الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الستون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات الصَّانع ـ بل نفيه
(1)
بالكلية لازم قولهم لزومًا بيِّنًا ـ ولا أن العالم مخلوقٌ له، ولا يمكنهم إقامة الدليل على استحالة إلهين، ولا يمكنهم إقامة دليلٍ واحدٍ على استحالة كون الصَّانع جسمًا، ولا يمكنهم إثبات كونه عالمًا ولا قادرًا ولا ربًّا؛ فهم عاجزون عن إثبات [ق 62 أ] وجود الصَّانع، فضلًا عن تنزيهه.
ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن إثبات وجوده سبحانه، فضلًا عن تنزيهه عن صفات كماله، فنقول: المُعارِضون بين الوحي والعقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوات وحدوث العالم والمعاد، ووافقهم في هذا الأصل الجهمية والمعطلة لصفات الربِّ وأفعاله، والطَّائفتان لم تُثبت
(2)
للعالم صانعًا البتةَ، فإن الصَّانع الذي أثبتوه وجوده مستحيلٌ، فضلًا عن كونه واجب الوجود قديمًا.
أمَّا زنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعًا لفظًا لا معنًى، ثم لبَّسوا على النَّاس وقالوا: إن العالم صُنْعُه وفِعْلُه وخَلْقُه. وهو في الحقيقة عندهم غير مصنوعٍ ولا مخلوقٍ ولا مفعولٍ، ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقًا ولا مفعولًا. قال أبو حامد
(3)
: «وذلك لثلاثة أوجه: وجه في الفاعل، ووجه في الفعل، ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل.
(1)
«ح» : «نعته» . والمثبت من «م» .
(2)
كذا في «ح» ، «م» في موضع:«لم تثبتا» .
(3)
«تهافت الفلاسفة» (ص 134).
أمَّا الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدًا مختارًا عالمًا بما يريده حتى
(1)
يكون فاعلًا لما يريده، والله تعالى عندهم ليس مريدًا، بل لا صنعة له أصلًا، وما يصدر عنه فيلزم لزومًا ضروريًّا.
والثَّاني: أن العالم قديمٌ عندهم، والفعل هو الحادث.
والثَّالث: أن الله تعالى عندهم واحدٌ من كل وجهٍ، والواحد لا يصدر عنه عندهم إلَّا واحدٌ، والعالم مركب من مختلفات، فكيف يصدر عنه؟!».
قال
(2)
: «ولنحقق وجه كل واحدٍ من هذه الوجوه الثلاثة مع جدالهم في دفعه، فنقول: الفاعل عبارةٌ عمَّن يصدر عنه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار مع العلم بالمراد، وعندهم أن العالم مع الله كالمعلول مع العلة يلزم لزومًا ضروريًّا لا يتصور من الله دفعه، لزومَ
(3)
الظل للشخص والنور للشمس، وليس هذا من الفعل في شيءٍ. بل من قال: إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل، فقد تَجَوَّزَ
(4)
وتوسَّع في التجوُّز توسعًا خارجًا عن الحدِّ، واستعار اللفظ واكتفى
(5)
بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار عنه
(6)
في وصفٍ واحدٍ، وهو أن الفاعل سبب على الجملة، والسراج سبب للضوء، والشمس سبب للنور. والفاعل لم يُسمَّ فاعلًا صانعًا
(1)
«ح» ، «م»:«حين» . والمثبت من «تهافت الفلاسفة» .
(2)
«تهافت الفلاسفة» (ص 134 - 135).
(3)
في «تهافت الفلاسفة» : «كلزوم» .
(4)
«ح» ، «م»:«جاوز» . والمثبت من «تهافت الفلاسفة» .
(5)
«تهافت الفلاسفة» : «اكتفاء» .
(6)
«تهافت الفلاسفة» : «منه» .
بمجرد كونه سببًا، بل بكونه سببًا على وجه الإرادة والاختيار، حتى لو قال قائل: الجدار ليس بفاعلٍ، والحجر ليس بفاعلٍ، والجماد ليس بفاعلٍ، وإنما الفعل للحيوان = لم ننكر ذلك، ولم يكن قوله كذبًا. وللحجر فعلٌ عندهم، وهو الهُوِيُّ إلى السفل والميل إلى المركز، كما أن للنار فعلًا، وهو التسخين، وللحائط فعلًا، وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل؛ لأن ذلك صادرٌ عنه، وهذا محالٌ».
قال
(1)
: «فإن قيل: كل موجودٍ ليس بواجب الوجود لذاته، بل هو موجودٌ بغيره، فإنا نُسمي ذلك الشيء مفعولًا، ونُسمي سببه فاعلًا، ولا نُبالي كان المسبب فاعلًا بالطبع أو بالإرادة، كما أنكم لا تُبالون أنه كان فاعلًا بآلةٍ أو بغير آلةٍ، بل الفعل
(2)
جنسٌ ينقسم إلى ما يقع بآلةٍ وإلى ما يقع بغير آلةٍ، فكذلك هو جنسٌ ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار، بدليل أنَّا إذا قلنا: فِعْلٌ بالطبع، لم يكن قولنا «بالطبع» ضدًّا لقولنا «فعل» ولا دفعًا ولا نقضًا له، بل كان بيانًا لنوع الفعل، كما إذا قلنا: فعل مباشرةً
(3)
بغير آلةٍ، لم يكن نقضًا، بل كان تنويعًا وبيانًا، وإذا قلنا: فعل بالاختيار، لم يكن تَكرارًا، بل كان بيانًا لنوع الفعل، كقولنا: فعل بآلةٍ. ولو كان قولنا «فعل» يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث إنه فعل لكان قولنا «فعل بالطبع» متناقضًا كقولنا: فعل وما فعل.
قلنا
(4)
: هذه التسمية فاسدةٌ. لا يجوز أن يُسمَّى كل سببٍ بأي وجهٍ كان
(1)
«تهافت الفلاسفة» (ص 135 - 138).
(2)
«ح» : «لعقل» . والمثبت من «م» ، «تهافت الفلاسفة» .
(3)
«ح» : «مباشر» . والمثبت من «م» ، «تهافت الفلاسفة» .
(4)
القائل هو الغزالي في «تهافت الفلاسفة» .
فاعلًا، ولا كل سبب مفعولًا. ولو كان ذلك ما صحَّ أن يُقال: الجماد لا فعل له، وإنما الفعل للحيوان. وهذه من الكليات
(1)
المشهورة الصَّادقة. فإن سُمي الجماد فاعلًا فبالاستعارة، كما يُسمى طالبًا مريدًا على سبيل المجاز، إذ يُقال: الحجر يَهوِي لأنه يريد المركز ويطلبه. والطلب والأمر حقيقة لا يتصور إلَّا مع العلم بالمراد المطلوب، فلا يتصور إلَّا مع الحيوان.
وأمَّا قولكم: «إن قولنا «فعل» عامٌّ، وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة» [فهو]
(2)
غير مسلَّمٍ، وهو كقول القائل: قولنا «أراد» عامٌّ، وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد، وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد. وهو فاسد؛ إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة، وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة.
وأمَّا قولكم: «إن قولنا «فعل بالطبع» ليس بنقضٍ للأول»، فليس كذلك، فإنه نقضٌ له من حيث الحقيقة، ولكنه لا يسبق إلى الفهم التناقض
(3)
، ولا يشتد نفور الطبع عنه، فإنه لمَّا أن كان سببًا بوجهٍ ما
(4)
والفاعل أيضًا سبب [ق 62 ب] سُمي فاعلًا مجازًا.
وإذا قال: «فعل بالاختيار» فهو تكرير على التحقيق كقوله: أراد وهو عالمٌ بما أراد، إلَّا أنه لمَّا تصور أن يُقال:«فعل» وهو مجازٌ، ويقال:«فعل» وهو حقيقةٌ، لم تنفر النفس عن قوله «فعل بالاختيار» وكان معناه: فَعَلَ فعلًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، كقول القائل: تكلم بلسانه ونظر بعينه. فإنه لمَّا جاز أن
(1)
«ح» ، «م»:«الكلمات» . والمثبت من «تهافت الفلاسفة» .
(2)
من «تهافت الفلاسفة» .
(3)
«ح» : «فهم المتناقض» . والمثبت من «م» ، «تهافت الفلاسفة» .
(4)
«ح» ، «م»:«موجبا» . والمثبت من «تهافت الفلاسفة» .
يستعمل النظر في القلب مجازًا، أو الكلام في تحريك الرَّأس واليد مجازًا، لم يستقبح أن يُقال: قال بلسانه ونظر بعينيه
(1)
. ويكون معناه نفي احتمال المجاز؛ فهذه مزلة القدم.
فإن قيل: تسمية الفاعل فاعلًا إنما تُعرف من اللغة، وإلَّا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببًا للشيء ينقسم إلى ما يكون مريدًا وإلى ما لا يكون، فوقع النِّزاع في أن اسم الفاعل على كلا القسمين حقيقة أم لا؛ إذ العرب تقول: النَّار تُحرِق، والثلج يُبرِّد، والسيف يَقطَع، والخبز يُشبِع، والماء يُروِي، فقولنا:«يقطع» معناه يفعل القطع، وقولنا:«تحرق» معناه تفعل الإحراق.
فإن قلتم: إن ذلك مجازٌ، فأنتم متحكمون من غير مستندٍ.
قال: والجواب أن ذلك بطريق المجاز، وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة. والدليل عليه أنَّا لو فرضنا حادثًا توقف حصوله على أمرين، أحدهما إرادي والآخر غير إرادي، أضاف العقل الفعل إلى الإرادي، فكذا اللغة. فإن من ألقى إنسانًا في نارٍ فمات، فيقال هو القاتل دون النَّار، حتى إذا قيل: ما قتله إلَّا فلان، كان صادقًا. فإن كان اسم الفاعل على
(2)
المريد وغير
(3)
المريد على وجهٍ واحدٍ لا بطريق كون أحدهما أصلًا والآخر مستعارًا، فلِمَ يُضاف القتل إلى المريد لغةً وعرفًا وعقلًا، مع أن النَّار هي العلة القريبة في القتل
(4)
؟ وكأن الملقي لم يتعاطَ إلَّا الجمع بينه وبين النَّار،
(1)
«م» ، «تهافت الفلاسفة»:«بعينه» .
(2)
«على» ليس في «ح» ، «م» . وأثبته من «تهافت الفلاسفة» .
