترى أن الأفعال التي حُكيت عن أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأضرابهم، وعن عبد الله بن أُبيٍّ وأضرابه كان لهم فيها شركاءُ كثيرون حكمهم فيها حكمهم؟!
ولهذا عدل الله سبحانه عن ذِكْرهم بأسمائهم وأعيانهم إلى ذِكْر أوصافهم وأفعالهم وأقوالهم؛ لئلا يَتوهَّم متوهِّم اختصاص الوعيد بهم، وقَصْره عليهم، وأنه لا يجاوزهم، [ب 93 ب]. فعلَّق سبحانه الوعيد على الموصوفين بتلك الصِّفات دون أسماء من قامت به إرادةً لتعميم الحكم وتناوله لهم ولأمثالهم ممَّن هو على مثل حالهم.
وهكذا الحكم فيمن أثنى عليه ومدحه بما صدر منه من قولٍ أو فعلٍ، عدل سبحانه عن ذِكْره باسمه وعينه إلى ذِكْره بوصفه وفعله؛ ليتناول المدح لمن شَرَكه في ذلك من سائر النَّاس. فإذا حمل السَّامع قوله:{وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُتَّقُونَ} [الزمر: 32] وقوله: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 18] ونظائرهما على أبي بكر الصدِّيق أو علي بن أبي طالب، فقد ظلم اللفظ والمعنى، وقصَّر به غاية
التقصير، وإن كان الصدِّيق أوَّل وأَوْلى من دخل في هذا اللفظ العامِّ وأُريد به.
ونظير ذلك ما ذكره بعضهم في قوله: {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} إلى قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 5 - 8]: إن المراد بذلك علي بن أبي طالب
(1)
. فجمع إلى حمل هذا اللفظ العام المجاهرة بالكذب والبَهت في دعواه نُزُولَها في عليٍّ، فإن السورة مكية، وعليٌّ كان بمكة فقيرًا، قد ربَّاه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، فإن أبا طالب لمَّا مات اقتسم بنو عبد المطلب أولاده؛ لأنه لم يكن له مالٌ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وربَّاه عنده، وضمَّه إلى عياله فكان فيهم
(2)
.
ومَن تأمَّل هذه السورة عَلِمَ يقينًا أنه لا يجوز أن يكون المراد بألفاظها العامة إنسانًا واحدًا، فإنها سورةٌ عجيبةُ التبيان، افتُتحت بذِكْر خَلْق الإنسان، ومبدئه، وجميع أحواله من بدايته إلى نهايته، وذِكْرِ أقسام الخَلْق في أعمالهم واعتقاداتهم ومنازلهم من السعادة والشقاوة؛ فتخصيصُ العامِّ فيها بشخصٍ واحدٍ ظُلْمٌ وهَضْمٌ ظاهرٌ للفظها ومعناها.
وشبيهٌ بهذا ما ذكره بعضهم في قوله تعالى: {* وَوَصَّيْنَا اَلْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَرْهًا وَوَضَعَتْهُ كَرْهًا} [الأحقاف: 14]: إنها نزلت في أبي بكر
(1)
قال مقاتل بن سليمان في «تفسيره» (4/ 524): «يعني: علي بن أبي طالب وأصحابه الأبرار الشاكرين لله» .
(2)
أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» ـ كما في «تهذيب السيرة» لابن هشام» (1/ 246) ـ والطبري في «التاريخ» (2/ 313) والحاكم في «المستدرك» (3/ 576) والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 162) عن مجاهد بن جبر مرسلًا.
الصدِّيق وابنه عبد الرحمن.
ونظيره ما تقدَّم من تفسير قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اُللَّهِ} [الفتح: 29] إلى آخر الآية، وقِسْمة جُمَلِها بين العشرة من الصَّحابة
(1)
. ومَن تأمَّل ذلك عَلِمَ أن هذا تفسير مختلٌّ، مُخِلٌّ بمقصود [ب 94 أ] الآية، معدولٌ به عن سَنن الصواب.
وهذا باب يطول تتبُّعه جدًّا. ولو أن الذين ارتكبوا ما ذكرنا من التفاسير المستكرَهة المستغرَبة، وحملوا العموم على الخصوص، وأزالوا لفظ الآية عن موضوعه؛ علموا ما في ذلك من تصغير شأن القرآن، وهضم معانيه من النفوس، وتعريضه لجهل كثيرٍ من النَّاس بما عظَّم الله قَدْرَه وأعلى خطره؛ لَأقلُّوا ممَّا استكثروا منه، ولَزَهِدُوا فيما أظهروا الرغبة فيه، وكان ذلك من فعلهم أحسن وأجمل، وأولى بأن يُوَفَّى معه القرآنُ بعضَ حقِّه من الإجلال والتعظيم والتفخيم.
ولو لم يكن في حمل تفسير القرآن على الخصوص دون العموم إلَّا ما يتصوره التَّالي له في نفسه من أن تلك الآيات إنما قُصد بها أقوامٌ من الماضين دون الغابرين فيكون نفعه وعائدته على البعض دون البعض؛ لكان في ذلك ما يُوجب النُّفرة عن ذلك والرغبة عنه. وبحكمة بالغة عدل الربُّ تعالى عن تسمية مَنْ ذَكَر هؤلاء أنه مراد باللفظ، إلى ذِكْر الأوصاف والأفعال التي يأخذ كل أحدٍ منها حظَّه، ولو سمَّى سبحانه أصحابها بأسمائهم لقال القائل: لستُ منهم، يوضح ذلك:
(1)
تقدم (ص 397).
الوجه
الخامس والثلاثون: أن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذمِّ وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة، وكان عمومها من تفخيمها، وجلالة قدرها، وعِظَمة شأنها.
وذلك أن مِن شأن مَن يَقصِد تفخيم كلامه من عظماء النَّاس أن يستعمل فيه أمرين:
أحدهما: العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم، إلَّا
(1)
حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمرٍ لا بدَّ منه؛ ليكون خطابه كليًّا شاملًا يدخل تحته الخَلْق الكثير. وكلما كان الدَّاخلون تحت خطابه أعمَّ وأكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه. فأين العظمة والجلالة في قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 20] إلى العظمة في قوله: يا أهل مكة اعبدوا ربكم؟! فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له، فيدلُّ باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة
(2)
، فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحُسن الدلالة، فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره.
ومَن علم هذا وتدبَّر القرآن وصرف إليه فِكْره؛ علم أنه لم يقرع الأسماع قطُّ كلامٌ أوجزُ ولا أفصحُ ولا أشدُّ مطابقة بين معانيه [ب 94 ب] وألفاظه منه. وليس يوجد في الكتب المنزَّلة من عند الله كتابٌ جمعتْ ألفاظُه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحُسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمَّنَتْه ألفاظُ القرآن. وقد شَهِدَ له بذلك أعداؤه. وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ: {فَاَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فسجد،
(1)
ب: «إلى» . والمثبت هو الصواب.
(2)
هذا الأمر الثاني لتفخيم الكلام، وهو الإيجاز.
فقيل له: ليست بآيةَ سجود. فقال: سجدتُ لفصاحة هذا الكلام
(1)
.
فإذا تأمَّلْت طريقته وجَدْتَها طريقةَ مخاطبة مَلِك النَّاس كلِّهم لعبيده ومماليكه، وهذا أحد الدلائل الدَّالة على أنه كلامه الذي تكلَّم به حقيقة، لا كلامُ غيره من المخلوقين. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلام
(2)
، وبين كلامه وكلام الله ما لا يحصره نسبة، فكيف يجوز في الأوهام والعقول أن تُحمَل جوامع كلمات الربِّ تعالى على ما يناقض عمومها ويحطُّها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص؟! بل الواجب أن يُقال: إن خطاب الله عز وجل في كل ما أَمَرَ به ونهى عنه وحَمِدَ أو ذمَّ عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجًا عامًّا كليًّا بحسَب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق.
ولو ترك المتأوِّلون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها؛ لأفادتهم اليقين، وجزموا بمراد المتكلم بها، ولانحسمت بذلك موادُّ أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة، ولما تهيَّأ لكل مبطلٍ أن يَعمِد إلى آيات من القرآن فيُنزِلها على مذهبه الباطل ويتأوَّلها عليه ويجعلها شاهدةً له وهي في التحقيق شاهدة عليه، ولَسَلِمَ القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأوِّلون وألصقها بهما المحرِّفون، والله المستعان.
فهذا ما يتعلق بقوله: إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص.
(1)
ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 30) عن أبي عبيد.
(2)
أخرجه البخاري (2977) ومسلم (523) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه
السَّادس والثلاثون: قوله: «وعدم الإضمار» . يُقال: الإضمار على ثلاثة أنواع:
نوعٌ يُعلم انتفاؤه قطعًا، وأن إرادته باطلةٌ، وهو الحال. وهو حال أكثر الكلام، فإنه لو سُلِّط عليه الإضمار فسد التخاطب، وبَطَلَتِ العقود والأقارير والطلاق والعتاق والوصايا والوقوف والشهادات، ولم يَفهَم أحدٌ مرادَ أحدٍ إذ يمكنه أن يُضمر كلمةً تُغيِّر [ب 95 أ] المعنى، ولا يدل المخاطب عليها.
وباب الإضمار لا ضابطَ له، فكل مَن أراد إبطال كلامِ متكلمٍ ادَّعى فيه إضمارًا يُخرجه عن ظاهره.
فيدَّعي ملحدٌ الإضمار في قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]: أي وكلَّم مَلَك الله موسى.
ويدَّعي في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] إضمار مَلَك الرحمن، كما ادَّعى بعضهم الإضمار في قوله «يَنْزِلُ رَبُّنَا»
(1)
:أي مَلَك ربِّنا.
وفي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:24]: أي مَلَك ربِّك.
ولو علم هذا القائل أنه قد نَهَجَ الطريق وفتح الباب لكل ملحدٍ على وجه الأرض وزنديق وصاحب بدعةٍ يدَّعي فيما يحتجُّ به لمذهبه عليه إضمار كلمة أو كلمتين نظير ما ادَّعاه غيره، لاختار أن يَخْرَس لسانُه، ولا يفتح هذا الباب على نصوص الوحي؛ فإنه مدخلٌ لكل ملحدٍ ومبتدعٍ ومبطلٍ لحُجَج الله من كتابه.
(1)
تقدم تخريجه.
ومَن رأى ما أضمره المتأوِّلون من الرَّافضة والجهمية والقدرية والمعتزلة ممَّا حرَّفوا به الكَلِمَ عن مواضعه وأزالوه به عمَّا قُصد له من البيان والدلالة
(1)
[ب 96 أ] علم أن لهم أوفر نصيب من مشابهة أهل الكتاب الذين ذمَّهم الله بالتحريف واللَّيِّ والكتمان.
أَفَتَرى يَعجِز الجهميُّ عن الإضمار في قوله: «إِنَّكُمْ تَرَونَ رَبَّكُمْ عِيَانًا»
(2)
. فيُضمِر مَلَك ربِّكم ونعيمه وثوابه، ونحو ذلك؟!
ويَعجِز الملحد عن الإضمار في قوله: {وَأَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي اِلْقُبُورِ} [الحج: 7] أي: أرواح مَن في القبور؟!
وإذا انفتح سدُّ يأجوج ومأجوج أقبلوا من كل حَدَبٍ يَنسِلون!
النوع الثَّاني: ما يشهد السياق والكلام به، فكأنه مذكور في اللفظ، وإن حُذف اختصارًا، كقوله تعالى:{أَنِ اِضْرِب بِّعَصَاكَ اَلْبَحْرَ فَاَنفَلَقَ} [الشعراء: 63] فكل أحدٍ يعلم أن المعنى فضربه فانفلق، فذِكْرُه نوعٌ من بيان الواضحات؛ فكان حَذفُه أحسنَ، فإن الوهم لا يَذهَب إلى خلافه.
وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَتِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اَنقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} [يوسف: 62 - 63] فكلُّ أحدٍ يَفهَم من هذا السياق أنهم جعلوها في رحالهم، وأنهم وَصَلُوا بها إلى أبيهم.
ومثل هذا في القرآن كثيرٌ جدًّا، وفَهْم الكلام لا يتوقَّف على أن يُضمَر فيه ذلك، مع أنه مراد ولا بدَّ، فكيف يتوقَّف فَهْمُ الكلام الذي لا دليل فيه على الإضمار بوجهٍ ـ وهو كلامٌ مفيدٌ قائمٌ بنفسه مُعْطٍ لمعناه ـ على دليلٍ منفصلٍ يدل على أن المتكلم لم يُضمِر فيه خلافَ ما أظهره، وهل يتوقف أحدٌ من العقلاء في فَهْم خطاب غيره له على هذا الدليل أو يخطر بباله؟!
والنوع الثَّالث: كلامٌ يحتمل الإضمار ويحتمل عدمه، فهذا إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالمٌ ناصحٌ مرشدٌ، قصدُه البيان والهُدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسمُ مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته= لم يشكَّ السَّامع في أن مراده ما دلَّ عليه ظاهر كلامه دون ما يحتمله باطنه من إضمارِ ما لم يجعل للسامع عليه دليلًا، ولا له إلى معرفته سبيلًا، إلَّا أن يجوِّز عليه أنه أراد منه ذلك، وكلَّفه ما لا يطيقه، وعرَّضه للعناء والمشقة، وألغزَ له، ولم يَقصِد البيان. ولا نكير على مَن ظنَّ ذلك في المتكلم أن يظن بكلامه ما هو مناسب لظنه به. يوضحه:
الوجه السَّابع والثلاثون: أن الإضمار هو الإخفاء، وهو أن يخفي المتكلِّم في نفسه معنًى ويريد من المخاطَب أن يَفهَمه، فهذا إمَّا أن يجعل له عليه دليلًا [ب 96 ب] من الخطاب أو لا. فإن جعل له عليه دليلًا من السياق لم يكن ذلك إضمارًا محضًا، بل يكون قد أظهره له بما دلَّه عليه من السياق، ودلالة اللفظ قد تحصل من صريحه تارةً، ومن سياقه ومن قرائنه المتصلة به= فهذا لا محذور فيه إذا كان المخاطِب قد دلَّ السَّامع على مقصوده ومراده. وإن لم يجعل له عليه دليلًا فإنه لم يَقصِد بيانه له، بل عدل عن بيانه
إلى بيان المذكور، فلا يُقال: إن كلامه دلَّ عليه بالإضمار؛ فإن هذا كَذِبٌ صريحٌ عليه. فتأمَّلْه فإنه واضحٌ.
الوجه الثَّامن والثلاثون: قوله: «وعدم التقديم والتَّأخير» . فهذا أيضًا من نمط ما قبله، فإنَّ نَظْمَ الكلام الطبيعي المعتاد ـ الذي علَّمه الله للإنسان نعمة منه عليه ـ أن يكون جاريًا على المألوف المعتاد منه، فالمقدَّم مقدمٌ، والمؤخَّر مؤخرٌ، فلا يَفهَم أحدٌ قطُّ من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلَّا تقديم هذا وتأخير هذا، وحيث قدَّموا المؤخَّر، من المفعول ونحوه، وأخَّروا المقدَّم من الفاعل ونحوه، فلا بدَّ أن يجعلوا في الكلام دليلاً على ذلك؛ لئلا يَلتَبِس الخطاب. فإذا قالوا: ضَرَبَ زيدًا عمرٌو لم يكن في هذا التقديم والتَّأخير إلباسٌ، فإذا قالوا: ضَرَبَ موسى عيسى لم يكن عندهم المقدَّمُ إلَّا الفاعلَ، فإذا أرادوا بيان أنه المفعول أتَوْا بما يدلُّ السَّامع على ذلك من تابعٍ منصوبٍ يدلُّ على أنه مفعولٌ.
فلا يأتون بالتقديم والتَّأخير إلَّا حيث لا يلتبس على السَّامع، ولا يقدح في بيان مراد المتكلم، كقوله تعالى:{* وَإِذِ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 123] وقوله: {لَن يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 35] وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اُلْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 46] وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَةً} [الشعراء: 7] وقوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا} [الأعراف: 81] ونحوه، فهذا من التقديم الذي لا يَقدَح في المعنى ولا في الفَهْم، وله أسباب تُحسِّنه وتقتضيه، مذكورةٌ في عِلْم المعاني والبيان.
وأمَّا ما يُدَّعى من التقديم والتَّأخير في غير ذلك كما يُدَّعى من التقديم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءا بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] وأن هذا
قد تقدم فيه جواب «لولا» عليها، فهذا أوَّلًا لا يُجِيزه النحاةُ
(1)
، ولا دليل على دعواه، ولا يَقدَح في العلم بالمراد.
وكذلك ما يَدَّعون من التقديم والتَّأخير في قوله: {اَذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَاَنظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28][ب 97 أ] قالوا: تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم
(2)
. فكأنهم لمَّا فهموا من قوله: {تَوَلَّ عَنْهُمْ} مجيئه إليه ذاهبًا عنهم، احتاجوا إلى أن يتكلَّفوا ذلك، وهذا لا حاجة إليه، وإنما أَمَرَه بما جَرَتْ به عادةُ المرسِل كتابَه إلى غيره، لِيَعْلَمَ ما يَصنَع به، أن يُعطِيَه الكتاب ثم يَنعَزِلَ عنه حتى ينظر ماذا يقابله به، وليس مراده بقوله:{تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أَقبِلْ إليَّ، ولو أراد ذلك لقال: فأَلْقِه إليهم وأَقبِلْ. وقد عُلم من كونه رسولًا له أنه لا بدَّ أن يرجع إليه، فليس في ذلك كبيرُ فائدة، بخلاف أَمْرِه بتأمُّلِه أحوالَ القوم عند قراءة كتابه وقد انعزل عنهم ناحيةً.
والتقديم والتَّأخير نوعان:
نوع يُخِلُّ تقديم المؤخَّر وتأخير المقدَّم فيه بفَهْم أصل المعنى، فهذا لا يقع في كلامِ مَن يقصد البيان والتفهيم، وإنما يقع في الألغاز والأحاجي وما يقصد المتكلم تعميةَ المعنى فيه. وقد يقع بسبب شدة الاختصار وضيق
(1)
مِمَّن صرَّح بعدم جواز هذا التقديم والتأخير: الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 101) والطبري في «التفسير» (13/ 86) والنحاس في «إعراب القرآن» (2/ 323) وغيرهم.
(2)
أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 45) عن ابن زيد. وذهب إلى وقوع التقديم والتأخير في الآية: الأخفش في «معاني القرآن» (1/ 328) والزجاج في «معاني القرآن» (4/ 117) وأبو علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (2/ 140).
القافية عن الترتيب المفهِم،، كقول الفرزدق
(1)
:
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا
…
أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ
فهذا شبيه باللغز، ومعناه: وما مثله في النَّاس حي يقاربه إلَّا مُمَلَّك أبو أُمِّه أبوه.
وهذا النوع لا يقع في كلام الله ولا رسوله.
النوع الثَّاني: التقديم والتَّأخير الذي لا يُخِلُّ بأصل المعنى وإن أَخَلَّ بالغرض المقصود، فيكون مراعاته من باب إخراج الكلام على مقتضى الحال. وهذا هو الذي يتكلم عليه علماء المعاني والبيان، قال سيبويه
(2)
وهو يذكر الفاعل والمفعول: «كأنهم يُقدِّمون الذي بيانه أهمُّ لهم، وهم بشأنه أَعْنَى، وإن كانا جميعًا يُهمَّانهم ويعنيانهم» . انتهى كلامه.
(1)
«شرح ديوان الفرزدق» (ص 108)، وقال المبرد في «الكامل» (1/ 41 - 42): «ومن أقبح الضرورة، وأهجن الألفاظ، وأبعد المعاني قوله:
وما مثله في النَّاس إلَّا مملكًا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال:
وما مثله في الناس إلَّا مملكاً
يعني بالمملك هشاماً، أبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحاً، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح، فدل على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد، وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير، حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد».
(2)
«الكتاب» (1/ 34).
وهذا يقع في باب الاستفهام والنفي والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول. فمن ذلك أنك إذا قلت: أفعلت كذا؟ وبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان الغرض بالاستفهام علمك بوجوده.
وإذا قلت: أنت فعلت كذا؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل مَن هو؟ وكان التردُّد فيه، ففَرْق بين قولك: أكتبت الكتاب؟ وبين قولك: أأنت كتبته؟ وهذا كما أنه قائم في الاستفهام فكذلك هو في التقرير، فإذا قلت: أنت فعلت هذا؟ كان المقصود تقريره [ب 97 ب] بأنه هو الفاعل، كما قال قوم إبراهيم له:{آانتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] فلم يكن مرادهم السؤال عن الفعل، هل وُجد أم لا، ولو أرادوا ذلك لقالوا: أكسرت أصنامنا؟ وإنما مرادهم السؤال عن الفاعل، ولهذا كان الجواب قوله:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. فالقائل: أفعلت؟ سائلٌ عن الفعل مِن غير تردُّد بين الفاعل وغيره، وإذا قال: أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه تردُّد في نفس الفعل.
ومن هذا استفهام الإنكار، كقوله تعالى:{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} [الإسراء: 40] وقوله: {أَصْطَفَى اَلْبَنَاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ} [الصَّافات: 153] وقوله: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ اِلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]. فهذا إذا قُدِّم الاسم فيه استحال الكلام من إنكار الفعل إلى الإنكار في الفاعل، مثل قوله:{آانتَ قُلْتَ لِلنّاسِ} [المائدة: 118]{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] وقول أهل النَّار: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ اِلْهُدَى} [سبأ: 32] فهذا سؤال عن فعلٍ وقع، فتوجَّه الإنكار إلى نسبته إلى الفاعل الذي نُسب إليه. وهذا كما إذا بلغك قول عمَّن لم تكن تظنُّه به قلت: أفلانٌ قال ذلك؟!
وأمَّا قوله تعالى: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اِلْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اَشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ اُلْأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] فإن الإنكار وإن تَوَجَّه إلى نفس التحريم والمراد إنكاره من أصله؛ فإنه خطاب لمن قد أَثبَتَ تحريمًا في أشياء وحِلًّا في نظائرها، فسُئل عن عين المحرَّم أهو هذا، فيشمل التحريم نظيره ممَّا حلَّله أو الآخر فيشمل نظيره أيضًا. فكأنهم قيل لهم: أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيمَ هو؟ أفي هذا أم في ذاك أم في الثَّالث؟ ليتبيَّن بطلان قولهم، وتظهر فِريَتُهم على الله.
وهذا كما تقول لمن يدعي أمرًا وأنت تُنكِره: متى كان هذا، أفي ليلٍ أم نهار؟! وكذلك تقول: مَن أمرك بهذا؟! أو: مَن أَذِنَ لك فيه؟! وأنت لا تريد أن آمرًا أَمَرَه به وأَذِنَ له فيه، ولكن أخرجتَ الكلام مُخرَج من كأنه قد تنزَّل
(1)
مع مخاطَبه إلى أن ذلك قد كان، ثم طالَبَه ببيان عينه ووقته ومكانه والآمر به؛ لكي يُضَيِّق عليه الجواب، ويُظهِرَ كَذِبَه، حيث لا يمكنه أن يُحِيل على شيءٍ ممَّا سُئل عنه فيفتضح. وكذلك إذا قلت: أتفعل كذا؟ كنت مستفهمًا له عن نفس الفعل، وإذا قلت: أأنت تفعل كذا؟ كنت مستفهمًا له عن كونه هو الفاعل.
فقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُلنَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] مخرجه غير مخرج قوله: {اَتَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:27][ب 98 أ] وقوله: {أَيَحْسِبُ اُلْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]. فأنت تجد تحت قولك: أأنت الذي تقهرني؟ أن القاهر لي غيرك لا أنت. وكذلك قوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُلنَّاسَ} [يونس: 99]{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ اُلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اِلْعُمْيَ} [الزخرف: 39].
(1)
«ب» : «يترك» . والمثبت هو الصواب.
وكذلك الشأن في تقديم المفعول وتأخيره، كقوله تعالى:{* قُلْ أَغَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 15]{أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 115] وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ
(1)
إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اُللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اُلسَّاعَةُ أَغَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (41 ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41 - 42]. فلو أُخِّر لكان الاستفهام عن مجرد الفعل، فلمَّا قُدِّم كان الاستفهام عن الفعل وكون المفعول المقدَّم مختصًّا به.
وكذلك قولهم: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24] لمَّا كان الإنكار متوجِّهًا إلى كون المتبوع بشرًا، وأنه منهم، وأنه واحد قدَّموه
(2)
، ولم يقع إنكارهم على مجرد الاتباع، في قوة
(3)
كلامهم أنه لو كان مَلَكًا أو من غيرنا لا تَلحَقُنا غضاضةٌ برئاسته علينا أو عصبةً كثيرةً لا يُمْتَنع من متابعتهم لاتبعناهم.
وكذلك التقديم بدل التَّأخير في النفي. فإذا قلت: ما فعلتُ، كنتَ قد نفيت عنك الفعل، ولم تتعرَّض لكونه فُعل أو لم يُفْعَل. وإذا قلت: ما أنا فعلت، كنتَ قد نفيتَه عن نفسك مُدَّعيًا بأن غيرك فعله.
ومن هاهنا كان ذلك تعريضًا بالقذف يُوجب الحدَّ في أصحِّ القولين. وبه عمل الصَّحابة في قول القائل: ما
(4)
أنا زنيت. كما رُفع إلى عمر بن الخطاب
(1)
«ب» : «أرأيتم» .
(2)
«ب» : «ورموه» . والمثبت هو الصواب.
(3)
كذا في «ب» ، ولعل الصواب «فمفهوم» ، أو يكون في الكلام سقطٌ.
(4)
«ما» سقطت من «ب» . ولا بد منها، والأثر التالي يبين ذلك.
رجل لاحى
(1)
آخر، فقال: ما أنا بزانٍ، ولا أُمِّي بزانيةٍ. فضربه الحدَّ
(2)
. وهذا مذهب مالك
(3)
وأحمد في إحدى الروايتين عنه
(4)
.
وكذلك إذا قلت: ما ضربت زيدًا، كنتَ قد نفيت الضرب لزيدٍ عنك، ولم تتعرَّض لضَرْبٍ وقع منك على غيره نفيًا وإثباتًا. وإذا قلت: ما زيدًا ضربتُ، كنتَ مفهمًا أن الضرب قد وقع منك على إنسانٍ غير زيدٍ.
وكذلك الأمر في المبتدأ والخبر. فهذا التقديم والتَّأخير يرجع إلى إيراد الكلام على مقتضى الحال التي يقصدها المتكلم، ومَن عرف أسلوب كلام العرب وطريقتهم في كلامهم فَهِمَ أحكام التقديم والتَّأخير. وهذا غير مُخرجٍ لاستفادة السَّامع اليقينَ من كلام المتكلم، ولا يوقف لفَهْمه على دليل يدل على أنه أراد تأخير ما قدَّمه وتقديم ما أخَّره ليفهم خلاف المعنى الظَّاهر من كلامه.
الوجه التاسع
(5)
والثلاثون: قوله: وموقوف على نفي المعارض العقلي؛ لئلا يفضي إلى القدح في العقل الذي يفتقر إليه النقل. جوابه: [ب 98 ب] أنَّا لا نُسلِّم أن القدح فيما عارَضَ النقل من المعقول قَدْح فيما يحتاج إليه النقل، فإن صحة النقل لا
(6)
شيء عنده بإثبات موجود لا داخل العالم
(1)
لاحاه ملاحاةً ولحاءً: نازعه. وتلاحوا: تنازعوا. «الصحاح» (6/ 2481).
(2)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 829) وعبد الرزاق في «المصنف» (13725) وابن أبي شيبة في «المصنف» (28965).
(3)
ينظر: «المدونة» (4/ 494) و «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد (1/ 329) و «الذخيرة» للقرافي (12/ 94).
(4)
ينظر: «الفروع» لابن مفلح (10/ 82) و «الإنصاف» للمرداوي (10/ 215).
(5)
«ب» : «الثامن» . والمثبت هو الصواب، فقد تقدم الوجه الثامن.
(6)
كتب بحاشية «ب» : «سقط من هاهنا شيء» . ومقتضى السياق أن يكون الكلام على نفي توقُّف صحة النقل على العقل.
ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته.
وتأمَّلْ دلائلهم على ذلك يتبيَّنْ أن العقل الصريح مع رُسُل الله، كما معهم الوحي الصحيح.
وتأمَّلْ أقوالهم على تناقضها واختلافها في كلامه كيف تجدها مخالفة لصريح العقل مخالفةً بيِّنة، ودلائلهم على تلك الأقوال المختلفة أبطل منها. وكيف تجد
(1)
العقل الصريح يشهد
(2)
بما جاءت به الرُّسل أن الله سبحانه تكلم بكلامٍ سمعه منه جبريل وبلَّغه إلى من أُمر بتبليغه، وكلَّم نبيَّه موسى وكلَّم ملائكته بكلامٍ حقيقيٍّ سمعوه منه، وأنه يتكلم بمشيئته وإرادته، وكل قول خالف هذا فهو خلاف العقل الصريح، وإن زُخرفت له الألفاظ، ونُسجت له الشُّبه.
وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص أن كلماته لا نهاية لها. وهل يقتضي العقل الصريح غير ذلك؟!
وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص من شمول قدرته ومشيئته لجميع الكائنات أعيانها وصفاتها وأفعالها. وما خالف ذلك فهو مخالفٌ لصريح العقل. كما أن النصوص جاءت بأن أفعال العباد أعمال لهم، واقعة باختيارهم وإرادتهم، ليست أفعالًا لله، وإن كانت مفعولة له. تجدُ ما خالف ذلك مخالفًا لصريح العقل.
(1)
«ب» : «يجد» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ب» : «أنا نشهد» . ولعل المثبت هو الصواب.
وتأمَّلْ ما جاءت به النصوص أنه سبحانه لم يَزَلْ مَلِكًا ربًّا غفورًا رحيمًا محسنًا قادرًا لا يُعجِزه الفعل، ولا يمتنع عليه. وكيف لا تجد ما خالف ذلك مخالفًا لصريح العقل، كقول الفلاسفة: إنه لا يفعل باختياره ومشيئته؛ وقول المتكلمين: إنه كان من الأزل إلى حيث خلق هذا العالم معطلًا عن الفعل غير متمكِّن منه والفعل مستحيل، ثم انقلب من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي بلا تجدُّد سبب اقتضى ذلك. فانظر أي هذه المذاهب مخالفٌ لصريح العقل كما هو مخالف لصحيح النقل!
وتأمَّلْ قولهم في الإرادة والقدرة والعلم، كيف أثبتوا إرادةً لا تَفعَل، وقدرة لا تَفعَل، وعلمًا لا يعقل، فقابلهم طائفة من الفلاسفة
(1)
كيحيى بن عدي النصراني
(2)
قولها في الكلمة: إنها الله
(3)
. لقول المتكلمين في السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة: إنها نفس الذَّات. فانظر مخالفة هذه الطوائف لصريح العقل!
وتأمَّلْ قولهم: إنَّ السمع هو عين [ب 99 أ] البصر، والبصر هو عين العلم، والكل صفةٌ واحدةٌ. فهل في مخالفة العقل الصريح أشد من ذلك؟!
وتأمَّلْ قولهم: إن الربَّ تعالى علَّةٌ ثابتة في الأزل لجميع المعلولات
(4)
،
(1)
كتب بالحاشية: «سقط من هاهنا شيء» . وقد انقطع سياق الكلام كما ترى.
(2)
يحيى بن عدي بن حميد نزيل بغداد، انتهت إليه رئاسة أهل المنطق في زمانه، قرأ على أبي نصر الفارابي وغيره، وتوفي سنة أربع وستين وثلاثمائة. ترجمته في:«أخبار العلماء بأخيار الحكماء» (ص 270 - 372) و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» (ص 317 - 318).
(3)
كذا في «ب» ، ولأن السياق قد انقطع فلم نَدْرِ معناه.
(4)
«ب» : «المعلومات» . والمثبت هو الصحيح.
ووجودها في آنٍ واحدٍ مستحيل، فجعلوه علة ثابتة لما هو ممتنع الوجود في غير وقته، وهذا قول الفلاسفة. فقابلهم المتكلمون في ذلك، ولم يجعلوا الفعل ممكنًا له في الأزل بحالٍ، ولم يُفرِّقوا بين نوع الفعل وعينه. وخالف الفريقان صريح العقل.
فتأمَّلْ قول الفريقين في الموجِب بالذَّات والفاعل بالاختيار، كيف تجدهم قد خرجوا فيه عن صريح العقل، وقالوا ما يشهد العقل ببطلانه.
وتأمَّلْ قولهم في أن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، كيف خرجوا عن صريح العقل في المصدر والصَّادر عنه.
وتأمَّلْ قولهم في إنكار قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه التي ترجموها بمسألة حلول الحوادث، كيف خرجوا فيها عن المعقول الصريح، وكابروه أَبيَنَ مكابرة، والتزموا لأجله تعطيل الحيِّ الفعَّال عن كل فعلٍ، والتزموا لأجله حصول مفعول بلا فعل، ومخلوق بلا خلق، فإن الفعل عندهم عين المفعول، والخلق نفس المخلوق. وهذا مكابرة لصريح العقل.
وتأمَّلْ خروجهم عن العقل الصريح في إنكار الحِكَم والغايات التي يفعل الربُّ تعالى لأجلها ما يفعل.
وتأمَّلْ خروجهم عن صريح العقل بتجويزهم رؤية الشيء في غير جهة من الرَّائي
(1)
يرى عيانًا لا فوق الذَّاتي ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن
(1)
من قوله: «وتأمل خروجهم عن صريح العقل» إلى هنا بياض في «ب» ، وكتب الناسخ في خلاله:«سقط من هاهنا شيء» . ثم جاءت هذه العبارة بعد قوله: «والتعلق أمر عدمي» في الفقرة التالية، وتحرف فيها «الرائي» إلى «الذاتي» ووضعها هنا أليق وأنسب، والله أعلم.
يمينه ولا عن يساره، ثم زادوا جواز تعلُّق الرؤية بكل موجودٍ من الأصوات والروائح والمعاني، وتعلُّق الإدراكات الخمس بذلك، فجوَّزوا سماع الرَّائحة، وشمَّ الأصوات، وسماع الطعوم، فخرجوا عن صريح المعقول، كما خرجوا عن صحيح المنقول: أن المسلمين يرون ربهم من فوق.
وتأمَّلْ خروجهم عن صريح العقل في مسألة الطفرة والأحوال والكسب ومسألة النبوات، وأن النبوة لا ترجع إلى صفةٍ وجوديةٍ، وإنما هي تعلُّق الخطاب القديم بالنبي
(1)
، والتعلق أَمْرٌ عدميٌّ، وقولهم بأن المتولدات لا فاعلَ لها، وقولهم بأن الله مريد بإرادة يَخلُقها لا في محلٍّ. فخالفوا صريح العقل من وجهين: من إثبات كونه مريدًا من غير قيام صفة الإرادة به، ومن جعلهم صفة الإرادة قائمة [ب 99 ب] بغير محلٍّ.
ومن ذلك خروجهم عن صريح العقل في قولهم: إن الربَّ تعالى عالمٌ بلا عِلْمٍ، سميعٌ بلا سَمْعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، قادرٌ بلا قدرةٍ، حيٌّ بلا حياةٍ. فأنكر ذلك عليهم طوائفُ العقلاء، ففرَّ بعضهم إلى أن قال: عِلْمُه وسمعه وبصره وقدرته وحياته هي ذاته. وقال أعقلهم عند نفسه وعند أتباعه: إنه سبحانه عِلْمٌ كله، وقدرةٌ كله، وحياةٌ كله، وسَمْعٌ كله، وبصرٌ كله.
إلى أضعاف أضعاف ما ذَكَرْنا من أقوالهم التي خرجوا فيها عن صريح العقل. فهل تجد في نصوص الوحي التي عارضوا فيها بين العقل والنقل مثل ذلك أو قريبًا منه؟! فتأمَّلْها وتأمَّلْ أقوالهم تعلمْ أيَّ النوعين معه العقل، ومن الذي خرج عن صريحه! وبالله التوفيق
(2)
.
(1)
«ب» : «بالشيء» . والمثبت هو الصواب.
(2)
آخر الموجود من النسخة «ب» وكتب الناسخ: «تم، بلغ بحمد الله مقابلة حسب الطاقة» . ومن فضل الله أنه هنا انتهى السقط الواقع في «ح» . فاتصل الكلام بحمد الله تعالى.
الوجه
الأربعون: أن الأدلة القاطعة قد قامت على صِدْق الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه في كل ما يُخبر به، ودلالتُها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشُّبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء،
ولا يستريب في ذلك إلَّا مَؤُوف
(1)
في عقله، مصاب في قلبه وفِطْرته.
فأين الشُّبه النَّافية لعلوِّ الله على خلقه وتكلُّمه بمشيئته وتكليمه لخلقه
(2)
، ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدَّار الآخرة، ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوَّته وصدقه التي زادت على الألف، وتنوَّعت كل تنوُّعٍ.
فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشُّبه الخيالية المتناقضة إلَّا مَن هو مِن أفسد النَّاس عقلًا ونظرًا، وهل ذلك إلَّا مِن جِنْس الشُّبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات، فإنها وإن عجز كثيرٌ من النَّاس عن حلِّها فهم يعلمون أنها قدحٌ فيما
(3)
علموه بالحس والاضطرار، فمَن قدر على حلِّها وإلَّا لم يتوقَّف جزمه بما علمه بحسِّه
(4)
واضطراره على حلِّها، وكذلك الحال في الشُّبه التي عارضت ما أخبر به الرَّسول سواء، فإن المُصَدِّق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صِدْقه ولا في الإيمان به، وإن
(1)
أي: مصاب، يقال: إِيفَ الزرعُ ـ كقيل ـ أي: أصابته آفةٌ، فهو مَؤُوفٌ، مثال مَعُوفٍ. «الصحاح» (4/ 1333) و «تاج العروس» (12/ 97).
(2)
«ح» : «بخلقه» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «في» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «عمله بحسنة» . والمثبت من «م» .
عجز عن حلِّها، فإن تصديقَه بما جاء به الرَّسول ضروري، وهذه الشُّبه عنده لا تُزِيل ما عَلِمَه بالضرورة؛ فكيف إذا تبيَّن بطلانها على التفصيل؟! يوضحه:
الوجه الحادي والأربعون: وهو أن الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بيَّن مراده، وقد تبيَّن لنا أكثر ممَّا تبيَّن لنا كثيرٌ من دقائق المعقولات الصحيحة، فمعرفتنا بمراد الرَّسول من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحةَ المقدِّمات في نفسها، صادقةَ
(1)
النتيجة غيرَ كاذبة، فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك، فتلك التي تُسمَّى معقولات قد تكون خطأ، ولكن لم يُتفطَّن لخطئها.
وأمَّا كلام المعصوم فقد قام البرهان القاطع على صدقه، وأنه حقٌّ، ولكن قد يحصل الغلط في فهمه، فيُفهم منه ما يخالف صريح العقل، فيقع التعارض بين ما فُهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل، فهذا لا يُدفع، ولكن إذا تأمَّلَه مَن وهبه الله حُسن القصد وصحَّة التصوُّر تبيَّن له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النُّفاة من النصوص وبين العقل الصريح، وأنها غير واقعةٍ بين ما دلَّ عليه النقل وبين العقل.
ومَن أراد معرفة هذا فليوازِنْ بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليبين له مطابقة أحدهما للآخر، ثم يوازن بين أقوال النُّفاة وبين العقل الصريح؛ فإنه يعلم حينئذٍ أن النُّفاة أخطؤوا خطأينِ: خطأ على السمع، فإنهم
(2)
فهموا منه خلاف مراد المتكلِّم. وخطأ على العقل بخروجهم عن حُكْمِه. فخرجوا عن العقل والسمع جميعًا.
(1)
«ح» : «صادقًا» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «فإن» . والمثبت من «م» .
الوجه الثَّاني والأربعون: أن المعارضين بين العقل والنقل وبين ما أخبر به الرَّسول قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقًا لا سبيل إليه؛ إذ
(1)
ما من معارضٍ بنفسه إلَّا ويحتمل أن يكون له معارضٌ آخر، وهذا ممَّا اعتمد عليه صاحب «نهاية العقول»
(2)
وجعل السمعيات لا يُحتجُّ بها على العلم بحال. وحاصل هذا أنا لا نعلم ثبوت ما أخبر به الرَّسول حتى نعلم انتفاء ما يعارضه، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطلقًا لِمَا تقدَّم، وأيضًا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض العلمُ
(3)
بانتفاء المعارض. ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة، وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا.
الوجه الثَّالث والأربعون: أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن ما على
(4)
الرَّسول: البلاغ المبين، فقال تعالى:{وَمَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلَّا اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ} [النور: 52] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 69] وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقد شهد الله له ـ وكفى به شهيدًا ـ بالبلاغ الذي أُمر به، فقال:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذَّاريات: 54]. وشهد له أَعقَلُ الخلق وأفضلهم وأعلمهم بأنه قد بَلَّغَ، فأشهد اللهَ عليهم بذلك في أعظم
(1)
«ح» : «إذا» . والمثبت من «م» .
(2)
أي: الفخر الرازي.
(3)
«ح» : «بالعلم» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «على أن» . والمثبت من «م» .
مجمعٍ وأفضله؛ فقال في خطبته بعرفات في حجة الوداع: «أَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنِّي فَمَاذَا
(1)
أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك بلَّغت وأدَّيت ونصحت. فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدًا بربه الذي فوق سماواته وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»
(2)
.
فلو لم يكن قد عرف المسلمون وتيقَّنوا ما أُرسِل به، [ق 37 ب] وحصل لهم منه العلم اليقين لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين، ولَمَا رفع الله عنه اللوم، ولَمَا شهد له أعقل الأُمة بأنه قد بلَّغ وبيَّن. وغاية ما عند النُّفاة أنه بلَّغهم ألفاظًا لا تفيدهم علمًا ولا يقينًا، وأَحالَهم في طلب العلم واليقين على عقولهم ونظرهم وأبحاثهم، لا على ما أُوحي إليه، وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
الوجه
الرَّابع والأربعون: أن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض
على الإطلاق، فلو وُزن عقله بعقولهم لَرَجَحَ بها كلِّها. وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب؛ فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى (5 ) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} [الضحى: 5 - 6] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى. فإذا كان أعقلُ خَلْق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي، كما قال تعالى:{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّيَ} [سبأ: 50]. فكيف يحصل
(1)
«ح» : «فإذا» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
لسُفهاء العقول وأَخِفَّاء الأحلام وفَرَاش
(1)
الألباب الاهتداءُ إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء! {لَّقَد جِّئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ اُلسَّمَاوَاتُ يَنفَطِرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ اُلْأَرْضُ وَتَخِرُّ اُلْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 89 - 90].