(3)
«ح» : «وعين» . والمثبت من «م» ، «تهافت الفلاسفة» .
(4)
«ح» ، «م»:«العقل» . والمثبت من «تهافت الفلاسفة» .
ولكن لمَّا كان الجمع بالإرادة وتأثير النَّار بغير إرادة سُمي قاتلًا، ولم تُسمَّ النَّار قاتلة إلَّا بمعنى الاستعارة، فعُلم أن الفاعل من يصدر الفعل عن إرادته، وإذا لم يكن الله مريدًا عندهم ولا مختارًا للفعل
(1)
لم يكن صانعًا ولا فاعلًا إلَّا مجازًا.
فإن قيل: نحن نعني بكون الله فاعلًا أنه سبب لوجود كل موجودٍ سواه، وأن العالم قوامه به، ولولا وجود الباري لما تصور وجود العالم، ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم، كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء، فهذا ما نعنيه بكونه فاعلًا، فإن كان الخصم يأبى أن يُسمي هذا المعنى فعلًا فلا مشاحَّة
(2)
في الأسامي بعد ظهور المعنى.
قلنا: غرضنا أن نبيِّن أن هذا المعنى لا يُسمى فعلًا وصنعًا، وإنما يُسمى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقةً، وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل، ونطقتم بلفظه تجملًا بالإسلام
(3)
، ولا يتم الدِّين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني، فصرِّحوا بأن الله لا فعل له، حتى يتضح أن معتقدكم مخالفٌ لدين المسلمين، ولا تُلَبِّسوا بقولكم إن الله صانع العالم، وإن العالم صنعه؛ فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها. ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط». ثم ساق الكلام إلى آخر المسألة.
قلت: ولا ريب أن أصولهم التي عارضوا بها الوحي تنفي وجود الصَّانع، فضلًا عن كونه صانعًا للعالم؛ بل تجعله ممتنع الوجود، فضلًا عن
(1)
«تهافت الفلاسفة» : «لفعل العالم» .
(2)
أي: لا مضايقة ولا منازعة. «الكليات» للكفوي (ص 970).
(3)
«تهافت الفلاسفة» : «بالإسلاميين» .
كونه واجب الوجود؛ لأن الصِّفات التي وصفوه بها صفات معدومٍ ممتنعٍ في العقل والخارج، فلا العقل يتصوره
(1)
إلَّا على سبيل الفرض الممتنع كما يفرض المستحيلات، ولا يمكن في الخارج وجوده، فإن ذاتًا هي وجود مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد عن كل ماهية، ولا صفة لها البتة، ولا فيها معنيان متغايران في المفهوم، ولا هي هذا العالم ولا صفة من صفاته، ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه، ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، ولا محايثة له ولا مباينة، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا يساره
(2)
، ولا تُرى ولا يمكن أن تُرى، ولا تدرِك شيئًا، ولا تُدرك هي بشيءٍ من الحواس، ولا هي متحركة ولا ساكنة، ولا توصف بغير السلوب والإضافات العدمية، ولا تُنعت
(3)
بشيءٍ من الأمور الثبوتية = هي بامتناع الوجود أحق منها بإمكان الوجود، فضلًا عن وجوبه. وتكليف العقل بالاعتراف بوجود هذه الذَّات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين، ومعلوم أن مثل هذه الذَّات لا تصلح لفعلٍ ولا ربوبيةٍ ولا إلهيةٍ، وأي ذاتٍ فُرضت في الوجود فهي أكمل منها.
فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يُقدر مستحيلًا. فلا يكثر عليهم بعد هذا إنكارهم لصفاته، كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه، فضلًا عن استوائه على عرشه ونزوله [ق 63 أ] إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وفرحه وحبه، وغضبه
(1)
«ح» : «يتصور» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يسرته» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «نفعت» . والمثبت من «م» .
ورضاه. فمَن هدم قواعد البيت من أصلها هان عليه هدم السقف والجدران! ولهذا كان حقيقة قول هؤلاء القول بالدهر، وإنكار الخالق بالكلية، وقولهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اَلدَّهْرُ} [الجاثية: 23]. وإنما صانعوا المسلمين بألفاظٍ لا حقيقة لها.
واشتق إخوانهم الجهمية النفي والتعطيل من أصولهم، فسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده
(1)
بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور، وإن باينوهم في بعض لوازمهم، كإثباتهم كون الربِّ تعالى قادرًا مريدًا فاعلًا بالاختيار، وإثباتهم معاد الأبدان والنبوة، ولكن لم يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرُّسل، ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة، بل اشتقوا مذهبًا بين المذهبين، وسلكوا طريقًا بين الطريقين، لا للملاحدة فيه وافقوا، ولا للرسل اتبعوا.
ولهذا عظمت بهم البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه، وظهورهم في مظهرٍ ينصرون به الإسلام، ويردون به على الملاحدة، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل أتباع الرُّسل كفَّروهم وضلَّلوهم، وصاحوا بهم من أقطار الأرض: امتازوا من المسلمين أيها المعطلون، وانحازوا إلى إخوانكم من الملاحدة الذين هم بربهم يعدلون، وخَلُّوا عن نصوص الوحي، فكم بها تتلاعبون، فمرةً تقولون: هي أدلةٌ لفظيةٌ معزولةٌ عن إفادة العلم واليقين. ومرةً تقولون: هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين. ومرةً تقولون: لا سبيل إلى تحكيمها والالتفات إليها وقد عارضها المعقول وقواطع البراهين. ومرةً تقولون: أخبار آحادٍ فلا يُحتجُّ بها في المسائل
(1)
«م» : «وتوحده» .
القطعية التي يُطلب منها اليقين. فأرضيتم بذلك إخوانكم من الملاحدة أعداء الدِّين، وكنتم بذلك لهم موافقين، فصالوا عليكم به فيما أثبتموه، وكنتم به من الإسلام وأهله متقربين، وصال عليكم المسلمون
(1)
بما وافقتم فيه إخوانكم من الضلال المبين، فتدافعكم الفريقان تدافع الكرة بين الضَّاربين.
فدعونا من التلبيس والمصانعة، بالله هل أثبتم للعالم ربًّا بائنًا عنه، وهل عندكم فوق العرش إلهٌ يُعبد، ويُصلى له ويسجد، أم ليس فوق العرش إلَّا العدم الذي لا شيء هو؟ وهل أثبتم لصانع العالم سبحانه صفةً ثبوتيةً تقوم به، فهل أثبتم له علمًا حقيقةً، وسمعًا وبصرًا، وحياة ومشيئة وإرادة حقيقةً؟ وهل تعتقدون أنه تكلم أو كلَّم أحدًا حقيقةً، أو أمر أو نهى، أو قال أو يقول، أو نادى أو يُنادي، أو أخبر أو نبَّأ أو أنبأ، أو عَهِدَ أو وصَّى، أو خاطب أو ناجى، أو أثنى على نفسه أو على أحدٍ من خلقه، أو قال قط:{إِنَّنِيَ أَنَا اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 13] أو نزل من عنده شيءٌ، أو صعد إليه شيءٌ، أو قام به فعل البتة يجب أن
(2)
يكون به فاعلًا، أو قام به حُبٌّ أو بغضٌ، أو رضًا أو سُخْط، أو له وجهٌ أعلى، أو خَلَقَ آدم بيديه، أو أَغرَسَ
(3)
جنة عدنٍ بيده، أو كتب التوراة بيده
(4)
، أو يقبض سماواته السبع بيده والأرضين السبع بيده
(5)
، أو كتب بيده كتابًا فهو عنده موضوعٌ على العرش أن رحمته سبقت غضبه
(6)
،
(1)
«ح» : «المسلمين» .
(2)
«أن» ليس في «ح» .
(3)
كذا في «ح» وهو صحيح؛ يقال: غرس الشجر يغرسه: أثبته في الأرض، كأغرسه. «القاموس المحيط» (ص 561).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
أخرجه البخاري (3194) ومسلم (2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أو يراه أنبياؤه ورسله والمؤمنون في دار الجزاء، فضلًا عن أن يتجلى لهم من فوقهم يضحك إليهم
(1)
ويُسلِّم عليهم؟!
فبالله
(2)
هل لهذا كله عندكم حقيقةٌ؟! أم إذا تجملتم وأجملتم قلتم: كل ذلك مجازاتٌ واستعاراتٌ ليس له حقيقة.
فاسألوا بالله إذًا إخوانكم من أرباب المعقولات هل يُصدِّق أحدٌ منكم أن إنسانًا خُلق من ترابٍ، وأنه يعود حيًّا بعدما صار إلى التراب.
وأن عصًا انقلبت فصارت حيةً عظيمةً أكلت ما مرَّت عليه، ثم انقلبت فصارت عصًا كما كانت.
وأن يدًا خرجت بيضاء لها ضوء مثل ضوء الشمس.
وأن بحرًا
(3)
من بحار العالم انفلق بعسكرٍ عظيمٍ اثني عشر طريقًا، وصار الماء بين الطُّرُق كالحيطان.
وأن جبلًا قُلع من موضعه على قدر عسكرٍ عظيمٍ، ووقف على رؤوسهم بين السماء والأرض ـ وهم ينظرون إليه عيانًا ـ ثم عاد إلى مكانه.
وأن حجرًا مربعًا يُحمل مع قومٍ يُضرب بعصًا فينفجر منه اثنا عشر نهرًا، كل نهرٍ لطائفةٍ عظيمةٍ يختصون بمشربه، لا يَشرَكهم فيه الآخرون.
وأن قتيلًا ضُرب بعضوٍ من بقرةٍ مذبوحةٍ فقام القتيل حيًّا.
(1)
أخرج مسلم (191) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذكر الورود على النار والشفاعة، وفيه:«فيتجلى لهم يضحك» .
(2)
«ح» : «فباره» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «بحارا» .
وأن إنسانًا رُمي به في نارٍ تأجج فلم تحرق منه شيئًا، وعادت خضراء وروضة.
وأن مدائن قُلعت من أصولها كما يُقلع الشجر ثم رُفعت في الهواء ثم قُلبت بمَن فيها، فماتوا موتة رجلٍ واحدٍ.
وأن صخرةً تمخَّضت وتحركت ثم انفلقت عن ناقةٍ كأحسن النوق [ق 63 ب].
وأن قمرًا انشق في السماء شقتين ثم عاد فالتأم كما كان
(1)
.