الوجه الخامس والأربعون: أن الله سبحانه إنما
(2)
أقام الحُجَّة على خلقه بكتابه ورسله؛ فقال: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 20]. فكل مَن بَلَغَه هذا القرآن فقد أُنذر به، وقامت عليه حُجَّة الله به. وقال تعالى:{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} [النساء: 164]. وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ (9) فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (10) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ (11) فَاَعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 8 - 12]. وقال تعالى: {وَسِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اُلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} [الزمر: 68]. وقال: {يَامَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} [الأنعام: 130].
(1)
يقال: رأيته فَرَاشةً، وما هو إلا فراشة: للخفيف الرأس، وهو مثل في الخفَّة والحقارة. «أساس البلاغة» (2/ 17).
(2)
«ح» : «إذا» . والمثبت من «م» .
فلو كان كلام الله ورسوله لا يُفيد اليقين والعلم، والعقلُ معارضٌ للنقل، فأيُّ حجةٍ تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرَّسول؟ وهل هذا القول إلَّا مناقضٌ لإقامة حجة الله على خلقه بكتابه من كل وجهٍ؟ وهذا ظاهرٌ لكل مَن فَهِمَه، ولله الحمد.
الوجه السَّادس والأربعون: أن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بيَّن لعباده غاية البيان، وأمر رسوله بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليُبيِّن للناس. ولهذا قال الزُّهري:«مِن الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم»
(1)
.
فهذا البيان الذي تكفَّل به سبحانه وأَمَرَ به رسوله إمَّا أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده، أو المعنى وحده، أو اللفظ والمعنى جميعًا. ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى، فإن هذا لا فائدة فيه، ولا يحصل به مقصود الرسالة. وبيان المعنى وحده بدون دليله ـ وهو اللفظ الدَّالُّ عليه ـ ممتنعٌ. فعُلم قطعًا أن المراد بيان اللفظ والمعنى.
والله تعالى أنزل كتابه: ألفاظَه ومعانيَه، وأرسل رسوله ليبيِّن اللفظ والمعنى، فكما أنَّا نقطع ونتيقَّن أنه بيَّن اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقَّن أنه بيَّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان
(2)
المعنى أشدَّ من عنايته ببيان اللفظ. وهذا هو الذي ينبغي، فإن المعنى هو المقصود، وأمَّا اللفظ
(3)
فوسيلةٌ إليه ودليلٌ عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟! وكيف نتيقَّن
(1)
علَّقه البخاري في «صحيحه» (9/ 154) ووصله المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (520) والخلال في «السنة» (1001) وابن حبان في «صحيحه» (186).
(2)
«ح» : «غايته بيان» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «اللفظة» . والمثبت من «م» .
بيانه للوسيلة ولا نتيقَّن بيانه للمقصود، وهل هذا إلَّا من أَبيَنِ المحال؟! فإن جاز عليه ألَّا يُبِين المراد من ألفاظ القرآن، جاز عليه ألَّا يُبِين بعض ألفاظه، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها، وقد كتمه عن الأُمة ولم يبيِّنه لها، كان ذلك قدحًا في رسالته وعصمته، وفتحًا للزنادقة والملاحدة من الرَّافضة وإخوانهم باب كتمان بعض ما أُنزل عليه، وهذا منافٍ للإيمان به وبرسالته. يوضِّحُه:
الوجه
السَّابع والأربعون: أن القائل بأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، إمَّا أن يقول
(1)
: إنها تفيد ظنًّا، أو لا تفيد علمًا ولا ظنًّا.
فإن قال: لا تفيد علمًا ولا ظنًّا، فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم [ق 38 أ] النَّاس كفرًا وإلحادًا.
وإن قال: بل تفيد ظنًّا غالبًا، وإن لم تُفِدْ يقينًا.
قيل له: فالله سبحانه قد ذمَّ الظنَّ المجرد وأهلَه، فقال تعالى:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فأخبر أن الظنَّ لا يُوافق الحق ولا يُطابقه. وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23]. وقال أهل النَّار: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 31].
فلو كان ما أخبر اللَّه به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر وأحوال الأمم وعقوباتهم لا تفيد إلَّا ظنًّا، لكان المؤمنون إن يظنُّون إلَّا ظنًّا وما هم بمستيقنين
(2)
، ولكان قوله تعالى عنهم:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3]
(1)
«ح» : «قبول» . والمثبت من «م» .
(2)
من قوله: «فلو كان ما أخبر» إلى هنا سقط من «ح» . وأثبتُّه من «م» .
خبرًا غير مطابقٍ، فإن عِلْمَهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية، لا سيما وجمهور المتكلمين يُصرِّحون بأن المعاد إنما عُلم بالنقل.
فإذا كان النقل لا يفيد يقينًا، لم يكن في الأُمة من يُوقن بالآخرة؛ إذ الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا؛ فإنه سبحانه لم يَكتَفِ من عباده بالظنِّ، بل أمرهم بالعلم، كقوله:{فَاَعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ} [محمد: 20] وقوله: {اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اُلْعِقَابِ وَأَنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 100] وقوله: {وَاَتَّقُوا اُللَّهَ وَاَعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} [البقرة: 221] ونظائر ذلك. وإنما يجوز اتباع الظنِّ في بعض المواضع للحاجة، كحادثة يخفى على المجتهد حُكْمُها، أو في الأمور الجزئية كتقويم السِّلَع ونحوه.
وأمَّا ما بيَّنه الله في كتابه وعلى لسان رسوله فمَن لم يتيقَّنْه بل ظنَّه ظنًّا فهو من أهل الوعيد، ليس من أهل الإيمان. فلو كانت الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين لكان ما بيَّنه الله ورسوله بالكتاب والسُّنَّة لم يتيقنه أحدٌ من الأُمة.
الوجه الثَّامن والأربعون: أن الله سبحانه أخبر أن قلوب المؤمنين مطمئنَّة بذِكْره، وهو كتابه الذي هدى به عباده؛ فقال تعالى:{وَيَقُولُ اُلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (28 ) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 28 - 29]. أجابهم سبحانه عن سؤالهم تركَ إنزال آيات الاقتراح بجوابين:
أحدهما: أنها لا تُوجب إيمانًا، بل الله هو الذي يهدي من يشاء ويُضِلُّ مَن يشاء، لا الآيات التي اقترحتموها.
الثَّاني: أنه نبَّههم على أعظم الآيات وأشدها اقتضاءً للإيمان
(1)
، وأنها في اقتضائها للإيمان أبلغ من الآيات التي تقترحونها، وهي كتابه الذي هو ذِكْره وما تضمَّنه من الحقِّ الذي تطمئنُّ إليه القلوب وتَسكُن إليه النفوس. ولو كان باطلًا لم يزد القلوب إلَّا شكًّا وريبًا، فإن الكذب ريبةٌ، والصدق طُمأنينةٌ. فلو كانت كلماته وألفاظه لا تُفيد اليقين بمدلولها لم تطمئنَّ به القلوب، فإن الطمأنينة هي سكون القلب إلى الشيء ووثوقه به، وهذا لا يكون إلَّا مع اليقين، بل هو اليقين بعينه.
ولهذا تجد قلوب أصحاب الأدلة السمعية مطمئنة بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم الآخر، لا يضطربون في ذلك، ولا يتنازعون فيه، ولا يَعرِض لهم الشك عند الموت، ولا يشهدون على أنفسهم ويشهدون على غيرهم بالحَيْرة والوقوف والشك. فيكفي في صحة مدلول
(2)
الأدلة اللفظية وبطلان
(3)
مدلول الشُّبه العقلية التي تخالفها هذا القدرُ وحده، فمتى رأيت أصحاب الأدلة السمعية يقول أحدهم عند الموت
(4)
:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ
أو يقول
(5)
:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا
(1)
«ح» : «الإيمان» . والمثبت هو الصواب، كما هو في العبارة التالية.
(2)
«ح» : «مدلولها» . والصواب ما أثبته.
(3)
«ح» : «بطلانها» . والصواب ما أثبته.
(4)
صدر بيت أنشده الفخر الرازي في أبيات، وتقدَّم تخريجها (ص 17).
(5)
صدر بيت أنشده الشهرستاني هو وبيت آخر، وتقدم تخريجهما (ص 16).
أو يقول
(1)
:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَر
أو يقول: «والله ما أدري على أي عقيدةٍ أموت»
(2)
.
إلى أضعاف أضعاف ذلك من أحوال أصحاب الشُّبه العقلية. وبالله التوفيق.
الوجه
التَّاسع والأربعون: قوله: «إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوفٌ على نقل اللغة» كلام ظاهرُ البطلان،
فإن دلالة القرآن والسُّنَّة على معانيهما
(3)
من جنس دلالة لغة كل قومٍ على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة. وهذا لا يختصُّ العرب، بل هو أمر ضروري لجميع بني آدم، يتوقَّف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطُب، ولهذا لم يُرسل الله رسولًا إلَّا بلسان قومه ليبيِّن لهم، فتقوم عليهم الحجة بما فَهِمُوه من خطابه لهم.
فدلالة اللفظ هي: العلم بقصد المتكلِّم به. ويراد بالدلالة أمران: نقلُ الدَّالِّ، وكونُ اللفظ بحيث يُفهِم معنًى. ولهذا يُقال: دلَّه بكلامه دلالةً، ودلَّ الكلامُ على هذا دلالةً. فالمتكلم دالٌّ بكلامه، وكلامه دالٌّ بنظامه. وذلك يُعرف من عادة المتكلم في ألفاظه، فإذا كانت عادته أنه يعني
(4)
بهذا اللفظ هذا المعنى، عَلِمْنا متى خاطَبَنا به أنه أراده من وجهين:
(1)
صدر بيت أنشده ابن أبي الحديد في أبيات، وتقدم تخريجها (ص 371).
(2)
لم أقف على قائله.
(3)
«ح» : «معانيها» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «قضى» . والمثبت من «م» .
أحدهما: أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه، ولهذا استدلَّ على مراده بلُغته التي عادته أن يتكلَّم بها. فإذا عَرَف السَّامع ذلك المعنى، وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلَّم بذلك اللفظ أن يقصده؛ علم أنه مراده قطعًا، وإلَّا لم يعلم مراد المتكلم أبدًا، وهو محالٌ.
الثَّاني: أن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامَه، وعلِمَ السَّامعُ من طريقته وصفته أن ذلك قصده، لا أن قصده التلبيس والإلغاز [ق 38 ب] أفاده مجموعُ العلمين اليقين بمراده، ولم يشكَّ فيه. ولو تخلَّف عنه العلم لكان ذلك قادحًا في أحد العلمين: إمَّا قادحًا في علمه بموضوع ذلك اللفظ، وإمَّا في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده؛ فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم أفاده ذلك القطع. يُوضِّحُه:
الوجه الخمسون: أن السَّامع متى سمع المتكلم يقول: لَبِستُ ثوبًا، ورَكِبتُ فرسًا، وأكلت لحمًا؛ وهو عالمٌ بمدلول هذه الألفاظ من عُرف المتكلم، وعالمٌ أن المتكلم لا يقصد بقوله:«لبست ثوبًا» معنى ذبحت شاةً، ولا من قوله:«ركبت فرسًا» معنى لبست ثوبًا= عَلِمَ مراده قطعًا.
فإن من قصد خلاف ذلك عُدَّ مُلبِّسًا مُدلِّسًا، لا مُبيِّنًا مُفهمًا. وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظمَ استحالة، وإن جاز على أهل التخاطُب فيما بينهم. فإذن إفادة كلام الله ورسوله لليقين فوق استفادة ذلك من كلام كل متكلمٍ، وهو أدلُّ على [مراد]
(1)
الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده. وكلما كان السَّامع أعرف بالمتكلم وصفاته وقَصْده وبيانه وعادته كان
(1)
«ح» ، «م»:«كلام» . والمثبت هو الصواب.
استفادته للعلم بمراده أكمل وأتمَّ.
الوجه
الحادي والخمسون: أن معرفة مراد المتكلم تعرف باطِّراد استعماله ذلك اللفظ في ذلك المعنى في مجاري كلامه ومخاطباته.
فإذا أُلِفَ منه إطلاق ذلك اللفظ أو اطِّراده في استعماله في معنًى أُلِفَ منه أنه متى أَطلَقه أراد ذلك المعنى، وأُلِفَ منه تجريده في موارد استعماله من اقتران ما يدل على خلاف موضوعه؛ أفاد ذلك علمًا يقينًا لا ريبَ فيه بمراده.
الوجه
الثَّاني والخمسون: أن من تأمّلَ عامة ألفاظ القرآن وجدها نصوصًا صريحةً دالةً على معناها دلالة لا تحتمل غيرها بوجهٍ من الوجوه.
وهذا كأسماء الأنبياء وأسماء الأجناس وكأسماء الأعلام، وكأسمائه سبحانه التي أطلقها على نفسه، فإنها لا تصلح أن يكون المراد بها غيره البتَّةَ، ظاهرةً كانت أم مضمرة، وكأسماء يوم القيامة والجنة والنَّار وأسماء الأعداد، وذكر الثقلين وخطابهم وعامة ألفاظ القرآن. فهل يَفهَم أحدٌ قطُّ من قوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اِلنَّاسِ (1) مَلِكِ اِلنَّاسِ (2) إِلَهِ اِلنَّاسِ} [النَّاس: 1 - 3] غير الله سبحانه، ومن:{اِلْوَسْوَاسِ اِلْخَنَّاسِ} [النَّاس: 4] غير الشيطان، ومن:{صُدُورِ اِلنَّاسِ} [الناس: 5] غير بني آدم؟
وهل يفهم من قوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] غير ذات ربِّ العالمين، وأنه واحدٌ لا شريكَ له، وأنه لم يُولد
(1)
من غيره، ولم يلد منه غيره، وليس له من يماثله ويكافئه؟
وهل يفهم من: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى آخرها غير ما دلَّتْ عليه؟
(1)
«ح» : «يلد» . والمثبت هو الصواب.
وهكذا جميع سُوَر القرآن وآياته مفيدة
(1)
لليقين بالمراد منها، وإن أَشكل على كثير من النَّاس كثيرٌ من ألفاظه؛ فإن هذا لا يُخرِجه عن إفادته اليقين، ولا يسلب الأدلة اللفظية عن إفادتها اليقين. بل كل علمٍ من علوم بني آدم اليقينية القطعية تشتمل على مسائل
(2)
يتيقَّنها أصحاب ذلك العلم، وهي مسلَّمة عندهم، ومجهولة عند كثيرٍ منهم، ولا يخرج ذلك العلم عن كونه يقينيًا قطعيًّا، فعَزْلُ الأدلة اللفظية جملة عن اليقين لألفاظٍ يسيرةٍ مشتبهةٍ على بعض النَّاس كعزل العلوم اليقينية القطعية عن موضوعها لمسائل يسيرةٍ فيها غير يقينية ولا قطعية.
الوجه الثَّالث والخمسون: أن قوله: «إن فَهْم الأدلة اللفظية موقوفٌ على نقل النَّحو والتَّصريف» .
جوابه: أن القرآن نُقِلَ إعرابه كما نُقِلَت ألفاظه ومعانيه، لا فرق في ذلك كله، فألفاظه متواترة، وإعرابه متواتر، ونَقْل معانيه أَظهَرُ من نَقْل ألفاظه وإعرابه كما تقدَّم بيانه
(3)
؛ فإن القرآن لغته ونحوه وتصريفه ومعانيه كلها منقولة بالتواتر، لا يحتاج في ذلك إلى نَقْل غيره؛ بل نَقْل ذلك كله بالتواتر أصحُّ من نقل كل لغةٍ نقلها ناقلٌ على وجه الأرض. وقواعد الإعراب والتصريف الصحيحة مستفادةٌ منه، مأخوذةٌ من إعرابه وتصريفه، وهو الشَّاهد على صحة غيرها ممَّا يحتجُّ له بها، فهو الحجة لها والشَّاهد، وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره، حتى إن
(1)
«ح» : «مشيدة» .
(2)
بعده في «ح» : «بل» . وهي زائدة.
(3)
تقدم (ص 345).
فيه من قواعد الإعراب وقواعد علم المعاني والبيان ما لم تشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني إلى
(1)
الآن. كما أن فيه من قواعد البراهين العقلية والأدلة القطعية ووجوهها ما لم تشتمل عليه قواعد الأصوليين والجدليين إلى الآن. وفيه من علم الأحكام وفقه القلوب وأعمال الجوارح وطُرُق الحكم بين العباد ما لم تتضمنه قواعد الفقهاء إلى الآن. وهذا أمر يتسارع الجُهَّال والمقلِّدون إلى إنكاره، والذين أُوتوا العلم يعرفونه حقًّا.
فبَطَل قول هؤلاء: «إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة [ق 39 أ] مفردات تلك الألفاظ ورواة إعرابها وتصريفها» ، وظهر تدليسهم وتلبيسهم في هذا القول، وبالله التوفيق. يُوضِّحُه:
الوجه الرَّابع والخمسون: أن يُقال: هَبْ أنه يُحتاج إلى نقل ذلك، لكن عامة ألفاظ القرآن منقولٌ معناها وإعرابها بالتواتر، لا يحتاج الناس فيه إلى النقل عن عدول أهل العربية، كالخليل وسيبويه والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء، حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل:{أُبْسِلُوا} [الأنعام: 70] و {قِسْمَةٌ ضِيزى} [النجم: 22] و {عَسْعَسَ} [التكوير: 17] ونحوها معانيها منقولة في اللغة بالتواتر، لا يختص بنقلها الواحد والاثنان، فلم تتوقَّف دلالتها على عصمة رواة معانيها، فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر والدواب. فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والألفاظ الشهيرة.
الوجه الخامس والخمسون: أن أصحاب هذا القانون الذي عزلوا به
(1)
«ح» : «وإلى» . وكذا في الموضعين التاليين، والصوب حذف الواو.
نصوص الوحي عن إفادتها للعلم واليقين قالوا: إن أظهر الألفاظ لفظ الله، وقد اختلف النَّاس فيه أعظم اختلاف، هل هو مشتقٌّ أم لا؟ وهل هو مشتقٌّ من التَّألُّه
(1)
أو من الوَله، أو من لَاهَ إذا احتجب
(2)
؟
وكذلك اسم الصلاة، وفيه من الاختلاف ما فيه، وهل هو مشتقٌّ من الدعاء، أو من الاتِّباع، أو من تحريك الصَّلَويْنِ؟
فإذا كان هذا في أظهر الأسماء فما الظنُّ بغيره؟!
فتأمَّلْ هذا الوهم والإيهام واللبس والتلبيس، فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجُهَّالهم ومَن يعرف الاشتقاق ومَن لا يعرفه وعَرَبهم وعَجَمهم يعلمون أن الله اسم لربِّ العالمين، خالق السماوات والأرض، الذي يحيي ويميت، وهو ربُّ كل شيءٍ ومليكه، فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يُراد به هذا المسمَّى، وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسمٍ وُضع لكل مسمًّى، وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه، فليس ذلك بنزاعٍ منهم في معناه.
وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله، وإن اختلفوا في اشتقاقها.
وكذلك قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّبِيُّ} [الأنفال: 65] لم يتنازعوا في المراد به، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وإن اختلفوا في اشتقاقه هل هو من النبأ، أو من النبوة، فليس ذلك نزاعًا منهم في مسمَّاه. وكذلك مواضع كثيرة تتنازع
(1)
«ح» : «بالتأله» . والمثبت من «م» .
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 122 - 123) و «التفسير البسيط» للواحدي (1/ 444 - 455) و «لسان العرب» (13/ 467 - 470) و «تاج العروس» (36/ 320 - 322).
النحاة في وجه دلالتها مع اتفاقهم على المعنى:
كقوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] فالبصريون يجعلونها مخفَّفة من الثقيلة، واللام فارقة بين المخففة والنَّافية، والكوفيون يجعلونها نافية، واللام بمعنى إلَّا، وليس هذا نزاعًا في المعنى، وإن كان نزاعًا في وجه الدلالة عليه.
وكذلك قوله: {يُبَيِّنُ اُللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} [النساء: 175] يُقدِّره البصريون: كراهة أن تَضِلُّوا، والكوفيون: لئلَّا تَضِلُّوا.
وكذلك اختلافهم في التنازع
(1)
وأمثال ذلك إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذلك المعنى، مع اتفاقهم على أن المعنى واحد، وهذا القَدْر لا يُخرِج اللفظ عن إفادته للسامع اليقين بمسمَّاه.
الوجه السَّادس والخمسون: أن يُقال: هذه الوجوه العشرة مدارها على حرفٍ واحدٍ، وهو أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنًى واحدٍ، فلا نقطع بإرادة المعنى الواحد. فهذه الوجوه العشرة مضمونها كلها احتمال اللفظ لمعنيينِ فصاعدًا حتى لا يُعرف عين مراد المتكلم.
فنقول: من المعلوم أن أهل اللغة لم يُسوِّغوا للمتكلم أن يتكلَّم بما يريد به خلاف ظاهره إلَّا مع قرينة تُبيِّن المراد، والمجاز إنما يدل مع القرينة، بخلاف الحقيقة فإنها تدلُّ على التجرُّد. وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز
(1)
التنازع: عبارة عن توجُّه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ، نحو: ضربت وأكرمت زيدًا. فكل واحد من ضربت وأكرمت يطلب زيدًا بالمفعولية. «شرح ابن عقيل على الألفية» (2/ 157).
إلَّا إذا كان في الكلام ما يدل عليه. وكذلك التخصيص ليس لأحدٍ أن يدَّعيَه إلَّا مع قرينة تدل عليه، فلا يسوِّغ العقلاء لأحدٍ أن يقول: جاءني زيدٌ. وهو يريد ابنَ زيدٍ إلَّا مع قرينة، كما في قوله:{وَسْئَلِ اِلْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]«واسألِ العِير» عند من يقول إنه من هذا الباب
(1)
، فإنه يقول: القرية والعِير لا يُسألون، فعُلم أنه أراد أهلها. ومن جعل القرية اسمًا للسكان والمسكن، والعِيرَ اسمًا للركبان والمركوب، لم يحتجْ إلى هذا التقدير.
وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجرُّد الكلام عن القرائن المبينة للمراد، فحيث [ق 39 ب] تجرَّدَت عَلِمْنا قطعًا أنه لم يُرد بها ذلك. وليس لقائل أن يقول: قد تكون القرائن موجودة ولا نعلم بها؛ لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيًّا كمخصصات الأعداد وغيرها، ومنها ما يكون معنويًّا كالقرائن الحالية والعقلية، والنوعان لا بدَّ أن يكونا ظاهريْنِ للمخاطب ليفهم من تلك القرائن مراد المتكلم. فإذا تجرَّد الكلام عن القرائن
(2)
فُهِمَ معناه المراد عند التجرُّد، وإذا اقترن بتلك القرائن فُهِمَ معناه المراد عند الاقتران، فلم يقع لبسٌ في الكلام المجرَّد، ولا في الكلام
(3)
المقيَّد؛ إذ كل من النوعينِ مفهمٌ لمعناه المختصِّ به.
وقد اتفقت اللغة والشرع على أن اللفظ المجرد إنما يُراد به ما ظهر منه، وأن ما يُقدَّر من احتمال مجازٍ أو اشتراكٍ أو حذفٍ أو إضمارٍ ونحوه إنما يقع
(1)
منهم: الأخفش في «معاني القرآن» (1/ 342) والزجاج في «معاني القرآن» (1/ 213، 247، 493) والواحدي في «التفسير البسيط» (12/ 208).
(2)
بعده في «ح» : «فإن» . وهي زائدة.
(3)
«ح» : «الكلام في» . والمثبت من «م» .
مع القرينة، أمَّا مع عدمها فلا، والمراد معلوم على التقديرين. يُوضِّحه:
الوجه السَّابع والخمسون: أن غاية ما يُقال: إن في القرآن ألفاظًا استُعملت في معانٍ لم تكن تعرفها العرب، وهي الأسماء الشرعية: كالصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف ونحوها، والأسماء الدينية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق ونحوها، وأسماء مُجْمَلة لم يُرَدْ ظاهرها كالسَّارق والسَّارقة والزَّاني والزَّانية ونحوه، وأسماء مشتركة كالقُرء وعسعس ونحوهما، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها.
فيقال هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع:
نوع بيانه معه: فهو مع بيانه
(1)
يُفيد اليقين بالمراد منه.
ونوع بيانه في آية أخرى: فيُستفاد اليقين بالمراد من مجموع الآيتين
(2)
.
ونوع بيانه موكول
(3)
إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم: فيُستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرَّسول.
ولم نَقُلْ نحن ولا أحدٌ من العقلاء إن كل لفظٍ فهو مفيدٌ لليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظٍ آخَرَ متصل به أو منفصلٍ عنه؛ بل نقول: إن مراد المتكلم يُعلم من لفظه المجرَّد تارةً، والمقرون تارةً، ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارةً، ومنه ومن بيانٍ آخر بالفعل أو القول يُحيل المتكلم عليه تارةً. وليس في القرآن خطابٌ أُريد منه العلم بمدلوله إلَّا وهو
(1)
«ح» : «بيان» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «الاثنين» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «موكولا» . والمثبت من «م» .
داخل في هذه الأقسام.
فالبيان المقترن كقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186] وكقوله: {لَّا يَسْتَوِي اِلْقَاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اِلضَّرَرِ وَاَلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ} [النساء: 94] وقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 13] ونظائر ذلك.
والبيان المنفصل كقوله: {* وَاَلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 231] وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 13] مع قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14]، فأفاد مجموع اللفظينِ البيان بأن مدة الحمل ستة أشهر.
وكذلك قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا اَلسُّدُسُ} [النساء: 12] مع قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اِللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اِلْكَلَالَةِ} الآية [النساء: 175] أفاد مجموع النصَّيْن العلم بالمراد من الكلالة، وأنه مَن لا ولد له وإن سَفَلَ ولا والد له وإن عَلَا.
وكذلك قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 5] مع قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أفاد مجموع الخطابين [أنه]
(1)
في الرجعيات دون البوائن.
ومنه قوله: {وَاَلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَاَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18] مع قوله: {كَلَّا وَاَلْقَمَرِ (32) وَاَلَّيْلِ إِذَا دَبَرَ (33) وَاَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 32 - 34] فإن مجموع الخطابين يفيدان العلم بأن الربَّ سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
هذا، أو بإقبال كلٍّ منهما على مَن فسر
(1)
{دَبَرَ} بأنه دَبَرُ النهار، أي: جاء في دبره، و {عَسْعَسَ} بأقبل. فعلى هذا القول يكون الإقسام بإقبال الليل وإقبال النهار. وعلى القول الأول يكون قد وقع الإقسام بإدبار الليل وإقبال النهار، وقد يُقال: وقع الإقسام في الاثنين بالنوعين
(2)
.
وأمَّا البيان الذي يُحيل المتكلم عليه، فكما أحال الله سبحانه وتعالى على رسوله في بيان ما أمر به عباده من الصلاة والزكاة والحج وفرائض الإسلام التي إنما عُلم مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه. ولم يخاطب الله عباده بلفظٍ إلَّا وقد بيَّن لهم مراده به بأحد هذه الوجوه الأربعة، فصار الخطاب مع بيانه مفيدًا لليقين بالمراد منه، وإن لم يكن بيانه متصلًا به، وذلك لا يَعزِل كلام الله ورسوله عن إفادته العلم واليقين.
الوجه
الثَّامن والخمسون: أن حصول اليقين بمدلول الأدلة السمعية والعلم بمراد المتكلم بها أيسر وأظهر من حصوله بمدلول الأدلة العقلية،
فإن الأدلة السمعية تدل بقصد الدَّال وإرادته، وعِلْمُ المخاطب بذلك أَيسَرُ عليه من علمه باقتضاء الدليل [ق 40 أ] العقلي بمدلوله.
ولهذا كان أوَّل ما يفعله الطفل معرفة مراد أبوَيْه بخطابهما له قبل عِلْمِه بالأدلة العقلية.
وأيضًا فمَن قَصَدَ تعليم غيره مقتضى الدليل العقلي لم
(3)
يُمكِنْه ذلك
(1)
«ح» : «فسره» . والمثبت من «م» .
(2)
ينظر «التبيان في أيمان القرآن» للمصنف (ص 86 - 87، 190 - 191).
(3)
«ح» : «كمن» . والمثبت هو الصواب.
حتى يُعرِّفه مدلول الألفاظ التي صاغ بها الدليل العقلي، فعلمه بمدلول الدليل السمعي الدَّال على مقتضى الدليل العقلي أسبق إليه وأيسر عليه. وهذا هو الترتيب الطبيعي الموجود في النَّاس، كما يُخاطِب المُعلِّم المتعلِّم
(1)
بالألفاظ الدَّالة على الدليل العقلي، فلا بدَّ أن يَعرِف مدلول تلك الألفاظ أولًا، ثم يُرتِّب مدلولها في ذهنه ترتيبًا
(2)
ينتج له العلم بالنتيجة.
وليس أحدٌ من البشر يستغني عن التعلم السمعي، كيف وآدم أبوهم أول مَن علَّمه الله أصول الأدلة السمعية، وهي الأسماء كلها، وكلَّمه قَبِيلًا
(3)
، ونبَّأه وعلَّمه بخطاب الوحي ما لم يَعلَمه بمجرد العقل
(4)
. وهكذا جميع الأنبياء من ذريته علَّمهم بالأدلة السمعية ـ وهي الوحي ـ ما لم يعلموه بمجرد عقولهم، وحصل لهم من اليقين والعلم بالأدلة السمعية ـ التي هي خطاب الله لهم ـ ما لم يحصل لهم بمجرد العقل، وأحيلوا هم وأُممهم على الأدلة
(5)
السمعية، ولم يُحالوا على العقل، وهداهم الله بالأدلة السمعية لا بمجرد العقل، وأقام حجَّته على أُممهم بالأدلة السمعية لا بالعقل. يُوضِّحه:
الوجه التَّاسع والخمسون: وهو ما اتفق
(6)
عليه أهل المِلَل أن النُّبوَّة
(1)
«ح» : «العلم للمتعلم» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «تركيبًا» .
(3)
أي: عيانًا ومقابلةً، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يُولي كلامه أحدًا من ملائكته. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 8) و «لسان العرب» (11/ 538).
(4)
«ح» : «العقلي» . ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
«ح» : «أدلة» .
(6)
«ح» : «اتفقت» .
خطابٌ سمعيٌّ بوحيٍ يُوحيه المَلَك إلى النَّبيِّ عن الربِّ تعالى، ليست مجرد معرفة الحقائق بقوةٍ قدسيةٍ في البشر تميَّز بها عن غيره، وقوة تخيلٍ وتخييلٍ يتمكَّن بها من
(1)
التصوُّر وحُسن البصيرة، وقوة تأثيرٍ يتمكن بها من التصرف في عناصر العالم، كما يقول المتفلسفة، ويقولون: إن ما يحصل للنبي من المعارف إنما هو بواسطة القياس العقلي كغيره من البشر، لكن هو أسرع وأكمل إدراكًا للحد الأوسط من غيره، ويزعمون أن علم الربِّ كذلك.
والقائلون بأن اليقين والعلم إنما يحصل من الأدلة العقلية لا من الأدلة السمعية هم هؤلاء، وعنهم تُلقِّي هذا الأصل، ومنهم أُخذ، فهو أحد أصول الفلسفة والإلحاد والزندقة الذي يتضمَّن عزل النبوَّات وما جاءت به الرسل عن الله من الأدلة السمعية، وتولية القواعد المنطقية والآراء الفلسفية، فأخذه منهم متأخِّرو الجهمية، فصالوا به على أهل الكتاب والسُّنَّة، ولقد كان قدماؤهم لا يُصرِّحون بذلك، ولا يتجاسرون عليه، فكشف المتأخرون القناع وألقوا جلباب الدِّين، وصرَّحوا بعزل الوحي عن درجته
(2)
.
والمسلمون
(3)
ـ بل وأهل المِلَل قاطبةً ـ يعلمون بالضرورة أن
(4)
أكمل التعليم تعليم الله لصَفِيِّه آدم الأسماء كلَّها، وأكمل التكليم تكليمه سبحانه
(1)
«ح» : «آخر» . ولعل المثبت هو الصواب. وينظر قول الفلاسفة في النبوة ورد شيخ الإسلام عليهم في «الصفدية» (1/ 5 - 6) و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (ص 204) و «النبوات» (1/ 505) و «منهاج السنة» (8/ 23 - 24).
(2)
«ح» : «درجة» . ولعل المثبت هو الصواب، والمراد بدرجته: مكانته.
(3)
«ح» : «والمسلمين» . والمثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «وأن» . والمثبت هو الصواب.
لكليمه موسى، وأعلى أنواع العلوم وأعظمها إفادة لليقين العلوم التي ألقاها الله سبحانه إلى أنبيائه بواسطة السمع، وأن نسبة العلوم العقلية المشتركة بين النَّاس إليها أقل وأصغر من نسبة علوم العجائز والأطفال إلى تلك العلوم، فبين العلوم الحاصلة من الأدلة السمعية للرسل وأتباعهم وبين العلوم الصحيحة الحاصلة بأفكار العقلاء من التفاوت أضعافُ ما بين الخردلة إلى الجبل العظيم. فكيف النسبة بين العلوم السمعية اليقينية للرسل وأتباعهم وبين الشُّبه الخيالية التي هي من جنس شُبه السوفسطائية
(1)
في التحقيق.
فدعوى هؤلاء المخدوعين المخادعين أن ما جاءت به الأنبياء لا يُفيد اليقين، وأن تلك الهذيانات التي بنَوْا عليها واستدلُّوا بها هي المفيدة لليقين من جنس دعوى فرعون وقوله:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} [غافر: 29] وقال عن موسى و [ما]
(2)
جاء به: {إِنِّيَ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَن يُظْهِرَ فِي اِلْأَرْضِ اِلْفَسَادَ} [غافر: 26] فدعوى هؤلاء من جنس دعواه سواء، وبالله التوفيق.
الوجه
الستون: أن دلالة الأدلة السمعية على مدلولها من جنس دلالة الآيات المعينة على مدلولها،
وهذان النوعان هما أكمل الأدلة، وهما المستلزمان للعلم بالربِّ تعالى وأسمائه وصفاته والمعاد وإثبات صِدْق
(1)
السفسطائية: فرقة تنكر الحسيات والبديهيات وغيرها، وتعنى بالجدل والتلاعب بالألفاظ بقصد الإقناع، وهي فرقة يونانية قديمة، عارَضَها سقراط، وكشف عن مغالطتها. «معجم اللغة العربية المعاصرة» (2/ 1073) و «المعجم الفلسفي» (1/ 658 - 660).
(2)
سقط من «ح» .
الرسل؛ بخلاف الأدلة العقلية الكلية التي طريقها صناعة المنطق، فإنها إذا صحَّتْ مقدِّماتها وكانت يقينية وكانت منتجة فإنما تنتج مطلوبًا كليًّا لا يحصل به إثبات ربٍّ معينٍ، ولا رسولٍ معينٍ، ولا إثبات شيءٍ من أصول الإيمان التي لا سعادة للعبد بدونها.
فإن غاية ما عند هؤلاء أن الممكن يفتقر إلى واجبٍ، فبعد تقرير إمكان العالم والتخلص من الشُّبه الواردة على الإمكان إنما استفادوا إثبات وجود واجبٍ، ومعلوم أن فرعون وهامان ونمرود بن كنعان والمجوس والصَّابئة لا يشكُّون في إثبات وجود واجبٍ، [ق 40 ب] بل عُبَّاد الأصنام أهدى من هؤلاء، حيث اعترفوا بربٍّ قيومٍ خالقٍ قادرٍ يفعل بمشيئته وقدرته.
وأصحاب هذه الأدلة العقلية التي تفيد اليقين لم يصلوا فيما استفادوه بها إلى هذا ولا قريب منه، بل أثبتوا وجودًا واجبًا، وهل هو هذا الفَلَك أو فلك وراءه، أو
(1)
وجود مطلق، أو علة أولى، أو الوجود الكلي العام السَّاري في الموجودات، كما قال بكل من ذلك طائفة. وأمَّا كونه الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم، القاهر فوق عباده، الذي استوى على عرشه، يعلم ما تُخفِيه الضمائر، ويرى ويسمع ويتكلَّم ويُكلِّم ويرضى ويغضب ويخلق ما يشاء= فهذا لا تدلُّ عليه مقدِّماتهم المنطقية وأدلَّتهم الكلية، فلا تفيد شيئًا من مطالب الإيمان المشتركة بين أهل المِلَل البتَّةَ.
وأمَّا أدلة الربِّ سبحانه بآياته السمعية والخلقية فهي التي دلَّتْ عباده على توحيده، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وصِدْق رُسُله، وصحَّة معاد الأبدان، وقيام النَّاس من قبورهم إلى دار شقاوة وسعادة؛ فلولا هذه الآيات
(1)
«ح» : «و» . ولعل المثبت هو الصواب.
السمعية لم يعرفوا شيئًا من ذلك.
وقد أخبر سبحانه عن هذه الآيات السمعية والخلقية بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اِلْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اُلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 52]. فبيَّن سبحانه أنه يُري عباده من الآيات المشهودة العيانية في الآفاق وفي أنفسهم ما يُبيِّن لهم به أن آياته السمعية القرآنية حقٌّ وصِدْقٌ. فآيات الربِّ تعالى العيانية الآفاقية والنفسية مستلزمة لإثبات الأدلة السمعية، ثم دلالة آياته السمعية ـ التي لا تُفيد اليقين عند هؤلاء ـ أكمل دلالة على المطالب الإيمانية من الأدلة الكلية المؤلَّفة من القياسات المنطقية. بل دلالتها على تلك المطالب كدلالة الشمس على النهار، ودلالة ضوء الصُّبح على الصَّباح، ودلالة الدخان على النَّار، والمصنوع على الصَّانع، ودلالة النجوم على الطُّرق، ونحو ذلك.
وهذا يبيِّن أن أضعف أنواع الأدلة هي الأدلة القياسية العقلية، التي هي عند كثيرٍ من الفلاسفة والمتكلمين أكمل الأدلة. ثم الدليل القياسي التمثيلي أقوى وأظهر دلالة من الدليل القياسي الشمولي، خلاف ما يدعيه المنطقيون ومن اتبعهم. فأدلة هؤلاء هي آخر المراتب وأضعفها، وأدلة القرآن في أعلى مراتب الأدلة وأشدها ارتباطًا بمدلولها واستلزامًا له، خلافًا لمن عكس ذلك، كابن سينا وابن الخطيب والآمدي وأشباههم.
فدلالة المقال أكمل من دلالة الحال، ودلالة الحال المعينة أكمل من الدلالة الكلية المنطقية، ودلالة كلام الله أكمل من دلالة كل كلامٍ، وإفادته اليقين فوق إفادة كل دليلٍ اليقين بمدلوله، ودلالة آياته
(1)
العيانية على
(1)
«ح» : «آيات» . والمثبت هو الصواب.
مدلولها فوق إفادة كل دليلٍ عقليٍّ لمدلوله. فقول من قال: إنها لا تفيد اليقين بمدلولها لأنها أدلة لفظية
(1)
، والأدلة الخلقية
(2)
لا تفيد لكونها أمثالًا جزئية لا أقيسة كلية. فيُسمُّون آياته السمعية أدلة لفظية، وآياته العيانية تمثيلات جزئية، ويقولون: هذا تمثيلٌ لا دليلٌ. وفي الأول: هذا دليلٌ لفظيٌّ لا عقليٌّ= فقولُ هؤلاء قلبٌ للحقائق، وعكسٌ لما فَطَرَ الله عليه عباده، وقدحٌ في المعلوم قطعًا ويقينًا بالشُّبه الخيالية والأقيسة المنطقية. وقد أفسدوا من الفِطَر وغيَّروها عمَّا فُطرت عليه خلائق لا يُحصيهم إلَّا الله. وهؤلاء للملل بمنزلة السُّوس في الخشب والثياب وغيرهما، ولهذا سمَّاهم أنصارُ الله ورسوله «سوسَ الملل»
(3)
.
وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فانظر إلى أهل الأدلة السمعية، وأهل الأدلة المنطقية العقلية، ووازِنْ بين معارف هؤلاء وعلومهم وإيمانهم وهدايتهم ونفع الخلق بهم وسيرتهم، وبين علوم أولئك ومعارفهم وسيرتهم وضرر الخلق بهم وإخراجهم لمن أنشبوا مخالبهم فيه من العقل والدِّين خروج الشَّعرة من العجين.
الوجه الحادي والستون: أنه من أعظم المُحال أن يكون المصنِّفون في جميع العلوم قد بيَّنوا مرادهم، وعَلِمَ النَّاس مرادهم منها يقينًا ـ سواء كان ذلك المعلوم مطابقًا للحق أو غير مطابقٍ له ـ ويكون الله ورسوله لم يُبيِّن
(1)
«ح» : «القطعية» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «العقلية» . والمثبت هو الصواب.
(3)
وقد سماهم سوس الملل: شيخُ الإسلام ابن تيمية في مواضع، منها:«بيان الدليل على بطلان التحليل» (2/ 158) و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 67، 481) و «مجموع الفتاوى» (35/ 190).
مراده بكلامه، ولا تيقَّنت الأُمة إلى الآن ما أراد بكلامه، فهذا لا يقوله إلَّا مَن هو مِن أجهل النَّاس بالله ورسوله وكلامه.
ونحن لا نُنكر أن في أرباب المعقولات مَن هو في غاية البعد عن معرفة الله ورسوله وما جاء به، وأنه لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله؛ وذلك لبُعْده منه، وعدم أنسه
(1)
به، [ق 41 أ] وسوء ظنِّه به، واعتقاده أن كلامه خَطابة لا برهان، وأنه تخييل خيَّل به إلى النفوس، وشبَّه لها الأمور العقلية وأخرجها في الصور المحسوسة، وأن القرآن إنما هو خطاب للعرب الجُهَّال الذين هم من أجهل الأمم بالعلوم والحقائق، وأنهم لم تُمكَّن دعوتهم إلَّا بالطريق الخطابية التخييلية، لا بالطريق البرهانية العقلية الحكمية، وأن طريق الحكمة والبرهان هي طرق الفلاسفة والمنطقيين والصَّابئة وأتباعهم.
فلا ريبَ أن القرآن في حقِّ مثل هذا لا يُفيده اليقين، بل هو عمًى عليه وضلالٌ في حقِّه، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 43]. قال مجاهد: «بعيدٌ من قلوبهم فَهْم ما يُتلى عليهم»
(2)
. وقال الفراء
(3)
: «تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تُنادَى من مكانٍ بعيدٍ» . وقال صاحب «النظم»
(4)
: «أي إنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من
(1)
«ح» : «الفسه» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
أخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 451).
(3)
«معاني القرآن» (3/ 20).
(4)
لم أعرف من هو، وقد نقله عنه الواحدي في «التفسير البسيط» (19/ 472) ولم يسمه. ويبدو أن المصنف نقل عن الواحدي تفسير هذه الآية.
دُعي من مكانٍ بعيدٍ لم يَسمَع ولم يَفهَم».
وهذا حال هؤلاء الذين لا يستفيدون من كلام الله ورسوله يقينًا ولا علمًا، وهذه أيضًا حال الجُهَّال ومَن نَشَأَ بالبوادي ومَن لا فَهْم له من أهل البَلَه والبلادة وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء لا يستفيدون من كلام الله ورسوله علمًا ولا يقينًا.
فقول القائل: «الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» لم يذكر المفعول، بل حذفه. فإن إراد
(1)
أنها لا تُفيد اليقين لهاتين الطَّائفتين فصَدَقَ، وإن أراد أنها لا تفيده للراسخين في العلم وأهل الذكاء ـ الذين هم أحسن النَّاس قصودًا وأصحهم أذهانًا ـ فقد كَذَبَ عليهم وبَهَتَهم، فإنهم قد استفادوا منها من اليقين ما لم يستفِدْه أهل منطق اليونان وأتباع الفلاسفة وأفراخ الصَّابئة وورثة الملاحدة وأوقاح الجهمية من قواعدهم الباطلة. فدعواهم أنهم
(2)
لم يستفيدوا منها يقينًا مكابرةٌ لهم في الأمور الوجدانية الحاصلة لهم.
وإن قالوا: نحن لم نستفد منها يقينًا.
قيل لهم: لا يلزم من ذلك ألَّا تُفيد اليقين لأهل العلم والإيمان، وقد قال مَن لم يستفد العلم واليقين من القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ما حكاه الله عنهم بقوله:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 4]. ولم يمنع هذا ارتفاعَ هذه الموانع واستفادة الهدى واليقين في حقِّ المؤمنين المصدِّقين، بل كان في حقهم هدًى وشفاء.
(1)
«ح» : «إفادتها» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «أنكم» .
وإن قال: هي لا تفيد اليقين في نفسها، وليست موضعًا لذلك.
فهذا غاية البهت والإلحاد، يُوضِّحه:
الوجه
الثَّاني والستون: أن يُقال لهم: ما تريدون بهذا النفي؟ أتريدون بالأدلة اللفظية جنس كلام بني آدم الدَّال على مرادهم في الخطاب والتصنيف وغيره أو كلام الله ورسوله؟
وهل مرادكم بهذا السلب أن شيئًا منها لا يُفيد اليقين، أو أن مجموعها لا يفيده، وإن أفاده بعضها؟
وهل المراد أنه لا يستفيد أحدٌ منها اليقين البتَّةَ، أو أن النَّاس كلَّهم لا يستفيدون منها اليقين بل يستفيده بعضهم دون البعض؟
وهل المراد أنها
(1)
لا تفيد اليقين بمراد المتكلِّم بها، أو لا تفيد اليقين بثبوت ما أخبر بثبوته ونفي ما أخبر بنفيه، وإن تيقنَّا مراده، فهما مقامان والفرق بينهما معلوم.
فهذه ثمانية تقادير، فبيِّنوا مرادَكم منها، فإن أحدًا من العقلاء لا يمكنه أن ينفي حصول اليقين منها على هذه التقادير كلها.
وإذا كان المراد نفي اليقين على بعض التقادير المذكورة فبيِّنوه بالدعوى؛ ليتوارد النفي والإثبات على محلٍّ واحدٍ.
والظَّاهر ـ والله أعلم ـ أنكم تريدون أن كلام الله ورسوله لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات ملائكته
(1)
«ح» : «بها» .
وصفاتهم وأنواعهم، وإذا لم يُفِدِ اليقين في ذلك ـ وهو أعظم أقسام القرآن وأظهرها وأكثرها ورودًا فيه ـ فكيف يُفيد في باب المعاد والأحكام، كما تقدَّم تقريره
(1)
؟!
الوجه الثَّالث والستون: أنَّ هذا القانون مضمونه جَحْد الرسالة في الحقيقة ـ وإن أقرَّ بها صاحبه بلسانه. بل مضمونه أنَّ تَرْك النَّاس بلا رسولٍ يُرسَل إليهم خيرٌ من أن يُرسَل إليهم رسولٌ، وأنَّ الرُّسل لم يَهتَدِ بهم أحدٌ في أصول الدِّين، بل ضلَّ بهم النَّاس.
وذلك أن القرآن ـ على ما اعتقده أرباب هذا القانون ـ لا يُستفاد منه علمٌ ولا حجةٌ، بل إذا علمنا بعقولنا سببًا اعتقدناه ثم نظرنا في القرآن، فإن كان موافقًا لذلك أقررناه على ظاهره لكونه معلومًا بذلك الدليل العقلي الذي استفدناه به، لا بكون الرَّسول أخبر به. وإن كان ظاهره [ق 41 ب] مخالفًا لما عرفنا واستنبطناه بعقولنا اتَّبَعْنا العقل، وسلكنا في السمع طريقة التأويل أو الإعراض والتفويض؛ فأيُّ فائدةٍ حصلت إذن بإخبار الرَّسول؟ بل مضمون ذلك أنَّا حصلنا على العناء الطويل باستخراج وجوه التأويلات المستلزمة، أو التعرض
(2)
لاعتقاد الباطل والضلال بحمل الكلام على ظاهره. فكانت الأدلة اللفظية مقتضية لضلال هؤلاء، ولعناء
(3)
أولئك، فأين الهدى والشفاء الذي حصل بها لهؤلاء وهؤلاء؟!
(1)
تقدم (ص 377 - 379).
(2)
«ح» : «التعريض» .
(3)
«ح» : «والعناء» .
ومن العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا، وجوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد، وهو أن المخاطبين لم يكونوا يفهمون الحقائق، فضُربت لهم الأمثال من غير أن يكون المخبَر ثابتًا في نفس الأمر، فراجِعْ كُتُبَ القوم تجِدْ ذلك فيها.
الوجه
الرَّابع والستون: أن أصحاب هذا القانون في قولٍ مختلفٍ،
يُؤفك عنه من أُفك! فتارةً يقولون: نحن نعلم انتفاء الظَّاهر قطعًا، وأنه غير المراد، وإن كُنَّا لا نعلم عين المراد. وتارةً يقولون: بل الرَّسول خاطَبَ الخلق خطابًا جمهوريًّا يوافق ما عندهم وما أَلِفُوه، ولو خاطبهم بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يتكلم ولا يُكلِّم، ولا يُرى عيانًا، ولا يُشار إليه= لقالوا هذه صفات معدومٍ لا موجود، فوقعوا في التعطيل، فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه وأَلِفُوه، فيخلصهم من التعطيل.
فكيف يُجمَع هذا القولُ وقولهم: إن الظَّاهر غير مراد؟ فإن كان قد أراد منهم الظَّاهر بطل قولهم: إن الظَّاهر غير مراد. وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم
(1)
: إنه قَصَدَ خِطابَهم بما يُخيل إليهم ويتمكنون معه من إثبات الصَّانع، ويتخلصون به من التعطيل. فأيُّ تناقضٍ أشدُّ من هذا؟! فإن أراد الظَّاهر فقد أراد عندكم إفهام الباطل الذي دلَّ عليه لفظه، وإن لم يُرد الظَّاهر بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض الذي ذكرتموه ولم يَخلُصوا
(2)
من التعطيل، وهذا لا حيلة لكم في دَفْعه.
(1)
«ح» : «قولكم» .
(2)
«ح» : «تخلصوا» . والمثبت هو الصواب؛ لأن الضمير يعود إلى من خاطبهم الرسول.
فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقَصْد الرسالة. هؤلاء يقولون: أراد منهم أن يَتخيَّلوا ما ينفعهم، وإن لم يكن حقًّا في نفس الأمر. وأصحاب التأويل يقولون: أراد منهم ضدَّ ذلك المعنى الذي دلَّ عليه كلامه ونصُّه. وتارةً يقولون: أراد منهم تأويل النصوص. وتارةً يقولون: أراد منهم
(1)
تفويضها.
وقد نزَّه الله رسوله عن أن يريد المعاني الباطلة، أو يُقَصِّر في بيان ما أراده، فإن الأول كَذِبٌ وتدليسٌ وتلبيسٌ، والثانيَ تقصيرٌ في البيان. وإذا كان الرسول منزهًا عن هذا وهذا فالربُّ تعالى أولى بتنزيهه عن الأمرين. وقد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ورسوله عن ذلك، فلا يقدح فيه بالشُّبه الخيالية الفاسدة.
الوجه الخامس والستون: أن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين: مُحكَم ومتشابِه، وجعل المُحكَم أصلًا للمتشابه وأُمًّا له يُردُّ إليه، فما
(2)
خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يُردُّ إلى المحكم. وقد اتفق المسلمون على هذا، وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردودٌ إليه. وأصحاب هذا القانون جعلوا الأصل المحكم ما يدَّعونه من العقليات وجعلوا القرآن كله مردودًا إليه، فما
(3)
خالفه فهو متشابه، وما
(4)
وافقه فهو المحكم، ولم يَبْقَ عند أهل القانون في القرآن محكمٌ يُردُّ إليه المتشابه،
(1)
«ح» : «منها» .
(2)
«ح» : «فمن» . والضمير يعود للأدلة السمعية.
(3)
«ح» : «فمن» .
(4)
«ح» : «ومن» .
ولا هو أمُّ الكتاب وأصله.
الوجه السَّادس والستون: أنه على قول أرباب القانون لا سبيل لأحدٍ أن يعرف أن شيئًا من القرآن محكمٌ؛ فإن ذلك إنما يُعرف إذا حصل اليقين بانتفاء
(1)
المعارض العقلي، وهذا النفي غير معلومٍ؛ إذ غاية ما يمكن انتفاء العلم بالمعارض، لا العلم بانتفائه.
فإن قلتم: نحن نقول: إن صرف اللفظ عن ظاهره وإخراجه عن كونه محكمًا لا يجوز إلَّا عند قيام الدليل العقلي القطعي على أن ظاهره محالٌ ممتنعٌ.
قيل: وأنتم تقولون مع ذلك: إن حمله على ظاهره لا يجب إلَّا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حقٌّ، فما لم يُعَضِّدْه دليلٌ عقليٌّ لم يُجزَمْ بثبوته. فالمعتمَد إذًا عندكم في النفي والإثبات على الدليل العقلي، والقرآن عديم التَّأثير، لا يُجزم بنفي ما نفاه، ولا بإثبات ما أثبته. وهذا قول مَن لم يُؤمن بما أنزل الله من الكتاب، ولا بما أُرسِل به الرسول.
الوجه السَّابع والستون: أن أصحاب القانون لا يمكنهم إنكار أن الأدلة اللفظية تُفيد ظنًّا غالبًا، وإن لم تُفدهم يقينًا، وما عندهم ممَّا يُسمونه أدلة عقلية على نفي ما دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة من الصِّفات، إنما هي أقوالٌ باطلةٌ، لا تُفيد عند
(2)
التحقيق، لا علمًا ولا ظنًّا، بل جهلًا مركبًا يظن صاحبها [ق 42 أ] أن معه علمًا، وإنما معه الجهل المركب، فهي في العلوم كأعمال مَن
(1)
«ح» : «باقتضاء» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «عنه» .
خالَفَ الرُّسُل في الأعمال: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ} [النور: 38]. فهذا مثل أعمال هؤلاء، وعلوم أولئك.
ولا ريب أن الظن المستفاد من الأدلة السمعية خيرٌ من هذا الجهل المركب، إلَّا أن يقول أرباب القانون: إن الأدلة اللفظية لا يستفاد منها علمٌ ولا ظنٌّ البتةَ. ولا يبتعد هذا من قولهم، وهم يقولون: إن ظاهرها باطلٌ وتشبيهٌ وتجسيمٌ. وإذا انتهى الأمر إلى هنا انتقلنا إلى إثبات أن محمدًّا رسول الله؛ فإن زاعم ذلك غير مقرٍّ برسالته
(1)
في نفس الأمر، كما تقدَّم
(2)
، والله أعلم.
الوجه
الثَّامن والستون: أن هذا يتضمن القدح في أعظم آيات الربِّ الدَّالة على ربوبيته وحكمته، وجحد ما هو من أعظم نِعَمه على عباده.
أمَّا الأول فلأن الله سبحانه جعل من آيات ربوبيته الهداية العامة لخلقه، كما قال:{سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى (1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى (2) وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 1 - 3] وقال فرعون لموسى: {فَمَن رَّبُّكُمَا يَامُوسَى (48) قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 48 - 49]. فهَدَى كلَّ نَفْسٍ لجَلْب ما يُصلِحها وينفعها، ودَفْع ما يَضُرُّها ويُفسِدها، وخصَّ النوع الإنساني بأنواع أُخر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره. ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة، وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره، وذلك إنما هو بصفة النُّطْق التي هي أظهر ما في الإنسان، ولذلك شبَّه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب فقال: {فَوَرَبِّ اِلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ إِنَّهُ
(1)
«ح» : «مقربه ساكنه» . وهو تحريف عجيب.
(2)
تقدم (ص 112).
لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23].
وأمَّا أن ذلك من أعظم نِعَم الله على عباده؛ فلأن الإنسان إنما يُميَّز عن سائر الحيوان بكمال هذه القوة وتمامها فيه، واقتداره منها على ما لم يقتدر عليه الحيوانات العُجْم.
ولذلك عدَّد ذلك مِن نعمه على عباده في جملة ما أنعم به عليهم، فقال:{اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 2] وقال: {اِقْرَأْ وَرَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ (3) اُلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ اَلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [اقرأ: 3 - 5] وقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. فإنكارُ حصول العلم واليقين من كلام المتكلم قدحٌ في أعظم آيات الله، وجحدٌ لما هو من أعظم نِعَمه.
وكنَّا نظن أن قائل ذلك أراد أن بعض الأدلة اللفظية لا تفيد العلم واليقين حتى رأيناه قد صرَّح بأن شيئًا منها لا يُفيد اليقين البتةَ، ولا قَدْحَ في آياته ولا جَحْدَ لنِعَمه أبلغ من ذلك.
الوجه التَّاسع والستون: أن هذا القول الذي قاله أصحاب القانون لم يُعرف عن طائفةٍ من طوائف بني آدم، لا طوائف المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا أحد من أهل الملل
(1)
، ولا طوائف الأطِبَّاء ولا النُّحاة ولا أهل اللغة ولا أهل المعاني والبيان ولا غيرهم قبل هؤلاء. وذلك لظهور العلم بفساده، فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق، فإن بني آدم يتخاطبون ويكلِّم بعضهم بعضًا مخاطبةً ومكاتبةً، وقد أنطق الله سبحانه
(1)
«ح» : «الملك» . والمثبت من «م» .
بعض الجمادات وبعض أنواع الحيوانات بمثل نُطق بني آدم، فلم يَستَرِبْ سامع ذلك النطقِ في حصول العلم واليقين به؛ بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية.
فقالت النملة لأُمة النمل: {يَاأَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فلم يشكَّ النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينًا، ولما علم سليمان مرادها يقينًا تبسَّم ضاحكًا منه، وخاطَبَ الهدهدَ وخاطبه الهدهدُ، فحصل للهدهد العلم اليقينيُّ بمراد سليمان من كلامه، وحصل لسليمان ذلك من كلام الهدهد، وذهب الهدهد بكتاب
(1)
سليمان لَمَّا حصل له اليقين من كلامه، وأرسل سليمان الهدهد والكتاب وفَعَلَ ما حكى الله لمَّا حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه.
وأنطق سبحانه الجبال بالتسبيح مع داود، وعلَّم سليمان مَنطِقَ الطير، وأسمع الصَّحابةَ تسبيح الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، وأسمع رسوله تسليم
(3)
الحَجَر عليه
(4)
.
أفيقول مؤمنٌ أو عاقلٌ: إن اليقين لم يكن يحصل للسامع بشيءٍ من مدلول هذا الكلام؟! فعُلِمَ أن هذا القول في غاية السفسطة وجَحْد الحقائق وقلبها وإفساد العقول والفطر.
(1)
«ح» : «وكتاب» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه البخاري (3579) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
«ح» : «تسبيح» . والمثبت من «م» .
(4)
أخرجه مسلم (2277) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
الوجه السبعون: أن حاصل كلام أرباب القانون يدور على ثلاث مقدِّمات:
الأولى: أن العلم بمراد المتكلم موقوفٌ على حصول العلم بما يدل على مراده.
الثَّانية: أنه لا سبيل إلى العلم بمراده إلَّا بانتفاء هذه الأمور العشرة.
الثَّالثة: [ق 42 ب] أنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها.
فهذه ثلاث مقدمات، الأولى منها صادقة، والأُخريان
(1)
كاذبتان.
أمَّا المقدمة الأولى فصحيحةٌ، والعلم بمراد المتكلم كثيرًا ما يكون علمًا اضطراريًّا، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، فإن الإنسان إذا سمع مخبرًا يُخبر بأمرٍ حصل عنده ظنٌّ، ثم يقوى بالمخبر الآخر حتى يصير علمًا ضروريًّا، فكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداءً بالضرورة وقد يظنُّه، ثم يتكرر كلام المتكلم أو يتكرر سماعه له ولِما يدل على مراده، فيصير علمه بمراده ضروريًّا.
وقد يكون الكلام بالمراد استدلالًا نظريًّا، وحينئذٍ فقد يتوقَّف على مقدِّمة واحدة، وقد يتوقف على مقدمتين أو أكثر بحسَب حاجة السَّامع وما عنده من القوة القريبة والبعيدة، وسرعة إدراكه وبطئه، وقلة تحصيله وكثرته، وحضور ذهنه وغيبته، وكمال بيان المتكلم وضعفه. فدعوى المدَّعي أن كل استدلالٍ بدليلٍ لفظيٍّ فإنه يتوقَّف على عشر مقدمات= فهذا باطلٌ قطعًا.
(1)
«ح» : «والأخر» .
وأبطلُ منه دعواه أن كل مقدمةٍ فهي ظنية، فإن عامة المقدمات التي يتوقَّف عليها فَهْم مراد المتكلم قطعية في الغالب.
وأبطلُ من ذلك دعواه أنه لا يُعلَم المراد إلَّا بعد العلم بانتفاء الدليل الدَّالِّ على نقيضه، فإن هذا باطلٌ قطعًا؛ إذ من المعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الضد الآخر، فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقضه.
وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي، فإنه إذا علم المراد علم قطعًا أنه لا ينفيه دليلٌ آخر لا عقلي ولا سمعي؛ لأن ذلك نقيضٌ له، وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه. وحينئذٍ فينقلب هذا القانون عليهم بأن نقول: العلم بمدلول كلام الله ورسوله علمٌ يقينيٌّ قطعيٌّ لا يحتمل النقيض، فنحن نستدلُّ على بطلان كل ما يخالفه ويناقضه بثبوت العلم به، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الضد الآخر، وحينئذٍ فيُقطع ببطلان كل شُبهةٍ عقليةٍ تناقِضُ مدلول كلام الله ورسوله، وإن لم يُنظَر فيها على التفصيل.
وهذا الأصل العظيم أصحُّ من قانونهم، وأقرب إلى العقل والإيمان وتصديق الرُّسل، وإقرار كلام الله ورسوله على حقيقته، وما يظهر منه. يُوضِّحه:
الوجه الحادي والسبعون: وهو أن أرباب هذا القانون الذي منعهم استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطربون في العقل الذي يعارض النقل أشد اضطراب.
فالفلاسفة ـ مع شدة اعتنائهم بالمعقولات ـ أشدُّ النَّاس اضطرابًا في هذا الباب من طوائف أهل الملل، ومن أراد معرفة ذلك فلْيقِف على مقالاتهم في
كتب أهل المقالات، كـ «المقالات الكبير» للأشعري و «الآراء والديانات» للنَّوبَخْتِي وغير ذلك.
وأمَّا المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب في العالم. فتأمَّلِ اختلاف فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ومقالاتهم المذكورة في كتب المقالات، وقد ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتاب «مقالات المصلين» وغيره ممَّن صنَّف في المقالات، وكلٌّ منهم يدَّعي أن صريح العقل معه، وأن مخالِفَه قد خرج عن صريح العقل، فنحن نصدِّق جميعهم، ونُبطِل عقل
(1)
كل فرقةٍ بعقل الفرقة الأخرى، ثم نقول للجميع: بعقل مَن منكم يُوزن كلام الله ورسوله، وأي عقولكم تُجعل معيارًا له فما وافقه قُبل وأُقر على ظاهره، وما خالفه رُدَّ أو أُوِّل أو فُوِّض؟!
وأي عقولكم هو إحدى المقدمات العشر التي تتوقف إفادة كلام الله ورسوله لليقين على العلم بعدم معارضته له، أعقل أرسطو
(2)
وشيعته، أم عقل
(3)
أفلاطون وشيعته، أم فيثاغورس، ...................................
(1)
«ح» : «عقد» . والمثبت من «م» .
(2)
(3)
«ح» : «أعقل» . والمثبت من «م» .
أم بندقليس
(1)
، أم سقراط، أم ثامسطيوس
(2)
، أم الإسكندر بن فيلبس
(3)
.
أم عقل الفارابي، [أم ابن سينا، أم محمد بن زكريا، أم ثابت بن قُرَّة]
(4)
، أم عقل جهم بن صفوان، أم عقل النظَّام
(5)
، ......................
(1)
بندقليس: فيلسوف يوناني، تكلم في خلق العالم بأشياء يقدح ظاهرها في أمر المعاد، وهو أول من ذهب إلى الجمع بين معاني صفات الله تعالى، وأنها كلها تؤدي إلى شيءٍ واحدٍ، وأنه وإن وُصف بالعلم والجود والقدرة فليس هو ذا معانٍ متميزة تختص بهذه الأسماء المختلفة؛ بل الواحد بالحقيقة الذي لا يتكثر بوجهٍ ما أصلًا. ينظر:«عيون الأنباء» (ص 61) و «أخبار الحكماء» (ص 19).
(2)
ثامسطيوس: كان فيلسوفًا في تفاسير كتب أرسطوطاليس. ينظر «أخبار الحكماء» (ص 87). ووقع في «ح» أوله تاء مثناة، وقد ذكره ابن أبي أصيبعة بالثاء المثلثة.
(3)
الإسكندر بن فيلبس: هو الإسكندر المقدوني صاحب أرسطاطاليس وتلميذه، مَلَك اليونان وكانوا طوائف فوحَّدهم، ثم غزا الفرس في عقر دارهم وقتل ملكهم، ثم غزا الهند، وتناول أطراف الصين، وقصد مصر، وهو الذي بنى الإسكندرية .. ينظر:«المختصر في أخبار البشر» (1/ 45) و «أخبار الحكماء» (ص 27).
وقوله: «أم بندقليس أم سقراط أم ثامسطيوس أم الإسكندر بن فيلبس» في «م» : «أم بقراط» .
(4)
ما بين معقوفين سقط من «ح» . وأثبته من «م» . وثابت بن قرة بن مروان الصابئ: كان إليه المنتهى في علوم الأوائل، وله كتب كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب والهندسة والتنجيم والهيئة، مات سنة ثمان وثمانين ومائتين، ولم يُسلم. ينظر:«عيون الأنباء» (ص 295 - 300) و «أخبار الحكماء» (ص 93 - 98).
(5)
النظَّام: إبراهيم بن سيار البصري، أكبر شيوخ المعتزلة ومقدَّمهم في زمانه، كان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر. قال: ولو كان قادرًا لكنا لا نأمن من أن يفعله أو أنه قد فعله، وإن الناس يقدرون على الظلم. وصرَّح بأن الله لا يقدر على إخراج أحدٍ من جهنم، واتفق هو والعلَّاف على أن الله ليس يقدر من الخير على أصلح مما عمل.
ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 112) و «تاريخ الإسلام» (5/ 735 - 736).
أم عقل العلَّاف
(1)
، أم عقل الجُبَّائييْنِ
(2)
،
أم عقل بِشْر المَرِيسِي، أم عقل الإسكافي
(3)
، أم عقل حسين النَّجار
(4)
، ...................................
(1)
أبو الهذيل العلَّاف: محمد بن الهذيل البصري المتكلم المعتزلي، أنكر صفات الله تعالى، وقال: علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله. وزعم بجهله أن أهل الجنة تنقطع حركاتهم حتى لا يتكلمون كلمة، وينقطع نعيم الجنة. ونقل ابن حزم عنه أشياء هي كفر مجرد. ينظر:«الفصل» لابن حزم (3/ 111) و «تاريخ الإسلام» (5/ 737 - 738).
(2)
الجبائيان من رؤوس المعتزلة، وهما:
أبو علي الجُبَّائي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام البصري، كان رأسًا في الفلسفة والكلام، وله مقالات مشهورة وتصانيف، ومن ضلالاته أنه سمى الله عز وجل مطيعًا لعبده، ومن ضلالاته أنه أجاز وجود عرض واحد في أمكنة كثيرة. مات سنة ثلاث وثلاثمائة. ينظر:«الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 90 - 95) و «تاريخ الإسلام» (7/ 70).
وولده أبو هاشم الجُبَّائي: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب، كان يُصرِّح بخلق القرآن كأبيه، ويقول بخلود الناس في النار، وأن التوبة لا تصح مع الإصرار عليها، وكذا لا تصح مع العجز عن الفعل. فقال: من كذب ثم خرس أو من زنى ثم جُبَّ ذَكَره ثم تابا لم تصح توبتهما. وأنكر كرامات الأولياء. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 118 - 120) و «تاريخ الإسلام» (7/ 444).
(3)
الإسكافي: محمد بن عبد الله السمرقندي المتكلم، وكان قد أخذ ضلالته في القدر عن جعفر بن حرب، ثم خالفه في بعض فروعه، وزعم أن الله تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين، ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء. وله كتاب «الرد على من أنكر خلق القرآن». ينظر:«الفرق بين الفرق» (ص 169 - 171) و «الملل والنحل» (1/ 73) و «السير» (10/ 550 - 551).
(4)
الحسين بن محمد النجار: تُنسب إليه الفرق النجارية، ويجمعهم القول بنفي صفات الله تعالى، وإحالة رؤيته بالأبصار، والقول بحدوث كلام الله تعالى. وقالوا: إن الإيمان يزيد ولا ينقص. وقالوا: كل خصلة من خصال الإيمان طاعةٌ وليست بإيمان، ومجموعها إيمان، وليست خصلة منها عند الانفراد إيمانًا ولا طاعة. وزعم النجار أن الجسم أعراض مجتمعة، وزعم أن كلام الله تعالى عرضٌ إذا قُرئ، وجسمٌ إذا كُتب. ينظر «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي (ص 207 - 209) و «الملل والنحل» (1/ 100 - 102).
أم أبي يعقوب الشحَّام
(1)
، أم أبي الحسين الخياط
(2)
،
أم أبي القاسم البلخي
(3)
، أم ثُمامة بن أشرس
(4)
، .........................................
(1)
أبو يعقوب الشحام: كان على مقالة العلَّاف، وهو أستاذ الجبائي، وضلالاته كضلالات الجبائي، غير أنه أجاز كون مقدور واحد لقادرين، وامتنع الجبائي وابنه من ذلك. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 178)
…
و «الملل والنحل» (1/ 67).
(2)
أبو الحسين الخياط: شارك سائر القدرية في أكثر ضلالاتها، وانفرد عنهم بقول لم يُسبَق إليه، فزعم أن الجسم في حال عدمه يكون جسمًا، وكان ينكر الحجة في أخبار الآحاد، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 179 - 180) و «الملل والنحل» (1/ 43، 89 - 90) ..
(3)
أبو القاسم البلخي: عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بالكعبي، كان حاطب ليل، من أقواله: إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته، وإذا أُطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه عالم قادر غير مكرَه في فعله ولا كاره. ثم إذا قيل: هو مريد لأفعاله؛ فالمراد به أنه خالق لها على وَفْق علمه، وإذا قيل: هو مريد لأفعال عباده؛ فالمراد به أنه آمر بها راضٍ عنها. وقال: هو سميع بمعنى أنه عالم بالمسموعات، وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات. وزعم أن المقتول ليس بميت. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 181 - 182) و «الملل والنحل» (1/ 89 - 90).
(4)
ثمامة بن أشرس النميري: كان جامعًا بين سخافة الدِّين وخلاعة النفس، وانفرد عن سائر المعتزلة ببدعتين أكفرته الأمة كلها فيهما: الأولى: زعم أن من لم يضطره الله تعالى إلى معرفته لم يكن مأمورًا بالمعرفة ولا منهيًّا عن الكفر، وزعم لأجل ذلك أن عوام الدهرية والنصارى والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابًا. والثانية: قوله إن الافعال المتولدة أفعال لا فاعل لها. وهذه الضلالة تَجُرُّ إلى إنكار صانع العالم. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 172 - 175) و «الملل والنحل» (1/ 84 - 85).
أم جعفر بن مُبَشِّر
(1)
، أم جعفر بن حرب
(2)
،
أم أبي الحسين الصَّالحي
(3)
، أم أبي الحسين البصري
(4)
، ................................................
(1)
جعفر بن مبشر: زعم أن في فُسَّاق هذه الأمة من هو شرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة، هذا مع قوله بأن الفاسق موحِّدٌ وليس بمؤمنٍ ولا كافر. وزعم أن إجماع الصحابة على ضرب شارب الخمر الحدَّ وقع خطأً؛ لأنهم أجمعوا عليه برأيهم. وزعم أن من سرق حبة أو ما دونها فهو فاسقٌ مخلدٌ في النار. وزعم أن تأبيد المذنبين في النار من موجبات العقول. ينظر:«الفرق بين الفرق» (ص 167 - 169) و «الملل والنحل» (1/ 73).
(2)
«ح» : «حرمية» . وهو تصحيف .. وجعفر بن حرب: زعم أن كلام الله عرض، وأنه مخلوق، وأحال أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعم أن المكان الذي خلقه الله فيه محال انتقاله وزواله منه ووجوده في غيره، وقال: إن بعض الجملة غير الجملة. وهذا يوجب عليه أن تكون الجملة غير نفسها. ينظر: «مقالات الإسلاميين» (ص 192) و «الفرق بين الفرق» (ص 169) و «الملل والنحل» (1/ 73).
(3)
أبو الحسين الصالحي: زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وزعم أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكذلك الكفر. وزعم أن الله لم يزل عالمًا بالأشياء في أوقاتها، ولم يزل عالمًا أنها ستكون في أوقاتها، ولم يزل عالمًا بالأجسام في أوقاتها، وبالمخلوقات في أوقاتها، وقال: لا معلوم إلا موجود. ولا يسمي المعدومات معلومات، ولا يسمي ما لم يكن مقدورًا، ولا يسمي الأشياء أشياء إلا إذا وجدت، ولا يسميها أشياء إذا عدمت. ينظر:«مقالات الإسلاميين» (ص 132، 158، 310، 363).
(4)
أبو الحسين البصري: انفرد عن المعتزلة بمسائل: منها نفي الحال، ومنها نفي المعدوم شيئًا، ومنها نفي الألوان أعراضًا، ومنها قوله: إن الموجودات تتمايز بأعيانها. وذلك من توابع نفي الحال، ومنها رده الصفات كلها إلى كون الباري تعالى عالمًا قادرًا مدركًا. وله ميل إلى مذهب أن الأشياء لا تُعلَم قبل كونها. ينظر:«الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 96).
أم أبي معاذ التُّومَني
(1)
، أم مُعمَّر بن عباد
(2)
،
أم هشام الفُوَطي
(3)
، أم عَبَّاد بن سليمان
(4)
؟!
(1)
أبو معاذ التومني: زعم أن الإيمان هو ما عَصَم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر، وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر، ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان، ولا بعض إيمان. ينظر «الفرق بين الفرق» (ص 203 - 204) و «الملل والنحل» (1/ 166 - 167).
(2)
معمر بن عباد: من أعظم القدرية فريةً في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك، وانفرد عن أصحابه بمسائل؛ منها أنه قال: إن الله تعالى لم يخلق شيئًا غير الأجسام، فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام. ينظر:«الفرق بين الفرق» (ص 151 - 155) و «الملل والنحل» (1/ 79 - 82) ..
(3)
«ح» : «القرطي» . وهو تصحيف. والفوطي: هو هشام بن عَمْرو، كان يرى أن القول بأن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء إلحاد وضلال، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل، ومن أقواله: قوله: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم. ومنها قوله: إن الله لا يُحبِّب الإيمان إلى المؤمنين ولا يُزيِّنه في قلوبهم. ومن بدعه قوله: إن الأعراض لا تدل على كونه خالقًا، ولا تصلح الأعراض دلالات؛ بل الأجسام تدل على كونه خالقًا، ومن بدعه: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن؛ إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعًا خاليتان ممن ينتفع ويتضرَّر بهما. ينظر: «الفصل» لابن حزم (3/ 114 - 115) و «الفرق بين الفرق» (ص 159 - 164) و «الملل والنحل» (1/ 85 - 87).
(4)
عباد بن سليمان: صاحب هشام الفوطي، منع أن يقال في القرآن: إنه عمى على الكافرين، ومنع أن يقال: إن الله تعالى خلق الكافر. لأن الكافر اسم لشيئين إنسان وكفره، وهو غير خالق لكفره عنده. ومنع أن يقال: إن الله عز وجل أملى للكافرين. وفي هذا عناد منه للقرآن. ينظر: «الفرق بين الفرق» (ص 161).
أم تَرْضَوْن بعقول المتأخرين الذين هذَّبوا العقليات، ومحضوا
(1)
زُبدَتها، واختاروا لنفوسهم، ولم يَرضَوْا بعقول سائر مَن تَقدَّمهم؟!
فهذا أفضلهم عندكم محمد بن عمر الرَّازي، فبأي معقولاته تَزِنُون نصوص الوحي؟ وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد الاضطراب، فلا يَثبُت على قولٍ
(2)
، فعيِّنوا لنا عقلًا واحدًا من معقولاته ثبت عليه، ثم اجعلوه ميزانًا.
أم ترضون بعقل نَصِير الشِّرك والكفر والإلحاد الطوسي
(3)
؟! فإن له عقلًا آخر خالَفَ فيه [ق 43 أ] سلفه من الملحدين، ولم يُوافق فيه أتباع الرُّسل.
(1)
«م» : «مخضوا» . بالخاء.
(2)
قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 213 - 214): «ينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة، كما يشكك أهلَه ويشكك غيرَ أهله في أكثر المواضع، وقد ينصر غيرَ أهله في بعض المواضع، فإن الغالب عليه التشكيك والحَيْرة أكثر من الجزم والبيان» .
(3)
نصير الدِّين الطوسي قال عنه المصنِّف في «إغاثة اللهفان» (2/ 1032): «نَصَرَ في كتبه قِدَمَ العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرَّبِّ جل جلاله، من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد البتةَ، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جَعْلَ إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال: هي قرآن الخواص، وذلك قرآن العوام. ورام تغيير الصَّلاة وجعلها صلاتين، فلم يَتِمَّ له الأمر، وتَعلَّمَ السِّحر في آخر الأمر؛ فكان ساحرًا يعبد الأصنام
…
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر».
أم ترضون عقول القرامطة
(1)
والباطنية
(2)
والإسماعيلية
(3)
، أم عقول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود
(4)
؟
فكل هؤلاء وأضعافهم وأضعاف أضعافهم يدَّعي أن المعقول الصريح معه، وأن مخالفيه خرجوا عن صريح المعقول، وهذه عقولهم تنادي عليهم في كتبهم وكتب النَّاقلين عنهم، ولولا الإطالة لعرضناها على السَّامع عقلًا عقلًا، وقد عرضها المُعتَنُون بذِكْر المقالات.
فاجمعوها إن استطعتم، أو خذوا منها عقلًا واجعلوه ميزانًا لنصوص
(1)
القرامطة: قوم من الباطنية تَبِعُوا طريق الملحدين وجحدوا الشرائع، واستحلُّوا مكة ونهبوها، وقتلوا الحُجَّاج، وسلبوا البيت، وقلعوا الحَجَر الأسود، وحملوه معهم إلى هجر من أرض البحرين. ينظر:«الفرق بين الفرق» (ص 281 - 312) و «الأنساب» للسمعاني (2/ 42) و «تاريخ الإسلام» (6/ 472).
(2)
الباطنية: فرقة من الزنادقة ادعت أن لظواهر الشرع بواطن تجري مجرى اللُّب من القشر، وأن مَن وقف على علم الباطن سقطت عنه التكاليف. فأسقطوا الفرائض، واستحلوا الحرمات. ينظر:«الفرق بين الفرق» (ص 281 - 312) و «الملل والنحل» (1/ 228 - 235) و «الأنساب» للسمعاني (2/ 42) و «تاريخ الإسلام» (6/ 471 - 472).
(3)
الإسماعيلية: جماعة من الباطنية تولوا إسماعيل بن جعفر بن محمد، فنُسبوا إليه. ينظر:«الملل والنحل» (1/ 226 - 228) و «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (1/ 59).
(4)
الاتحادية: القائلون بوحدة الوجود، وأن وجود الربِّ عين وجود هذه الموجودات، بل ليس عندهم ربٌّ وعبدٌ، ولا خَلْقٌ وحقٌّ، بل الربُّ هو العبد، والعبد هو الربُّ، والخلق المشبَّه هو الحقُّ المنزَّه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. قاله المصنف في «الوابل الصيب» (ص 159).
الوحي وما جاءت به الرسل وعيارًا على ذلك، ثم اعْذِروا بعدُ مَن قدَّم كتاب الله وسُنة رسوله ـ الذي يسمونه الأدلة اللفظية ـ على هذه العقول المضطربة المتناقضة بشهادة أهلها وشهادة أنصار الله ورسوله عليها، وقال: إن كتاب الله ورسوله يُفيد العلم واليقين، وهذه العقول المضطربة المتناقضة إنما تُفيد الشك
(1)
والحيرة والريب والجهل المركب؛ فإذا تعارض النقل وهذه العقول أُخذ بالنقل الصريح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطَّها الله وحطَّ أصحابها، والله المستعان.
الوجه الثَّاني والسبعون: أن الله سبحانه دعا إلى تدبُّر كتابه وتعقُّله وتفهُّمه، وذمَّ الذين لا يفهمونه ولا يعقلونه، وأَسجَلَ عليهم بالكفر والنفاق، فقال عن المنافقين:{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاَتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 17]. وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 26] وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ اُلصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] وقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 77].
فالقائل: «إن كتاب الله وسُنة رسوله لا يُستفاد منهما يقينٌ» من جنس هؤلاء لا فرق بينهم وبينه.
وأمَّا من يستفيد منهما
(2)
العلم واليقين فهم الذين قال الله فيهم: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ} [سبأ: 6]. وهؤلاء يرونه
(1)
«ح» : «الشكوان» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «منها» . والضمير يعود على كتاب الله وسنة رسوله.
غير مفيدٍ لليقين. وقد كشف سبحانه حال الفريقين بقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا اُلْأَلْبَابِ} [الرعد: 21] وقال: {* مَثَلُ اُلْفَرِيقَيْنِ كَاَلْأَعْمَى وَاَلْأَصَمِّ وَاَلْبَصِيرِ وَاَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [هود: 24].
الوجه الثَّالث والسبعون: أن أدلة القرآن والسُّنَّة ـ التي يُسمِّيها هؤلاء الأدلة اللفظية ـ نوعان:
أحدهما: يدل بمجرد الخبر.
والثَّاني: يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي.
والقرآن مملوءٌ من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدَّالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته. فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول، وهو مجرد الخبر، فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدلُّ على صدقها، بل قد بيَّن لعباده في كتابه من البراهين الدَّالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاءٌ وهدًى وكفايةٌ.
فقول القائل: «إن تلك الأدلة لا تُفيد اليقين» إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية العيانية؛ فهذا من أعظم البَهت والوقاحة والمكابرة، فإن آيات الله التي جعلها أدلةً وحُجَجًا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تُفد
(1)
يقينًا لم يُفد دليلٌ بمدلولٍ أبدًا.
وإن أراد به النوع الأول الدَّال بمجرد الخبر فقد أقام
(2)
الله سبحانه
(1)
«ح» : «يعد» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «قام» . والمثبت من «م» .
الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته، فلم يُحِلْ عبادَه فيه على خبرٍ مجردٍ لا يستفيدون ثبوته إلَّا من الخبر نفسه دون الدليل الدال ِّعلى صدق الخبر.
وهذا غير الدليل العامِّ الدالِّ على صدقه فيما أخبر به، بل هو الأدلة المتعددة الدَّالة على التوحيد وإثبات الصِّفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان. فلا تجد كتابًا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن. فأدلته لفظية عقلية، فإن لم يفد اليقين: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
(1)
} [الجاثية: 5].
فصل
فهذا الطَّاغوت الأول وهو قولهم: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
فإن قيل: فقد دلَّ القرآن على أن فيه محكمًا ومتشابهًا، ومعلوم أن المتشابه هو الذي يشبته
(2)
المراد به بغيره، وهو آيات الصِّفات، فلو أفادت اليقين لم تكن متشابهة.
قيل: هذا السؤال مبنيٌّ على ثلاث مقدِّماتٍ:
أحدها: أن القرآن متضمن للمتشابه.
الثانية: أن المتشابه هو آيات الصِّفات.
الثالثة: أن المتشابه لا يمكن حصول العلم واليقين بمعناه.
(1)
«ح» : «يوقنون» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يشبه» .
وسنفرد الكلام على هذا بفصلٍ مستقلٍّ
(1)
بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل
(2)
الدِّين، ونبيِّن معنى [ق 43 ب] المحكم بمعناه، ونبيِّن أن آيات الصِّفات محكمةٌ فإنها من أبين الكتاب إحكامًا، وأن ما تضمنته من الإحكام أعظم ممَّا تضمنه ما عداها، بعون الله وتوفيقه.
* * * * *
(1)
هذا الفصل لم يُذكر في آخر «مختصر الصواعق» .
(2)
«ح» : «معاقد» . والمثبت من عنوان الفصل.
فصل
(1)
في الطَّاغوت الثَّاني
وهو قولهم: إن تعارَضَ العقل والنقل وجب تقديم العقل
؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا إبطالهما ولا تقديم النقل؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدَّمنا عليه النقل لبطل العقل، وهو أصل النقل، فلزم بطلان النقل، فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل، فتعيَّن القسم الرَّابع، وهو تقديم العقل.
فهذا الطَّاغوت أخو ذلك القانون، فهو مبنيٌّ على ثلاث مقدمات:
الأولى: ثبوت التعارُض بين العقل والنقل.
الثَّانية: انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذُكرت فيه.
الثَّالثة: بطلان الأقسام الثلاثة ليتعيَّن ثبوت الرَّابع.
وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مَزِيدَ عليه، وبَيَّنَ بطلانَ هذه الشُّبهة وكَسَّرَ هذا الطَّاغوت في كتابه الكبير
(2)
. ونحن نشير إلى كلماتٍ يسيرةٍ هي قطرة من بحره تتضمن
(3)
كسره ودحضه، وذلك يظهر من وجوهٍ:
الوجه
الأول: أن هذا التقسيم باطلٌ من أصله،
والتقسيم الصحيح أن يُقال: إذا تعارَضَ دليلان سمعيَّان أو عقليان
(4)
أو سمعيٌّ وعقليٌّ فإمَّا أن
(1)
«ح» : «الفصل» .