وأن يدًا وُضعت في ماءٍ لا يغمرها فتفجر الماء من بين أصابعها وثار كأمثال العيون حتى روي منه عسكرٌ عظيمٌ جرارٌ، وملؤوا منه كل قربةٍ وكل إناءٍ معهم
(2)
.
وأن رجلًا وُلد من غير أبٍ، وأن امرأةً وُلدت من غير أمٍّ
(3)
.
وأن رجلًا حُمل من مكة إلى بيت المقدس، ثم رُفع حتى جاوز السماوات السبع، ثم عاد إلى فراشه في ليلته
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يعني: حواء عليها السلام؛ فقد قال في «أعلام الموقعين» (1/ 104): «فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يُقر بوجود آدم من غير أبٍ ولا أمٍّ؟ ووجود حواء من غير أمٍّ» ؟
(4)
يعني: حديث الإسراء والمعراج، وهو حديث متواتر؛ قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة كثيرة، ينظر «تفسير ابن كثير» (5/ 1 - 45) و «الدر المنثور» (9/ 139 - 232).
وأن عسكرًا عظيمًا قاموا بدوابهم وخدمهم وعددهم على بساطٍ واحدٍ بين السماء والأرض على متن الريح مسيرة شهر في مقدار غدوة من النهار، ثم يرجعون في مقدار ذلك، ولا تمس ركابهم الأرض.
فبالله يا أرباب المعقولات، ويا أهل الذَّاتي والعَرَضي
(1)
، وأهل المقولات
(2)
العشر، والكليات الخمس
(3)
، ويا أهل المختلطات والموجهات والقضايا المسوَّرات
(4)
والمهملات
(5)
، ويا أهل الشكل الأول والثَّاني والرَّابع، وأصحاب القياس الحملي
(6)
والشرطي
(7)
، وأهل العقول
(1)
«ح» : «أشيا عرضي» . وتقدم (ص 545) تعريف الذاتي والعرضي.
(2)
«ح» : «المعقولات» . وقد تقدم تفسيرها (ص 487).
(3)
تقدم (ص 544).
(4)
«ح» : «المستورات» . والسور عند المنطقيين اللفظ الدال على كمية أفراد الموضوع في القضايا الحملية، كلفظ كل وبعض في قولنا:«كل إنسان فانٍ» . و «بعض الناس طبيب» . ويطلق أيضًا على كمية الأوضاع في القضايا الشرطية، كلفظ «كلما» ، و «مهما» ، و «متى» ، و «ليس كلما» ، و «ليس مهما» ، و «ليس متى» ، والقضية المشتملة على السور تسمَّى مسوَّرة ومحصورة. «المعجم الفلسفي» (1/ 676).
(5)
القضية المهملة: هي قضية حملية موضوعها كلي، ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه، كقولنا: الإنسان أبيض. «المعجم الفلسفي» (1/ 676).
(6)
القياس الحملي: هو القياس الاقتراني، وهو الذي يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولًا فيه بالفعل بوجهٍ ما، بل بالقوة، كقولك: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث، فكل جسم محدث. «المعجم الفلسفي» (2/ 207).
(7)
القياس الشرطي: مؤلف من مقدمتين: إحداهما شرطية، والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها، مثل قولنا: إن كانت النفس لها فعل بذاتها، فهي قائمة بذاتها، لكن لها فعل بذاتها، فهي إذن قائمة بذاتها. «المعجم الفلسفي» (1/ 699).
ا
المقدَّمة ـ بزعم أربابها ـ على الوحي، هل تصدِّقون بشيءٍ من هذا، وهل يُصدِّق أفراخكم وتلامذتكم بشيءٍ ممَّا ذكرنا من شأن الربوبية؟ أم التكذيب بهذا وهذا ثمرة
(1)
عقولكم وحاصل معقولكم؟!
فَعَلَى عُقُولِكُمُ الْعَفَاءُ فَإِنَّكُمْ
…
عَادَيْتُمُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَا
وَطَلَبْتُمُ أَمْرًا مُحَالًا وَهْوَ إِدْ
…
رَاكُ الْهُدَى لَا تَبْتَغُونَ
(2)
رَسُولَا
وَزَعَمْتُمُ أَنَّ الْعُقُولَ كَفِيلَةٌ
…
بِالْحَقِّ أَيْنَ الْعَقْلُ كَانَ كَفِيلَا
وَهُوَ الَّذِي يَقْضِي فَيَنْقُضُ
(3)
حُكْمَهُ
…
عَقْلٌ تَرَوْنَ كِلَيْهِمَا مَعْقُولَا
وَتَرَاهُ يَجْزِمُ بِالقَضَاءِ وَبَعْدَ ذَا
…
يُلْفَى لَدَيْهِ بَاطِلًا مَعْلُولَا
لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ دُونَ هِدَايَةٍ
…
بِالْوَحْيِ تَأْصِيلًا وَلَا تَفْصِيلَا
كَالطَّرْفِ دُونَ النُّورِ لَيْسِ بِمُدْرِكٍ
…
حَتَّى يَرَاهُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا
وَإِذَا الظَّلَامُ تَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُهُ
…
وَطَمِعْتَ بِالْإِبْصَارِ كُنْتَ مُحِيلَا
فإِذَا النُّبُوَّةُ لَمْ يَنَلْكَ ضِيَاؤُهَا
…
فَالْعَقْلُ لَا يَهْدِيكَ قَطُّ سَبِيلَا
نُورُ النُّبُوَّةِ مِثْلُ نُورِ الشَّمْسِ لِلْـ
…
ـعَيْنِ البَصِيرَةِ فَاتَّخِذْهُ دَلِيلَا
طُرُقُ الْهُدَى مَسْدُودَةٌ إِلَّا عَلَى
…
مَنْ أَمَّ هَذا الْوَحْيَ والتَّنْزِيلَا
فَإِذَا عَدَلْتَ عَنِ الطَّرِيقِ تَعَمُّدًا
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا أَرَدْتَ وُصُولَا
يَا طَالبًا دَرَكَ الْهُدَى بالْعَقْلِ دُو
…
نَ النَّقْلِ لَنْ تَلْقى لِذَاكَ دَلِيلَا
(1)
«ح» : «وهل أثمره» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«م» : «تتبعون» . وهو خطأ يختل به الوزن.
(3)
«ح» : «قينقبض» . والمثبت من «م» .
كَمْ رَامَ قَبْلَكَ ذَاكَ مِنْ مُتَلَدِّدٍ
(1)
…
حَيْرَانَ عاشَ مَدَى الزَّمانِ جَهُولَا
مَا زَالَتِ الشُّبُهاتُ تَغْزُو قَلْبَهُ
(2)
…
حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا
فَتَرَاهُ بِالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ وَالذْ
…
ذَاتِيِّ وَالعَرَضِيِّ
(3)
طُولَ زَمَانِهِ مَشْغُولَا
فَإِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ
…
وَيَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ عِدَاهُ مَثِيلَا
وَيَقُولُ تِلْكَ أَدِلَّةٌ لَفْظِيَّةٌ
…
مَعْزُولَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ دَلِيلَا
وَإِذَا تَمُرُّ عليهِ قَالَ لَهَا
(4)
اذْهَبِي
…
نَحْوَ الْمُجَسِّمِ أَوْ خُذِي التَّأْوِيلَا
وَإِذَا أَبَتْ إِلَّا النُّزُولَ عَلَيْهِ كَا
…
نَ لَهَا الْقِرَى التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَا
فَيَحِلُّ بالْأَعْدَاءِ ما تَلْقَاهُ مِنْ
…
كَيْدٍ يَكُونُ لِحَقِّهَا تَعْطِيلَا
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بِعُمْيَانٍ خَلَوْا
…
في ظُلْمَةٍ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلَا
فَتَصَادَمُوا بِأَكُفِّهِمْ وَعِصِيِّهِمْ
…
ضَرْبًا يُدِيرُ رَحَى الْقِتَالِ طَوِيلَا
حَتَّى إِذا مَلُّوا الْقِتَالَ رَأَيْتَهُمْ
…
مَشْجُوجًا
(5)
اوْ مَفْجُوجًا
(6)
اوْ مَقْتُولَا
(1)
«ح» : «متلذذ» . والمثبت من «م» ، يقال: تلدد فلان: إذا تلفت يمينًا وشمالًا وتحير متبلدًا، مأخوذ من لديدَيِ الوادي أي: جانبيه. «تاج العروس» (9/ 137).
(2)
«ح» : «قبله» . والمثبت من «م» .
(3)
كذا في «ح» ، «م» ، وزيادة قوله «والعرضي» تفسد الوزن.
(4)
«ح» : «لا» . والمثبت من «م» .
(5)
الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيءٍ فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. «الصحاح» (1/ 323) و «النهاية في غريب الحديث» (2/ 445).
(6)
فج الأرض: شقها شقًّا بالغًا. «المعجم الوسيط» (2/ 674).
وَتَسَامَعَ الْعُمْيَانُ حَتَّى أَقْبَلُوا
…
لِلصُّلْحِ فَازْدَادَ الصِّيَاحُ عَوِيلَا
(1)
يوضحه:
الوجه
الحادي والستون: وهو أن الطُّرق التي سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في إثبات الصَّانع هي بعينها تنفي وجوده،
فإنها متضمنةٌ لنفي صفاته وأفعاله صريحًا، وهي تنفي وجوده لزومًا؛ فإن هؤلاء المعارضين صنفان: الفلاسفة والجهمية:
أمَّا الفلاسفة فأثبتوا وجود الصَّانع بطريق التركيب، وهو أن الأجسام مركبة، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقرٍ ممكنٌ، والممكن لا بد له من وجود واجبٍ، وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجهٍ من الوجوه؛ إذ يلزم تركيبه وافتقاره، وذلك ينافي وجوبه. وهذا هو غاية توحيدهم، وبه أثبتوا الخالق على زعمهم، ومعلومٌ أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق؛ فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته؛ إذ لو ثبتت له هذه الصِّفات ـ بزعمهم ـ لكان مركبًا، والمركب مفتقرٌ إلى غيره، فلا يكون واجبًا بنفسه.
وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما يطول وصفه، وقد انتدب لإفسادها جنود الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فإن المركب لفظٌ مجملٌ، يُراد به ما ركَّبه غيره، وما كا ن متفرقًا فاجتمعت أجزاؤه، [ق 64 أ] وما يمكن تفريق بعضه عن بعضٍ، والله سبحانه منزَّهٌ عن هذه التراكيب، ويُراد به في اصطلاح هؤلاء: ما له ماهيةٌ خاصةٌ يتميز
(1)
هذه القصيدة لم نقف عليها في غير «الصواعق» و «مختصره» ، ولعلها للإمام ابن القيم نفسه.