(2)
«درء التعارض» (1/ 78) وما بعدها.
(3)
«ح» : «يتضمن» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «سمعيين أوعقليين» . والمثبت من «م» .
يكونا
(1)
قطعيَّيْن، وإمَّا أن يكونا ظنِّييْن، وإمَّا أن يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا.
فأمَّا القطعيان فلا
(2)
يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعًا، فلو تعارَضا لَزِمَ الجمع بين النقيضين، وهذا لا يشكُّ فيه أحدٌ من العقلاء.
وإن كان أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا تعيَّن تقديم القطعيِّ، سواء كان عقليًّا أو سمعيًّا. وإن كانا جميعًا ظنييْن صرنا إلى الترجيح، ووجب تقديم الرَّاجح منهما، سمعيًّا كان أو عقليًّا.
فهذا تقسيمٌ واضحٌ
(3)
متفَقٌ على مضمونه بين العقلاء. فأمَّا إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقًا فخطأٌ واضحٌ، معلوم الفساد عند العقلاء.
الوجه
الثَّاني: أن قوله: «إذا تعارض العقل والنقل» فإمَّا أن يريد
(4)
به القطعيين فلا نُسلِّم إمكان التعارض،
وإمَّا أن يريد به الظنييْن فالتقديم للراجح مطلقًا، وإمَّا أن يريد ما يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا، فالقطعي
(5)
هو المقدَّم مطلقًا، فإذا قُدِّرَ أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي، لا لأنه عقلي. فعُلم أن تقديم العقلي مطلقًا خطأٌ، وأن جعْل جهة
(1)
«ح» : «يكون» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «ولا» . والمثبت من «م» .
(3)
«م» : «راجح» .
(4)
«ح» : «أريد» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «فاللفظي» .
الترجيح كونه عقليًّا خطأ، وأن جعل سبب التَّأخير والاطِّراح كونه نقليًّا خطأ.
الوجه
الثَّالث: أنَّا لا نُسلِّم انحصار القسمة فيما ذكره من الأقسام الأربعة،
إذ من الممكن أن يُقال: يُقدَّم العقلي تارةً، والسمعي تارةً، فأيهما كان قطعيًّا قُدِّم. فدعواه أنه لا بد من تقديم العقل مطلقًا أو السمع مطلقًا أو اعتبار الدليلين معًا أو إلغائهما معًا دعوى كاذبة، بل هاهنا قسمٌ غير هذه الأقسام وهو الحقُّ، وهو ما ذكرناه.
الوجه
الرَّابع: قوله: «إنْ قدَّمنا النقل لَزِمَ الطعن» فحاصله ممنوعٌ،
فإن قوله: «العقل أصل
(1)
النقل» إمَّا أن يريد به أنه أصلٌ في ثبوته في نفس الأمر، أو أصلٌ في علمنا بصحَّته. فالأول لا يقوله عاقلٌ، فإن ما هو ثابتٌ في نفس الأمر ليس موقوفًا على علمنا به؛ فعدم عِلْمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر، فما أخبر به الصَّادق المصدوق هو ثابتٌ في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وسواء صدَّقه النَّاس أو لم يصدِّقوه، كما أنه رسول الله حقًّا وإن كذَّبه مَن كذَّبه، كما أن وجود الربِّ تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حقٌّ، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فلا يتوقَّف ذلك على وجودنا
(2)
، فضلًا عن علومنا وعقولنا. فالشرع المنزَّل من عند الله مستغنٍ في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه، وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإذا علم العقل ذلك حصل له كمالٌ لم يكن قبل ذلك، وإذا فقده
(3)
كان ناقصًا جاهلًا.
وأمَّا إن أراد أن العقل أصلٌ في معرفتنا بالسمع ودليلٌ على صِحَّته، وهذا
(1)
«ح» : «أما» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «وجوده» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «قصده» . والمثبت من «م» .
هو مراده. فيقال له: أتعني بالعقل هنا القوة والغريزة التي فينا، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟
فالأول: لم تُرِدْه، وتمتنع إرادته؛ لأن تلك الغريزة ليست علمًا يمكن معارضته للنقل، وإن كانت شرطًا في كل علمٍ عقليٍّ أو سمعيٍّ، وما كان شرطًا في الشيء امتنع أن يكون منافيًا له.
وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة
(1)
بالعقل، قيل لك: ليس كل ما يُعرف بالعقل يكون أصلًا للسمع ودليلًا على صحَّته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تُحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يُعلم صدق [ق 44 أ] الرَّسول من العقليات، وليس كل العلوم العقلية يُعلم بها صدق الرَّسول، بل ذلك يُعلم بالآيات والبراهين الدَّالة على صدقه.
فعُلم أن جميع المعقولات ليس أصلًا للنقل، لا بمعنى توقُّف
(2)
العلم بالسمع عليها، ولا بمعنى توقُّف ثبوته في نفس الأمر عليها، لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري ـ في أحد قولَيْه ـ وأكثر أصحابه يقولون: إن العلم بصدق الرَّسول
(3)
عند ظهور المعجزات الحادثة ـ [التي]
(4)
تجري [مَجرى]
(5)
تصديقه
(6)
...................................................
(1)
«ح» : «الحاصل» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «لمعنى يتوقف» . والمثبت من «م» .
(3)
بعده في «ح» : «عنه» .
(4)
من «درء التعارض» .
(5)
من «درء التعارض» (1/ 90).
(6)
في «درء التعارض» : «تصديق الرسول» .
بالقول
(1)
ـ [عِلْمٌ]
(2)
ضروريٌّ
(3)
. فحينئذٍ ما
(4)
يتوقف عليه العلم بصدق الرَّسول من العلم العقلي سهلٌ يسيرٌ، مع أن العلم بصدقه له طرقٌ كثيرةٌ متنوعةٌ.
وحينئذٍ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحًا في أصل السمع، وهذا ـ بحمد الله ـ بيِّنٌ واضحٌ. وليس القدح في بعض العقليات قدحًا في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحًا في جميعها. فلا يلزم من صحة المعقولات التي يبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فلا يلزم من تقديم السمع على ما يُقال: إنه معقولٌ في الجملة القدحُ في أصله.
الوجه
الخامس: أن يُقال: العقل إمَّا أن يكون عالمًا بصدق الرَّسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإمَّا ألَّا يكون عالمًا بذلك.
وإن لم يكن عالمًا امتنع التعارُض عنه لأن المعقول إن كان معلومًا له لم يتعارَض معلومٌ ومجهولٌ، وإن لم يكن معلومًا لم يتعارض مجهولان. وإن كان عالمًا بصدق الرَّسول امتنع ألَّا يعلم ثبوت ما أَخبَر به في نفس الأمر، إذا علم أنه أَخبَر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن
(5)
يكون عالمًا بثبوت مخبره. وإن كان كذلك استحال أن يقع عنده دليلٌ يعارض ما أخبر به، ويكون ذلك المعارض
(1)
كذا في «ح» . والذي في «درء التعارض» : «علم» .
(2)
من «درء التعارض» .
(3)
ينظر: «الإرشاد» للجويني (ص 324 - 330) و «النبوات» لابن تيمية (1/ 235 - 240).
(4)
«فحينئذ ما» «ح» : «فيما» . والمثبت من «درء التعارض» .
(5)
بعده في «ح» : «لم» . وليس في «م» .
واجب التقديم؛ إذ مضمون ذلك أن يُقال: لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به؛ لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أن المخبر صادقٌ، وحقيقة ذلك لا تصدقه في هذا الخبر؛ لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه. فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور. فإذا قيل لي: لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه، كان كما لو قيل: كذِّبْه لئلا يلزم تكذيبه. فهكذا حال من أمر النَّاس ألَّا يُصدِّقوا الرَّسول فيما علموا أنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول؛ لئلا يُفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه. يوضحه:
الوجه السَّادس: وهو أن المنهي عنه من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور، فيكون واقعًا في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركًا للمأمور به، سواء أطاع أو عصى، ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطَّاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية. والمنهي عنه على
(1)
هذا التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذٍ فلا يجوز النهي عنه، سواء كان محذورًا أو لم يكن، فإنه إن لم يكن محذورًا لم يَجُز أن ينهى عنه، وإن كان محذورًا فلا بد منه على التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه.
الوجه
السَّابع: أنه إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان أمرًا له بما يناقض ما علم به صدقه، وكان أمرًا له بما يُوجب ألا يثق بشيءٍ من خبره
؛ فإنه متى جوَّز كذبه أو غلطه في خبرٍ جوَّز ذلك في غيره، ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرَّسول شيئًا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله سبحانه وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم؛
(1)
«ح» : «أنه» . والمثبت من «م» .
لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع: نوع يجب ردُّه وتكذيبه، ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته، ونوع يُقَرُّ. وليس لهم في ذلك أصلٌ يرجعون إليه، بل هذا يقول: ما أَثبَتَه عقلُك فأَثْبِتْه، وما نفاه عقلك فانْفِه. وهذا يقول: ما أَثبَتَه كشفُك فأَثْبِتْه، وما لا فلا.
ووجود الرَّسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية، بل على قولهم وأصولهم وجوده أضرُّ من عدمه؛ لأنهم لم يستفيدوا من جهته علمًا بهذا الشأن، واحتاجوا إلى دفع ما جاء به، إمَّا بتكذيبٍ، وإمَّا بتأويلٍ، وإمَّا بإعراضٍ وتفويضٍ.
فإن قيل: لا يمكن أن يُعلم أنه أخبر بما ينافي العقل؛ فإنه منزَّهٌ عن ذلك، وهو ممتنعٌ عليه.
قيل: هذا إقرارٌ باستحالة معارضة العقل للسمع، واستحالة المسألة، وعُلم أن جميع أخباره لا يناقض العقل فيها شيءٌ.
فَغَدَا النَّقْلُ سَالِمًا مِنْ مُنَافٍ
…
وَاسْتَرَحْنَا مِنَ الصُّدَاعِ جَمِيعَا
(1)
فإن قيل: بل المعارضة ثابتةٌ بين العقل وبين ما يُفهِمه ظاهر اللفظ، وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرَّسول، فالمعارضة ثابتةٌ بين العقل وبين ما يظهر أنه دليلٌ وليس بدليلٍ، أو
(2)
يكون دليلًا ظنيًّا لتطرُّق الظنِّ إلى بعض مقدماته إسنادًا أو متنًا.
(1)
عجز البيت لابن نُباتة، من أبيات له في «ديوانه» (ص 311 - 312)، والبيت هو:
فقلت ليسا له ولا ليَ تُعزى
…
وَاسْتَرَحْنَا مِنَ الصُّداع جميعَا
(2)
«ح» : «وأن» . والمثبت من «م» .
قيل: وهذا [ق 44 ب] يرفع صورة المسألة ويُحيلها بالكلية، وتصير صورتها هكذا: إذا تعارض الدليل العقلي وما ليس بدليلٍ صحيحٍ وجب تقديم العقلي. وهذا كلامٌ لا فائدة فيه، ولا حاصل له، وكل عاقلٍ يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليلٍ.
ثم يُقال: إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليلٍ في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهلٌ، أو بما يظن أنه دليلٌ وليس بدليلٍ= فإن كان السمعي في نفس الأمر كذلك ـ لكونه خبرًا مكذوبًا، أو صحيحًا وليس فيه ما يدل على معارضة العقل
(1)
بوجهٍ ـ وأثبتُّم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه، وكُنَّا أسعد
(2)
بذلك منكم؛ فإنَّا أشدُّ نفيًا للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشدُّ إبطالًا لما تحمله من المعاني الباطلة وأولى بذلك منكم.
وإن كان الدليل السمعي صحيحًا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد لم يكن ما عارضه من العقليات إلَّا خيالات فاسدة، ومقدمات كاذبة، إذا تأمَّلها العاقل حقَّ التَّامل ومشى إلى آخرها وجدها مخالفة لصريح المعقول. وهذا ثابتٌ في كل دليلٍ عقليٍّ خالَفَ دليلًا سمعيًّا صحيح الدلالة. وحينئذٍ فإذا عارض هذا المسمَّى دليلًا عقليًّا للسمع وجب اطِّراحه لفساده وبطلانه.
ولبيان العلم ببطلانه طريقان: كلي وجزئي.
(1)
«ح» ، «م»:«القول» . والمثبت من حاشية «م» .
(2)
«أسعد» ليس في «ح» ، وأثبته من «م» .
أمَّا الكلي فنقطع بأن كل دليلٍ عقليٍّ خالف السمعي الصريح الصحيح فهو باطلٌ في نفسه، مخالفٌ للعقل قبل أن ينظر في مقدماته.
وأمَّا الجزئي فإنك إذا تأمَّلت جميع ما يدعوك به معارض السمع وجدته ينتهي إلى مقدماتٍ باطلةٍ بصريح العقل، لكن تَلَقَّاها مُعْوِرٌ عن مُعْوِرٍ
(1)
، فظنوها عقليات، وهي في التحقيق جهلٌ مركبٌ. وحينئذٍ فالواجب تقديم الدليل السمعي للعلم بصحته، وما عارضه فإمَّا معلوم البطلان، وإمَّا غير معلوم الصحة، وذلك أحسن أحواله.
الوجه
الثَّامن: أنه إذا اعتُقد في الدليل السمعي أنه ليس بدليلٍ في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتوه من العقل جهلٌ؛ أمكن أتباع الرسل المصدِّقين بما جاؤوا
(2)
به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلةٍ في نفس الأمر، وأن اعتقاد دلالتها جهلٌ،
ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية، ثم الترجيح من جانبهم من وجوهٍ متعددةٍ. وكانوا في هذا الرمي أحسن حالًا منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدَّالة على صحة ما
(1)
«ح» : «معود عن معود» . والتعبير مقتبس من قول الشاعر:
ذهبَ الرِّجالُ المقتدى بفِعَالهم
…
والمنكِرون لكل أمرٍ منكرِ
وبقيتُ في خَلْفٍ يُزيِّن بعضُهم
…
بعضاً ليدفع مُعْوِرٌ عن مُعْوِر
يُنسب إلى بشر الحافي وإلى أبي الأسود الدؤلي وإلى غيرهما، ينظر «عيون الأخبار» (2/ 123) و «الحماسة البصرية» (3/ 1424) و «معجم الأدباء» (4/ 1423). والمعور: الرديء السريرة قبيحها، من العَوَر، وهو الشَّين والقُبح. «تاج العروس» (13/ 166).
(2)
«ح» : «جاء» . والمثبت هو الصواب.
أخبر به السمع إجمالًا وتفصيلًا من المعقول أصح ممَّا
(1)
معكم، ولا تذكرون معقولًا يعارض ما ورد به الوحي إلَّا ومعهم معقولٌ أصح منه يُصدِّقه ويُؤيِّده.
الوجه
التَّاسع: أن يُقال: لو قُدِّر تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع؛ لأن العقل قد صدَّق الشرع، ومِن ضرورة تصديقه له قبول خبره،
والشرع لم يُصدِّق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصِدْق الشرع موقوفٌ على كل ما يخبر به العقل.
ومعلوم أن هذا المسلك إذا سُلك أصح من مسلكهم، كما قال بعض أهل الإيمان: يكفيك من العقل أن يُعرفك صدق الرَّسول ومعاني كلامه، ثم يخلي بينك وبينه. وقال آخر: العقل سلطانٌ ولَّى الرَّسول ثم عزل نفسه. لأن
(2)
العقل دلَّ على أن الرَّسول يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولأن العقل يدل على صدق الرَّسول دلالةً عامةً مطلقةً، ولا يدل على صدق قضايا نفسه دلالةً عامةً؛ ولأن العقل يغلط كما يغلط الحسُّ، وأكثر من غلطه بكثيرٍ، فإذا كان حكم الحسِّ من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض، فما الظن بالعقل؟!
الوجه
العاشر: أن العقل مع الوحي كالعامِّي المقلِّد مع المفتي العالم، بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تُحصى،
فإن المقلِّد يمكنه أن يصير عالمًا، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيًّا رسولًا. فإذا عرف المقلِّد عين المفتي ودلَّ
(1)
«ح» : «ما» .
(2)
«ح» ، «م»:«ولأن» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 138).
غيره عليه أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدالُّ والمفتي فإن المستفتي
(1)
يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلِّد الذي دلَّه
(2)
وعرَّفه بالمفتي.
فلو قال له الدَّالُّ: الصواب معي دون المفتي؛ لأنِّي أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدَّمتَ قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه.
فيقول له المستفتي: أنت لمَّا شهدت بأنه مفتٍ، ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعيَّن لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي ـ الذي هو أعلم منك ـ لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ. وأنت إذا علمت أنه مفتٍ باجتهادٍ واستدلالٍ، ثم خالفته باجتهادٍ واستدلالٍ، كنت مخطئًا في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به مَن يجب عليك تقليدُه واتِّباعُ قوله، وإن أصبت في الاجتهاد [ق 45 أ] والاستدلال الذي به علمت أنه مفتٍ مجتهدٌ يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرَّسول معصومٌ في خبره عن الله، لا يجوز عليه الخطأ.
الوجه
الحادي عشر: أن الدليل الدَّال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يجب أن يكون أصلًا له، بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله،
وهذا لا يقوله من يدري ما يقول. غاية ما يُقال: إن العلم بالدليل أصل للعلم بالمدلول، فإذا حصل العلم
(1)
من قوله «عين المفتي» إلى هنا في «ح» : «رجلا بأنه أهل المقلد الذي دل غيره بأن المستثني» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 138).
(2)
«ح» : «دل» .
بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيءٍ. فإذا شهد النَّاس لرجلٍ بأنه خبيرٌ بالطب أو التقويم
(1)
أو العيافة
(2)
دونهم، ثم تنازع الشهود والمشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له.
فلو قالوا
(3)
: نحن شهدنا لكم وزكَّيناكم، وبشهادتنا ثبتت أهليَّتُكم، فتقديم قولكم علينا والرجوع إليكم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولكم.
قالوا لهم: أنتم شهدتم بما علمتم أنَّا أهلٌ لذلك دونكم، وأن أقوالنا فيه مقبولة دون أقوالكم. فلو قدَّمنا قولكم على أقوالنا فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحًا في شهادتكم وعلمكم بأنَّا أعلم منكم.
وحينئذٍ فهذا وجهٌ ثاني عشر مستقلٌّ بكسر هذا الطَّاغوت: وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه، وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي
(4)
تعلَقُ بالإصبع بالنسبة إلى البحر
(5)
؛ فلو قدِّم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحًا في شهادته،
(1)
«درء التعارض» : «تقويم السلع» .
(2)
«م» ، «درء التعارض»:«القيافة» . والقيافة أعم من العيافة، فالقيافة على قسمين: قيافة الأثر: ويقال لها العيافة، وهي تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر. وقيافة البشر: وهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وفي سائر أحوالهما وأخلاقهما. «أبجد العلوم» (2/ 385، 436).
(3)
«ح» : «قال» . والمثبت من «م» .
(4)
«التي» سقط من «ح» .
(5)
روى البخاري (4726) عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر عليه السلام قال لموسى عليه السلام: «إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائر بمنقاره من البحر، وقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر» .
وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله. فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع، وهذا ظاهر لا خفاء به. يوضحه:
الوجه الثَّالث عشر: وهو أن الشرع مأخوذٌ عن الله بواسطة الرسولين المَلَكي والبشري بينه وبين عباده، مؤيَّدًا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارةً، ويستحسنه تارةً، ويجوِّزه تارةً، ويَكِعُّ
(1)
عن دَرَكه تارةً؛ ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولا بد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول. وهناك يسقط «لِمَ» ، ويبطل «كيف» ، ويزول «هلَّا» ، ويذهب «لو» و «ليت» في الريح؛ لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة
(2)
، واعتراض المعترض عليه مردودٌ، واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سَفَهٌ.
وجملة الشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علمًا وعملًا، التي لو جُمعت حِكَم جميع الأُمم ونُسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتمِّ البيان، فهي متكفلةٌ بتعريف الخليقة ربَّها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتعريف الطريق الموصِّل إلى رضاه وكرامته، والدَّاعي لديه، وتعريف حال السَّالكين بعد الوصول إليه. ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الدَّاعي إلى الباطل
(1)
كعَّ عن الشيء يَكِعُّ كعًّا: إذا جبن عنه وأحجم. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 180).
(2)
«ح» : «محسوسة» . ولعل المثبت هو الصواب.
والطُّرُق الموصلة إليه، وحال السَّالكين تلك الطُّرق، وإلى أين تنتهي بهم. ولهذا تقبَّلَها العقولُ الكاملة أحسن تقبُّلٍ، وقابلتها
(1)
بالتسليم والإذعان، واستدارت حولها بحماية حوزتها والذبِّ عن سلطانها. فبين
(2)
ناصرٍ باللغة السَّائغة
(3)
، وحامٍ بالعقل الصريح، وذابٍّ عنه بالبرهان
(4)
، ومجاهدٍ بالسيف والرمح والسِّنان، ومتفقِّهٍ في الحلال والحرام، ومعتنٍ
(5)
بتفسير القرآن، وحافظٍ لمتون السُّنَّة وأسانيدها، ومفتِّشٍ على أحوال
(6)
رواتها، وناقدٍ لصحيحها من سقيمها، ومعلولها من سليمها.
فهذه
(7)
الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت، وإليه تعود.
ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك
(8)
وهيآتها ومقادير الأجرام
(9)
، ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس
(10)
والمقارنة
(11)
.
(1)
«ح» : «قابلها» .
(2)
«م» : «فمن» .
(3)
«م» : «الشائعة» .
(4)
«ح» : «بالبراهين» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «ومعين» . والمثبت من «م» .
(6)
«ح» : «أحوالها» . والمثبت من «م» .
(7)
«ح» : «فهي» . والمثبت من «م» .
(8)
المنجمون يسمون السموات: الأفلاك. «مفاتيح العلوم» (ص 240).
(9)
الأجرام الفلكية: هي الأجسام التي فوق العناصر من الأفلاك والكواكب. «التعريفات» (ص 4).
(10)
«ح» : «التدليس» . والمثبت من «م» .
(11)
هي مصطلحات في تناظر الكواكب مع بعضها: فالتربيع: هو أن يصير منه على ربع الفلك. والتثليث: أن يصير منه على ثلث الفلك. والتسديس: أن يصير منه على سدس الفلك، والمقارنة: القران، وهو أن يكون النجمان في برج واحد. «مفاتيح العلوم» (ص 252) و «دستور العلماء» (4/ 36 - 37).
ولا حديث صاحب الطبيعة النَّاظر في آثارها واشتباك الأُسْتُقُصَّات
(1)
وامتزاجها وقواها، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل منها وما المنفعل، وكم درجاتها، وإلى أين تسري قواها؟
ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها، وما الكرة وما الدَّائرة وما الخط المستقيم والمنحني؟
ولا فيها هذيان المنطقيين وبحوثهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعَرَض العام والمقولات العشر
(2)
والمختلطات
(3)
، والموجهات
(4)
الصَّادرة عن رجلٍ مشركٍ من يونان، كان يعبد الأوثان،
(1)
الأستقصات ويقال الأستقسات ويقال الأسطقسات: جمع الأستقس، وهو الشيء البسيط الذي منه يتركب المركب، كالحروف التي منها يتركب الكلام، وكالواحد الذي منه يتركب العدد، وقد يُسمى الأسطقس: الركن. والأسطقسات الأربعة هي: النار والهواء والماء والأرض. وتُسمى: العناصر. «مفاتيح العلوم» (ص 158 - 159) و «دستور العلماء» (2/ 271).
(2)
المقولات العشر: الجوهر والأعراض التسعة: الكم، والكيف، والأين، والمتى، والإضافة، والملك، والوضع، والفعل، والانفعال. «دستور العلماء» (3/ 214).
(3)
كذا في «ح» ، «م» ، وكذا ستأتي (ص 545) أيضًا، ولا يوجد في كتب المنطق مصطلح المختلطات، فالأقرب أنه «المختلفات» أي: القضايا المختلفات.
(4)
القضية الموجهة: عبارة عمَّا كانت النسبة الواقعة بين جزأَيْها مقرونة بالوجوب أو الإمكان أو الامتناع، كقولنا: واجب أن يكون، أو ممكن أن يكون، أو ممتنع أن يكون. «المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين» للآمدي (ص 326).
ولا يعرف الرحمن، ولا يصدق بمعاد الأبدان، ولا أن الله يرسل رسولًا بكلامه إلى نوع الإنسان، فجعَلَ هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل عقل هذا الرجل عيارًا على كتب الله المنزَّلة وما أَرسل به رسله، فما زكَّاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قَبِلوه، وما لم يزكِّه تركوه.
ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء وأتباعهم، صحيحةً لكان صاحب الشريعة يُقوِّم شريعته بها ويكملها باستعمالها، وكان الله سبحانه يُنبِّه
(1)
عليها، ويحضُّ على التمسُّك بها، ويتقدم إلى عباده بالتمسُّك بها وبعلمها
(2)
وتعليمها، ويفرض عليهم القيام بها.
فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدِّين من الفلسفة؟!
وأين كلام ربِّ العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعُبَّاد الأصنام والصَّابئين؟!
وأين المعقولات المؤيَّدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا، وأتباع هؤلاء ممَّن لا يُؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟!
وأين العلم المأخوذ عن الوحي النَّازل من عند ربِّ العالمين إلى الشُّبه المأخوذة عن آراء المتهوكين والمتحيرين؟!
فإن أَدْلَوْا بالعقل
(3)
فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء.
(1)
«ح» : «يثيبه» . والمثبت من «م» .
(2)
كذا في «ح» ، وربما كانت:«وتعلمها» .
(3)
أدلى بحجته: أحضرها. «أساس البلاغة» (1/ 296).
وإن أَدْلَوْا برؤسائهم وأئمَّتهم كفرعون ونمرود وبطليموس وأرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم، فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم بهؤلاء وأمثالهم، ويقدمون عقولهم على ما جاءوا به.
ويا للَّهِ العَجَبُ! كيف يُعارَض قول الرَّسول بقول الفيلسوف، وعلى الفيلسوف أن يتبع الرُّسل، وليس على الرُّسل أن تتبع الفيلسوف، فالرَّسول مبعوثٌ، والفيلسوف مبعوثٌ إليه، والوحي حاكمٌ، والعقل محكومٌ عليه؛ ولو كان العقل يُكتفى به لم يكن للوحي فائدة ولا غنًى، على أن منازل الخلق
(1)
متفاوتة في العقل أعظم تفاوت، وأبصارهم مختلفة، وليس العقل بأَسْره في واحدٍ من النَّاس أو طائفةٍ معيَّنةٍ حتى يكون تقديم عقولهم على
(2)
ما جاءت به الرُّسل، بل لكل طائفةٍ معقولٌ مخالفٌ معقولَ الأخرى. فمن أظلم وأشد عداوةً للرسل ممَّن جوَّز لكل طائفةٍ من طوائف العقلاء أن يقدم عقولها على ما جاءت به الرسل؟!
فإن قالوا: إنما نُقدِّم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان، على نصوص الأنبياء. فقد رَمَوُا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه، وهو أنهم جاؤوا بما يخالف العقل الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان. هذا، وقد شهد الله ـ وكفى به شهيدًا ـ وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرُّسل
(3)
هي الطريقة البرهانية المتضمنة للحكمة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد
(1)
«ح» : «الحق» . والمثبت أليق بالسياق.
(2)
«ح» : «عا» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«م» : «الرسول» .
جَّاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [النساء: 173] وقال: {وَأَنزَلَ اَللَّهُ
(1)
عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ} [النساء: 112]. فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي، النَّاطقة
(2)
بالرشد، الدَّاعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب، المبينة لحقائق الأنباء، المعرِّفة بصفات ربِّ الأرض والسماء.
وإن الطريقة
(3)
التقليدية التخمينية الخَرْصية
(4)
هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى، التي ليس مع أصحابها إلَّا الرجوع إلى رجلٍ من يونان
(5)
، كان يعبد الأوثان، ويجحد بالرحمن، فوضع بعقله قانونًا يصحح به بزعمه علوم الخلائق وعقولهم، فلم يستفد به عاقلٌ تصحيحَ مسألةٍ واحدةٍ في شيءٍ من علوم بني آدم، بل ما وُزن به علم إلَّا أفسده، وما برع فيه أحدٌ إلَّا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان. فما استُفيد بهذا العقل العائل إلَّا تعطيل الصَّانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وعن أفعاله، والكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ومن العجب أن هؤلاء الأوقاح جعلوا نصوص الأنبياء من باب الظنون، وهي من الوحي، وجعلوا كلمات المنطقيين وقواعد الفلاسفة والجهمية من باب اليقين، ثم عارضوا بينهما، وقدَّموا هذه على نصوص الأنبياء! فالشريعةُ
(1)
لفظ الجلالة سقط من «ح» .
(2)
«م» : «الناظمة» .
(3)
«الطريقة» ليس في «ح» ، ومثبت من «م» .
(4)
الخرص: الحزر والحدس والتخمين، وقيل: هو التظني فيما لا تستيقنه. «تاج العروس» (17/ 544).
(5)
بعده في «ح» : «فإن» . وهو يقصد أرسطو.
ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلًا، وأعظمهم معرفةً، وأتمهم يقينًا؛ وعقلياتُكم ظهرت من جهة رجالٍ فكَّروا وقدَّروا، وظنوا وخَرَصُوا، وتَعِبوا وما أَغْنَوْا، ونَصَبُوا وما أخذوا، وحاموا وما وردوا، ونسجوا فهلهلوا
(1)
، ومَشَطُوا ففلفلوا
(2)
. سافروا في دَرَك المطالب العالية على غير الطريق فما ربحوا إلَّا أذى السفر، وبحثوا في البلاد بغير دليلٍ فلم يقفوا للمطلوب على عينٍ ولا أثر.
رَضُوا بالدَّعَاوَى وابْتُلُوا بِخَيَالِهِمْ
…
وَخَاضُوا بِحَارَ الْفِكْرِ وَالْقَوْمُ مَا ابْتَلُّوا
فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكانِهِمْ
…
وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا
لَهُمْ كُلَّ وَقْتٍ حَيْرَةٌ بَعْدَ حَيْرَةٍ
…
وَجَهْلٌ عَلَى جَهْلٍ فَلَا بُورِكَ الْجَهْلُ
(3)
الوجه الرَّابع عشر: أن الأُمة اختلفت ضروبًا من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فنونًا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار، وتفرَّقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها، فصارت أصنافًا وفِرَقًا، كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة؛ فما فَزِعَت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف، ولا إلى عقل يخالف صريح النقل، ولا قالت طائفة من هذه الطوائف: عقولنا [ق 46 أ]
(1)
ثوبٌ هَلْهَلٌ: سخيف النسج، وقد هَلْهَل النسَّاج الثوبَ: إذا أرقَّ نَسْجَه وخفَّفه. «الصحاح» (5/ 1852).
(2)
شعر مفلفل: شديد الجعودة. «القاموس المحيط» (ص 1044).
(3)
البيتان الأول والثاني في «ديوان ابن الفارض» (ص 134 - 135) والبيت الأول فيه:
رَضُوا بالأماني وابتُلوا بحُظوظِهِم
…
وخاضوا بحارَ الحبِّ دعوى فما ابتلّوا
مقدَّمة على ما جاء به الرَّسول. وإن أشقَوا
(1)
مذاهبهم بالتأويل لما
(2)
جاء به، فلم تُقدِم طائفةٌ منهم على ما أقدمت عليه هذه الفرقة وقالوا: العقل أولى بالاتباع ممَّا جاء به الرَّسول، ولا قالت فرقة من هذه الفرق لأصحاب هذه المعقولات: أَعِينُونا بما عندكم، واشهدوا لنا وعلينا بما قِبَلكم؛ ولا حققت مقالتها بشهادتهم، ولا استعانت بطريقتهم، ولا وجدت عندها علمًا ومعرفةً لم تجده في كتاب ربِّها وسُنة نبيِّها.
وكما لم تجد أحدًا من فِرَق هذه الأُمة يَفزَع إلى أرباب هذه العقول في شيءٍ من دينها، فكذلك كانت أُمة موسى وعيسى لم تُعَوِّل على هؤلاء في شيءٍ من أمر دينها، بل ما زال أهل الملل يُحذِّرون من هؤلاء أشد التحذير، وينفرون منهم أشد التنفير، عِلمًا بأنهم سُوس الملل وأعداء الرُّسل.
وأنت إذا تأمَّلت أصول الفرق الإسلامية كلها وجدتها متفقةً على تقديم الوحي على العقل، ولم يُؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها عليه هؤلاء من تقديم آرائهم وعقولهم على نصوص الوحي، فإن هذا أساس طريقة أعداء الرُّسل، فهم متفقون على هذا الأصل، ومنهم أُخذ وعنهم تُلقِّي، كما حكى الله سبحانه عنهم في كتابه أنهم عارضوا شرعه ودينه بآرائهم وعقولهم، ولكن الفرق بينهم وبين هؤلاء [أن]
(3)
أولئك جاهَروا بتكذيب الرُّسل ومعاداتهم، وهؤلاء أقرُّوا برسالاتهم، وانتسبوا في الظاهر إليهم، ثم نقضوا ما أقرُّوا به، وقالوا: يجب تقديم عقولنا وآرائنا على ما جاءوا به. فهم أعظم ضررًا على
(1)
كذا في «ح» .
(2)
«ح» : «بما» .
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
الإسلام وأهله من أولئك، لأنهم انتسبوا إليه وأخذوا في هدم قواعده وقلع أَساسه، وهم يتوهمون ويُوهمون أنهم ينصرونه.
الوجه
الخامس عشر: أن التفاوت الذي بين الرُّسل وبين أرباب هذه المعقولات أعظم بكثيرٍ من التفاوت الذي بين هؤلاء وبين أجهل النَّاس على الإطلاق،
فإن هذا الجاهل يمكنه مع الطلب والتعليم أن يصير عالمًا بما عند هؤلاء، ولا يمكن أشدَّ هؤلاء حرصًا وذكاءً وقوةً وفراغًا أن يصير نبيًّا؛ فإن النبوة خاصةٌ من الله، يختصُّ بها من يشاء من عباده، لا تُنال بكَسْبٍ ولا باجتهادٍ. فإذا علم الإنسان بعقله أن هذا الرَّسول، وعلم أنه أخبر بشيءٍ، ووجد في عقله ما يُنافي خبره؛ كان الواجب عليه أن يُسلِّم لما أخبر به الصَّادق الذي هو أعلم منه، وينقاد له، ويتهم عقله، ويعلم أن عقله بالنسبة إليه أقل من عقل أجهل الخلق بالنسبة إليه هو، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه أعظم بكثير كثير من التفاوت الذي بين [من]
(1)
لا خبرة له بصناعة الطب ومن هو أعلم أهل زمانه بها.
فيا للَّهِ العَجَبُ! إذا كان عقله يُوجب عليه أن ينقاد لطبيبٍ يهوديٍّ فيما يخبر به من قُوى الأدوية والأغذية والأشربة والأضمدة والمُسْهِلات
(2)
وصفاتها وكَمِّياتها ودرجاتها، مع ما عليه في ذلك من الكلفة والألم ومقاساة المكروهات؛ لظنِّه أن هذا اليهودي أعلم بهذا الشأن منه، وأنه إذا صدَّقه كان في تصديقه حصول الشفاء والعافية، مع علمه بأنه يُخطئ كثيرًا، وأن كثيرًا من
(1)
زيادة ليستقيم الكلام.
(2)
«ح» : «المستهلات» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 141). يقال: أُسهل بطنه، وأسهله الدواء: ألان بطنه، وهذا دواء مُسْهِل. «تاج العروس» (29/ 235 (.
النَّاس لا يُشفى بما يصفه الطبيب، بل يكون استعماله لما يصفه سببًا من أسباب هلاكه، وأن [من]
(1)
أسباب الموت أغلاط الأطباء، فكم لهم من قتيلٍ أسكنوه المقابر بغلطهم وخطئهم، وإن كان خطأُ الطبيب إصابةَ المقادير.
وكيف لا يسلك هذا المسلك مع الرُّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وهم الصَّادقون المَصْدُوقون، ولا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به، والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال المركب والبسيط ما لا يُحصيه إلَّا من هو بكل شيءٍ محيطٌ.
الوجه السَّادس عشر: أن يُقال: تقديم العقول على الأدلة الشرعية ممتنعٌ متناقضٌ، وأمَّا تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكنٌ مؤتلفٌ، فوجب الثَّاني، وامتنع الأول.
بيانه: أن كون
(2)
الشيء معلومًا بالعقل أو غير معلومٍ بالعقل ليس هو صفة لازمة لشيءٍ من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيدًا قد يعلم بعقله ما لا يعلمه [بكر]
(3)
بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال تعقُّله ما يجهله في وقتٍ آخر.
والمسائل التي يُقال قد تعارض فيها العقل والشرع جميعًا قد اضطرب فيها أرباب العقل، ولم يتفقوا فيها على أمرٍ واحدٍ، بل كلٌّ منهم يقول: إن
(1)
سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «يكون» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 145).
(3)
«ح» : «ممكن» . والمثبت من «درء التعارض» .
العقل أَثبَتَ، أو أَوجَبَ، أو سوَّغَ ما يقول الآخر إن العقل نفاه، أو أحاله، أو منع منه. بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلومٍ بالضرورة العقلية. وأبلغ من هذا أن يدَّعي بعضهم أن هذا مُحال بضرورة
(1)
العقل، فيدَّعي الآخر أنه ممكن بضرورة العقل.
فأكثر العقلاء [ق 46 ب] يقولون: نحن نعلم بضرورة العقل امتناع رؤيا مرئيٍّ من غير معاينةٍ ومقابلةٍ. ويقول آخرون من المنتسبين إلى المعقولات: بل ذلك ممكنٌ لا يُحيله العقل.
ويقول أكثر العقلاء: نحن نعلم أن حدوث حادثٍ بلا سبب حادث ممتنعٌ. ويقول آخرون: بل ذلك ممكن.
ويقول أكثر العقلاء: إن كون العالِم عالِمًا بلا علمٍ، وحيًّا بلا حياةٍ، ومريدًا بلا إرادة، وسميعًا بصيرًا بلا سمعٍ ولا بصرٍ؛ مُحال بضرورة العقل. وآخرون يقولون: بل هو ممكنٌ غير مستحيلٍ، بل هو الواجب في حقِّ الله عز وجل.
ويقول جمهور العقلاء: إن كون
(2)
المعنى الواحد أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ممتنع في ضرورة العقل. وآخرون يقولون: هو ممكنٌ واقعٌ.
وجمهور العقلاء يقولون: إن إثبات موجودَينِ قائمَينِ بأنفسهما ليس أحدهما مباينًا للآخر ولا محايثًا له، ولا داخلًا فيه ولا خارجًا عنه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه؛ مكابرةٌ لصريح العقل. وآخرون يقولون: بل
(1)
«ح» : «بالضرورة» .
(2)
«ح» : «يكون» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 145).
هو ممكنٌ واجبٌ في العقل.
وجمهور العقلاء يقولون: إن إثبات كون المريد مريدًا بإرادةٍ لا في محلٍّ ممتنعٌ في ضرورة العقل. وآخرون ينازعوهم في ذلك.
وجمهور العقلاء يقولون: إن الحروف والأصوات من المتكلم الواحد مقترنة بعضها ببعض في آنٍ واحدٍ محالٌ بضرورة العقل. وآخرون يقولون: بل هو ممكنٌ، بل واجبٌ في حق القديم.
إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا. فلو قيل بتقديم العقل على نصوص الوحي ـ وهذا شأن العقل ـ لزم المحال، واجتماع النقيضين، وأُحيل
(1)
النَّاس على شيءٍ لا سبيل لهم إلى ثبوته ومعرفته.
وأمَّا الوحي فهو قول الصَّادق، وهو صفةٌ لازمةٌ لا تختلف باختلاف أحوال النَّاس، والعلم بذلك ممكنٌ، وردُّ النَّاس إليه ممكنٌ. ولهذا جاء الوحي من الله سبحانه بردِّ النَّاس عند التنازع إلى كتابه وسُنة رسوله، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اُللَّهَ وَأَطِيعُوا اُلرَّسُولَ وَأُوْلِي اِلْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58]. فأَمَرَ المؤمنين عند التنازع بالردِّ إلى كتابه وسُنة رسوله، وهذا نصٌّ في تقديم السمع. قال هؤلاء: بل الواجب الردُّ إلى العقل، وردُّ السمع إن عارضه. ولو رُدَّ النَّاس الأمر عند النِّزاع إلى عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم لم يزدهم هذا الردُّ إلَّا اختلافًا واضطرابًا وشكًّا وارتيابًا.
(1)
«ح» : «أو جبل» .
فلا يمكن الحكم بين النَّاس في موارد النِّزاع والاختلاف على الإطلاق إلَّا بكتابٍ منزَّلٍ من السماء يرجع الجميع إلى حكمه، وإلَّا فكل واحدٍ من أرباب المعقولات يقول: عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي، وهذا يُدْلي بمعقولٍ، وهذا يُدلي بمعقولٍ.
الوجه
السَّابع عشر: أن الله سبحانه قد تمَّم الدِّين بنبيه صلى الله عليه وسلم، وأكمله به، ولم يُحْوِجْه ولا أُمتَه بعده إلى عقلٍ ولا نقلٍ سواه،
ولا رأيٍ ولا منامٍ ولا كشوفٍ. قال تعالى: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وأنكر على من لم يكتفِ بالوحي من غيره؛ فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. ذكر هذا جوابًا لطلبهم آيةً تدلُّ على صدقه، فأخبر أنه يكفيهم من كل آيةٍ، فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلًا على صدقه، فضلًا عن أن يكون كافيًا. وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آيةً وبرهانًا على صحة النبوة.
والمقصود أن الله سبحانه تمَّم الدِّين وأكمله بنبيه وما بعثه به، فلم يُحْوِجْ أُمته إلى سواه، فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيًا للأُمة، ولا كان تامًّا في نفسه.
(1)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب
(1)
«المراسيل» (454) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بكتابٍ في كتفٍ فقال:«كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابهم إلى نبي غير نبيهم» . فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} .
والحديث أخرجه الدارمي في «مسنده» (495) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (9/ 3072) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1485) من طريق ابن عيينة به.
وأخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 429) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار به مرسلًا.
وخالف إبراهيم بن يزيد الخوزي ابن عيينة وابن جريج؛ فرواه عن عمرو عن يحيى عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه الإسماعيلي في «معجمه» (384) وإبراهيم متروك الحديث، ولا يلتفت لمخالفته.
وليس في طرق هذا الحديث أن الذي جاء بالكتاب عمر رضي الله عنه، ولعل المصنف عنى ما أخرجه أحمد (15156) وغيره، أو ما في «المراسيل» لأبي داود (455) عن أبي قلابة، وفي أسانيدها كلام، وينظر «مسند الفاروق» (2/ 544 - 548).