بها عن سائر الماهيات، وما له ذاتٌ وصفاتٌ بحيث يتميز بعض صفاته عن بعضٍ. وهذا ثابتٌ للربِّ
(1)
سبحانه، وإن سمَّاه هؤلاء تركيبًا كما تقدم
(2)
.
وكذلك لفظ الافتقار لفظٌ مجملٌ، يُراد به فقر الماهية إلى موجدٍ غيرها يتحقق
(3)
وجودها به؛ والله سبحانه غنيٌّ عن هذا الافتقار. ويُراد به أن الماهية مفتقرةٌ في ذاتها إلى ذاتها، ولا قوام لذاتها إلَّا بذاتها، وأن الصفة لا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بالموصوف، وهذا المعنى حقٌّ، وإن سمَّاه هؤلاء المُلبِّسون فقرًا.
وكذلك لفظ الغَيْر فيه إجمالٌ، يراد بالغيرين ما [جازت]
(4)
مفارقة أحدهما للآخر ذاتًا أو مكانًا أو زمانًا، فصفات القديم سبحانه ليست غيرًا له بهذا الاعتبار. ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، وهذا المعنى حقٌّ في ذاته وصفاته سبحانه، وإن سمَّاها هؤلاء
(5)
أغيارًا.
فإن المخلوق يعلم من الخالق صفة بعد صفة، وقد قال أعلم الخلق به:«لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(6)
. وهذا لكثرة أسمائه وصفات
(7)
كماله ونعوت جلاله. وقال: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ
(1)
«للرب» من «م» .
(2)
تقدم (ص 589 - 590).
(3)
«ح» : «بتحقيق» . والمثبت من «م» .
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
بعده في «ح» : «ولا» . وهي زائدة ليست في «م» .
(6)
أخرجه مسلم (486).
(7)
«ح» : «صفاته» . والمثبت من «م» .
بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ». والمستعاذ به غير المستعاذ منه.
والمقصود أن تسمية هذا تركيبًا وافتقارًا وغيرًا وضعٌ وضعه
(1)
هؤلاء، وليس الشأن في الألفاظ، إنما الشأن في المعاني. وقولهم:«إنه مفتقر إلى جزئه» تلبيسٌ، فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له تمتنع أن تفارقه صفاته، وليست له حقيقة غير الذَّات الموصوفة حتى يُقال: إن تلك الحقيقة مفتقرةٌ إلى غيرها، وإن سُمِّيت تلك الصفة غيرًا. فالذَّات والصفات متلازمان
(2)
لا يوجد أحدهما إلَّا مع الآخر، وهذا التلازم لا يقتضي حاجة الذَّات والصفات إلى موجدٍ أوجدها وفاعلٍ فعلها، والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرًا إلى ما هو خارجٌ عن نفسه. فأمَّا ألَّا يكون له صفة ولا ذات، ولا يتميز منه أمرٌ عن أمرٍ، فلا يلزم ذلك من وجوبه وكونه غنيًّا بنفسه عن كل ما سواه. فقول الملبِّس:«إنه مفتقرٌ إلى ذلك» كقوله: «لو كان له ماهية لكان مفتقرًا إلى ماهيته» .
والله سبحانه اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة وسائر صفات الكمال، ليس اسمًا لذاتٍ مجردةٍ عن الأوصاف والنعوت، فكل ذاتٍ أكمل من هذه الذَّات، تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوًّا كبيرًا.
والمقصود أن هذه الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصَّانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده، وكذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا بملائكته وكتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر، وإن صانع من صانع منهم
(1)
«ح» : «وضعية» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «ملازمان» . والمثبت من «م» .
لأهل الملل بألفاظٍ
(1)
لا حاصل لها.
فصل
وأمَّا المتكلمون فلمَّا رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر المفردة، وأنها قابلة للحوادث، وما يقبل الحوادث فهو حادثٌ، فالأجسام كلها حادثةٌ؛ فإذًا يجب أن يكون لها مُحْدِثٌ ليس بجسمٍ. فبنوا العلم بإثبات الصَّانع على حدوث الأجسام، واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة للحركة والسكون والاجتماع والافتراق، ثم قالوا: إن تلك أعراضٌ، والأعراض حادثةٌ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادثٌ.
فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولًا، ثم إثبات لزومها للجسم ثانيًا، ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثًا، ثم إلزام
(2)
بطلان حوادث لا نهاية لها رابعًا عند فريقٍ منهم
(3)
، وإلزام الفرق عند فريقٍ آخر، ثم إثبات الجوهر الفرد خامسًا، ثم إلزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسًا، فيلزم حدوثه، والجسم لا يخلو منه، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادثٌ، ثم إثبات تماثل الأجسام سابعًا، فيصح على بعضها ما يصح على جميعها.
فعلمهم بإثبات الخالق سبحانه مبنيٌّ على هذه الأمور السبعة
(4)
، فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الربِّ تعالى فاعلًا في الحقيقة، وإن
(1)
«ح» : «بالألفاظ» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «منكم» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «التزام» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «الشنيعة» . تصحيف، والمثبت من «م» .
سمَّوْه فاعلًا بألسنتهم، فإنه لا يقوم به عندهم فعلٌ، وفاعلٌ بلا فعلٍ كقائمٍ بلا قيامٍ، وضاربٍ بلا ضربٍ، وعالمٍ بلا علمٍ.
وضمَّ الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفةٌ لكان جسمًا، ولو كان جسمًا لكان حادثًا، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته. فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق الذي أثبتوا بها وجوده، فكانت [ق 64 ب] أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله. وعن هذه الطريق أنكروا علوَّه على عرشه، وتكلُّمه بالقرآن وتكليمه لموسى، ورؤيته بالأبصار في الآخرة، ونزوله إلى سماء الدُّنيا كل ليلة
(1)
، ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق، وغضبه ذلك اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله
(2)
، وجميع ما وصف به نفسه من وصفٍ ذاتيٍّ أو معنويٍّ أو فعليٍّ، فأنكروا وجهه الأعلى، وأنكروا أن له يدين، وأن له سمعًا وبصرًا وحياة، وأنه يفعل شيئًا حقيقةً، وإن سُمِّي فاعلًا فلم يستحق ذلك لفعلٍ قام به، بل فِعْلُه هو عين مفعوله.
وكذلك الطريق التي سلكوها في إثبات النُّبوة لم يثبتوا بها نبوةً في الحقيقة، فإنهم بنوها على مجرد خرق العادة، وهو مشترك بين النَّبي وغيره، وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما يَثلج له الصدر، ولا يحصل به برد اليقين؛ مع أن النُّبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصفٍ وجوديٍّ، بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنَّبي، والتعلق عندهم أمرٌ عدميٌّ، فعادت النُّبوة عندهم إلى أمرٍ عدميٍّ، وقد صرَّحوا بأنها لا ترجع إلى صفةٍ ثبوتيةٍ قائمةٍ بالنَّبي. وأيضًا فحقيقة النُّبوة والرسالة إنباء الله سبحانه وتعالى لرسوله، وأمره بتبليغ كلامه
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إلى عباده، وعندهم أن الله لا يتكلم ولا يقوم به كلامٌ.
وأمَّا اليوم الآخر فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد، وقالوا: لا يتأتى التصديق بالمعاد إلَّا
(1)
بإثباته. وهو في الحقيقة باطلٌ لا أصل له
(2)
، والمثبتون له يعترفون بأن القول به في غاية الإشكال، وأدلته متعارضة، وكثيرٌ منهم له قولان في إثباته ونفيه.
وسلكوا في تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء، ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء، فقالوا: إن الله سبحانه يُعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدمًا محضًا، ثم يُعيد المعدوم ويقلبه وجودًا حتى إنه يُعيد زمنه بعينه ويُنشئه لا من مادة كما قالوا في المبدأ، فجنوا على العقل والشرع، وأَغرَوْا أعداء الشرع به، وحالوا بينهم وبين تصديق الرُّسل.
وأمَّا المبدأ فإنهم قالوا: كان الله سبحانه معطلًا في الأزل، والفعلُ غير ممكنٍ ـ مع قولهم كان قادرًا عليه ـ ثم صار فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا من
(3)
غير تجدد أمرٍ أصلًا، وانقلب الفعل من الامتناع الذَّاتي إلى الإمكان الذَّاتي، وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل واحدة.
فهذا غاية عقولهم التي عارضوا بها بين الوحي والعقل، وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربًّا ولا رسالةً ولا مبدأً ولا معادًا، ونحن إنما أشرنا إلى ذلك أدنى إشارةٍ، وإلا فبَسْط ذلك في غير هذا الموضع. وقد بسطه شيخنا في عامة كتبه المطولات والمبسوطات، وبيَّنه بيانًا شافيًا؛ فمن أحب
(1)
«ح» : «لا» . والمثبت من «م» .
(2)
ينظر «درء التعارض» (4/ 135 - 136).
(3)
«من» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
الوقوف عليه وجده في مظانِّه. وبالله التوفيق.
الوجه الثَّاني والستون: أن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم:
إحداها: ردهم لنصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
الثَّانية: إساءة الظنِّ [بالوحي]
(1)
وجعله منافيًا للعقل مناقضًا له.
الثَّالثة: جنايتهم على العقل بردِّهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها.
الرَّابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم التي اخترعوها وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفةٌ للعقل والنقل، فصوَّبوا رأي مَن تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطَّؤوا مَن تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورًا ولم يشرق على قلبه نور النُّبوة.
الوجه
الثَّالث والستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة
؛ لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافآ، فإن لم يُقدِّم أحدهما بقي في الحيرة والشك، وإن قدَّم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح وأخرجه عن كونه دليلًا، فيبقى حائرًا بين أمرين لا بد له من أحدهما: إمَّا أن يُسيء الظنَّ بالوحي أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي فلا يمكنه أن يُسيء الظنَّ به، فيسطو على الوحي تارةً بالتحريف والتأويل، وتارةً بالتخييل،
(1)
«بالوحي» زدته ليستقيم السياق.