ورقةً فيها شيءٌ من التوراة فقال: «كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ تَبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ، أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ» . فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
وقال سبحانه: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64] فأقسم سبحانه بنفسه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى فيها حرجٌ، ونُسلِّم لحكمه تسليمًا؛ فلا نعارضه بعقلٍ ولا رأيٍ ولا هوًى ولا غيره. فقد أقسم الربُّ سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يُقدِّمون العقل على ما جاء به الرَّسول، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه، وإن آمنوا بلفظه.
وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8]. وهذا نصٌّ صريحٌ في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردودٌ [ق 47 أ] إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله، فلو قُدِّم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه.
وقال تعالى: {اَتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 2] فأمر باتِّباع الوحي المنزَّل وَحْدَه، ونهى عن اتِّباع ما خالفه.
وأخبر سبحانه أن كتابه بيِّنةٌ وشفاءٌ وهدًى ورحمةٌ ونورٌ وفصلٌ وبرهانٌ وحجةٌ وبيانٌ
(1)
، فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيءٌ من ذلك، بل كانت هذه الصِّفات للعقل دونه، وكان عنها بمعزلٍ؛ فكيف يَشفِي ويهدي ويُبيِّن ويُفصِّل ما يعارضه صريح العقل؟!
الوجه
الثَّامن عشر: أن ما عُلم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لا يُتصوَّر أن يُعارضه الشرع البتَّة، ولا يأتي بخلافه،
ومن تأمَّل ذلك فيما تنازع
(2)
العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خالفت النصوص الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً، يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للنقل.
فتأمَّل ذلك في مسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، تجد ما يدلُّ عليه صريح العقل لم يخالفه سمعٌ قط، بل السمع الذي يخالفه إمَّا أن يكون حديثًا موضوعًا، أو لا تكون دلالته مخالفة لِمَا دل عليه العقل.
ونحن نعلم قطعًا أن الرُّسل لا يُخبرون بمُحال
(1)
العقول، وإن أخبروا بمحارات العقول
(2)
، فلا يخبرون بما يُحيله العقل، وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته.
ومن تأمَّل أدلة نُفاة الصِّفات والأفعال والقدر والحكمة والمعاد وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها، ولله الحمد.
الوجه
التَّاسع عشر: أن المسائل التي يُقال إنه قد تعارَض فيها العقل والسمع [ليست]
(3)
من المسائل المعلومة بصريح العقل
كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية، فلم يجئ في القرآن ولا في السُّنَّة حرفٌ واحدٌ يخالف العقل في هذا الباب. وما جاء من ذلك فهو مكذوبٌ ومفترًى كحديث:«إن الله لمَّا أراد أن يخلق نفسه خَلَقَ خيلًا فأجراها فعَرِقت، فخلق نفسه من ذلك العرق»
(4)
، وحديث: «نزوله عشية عرفة على جمل أورق
(1)
«م» : «بمحالات» .
(2)
«العقول» ليس في «ح» . وأثبته من «م» .
(3)
من «درء التعارض» (1/ 148).
(4)
أخرجه الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (53) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 105) وهو حديث باطل لا أصل له، قال الجورقاني:«هذا حديث موضوع، باطل كفر، لا أصل له عند العلماء، ما قاله رسول الله (، ولا رواه عنه أبو هريرة» . وقال الدارمي في «نقضه على المريسي» (2/ 661): «وما يستنكر هذا الحديث أنه محال المعنى، بل هو كفرٌ لا ينقاد ولا ينقاس، فكيف خلق الخيل التي عرقت قبل أن تكون نفسه في دعواك؟ ويحك أيها المعارض! إنا نكفِّر من يقول: إن كلام الله مخلوق، فكيف من قال: نفسه» . وقال الذهبي في «تلخيص الموضوعات» (ص 18): «لعن الله من وضعه» .
يصافح الركبان، ويعانق المشاة»
(1)
.
وكقول اليهود: إنه سبحانه [بكى]
(2)
على الطوفان حتى رمد، وعادَتْه الملائكة، وإنه ندم على ذلك حتى عض أصابعه، وإنه تَبَدَّى لإسرائيل وصارعه.
وكقول النصارى: إنه اتخذ مريم زوجةً، وأَوْلَدَها عيسى، فهي صاحبته، وعيسى ابنه. تعالى الله عمَّا يقول أعداؤه فيه علوًّا كبيرًا.
وكقولهم: إنه نزل عن كرسي عظمته ودخل في فرج مريم والتحم بناسوت المسيح.
وقول مشركي العرب: إنه صاهَرَ الجن فولدت له الملائكة.
وأمثال ذلك من الأقوال المخالفة لصريح العقل.
فكيف يجعل ما أثبته الله لنفسه في كتابه من صفاته وأفعاله، وما صحَّ عن رسوله أنه أثبته له من علوه فوق سماواته على عرشه واستوائه عليه، وتكلمه وتكليمه، وثبوت علمه وقدرته، وحياته وسمعه وبصره ووجهه الأعلى،
(1)
أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» (27/ 396) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 180) بنحوه. وقال ابن عساكر: «كتبه أبو بكر الخطيب الحافظ عن الأهوازي متعجبًا من نكارته، وهو حديث موضوع لا أصل له» . وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يشك أحد في أنه موضوع محال، لا يحتاج لاستحالته أن ينظر في رجاله» . وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 149) عن هذا الحديث وسابقه: «هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم» . وينظر «ميزان الاعتدال» (1/ 513) و «السلسلة الضعيفة» (6330).
(2)
زدته من «درء التعارض» (6/ 348) و «هداية الحيارى» (ص 305).
ورحمته وغضبه ورضاه وفرحه وضحكه، ويديه
(1)
اللتين
(2)
يمسك بإحديهما السماوات السبع وبالأخرى الأرضين السبع ثم يهزهن، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ونحو ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله= كيف يجعل هذا بمنزلة ذاك في مخالفة كلٍّ منهما لصريح العقل، ويجعل إثبات هذا كإثبات ذلك، ووصفه بهذا كوصفه بذاك كما صرَّح به النُّفاة، وقالوا: إن هذا تشبيهٌ وتجسيمٌ، فلا فرق بينه وبين ذاك التشبيه والتجسيم؟ فلْيَبْكِ على عقله وما أُصيب به من سوَّى بين الأمرين، أحسن الله عزاءه في عقله، ولا بورك له في علمٍ هذه غايته التي لا يرضاها أعظم النَّاس انغماسًا في جهله!
الوجه
العشرون: أنه لا يُعلم آيةٌ من كتاب الله ولا نصٌّ صحيحٌ عن رسول الله في باب أصول الدِّين اجتمعت الأُمة على خلافه،
وغاية ما يقدر اختلاف الأمة في القول بموجبه. ومن
(3)
له خبرة بمذاهب النَّاس وأقوال السلف يعلم قطعًا أن الأُمة أجمعت على القول به قبل ظهور المخالف، كما أجمعت بأن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته، وأن المؤمنين يرونه عيانًا بالأبصار من فوقهم في الجنة، وأنه سبحانه كلَّم نبيه موسى منه إليه بلا واسطة تكليمًا سمع به كلامه، ولم يشكَّ أنه هو الذي كان يكلمه، وأنه كتب مقادير الخلائق وقدَّرها قبل أن يخلقهم، وأنه علم ما هم عاملوه قبل أن يعملوه [ق 47 ب] وأنه يُحبُّ ويبغض، ويرضى ويغضب، ويضحك ويفرح، وأن له وجهًا ويدَينِ.
(1)
زيادة يستقيم بها السياق.
(2)
«ح» : «التي» .
(3)
«ح» : «ولا فيمن» .
فهذا إجماعٌ معلومٌ متيقَّنٌ عند جميع أهل السُّنَّة والحديث، فالعقل الذي يعارِض هذا لم تُجمع عليه الأُمة، ولم يُعرف عن رجلٍ واحدٍ من السلف والأئمة أنه قاله. وغايته أن يكون عقل فرقةٍ من الفرق، اشتقَّتْ لأنفسها مذهبًا، وادَّعت له معقولًا، فلما صالت عليها نصوص الوحي التجأت إلى العقل، وادَّعت أنه يخالفها، وصَدَقَتْ وكَذَبَتْ.
أمَّا صدقها فإن نصوص الوحي تخالف معقولها هي، وذلك من أدلِّ دليل على فساده في نفسه إذ شهدت له نصوص الوحي بالبطلان. وأمَّا كَذِبها فزعْمها أن نصوص الوحي تخالف العقل المتفق عليه بين العقلاء، فهذا لم يقع ولا يقع ما دامت السماء سماءً والأرض أرضًا، بل تزول السماء والأرض وهذا لا يكون!
فأي ذنبٍ للنصوص إذا خالفت عقول بعض النَّاس، فقد وافقت عقول أصحِّ النَّاس عقلًا، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكافِرِينَ (90) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اُقْتَدِهْ} [الأنعام: 90 - 91].
الوجه
الحادي والعشرون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخَّره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه:«اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في السُّنَّة فبما قضى به الصَّالحون قبلك»
(1)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10885) وابن أبي شيبة في «المصنف» (23444) والدارمي في «مسنده» (169) والنسائي (5399) والضياء في «المختارة» (1/ 238) ولكنه في كتاب عمر رضي الله عنه إلى شريح، وليس في كتابه لأبي موسى رضي الله عنه.
وهذا السلوك هو كان سلوك الصَّحابة والتَّابعين ومن درج على آثارهم من الأئمة، أول ما يطلبون النَّازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يَعْدُوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصابوها لم يَعْدُوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء.
وقد صان الله الأُمة أن تُجمع على خطأ، أو على ما يُعلم بطلانه بصريح العقل. فإذا كان الإجماع معصومًا أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح ـ بل إذا وجدنا معقولًا يخالفه الإجماع علمنا قطعًا أنه معقولٌ فاسدٌ ـ فلَأن يُصان كتاب الله وسُنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.
الوجه
الثَّاني والعشرون: أنه إذا قُدِّر تعارض العقل والكتاب، فردُّ العقل الذي لم يُضمن
(1)
لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.
الوجه الثَّالث والعشرون: أن هؤلاء الخائضين في صفات الربِّ وأفعاله وما يجوز عليه وما لا يجوز بآرائهم وعقولهم تراهم مختلفين متنازعين حيارى متهوِّكين. وحاصل ما مع أكثرهم حُسن الظنِّ بإمامه الذي سلك طريقته وتقليده في أصوله، وهو يرى بعقله خلافها، ويستشكلها ويُقرُّ بأنها مشكلةٌ جدًّا، ثم يُنكَس على رأسه ويقول: هو أعلم بالمعقول مني.
فنجد أتباع أرسطو ـ الملحد المشرك عابد الأوثان ـ يتبعونه فيما وضعه لهم من قواعد المنطق والطبيعي والإلهي، وكثيرٌ منهم يرى بعقله نقيض ما
(1)
«ح» : «يتضمن» .
قاله، ولكن لحُسن
(1)
ظنِّه به يتوقف في مخالفته، وينسب التقصير إلى فهمه والنقص إلى عقله؛ لعظمة أرسطو في نفسه، ولعلمه بأنه أعقل منه.
وهكذا شأن جميع أرباب المقالات والمذاهب، يرى أحدهم في كلام متبوعه ومن يُقلِّده ما هو باطلٌ، وهو يتوقف في ردِّ ذلك لاعتقاده أن إمامه وشيخه أكمل منه علمًا، وأوفر عقلًا. هذا مع علمه وعلم العقلاء أن متبوعه وشيخه ليس بمعصومٍ من الخطأ.
فهلَّا سلكوا هذا المسلك مع نبيهم ورسولهم، المضمون له العصمة، المعلوم صِدْقُه في كل ما يُخبر به! وهلَّا قالوا: عقله أوفر من عقولنا، وعلمه أصحُّ من علومنا، فنحن ننكر
(2)
معقولًا يخالفه، ونردُّه ولا نقبله، كما فعلوه مع شيوخهم ومتبوعيهم! ولكن {مَن يُرِدِ اِللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اِللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اِلدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي اِلْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 43].
الوجه الرَّابع والعشرون: أن كلَّ مَن أَعرَضَ عن السمع لظنِّه أن العقل يخالفه إمَّا بكون
(3)
أدلته لا تُفيد اليقين، أو لأنه خاطب الخلق خطابًا جمهوريًّا تخييليًّا، لا خطابًا برهانيًّا؛ تجد بينهم من النِّزاع والتفرُّق والشهادة مِن بعضهم على بعضٍ بالضلالة بحسَب إعراضهم عن السمع، وكل مَن كان عنه أَبعَدَ كان قوله أَفسَدَ، واختلاف طائفته أشد.
(1)
«ح» : «يحسن» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 151).
(2)
«ح» : «نتنكل» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «إذ يكون» . تحريف.
فالمعتزلة أكثر اختلافًا من متكلِّمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النِّزاع ما يطول ذكره، والبصريون أقرب إلى الإثبات والسُّنَّة من البغداديين، فالبصريون يُثبتون [ق 48 أ] كونه سبحانه سميعًا بصيرًا حيًّا عالمًا قديرًا، ويُثبتون له الإرادة، ولا يوجبون عليه الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يُؤثِّمون المجتهدين. ثم بين المشايخية
(1)
والحسينية
(2)
من النِّزاع ما هو معروف.
وأمَّا الشيعة فأعظم تفرُّقًا واختلافًا من المعتزلة، حتى قيل: إنهم يبلغون ثنتين وسبعين فرقة؛ وذلك لأنهم أبعد طوائف الملة عن السُّنَّة.
وأمَّا الفلاسفة فلا يَجمَعهم جامعٌ، فتلاعب بالنبوات، ولا تقف مع حدودها، وقُلْ بعقلك ما شئت، وقد صرت فيلسوفًا حكيمًا! وهم أعظم اختلافًا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى، والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا هي فلسفة المشَّائين أتباع أرسطو صاحب المنطق، وبينه وبين سلفه من النِّزاع ما يطول ذكره، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة فلو حُكي لك اختلافهم في علم الهيئة وحدَه لرأيت العجب العُجاب. هذا والهيئة علم رياضي حسابي، هو من أصحِّ علومهم، فكيف باختلافهم في الطبيعيات، فكيف بالإلهيات؟!
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية
(1)
المشايخية: أتباع أبي علي وأبي هاشم الجبائيين. كما ذكر المصنِّف في «شفاء العليل» (ص 145).
(2)
«ح» : «الحسنية» . والمثبت من «درء التعارض» (1/ 157) وعرَّفهم ابن تيمية بقوله: «أتباع أبي الحسين البصري» . وقد مر ذكر أبي الحسين البصري (ص 465).
والطبيعية، كما نقله الأشعري في كتاب «مقالات غير الإسلاميين» وابن الباقلاني في كتاب «الدقائق» . وفي هذين الكتابين من الاختلاف بينهم أضعاف ما ذكره الشهرستاني وابن الخطيب. والكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم وهو «المجسطي» لبطليموس فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليلٌ صحيحٌ، وقضايا ينازعه فيها غيره، وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب، وفيه قضايا برهانية صادقة، وهذا من أجود علومهم وأصحها.
وأمَّا الطبيعيات ففيها من الاضطراب والاختلاف ما لا يكاد يُحصى، وهو أكثر من أن يُذكر، هذا وهو أقرب إلى الحسِّ
(1)
من العلم الإلهي.
وأمَّا الإلهيات فإذا شئت مثالًا يُقرِّب إليك حالهم فمَثَلُهم كمثل قومٍ نزلوا بفلاة من الأرض في ليلة ظلماء، فهجم عليهم العدوُّ، فقاموا في الظلمة هاربين على وجوههم في كل ناحيةٍ! ولا إله إلَّا الله، كم
(2)
لهم فيه من خبطٍ وخرصٍ وتخمينٍ! وليسوا متفقين فيه على شيءٍ أصلًا، وأساطينهم قد صرَّحوا بأنهم لا يصلون فيه إلى اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأَخْلَق
(3)
. ولهذا ظهر في السَّالكين خلفهم من الحَيْرة والتوقُّف والاعتراف بأنهم لم يصلوا إلى شيءٍ ما فيه عبرة لأهل الوحي أتباع الرُّسل المقدِّمين لما نزل به الوحي على عقول هؤلاء وأشباههم. وقد تقدَّم إقرار الشهرستاني وابن الخطيب وابن أبي الحديد والخونجي والجويني وغيرهم
(1)
«ح» : «الجنس» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «كمن» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «ولا خلق» . والأخلق: الأجدر والأولى. «المعجم الوسيط» (1/ 252).
على أنفسهم بذلك
(1)
.
وقد قال ابن رشد ـ وهو من أعلم النَّاس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم ـ في كتابه «تهافت التهافت»
(2)
: «ومَن الذي قال في الإلهيات شيئًا يُعتدُّ به» .
وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي واقف في المسائل
(3)
الكبار، يذكر حُجج الطوائف، ويبقى واقفًا حائرًا، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء {وَمَن يُضْلِلِ اِللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 87].
وهذا صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها
(4)
مِن فَرْط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الوقف والحَيْرة، ثم أَعرَضَ عن تلك الطُّرق، وأقبل على طريقة أهل الحديث، وأقبل على «صحيح البخاري» فمات وهو على صدره.
وحدثني شيخ الإسلام قال: حكى لي بعض الأذكياء ـ وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي ـ أنه قال له الشيخ:«أضطجعُ على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأُقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجَّح عندي شيءٌ»
(5)
.
ولهذا ذهب طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة، ومعناه أنها
(1)
تقدم في مقدمة الكتاب (ص 16 - 17).
(2)
لم أقف عليه في «تهافت التهافت» ، ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 162).
(3)
«ح» : «مسائل» . والمثبت من «درء التعارض» .
(4)
يقصد أبا حامد الغزالي، وقد صرَّح به ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 162).
(5)
«درء التعارض» (1/ 165، 3/ 363 - 364).
قد تكافأت وتعارضت فلم يُعرف الحق من الباطل، وصَدَقوا وكَذَبوا، أمَّا صِدْقهم فإن أدلتهم وطُرُقهم قد تكافأت وتصادمت حتى قال شاعرهم
(1)
:
وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى
…
فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ
ولقد صدق هذا الأعمى البصر والبصيرة، ووصف حال القوم فأحسن والله الصفه
(2)
، وعبَّر عن حالهم بأشد عبارةٍ مطابقة، بزُمرة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون
(3)
ويتصادمون.
وأمَّا كَذِبهم فإن أدلة الحقِّ وشُبَه الباطل لا تتكافأ حتى يتكافأ الضوء والظلام، والبياض والسواد، والمسك وأنتن الجِيَف. فسبحان من أعمى عن الحق بصائر من شاء من خلقه، كما أعمى عن الشمس أبصار من شاء منهم، فالذنب لتلك البصائر لا للحق، كما أن الحِجاب في تلك العيون لا في الشمس. ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء وبصائرهم أنها بمنزلة أبصار الخفاش يَعجِز عن ضوء النهار، ولا تفتح أعيُنَها فيه [ق 48 ب] ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء.
ولهذا تجد أكثر هؤلاء لمَّا لم يتبيَّن له الهدى في شيءٍ من تلك الطرق نكص على عقبَيْه، وخَلَعَ العِذَارَ، ونزع قيد الشريعة من قلبه، وأقبل على شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله، فأقبل على اللذات، وسماع
(1)
البيت لأبي العلاء المعري، وقد تقدم (ص 145).
(2)
«ح» : «الفقه» . والصفة: الوصف.
(3)
تهاوش القوم تهاوشًا: إذا اختلطوا في الفتن واضطربوا. «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/ 376).
المطربات، ومعاشرة الصور المستحسَنات. وذلك لخُلُوِّ قلبه عن حقائق العلم والإيمان الذي بعث الله به رسوله، فلم يصل إليه، ولا وصل من طرق أصحابه إلَّا إلى الشك والحَيْرة. فهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ} [النجم: 23] فعلومهم ظنون {وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وإرادتهم هوى نفوسهم، وعلومهم تدعو إلى إرادتهم، وإرادتهم تدعو إلى علومهم، فإن اتِّباع الهوى يصدُّ عن الحقِّ، ويضل عن سبيل الله، فتولَّوْا عن القرآن، وآثروا عاجل الدنيا. وهؤلاء الذين أمر الله رسوله بالإعراض عنهم بعد إقامة الحُجة عليهم، فقال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيا (28) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ} [النجم: 28 - 29].
الوجه الخامس والعشرون: أن الله سبحانه لمَّا أَهبَطَ الأبوَينِ من الجنة عَهِدَ إليهما عهدًا تناولهما وتناول ذريتهما إلى يوم القيامة، وضمن لمَن تمسَّك بعهده أنه لا يَضِلُّ ولا يشقى، ولمَن أَعرَضَ عنه الضلال والشقاء؛ فقال تعالى: {قَالَ اَهْبِطَا
(1)
مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
(2)
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى (120) فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى (122) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (123) * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنسى} [طه: 120 - 124]. قال ابن عباسٍ: «تكفَّل الله لمَن قرأ القرآن
وعمل بما فيه ألَّا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة». ثم قرأ هذه الآية
(1)
.
وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} يتناول الذِّكر الذي أنزله، وهو الهدى الذي جاءت به الرُّسل. ويدلُّ عليه سياق الكلام، وهو قوله:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} فهذا هو الإعراض عن ذِكْره. فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل مَن قلَّده وأحسن الظن به؟! فكما أنه لا يكون مؤمنًا إلَّا من قبله وانقاد له، فمَن أعرض عنه وعارضه من أبعد النَّاس عن الإيمان به.
الوجه السَّادس والعشرون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسُّنَّة قد شهد الله ورسوله له بالضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضلَّه الله
(2)
مقدَّمًا على كتاب الله وسنة رسوله؟!
قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيَه: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اُللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اِللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 22] وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 154].
وقال فيمن قدَّم عقله على ما جاء به: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23] والقرآن مملوءٌ بوصف مَن قدَّم عقله على ما جاء به بالضلال
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6033) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30576، 35926) والطبري في «التفسير» (16/ 191).
(2)
بعده في «ح» : «أنه» . وهي زائدة.
(3)
«ح» : «من الضلال» . والمثبت هو الصواب.
وروى الترمذي
(1)
الوجه السَّابع والعشرون: أن ما عارض به هؤلاء نصوص الأنبياء من المعقولات قد شهدوا على أنفسهم بالحَيْرة والشك فيها، وأنهم لم يجزموا فيها بشيءٍ، ولم يظفروا منها بعلمٍ ولا يقينٍ ـ كما تقدم ذكر اليسير منه عن أفاضلهم
(2)
ـ وشهد به عليهم تناقضهم واضطرابهم واختلافهم، فإن ما كان من عند غير الله لا بد أن يقع فيه الاختلاف الكثير، وشهد عليهم بذلك أتباع الرَّسول، وشهد به عليهم مَن هو على كل شيءٍ شهيدٌ، وسيشهد به عليهم يوم
(1)
«جامع الترمذي» (2906). وأخرجه الدارمي في «مسنده» (3374) والبزار في «مسنده» (836) والطبراني في «المعجم الكبير» (20/ 84) من طريق ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال» .
(2)
تقدم في مقدمة الكتاب (ص 16 - 17).
القيامة مَن أُنزل عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وشهد به عليهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، وشهد به عليهم أدلة العقول الصريحة الموافقة للنصوص.
فهل عندهم مثل هؤلاء الشهود على صحة العقل الذي عارضوا به نصوص الأنبياء؟! نعم شهودهم أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وأبو الهُذَيْل العلَّاف والنظَّام، وأوقاح الجهمية والمعتزلة، وأفراخ الصَّابئين والمجوس.
ومن تعارضت عنده هذه البينات فلا
(1)
ننكر له أن يتعارض عنده العقل [ق 49 أ] والنقل، وأن يقدِّم العقل على النقل.
الوجه الثَّامن والعشرون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم ـ وكفى به شهيدًا ـ بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرةٍ وبينةٍ من ربهم، وأنهم هم أولو العقول والألباب والبصائر، وأن لهم نورًا على نورٍ، وأنهم المهتدون المفلحون. قال تعالى في حقِّ الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم:{الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (1) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (2) وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 4].
وقال: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وهذا دليلٌ ظاهرٌ أن الذي نراه
(1)
«ح» : «ولا» .
معارضًا للنقل
(1)
ويقدِّم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قَبيلٍ ولا دَبيرٍ
(2)
، ولا قليلٍ ولا كثيرٍ.
وقال: {* أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 21]. وهذه شهادةٌ من الله على عمى هؤلاء، وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم.
وقال: {* اَللَّهُ نُورُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اِلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ اِلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دِرِّيءٌ تَوَقَّدَ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اِللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اُللَّهُ اُلْأَمْثَالَ لِلنّاسِ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وصِدْق رُسُله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفِطَرهم التي أبصروا بها نور الإيمان؛ بهذا المَثَل المتضمِّن لأعلى أنواع النور المشهود، وأنه نورٌ على نورٍ، نور الوحي ونور العقل، نور الشرعة ونور الفِطْرة، نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 49].
وقال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
(1)
«ح» : «للعقل» .
(2)
يقال: فلان ما يدري قبيلا من دبير: أي ما يدري شيئًا. «لسان العرب» (4/ 271).
اِلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي اِلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 123].
وقال تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
وقال تعالى: {اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (255) وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلنّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 255 - 256].
ثم أخبر سبحانه عن حال المُعْرِضين عن هذا النور المعارضين للوحي بالعقل بمَثليْنِ، يتضمن أحدهما وَصْفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط؛ لأنهم بين ناظرٍ وباحثٍ ومقدِّرٍ ومفكرٍ، وبين مقلِّدٍ يحسن الظن بهم، فقال في الطَّائفتين:{وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ (38) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 38 - 39].
الوجه التَّاسع والعشرون: أن يُقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، وإبطالهما معًا
(1)
إبطال للنقيضين. وتقديم العقل ممتنعٌ لأن العقل قد دلَّ على صحة السمع، ووجوب قَبول ما أخبر به الرَّسول، فلو أبطلنا النقل لكُنَّا قد أبطلنا
(1)
«ح» : «مع» .
دلالة العقل، وإذا بَطَلت دلالته لم يصلح أن يكون معارضًا
(1)
للنقل؛ لأن ما ليس بدليلٍ لا يصلح لمعارضة الدليل، فكان تقديم العقل موجبًا لعدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بيِّن جدًّا فإن العقل هو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره
(2)
مطابقٌ لمخبره، فإمَّا أن تكون هذه الدلالة صحيحة أو باطلة، فإن كانت صحيحة امتنع أن يكون في العقل ما يبطلها، وإن كانت باطلة لزم ألَّا يكون العقل دليلًا صحيحًا، وإذا لم يكن دليلًا صحيحًا لم يتبع بحالٍ، فضلًا أن يُقدَّم على الدليل السمعي الصحيح، فصار تقديم العقل على النقل قدحًا في العقل؛ بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، وذلك يمنع معارضته = استحال تقديمه عند المعارضة، لأن تقديمه عند المعارضة يبطل المعارضة، وذلك يحيل المسألة من أصلها. يوضحه:
الوجه الثلاثون: وهو أن يُقال: معارضة العقل لما دلَّ العقل على أنه حقٌّ دليلٌ على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها. وأمَّا السمع فلم يُعلم فساد دلالته، ولا تعارضها وتناقضها في نفسها، وإن قُدر أنه لم يعلم صحتها، وإذا تعارض دليلان: أحدهما عَلِمنا فساده، والآخر لم نعلم فساده، كان تقديم ما لم يُعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يُعلم فساده، وهذا كالشَّاهد إذا عُلِم كَذِبه وفِسْقه لم يَجُزْ تقديم شهادته على شاهدٍ مجهولٍ لم يُعلم كذبه، فكيف إذا كان [ق 49 ب] الشَّاهد الكاذب هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟!
(1)
«ح» : «تعارضا» .
(2)
«ح» : «أخبره» .
والعقل إذا صَدَّقَ السمع في كل ما يُخبر به، ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، قد شهد للسمع بأنه يجب قبول قوله، وشهد له بأنه لا يجوز قبول قوله، وشهد له بأن ما أخبر به حقٌّ، وشهد بأن ما أخبر به ليس بحقٍّ. وهذا قدحٌ في شهادته مطلقًا وفي تزكيته، ولا تقبل شهادته الأولى ولا الثَّانية. يوضحه:
الوجه
الحادي والثلاثون: أن الآيات والبراهين اليقينية والأدلة القطعية قد دلت على صدق الرُّسل،
وأنهم لا يُخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلَّا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلِّغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات الإيمان. فمتى
(1)
علم المؤمن بالرَّسول أنه أخبر بشيءٍ من ذلك جَزَمَ جزمًا لا يحتمل النقيض
(2)
أنه حقٌّ، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليلٌ قطعيٌّ لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يُظنُّ أنه يعارضه من ذلك فهي حُججٌ داحضةٌ، وشُبهٌ فاسدةٌ من جنس شُبه السفسطة والقرمطة.
وإذ كان العقل العالم بصدق الرَّسول قد شهد له بذلك، وأنه ممتنعٌ أن يعارض خبرَه دليلٌ صحيحٌ، كان هذا العقل شاهدًا بأن كل ما عارض ما أخبر به الرَّسول فهو باطلٌ، فيكون هذا العقل الصحيح والسمع قد شَهِدَا ببطلان العقل المخالف للسمع.
الوجه الثَّاني والثلاثون: أن الشُّبهات القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الربِّ ومعاد الأبدان التي يُسميها أصحابها حُججًا عقلية هي كلها معارضة للنقل، وهي أقوى من الشُّبه التي يدَّعي النُّفاة للصفات أنها معقولات خالفت
(1)
«ح» : «فمن» .
(2)
«ح» : «النقيضين» .
النقل، أو من جنسها، أو قريبة منها، كما قيل
(1)
:
دَعِ الخَمْرَ يَشْرَبْهَا الغُوَاةُ فَإِنَّنِي
…
رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِياً بِمَكَانِهَا
فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ
…
أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
فقد أُورِدَ على القدح في النبوات ثمانون شبهةً أو أكثر، وهي كلها عقلية، وأُورد على إثبات الصَّانع سبحانه نحو أربعين شبهةً كلها عقلية، وأُورد على المعاد نحو ذلك. والله يعلم أن هذه الشُّبه من جنس شُبه نُفاة الصِّفات وعلو الله على خلقه وتكلُّمه وتكليمه ورؤيته بالأبصار عيانًا في الآخرة، لكن نفقت هذه الشُّبه بجاه
(2)
نسبة أربابها إلى الرَّسول والإسلام، وأنهم يذبُّون عن دينه، وينزهون الربَّ عمَّا لا يليق به، وإلَّا فعند التحقيق القاعُ عَرْفَجٌ
(3)
كلُّه، ولا فرق بين الشُّبه المعارضة لأصل نبوة الرسول والشُّبه المعارضة لما
(1)
البيتان لأبي الأسود الدؤلي، وهما في «ديوانه» (ص 162) و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (ص 299). وقال الجواليقي:«يخاطب مولى له كان يحمل تجارة إلى الأهواز، وكان إذا مضى إليها يتناول شيئاً من الشراب؛ فاضطرب أمر البضاعة، فقال أبو الأسود هذه الأبيات ينهاه عن شرب الخمر، ويقول: إن الزبيب يقوم مقامها، فإن لم تكن الخمر نفسها من الزبيب فهي أخته، اغتديا من شجرة واحدة، وقيل: إنه عنى بقوله أخوها الطلاءَ» .
(2)
«ح» : «الشبهة تجاه» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «عن فخ» . والقاع: المستوي من الأرض. «الصحاح» (3/ 1274). والعرفج: شجر من شجر الصيف ليِّن أغبر، له ثمرة خشناء كالحسك. «تاج العروس» (6/ 100). والعرب تقول:«مررت بقاعٍ عرفجٍ كلُّه» أي: جاف وخشن. كما قال ابن جني في «الخصائص» (2/ 472).
(1)
أخبر به الرسول.
ومن تأمَّل هذا وهذا تبيَّن له حقيقة الحال، وربما وجد الشُّبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه القادحة فيما أخبرت به الرُّسل.
فنقول لمن
(2)
قدَّم المعقول المعارض لما أخبر به الرَّسول: هل تُقدِّم المعقول المعارض لأصل الرسالة والنبوة، وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما يُعلم أن صدرك لم يَثلَج له
(3)
، فإن تلك الأجوبة مبنيةٌ على قواعد قد اضطرب فيها قولك، فمرةً تثبتها، ومرةً تنفيها، ومرةً تقف فيها، أم تطرح تلك المعقولات وتهدرها وتشهد بفسادها؟ فحينئذٍ فهلَّا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرَّسول ما سلكت في تلك، وكانت السبيل واحدة، والطريق في ردِّها واضحة، وأنت من أنصار الله ورسوله، محامٍ عن أصل الرسالة، وعمَّا جاء به الرَّسول، جازمٌ له بعقلك، لا تعارض خبره بعقلك! وهذا في غاية الظهور بحمد الله.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما ذكره من الشُّبه العقلية القادحة في إثبات الصَّانع ورسالة رسله وفي اليوم الآخر، وفي الشُّبه القادحة في علوِّه على خلقه وصفاته وكلامه ورؤيته، وعرضنا عليك الجميع، ثم إليك الوزن. يوضحه:
الوجه الثَّالث والثلاثون: وهو أن أرباب تلك الشُّبه إنما استطالوا على النُّفاة والجهمية بما ساعدوهم عليه من تلك الشُّبه، وقالوا: كيف يكون
(1)
«ح» : «ما» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «فيقول من» . والمثبت من «م» .
(3)
يقال: ثلجت نفسي بالأمر: إذا اطمأنت إليه وسكنت ووثقت به. «تاج العروس» (5/ 448).
رسولًا صادقًا مَن يُخبر بما يخالف صريح العقل؟! وأنتم قد سلَّمتم لنا ذلك، وساعدتمونا على أن صانع
(1)
العالم لا يختص بمكانٍ، ولا يتكلم، ولا يُرى، ولا يُشار إليه، ولا ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، ولا تحله الحوادث، ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا إصبعٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرة زائدٌ على مجرد ذاته.
ومن أصولنا وأصولكم أنه لم يَقُمْ بذاته فعلٌ ولا وصفٌ ولا حركةٌ ولا استواءٌ ولا نزولٌ ولا غضبٌ في الحقيقة ولا رضًا فضلًا عن الفرح والضحك. ونحن وأنتم مُتَّفقون في نفس الأمر على أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل، وإنما ذلك كلام شيءٍ عنه بإذنه عندكم، وبواسطة العقل الفعَّال عندنا. ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يتكلم به، ولم يُسمع منه.
ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يره أحدٌ
(2)
ولا يراه، ولم يسمع كلامه ولا يسمعه أحدٌ، وأن هذا محالٌ، فهو عندنا وعندكم بمنزلة [ق 50 أ] كونه يأكل ويشرب وينام.
فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التي نفت هذه الأمور، وهي بعينها تنفي صحة نبوة من أخبر بها؛ فكيف يُمكن أن يُصدَّق مَن جاء بها، وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده؟ فما للحرب بيننا وبينكم وجهٌ، وكما تساعدنا نحن وأنتم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل، فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا عليه جميعًا على إبطال الأدلة النقلية.
(1)
«صانع» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(2)
«أحد» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
فانظر هذا الإخاء ما ألصقه، والنَّسَب ما أقربه! وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردِّهم عليهم، وبحوثهم معهم، وخضوعهم لهم فيها، ومقاومة أعداء الرُّسل لهم، واستطالتهم عليهم، ومقاتلتهم لهم بأسلحتهم التي استعاروها منهم.
فإن قلت: كيف أُصيب القوم مع عقولهم وبحثهم ونظرهم واجتهادهم؟!
قلت: أصاب عقولَهم ما أصاب عقول كفار قريشٍ وغيرهم من الأُمم الذين كذبوا الرُّسل مع تلك الأحلام
(1)
والعقول، ولكن كادها باريها
(2)
عبرة لكل ذي عقلٍ صحيحٍ إلى يوم القيامة. وهذا جزاء مَن لم يرضَ بوحي الله وما وهب لأنبيائه من العقول التي نسبتها إلى عقول العالمين كنسبتهم إليهم.
الوجه الرَّابع والثلاثون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يُفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقادًا لهم، مسلِّمًا لما جاؤوا به، مذعنًا له، بحيث يكون مع الرَّسول كمملوكه المنقاد من جميع الوجوه للمالك المتصرف فيه، ليس له معه تصرُّف بوجهٍ من الوجوه.
فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم يَنقَدْ به لأمره، وعارض النصَّ بالعقل، وذكر وجه المعارضة فأفسد عليه عقله غاية الإفساد حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين.
(1)
«ح» : «الأحكام» . والأحلام: الألباب والعقول، واحدها حِلم بالكسر. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 434).
(2)
أي: مكر بها، والكيد: المكر، كاده يكيده كيدًا ومكيدة. «الصحاح» (2/ 533).
ثم تأمَّلْ كيف أفسد عقول مَن أعرض عن رسله وعارض ما أُرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصَّه الله عنهم في كتابه. ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبيٍّ من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر. ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلُّوا قومهم دار البوار. وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرَّسول حتى آل أمرهم إلى ما آل.
[وأفسد عقول]
(1)
الفلاسفة التي قدَّموها على ما جاءت به الرُّسل حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكارٍ استنبطوها
(2)
بعقولهم لِعَجْز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقلَ الذي يُنال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مُسخرًا مُدبرًا مقهورًا على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكانٍ لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتَّبه هذا الترتيب ووضعه في هذا الموضع وقهره على هذه
(3)
الحركة= وكون سافله منفعلًا غير فاعلٍ، متأثرًا غير مؤثرٍ كل وقتٍ في مبدأ ومعاد، وشواهدُ الفقر والحاجة والحدوث ظاهرةٌ
(1)
زدته ليستقيم السياق.
(2)
«ح» : «واستنبطوها» . والواو زائدة.
(3)
«ح» : «هذا» .
على أجزائه وأنواعه= فجعلوه قديمًا غير مخلوقٍ ولا مصنوعٍ، فعطَّلوه عن صانعه وخالقه.
ثم عطَّلوا الربَّ الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، فلم يُثبتوا له ذاتًا ولا صفةً ولا فعلًا ولا تصرُّفًا باختياره في ملكه
(1)
، ولا عالمًا بشيءٍ ممَّا في العالم العلوي والسفلي، وعجَّزوا مَن أنشأ النشأة الأولى أن يُعيدها مرةً ثانيةً.
وفي الحقيقة لم يُثبتوا ربًّا أنشأ شيئًا ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة ولا رسلًا ولا كلامًا ولا إلهيةً ولا ربوبيةً.
وأمَّا الاتحادية
(2)
فأفسد عقولهم فلم يثبتوا ربًّا، وظنوا أن في الخارج إنسانًا
(3)
كليًّا، وحيوانا كليًّا، وجعلوا وجود الربِّ وجودًا مطلقًا مجردًا عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج. وبالجملة فلم يُصيبوا في الإلهيات في مسألةٍ واحدةٍ، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء.
وأمَّا متكلمو الجهمية والمعتزلة فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدَّم التنبيه على اليسير منه
(4)
:
وقالوا: يتكلم الربُّ بغير كلامٍ يقوم به، وخالقٌ بلا خَلْقٍ يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر
(5)
، وحيٌّ بلا حياة، وقديرٌ بلا قدرةٍ، ومريدٌ
(1)
«ح» : «الممكة» .
(2)
ينظر «الجواب الصحيح» لابن تيمية (4/ 397 - 398).
(3)
«ح» : «إنشا» .
(4)
تقدم (ص 66).
(5)
«ح» : «يقوم به وسمع وبصر بلا بصيرة» . والمثبت هو الصواب كما تقدم (ص 422).
بلا إرادة، وفعَّالٌ لما يريد ولا فِعْلَ له ولا إرادة.
وقالوا: الربُّ موجودٌ قائمٌ بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره.
وقالوا: إنه لم [ق 50 ب] يزل معطَّلًا عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدُّد سببٍ أصلًا.
وقالوا: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وأنكروا القوى والطبائع والغرائز والأسباب والحكم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة، وأثبتوا أحوالًا لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعًا بلا صانعٍ، ومخلوقًا بلا خالقٍ، إلى أضعاف ذلك ممَّا يسخر منه العقلاء.
وكلما كان الرجل عن الرَّسول أبعد كان عقله أقلَّ وأفسد. فأكملُ النَّاس عقولًا أتباعُ الرُّسل، وأفسَدُهم عقولًا المعرضُ عنهم وعمَّا جاؤوا به. ولهذا كان أهل السُّنَّة والحديث أعقل الأُمة، وهم في الطوائف كالصَّحابة في النَّاس.
وهذه القاعدة مطَّردة في كل شيءٍ عُصي الربُّ سبحانه به، فإنه يُفسده على صاحبه، فمَن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضوٍ من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده.
فأي فسادٍ أعظم من فساد قلبٍ خَرِبٍ من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُنس به والفرح بالإقبال عليه؟! وهل هذا القلب إلَّا قلب قد استحكم فساده، والمصاب لا يشعر! وأي فسادٍ أعظم من فساد لسانٍ تعطَّل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه
ونصيحة عباده وإرشادهم ودعوتهم إلى الله؟! وأي فسادٍ أعظم من فساد جوارح عُطِّلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته؟!
وبالجملة فما عُصي الله بشيءٍ إلَّا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فسادٍ أعظم من فساد هذا العقل؟! وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرَّسول وبما جاء به، وموجبًا لشدة تمسكهم به. ولقد أحسن القائل
(1)
:
وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى أَمِيرِي زَادَنِي
…
نَظَرِي لَهُ حُبًّا
(2)
إِلَى الْأُمَرَاء
الوجه الخامس والثلاثون: هذه القاعدة التي أسَّسها مَن عارض بين العقل والنقل [تقتضي]
(3)
ألَّا ينتفع بخبر الأنبياء في باب الصِّفات والأفعال أحدٌ من الخاصة والعامة.
أمَّا الخاصة فهم مُصرِّحون بأن علم ذلك ومعرفته موكول إلى العقول، فما
(4)
دلَّت عليه وشهدت به قُبل، وما خالفها من السمع وجب ردُّه، فلم يستفيدوا من جهة الخبر شيئًا، وإنما استفادوا الحقَّ من جهة العقل المعارض
(5)
لما أخبرت به الرُّسل.
وأمَّا العامة فإنهم اعتقدوا ما دلَّ عليه الخبر، وهو باطلٌ في نفس الأمر، فلم
(1)
البيت لعدي بن الرقاع في «ديوانه» (ص 162). وقد أنشده المصنِّف في «طريق الهجرتين» (2/ 569) أيضًا.
(2)
في «الديوان» : «ضنًا به نظري» .
(3)
زدته ليستقيم السياق.
(4)
«ح» : «فيما» .
(5)
«ح» : «العارض» .
يستفيدوا منه معرفة الحق، بل إنما حصلوا على اعتقاد الباطل، فأي مُعاداةٍ لما جاء به الرَّسول أعظم من هذه؟!
الوجه
السَّادس والثلاثون: أن الرجل إمَّا أن يكون مقرًّا بالرُّسل، أو جاحدًا لرسالتهم.
فإن كان منكرًا فالكلام معه في تثبيت النُّبوة، فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل، فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحدٍ منهما لو تجرَّد عن المُعارِض. فمن لم يُقرَّ بالدليل العقلي
(1)
لم يخاطَب في تعارض الدليل العقلي والشرعي، وكذلك من لم يُقرَّ بالدليل الشرعي لم يخاطَب في هذا التعارض. فمن لم يُقرَّ بالأنبياء لم يستفد
(2)
من خبرهم دليلًا شرعيًّا، فهذا يُتكلَّم معه في إثبات النُّبوات أولًا.
وإن كان مقرًّا بالرسالة فالكلام معه في مقامات:
أحدها: صدق الرَّسول فيما أخبر به، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنُّبوة، وإن زعم أنه مقرٌّ بهما، وأن الرُّسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحقِّ تقريبًا إلى أفهامهم، ومضمون هذا أنهم كَذَبوا للمصلحة، وهذا حقيقة قول هؤلاء، وهو عندهم كذبٌ حسنٌ. وإن أقرَّ بأنه صادقٌ فيما أخبر به فالكلام معه في:
المقام الثَّاني: وهو أنه هل يُقرُّ بأنه أخبر بهذا أو لا يقرُّ به؟ فإن لم يُقرَّ به جهلًا عُرِّف ذلك بما يَعْرِفُ به أنه ظهر ودعا إلى الله وحارب أعداءه. فإن أصرَّ على إنكاره ذلك فقد خرج من جملة العقلاء، وأنكر الأمور الضرورية، كوجود بغداد ومكة والهند وغيرها. وإن أقرَّ بأنه أخبر بذلك فالكلام معه في:
المقام الثَّالث: وهو أنه هل أراد ما دلَّ عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟ فإن ادَّعى أنه أراده فالكلام معه في:
المقام الرَّابع: وهو أن هذا المراد حقٌّ في نفسه أم باطلٌ؟ فإن كان حقًّا لم يتصور أن يُعارضه دليلٌ عقليٌّ البتةَ، وإن كان باطلًا انتقلنا معه إلى:
مقامٍ خامسٍ: وهو أنه هل كان يعلم الحقَّ في نفس الأمر أو لا يعلمه؟ فإن قال: لم يكن عالمًا به، فقد نسبه إلى الجهل. وإن قال: كان عالمًا به انتقلنا معه إلى:
مقامٍ سادسٍ: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحقِّ ـ كما فعلتم أنتم بزعمكم ـ أم لم يكن ذلك ممكنًا له؟ فإن لم يكن ذلك ممكنًا له كان تعجيزًا له ولمرسله عن أمرٍ قدر عليه أفراخ الفلاسفة، وتلامذة اليهود، وأوقاح [ق 51 أ] المعتزلة والجهمية. وإن كان ممكنًا له ولم يفعله كان ذلك غشًّا للأُمة، وتوريطًا لها في الجهل بالله وأسمائه وصفاته، واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه، وأن الجهمية والمعتزلة وأفراخ اليونان وورثة الصَّابئين والمجوس هم الذين نزَّهوا الله سبحانه عمَّا لا يليق به، ووصفوه بما
(1)
يليق به، وتكلموا بالحقِّ الذي كتمه الرَّسول. وهذا أمرٌ لا محيد لكم عنه،
(1)
بعده في «ح» : «لا» . وهي زيادة مفسدة للمعنى.
فاختاروا أي قسمٍ شئتم من هذه الأقسام.
والظَّاهر أنكم متنازعون في الاختيار، وأن عقلاءكم مختارون أن الرَّسول كان يعرف الحقَّ في خلاف ما أخبر به، وإن كان قادرًا على التعبير عنه، ولكن ترك ذلك خشية التنفير، فخاطب النَّاس خطابًا جمهوريًّا يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه. وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرَّسول وأقررتم بما جاء به.
الوجه
السَّابع والثلاثون: أنه إذا جُوِّز أن يكون في العقل ما يُعارض ما أخبر به الرَّسول كان الإيمان الجازم موقوفًا على العلم بانتفاء ذلك المُعارض،
ومشروطًا به، والمشروط بالشيء يُعدم عند عدمه، ومعلومٌ أن ما يستخرجه النَّاس بعقولهم أَمْرٌ لا غاية له، سواء
(1)
كان حقًّا أو باطلًا.
فإذا جوَّز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرَّسول لم يمكنه أن يثق
(2)
بشيءٍ من أخبار الرَّسول؛ لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعدُ ما يناقض خبره.
فإن قال: أنا أقرُّ من السمعيات بما لم ينفه العقل، وأثبت من الصِّفات ما لم يخالفه العقل؛ لم يكن لقوله ضابطٌ، فإنه وقف التصديق بالسمع على أمرٍ لا ضابط له، وما كان مشروطًا بعدم أمرٍ لا ينضبط لم ينضبط. فلا يبقى مع هذا الأصل إيمانٌ جازمٌ البتةَ.
ولهذا تجد من تعوَّد معارضة الشرع بالرَّأي لا يستقر في قلبه إيمانٌ أبدًا، ولا يكون الرجل مؤمنًا حتى يؤمن بالرَّسول إيمانًا جازمًا، ليس مشروطًا
(1)
«ح» : «سواءهم» .
(2)
بعده في «ح» : «به» . وهي زائدة.
بعدم معارضٍ.
فإذا قال: أنا أؤمن بخبره ما لم يظهر له معارضٌ يدفعه؛ لم يكن مؤمنًا به، كما لو قال: أنا أشهد أن لا إله إلَّا الله إلَّا أن يكون في العقل دليلٌ يدل على إثبات إلهٍ آخر. أو يقول: أنا أؤمن بالمعاد إلَّا أن يكون في العقل دليلٌ ينفيه. أو يقول: أنا أؤمن بالرَّسول إلَّا أن يكون في العقل ما يبطل رسالته. فهذا وأمثاله ليس بمؤمنٍ جازمٍ بإيمانه، وأحسن أحواله أن يكون شاكًّا.
الوجه
الثَّامن والثلاثون: أنَّ طُرق العلم ثلاثةٌ: الحسُّ والعقل والمركب منهما.
فالمعلومات ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يُعلم بالعقل.
والثَّاني: ما يُعلم بالسمع.
والثَّالث: ما يُعلم بالعقل والسمع.
وكلٌّ منهما ينقسم إلى ضروريٍّ ونظريٍّ، وإلى معلومٍ ومظنونٍ وموهومٍ. فليس كل ما يحكم به العقل علمًا، بل قد يكون ظنًّا، وقد يكون وهمًا كاذبًا، كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك.
فلا بد من حَكَمٍ يفصل بين هذه الأنواع، ويميِّز بين معلومها ومظنونها وموهومها، فإذا اتفق العقل والسمع والعقل والحسُّ على قضيةٍ كانت معلومةً يقينيةً، وإن انفرد بها الحسُّ عن العقل كانت وهميةً.
كما ذكر من أغلاط الحسِّ في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنًا، والسَّاكن متحركًا، والواحد اثنين، والاثنين واحدًا، والعظيم الجُرْم صغيرًا، والصغير كبيرًا، والنقطة دائرة، وأمثال ذلك. فهذه الأمور يجزم
بغلطها تفرُّد الحسِّ بها عن العقل.
وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبًا، وقد يكون صادقًا ضرورةً ونظرًا، وقد يكون ظنيًّا، فإذا قارنه العقل كان حكمه علمًا ضروريًّا ونظريًّا
(1)
كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة، فإنه حصل بواسطة السمع والعقل، فإن السمع أدَّى إلى العقل ما سمعه من ذلك، والعقل حكم بأن المُخبرِينَ لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فأفاده علمًا ضروريًّا أو نظريًّا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبَر به، والنزاع في كونه ضروريًّا أو نظريًّا لفظيٌّ
(2)
لا فائدة فيه.
وكذلك الوهم
(3)
يدرك أمورًا لا يدري صحيحة هي أم باطلة، فيردها إلى العقل الصريح، فما صححه منها قَبِلَه، وما حكم ببطلانه ردَّه.
فهذا أصلٌ يجب الاعتناء به ومراعاته، وبه يُعلم الصحيح من الباطل.
فإذا عُرف هذا فمعلومٌ أن السمع الذي دلَّ العقل على صحته أصح من السمع الذي لم يشهد له عقلٌ. ولهذا كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد، وما ذاك إلَّا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطؤون على الكذب، وإن كان الذي أخبروا به مخالفًا لما اعتاده المُخبَر وأَلِفَه وعَرَفه، فلا يجد مَحِيدًا عن تصديقهم.
(1)
«ح» : «ونظير» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «نظير العظمي» .
(3)
الوهم: من خطرات القلب، والجمع أوهام، وللقلب وهم، وتوهَّم الشيء: تخيَّله وتمثَّله، كان في الوجود أو لم يكن. «لسان العرب» (12/ 643). وينظر «التعريفات» للجرجاني (ص 276).
فالأدلة
(1)
العقلية البرهانية على صدق الرُّسل وتثبيت نبوتهم أضعاف الأدلة الدَّالة على صدق المُخبرِينَ خبر التواتر، فإن أولئك لم يَقُمْ على صدق كل واحدٍ منهم دليلٌ، وإنما أفاد اجتماعهم على الخبر دليلًا على صدقهم. والرسل ـ صلاة الله وسلامه عليهم ـ قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فردٍ فردٍ منهم [ق 51 ب] وقد اتفقت كلمتهم وتواطَأَ خبرهم على إثبات العلوِّ والفوقية لله، وأنه على عرشه فوق سماواته بائنٌ من خلقه، وأنه مكلَّمٌ متكلِّمٌ، آمِرٌ ناهٍ، يرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويُحبُّ ويُبغض.
فإفادة خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من إفادة الأخبار المتواترة لمخبرها، فإن الأخبار المتواترة مستندةٌ إلى حسٍّ قد يغلط، وأخبار الأنبياء مستندةٌ إلى وحيٍ لا يغلط، فالقدح فيها بالعقل من جنس شُبه السوفسطائية القادحة في الحسِّ والعقل. ولو التفتنا إلى كل شبهةٍ يُعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوقٌ بشيءٍ نعلمه بحسٍّ أو عقلٍ أو بهما. يوضحه:
الوجه
التَّاسع والثلاثون: أن المعلومات الغائبة التي لا تُدرك إلَّا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحسِّ والعقل،
بل لا نسبة بينهما بوجهٍ من الوجوه. ولهذا كان إدراك السمع أعمَّ وأشمل من إدراك البصر، فإنه يُدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والعلوم التي لا تدرك بالحسِّ. وهذا حُجة مَن فضَّل السمع على البصر من النُّظار وغيرهم، وخالفهم آخرون، فرجَّحوا البصر على السمع لقوة إدراكه وجزمه بما يدركه، وبُعده من الغلط. وبين الفريقين مباحثاتٌ يطول ذكرها، قد ذكرها ابن قتيبة
(2)
وأبو المعالي الجويني وغيرهما. وفَصْل النِّزاع بينهما أن ما يُدرك بالسمع أعمُّ وأشمل، وما يُدرك بالبصر أتمُّ وأكمل، فهذا له القوة والتمام، وذاك له العموم والإحاطة
(1)
.
والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها كقطر في بحرٍ، ولا سبيل إلى العلم بها إلَّا بخبر الصَّادق، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء، نبَّأهم من هذا الغيب بما يشاء، وأطلعهم منه على ما لم يُطلِع عليه غيرهم، كما قال تعالى:{* مَّا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَلَكِنَّ اَللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] وقال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ اِرْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27] وقال تعالى: {اِللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 73].
فهو سبحانه يصطفي من يُطلعه من أنباء الغيب على ما لم يُطلع عليه غيره، ولذلك سُمِّي نبيًّا ـ من الإنباء وهو الإخبار ـ لأنه مخبَرٌ من جهة الله، ومخبِرٌ عنه، فهو منبَّأٌ ومنبِّئٌ. وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم، بل ولا أكثره.
ولهذا كان أكمل الأُمم علمًا أتباع الرُّسل، وإن كان غيرهم أحذق منهم
(1)
وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (7/ 325) وفي «الرد على المنطقيين» (ص 96) ونقله المصنف عنه في «بدائع الفوائد» (1/ 124). وقد توسَّع المصنف في بيان هذه المسألة في «بدائع الفوائد» (1/ 123 - 130، 3/ 1106 - 1108).
في علم الرَّمل
(1)
والنجوم والهندسة والقسطة
(2)
وعلم الكمِّ المتصل والمنفصل
(3)
وعلم النبض
(4)
والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها وطعومها ورائحتها
(5)
ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بها، وآثروها على علوم الرسل وما جاءوا به.
وهي كما قال الواقف على نهاياتها الواصل إلى غاياتها وهي بين ظنون كاذبة، وإن بعض الظنِّ إثمٌ، وبين علوم غير
(6)
نافعة، ونعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، وإن نفعت فنَفْعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها.
فليس العلم في الحقيقة إلَّا ما أخبرت به الرُّسل عن الله عز وجل طلبًا
(1)
الرَّمل: علم يبحث فيه عن المجهولات، وهو خرافة. «المعجم الوسيط» (1/ 374). وينظر:«أبجد العلوم» (2/ 304 - 305) و «كشاف اصطلاحات العلوم» للتهانوي (1/ 874).
(2)
كذا في «ح» ، وبعض نسخ «هداية الحيارى» للمصنف (ص 276). وليست هذه الكلمة في «م» ، ولم أدر ما المقصود منها.
(3)
الكم: هو العرض القابل للانقسام بالذات، وهو على نوعين: متصل ومنفصل، فعلم الحساب: علم بالكم المنفصل، والهندسة: علم بالكم المتصل. ينظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 126)
…
و «دستور العلماء» (3/ 103).
(4)
النبض: ضربات الشرايين من انقباضات القلب، يستدل بها على حالة الجسم من صحة ومرض، يقال: جسَّ الطبيب نبضه. «المعجم الوسيط» (2/ 897). وقد تكلم ابن سينا عن النبض في «القانون» (1/ 168 - 182) في تسعة عشر فصلًا.
(5)
يشير إلى تحليل الأبوال في القارورة لمعرفة حال الصحة والمرض، وقد تكلم ابن سينا عن معرفة الأبوال في «القانون» (1/ 183 - 198) في اثني عشر فصلًا.
(6)
«غير» من «م» .
وخبرًا، فهو العلم المُزكِّي للنفوس، المُكمِّل للفِطَر، المُصحِّح للعقول، الذي خصَّه الله باسم العلم، وسمَّى ما عارضه ظنًّا لا يغني من الحقِّ شيئًا، وخرصًا وكذبًا، فقال تعالى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ} [آل عمران: 60]. وشهد لأهله أنهم أولو العلم، فقال تعالى:{وَقَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ وَاَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثتُّمْ فِي كِتَابِ اِللَّهِ إِلَى يَوْمِ اِلْبَعْثِ} [الروم: 56]. وقال: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ} [آل عمران: 18] والمراد أولو العلم بما أنزله على رسله ليس إلَّا، ليس المراد أولو العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما
(1)
.
وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 111] فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي، لا علم الكلام والفلسفة والمنطق.
وقال تعالى: {* لَّكِنِ اِللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 165] أي: أنزله وفيه عِلْمُه
(2)
، لا يعلمه البشر. فالباء للمصاحبة، مثل قوله:{* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاَعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اِللَّهِ} [هود: 14] أي: أُنزل وفيه علم الله
(3)
، وذلك من أعظم البراهين على صحة نبوة من جاء به. ولم يصنع
(1)
«ح» : «وفروعهم» . والمثبت من «م» .
(2)
وهو قول الزجاج في «معاني القرآن» (2/ 134) وأبي علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (2/ 160). وينظر «التفسير البسيط» (7/ 199).
(3)
قال الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 42): «ومعنى {أُنزِلَ بِعِلْمِ اِللَّهِ} أي: أُنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه حقٌّ من عنده، ويجوز أن يكون ـ والله أعلم ـ {بِعِلْمِ اِللَّهِ} أي: بما أنبأ الله فيه من غيبٍ، ودلَّ على ما سيكون وما سلف، ممَّا لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا، وهذا دليل على أنه من عند الله» .
شيئًا من قال إن المعنى أنزله وهو يعلمه، [ق 52 أ] وهذا وإن كان حقًّا، فإن الله يعلم كل شيءٍ، فليس في ذلك دليلٌ وبرهانٌ على صحة الدعوى، فإن الله يعلم الحق والباطل، بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنًا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلَّا من أطلعه عليه فأعلمه به، فإن هذا من أعظم أعلام النُّبوة والرِّسالة.
وقال فيما عارضه من الشُّبه الفاسدة التي يُسميها أربابها قواطع عقلية: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنَّ اَلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وقال: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 149].
وقال لمن أنكر المعاد بعقله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اَلدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 23].
والظنُّ الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوصَ الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الرَّاجح؛ بل هو أَكْذب
(1)
الحديث، وقال:{قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}
(2)
[الذَّاريات: 10 - 11] وأنت إذا تأمَّلْت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصًا، وعلمت أنهم هم الخرَّاصون، وأن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحي على الأنبياء والمرسلين، وهو الذي أقام الله به حُجته، وهدى به أنبياءه ورُسُله وأتباعهم
(3)
، وامتنَّ
(1)
«ح» : «الكذب» . والمثبت من «م» . وقد أخرج البخاري (5143) ومسلم (2563) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» .
(2)
قال الواحدي في «التفسير البسيط» (20/ 431 - 432): «{قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ} قال جماعة المفسرين وأهل المعاني: لُعن الكذَّابون» .
(3)
بعده في «ح» : «به» .
عليهم؛ فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ اُلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (150) فَاَذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاَشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 150 - 151].
وقال: {وَأَنزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اُللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 112].
فهذه النعمة والمنَّة والتزكية إنما هي لمَن عرف أن ما جاء به الرَّسول وأخبر به عن الله وصفاته وأفعاله هو الحق كما أخبر به، لا [لمن]
(1)
زعم أن ذلك مخالفٌ لصريح العقل، وأن العقول مقدَّمة عليه، والله المستعان.
الوجه
الأربعون: أن علوم الأنبياء وما جاؤوا به عن الله لا يُمكن أن يُدرك بالعقل ولا يُكتسب،
وإنما هو وحيٌ أوحاه الله إليهم بواسطة الملَك، أو كلامٌ يُكلِّم به رسوله منه إليه بغير واسطة، كما كلَّم موسى. وهذا متفَقٌ عليه بين جميع أهل الملل المقرِّين بالنبوة والمصدِّقين للرُّسل.
وإنما خالفهم في ذلك جهلة الفلاسفة وسفلتهم الذين يقولون: إن
(1)
«ح» ، «م»:«كمن» .
الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بقوةٍ عقليةٍ، وهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويُسمونها القوة القدسية. قالوا: ويتميز النبي عن غيره بقوة التخيل والتخييل، فيتخيل الأمور للعقول في الصور المحسوسة، ويُخيلها إلى النَّاس في قوالب تلك الصور. ويتميز أيضًا بقوة النفس، فيتصرف بقوتها في مواد العلم وعناصره بقلب بعضها إلى بعضٍ. فهذه عندهم خواصُّ النبوة، فالأنبياء عندهم من جنس غيرهم من البشر، ونبواتهم من جنس صنائع النَّاس وسياساتهم ورياضاتهم، حتى قال أقرب هؤلاء إلى الإسلام:«اعلم أن أصول الصناعات أربعة: صنعة التجارة والحدادة والنساجة والسياسة، وأصعبها صنعة السياسة، وأصعب هذه الصناعة صناعة النبوة»
(1)
. هذا كلامه بعينه في كتابه.
فلمَّا كانت النبوة عندهم في هذه المرتبة كانت علومها وأعمالها من جنس علوم البشر وأعمالهم. فالعقل مشتركٌ بينهم وبين كافة العقلاء، فلما جاءت الرسل بما لا تُدركه عقولهم، وليس في قواعدهم ونظرهم ومنطقهم ما يدلُّ عليه؛ قابلوه بالإنكار، وقالوا: قد تعارض العقل وما جئتم به، وإذا تعارض العقل وخبركم فلا سبيل إلى تقديم أخباركم على العقل لأن ذلك يتضمن القدح فيه. فهؤلاء هم الذين عارضوا أولًا بين العقل والوحي، وهم الذين أسسوا هذه القاعدة، ووضعوا هذا البناء؛ إذ كانت علوم الأنبياء وعقولهم عندهم من جنس علومهم وعقولهم، وربما رجَّحوا علم الفيلسوف وعقله، وبعضهم يرجح النبي من وجهٍ، والفيلسوف من وجهٍ.
فهؤلاء إذا عارضوا بين العقل والنقل، ثم قدَّموا العقل على النقل عملوا بمقتضى أصولهم وقواعدهم. أمَّا مَن عرف الرُّسل وآمن بهم، وعلم أن الله
(1)
لم أقف على هذا القول.
أرسلهم، وأوحى إليهم من غيبه ما لم يُطلِع عليه سواهم، وأن نسبة عقول العالمين وعلومهم إليهم أقل بكثيرٍ من نسبة عقول صبيان المكاتب إلى عقول العقلاء، وأن بين ما جاؤوا به من عند الله وبين ما عند هؤلاء كما يدخل الرَّجل إصبعه في اليم، والأمر فوق ذلك. يوضحه:
الوجه الحادي والأربعون: [ق 52 ب] وهو أن يُقال لهؤلاء المعارضين بين العقل ونصوص الوحي: أخبرونا عن خلق هذا النوع الإنساني من قبضة تراب، وعن [رجل]
(1)
دعا على
(2)
قومه ألَّا يَدَعَ الله منهم على الأرض ديَّارًا، فأرسل السماء عليهم، وأنبع الماء من تحتهم من بيت النار حتى علا الماء فوق رؤوس شواهق الجبال علوًّا عظيمًا، ثم ابتلعته الأرض شيئًا فشيئًا حتى عادت يَبَسًا.
وعن رجلٍ دعا على قومه ـ وهم أعظم النَّاس أجسامًا وأشدهم قوةً ـ فأُرسلتْ عليهم بدعوته ريحٌ عاصفٌ، جعلت تحملهم بين السماء والأرض ثم تدق أعناقهم.
وعن أُمةٍ كذَّبت نبيها وسألوه آيةً، فانفلقت صخرةٌ بمحضرٍ لهم، وتمخَّضَت عن ناقةٍ من أعظم النُّوق قائمةً وشكلًا وهيئةً، فلمَّا تمادوا على تكذيبه سمعوا صيحة من السماء قطعت أكبادهم وقلوبهم في أجوافهم، فماتوا موتة رجلٍ واحدٍ.
وعن نارٍ عظيمةٍ أُوقدت برهةً من الدهر، حتى كان الطير يمر عليها من
(1)
زدته ليستقيم السياق.
(2)
«ح» : «إلى» .
عالٍ فيقع مشويًّا، أُلقي فيها رجلٌ مكتوفًا، فصارت عليه بردًا وسلامًا، وعادت روضةً خضراء، وماءً جاريًا.
وعن رجلٍ ألقى عصًا في يده فعادت ثعبانًا عظيمًا ابتلع ما بحضرته من حبالٍ وعصيٍّ لا يحصيها إلَّا الله، ثم عادت عصًا كما كانت.
وعن يدٍ أدخلها صاحب هذه العصا إلى جيبه ثم أخرجها، فإذا لها شعاعٌ كشعاع الشمس.
وعن ماءٍ انقلب دمًا في آنيته ومواضعه.
وعن كثيبٍ
(1)
عظيمٍ ضربه بعصاه فاستحال قَمْلًا كلُّه سُلِّط على أهل بلدٍ عظيمٍ.
وعن بحر ضربه بعصاه فانفلق اثني عشر طريقًا، ثم أُرسلت عليه
(2)
الريح والشمس فأيبسته في ساعةٍ، وقام الماء بين تلك الطرق كالحياض، فلمَّا جاوزه وسلكه آخرون ضربه بعصاه فالتأم عليهم، فلم يُفلت منهم إنسانٌ.
وعن جبلٍ قُلع من مكانه على قدر عسكرٍ عظيمٍ حتى رُفع فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن تقبلوا ما أُمرتم به، وإلَّا أُطبق عليكم، ثم رُدَّ إلى مكانه.
وعن قومٍ أمسَوْا وهم في صور بني آدم، فأصبحوا وهم في صور القردة والخنازير.
(1)
الكثيب: قطعة من الرمل، شبه الربوة من التراب. «مشارق الأنوار» (1/ 336).
(2)
«ح» : «عليهم» .
وعن مُدُنٍ قُلعت من أصولها، ثم رُفعت في الهواء، ثم أُفِكَتْ
(1)
بأهلها، وجُعل عاليها سافلها، وأُتبعت بمطرٍ من الحجارة.
وعن رجلٍ وُلد من غير أبٍ، وامرأةٍ خرجت من غير أمٍّ، ورجل يمسح على عين الذي وُلد أَكْمَهَ
(2)
ويدعو الله، فإذا به يبصر بعينين كالصحيح، ويمسح الأبرص ليبرأ كأن لم يكن به بأسٌ، وينفخ في كُبَّةٍ
(3)
من الطين فينقلب طائرًا له لحمٌ ودمٌ وريشٌ، وجماعة ينامون في غارٍ ثلاثمائة وتسع سنين، لم تأكل الأرض لحومهم، ثم ينتبهون من نومهم قيامًا ينظرون.
وعن رجلٍ أدركه الموت هو وحماره فمكثا مائة عامٍ، ثم قام الرجل حيًّا، وشاهد عظام حماره وهي تُكسى اللحمَ، ويتصل بعضها ببعضٍ حتى قام الحمار حيًّا، وشاهد طعامه لم يتغير، بل هو على حاله.
وعن قتيلٍ قُتل بين ظهرانَيْ قومٍ، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرةً ويضربوه ببعضها، ففعلوا، فقام القتيل حيًّا ناطقًا، وقال: فلان قتلني.
وعن رسولٍ سأله قومه آيةً فأومأ إلى القمر فانشقَّ فلقتين ـ وهم يشاهدونهما ـ ثم عاد فالتأم، وقدم السَّفْر فأخبروا برؤية ذلك عيانًا
(4)
.
(1)
أي: قُلبت، يقال: ائتفكت البلدة بأهلها أي: انقلبت. والمؤتفكات: المدن التى قلبها الله تعالى على قوم لوط عليه السلام. «الصحاح» (4/ 1573).
(2)
الأكمه: الذي يُولد أعمى. «الصحاح» (6/ 2247).
(3)
الكُبُّ: الشيء المجتمع من تراب وغيره، وكُبَّة الغزل: ما جمع منه، مشتق من ذلك. «لسان العرب» (1/ 696).
(4)
أخرجه البخاري (3637) ومسلم (2802) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأنه قبض قبضةً من ترابٍ ثم رمى بها في وجوه عسكر لا يلتقي طرفاه فلم يبق منهم أحدٌ إلَّا ملأت عينيه
(1)
.
وأنه وضع يده في ماء لا يواريها، فعاد الماء حتى ملؤوا منه كل قربةٍ وكل وعاءٍ في العسكر الجرار
(2)
.
وأن جماعةً كثيرةً شبعت من بُرمةٍ بقدر جسم القطا
(3)
.
وأن جذعًا حنَّ حنين النَّاقة [العُشراء]
(4)
إلى ولدها إليه
(5)
.
وأن الحصى كان يُسبِّح في كفِّه وكفِّ بعض أصحابه تسبيحًا يسمعه الحاضرون
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (1177) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (3013) عن جابر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3578) ومسلم (2040) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
«ح» : «العشار» . والعِشار: جمع عُشراء، وهي الناقة التى أتت عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم المخاض، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تضع أيضًا. «الصحاح» (2/ 747).
(5)
أخرجه البخاري (3583) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 679): «قد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن وفرسان هذا الميدان؛ قال القاضي عياض في كتابه «الشفا» : وهو حديث مشهور منتشر متواتر، خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر». وينظر «موافقة الخُبْر الخبر» لابن حجر (1/ 221).
(6)
أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1146) والبزار في «مسنده» (4044) والطبراني في «الأوسط» (2/ 59) من طرق عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال الدارقطني في «العلل» (1104):«الحديث مضطرب» . وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه خيثمة بن سليمان في «حديثه» (ص 106) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (39/ 121) وصحح الحديث الشيخ الألباني في «ظلال الجنة» (1146).
وأن الحَجَر كان يُسلِّم عليه سلامًا يسمعه بأذنه
(1)
.
وأن بطنه شُقَّ من ثُغرة
(2)
نحره إلى أسفله، ثم استُخرج قلبه فغُسل ثم أُعيد، وهو حيٌّ ينظر
(3)
.
وأن شجرتين دعا بهما فأقبلتا تَخُدَّان
(4)
الأرض حتى قامتا بين يديه فالتزقتا، ثم رجعت كل واحدةٍ منهما إلى مكانها
(5)
.
وأن ذئبًا تكلَّم، وأن بقرةً تكلمت
(6)
.
وأن نبيًّا كان يأمر بعسكره فيقعد على بساطٍ فرسخٍ في فرسخٍ، فيأمر الريح فترتفع به بين السماء والأرض، فتحمل العسكر على متنها مسيرة شهر مقبلةً، ومسيرة شهر مدبرةً في كل يومٍ واحدٍ.
وأنه أمر بسريرٍ عظيمٍ لملكة فشقَّ الأرض وصار بين يديه في أسرعَ من ردِّ الطرف.
إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا ممَّا يشاهده النَّاس بأبصارهم عيانًا.
(1)
تقدم تخريجه (ص 458).
(2)
الثُّغرة: نقرة النحر التي بين الترقوتين. «الصحاح» (2/ 605).
(3)
أخرجه البخاري (1636) ومسلم (162) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
أي: تشقان. «الصحاح» (2/ 468).
(5)
أخرجه مسلم (3012) عن جابر رضي الله عنه.
(6)
أخرجه البخاري (3471) ومسلم (2388) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهل مخالفة الأدلة القطعية لِما أخبرت به الأنبياء عن الله أعظم من مخالفتها لهذه الأمور؟ والشُّبه العقلية التي تُذكر على استحالة هذه الأمور أكثر وأقوى من الشُّبه التي يذكرونها في معارضة نصوص الوحي، بل لا نسبة بينهما، فإذا تعارضت أدلة [ق 53 أ] العقول بزعمكم وهذه الأمور ماذا تصنعون؟ أتقدمونها على أدلة العقول، فتدخلون في المؤمنين بالله ورسله، أم تكذبون بذلك وتقولون: العقل يناقض ذلك ويبطله؟!
ومعارضة العقل عندكم لهذه الآيات من جنس معارضته لخبر الأنبياء، لا فرق بينهما البتةَ. بل الشُّبه التي يقيمها أعداء الرُّسل من العقل على بطلان هذه الآيات أقوى من الشُّبه التي ذكرها الجهمية والنُّفاة على بطلان ما أخبرت به الرُّسل من صفات الله، وعلوِّه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، وقيام أفعاله به.
فعُلم أن مَن قدَّم ما يظنُّه مِن العقل على نصوص الوحي لم يبق معه من الإيمان بالرُّسل عينٌ ولا أثرٌ، ولا حسٌّ ولا خبرٌ.
وإذا كان هذا حالهم في الأمور التي قد وقعت وشاهدها النَّاس بأبصارهم، فكيف حالهم في الإيمان ببشرٍ ينزل من السماء بين ملَكين واضعًا يديه على مناكبهما والنَّاس يرونه عيانًا
(1)
؟
وكيف حالهم في الإيمان بأن الشمس تطلع من مغربها والنَّاس يرونها عيانًا
(2)
؟ وكيف بحالهم إلى غير ذلك ممَّا أخبر به الصَّادق، كدابةٍ تنشقُّ عنها
(1)
يعني: حديث نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. وقد أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6506) ومسلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الأرض فتخرج تكلم النَّاس وتخاطبهم
(1)
، إلى غير ذلك ممَّا يُقيمون بعقولهم شُبهًا يُسمونها أدلةً عقليةً تُحيل ذلك، فمن قدَّم العقل على الوحي لم يمكنه أن يجزم بصدق شيءٍ من ذلك، والله المستعان.
الوجه
الثَّاني والأربعون: أن هؤلاء عكسوا شِرعة الله وحكمته،
وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إمامًا، والعقل مؤتمًّا به، وجعله حاكمًا والعقل محكومًا عليه، ورسولًا والعقل مرسلًا إليه، وميزانًا والعقل موزونًا به، وقائدًا والعقل منقادًا له. فصاحب الوحي مبعوثٌ، وصاحب العقل مبعوثٌ إليه، والآتي بالشرع مخصوصٌ بوحي من الله، وصاحب العقل مخصوصٌ ببحثٍ عن رأيٍ وفكرةٍ، وصاحب الوحي ملقًّى
(2)
، وصاحب العقل كادحٌ طالبٌ. هذا يقول: أُمرت، ونُهيت، وأُوحي إليَّ، وقيل لي، وما أقول شيئًا من تلقاء نفسي، ولا من قِبَل عقلي، ولا من جهة فكري ونظري. وذاك المتخلف يقول: نظرت، ورأيت، وفكرت، وقدَّرت، واستحسنت، واستنتجت.
والمتخلف يقول: معي آلة المنطق، والكليات الخمس
(3)
، والمقولات
(1)
جاء ذكرها في قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ إِنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 84]. وأخرج مسلم (2901) عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه خبرها.
(2)
أي: متلقى، مأخوذ من قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].
(3)
الكليات الخمس: هي الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. «المعجم الفلسفي» (2/ 239).
العشر
(1)
، والمختلطات، والموجهات
(2)
أهتدي بها. والرَّسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه. والمتخلف يقول: معي العقل. والرَّسول يقول: معي نور خالق العقل، به أهدي وأهتدي. والرَّسول يقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا. والمتخلف يقول: قال أفلاطون، قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي.
فيُسمع من الرَّسول ظاهر التنزيل، وصحيح التأويل، وشرع سنة، وأمرٌ بمعروفٍ، ونهيٌ عن منكر، وخبرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبرٌ عن السماء والملائكة واليوم الآخر.
ويُسمع من الآخر: الهيولي
(3)
والصورة، والطبيعة، والأُسُتُقُصُّ
(4)
، والذَّاتي
(5)
، والعَرَضي، والجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والأيس والليس
(6)
، وعكس النقيض
(7)
، ...........................................
(1)
تقدم تفسيرها (ص 487).
(2)
تقدم تعريفها (ص 487).
(3)
هيولى كل جسم: هو الحامل لصورته، كالخشب للسرير والباب، وكالفضة للخاتم والخلخال، وكالذهب للدينار والسوار. والهيولى يُسمى المادة والعنصر والطينة. والصورة تُسمى الشكل والهيئة والصيغة. «مفاتيح العلوم» للخوارزمي (ص 158).
(4)
الاستقص: الشيء البسيط الذي منه يتركب المركب. وتقدم (ص 487).
(5)
الذاتي هو الوصف المقوم لماهية الشيء، والعرضي هو الوصف الخارج عن الماهية. ينظر «شرح الإشارات والتنبيهات» للطوسي (1/ 151 - 153).
(6)
أي: الوجود والعدم. وينظر «العين» للخليل بن أحمد (7/ 300).
(7)
عكس النقيض: هو جعل نقيض الجزء الثاني من القضية الحملية جزءًا أولًا، ونقيض الأول ثانيًا مع بقاء الكيف والصدق بحالهما، فإذا قلنا: كل إنسان حيوان. كان عكسه: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان. «التعريفات» (ص 159).
والعكس المستوي
(1)
. وما شاكل هذا ممَّا لا يسمع من مسلمٍ ولا يهوديٍّ ولا نصرانيٍّ ولا مجوسيٍّ إلَّا من رضي لنفسه بما رضي به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم، ورغب فيما رغبوا فيه.
وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء فليعزل نظره عن الوحي، ويُخَلِّ بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغَرْز
(2)
من جاء به، ويُسلِّم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومُعلِّمه بكثيرٍ؛ فإن التبايُن الذي بين النَّبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.
ومن العجب أن هؤلاء المقدِّمين عقولهم على الوحي خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمورٍ كثيرةٍ. يقولون: هم أعلم بها منَّا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم. فكيف يعترض على الوحي بعقله مَن نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟!
وجِمَاع الأمر أن قضايا المعقول مشتملة على العلم والظنِّ والوهم، وقضايا الوحي كلها حقٌّ، فأين قضايا مأخوذة عن عقلٍ قاصرٍ عاجزٍ عرضةٍ للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!
(1)
العكس المستوي: هو عبارة عن جعل الجزء الأول من القضية الحملية ثانيًا، والجزء الثاني أوَّلًا، مع بقاء الصدق والكيف بحالهما، كما إذا أردنا عكس قولنا: كل إنسان حيوان. بدلنا جزأَيْه، وقلنا: بعض الحيوان إنسان. أو عكس قولنا: لا شيء من الإنسان بحجر. قلنا: لا شيء من الحجر بإنسان. «التعريفات» (ص 159).
(2)
الغَرْز: ركاب كور الجمل، مثل الركاب للسرج، وقوله: يستمسك بغرزه: أي يعتلق به ويمسكه، ويتبع قوله وفعله، ولا يخالفه. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 359).
الوجه
الثَّالث والأربعون: أن العقل تحت حَجْر
(1)
الشرع فيما يطلبه ويأمر به،
وفيما يحكم به ويُخبر عنه، فهو محجورٌ عليه في الطلب والخبر، وكما أن من عارض أمر الرُّسل بعقله لم يُؤمن بهم وبما جاؤوا به؛ فكذلك من عارض [ق 53 ب] خبرهم بعقله، ولا فرق بين الأمرين أصلًا. يُوضِّحه أن الله سبحانه وتعالى حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم، كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم.
أمَّا الأول: ففي قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبَاا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ اُلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اُلشَّيْطَانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اُلرِّبَاا وَأَحَلَّ اَللَّهُ اُلْبَيْعَ وَحَرَّمَ اَلرِّبَاا} [البقرة: 274]. فعارضوا تحريمه للرِّبا بعقولهم التي سوَّت بين الرِّبا والبيع، فهذا معارضة النصِّ بالرَّأي.
ونظير ذلك ممَّا عارضوا به تحريم الميتة بقياسها على المذكَّى، وقالوا تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ممَّا قتل الله. وفي ذلك أنزل الله:{وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122]
(2)
.
وعارضوا أمره بتحويل القبلة بعقولهم، وقالوا: إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركتَ الحقَّ، وإن كانت باطلًا فقد كنتَ على باطلٍ.
(1)
الحَجْر: المنع من التصرف، ومنه: حَجَر القاضي على الصغير والسفيه: إذا منعهما من التصرف في مالهما. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 342).
(2)
أخرجه أبو داود (2818، 2819) والنسائي في «السنن الكبرى» (4511) وابن ماجه (3173) والحاكم (4/ 113، 231، 233) والضياء في «المختارة» (10/ 256 - 257) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس ـ عدو الله ـ؛ فإنه أول من عارض أمر الله بعقله، وزعم أن العقل يقتضي خلافه.
وأما الثَّاني: وهو معارضة خبره بالعقل؛ فكما حكى سبحانه عن منكري المعاد أنهم عارضوا ما أخبر به عنه بعقولهم، فقال تعالى:{* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77] وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم، وعارضوا أخباره عن النُّبوات بعقولهم، وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم، وعارضوا أدلة نبوة رسوله بمعارضة عقلية، وهي قولهم:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 30]. وأنت إذا صُغتَ هذه المعارضة صوغًا مزخرفًا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول.
وعارضوا آيات نبوته بمعارضة عقلية أخرى وهي قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اُلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي اِلْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8] أي: لو كان رسولًا لخالق السماوات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في طلب المعيشة، ولَأغناه عن أكل الطعام، ولَأرسل معه مَلَكًا من الملائكة، ولَألقى إليه كنزًا يُغنيه عن طلب الكسب.
وعارضوا شرعه سبحانه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضةٍ عقليةٍ استندوا فيها إلى
(1)
القَدَر، فقال تعالى: {سَيَقُولُ اُلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا
(1)
«إلى» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (149) قُلْ فَلِلَّهِ اِلْحُجَّةُ اُلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149 - 150].
وحكى مثلَ هذه المعارضة عنهم في سورة النحل
(1)
وفي الزخرف
(2)
، وإذا تأمَّلْتها حق التَّامُّل رأيتها أقوى بكثيرٍ من معارضة النُّفاة آيات الصِّفات وأخبارهم بعقولهم، فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله للكائنات
(3)
، والمشيئة ثابتةٌ في نفس الأمر، والنُّفاة عارضوا بأصولٍ فاسدةٍ هم وضعوها من تلقاء أنفسهم، أو تلقَّوْها عن أعداء الرُّسل من الصَّابئة والمجوس والفلاسفة، وهي خيالات فاسدة، ووهميات ظنوها قضايا عقلية.
وبالجملة فمعارضة أمر الرُّسل وخبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار، فهم سلف للخلف بعدهم، فبئس السلف وبئس الخلف. ومن تأمَّلَ معارضة المشركين والكفار للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنُّفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعُلُوِّه على خلقه وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم، فإن كانت تلك المعارضة باطلةً فهذه أبطل، وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها، وهذا لا محيد لهم عنه، يوضحه:
الوجه الرَّابع والأربعون: أن القرآن مملوءٌ من ذكر الصِّفات والعلو على
(1)
في قوله تعالى: {وَقَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلَّا اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ} [النحل: 34].
(2)
في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19].
(3)
«ح» : «الكائنات» . والمثبت من «م» .
الخلق، والاستواء على العرش، وتكلُّم الله وتكليمه للرُّسل، وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر والحياة والمحبة والغضب والرضا للرب سبحانه. وهذا عند النُّفاة بمنزلة وَصْفِه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم والموت، كل ذلك مستحيلٌ عليه، ومعلوم أن إخبار الرَّسول عنه سبحانه بما هو مستحيلٌ عليه من أعظم المنفِّرات عنه، ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه، ولم يعارضه أعداؤه في حرفٍ واحدٍ من هذا الباب، ولا أنكروا عليه كلمةً واحدةً منه، مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه، فهلَّا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنُّفاة، وقالوا: قد [ق 54 أ] أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح، فكيف يمكننا تصديقك؟!