وتارةً بالدفع والتكذيب إن أمكن، وذلك في نصوص السُّنَّة، وتارةً [ق 65 أ] يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدَّعيه غُلاة الرَّافضة وكثيرٌ من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة أن العقل الصحيح يُعارض الوحي الصريح.
وأمَّا أهل العلم والإيمان ـ أهل السمع والعقل
(1)
ـ فعندهم أن فرض هذه المسألة محالٌ، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النُّبوة والرِّسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، والمعارضة بين العقل والوحي كالمعارضة بين العقل وإثبات الصَّانع وتوحيده ورسالة رسله، ولهذا طرَدوا منع هذه القاعدة في ذلك الأصل، وقالوا
(2)
: الباب كله واحدٌ.
الوجه الرَّابع والستون: أن هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل بنوا أمرهم على أصلٍ فاسدٍ، وهو
(3)
أنهم جعلوا أقوالهم ـ التي ابتدعوها، وجعلوها أصول دينهم ومعتقدهم في ربِّ العالمين ـ هي المُحْكَمة، وجعلوا قول الله ورسوله هو المتشابه الذي لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ. فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المُحْكم، والمُحْكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، ثم ردُّوا متشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم.
وهذا كما جعلوا ما أحدثوه من الأصول ـ التي نفوا بها صفات الربِّ جل جلاله، ونعوت كماله، ونفوا بها كلامه وتكليمه، وعلوَّه على عرشه، ورؤيته
(1)
يعني: العقل الصحيح المستقيم، لا العقل الزائف المدَّعى.
(2)
«ح» : «قال» .
(3)
«ح» : «وهم» .
في الدَّار الآخرة ـ محكمًا، وجعلوا النصوص الدَّالة على خلاف تلك القواعد والأصول متشابهة، يُقضى بتلك القواعد عليها، وتُرد النصوص إليها. فتارةً يحرفون النصوص عن مواضعها، ويُسمون ذلك التحريف تأويلًا في اللفظ وتنزيهًا في المعنى، وتارةً يقول من تجمَّل منهم فأحسن: أراد الله ورسوله من هذه النصوص أمورًا لا نعرفها ولا ندري ما أراد. وتارةً يقولون: قصد خطاب الجمهور، فأفهمهم
(1)
الأمر على خلاف حقيقته؛ لأن مصلحتهم في ذلك. وتارةً يفسرون صفةً بصفةٍ، كما يُفسرون الحبَّ والبغض والغضب والرضا والرحمة بالإرادة والسمع والبصر والكلام بالعلم، ثم يجعلون ذلك نفس الذَّات، ومنهم من يجعل العلم نفس المعلوم، كما قاله أفضل متأخريهم عندهم، وأجهلهم بالله وأكفرهم، نصير الكفر والشرك: الطوسي.
فأمَّا أهل العلم والإيمان فطريقهم عكس هذه الطريقة من كل وجهٍ. يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يُعتمد عليه، ويُردُّ ما يتنازع النَّاس فيه إليه، فما وافقه كان حقًّا، وما خالفه كان باطلًا. وإذا ورد عليهم لفظٌ مشتبهٌ ليس في القرآن ولا في السُّنَّة لم يتلقَّوْه بالقبول ولم يردوه بالإنكار حتى يستفصلوا قائله عن مراده، فإن كان حقًّا موافقًا للعقل والنقل قَبِلوه، وإن كان باطلًا مخالفًا للعقل والنقل ردُّوه، ونصوص الوحي عندهم أعظم وأكبر في صدورهم من أن يقدِّموا عليها ألفاظًا مجملةً لها معانٍ مشتبهة. وبنوا أصولهم على أربع قواعد:
إحداها: بيان أن
(2)
ما جاء به الوحي هو الهُدى والحق واليقين.
(1)
«ح» : «فإفهامهم» .
(2)
«ح» : «أن البيان» .
الثَّانية: بيان أن ما يُقدَّر من الاحتمالات المعارضة لظاهره وحقيقته باطلٌ لغةً.
الثَّالثة: بيان أن ما يُدَّعى أنه معارض لذلك من العقل فهو باطلٌ.
الرَّابعة: بيان أن العقل موافقٌ له معاضدٌ، لا معارضٌ مناقضٌ.
{فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 83].
الوجه الخامس والستون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل قد فارقوا العقل والنقل، فلا عقل ولا نقل، وهم الذين يقولون:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11].
أمَّا النقل فإنهم قد سمحوا بمفارقته، وهان عليهم أمره.
وأمَّا العقل فلو تدبروا أقوالهم ومعقولهم الذي عارضوا به النقل لاستحيوا من أهل العقل الذين هم أهله. فإن هؤلاء يجعلون الاثنين واحدًا والواحد اثنين، والمستحيل واجبًا والواجب ممتنعًا، والكلي جزءًا من المعين الجزئي، والمعدوم موجودًا والموجود معدومًا، والثَّابت منتفيًا والمنتفي ثابتًا، ويفرِّقون بين الشيء ونظيره في الحكم، ويحملون على الشيء بحكم ضده ونقيضه، وينفون
(1)
النقيضين تارةً، ويثبتونهما تارةً، ويثبتون الشيء وينفون لازمه البيِّن [اللزوم، وينفون اللازم]
(2)
ويثبتون ملزومه.
فيجعلون الصفة هي عين الصفة الأخرى، ثم يجعلونها هي نفس الموصوف، كما يقولون: العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع هو
(1)
«ح» : «يعرفون» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «للزوم اللام» . والمثبت ما يقتضيه السياق.
البصر. ثم يقولون: إن ذلك هو نفس العالم القادر المريد [ق 65 ب] ويجعلون تارةً العلم هو المعلوم، وتارةً يجعلون الفعل هو عين المفعول.
ويجعلون الصفة التي لا تقوم إلَّا بمحل قائمة بنفسها، كما يقولون: الربُّ تعالى مريدٌ بإرادةٍ قديمةٍ لا في محلٍّ.
ويجعلون الأمر هو عين النهي، وهما عين الخبر، وهو
(1)
عين الاستفهام.
ويجعلون وجود الربِّ تعالى وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق أو بلا شرطٍ، ثم يُصرِّحون بأن المطلق لا وجود له في الخارج.
ويجعلون الشيء المعين كهذا الإنسان مثلًا عدة جواهر حيوانًا وناطقًا وحساسًا، ويجعلون كلًّا من هذه الجواهر غير الآخر، ومعلومٌ أنه جوهرٌ واحدٌ له صفات متعددة.
ويُفرِّقون بين المادة والصورة، ويجعلونهما
(2)
جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما، والمعقول قيام الصِّفات بالموصوفات والأعراض بالجواهر.
ويجعلون الصور الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة، وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلَّا النفس النَّاطقة إذا فارقت البدن بالموت، والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة، فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها.
ويجعلون المعدوم الممتنع الذي لا يُتصور وجوده هو الواجب الذي
(1)
«ح» : «وهي» .
(2)
«ح» : «ويجعلونها» .
يمتنع عدمه، كما أثبتوا صانع العالم وجودًا مطلقًا مقيدًا بسلب الأمور الثبوتية، ليس له ماهية غير ذلك الوجود.
ويثبتون كونه حيًّا بلا حياةٍ، وعالمًا بلا علمٍ، وقادرًا بلا قدرةٍ.
إلى أضعاف أضعاف ذلك من ضلالهم في عقلياتهم التي جعلوها معارضة للوحي، وقدَّموها عليه. وكلما تدبَّر العاقل الذكي المنصف أحوال هؤلاء ومن وافقهم على بعضها تبيَّن له أن القوم لا عقل ولا نقل، و
(1)
تفصيل هذا يستدعي بسطًا طويلًا، والله المستعان.
الوجه السَّادس والستون: أن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقًا سحروا بها عقول ضعفاء النَّاس وبصائرهم، فشُبهت عليهم، وخُيل إليهم أنها حقٌّ، فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب السحرة حين عارضوا
(2)
عصى موسى بما خُيل إلى أبصار النَّاظرين أنه حقٌّ. فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظٍ مجملةٍ تحتها معانٍ مشتبهةٌ تحتمل في لغات الأُمم معاني متعددة، وأدخلوا فيها من المعاني غيرَ المفهوم منها في لغات الأُمم، ثم ركَّبوها وألَّفوها تأليفًا طويلًا بنوا بعضه على بعضٍ، ففكَّروا فيه وقدَّروا، وأطالوا التفكير والتقدير، ثم عظَّموا قولهم وهوَّلوه في نفوس من لم يفهمه.
ولا ريب أن فيه دقةً وغموضًا، لما فيه من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطَّالب وسمع منهم
(3)
ما تنفر عنه فطرته، فأخذ يعترض عليهم، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، وهذا أمرٌ قد
(1)
بعده في «ح» : «لا» .
(2)
«ح» : «رضوا» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «معهم» .
صقلته الأذهان على تطاول الأزمان، وتلقَّته العقول بالقبول والتسليم، وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم
(1)
. فيبقى ما في النفوس من الحمية والأنفة يحملها على تسليم تلك الأمور قبل تحقيقها، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، فيأخذها مُسلَّمةً، فإذا جاءت لوازمها لم يجد بُدًّا من التزامها، ويرى أن التزام تلك اللوازم أهون عليه من القدح في تلك القواعد وإبطالها. فهذا أصلُ ضلال من ضلَّ من أهل النظر والبحث في المعقولات، وأمَّا الأعمى المُقلِّد فليس معه أكثر من: هكذا قال العقلاء. وهذا القدر الذي وقع من ضلال هؤلاء لم يقصده عقلاؤهم ابتداءً؛ بل كان قصدهم تحصيل العلوم والمعارف، ولكن أخطؤوا بطلبها من غير طريقها؛ فضلوا وأضلوا.
وقد سُئل شيخنا رضي الله عنه عن بعض رؤساء هؤلاء ممَّن له علمٌ وعقلٌ وسلوكٌ وقصدٌ ثم
(2)
أخطأ الصواب، فقال:«طَلَبَ الأمور العلية من غير الطُّرق النبوية فقادته قسرًا إلى المناهج الفلسفية»
(3)
.
وما أحسن ما قال! فإن من طلب أمرًا عاليًا من غير طريقه لم يحصل إلَّا على ضدِّه. فالواجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم ألَّا يوافقهم على لفظٍ مجملٍ حتى يتبيَّن معناه ويعرف مقصوده، فيكون الكلام في معنى معقولٍ يتوارد النفي والإثبات فيه على محلٍّ واحدٍ، لا في لفظ مجملٍ مشتبه المعنى. وهذا نافعٌ في الشرع والعقل والدِّين والدُّنيا، وبالله التوفيق.