بل كان القوم على شركهم وضلالهم أَعرَفَ بالله وصفاته من النُّفاة الجهمية، وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السيناوية والفارابية والطوسية
(1)
، الذين ليس للعالم عندهم ربٌّ يُعبد، ولا رسول يُطاع، ولا معادَ للخليقة، ولا يُزيل الله هذا العالم ويأتي بعالمٍ آخر. فهذه الأصول قد اشتركت فيها أعداء الرُّسل، وامتازت كفار قريش بإثباتهم الربوبية والصفات والملائكة وخلق العالم وكون الرب فاعلًا بمشيئته وقدرته، ولهذا لم يعارضوا الرَّسول في شيءٍ من ذلك.
الوجه
الخامس والأربعون: أنه لو جاز أن يكون في العقول ما يُناقض خبر الرَّسول لم يُتصور الإيمان به البتَّةَ
لوجهين:
(1)
نسبة لابن سينا والفارابي والطوسي.
أحدهما: أنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء جميع المعارض
(1)
، وما عُلِّق على الممتنع فهو ممتنعٌ.
الثَّاني: أن تصديقهم والإيمان بهم يكون موقوفًا على الشرط، والإيمان لا يصح تعليقه بالشرط، فلو قال: آمنت بالرَّسول إن أَذِنَ لي أبي، أو إن أعطيتموني كذا، أو إن جُعل لي الأمر من بعده ونحو ذلك لم يكن مؤمنًا بالاتفاق، كما قال مسيلمة: إن جعل محمدٌ الأمر لي من بعده آمنت به، فلم يَصِرْ مؤمنًا بذلك، وكان من أكفر الكفار، فهكذا إذا قال: آمنت بما أخبر به إلَّا أن يعارضه دليلٌ عقليٌّ. وهذا حقيقة قول هؤلاء، فإن هذا لم يؤمن به باتفاق الأُمة، وهذا كما أنه كُفرٌ في الشرع فهو فاسدٌ في العقل.
فالواجب على الخلق الإيمان بالرَّسول إيمانًا مطلقًا جازمًا غير معلَّقٍ على شرطٍ، ومن قال أُصَدِّق بما صدَّق عقلي به، وأردُّ ما ردَّه عقلي، أو عقل مَن هو أعقل مني أو مثلي= فهو كافرٌ باتفاق الأمة، فاسد العقل. وهو نظير طائفة من اليهود يقولون: نُصدِّق أنه رسول الله حقًّا، ولكن لم يُبعث إلينا، وإنما بُعث إلى العرب. فهذا في إنكار عموم رسالته في المرسل إليهم نظير إنكار عموم رسالته في المرسل به، فتأمَّلْه. وهؤلاء شرٌّ من الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اُللَّهِ} [الأنعام: 125] فأولئك وقفوا الإيمان على أن يُؤتوا نظير ما جاءت به الرُّسل، وهؤلاء وقفوه على ما يناقض ما جاءت به الرُّسل.
الوجه
السَّادس والأربعون: أن هذه المعارضة ميراث بالتعصيب مِن الذين ذمَّهم الله في كتابه بجدالهم في آياته بغير سلطانٍ وبغير علمٍ،
وأخبر أن
(1)
كذا، ولعلها:«المعارضات» .
مصدر تلك المجادلة كِبْرٌ واستكبارٌ عن قبول الحق ممَّن يرون أنهم أعلم منهم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ} [غافر: 82]. وهذا شأن النفوس الجاهلة الظَّالمة إذا كان عندها شيءٌ
(1)
من علمٍ قد تميَّزت به عمَّن هو أجهل منها، وحصل لها به نوعُ رياسةٍ ومالٍ، فإذا جاءها من هو أعلم منها بحيث ينمحي رسوم علومها ومعارفها في علمه ومعرفته؛ عارضته بما عندها من العلم، وطعنت فيما عنده بأنواع المطاعن. قال تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اُللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) اِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اُللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُّتَكَبِّرٍ جَبّارٍ} [غافر: 34 - 35].
وقال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] والسلطان هو الكتاب المنزَّل من السماء. وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ} [غافر: 4] وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ اُلْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ اُلَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ وَاَتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُؤًا} [الكهف: 55].
وهذا كثيرٌ في القرآن، يذم به سبحانه الذين عارضوا كتبه ورسله بما عندهم من الرَّأي والمعقول والبدع، والكلام الباطل مشتقٌّ من الكفر، فمَن عارض الوحي بآراء الرجال كان قوله مشتقًّا من أقوال هؤلاء الضُّلال. قال مالك:«أَوَكلما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجلٍ تركنا ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لجدله»
(2)
.
(1)
«ح» : «شيئًا» .
(2)
أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (731) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2/ 507) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (293) والهروي في «ذم الكلام» (855، 857).
ومن وقف على أصول هؤلاء المعارضين ومصدرها تبيَّن له أنها نشأت من أصلين: من كِبْرٍ عن اتباع الحق، وهوًى مُعْمٍ للبصيرة، وصادمته شُبهات كالليل المظلم، فكيف لا يُعارِض مَن هذا وَصْفُه خبرَ الأنبياء بعقله وعقل من يُحسن به الظن. ثم دخلت تلك الشُّبهات في قلوب قومٍ لهم دينٌ، وعندهم إيمانٌ وخيرٌ، فعجزوا عن دفعها فاتخذوها دِينًا، وظنوها تحقيقًا لِما بعث الله به رسوله، فحاربوا عليها، واستحلوا ممَّن خالفهم فيها ما حرَّمه الله ورسوله، وهم بين جاهلٍ مقلدٍ [ق 54 ب] ومجتهدٍ مخطئٍ حَسَن القصد، وظالمٍ معتدٍ متعصِّبٍ، والقيامة موعد الجميع، والأمر يومئذٍ لله.
الوجه
السَّابع والأربعون: أن دلالة السمع على مدلوله متفَقٌ عليها بين العقلاء، وإن اختلفوا في جهتها هل هي قطعية أو ظنية،
وهل أرادت الرُّسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته
(1)
، أم أرادت إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصَرْفَها عن ظاهرها؟! فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها. ثم قال أتباع الرُّسل: مدلولها ثابتٌ في نفس الأمر وفي الإرادة. وقالت النُّفاة أصحاب التأويل: مدلولها منتفٍ في نفس الأمر وفي الإرادة. وقال أصحاب التخييل: مدلولها ثابتٌ في الإرادة منتفٍ في نفس الأمر.
وأمَّا دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليلٍ واحدٍ منها. بل كل طائفةٍ منهم تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل على فسادها، لا على صحتها. وأهل السمع مع كل طائفة تخالفه في دلالة
(1)
«ح» : «نبوته» . والمثبت من «م» .
العقل على فساد قول تلك الطَّائفة المخالفة للسمع، فكل طائفة تدعي فساد قول خصومها بالعقل، يُصدِّقهم أهل السمع على ذلك، ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل، فقد تضمنت دعوى الطوائف فسادها بفهمٍ من العقل بشهادة بعضهم على بعضٍ، وشهادة أهل الوحي والسمع معهم.
ولا يُقال: هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة الفِرَق كلها على بطلان ما دلَّ عليه السمع، وإن اختلفوا في أنفسهم. لأن المطلوب أنهم كلَّهم متفقون على أن السمع دلَّ على الإثبات، ولم يتفقوا على أن العقل دلَّ على نقيضه، فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يُتفق عليها على الدلالة المتفق عليها، وهو المطلوب.
الوجه الخمسون
(1)
: أن نقول
(2)
: كل ما عارض السمع من العقليات ففساده معلومٌ بالعقل وإن لم يُعارض السمع، فلسنا
(3)
متوقفين في إبطاله والعلم بفساده على كونه عارَضَ السمع، بل هو باطلٌ في نفسه، ومعارضةُ السمع له دليلٌ سمعي على بطلانه، فقد اتفق على فساده وبطلانه دليل العقل والسمع، وما كان هكذا لم يصلح أن يُعارَض به عقلٌ ولا سمعٌ. وتفصيل هذه الجملة ببيان شبهة المخالفين للسمع وبيان فسادها ومخالفتها لصريح العقل، وهذا الأمر ـ بحمد الله ـ لم يزل أنصار الرَّسول يقومون به ويتكفلون
(1)
كذا في «ح» وكتب على حاشيتها: «هكذا في الأصل» . قلت: قد أتبع الوجه السابع والأربعين بالوجه الخمسين مباشرة، ولم يذكر الوجهين الثَّامن والأربعين والتَّاسع والأربعين، فإما أن يكون سقط الوجهان الثَّامن والأربعون والتَّاسع والأربعون، أو يكون ترقيم الوجوه خطأ.
(2)
«ح» : «يقول» .
(3)
«ح» : «فليسا» .
ببيانه، وهم فيه درجات عند الله على منازلهم من العلم والإيمان والبيان.
ولا ترى مسألةً واحدةً عُورض بها الرَّسول إلَّا وقد ردَّها أنصاره وحزبه، وبيَّنوا فسادها، وسخافة عقل أربابها المعارضين بها في كل نوعٍ من أنواع العلم. وقد أجرى الله سُنته وعادته أن يكشف عن عورة المعارِض ويفضحه ويخذله في عقله حتى يقول ما يَضحَك منه الإنسان، كما خذل المعارض بكلامه حتى أضحك عليه النَّاس فيما عارضه به.
وهذا من تمام أدلة النبوة وبراهين صحة الوحي: أن تجد المعارض له يأتي بما يضحك منه العقلاء! فلعل قائلًا يقول: ما جاءت به الرُّسل قد يكون له معارضٌ صحيحٌ، فإذا وقفَ
(1)
على المعارض وسخفه وتحقَّق بطلانه زاده قوة في إيمانه ويقينه. وصار ذلك بمثابة رجلٍ ادَّعى أن معه طِيبًا ليس مع أحدٍ مثله ولا مثل ريحه، فعارضه آخر بأن معه مثله أو أفضل
(2)
منه، فلمَّا أخرجه إذا هو أنتن شيءٍ وأخبثه ريحًا. ولكن هناك عقول جُعلية
(3)
نشأت في النتن والحشوش فلا تَألَف غير ما نشأت فيه!
الوجه الحادي والخمسون: أن الأمور السمعية التي يُقال: إن العقل عارضها ـ كإثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمه، ورؤية العباد له في الآخرة، وإثبات الصِّفات له ـ هي ممَّا
(4)
عُلم بالاضطرار أن
(1)
«ح» : «وقفت» .
(2)
«ح» : «فضل» .
(3)
نسبة للجُعل، وهو حيوان معروف كالخنفساء. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 277).
(4)
«ح» : «ما» . والمثبت من «م» .
الرَّسول جاء بها، وعُلم بالاضطرار صحة نبوته ورسالته؛ وما عُلم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليلٌ، وامتنع أن يكون له معارضٌ صحيحٌ؛ إذ لو جاز أن يكون له معارضٌ صحيحٌ لم يبق لنا وثوقٌ بمعلومٍ أصلًا، لا حسيٍّ ولا عقليٍّ، وهذا يبطل حقيقة الإنسانية، بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات، فإن لها تمييزًا وإدراكًا للحقائق بحسَبها.
وهذا الوجه في غاية الظهور، غني بنفسه عن التأمُّل. وهو مبنيٌّ على مقدمتين قطعيتين:
إحداهما: أن الرَّسول أخبر عن الله بذلك.
والثَّانية: أنه صادقٌ.
ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل؟!
الوجه
الثَّاني والخمسون: أن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفَطَره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إيَّاه وأرشده إليه،
ودليل السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلَّم به وأوحاه، وعرَّف به الرَّسول
(1)
، وأمره أن يُعرِّف [ق 55 أ] الأُمة ويخبرهم به، ولا يكون أحدهما صحيحًا حتى يكون الآخر مطابقًا لمخبره، وأن الأمر كما أخبر به.
وحينئذٍ فقد شهد العقل لخبر الرَّسول بأنه صدقٌ وحقٌّ، فعَلِمْنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين: بخبر الرَّسول به، وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في خبره.
(1)
«ح» : «الرسل» . والمثبت من «م» .
وأمَّا خبر العقل عن الله بما يُضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلَّمه إيَّاه فلم يشهد له الرَّسول بصحة هذا الخبر، بل شهد ببطلانه، فليس معه إلَّا شهادته لنفسه بأنه صادقٌ فيما أخبر به، فكيف يقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرَّسول له، فكيف مع تكذيبه إيَّاه، فكيف مع تكذيب العقل الصريح المؤيَّد بنور الوحي له، فكيف مع تهاتُر أصحابه وتكاذبهم وتناقضهم؟! يزيده إيضاحًا:
الوجه الثَّالث والخمسون: وهو أن الأدلة السمعية نوعان:
نوعٌ دلَّ بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي: فهو عقليٌّ سمعيٌّ، ومِن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد، وما لا يقوم التنبيه على الدليل العقلي منه فهو
(1)
اليسير جدًّا منه
(2)
. وإذا تدبَّرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه، وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليلٌ صحيحٌ على معارضته؛ لاستلزامه مدلوله، وانتقالُ الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروريٌّ.
وهو أصل للنوع الثَّاني: الدَّال بمجرد الخبر.
فالقدح في النوعين بالعقل ممتنعٌ بالضرورة، أمَّا الأول فلِما تقدم، وأمَّا الثَّاني فلاستلزام القدح فيه القدح في العقل الذي أثبته، وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع بطل ما عارضه من العقليات، كما تقدم تقريره
(3)
. يوضحه:
الوجه
الرَّابع والخمسون: أنه ليس في القرآن صفة إلَّا وقد دلَّ العقل الصريح على إثباتها لله، فقد تواطأ عليها دليل العقل ودليل السمع،
فلا يمكن أن يُعارض ثبوتها
(1)
دليلٌ صحيحٌ البتةَ، لا عقلي ولا سمعي، بل إن كان
(2)
المعارض سمعيًّا كان كذبًا مفترًى أو ممَّا أخطأ المعارض في فهمه، وإن كان عقليًّا فهو شُبه خيالية وهمية، لا دليل عقلي برهاني.
واعلم أن هذه دعوى عظيمة يُنكرها كل جهميٍّ ونافٍ وفيلسوف وقرمطيٍّ وباطنيٍّ، ويعرفها مَن نوَّر الله قلبه بنور الإيمان، وباشر قلبَه معرفةُ الذي دعت إليه الرُّسل، وأقرت به الفِطَر، وشهدت به العقول الصحيحة المستقيمة، لا المنكوسة المركوسة التي نُكست قلوب أصحابها، فرأت الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، والهدى ضلالةً، والضلالة هدًى.
وقد نبَّه الله سبحانه في كتابه على ذلك، وأرشد إليه، ودلَّ عليه في غير موضعٍ منه، وبيَّن أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه، فجاحِده جاحدٌ لكمال الربِّ؛ فإنه تمدَّح بكل صفةٍ وَصَفَ بها نفسه، وأثنى بها على نفسه، ومجَّد بها نفسه، وحمد بها نفسه، فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم والتمجيد، وتعرَّف بها إلى عباده؛ ليعرفوا كماله وعظمته ومجده وجلاله.
وكثيرًا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه، وجعلوها شركاء له، فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتفٍ عن آلهتهم؛ فيكون ذلك
(1)
«ح» : «بثبوتها» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «كل» . والمثبت من «م» .
من أدلِّ الدليل على بطلان آلهيتها، وفساد عبادتها من دونه.
ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته، والمسارعة إلى طاعته، والتنافس
(1)
في القرب منه.
ويذكر صفاته أيضًا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه؛ ليُعرِّف القلوب من تخافه وترجوه وترغب إليه وترهب منه.
ويذكر صفاته أيضًا عند أحكامه وأوامره ونواهيه. فقلَّ أن تجد آيةَ حُكْم من أحكام المكلفين إلَّا وهي مختتَمة بصفةٍ من صفاته أو صفتين. وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] فيذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه، ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه، حتى إن الصلاة لا تنعقد إلَّا بذكر أسمائه وصفاته، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها يصحبها من أولها إلى آخرها، وإنما أمر بإقامتها ليُذكَر بأسمائه وصفاته. وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته، ففتح لهم باب الدعاء رَغَبًا ورَهَبًا ليذكره الدَّاعي بأسمائه وصفاته، فيتوسَّل إليه بها.
ولهذا كان أفضل الدعاء وأجوبه ما توسل فيه الدَّاعي إليه بأسمائه وصفاته. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ اِلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى فَاَدْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وكان اسم الله الأعظم في هاتين [ق 55 ب] الآيتين: آية الكرسي وفاتحة آل عمران
(2)
؛ لاشتمالهما على صفة الحياة المصححة لجميع الصِّفات،
(1)
«ح» : «ولساقس» . والمثبت هو الصواب.
(2)
أخرج الإمام أحمد في «المسند» (28259) من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين {اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ} و {الم اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ} : «إن فيهما اسم الله الأعظم» . وشهر فيه كلام معروف، والمشهور في لفظ هذا الحديث ما أخرجه أبو داود (1496) والترمذي (3478) وابن ماجه (3855) وغيرهم من طريق شهر عن أسماء رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلرَّحْمَنُ اُلرَّحِيمُ} وفاتحة آل عمران {الم اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ}» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» (1/ 505 - 506) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه» . قال القاسم: فالتمستها أنه الحي القيوم.
وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال، ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها
(1)
.
ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن
(2)
؛ لأنها أُخلصت للخبر عن الربِّ تعالى وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه، و «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم»
(3)
. وسمع آخر يدعو: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله
(1)
أخرج مسلم (810) عن أُبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (5015) ومسلم (811) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (12388، 12806، 13777، 14006) وأبو داود (1495) والنسائي في «السنن الكبرى» (1224، 7654) وابن ماجه (3857) والحاكم في «المستدرك» (1/ 504) والضياء في «المختارة» (4/ 384، 5/ 257) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
إلَّا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد»
(1)
فقال لأحدهما: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . وقال للآخر: «سَلْ تُعْطَهْ»
(2)
.
وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الربِّ وصفاته، وأحب ما دعاه الدَّاعي به أسماؤه وصفاته. وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا. قالوا: أفلا نتعلمهنَّ يا رسول الله؟! قال: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»
(3)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (23418، 23431) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) والنسائي في «السنن الكبرى» (11652) وابن حبان (891، 892) والحاكم (1/ 504) عن بريدة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(2)
لم نقف في طرق الحديثين على أن النبي (قال هذا لأحدهما، وسيأتي الحديثان بنصهما (ص 1062) ولعل المصنف عنى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلي ومعه أبو بكر وعمر، قال ابن مسعود: فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«سل تعطه، سل تعطه» . أخرجه أحمد (4341) والترمذي (593) وابن حبان (1970) والحاكم (1/ 705) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (4404) وابن حبان (972) والحاكم (1/ 509) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وينظر «السلسلة الصحيحة» (199).
وقد نبَّه سبحانه على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول، فاستيقظت لتنبيهه العقول الحية، واستمرت على رقدتها العقول الميتة، فقال الله تعالى في صفة العلم:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهْوَ اَللَّطِيفُ اُلْخَبِيرُ} [الملك: 15]. فتأمَّلْ صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه واختصاره.
وقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} [النحل: 17]. فما أصح هذا الدليل وما أوجزه!
وقال تعالى في صفة الكلام: {وَاَتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148]. نبَّه بهذا الدليل على أن مَن لا يُكلِّم ولا يهدي لا يصلح أن يكون آلهًا. وكذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 88] فجعل امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم مِلْك الضر والنفع دليلًا على عدم الإلهية. وهذا دليلٌ عقليٌّ سمعيٌّ على أن الإله لا بد أن يُكلِّم ويتكلَّم، ويملك لعابده الضر والنفع، وإلَّا لم يكن إلهًا.
وقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. نبَّهك بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تبصر وتتكلم وتعلم أولى أن يكون بصيرًا متكلِّمًا عالمًا، فأيُّ دليلٍ عقليٍّ قطعيٍّ أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى المعقول؟!
وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلًا على عدم
إلهية من عُدمت فيه هذه الصِّفات، فالبطش والمشي من أنواع الأفعال، والسمع والبصر من أنواع الصفات. وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أوثانهم، وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية، فوصف نفسه بالسمع والبصر، والفعل باليدين، والمجيء والإتيان، وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصِّفات عليها منافيًا لإلهيتها.
فتأمَّل آيات التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفنُّنها واتساعها وتنوعها، كيف تجدها كلها
(1)
قد أثبتت الكمال للموصوف بها، وأنه المتفرد بذلك الكمال، فليس له فيه شَبَهٌ ولا مثالٌ. وأي دليلٍ في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبِّره، ومَلِك السماوات والأرض وقيُّومهما، فإذا لم يكن في العقل إثبات جميع أنواع الكمال له فأي قضيةٍ تصح في العقل بعد هذا؟!
ومن شكَّ في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والقدرة والغضب والرضا والفرح والرحمة والرَّأفة كمالٌ فهو ممن سُلب خاصة الإنسانية، وانسلخ من العقل. بل مَن شكَّ أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمالٌ، فهو مَؤُوفٌ
(2)
مصابٌ في عقله.
ومن شكَّ أن كونه يفعل باختياره ما يشاء، ويتكلم إذا شاء، وينزل إلى حيث شاء، ويجيء إلى حيث شاء= كمالٌ، فهو جاهلٌ بالكمال، والجامد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال الاختيارية. كما أن عند شقيقه
(1)
«ح» : «كلما» . والمثبت من «م» .
(2)
سبق تفسيرها (ص 423).
الجهمي أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بها، كما أن عند أستاذهما [ق 56 أ] وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يُبصر ولا يعلم، ولا له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا فعل ولا كلام، ولا يُرسل رسولًا، ولا يُنزل كتابًا، ولا يتصرف في هذا العالم بتحويلٍ وتغييرٍ وإزالةٍ ونقلٍ وإماتةٍ وإحياءٍ؛ أكمل ممَّن يتصف بذلك.
فهؤلاء كلهم قد خالفوا صرائح المعقول، وسلبوا الكمال عمَّن هو أحق بالكمال من كل ما سواه. ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصًا، وعدمه كمالًا، فعكسوا الأمر، وقلبوا الفِطَر، وأفسدوا العقول.
فتأمَّل شُبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة، التي عارضوا بها الوحي هل تُقاوِم
(1)
هذا الدليل الدَّال على إثبات الصِّفات والأفعال للربِّ سبحانه؟ ثم اختر لنفسك بعدُ ما شئت.
وهذا قطرةٌ من بحرٍ نبَّهنا به تنبيهًا يعلم به اللبيب ما وراءه، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقَّه ـ وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا ـ لكتبنا فيه عدة أسفارٍ. وكذا كل وجهٍ من هذه الوجوه، فإنه لو بُسط وفُصِّل لاحتمل سفرًا أو أكثر، والله المستعان، وبه التوفيق.
الوجه
الخامس والخمسون: أن غاية ما ينتهي إليه من ادَّعى معارضة العقل للوحي أحد أمورٍ أربعةٍ لا بد له منها:
إمَّا تكذيبها وجحدها.
(1)
«ح» : «تقادم» . «م» : «تصادم» . والمثبت أصح.
وإمَّا اعتقاد أن الرُّسل خاطبوا الخلق بها خطابًا جمهوريًّا لا حقيقة له، وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال.
وإمَّا اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات.
وإمَّا الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها، واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلَّا الله.
فهذه أربع مقامات، وقد ذهب إلى كل مقامٍ منها طوائف من بني آدم.
المقام الأول: مقام التكذيب والجحد. وهؤلاء استراحوا من كُلفة النصوص والوقوع في التجسيم والتشبيه، وخلعوا رِبْقَة الإيمان
(1)
من أعناقهم، وقالوا لسائر الطوائف: منكم إلى هذه النصوص
(2)
، وأمَّا نحن فلسنا منها في شيءٍ؛ لأن عقولنا لمَّا عارضتها دفعنا في صدر من جاء بها، وقابلناه بالتكذيب.
المقام الثَّاني: مقام أهل التخييل. قالوا: إن الرُّسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحقِّ في نفس الأمر، فخاطبوهم بما يُخيل إليهم، وضربوا لهم الأمثال، وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحسِّ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر، وأقرُّوا باب
(1)
الربقة في الأصل: عروة في حبل تُجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإيمان، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عُرى الإيمان: أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 190 (.
(2)
كذا جاءت هذه العبارة، وهي غريبة، ولعلها عبارة عامية.
الطلب على حقيقته. ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضًا، وجعل الأمر والنهي أمثالًا وإشاراتٍ ورموزًا. فهم ثلاث فرقٍ، هذه إحداها.
والثَّانية: سلكت ذلك في الخبر دون الأمر.
والثَّالثة: سلكت ذلك في الخبر عن الله وصفاته دون المعاد والجنة والنَّار.
وذلك كله إلحادٌ في أسماء الربِّ وصفاته ودينه واليوم الآخر، والملحد لا يتمكن من الردِّ على الملحد وقد وافقه في الأصل، وإن خالفه في فروعه. فلهذا استطال على هؤلاء الملاحدةُ كابن سينا وأتباعه غاية الاستطالة، وقالوا
(1)
: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات. قالوا بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصِّفات؛ لكثرتها وتنوُّعها وتعدُّد طرقها، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل، فإذا كان الخطاب بها خطابًا جمهوريًّا فنصوص المعاد أولى.
قال: فإن قلتم نصوص الصِّفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل. قلنا: ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائه
(2)
. ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد بما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.
المقام الثَّالث: مقام أهل التأويل، قالوا: لم يُرد منَّا اعتقاد حقائقها، وإنما أُريد منَّا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقيقتها. فتكلفوا لها وجوه
(1)
ينظر «الرسالة الأضحوية» لابن سينا (ص 97 - 102).
(2)
«م» : «انتفائها» .
التأويلات المستكرَهة، والمجازات المستنكَرة، التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيءٍ عن احتمال ألفاظ النصوص لها، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.
والطَّائفتان اتفقتا على أن الرَّسول لم يُبيِّن الحقَّ للأُمة في خطابه لهم ولا أوضحه، بل خاطبهم بما ظاهره باطلٌ ومحال. ثم اختلفوا: فقال أصحاب التخييل: أراد منهم اعتقاد خلاف الحقِّ والصواب، وإن كان في ذلك مفسدة، فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه. وقال أصحاب التأويل: بل أراد منَّا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته، ولم يُبيِّن لنا المراد تعريضًا لنا إلى حصول [ق 56 ب] الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر، وإعمال الفكر في معرفة الحقِّ بعقولنا، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك. فالطَّائفتان متفقتان على أن ظاهر خطاب الرَّسول ضلالٌ وكفرٌ وباطلٌ، وأنه لم يُبيِّن الحقَّ، ولا هدى إليه الخلق
(1)
.
المقام
(2)
الرَّابع: مقام الما أدرية
(3)
الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أُريد منها، ولا ما دلت عليه. وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السَّلف، وهي التي يقول المتأولون: إنها أسلم، ويحتجون عليها بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اَللَّهُ} [آل عمران: 7]. ويقولون هذا هو الوقف التَّام عند
(1)
«ح» : «الحق» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «الوجه» . والمثبت من «م» .
(3)
رسمه في «ح» ، «م»:«الملادرية» اتصلت اللام بالألف. ويقصد بهم هنا المفوضة الذين يفوضون المعنى والكيفية، فيقولون: لا ندري معنى الصفة ولا كيفيتها. وينسبون ذلك لمذهب السلف خطأ، فالسلف إنما يفوضون الكيفية فقط، وقد تقدم الكلام على سلفهم من لا أدرية الفلاسفة السوفسطائية (ص 201 - 202).
جمهور السَّلف، وهو قول أُبي بن كعبٍ وعبد الله بن مسعودٍ وعبد الله بن عباسٍ وعائشة وعروة بن الزبير، وغيرهم من السلف والخلف
(1)
.
وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون
(2)
لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصَّحابة ولا التَّابعون لهم بإحسانٍ، بل يقرؤون كلامًا لا يعقلون معناه.
ثم هم متناقضون أفحش تناقضٍ، فإنهم يقولون: تُجرى على ظاهرها، وتأويلها باطلٌ. ثم يقولون: لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله.
وقول هؤلاء أيضًا باطلٌ، فإن الله سبحانه أَمَرَ بتدبُّر كتابه وتفهُّمه وتعقله، وأخبر أنه بيانٌ وهدًى وشفاءٌ لما في الصدور، وحاكمٌ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصِّفات والقدر والأفعال، واللفظ الذي لا يُعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكمٌ ولا هدًى ولا شفاءٌ ولا بيانٌ.
وهؤلاء طرَّقوا
(3)
لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحقَّ من عقولهم وآرائهم، فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلبٍ، والمقتضى التَّام لذلك فيها موجودٌ، فإذا قيل لها: إن ألفاظ القرآن والسُّنَّة في
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 217) و «الوقف والابتداء» لابن الأنباري (2/ 568) و «القطع والائتناف» لابن النحاس (212 - 213) و «المكتفى» لأبي عمرو الداني (ص 70).
(2)
«ح» : «والمرسلين» . والمثبت من «م» .
(3)
يقال: طرَّق طريقًا: إذا سَهَّله حتى طَرَقَه الناس بسَيْرهم. «تاج العروس» (26/ 80).
ذلك لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله، ولا يعلم أحدٌ معناها، وما أُريد بها، وما دلَّت عليه= فَرُّوا إلى عقولهم ونظرهم وآرائهم.
فسدَّ هؤلاء باب الهدى والرشاد، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد، وقالوا: قد أقررتم بأن ما جاءت به الرُّسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء، فإنَّا نحن نعلم ما نقوله ونثبته بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه، ولا بيَّنوا مراد المتكلم به، وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل.
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم: لا يعلم تأويل المتشابه إلَّا الله. فإن التأويل في عُرْف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52] وقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58] وقول يوسف: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ قَد جَّعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وقول يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ اِلْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]{وَقَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاَدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] وقال يوسف: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37].
فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به [وترك]
(1)
المنهي عنه،
(1)
«ترك» ليس في «ح» ، «م». وأثبته من «درء التعارض» (1/ 206). وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (17/ 368):«تأويل الأمر والنهي: نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور» .
كما قال ابن عُيينة: «السُّنَّة تأويل الأمر والنهي»
(1)
. وقالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّل القرآن»
(2)
.
وأمَّا تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها، وذلك في حقِّ الله هو كُنْه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك
(3)
وربيعة
(4)
: «الاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ» . وكذلك قال ابن الماجشون
(5)
..........................
(1)
ذكره ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 206).
(2)
متفق عليه، وتقدم تخريجه (ص 24).
(3)
أخرجه ابن المقري في «المعجم» (1003) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (664) وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 325) والصَّابوني في «عقيدة السلف» (ص 38 - 39) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (867) والذهبي في «العلو» (ص 139). وقال الذهبي: «هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به» .
(4)
أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (665) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (868) وابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (74) والذهبي في «العلو» (ص 129). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 40): «أن الخلال رواه بإسناد كلهم أئمة ثقات» .
(5)
هو عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون، وقد أخرجه عنه ابن بطة في «الإبانة» ـ كما في «المختار من الإبانة» (59) ـ والذهبي في «العلو» (ص 129) وفي «سير أعلام النبلاء» (7/ 311 - 312) مطولًا. وعلَّقه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (873). وصححه الذهبي في «العلو» ، وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 42):«روى الأثرم في «السنة» وأبو عبد الله بن بطة في «الإبانة» وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب». فذكره.
والإمام أحمد
(1)
وغيرهما من السلف: «إنَّا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنَّا نعلم تفسيره ومعناه» .
وقد فسَّر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال: إنهم تأوَّلُوها على غير تأويلها، وبيَّن معناها
(2)
.
وكذلك الصَّحابة والتَّابعون فسَّروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصِّفات، كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية؛ كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنَّار، وإن لم يعلموا حقيقة كُنْهِه وكيفيته.
فمَن قال من السلف: إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلَّا الله بهذا المعنى؛ فهو حقٌّ. وأمَّا من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلَّا الله؛ فهذا غلطٌ، والصَّحابة والتَّابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد:«عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها»
(3)
. وقال عبد الله بن مسعود: «ما في [ق 57 أ] كتاب الله
(1)
هذا معلوم من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وينظر:«المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة» (1/ 276 - 278).
(2)
وذلك في كتاب «الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله» .
(3)
أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 359) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30918) والطبري في «التفسير» (1/ 85) والحاكم (2/ 307).
آية إلَّا وأنا أعلم فيما أنزلت»
(1)
. وقال الحسن البصري: «ما أنزل الله آية إلَّا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها»
(2)
. وقال مسروق: «ما نسأل أصحاب محمدٍ عن شيءٍ إلَّا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه»
(3)
. وقال الشعبي: «ما ابتدع قومٌ بدعةً إلَّا وفي كتاب الله بيانها»
(4)
.
والمقصود أن من ادَّعى معارضة العقل للسمع لا بد له أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة، وأسلمها هذا المسلك الرَّابع، وقد علمتَ بطلانه. وإنما كان أقل بطلانًا لأنه لا يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله، فإن صاحبه يقول: لا أفهم من هذه النصوص شيئًا، ولا أعرف المراد بها، وأصحاب تلك المسالك تتضمن
(5)
أقوالهم تكذيب الله ورسوله، أو الإخبار عن النصوص بالتكذيب. وبالله التوفيق.
الوجه السَّادس والخمسون: أن هؤلاء المعارضين للكتاب والسُّنَّة بعقلياتهم ـ التي هي في الحقيقة جهليات ـ إنما يبنون
(6)
أمرهم في ذلك على أقوالٍ مشتبهةٍ مجملةٍ
(7)
تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في
(1)
أخرجه البخاري (5002) ومسلم (2463).
(2)
أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 97).
(3)
أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 96).
(4)
لم نقف عليه مسندًا عنه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «درء التعارض» (1/ 208).
(5)
«ح» : «تتضمون» . والمثبت من «م» .
(6)
«ح» : «يثبتون» . والمثبت من «م» .
(7)
«م» : «محتملة» .
المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحقٍّ وباطلٍ، فبما فيها من الحقِّ يقبل من لم يُحِط بها علمًا ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يُعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء.
وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا. وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلًا محضًا لما قُبلت، ولبادر كل أحدٍ إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعةً، وكانت موافقة للسُّنة؛ ولكنها تشتمل على حقٍّ وباطلٍ، ويلتبس فيها الحق بالباطل، كما قال تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41] فنهى عن لَبْس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسَه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لُبِس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحقِّ، وتكلم بلفظٍ له معنيان، معنًى صحيح، ومعنًى باطل، فيتوهم السَّامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، فهذا من الإجمال في اللفظ.
وأمَّا الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حقٌّ من أحدهما، وباطلٌ من الآخر، فيُوهم
(1)
إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده الباطل. فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانًا مخبَّطةً، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوًى وتعصُّب؟! فسَلْ مثبِّت القلوب أن يثبِّت قلبك على دينه، وألَّا يوقعك في هذه الظُّلمات.
قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في «الرد على الجهمية»
(2)
: «الحمد لله
الذي جعل في كل زمان فترةٍ من الرُّسل بقايا من أهل العلم، يَدْعُون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بكتاب الله أهل العمى. فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه! فما أحسن أثرهم على النَّاس، وما أقبح أثر النَّاس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة. فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهال النَّاس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين».
وهذه الخطبة تلقَّاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أو وافقه فيها؛ فقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في «الحوادث والبدع»
(1)
فقال: حدثنا أسد، ثنا رجلٌ ـ يُقال: له يوسف، ثقةٌ ـ عن أبي عبد الله الواسطي رفعه إلى عمر بن الخطاب أنه قال: «الحمد لله الذي امتنَّ على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله أهل العمى. كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وضالٍّ تائهٍ قد هدوه. بذلوا دماءهم وأموالهم دون
هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على النَّاس، وما أقبح أثر النَّاس عليهم!
وما نسيهم ربك، وما كان ربك نسيًّا، جعل قصصهم هدًى
(2)
، وأخبر
عن حسن مقالاتهم، فلا تقصر
(3)
عنهم؛ فإنهم في منزلة رفيعة، وإن
(1)
«البدع والنهي عنها» (ص 3).
(2)
«ح» : «يصفهم هذا» . تحريف، والمثبت من «م» ، «البدع» لابن وضاح.
(3)
«ح» : «يقتصر» . والمثبت من «م» ، «البدع» لابن وضاح.
أصابتهم الوضيعة
(1)
».
فقوله: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام» هو الذي له وجهان، يخدعون به جهال النَّاس، كما يُنَفِّق أهل الزَّغَل
(2)
النقد المغشوش الذي له [ق 57 ب] وجهان، يخدعون به من لم يعرفه من النَّاس، فلا إله إلَّا الله كم قد ضلَّ بذلك طوائف من بني آدم لا يُحصيهم إلَّا الله.
واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسُّنَّة وهو التوحيد ـ الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله، وتنزيهه عن أضدادها، وعبادته وحده لا شريك له ـ فاصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض، ثم دعوا النَّاس إلى التوحيد، فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم، وظنَّ أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرُّسل.
والتوحيد اسم لستة معانٍ: توحيد الفلاسفة، وتوحيد الجهمية، وتوحيد القدرية الجبرية، وتوحيد الاتحادية؛ فهذه الأربعة أنواعٍ من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها، ودلَّ على بطلانها العقل والنقل.
فأمَّا توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الربِّ الزَّائدة على وجوده، وإنكار صفات كماله، وأنه لا سمع له ولا بصر، ولا قدرة ولا حياة، ولا إرادة ولا كلام، ولا وجه ولا يدين، وليس فيه معنيان متميزٌ أحدهما عن الآخر البتَّةَ. قالوا: لأنه لو كان كذلك لكان مركبًا، وكان جسمًا مؤلَّفًا، ولم يكن واحدًا من كل وجهٍ. فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يُحَسُّ
ولا يُرى، ولا يتميز منه جانب عن جانب، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة ربِّ العالمين يستحيل وجوده.
فلمَّا اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 162] وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 75] نزَّلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي، وقالوا: لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحدًا، وكان مركبًا مؤلَّفًا.
فسَمَّوْا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء، وهو التوحيد، وكَسَوْه ثوبه، وسمَّوا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت ـ وهو صفات الربِّ، ونعوت كماله ـ بأقبح الأسماء، وهو التركيب والتَّأليف. فتولَّد من بين هذه التسمية المنكرة للمعنى الصحيح وتلك التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحدُ حقائق أسماء الربِّ وصفاته، بل وجحدُ ماهيته وذاته، وتكذيبُ رسله. ونشأ من نشأ على اصطلاحهم ـ مع إعراضه عن استفادة الهُدى والحق من الوحي ـ فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه، فجعله أصلًا لدينه؛ فلما رأى ما جاءت به الرُّسل يعارضه قال: إذا تعارض العقل والنقل قُدِّم العقل.
التوحيد الثَّاني: توحيد
(1)
الجهمية، وهو مشتقٌّ من توحيد الفلاسفة، وهو نفي صفات الربِّ، كعلمه وكلامه وسمعه وبصره وحياته وعلوِّه على عرشه، ونفي وجهه ويديه. وقُطْب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته.
(1)
«توحيد» سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
التوحيد الثَّالث: توحيد القدرية الجبرية، وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلًا لهم، وأن تكون واقعة بكسبهم أو إرادتهم، بل هي نفس فعل الله، فهو الفاعل لها دونهم، ونسبتها
(1)
إليهم وأنهم فعلوها ينافي التوحيد عندهم.
التوحيد الرَّابع: توحيد القائلين بوحدة الوجود، وأن الوجود عندهم واحدٌ، ليس عندهم وجودان: قديم وحادث، وخالق ومخلوق، وواجب وممكن؛ بل الوجود عندهم واحدٌ بالعين. والذي يُقال: له الخَلْق المُشبَّه هو الحق المُنَّزه، والكل من عينٍ واحدةٍ، بل هو العين الواحدة.
فهذه الأنواع الأربعة سمَّاها أهل الباطل توحيدًا، فاعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم، وقالوا: نحن الموحدون. ودعوا النَّاس إلى الباطل باسم التوحيد، فجعلوه جُنَّةً وتُرْسًا ووقايةً. وسَمَّوُا التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنبياءه تركيبًا وتجسيمًا وتشبيهًا، وجعلوا هذه الألقاب له سهامًا وسلاحًا يُقاتلون بها أهله، فتترَّسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة، وقاتلوهم بالأسماء الباطلة، التي سَمَّوْا بها ما بعث الله به رسوله، فقاتلوهم باسم التركيب والتجسيم والتشبيه، وتترسوا منهم باسم التوحيد والتنزيه.
وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع: «فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»
(2)
.
فهذا توحيد الرَّسول المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق
(1)
«ح» : «نسبتها» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه مسلم (1218).
عليها الحمد، ولإثبات الأفعال التي استحق بها أن يكون مُنعِمًا، ولإثبات القُدرة والمشيئة، والإرادة والتصرف، والغضب والرضا، والغنى والجود، الذي [ق 58 أ] هو حقيقة ملكه. وعند الفلاسفة والجهمية والمعطلة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك.
والله يعلم أنَّا لم نُجازف في نسبة ذلك إليهم، بل هو حقيقة قولهم. فأي حمدٍ لمن لا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يتكلم، ولا يفعل، ولا هو في هذا العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمنته
(1)
ولا عن يَسْرته. وأي نعمةٍ لمن لا يقوم به فعلٌ البتَّةَ، وأي مُلْكٍ لمن لا وَصْفَ له ولا فِعْلَ؟
فانظر إلى توحيد الرُّسل، وتوحيد من خالفهم! ومن العجب أنهم سَمَّوْا توحيد الرُّسل شركًا وتجسيمًا وتشبيهًا، مع أنه غاية الكمال، وسَمَّوْا تعطيلهم واتحادهم ونفيهم توحيدًا، وهو غاية النقص، ثم نسبوا أتباع الرسل إلى نقص الربِّ، وقد سلبوه كل كمالٍ، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال، وقد نزَّهوه عنه. فهذا توحيد الملاحدة والجهمية والمعطلة.
وأمَّا توحيد الرُّسل فهو إثبات صفات الكمال له سبحانه، وإثبات كونه فاعلًا بمشيئته وقدرته واختياره، وأن له فعلًا حقيقة، وأنه وَحْدَه الذي يستحق أن يُعبد ويُخاف ويُرجى ويُتوكل عليه، فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذُّل. وليس لخلقه من دونه وكيلٌ ولا وليٌّ ولا شفيعٌ، ولا واسطةَ بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه، وفي تفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وإجابة
(1)
«ح» : «يمينه» . واللفظ غير منقوط في «م» ، والمثبت هو الأنسب للسياق.
دعواتهم. وبينه وبينهم واسطة في تبليغ أمره ونهيه وخبره إليهم، فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه، ولا حقائق أسمائه وتفصيل ما يجب له ويمتنع عليه ويُوصف به إلَّا من جهة هذه الواسطة. فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر، وقلبوا الحقائق، فنَفَوْا كون الرُّسل وسائطَ في ذلك، وقالوا: يكفي توسط
(1)
العقل. ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا: هذا التوحيد.
فهذا توحيدهم، وهذا إيمانهم بالرُّسل. ويقولون: نحن نُنزِّهه
(2)
عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث. فيسمع الغِرُّ المخدوع هذه الألفاظ فيتوهَّم منها أنهم يُنزِّهون الله عمَّا يُفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه. ويكشف النَّاقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد، وتكذيب الرُّسل، وتعطيل الربِّ تعالى عمَّا يستحقه من كماله.
فتنزيهه عن الأعراض هو جحد صفاته، كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته، فإن هذه أعراض لا تقوم إلَّا بجسمٍ، فلو كان متصفًا بها لكان جسمًا، وكانت أعراضًا له، وهو منزَّهٌ عن الأعراض.
وأمَّا الأغراض فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل ويخلق ويأمر وينهى ويُثيب ويعاقب، وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله، فيسمونها عللًا وأغراضًا، ثم ينزهونه عنها.
(1)
«ح» : «تلقى يوسط» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «ننزه» . والمثبت من «م» .
وأمَّا الأبعاض فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجهٌ ولا يدان ولا يمسك السماوات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع، فإن ذلك كله أبعاض، والله منزهٌ عن الأبعاض.
وأمَّا الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات ربٌّ، ولا على العرش إلهٌ، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق، كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيءٌ، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله محمد صلى الله عليه وسلم إليه؛ إذ لو كان ذلك لزم إثبات الحدود والجهات له، وهو منزهٌ عن ذلك.
وأمَّا حلول الحوادث فيُريدون به أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء، ولا يغضب بعد أن كان راضيًا، ولا يرضى بعد أن كان غضبان، ولا يقوم به فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مُجدد بعد أن لم يكن، ولا يريد شيئًا بعد أن لم يكن
(1)
مريدًا له، ولا يقول له: كن حقيقةً، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويًا عليه، ولا يغضب يوم القيامة غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولا يُنادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديًا لهم، ولا يقول للمصلي «إذا قال:{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]: حمدني عبدي. فإذا قال: {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2] قال: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} [الفاتحة: 3] قال: مجَّدَني عبدي»
(2)
. فإن هذه كلها حوادث، وهو منزهٌ عن حلول الحوادث.
(1)
«ح» : «يكون» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه مسلم (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وبعضهم يختصر العبارة ويقول: أنا أُنزِّهه عن التعدد والتحدد والتجدد. فيتوهم السَّامع الجاهل بمراده أنه ينزهه عن تعدد الآلهة، وعن تحددٍ تُحيطُ به حدودٌ وجوديةٌ تحصره وتحويه كتحدد [ق 58 ب] البيت ونحوه، وعن تجدد إلهيته وربوبيته. ومراده بالتعدد الذي نَزَّهَه
(1)
عنه تعدد أسمائه وصفاته، وأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا ولا يتكلم. ومراده بالتحدد أنه ليس فوق خلقه، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا فوق العرش إلهٌ يُعبد، وليس فوق العرش إلَّا العدم. ومراده بالتجدد أنه لا يقوم به فعلٌ ولا إرادةٌ ولا كلامٌ بمشيئته وقدرته.
وبعضهم يقتصر على حرفين فيقول: نحن ننزهه عن التكثر والتغير. فيتوهم السَّامع تكثر الآلهة، وتغيره سبحانه واستحالته من حالٍ إلى حالٍ، وحقيقة هذا التنزيه أنه لا صفة له ولا فعل.
وكذلك قول الجهمية: نحن نثبت قديمًا واحدًا، ومثبتو الصِّفات يثبتون عدة قُدماء. قال: والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله فكفَّرهم
(2)
، فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر؟!
فانظر إلى هذا التلبيس والتدليس الذي يوهم السَّامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله، وإنما أثبتوا قديمًا واحدًا بصفاته، وصفاته داخلة في مسمَّى اسمه. إنما أثبتوا إلهًا واحدًا، ولم يجعلوا كل صفةٍ من صفاته إلهًا؛ بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته. وهذا بعينه متلقًّى عن عُبَّاد الأصنام المشركين بالله المكذبين لرسوله، حيث قالوا: يدعو محمدٌ إلى إلهٍ واحدٍ، ثم يقول: يا ألله
(1)
«ح» : «نزه» . والمثبت أصح.
(2)
«ح» : «بكفرهم» . والمثبت من «م» .
يا رحمن يا سميع يا بصير، فيدعو آلهةً متعددةً. فأنزل الله عز وجل:{قُلُ اُدْعُوا اُللَّهَ أَوُ اُدْعُوا اُلرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ اُلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى}
(1)
[الإسراء: 109] أي: إنكم إنما تدعون إلهًا واحدًا له الأسماء الحسنى، فأي اسمٍ دعوتموه فإنما دعوتم المسمَّى بذلك الاسم. فأخبر سبحانه أنه إلهٌ واحدٌ وإن تعددت أسماؤه الحُسنى المشتقة من صفاته، ولهذا كانت حُسنى، وإلَّا فلو كانت ـ كما يقول الجاحدون لكماله ـ أسماءً محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق؛ لم تكن حُسنى، ولكانت أسماءُ الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها، فنزلت الآية على توحيد الذَّات وكثرة النُّعوت والصفات.
ومن ذلك قول هؤلاء المعطلة: أخصُّ صفات الإله: القديم، فإذا أثبتم معه صفات قديمة لزم أن تكون آلهةً، فلا يكون الإله واحدًا؛ بل يكون لكم آلهة متعددة. فيقال لهؤلاء المُدلِّسين المُلبِّسين على أمثالهم من أشباه الأنعام: المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء من أوَّلهم إلى آخرهم على بطلانه أن يكون مع الله آلهة أخرى، لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيًّا قيومًا، سميعًا بصيرًا، متكلِّمًا آمرًا ناهيًا، فوق عرشه، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
فلم يَنْفِ العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفاتُ كمال
(1)
أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (369) عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها، وحديث أبي الجوزاء عن عائشة مرسل، ينظر «التمهيد» (20/ 205)، وله شواهد عن ابن عباس رضي الله عنه وعن مكحول مرسلًا، أخرجهما الطبري في «تفسيره» (15/ 123 - 124) وينظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 360) و «الدر المنثور» (9/ 461).
ونعوت جلال يختص بها لذاته. فلبَّستم على المخدوعين المغرورين، وأوهمتموهم أنه لو كان فوق عرشه موصوفًا بصفات الكمال يُرى بالأبصار عيانًا يوم القيامة؛ لم يكن إلهًا واحدًا، وكان هناك آلهة متعددة، وقدماء متغايرة، وأعراض وأبعاض، وحدود وجهات، وتكثُّر وتغير، وتحدد وتجدد، وتجسم وتشبيه وتركيب. وأكثر النَّاس إذا سمعوا هذه الألفاظ نفرت عقولهم من مسمَّاها، ونَبَتْ
(1)
أسماعهم عنها.
وقد علم المؤمنون المصدقون للرسول العارفون بالله وصفاته وأسمائه أنكم توسلتم بها إلى نفي صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه، فلم ترفعوا بها رأسًا، ولم تروا لها حرمة، ولم ترقبوا فيها ذمة، وغرَّت ضعافَ العقول الجاهلين بحقائق الإيمان فضلُّوا بها، وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل.
فلفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتًا، فتكون له حرمة الإثبات، ولا نفيًا، فيكون له إلغاء النفي، فمن أطلقه نفيًا أو إثباتًا سُئل عمَّا أراد به. فإن قال: أردت بالجسم
(2)
معناه في لغة العرب، وهو البدن الكثيف الذي لا يُسمَّى في اللغة جسمٌ سواه، فلا
(3)
يُقال للهواء جسم لغةً، ولا للنار ولا للماء، فهذه اللغة، وكُتُبها بين أَظهُرنا = فهذا المعنى منفيٌّ عن الله عقلًا وسمعًا. وإن أردتم به المركب من المادة والصورة، أو المركب من الجواهر
(1)
«ح» : «وبث» . والمثبت هو الصواب، يقال: نبا الشيء عني ينبو: أي تجافى وتباعد. «الصحاح» (6/ 2500).
(2)
«ح» : «الجسم» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «ولا» . والمثبت من «م» .
الفردة
(1)
؛ فهذا منفيٌّ عن الله قطعًا، والصواب نفيه عن الممكنات أيضًا، فليس الجسم المخلوق مركبًا من هذا ولا من هذا.
وإن أردتم بالجسم ما يُوصف بالصفات، ويُرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم، ويسمع ويُبصر، ويرضى ويغضب؛ فهذه المعاني ثابتة للربِّ تعالى وهو موصوفٌ بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسمًا؛ كما أنا لا نسبُّ الصَّحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصبَ، ولا ننفي قَدَرَ الربِّ ونكذِّب به لأجل تسمية القدرية لمن [ق 59 أ] أثبته جبريًّا، ولا نرد ما أخبر به الصَّادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسمًا مشبهًا.
فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ اسْتِوَائِهِ
…
عَلَى عَرْشِهِ إِنِّي
(2)
إِذًا لَمُجَسِّمُ
وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ
…
فَمِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ لَا أَتَكَتَّمُ
وَإِنْ كَانَ تَنْزِيهًا جُحُودُ اسْتِوَائِهِ
…
وَأَوْصَافِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ
فَعَنْ ذَلِكَ التَّنْزِيهِ نَزَّهْتُ رَبَّنَا
…
بِتَوْفِيقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ
(3)
ورضي الله عن الشَّافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله
(4)
:
(1)
الجوهر الفرد: هو الجزء الذي لا يتجزأ، وهو جوهر ذو وضع لا يقبل القسمة لا قطعًا ولا كسرًا، ولا وهمًا ولا فرضًا. «دستور العلماء» (1/ 269).
(2)
«ح» : «أنا» . والمثبت من «م» .
(3)
الظاهر أن هذه الأبيات للإمام ابن القيم نفسه، وليست من قصيدته الميمية المشهورة.
(4)
البيتان في «ديوان الشافعي» (80).
يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى
…
وَاهْتِفْ بِقَاعِدِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ
إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ
…
فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّيَ رَافِضِي
ورضي الله عن شيخنا إذ يقول
(1)
:
فَإِنْ كَانَ نَصْبًا وَلَاءُ الصِّحَابِ
…
فَإِنِّي كَمَا زَعَمُوا نَاصِبِي
وَإِنْ كَانَ رَفْضًا وَلَا آلِهِ
(2)
…
فَلَا بَرِحَ الرَّفْضُ مِنْ جَانِبِي
وهذا كله كأنه مأخوذٌ من قول الأول
(3)
:
وَعَيَّرَنِي الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا
…
وَذَلِكَ ذَنْبٌ لَسْتُ مِنْهُ أَتُوبُ
وقول الآخر
(4)
:
فَإِنْ كَانَ ذَنْبِي حُبَّكُمْ وَوَلَاءَكُمْ
…
فَإِنِّي مُصِرٌّ مَا بَقِيتُ عَلَى الذَّنْب
وإن أردتم بالجسم ما يُشار إليه إشارةً حسيةً، فقد أشار إليه أعرف الخلق به بإصبعه رافعًا لها إلى السماء، يُشهِد الجَمْع الأعظم، مستشهدًا له
(5)
، لا للقبلة.
(1)
البيتان أنشدهما شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 240) لقائل لم يسمه، فلعله أراد بالقائل نفسه.
(2)
في «درء التعارض» : «ولاء الجميع» .
(3)
لأبي ذؤيب الهذلي في «أشعار الهذليين» (1/ 70):
وعيَّرها الواشون أنِّي أحبُّها
…
وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها
ولعل البيت المذكور هنا مأخوذ عنه.
(4)
لم نقف على قائله.
(5)
أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله، كما تقدم (ص 124).
أو أردتم بالجسم ما يُقال: أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين
(1)
منبِّهًا على علوه على عرشه، وسمع السؤال بأين وأجاب عنه
(2)
، ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه «مِن» و «إلى» فقد نزل جبريل من عنده، ونزل كلامه من عنده، وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعنده المسيح رُفع إليه.
وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمرٌ عن
(3)
أمرٍ، فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة، ومن قال: إنها صفة واحدة، فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء. وقد قال أعلم الخلق به:«أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»
(4)
. والمستعاذ به غير المستعاذ منه. وأمَّا استعاذته صلى الله عليه وسلم به منه فباعتبارين مختلفين، فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوفٍ واحدٍ وربٍّ واحدٍ، فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف
(5)
بهما منه.
(1)
أخرجه مسلم، وهو حديث الجارية، وقد تقدم تخريجه (ص 124).
(2)
يعني: حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه لما سأل النبي (بقوله: «أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض
…
» الحديث. أخرجه أحمد (16438، 16450) والترمذي (3109) وابن ماجه (182) وابن حبان (6140) وقال الترمذي: «حديث حسن» .
(3)
«ح» : «عين» . والمثبت من «م» .
(4)
أخرجه مسلم (486).
(5)
«ح» : «من الموصوف» . والمثبت من «م» .
وإن أردتم بالجسم ما له وجهٌ ويدان وسمعٌ وبصرٌ، فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره، وغير ذلك من صفاته
(1)
التي أطلقها على نفسه.
وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويًا على غيره، فهو سبحانه فوق عباده مستوٍ على عرشه.
وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دلَّ عليها الوحي والعقل، فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي والعقل وحقائق صفات الربِّ.
أمَّا الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسمًا مركبًا مؤلَّفًا مشبهًا لغيره، وتسميتكم هذه الصِّفات تجسيمًا وتركيبًا وتشبيهًا؛ فكذبتم على القرآن وعلى الرَّسول وعلى اللغة، ووضعتم لصفاته ألفاظًا منكم بدأت، وإليكم تعود.
وأمَّا خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب، فنفيتم المعنى الحقَّ، وسميتموه بالاسم المنكر. وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاءً ولم يره، فسأل عنه فقيل له: مائع رقيق أصفر شبه العذرة تتقيَّأه الزنابير. ومن لم يعرف العسل يَنفِر عنه بهذا التعريف، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلَّا محبةً له ورغبةً فيه. وما أحسن ما قال القائل
(2)
:
(1)
«ح» : «صفات» . والمثبت من «م» .
(2)
البيتان لابن الرومي، أنشدهما في «ديوانه» (3/ 1144)، وقد وقع فيهما تغيير، والصواب كما في «الديوان»:
في زخرف القول ترجيح لقائله
…
والحق قد يَعْتريهِ بعض تَغييرِ
تقول هذا مُجاج النَّحل تمدحه
…
وإنْ تَعِبْ قلتَ ذا قَيْءُ الزَّنابيرِ
مدحًا وذمًّا وما جاوزتَ وصفهما
…
سحر البيان يُري الظلماء كالنور
تَقُولُ هَذَا جَنِيُّ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ
…
وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا
…
وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِير
وأشدُّ ما حاول
(1)
أعداء الرَّسول من التنفير عنه سوءُ التعبير عمَّا جاء به، وضربُ الأمثال القبيحة له، والتعبيرُ عن تلك المعاني ـ التي لا أحسن منها ـ بألفاظٍ منكرةٍ ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين، فوصلت إلى قلوبهم فنفرتْ منه. وهذا شأن كل مبطلٍ، وكلُّ من يكيد الحقَّ وأهله هذه طريقه ومسلكه، وأكثر
(2)
العقول ـ كما عهدتُ ـ [ق 59 ب] تقبل القول بعبارةٍ وترده بعينه بعبارةٍ أخرى.
وكذلك إذا قال الفرعوني: لو كان فوق السماوات ربٌّ أو على العرش إلهٌ لكان مركبًا؛ قيل له: لفظ «المركب» في اللغة هو الذي ركَّبه غيرُه في محله، كقوله تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَك} [الانفطار: 8] وقولهم: ركبت الخشبة والباب؛ أو ما تَركَّب من أخلاطٍ
(3)
وأجزاء، بحيث كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت ورُكبت حتى صار شيئًا واحدًا، كقولهم: ركبت الدواء، وركَّبتُ الطعام من كذا وكذا. فإن أردتم بقولكم: لو كان فوق العرش كان
(1)
«م» : «جادل» .
(2)
«ح» : «وأكثره» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «اختلاط» . والمثبت من «م» .
مركَّبًا هذا التركيبَ المعهودَ أو أنه كان متفرقًا فاجتمع = فهو كذبٌ وفريةٌ وبهتٌ على الله وعلى الشرع وعلى العقل.
وإن أردتم أنه لو كان فوق عرشه لكان عاليًا على خلقه بائنًا منهم مستويًا على عرشه ليس فوقه شيءٌ = فهذا المعنى حقٌّ، وكأنك قلت: لو كان فوق العرش لكان فوق العرش، فنفيت الشيء بتغيير العبارة عنه وقَلْبِها إلى عبارةٍ أخرى. وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.
وإن أردت بقولك: «كان مركبًا» أنه يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، فقد وصفته أنت بصفاتٍ يتميز بعضها عن بعضٍ، فهل كان هذا عندك تركيبًا؟
فإن قلت: هذا لا يُقال لي، وإنما يُقال لمن أثبت شيئًا من الصِّفات، وأمَّا أنا فلا أُثبت له صفةً واحدةً فرارًا من التركيب.
قيل لك: العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سمَّيته أنت تركيبًا. وهَبْك سمَّيته تركيبًا وقد دلَّ العقل والوحي والفِطَر على ثبوته؛ أفتنفيه لمجرد تسميتك
(1)
الباطلة؟ فإن التركيب يُطلق ويُراد به خمسة
(2)
معانٍ:
تركيب الذَّات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدًا على ماهيتها. فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجودًا مطلقًا، إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان.
الثَّاني: تركيب الماهية من الذَّات والصفات. فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتًا مجردةً عن كل وصفٍ، لا يسمع ولا يُبصر ولا يعلم ولا يقدر
(1)
«ح» : «تسميك» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «خمس» . والمثبت من «م» .
ولا يريد ولا له حياة ولا مشيئة ولا صفة أصلًا. فكل ذات في المخلوقات أكمل من هذه الذَّات، فاستفدت بنفيك هذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته وصفاته وأفعاله، فكان اسم التركيب ملقيًا لك في أعظم الكفر، وموجبًا لك
(1)
أشد التعذيب.
الثَّالث: تركيب الماهية الجسمية من الهيولى
(2)
والصورة كما يقوله الفلاسفة.
الرَّابع: تركيبها
(3)
من الجواهر الفردة
(4)
كما يقوله كثيرٌ من أهل الكلام.
الخامس: تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت.
فإن أردت بقولك: «لو كان فوق العرش لكان مركبًا» ما تدعيه الفلاسفة والمتكلمون، قيل لك: جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، فلو كان فوق العرش جسمٌ مخلوقٌ محدثٌ لم يلزم أن يكون مركبًا بهذا الاعتبار، فكيف يلزم ذلك في حقِّ خالق المفرد والمركب، الذي يجمع المتفرق ويُفرِّق المجتمع، ويُؤلِّف بين الأجزاء فيُركبها كما يشاء؟!
والعقل إنما دلَّ على إثبات إلهٍ واحدٍ وربٍّ واحدٍ لا شريك له ولا شبيه له، ولم يدل على أن ذلك الربَّ الواحد لا اسم له، ولا صفة له، ولا وجه ولا
(1)
«ح» : «لكي» .
(2)
تقدم (ص 545) تعريفه.
(3)
«ح» : «تركبها» . والمثبت من «م» .
(4)
تقدم (ص 584) تعريفه.
يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل منه شيءٌ. فدعوى ذلك على العقل كذبٌ صريحٌ عليه، كما هي كذبٌ صريحٌ على الوحي.
وكذلك قولهم: «نُنزِّهه عن الجهة» إن أردتم أنه منزَّهٌ عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف للمظروف وحصره له، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى.
وإن أردتم بالجهة أمرًا يُوجب مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه واستواءَه على عرشه؛ فنفيكم لهذا المعنى باطلٌ، وتسميتكم له جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دلَّ عليه العقل والنقل والفطرة.
فسمَّيتم ما فوق العالم جهةً، وقلتم: منزَّهٌ عن الجهات.
وسميتم العرش حيزًا، وقلتم: الربُّ ليس بمتحيز.
وسميتم الصِّفات أعراضًا، وقلتم: الربُّ منزَّهٌ عن قيام الأعراض به.
وسميتم حكمته غرضًا، وقلتم: إنه منزهٌ عن الأغراض.
وسمَّيتم كلامه بمشيئته، ونزوله إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، وإرادته ومشيئته المقارنة لمراده، وإدراكه المقارن لوجود المُدرَك، وغضبه إذا عُصي، ورضاه إذا أُطيع، وفرحه إذا تاب إليه العباد، ونداءه لموسى حين أتى إلى الشجرة، ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة في الجنة، ونداءه لعباده يوم القيامة، ومحبته لمن كان يبغضه في حال كفره ثم صار يحبه [ق 60 أ] بعد إيمانه، وشؤون
(1)
ربوبيته التي هو كل يوم في شأنٍ
(1)
«ح» : «وسميتم» . والصواب حذف «سميتم» ؛ لأنه لم يذكر المفعول الثاني لقوله: «وسميتم كلامه
…
» إلى آخره، فقوله:«شؤون ربوبيته» معطوف على «كلامه» . ويدل عليه ما في «م» ، فإن فيها:«وربوبيته» . فحذف كلمة شؤون اختصارًا.
منها = حوادث، وقلتم: الربُّ منزهٌ عن حلول الحوادث.
وحقيقة هذا التنزيه أنه منزهٌ عن الوجود، وعن الإلهية
(1)
، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالًا لما يريد، بل عن الحياة والقيومية. ولا يتقرر كونه ربًّا للعالمين وإلهًا للعِباد إلَّا بالتنزيه عن هذا التنزيه، والإجلال عن هذا الإجلال.
فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النُّفاة بقولهم: ليس بجسمٍ، ولا جوهرٍ، ولا مركبٍ، ولا يقوم به الأعراض، ولا يُوصف بالأبعاض، ولا يفعل الأغراض، ولا تحله الحوادث، ولا تحيط به الجهات، ولا يُقال في حقه:«أين» ، وليس بمتحيزٍ، كيف كَسَوْا حقائق أسمائه وصفاته، وعلوه على خلقه واستواءَه على عرشه، وتكليمه لعباده، ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته = هذه الألفاظَ، ثم توسلوا إلى نفيها بواسطتها، وكفَّروا وضلَّلوا مَن أثبتها، واستحلوا منه ما لم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى؟! فالله الموعد، وإليه التحاكم، وبين يديه التخاصم، و:
نَحْنُ وَإِيَّاهُمُ نَمُوتُ وَلَا
…
أَفْلَحَ عِنْدَ الْحِسَابِ مَنْ نَدِمَا
(2)
***
(1)
«م» : «الماهية» .
(2)
لم نقف على تسمية قائله، ولعله للإمام ابن القيم نفسه، وقد أنشده في «الرسالة التبوكية» (ص 22) أيضًا.
فصل
ومن ذلك لفظ العدل، جعلته القدرية اسمًا لإنكار قدرة الربِّ على أفعال عباده وخلقه لها ومشيئته، فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته وخلقه هو العدل
(1)
، وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه وكتابته من العدل، وسَمَّوْا أنفسهم بالعدلية، وعَمَدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل شيءٍ من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيءٍ وشمول مشيئته له فسمَّوْه جبرًا
(2)
، ثم نفوا هذا المعنى الصحيح، وعبَّروا عنه بهذا الاسم المنكر، وأثبتوا ذلك المعنى الباطل، وعبَّروا عنه بالاسم المعروف، ثم سمَّوْا أنفسهم أهل العدل والتوحيد
(3)
، وسمَّوْا مَن أثبت صفات الربِّ وأثبت قَدَره وقضاءه أهل التشبيه والجبر.
وكذلك فعل الرَّافضة سواءً، سَمَّوْا موالاة الصَّحابة نَصْبًا، ومعاداتهم موالاةً لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك المرجئة سمَّوْا من قال في الإيمان بقول الصَّحابة والتَّابعين واستثنى فيه، فقال: أنا مؤمن إن شاء الله
(4)
= شكَّاكًا.
وهكذا شأن كل مبتدعٍ وملحدٍ، وهذا ميراث مِن تسمية كفار قريشٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصَّبَأة، وصار هذا ميراثًا منهم لكل مبطلٍ وملحدٍ
(1)
«ح» : «العقل» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «حيزًا» . وهو تصحيف، والمثبت من «م» .
(3)
هم المعتزلة، لقبوا أنفسهم بذلك. وينظر «بدائع الفوائد» للمصنِّف (2/ 648).
(4)
ينظر مسألة الاستثناء في الإيمان في كتاب «الإيمان» لابن تيمية (ص 334 - 359).
ومبتدعٍ، يُلقِّب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة.
فإذا أطلقوا لفظ الجسم صوروا في ذهن السَّامع جثة من الجثث الكثيفة، أو بدنًا له حاملٌ يحمله.
وإذا قالوا: «مركبًا» صوروا في ذهنه أجزاءً كانت متفرقة فركبها مركِّبٌ، وهذا حقيقة المركب لغةً وعرفًا.
فإذا قالوا: «يلزم أن تَحُلَّه الحوادث» صوروا في ذهنه ذاتًا تَعتَوِر عليها الآفات وحوادث الزمان.
وإذا قالوا: «لا تقوم به الأعراض» صوروا في الذهن ذاتًا تنزل
(1)
بها الأعراض النَّازلة بالمخلوقين، كما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم ابن آدم وأمله وأجله والأعراض إلى جانبه إن أخطأه هذا أصابه هذا
(2)
.
وإذا قالوا: «يقولون بالحيز والجهة» صوروا في الذهن موجودًا محصورًا بالأحياز.
وإذا قالوا: «لزم الجبر
(3)
». صوروا في الذهن قادرًا ظالمًا يجبر الخلق على ما لا يريدون، ويعاقبهم على ما لا يفعلون.
وإذا قالوا: «أنتم نواصب» صوروا في الذهن قومًا نصبوا العداوة لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته واستحلُّوا حُرُماتهم.
(1)
«ح» : «نزل» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه البخاري (6417).
(3)
«ح» : «الحيز» . والمثبت من «م» .
وإذا قالوا لمن قال أنا مؤمن إن شاء الله: «شكاكًا» صوروا في الذهن قومًا يَشُكُّون في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله ولقائه، لا يجزمون بذلك.
وإذا قالوا لمن أثبت الصِّفات: «إنه مشبِّهٌ» صوروا في الذهن قومًا يقولون: إن الله مثلهم، وله وجهٌ كوجوههم، وسَمْعٌ كأسماعهم، وبصرٌ كأبصارهم، ويدان كأيديهم، ونزولٌ كنزولهم، واستواءٌ كاستوائهم، وفرحٌ كفرحهم.
وإذا قالوا: «حشوية» صوروا في ذهن السَّامع قومًا قد حشوا في الدين ما ليس منه وأدخلوه فيه، وهو حشوٌ لا أصل له.
= فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها. ولو ذكروا حقيقة قولهم
(1)
لما قَبِلَت العقول السليمة والفطر المستقيمة سواه، والله يعلم وملائكته ورسله ـ وهم أيضًا ـ أنهم بَراءٌ من هذه المعاني الباطلة، وأنهم أبعد الخلق منها، وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله بتعطيل صفاته، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقعدوا تحت قوله [ق 60 ب]:{إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اَكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58].
أفيظن الجاهلون أنَّا نجحد صفات ربنا، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلُّمَه بالقرآن العربي، وتكليمه لموسى حقيقةً كلامًا أَسْمَعه إيَّاه بغير واسطةٍ، وننكر سمعه وبصره وعلمه وقدرته وحياته وإرادته ووجهه
(1)
«ح» : «كقولهم» . والمثبت من «م» .
الكريم ويديه ـ وكلتا
(1)
يديه يمين ـ اللتين يقبض سماواته بإحداهما والأرض بالأخرى
(2)
، ورؤية وجهه الكريم في جنات عدن، ومحبته ورضاه، وفرحه بتوبة التَّائبين، ونزوله إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق؛ لأسماءٍ سمَّوْها هم وسلفهم ما أنزل الله بها من سلطان، وألقابٍ وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأتِ بها سُنةٌ ولا قرآن، وشُبهاتٍ قذفت بها قلوب ما استنارت بنور الوحي، ولا خالطتها بشاشة الإيمان، وخيالاتٍ هي بتخيلات
(3)
الممرورين
(4)
وأصحاب الهَوَس
(5)
أشبه منها بقضايا العقل والبرهان، ووهمياتٍ نِسْبَتُها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب إلى الأبصار في القيعان، وألفاظٍ مجملةٍ ومعانٍ مشتبهةٍ قد لُبس فيها الحق بالباطل، فصار ذا خفاءٍ
(6)
وكتمان.
فدعونا من هذه الدعاوي الباطلة التي لا تفيد إلَّا إتعاب الإنسان وكثرة الهذيان، وحاكمونا إلى الوحي والميزان، لا إلى منطق يونان، ولا إلى قول فلان ورأي فلان. فهذا كتاب الله ليس فوق بيانه مرتبة في البيان، وهذه سُنة رسوله مطابقة له أعظم من مطابقة البنان للبنان
(7)
. وهذه أقوال أعقل الأمم
(1)
«ح» : «اللتين كلتا» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
«م» : «تخييلات» .
(4)
يعني: المجانين، كما تقدم (ص 141).
(5)
الهَوَسُ: طَرَفٌ من الجنون. «الصحاح» (3/ 992).
(6)
«ذا خفاء» تحرف في «ح» إلى: «داحضًا» . والمثبت من «م» .
(7)
«ح» : «البيان للبيان» . «م» : «البيان للسان» . ولعل المثبت هو الصواب.
بعده والتَّابعين لهم بإحسان، لا يختلف منهم في هذا الباب اثنان
(1)
، ولا يوجد عنهم فيه قولان متنافيان. بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصِّفات، وعلو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وإثبات تكلمه وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله كتتابع الأسنان. وقالوا للأُمة: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وإلى مَن بعدكم إلى آخر الزمان، وهذا هو الذي نادى به المنادي، وأذَّن به على رءوس الملأ في السِّر والإعلان، فحيَّ
على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان، وحيَّ على الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن، والصلاة خير من النوم في ظلمة ليلِ الشكوك والإفك والكفران. فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه ـ وصدَّقه المؤمنون ـ بأنه تائهٌ في بيداء الآراء والمذاهب حيران، وأنه لم يصل إلى اليقين بشيءٍ منها، لا هو ولا مَن قبله من أمثاله على تطاول الأزمان، وأن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك والحيرة ولقلقة اللسان
(2)
.
فالحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وخصَّهم بكمال العقول، وصحة الفِطَر، ونور البرهان، وجعلهم هداةً مهتدين، مستبصرين مبصرين، أئمة للمتقين، يهدون بأمره، ويبصرون بنوره، ويدعون إلى داره، ويحاربون
(3)
كل مُفتَّنٍ فتَّان
(4)
، فحيَّ على خير العمل بمتابعة المبعوث
(1)
«ح» : «إثبات» . والمثبت من «م» .
(2)
اللقلق: اللسان، واللقلقة: صوته، وكل صوت في اضطراب، أو شدة الصوت. «القاموس المحيط» (ص 922).
(3)
«م» : «يجادلون» .
(4)
الفتنة: الضلال والإثم، والمفتن: المفتون، والفاتن: المضل عن الحق. «لسان العرب» (13/ 318).
بالفرقان، وتحكيمه وتلقِّي
(1)
حُكْمه بالتسليم والقبول والإذعان، ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والردِّ والهوان، ومطاعنة المعارضين له بعقولهم بالسَّيف والسِّنان
(2)
، وإلا فبالقلم واللسان.
فالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة لنصوص الوحي يسجدان، ويُصدِّقان بما شهدت به ولا يُكذِّبان، ويُقرَّان أن لها عليهما أعظم السلطان، وأنهما إن خرجا عنها غُلبا ولا ينتصران، [وإن استقاما عليها]
(3)
ظفرا بالهُدى والعلم واليقين والإيمان. والله المستعان، وعليه التكلان.
الوجه
السَّابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتَّى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنُّبوة حقًّا، ولا على أصول أحدٍ من أهل الملل المُصدِّقين بحقيقة النُّبوة.
وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنُّبوة في شيءٍ، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممَّن يُقرُّ بالنُّبوة على قواعد الفلسفة ويجريها على أوضاعهم، وأن الإيمان بالنُّبوة عندهم هو الاعتراف بموجودٍ حكيمٍ له طالعٌ مخصوصٌ يقتضي طالعه أن يكون متبوعًا، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدَّموها على خبره.
فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء، فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمس بعقولهم، فلم يصدقوا بشيءٍ منها على طريقة الرُّسل.
(1)
«ح» : «وتكفي» . والمثبت من «م» .
(2)
السِّنان: نصل الرمح، والسنان: القوة. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 411) و «لسان العرب» (13/ 223).
(3)
«إن استقاما عليها» ليس في «ح» . وزدته ليستقيم السياق.
ثم سَرَتْ معارضتهم [ق 61 أ] في المنتسبين إلى الرُّسل، فتقاسموها تقاسُم الوارث لتركة موروثهم، فكل طائفةٍ كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلَّدوه
(1)
لجؤوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلومٌ أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقَضَ القائل به. فغايته أن يثبت كون النبي رسولًا للعمليات دون العِلميات، أو في بعض العِلميات التي أخبر بها دون البعض. وهذا أسوأ حالًا ممَّن جعله رسولًا إلى بعض النَّاس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولًا في العِلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلفٍ. فهذا جَحَدَ عموم رسالته إلى المدعوين، وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به، ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا. فإنه يُقال لهذا: إن كان رسولَ الله إلى هؤلاءحقًّا فهو رسوله إلى الآخرين قطعًا؛ لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته. ويقال للآخر: إن
(2)
كان رسولَ الله في العمليات وأنها حقٌّ من عند الله فهو رسوله في العِلميات
(3)
، فإنه أخبر عنه بهذا وهذا.
الوجه
الثَّامن والخمسون: أن أمر النُّبوة وما يُخبر به الرَّسول عن الله هو طَوْرٌ آخر وراء مدارك الحسِّ والعقل والخيال والوهم والمنام والكشف،
والعقل معزولٌ عمَّا يُدرك بنور النبوة وطُرق الوحي، كعزل السمع عن إدراك الألوان
(4)
،
(1)
«ح» : «قلده» .
(2)
«إن» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(3)
«ح» : «العمليات» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «الأكوان» .
والبصر عن إدراك الأصوات، وسائر الحواس عن إدراك المعقولات. فكما أن العقل طورٌ من أطوار الآدمي يحصل فيه عينٌ يبصر بها أنواعًا من المعقولات والحواس معزولة عنها، فالنبوة طورٌ آخر يحصل فيه عينٌ لها نورٌ يظهر في نورها أمورٌ لا يدركها العقل، بل هو معزول عنها كعزل الحواس عن مدارك العقول.
فتكذيب ما يدرك بنور النبوة لعجز العقل عن إدراكه وكونه معزولًا عنه كتكذيب ما يدركه العقل لعجز الحواس عن إدراكه وكونها معزولة عنه، فإن الإنسان كما قال الله عز وجل:{وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فهو في أصل الخلقة خُلق خاليًا ساذجًا لا عِلْم له بشيءٍ من المعقولات ولا المحسوسات البتةَ.
فأول ما يُخلق فيه حاسة اللمس، فيدرك بها أجناسًا من الموجودات كالحرارة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها، فاللمس قاصر عن الألوان والأصوات، بل هي كالمعدومة بالنسبة إليه.
ثم يُخلق له البصر فيدرك به الألوان والأشكال والقُرب والبُعد والصِّغَر والكِبَر والطول والقصر والحركة والسكون وغير ذلك. ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات السَّاذجة والنغمات، ثم يترقى في مدارك هذه الحاسة على التدريج حتى يسمع من البُعد ما لم يكن يسمعه قبل ذلك. ويتفاوت النَّاس في قوة هذين الإدراكين وضعفهما تفاوتًا بيِّنًا حتى يدرك الواحد ما يجزم الآخر بكذبه فيه، والمُدْرِك مشاهدٌ له لا يمكنه تكذيب نفسه فيه، وذنبه عند المُكذِّب له أنه اختص بإدراكه دونه.
ثم يُخلق له الذوق فيدرك به تفاضُل الطعوم من الحلاوة والحموضة والمرارة وما بين ذلك ما لم يكن له به شعورٌ قبل ذلك، وكذلك الشم هو
أكمله، وليس عنده من المعقولات عينٌ ولا أثرٌ ولا حسٌّ ولا خبرٌ.
ثم يُخلق فيه التمييز، وهو طورٌ آخر من أطوار وجوده، فيدرك في هذا الطور أمورًا أُخَرَ زائدة على المحسوسات لم يكن يدركها قبل ذلك. ثم يترقى إلى طورٍ آخر يدرك به الواجب والجائز والمستحيل، وأن حكم الشيء حكم مثله، والضد لا يجتمع مع ضده، والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر، ونحو ذلك من أوائل العلوم الضرورية.
ثم يترقى إلى طورٍ آخر يستنتج فيه العلوم النظرية من تلك الضروريات التي تقدَّم علمه بها، ثم يترقى في هذا الطور من أمرٍ إلى أمرٍ فوقه وأغمض منه نسبةُ ما قبله إليه كنسبة الحسِّ إلى العقل.
ثم وراء ذلك كله طورٌ آخر نسبةُ ما قبله إليه كنسبة أطوار الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة، ينفتح فيه عينٌ يُبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمورًا العقل معزولٌ عنها كعزل الحسِّ عن مدركات العقل. وهذا هو طور النبوة الذي نسبةُ نور العقل المجرد إليه دون نسبة ضوء السِّراج إلى الشمس. فإنكار العقل لما يُخبر به النبي عين الجهل، ولا مستند له في إنكاره، إلَّا أنه لم يبلغه ولم يصل إليه، فيظن أنه غير ثابتٍ في نفسه. يوضحه:
الوجه التَّاسع والخمسون: وهو أنك [ق 61 ب] إذا جعلت العقل ميزانًا ووضعت في أحد كِفَّتَيْه كثيرًا من الأمور المشاهَدة المحسوسة التي ينالها العيان، ووضعت في الكِفَّة الأخرى الأمور التي أخبرتْ بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجدت ترجيحَه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحِه للتي قبلها وتصديقِه بها أقوى
(1)
، ولولا
(1)
كذا في «ح، «م» ولفظ أقوى زائد اختل به السياق، فقد تمَّ الكلام قبله.
الحسُّ والمشاهدة تمنعه من إنكار ذلك لأنكره.
وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممَّن
(1)
يدعيها، وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة. وعَمْرو الله إن مدَّعيها ليعجب من إنكارك
(2)
لها وتوقُّفك فيها بعد البيان.
فنقول وبالله التوفيق: انْسُبْ إلى العقل حيوانًا يرى ويسمع ويُحسُّ ويتكلم ويعمل، فغشيه أمرٌ أُلقي له كأنه خشبة لا روح فيها، وزال إحساسه وإدراكه، وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله، بحيث لا يعلم شيئًا، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليلٌ ولا طريقٌ إلى العلم به.
وانسب إليه أيضًا حيوانًا خرج من إحليله مجَّةُ ماءٍ مستحيلةُ
(3)
عن حصول الطعام والشراب كالمَخْطة، فامتزجت بمثلها في مكانٍ ضيقٍ، فأقامت هناك برهةً من الدهر، فانقلبت دمًا قد تغير لونها وشكلها وصفاتها، فأقامت كذلك مدةً، ثم انقلبت قطعة لحمٍ، فأقامت كذلك مدةً، ثم انقلبت عظامًا وأعصابًا وعروقًا وأظفارًا مختلفة الأشكال والأوضاع، وهي جماد لا إحساس لها، ثم عادت حيوانًا يتحرك ويتغذى وينقلب، ثم أقام ذلك الحيوان مدة ًطويلةً في مكانٍ لا يجد فيه متنفسًا، وهو داخل أوعية بعضها فوق بعضٍ، ثم انفتح له بابٌ ضيقٌ عن مسلك الذَّكر ـ فلا يسلكه إلَّا بضغطه
(1)
«ح» : «من» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «إنكارها» . والمثبت من «م» .
(3)
أي: متحولة.
وعصره ـ فوُسع له ذلك الباب حتى خرج منه
(1)
.
وانْسُبْ إليه أيضًا شيئًا بقدر الحبة ترسله في مدينةٍ عظيمةٍ من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها، ثم يقبل على نفسه فيأكلها، وهو النَّار.
وانسب إليه أيضًا شيئًا بقدر بِزر الخَشْخاش
(2)
يحمله الإنسان بين ثيابه مدةً، فينقلب حيوانًا يتغذى بورق الشجر بُرهةً، ثم إنه يبني على نفسه قِبابًا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناءً محكمًا متقنًا، فيقيم
(3)
في ذلك البناء مدةً من الزمان لا يتغذى بشيءٍ البتةَ، فينقلب في القبة طائرًا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودًا يمشي على بطنه، فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز.
إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا ممَّا يُشاهد بالعيان ممَّا لو حُكي لمن لم يره لَعَجِبَ من عقل مَن حكاه له، وقال: وهل يُصدِّق بهذا عاقل؟! وضرورة العقل تدفع هذا. وأقام الأدلة العقلية على استحالته.
فقال
(4)
في النَّائم مثلًا: القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية
(1)
قد تكلم المصنف رحمه الله على مراحل خلق الجنين وعجيب صنع الله سبحانه فيه في مواضع كثيرة، منها:«التبيان في أيمان القرآن» (1/ 608 - 609) و «مفتاح دار السعادة» (2/ 538 - 543).
(2)
نبات حولي، يُستخرج الأفيون من ثماره، واحدته خشخاشة. «المعجم الوسيط» (1/ 235).
(3)
«ح» : «فيقم» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «فقام» . والمثبت من «م» .
وآلة لها فمن لا يُدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها فلأن
(1)
يتعذر عليه إدراكه مع عدمها
(2)
وبطلان أفعالها أولى وأحرى. وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يُعارض بها خبر الأنبياء، والحس والعيان يدفعه.
ومن له خبرة بمواد الأدلة وترتيب مقدماتها وله أدنى بيانٍ يُمْكِنه أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثيرٍ من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تُعارض بها النصوص أو أصح منها.
وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرُّسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره ولم يخطر لنا ببالٍ أعجب من ذلك بكثيرٍ، تَجِدْ تصديقَ العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور، ولولا المشاهدة لكذب بها. فيا لِلَّه العَجَبُ كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرُّسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحسُّ لأنكره غاية الإنكار! ومن هاهنا قال من صحَّ عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق وأقل بكثيرٍ من نسبة مبادئ سنِّ
(3)
التمييز إلى العقل.
(1)
«ح» : «فأن» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «وجودها» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «منادى شز» . وفي «م» : «مبادئ» . ولعل المثبت هو الصواب.