(1)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (1/ 446).
(2)
كذا في «ح» ، والأصوب:«لِمَ» .
(3)
لم أقف عليه إلا في كتابنا هذا، ولعل المصنِّف تلقاه عن شيخه ابن تيمية شفاهًا.
الوجه السَّابع والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدَّموا بين يدي رسوله، وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعضٍ، وحذَّرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال [ق 66 أ]: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اِللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَتَّقُوا اُللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اِلنَّبِيِّ
…
} الآية [الحجرات: 1 - 2]. فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقدُّمٍ أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟! قال غير واحدٍ من السلف: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر
(1)
.
ومعلوم قطعًا أن من قدَّم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى النَّاس لهذا النبي، وأشدهم تقدُّمًا بين يديه. وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟! ومن المعلوم قطعًا أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلَّا الكفار والمنافقون
(2)
، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثًا في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره بقضائه وقدره، ووَرِثَهم في هذه المعارضة طائفتان:
(1)
أقرب ما وجدت إلى هذا المعنى في تفسير الآية قول مجاهد بن جبر: «لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ حتى يقضيه الله على لسانه» . «تفسير مجاهد» (ص 610). وأخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 336) ومحمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (725) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/ 316) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1429) والهروي في «ذم الكلام وأهله» (564). والافتيات: افتعالٌ من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يُؤتمر. «الصحاح» (1/ 260).
(2)
«ح» : «المنافقين» .
إحداهما: إخوانهم المباحية
(1)
الذين خلعوا رِبْقَة الشريعة
(2)
من أعناقهم ودانوا بالقدر.
والثَّانية: الذين عارضوا
(3)
قضاءه وقدره بأمره، وقالوا: لا يمكن الجمع بينهما، فأبطلوا القدر بالأمر.
وأولئك أقعد بالميراث من هؤلاء. وقد ذكر سبحانه الأمثال العقلية التي عارض المشركون
(4)
بها الوحي؛ لتكون عبرةً للمؤمنين، ومثلًا للمعارضين:{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 43].
الوجه الثَّامن والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مُرَّةٍ
(5)
؛ فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدَّمه عليه، فإن الله سبحانه لمَّا أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياسٍ عقليٍّ مركبٍ من مقدمتين حمليتين
(6)
:
(1)
المباحية: قوم يحتجون بالقدر على المعاصي، فيكفرون بالشرائع، ويستحلون المحرمات، وهم من شر الطوائف. «مجموع الفتاوى» (8/ 458، 19/ 149 - 150).
(2)
الربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للشريعة، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 190).
(3)
«ح» : «عرضوا» .
(4)
«ح» : «المنزلون» .
(5)
أبو مرة: أشهر كنى إبليس لعنه الله. «المرصع في الآباء والأمهات والأبناء» لابن الأثير (ص 249، 291)«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 106).
(6)
تقدم (ص 616) معنى القياس الحملي.
إحداهما
(1)
: قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} فهذه هي الصُّغرى، والكبرى محذوفةٌ، تقديرها
(2)
: والفاضل لا يسجد للمفضول، وذكر مستند المقدمة الأولى، وهو أيضًا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال:{خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11].
والمقدمة الثَّانية: كأنها معلومةٌ، أي: ومن خُلق من نارٍ أفضل ممَّن خُلق من طينٍ، فهما قياسان متداخلان، وهذه يُسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة:
فالقياس الأول هكذا: أنا خيرٌ منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.
والقياس الثَّاني هكذا: خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ، والمخلوق من النَّار خيرٌ من المخلوق من الطين، فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه. ونتيجة الأول: ولا ينبغي لي أن أسجد له.
وأنت إذا تأمَّلت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثيرٍ من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي، وقدَّموها عليه، والكل باطل.
وقد اعتذر أتباع الشيخ
(3)
له بأعذارٍ:
منها: أنه لمَّا تعارض عنده العقل والنقل قدَّم العقل.
ومنها: أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله: {اِسْجُدُوا} [البقرة: 33] ولا عموم له؛ فإن الضمائر ليست من صيغ العموم.
(1)
«ح» : «أحدهما» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «بتدبرها» . والمثبت من «م» .
(3)
يعني: إبليس لعنه الله.
ومنها: أنه وإن كان اللفظ عامًّا فإنه خصَّه بالقياس المذكور.
ومنها: أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب؛ بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعًا للاشتراك والمجاز.
ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور.
ومنها: أنه صان جناب الربِّ أن يُسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه.
فبالله تأمَّل هذه التأويلات، وقابل بينها وبين كثيرٍ من التأويلات التي يذكرها كثيرٌ من النَّاس والمعارضات التي يعارض بها النصوص، وفي بني آدم من يصوِّب رأي إبليس وقياسه ويقول: الصواب معه، ولهم في ذلك تصانيف. وكان بشَّار بن بُرد الأعمى الشَّاعر على هذا المذهب. ولهذا يقول في قصيدته الرَّائية
(1)
:
الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ سَوْدَاءُ مُقْتِمَةٌ
…
وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ
ولمَّا علم الشيخ
(2)
أنه قد أُصيب من معارضة الوحي بالعقل، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالعقول أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يُعارض به الوحي، وأوهم
(1)
أنشده له الجاحظ في «البيان والتبيين» (1/ 16) والمبرد في «الكامل» (3/ 1111) والأصفهاني في «الأغاني» (3/ 26). وينظر «ملحقات ديوان بشار» (4/ 78)، وقد ذكره ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (2/ 989) والشطر الأول فيه:«الأرض سافلة سوداء مظلمة» والرواية المشهورة: «الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ» .
(2)
يعني: إبليس لعنه الله.
أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية، وقال: إن قدَّمتم الوحي عليها فسدت عقولكم. قال تعالى: {وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122] ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شُبَهٌ عقليةٌ.
[ق 66 ب] الوجه التَّاسع والستون: في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به الوحي، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنه قياس في مقابلة النصِّ، والقياس إذا صادم النصَّ وقابله كان قياسًا باطلًا، ويُسمى قياسًا إبليسيًّا، فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل وتقديمه عليه، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته. وقد بيَّنَّا فيما تقدم أنه ما عارض أحدٌ الوحي بعقله إلَّا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك منه العقلاء
(1)
.
(1)
تقدم (ص 521 - 525).
الثَّاني: أن قوله: «أنا خير منه» كذبٌ، ومستنده في ذلك باطلٌ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادةٍ على مادةٍ تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها، وهذا من كمال قدرته سبحانه. ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرُّسل أفضل من الملائكة، ومذهب أهل السُّنَّة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة
(1)
، وإن كانت مادتهم نورًا، ومادة البشر ترابًا. فالتفضيل ليس بالمواد والأصول، ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرًا وأفضل عند الله ممَّن ليس مثلهم من قريشٍ وبني هاشمٍ.
وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثًا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى، وهي التي أبطلها الله عز وجل بقوله:{يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ
(2)
الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ،
(1)
قال المصنف في «بدائع الفوائد» (3/ 1104) عن ابن تيمية: «أنه سُئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عمَّا يُلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه» .
وينظر «مجموع الفتاوى» (4/ 350 - 392).
(2)
والعُبية: الكبر والنخوة، يريد بهذا القول ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب والتباهي بها. «غريب الحديث» للخطابي (1/ 290). وينظر «تصحيفات المحدثين» للعسكري (1/ 291) و «الفائق» للزمخشري (2/ 384 - 385).
النَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ»
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»
(2)
.
فانظر إلى سريان هذه النُّكتة الإبليسية في نفوس أكثر النَّاس من تفضيلهم بمجرد الأصول والأنساب.
الثَّالث: أن ظنَّه أن النَّار خيرٌ من التراب باطلٌ، مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة، وما في التراب من الثقل والظُّلمة، ونسي الشيخ ما في النَّار من الطيش والخفة وطلب العلو والإفساد بالطبع، حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومَن فيها، بل التراب خيرٌ من النَّار وأفضل من وجوهٍ متعددةٍ:
منها: أن طبعه السُّكون والرزانة، والنَّار بخلافه.
ومنها: أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات، والنَّار بخلافه.
(1)
أخرجه أحمد (8857، 10932) وأبو داود (5116) والترمذي (3956) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وفي الباب عن عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1245).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23972) عن أبي نضرة حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 412): رويناه بإسناد صحيح.
ومنها: أنه لا يمكن أحدًا أنْ
(1)
يعيش بدونه ودون ما خُلق منه البتة، ويمكنه أن يعيش برهةً بلا نارٍ، قالت عائشة:«كان يمرُّ بنا الشهر والشهران ما نوقد في بيوتنا نارًا، أو ما نرى نارًا. قال لها عروة: فما كان قُوتُكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء»
(2)
.
ومنها: أن الأرض تُؤدِّي إليك بما فيها من البركة أضعاف أضعاف ما تُودعه من الحب والنَّوى، وتُربِّيه لك وتغذيه وتنمِّيه. والنَّار تفسده عليك وتمحق بركته.
ومنها: أن الأرض مهبط وحي الله، ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه، وكِفاتُهم
(3)
أحياءً وأمواتًا، والنَّار مسكن أعدائه ومأواهم.
ومنها: أن في الأرض بيته الذي جعله إمامًا للناس وقيامًا لهم، وجعل حجَّه مَحَطًّا لأوزارهم، ومُكفِّرًا لسيئاتهم، وجالبًا لهم مصالح معايشهم ومعادهم.
ومنها: أن النَّار طبعها العلو والفساد، وأن الله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين، والأرض طبعها الخشوع والإخْبات، والله يحب المُخْبِتين الخاشعين. وقد ظهر هذا بخلق إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرُّسل من المادة الأرضية، وخلق إبليس وجنوده من المادة النَّارية.
(1)
سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(2)
أخرجه البخاري (2567) ومسلم (2972).
(3)
الكفات: الموضع الذي يُكفت فيه شيء: أي يُضم، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ اِلْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]. «الصحاح» (1/ 263).
نعم وخُلق من المادة الأرضية الكفار والمشركون، ومن المادة النَّارية صالحو الجن، ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس، وليس
(1)
في أولئك مثل الرُّسل والأنبياء، فمعلِّم الخير من المادة الأرضية، ومعلِّم الشرِّ من المادة النَّارية.
ومنها: أن النَّار لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من محلٍّ تقوم به لا تستغني عنه، وهي محتاجة إلى المادة التُّرابية في قوامها وتأثيرها، والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محلٍّ تقوم به، ولا يفتقر قوامها ونفعها إلى النَّار.
ومنها: أن التراب يُفسد صورة النَّار ويبطلها ويقهرها وإن علت عليه.
ومنها: أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها، وتحيا بها، وتُخرج زينتها وأقواتها، وتشكر ربها، وتنزل على النَّار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها، فبينها وبين الرحمة معاداة، [ق 67 أ] وبين الأرض وبين الرحمة موالاةٌ وإخاءٌ.
ومنها: أن النَّار تُطفَأ عند التكبير
(2)
فتضمحلُّ عند ذكر كبرياء الربِّ،
(1)
«ح» : «فليس» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرج ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (294 - 297) والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/ 316) والطبراني في «الدعاء» (1002) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإن التكبير يطفئه» . وفيه القاسم ابن عبد الله العمري، وهو متروك الحديث، وكذَّبه الإمام أحمد.
وأخرج الطبراني في «المعجم الأوسط» (8569) وفي «الدعاء» (1001) وقوام السنة في «الترغيب والترهيب» (769) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطفئوا الحريق بالتكبير» . وفي إسناده نوح بن دراج وهو متروك الحديث، وكذَّبه بعضهم.
وينظر: «المطالب العالية» لابن حجر (3413) و «المقاصد الحسنة» للسخاوي (ص 39) و «السلسلة الضعيفة» للألباني (2603).
ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان حتى لا يسمعه
(1)
، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به، وتشهد به لصاحبه يوم القيامة
(2)
.
ويكفي في فضل المخلوق من الأرض على المخلوق من النَّار أن الله سبحانه خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيءٍ، فهل حصل للمخلوق من النَّار واحدة من هذه؟!
فقد تبيَّن لك حال هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه وأكثر
(3)
منها، وهي من شيخ القوم ورئيسهم ومعلِّمهم الأول، فما الظنُّ بمعارضة التلامذة؟!
ونحن نقول قولًا نُقدِّم بين يديه مشيئة الله وحوله، والاعتراف بمِنَّته علينا، وفضله لدينا، وأنه محض منَّته وجوده وفضله، فهو المحمود أولًا
(1)
أخرج البخاري (608) ومسلم (389) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين» .
(2)
أخرج البخاري (609) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شهد له يوم القيامة» .
وأخرج الإمام أحمد (9328) وأبو داود (515) والنسائي (645) وابن ماجه (724) وابن خزيمة (390) وابن حبان (1666) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤذن يُغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطبٍ ويابسٍ» . وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 312): حديث حسن.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ينظر:«البدر المنير» (3/ 380 - 387) و «التلخيص الحبير» (2/ 571 - 573).
(3)
«ح» : «وأكثره» . والمثبت من «م» .
وآخرًا على توفيقنا له وتعليمنا إيَّاه
(1)
:
إن كل شُبهةٍ من شُبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم، وإن مدَّ الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابًا كبيرًا. ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل لاقتدينا بالمسير إليه بموسى في سفره إلى الخضر، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أُنيسٍ لسماع حديث واحد
(2)
، ولكن أزهد النَّاس في عالمٍ قومه.
وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برّز به على أهل الأرض في عصره وفي الأعصار قبله، فأدرك مَن قبله وحيدًا، وسبق مَن بعده سبقًا بعيدًا
(3)
، واستنقذ النصوص من أيدي الملحدين، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وجعل ملوك أرباب المعقولات المعارضين لها أسرى في أيدي المسلمين، وأخذ عليهم بمجامع الطُّرق حتى لم يبق لهم مددٌ ولا كمين، فجرى عليه من تلامذة هذا الشيخ وأتباعه من الجاهلين والمعاندين والمعطلين ما جرى على من قام مقامه على مرِّ السنين.
مَضَوْا وَمَضَى ثُمَّ الْتَقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
…
فَأَخَّرَهُمْ لِلْحُكْمِ يَوْمَ التَّخَاصُمِ
(4)
(1)
أي: توفيقنا لهذا القول وتعليمنا إياه.
(2)
علقه البخاري في «الصحيح» (1/ 26). ووصله الإمام أحمد (16288) والبخاري في «الأدب المفرد» (970) والحاكم في «المستدرك» (2/ 437، 4/ 574) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد.
(3)
يعني: شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(4)
لم نقف على قائله.
الوجه السبعون: أن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي، والذي دلَّ عليه السمع هو الإثبات. فإن السمع دلَّ على إثبات الصِّفات، والكلام والتكليم، وعلو الربِّ على خلقه، واستوائه على عرشه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه وإتيانه، وإثبات وجهه الأعلى، ويديه اللتين كلتاهما يمينٌ، وغير ذلك؛ والعقل عندهم دلَّ على نفي ذلك كله. فالمعارضة التي ادَّعوها هي معارضة بين النفي والإثبات، فالرُّسل جاؤوا بالإثبات المفصَّل للأسماء والصفات والأفعال، فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصَّل لها، وادَّعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي، ثم قدَّموا دليل النفي.
فيقال: الكلام معكم في مقامين:
أحدهما: أن العقل لم يدلَّ على ثبوتها.
والثَّاني: أنه دلَّ على انتفائها.
فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول، فنفيها خطأٌ، فإنه لو نُفي كل ما لم يدلَّ عليه عقلٌ أو حسٌّ نُفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا، وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق. ومَن تدبَّر أدلتهم حقَّ التدبُّر علم أنه ليس فيها دليلٌ واحدٌ يدل على النفي، ومعلوم أن الشيء لا ينتفي لانتفاء دليلٍ يدل عليه، وإن انتفى العلم به، فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم، فكيف والعقل الصريح قد دلَّ على ثبوتها، كما نبَّهنا عليه، وسنذكره.
وإن أردتم الثَّاني ـ وهو أن العقل [دل على انتفائها]
(1)
ـ فيقال: العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه، فيُعلم حينئذٍ أن النقيض
(1)
«دل على انتفائها» سقط من «ح» ، وزدته مما سبق أعلاه.
الآخر منتفٍ. فأين في العقل المقطوع بحكمه أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرُّسل بوجهٍ من وجوه الأدلة الصحيحة.
فالمسلمون يقولون: قد دلَّ العقل والوحي معًا على إثبات علم الربِّ تعالى آمرًا ناهيًا، وعلى كونه فوق العالم كله، وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته، وعلى أنه يرضى ويغضب، ويُثيب ويُعاقب، ويُحب ويُبغض، فقد شهد بذلك العقل والنقل:
أمَّا النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه.
وأمَّا العقل فلأن ذات الربِّ أكمل من كل ذاتٍ على الإطلاق، بل ليس الكمال المطلق التَّام من كل وجهٍ إلَّا له وحدَه، فيستحيل وصفه بما يضاد كماله، وكلُّ ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمالٍ، ثبوتها له أكمل من نفيها عنه. وقد اتفقت الأُمم على أن الله سبحانه موصوفٌ بالكمال منزَّهٌ عن أضداده، وإن تنازعوا في كون الصفة المعينة والفعل المعين كمالًا أو ليس بكمالٍ، والذين نفوه تخيلوا أن إثباته يستلزم النقص والحدوث، وأن الكمال في نفيه.
وإن كان كثيرٌ من طوائف [ق 67 ب] بني آدم يستجيزون وصفه بالنقائص والعيوب مع علمهم بأنها عيوبٌ ونقائص.
كما صرَّحت به اليهود من قولهم: إنه فقير
(1)
، وإنه تعب لمَّا خلق العالم
(2)
، وأنه بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة، وإنه
(1)
قال الله عنهم: {لَّقَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ اُلْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181 - 182].
(2)
رد الله تعالى كذبهم وافتراءهم فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
ندم على خلق آدم وذريته ندمًا عظيمًا حتى عض أنامله. ويقولون في صلاتهم: يا إلهنا انتبه من رقدتك، كم تنام؟! ونحو ذلك.
والنصارى لا يخفى على أحدٍ منهم أن نزوله عن عرشه ودخوله في رحم امرأةٍ، وإقامته هناك تسعة أشهر بين الحيض والبول، ثم خروجه طفلًا صغيرًا يرضع ويبكي، ويأكل ويشرب ويبول، وينام ويألم، ثم تمكُّن أعدائه منه وصفعه وتسمير يديه ورجليه، وصلبه بين نصبين وعلى رأسه تاج من الشوك = أن هذا غاية التنقص المنافي لكماله.
والاتحادية مصرِّحون بأنه موصوفٌ بكل صفةٍ مذمومةٍ عقلًا وعرفًا وشرعًا.
ومعلومٌ أن هذه النقائص
(1)
هي التي دلَّ العقل الصريح واتفاق المرسلين من أولهم إلى آخرهم على نفيها عن الله وتنزيهه عنها، فمن جعل دلالته على نفي علمه، وسمعه، وبصره، وقوته، وقدرته، وحياته، وإرادته، وكلامه
(2)
وتكليمه، وعلوه على عرشه، ووجهه الأعلى، ويديه، وغضبه ورضاه؛ كدلالته على نفي تلك العيوب والنقائص، وإثباتها له كإثبات تلك العيوب والنقائص، وأن العقل يوجب نفي هذا وهذا = فهو من أسخف النَّاس عقلًا، وأعظمهم جهلًا، وأفسدهم فطرة. وكان الذين وصفوه سبحانه بتلك العيوب والنقائص أقرب إلى العقل منه، فإنهم وصفوه بالكمال والنقص، وهؤلاء نزَّهوه عن الكمال، وهو يستلزم وصفه بالنقص فقط، ومعلوم أن ذاتًا موصوفة بالكمال والنقائص أكمل من ذاتٍ لا تُوصف بشيءٍ
(1)
«ح» : «التناقض» ، تحريف.
(2)
«ح» : «وكماله» . ولعل المثبت هو الصواب.
من الكمالات البتة، وتوصف بأضدادها. وأيضًا فإن تلك الذَّات يُمكن وجودها، وهذه الذَّات يمتنع
(1)
وجودها.
والمقصود أنه قد دلَّ العقل مع السمع على إثبات ما يقول هؤلاء إن العقل عارضه، وغاية ما معهم أن عقولهم لم تدلَّ على إثباته، وقد بيَّنا أنه يستحيل دلالة العقل على نفيه، فإن العقل إنما يدلُّ على نفي ما علم ثبوت نقيضه بالعقل، والعقل لم يُعلم به ثبوت نقيض الصِّفات العُلى والأسماء الحُسنى، واستواء الربِّ على عرشه، وتكلمه، ورؤية أوليائه له في الآخرة عيانًا بالأبصار فوق رؤوسهم؛ حتى يكون نفي ذلك معلومًا بالعقل.
فإن قيل: نحن ما نفينا ذلك إلَّا لدلالة العقل على نفيه، فإنه لو كان فوق العرش، أو كان يُرى بالأبصار، أو كان مكلمًا متكلِّمًا، أو كان له وجهٌ ويدٌ وسمعٌ وبصرٌ؛ لزم أن يكون جسمًا، ويلزم من كونه جسمًا أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة. وإن قلنا بتماثل الأجسام لزم أن يكون مماثلًا لكل جسمٍ، ويلزم من كونه مركبًا أن يكون مفتقرًا إلى أجزائه، وأجزاء المركب غيره، ويلزم من افتقاره إلى غيره أن يكون مخلوقًا مصنوعًا، فهذا
(2)
الدليل العقلي الذي أوجب لنا أن ننفي ما نفيناه؛ لنثبت إلهيته وربوبيته وقِدمه، وأمَّا أنتم فلمَّا أثبتم له هذه الصِّفات لزمكم نفي قِدمه ونفي ربوبيته.
قيل: هذا الدليل هو الذي خرَّب دياركم، وقلع الإيمان بشروشه
(3)
من
(1)
«ح» : «تمنع» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «بهذا» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «بسروسه» . و الشِّرْش: أصل الشجر، وجمعها شروش. «تكملة المعاجم العربية» (6/ 288). فالمعنى وقلع الإيمان بأصوله.
قلوبكم، وسهَّل عليكم الإلحاد
(1)
في أسماء الربِّ وصفاته وتعطيلَه عن كل كمالٍ وسلبه عنه، وهو في الحقيقة مستلزمٌ لجحد وجود الخالق سبحانه، وإنكار أن يكون للعالم صانعٌ على الحقيقة. ففررتم من إثبات الكمالات له سبحانه لظنكم أنها تستلزم افتقاره وحدوثه، فوقعتم في شرٍّ
(2)
من ذلك وهو تعطيل العالم عن ربٍّ يدبره، فعطلتم الصَّانع عن كماله، وعطلتم العالم عن صانعه.
ولقد أقامت الدهرية والمعطلة أربعين شبهةً، التي ذكرتموها واحدة من تلك الأربعين، فقالوا: لو كان للعالم ربٌّ أو صانعٌ أو خالقٌ لكان إمَّا جسمًا وإمَّا عرضًا، ودليل هذا الحصر أنه إمَّا أن يكون قائمًا بنفسه، وهو الذي نعني بالجسم؛ وإمَّا أن يكون قائمًا بغيره؛ وهو الذي نعني بالعرض. فلا يجوز أن يكون عرضًا، لأنه لا يقوم بنفسه، فهو مفتقرٌ إلى محلٍّ يقوم به. ولا يجوز أن يكون جسمًا لما ذكرتم من الدليل المتقدم بعينه.
وكل ما تُجيبون به إخوانكم في الأصل عن هذه الشُّبهة فهو جواب أهل السمع والعقل لكم بعينه.
فإن قلتم: بل هو قائمٌ بنفسه، وليس بجسمٍ.
قال لكم أهل السمع والعقل: فقولوا هو فوق عرشه، موصوفٌ بصفات كماله، ونعوت جلاله، وحقائق أسمائه، وليس بجسمٍ.
فإن قلتم: هذا لا يُعقل.
(1)
«ح» : «الاتحاد» ، تصحيف.
(2)
«ح» : «شيء» . والمثبت هو الصواب.
قيل لكم: فكيف عقلتم ذاتًا قائمة بنفسها فاعلة لغيرها [ق 68 أ] ليست بجسمٍ؟!
فإن قلتم: دلَّ الدليل على انتهاء الممكنات والمصنوعات إلى ذات هذا شأنها، فأثبتناها بالدليل.
قيل لكم: ودلَّ الدليل على انتهاء المخلوقات والمصنوعات إلى ذات موصوفةٍ بالصفات التي تُؤثر بها في المخلوقات ومقاديرها، وصفاتها وأشكالها وهيئاتها، وإعدامها بعد إيجادها
(1)
، وإيجاد بدلٍ
(2)
منها، ودلالتُه على ذاتٍ هذا شأنها أعظم من دلالته على ذاتٍ مجردةٍ لا فعل لها ولا صفة ولا قدرة ولا مشيئة ولا إرادة.
فإن قلتم: يلزم من ثبوت صفاتها حدوثها، ولا يلزم من تجردها عنها حدوثها.
قيل لكم: بل يلزم من تجردها عنها عدمها، وامتناع وجودها، فلو لزم من ثبوت صفاتها ما لزم كان خيرًا من جحدها ونفيها بالكلية. كيف وتلك اللوازم التي ركبتم بعضها على بعضٍ فيها من التلبيس والتدليس والإجمال اللفظي والاشتباه المعنوي، ما إذا كُشف أمره تبيَّن أنها زَغَلٌ ومحالٌ، وأشد شيءٍ منافاة للعقل والسمع، وكل مقدماتها دعاوٍ كاذبةٌ باطلةٌ بصريح العقل والسمع.
فلا يلزم من كونه فوق سماواته على عرشه، يسمع ويرى، ويأمر وينهى، ويتكلَّم ويُكلِّم؛ أن يكون مركبًا من جواهر فردة، ولا من مادة وصورة، ولا أن يكون مماثلًا لخلقه. فدعوى هذا اللزوم عين البَهت والكذب
(1)
بعده في «ح» : «وإيجادها» . وهي كلمة زائدة.
(2)
«ح» : «بدلها» . والمثبت هو الصواب.
الصراح، بل العرش خلقٌ من خلقه، ولا يلزم من كونه فوق السماوات كلها أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، ولا مماثلًا لغيره من الأجسام. وكذلك جبريل مخلوق من مخلوقاته، وهو ذو قوةٍ وحياةٍ وسمعٍ وبصرٍ وأجنحةٍ، ويصعد وينزل، ويُرى بالأبصار؛ ولا يلزم من وصفه بذلك أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، ولا أن يكون جسمه مماثلًا لأجسام الشياطين، فدعونا من هذا الفَشْر
(1)
والهذيان والدعاوي الكاذبة.
والتفاوت الذي بين الله وخلقه أعظم من التفاوت الذي بين جسم العرش وجسم الثَّرَى والهواء والماء، وأعظم من التفاوت الذي بين أجسام الملائكة وأجسام الشياطين، والعاقل إذا أطلق على جسمٍ صفةً من صفاته وضدُّه من كل وجهٍ موصوف بتلك الصفة، لم يلزم من ذلك تماثلهما. فإذا أطلق على الرجيع ـ الذي قد بلغ غاية الخُبث ـ أنه جسمٌ قائمٌ بنفسه ذو رائحةٍ ولونٍ، وأطلق ذلك على المسك، لم يقل ذو حسٍّ سليمٍ ولا عقلٍ مستقيمٍ إنهما متماثلان. وأين التفاوت الذي بينهما من التفاوت الذي بين الله وخلقه، فكم تُلبِّسون، وكم تُدلِّسون وتُموهون!
فاشتراك الذَّاتين في معنًى من المعاني لا يستلزم تماثلهما عند أحدٍ من العقلاء، وإن المختلفات والمتضادات تشترك في أشياء متعددة، فمشاركة الماء للنار في مسمَّى الجسمية
(2)
والحركة وإدراك الحس لهما لا يوجب تماثلهما.
وليس معكم دليلٌ واحدٌ صحيحٌ يدل على تركب الأجسام كما ذكرتم، فكيف ولو أقمتم الدليل على ذلك لم يلزم منه تركُّب خالق الأجسام وجواهرها وأعراضها ممَّا تركبت منه الأجسام بوجهٍ من الوجوه، سوى الدعوى الكاذبة، وهو أنه لو كان فوق عرشه أو موصوفًا بالصفات أو يُرى بالأبصار لزم أن يكون مركبًا.
وليس العجب من عقولٍ رضيت لنفسها بمثل هذا الهذيان حتى اعتقدَتْه غاية الغايات العقلية، ونهايات المعارف الإلهية والمباحث الحكمية، ثم قدَّمته على نصوص الوحي، فإن هذا في الأصل وضعُ من قصد معارضة الأنبياء ورد ما جاؤوا به؛ بل العجب من قوم صدَّقوا الأنبياء، وشهدوا أن الرَّسول حقٌّ، وجاءهم بالبينات، وعلموا أنه الصَّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} [النجم: 4] ثم ولج هذا الهذيان في آذانهم فسمعوه
(1)
، ودخل إلى قلوبهم فقبلوه، وعظَّموا أصحابه، وسمَّوْهم المحققين، وقدَّموا أقوالهم على نصوص الوحي المبين، فضلًا عن تقديمه على كلام الصَّحابة والتَّابعين. ولقد أحسن القائل فيهم وإن قصد سواهم
(2)
:
خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ
…
وَلَاءَمَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ
وهذه الحجة الدَّاحضة باطلةٌ من أكثر من سبعين وجهًا تُذكر في غير هذا
(1)
«ح» : «فسموا» . والمثبت هو الصواب.
(2)
البيت لابن الرومي في «ديوانه» (1/ 157) وقافيته: «غيهبُ» وكذا أنشده له: الحسن بن وكيع في «المنصف للسارق والمسروق منه» (ص 373) والثعالبي في «التمثيل والمحاضرة» (ص 374).
الموضع. فلا يلزم من استوائه على عرشه، وثبوت صفات كماله، وتكلمه وتكليمه، ورؤيته بالأبصار؛ أن يكون جسمًا بالمعنى الذي اصطلحوا عليه. ولو لزم أن يكون جسمًا لم يلزم أن يكون مركبًا بالاعتبار الذي ذكروه. ولو لزم أن يكون مركبًا لم يلزم أن يكون مفتقرًا إلى مركبٍ ركَّبه، ولا محتاجًا إلى غيره بوجهٍ من الوجوه. ولو لزم أن يكون جسمًا مركبًا لم يلزم أن يكون مماثلًا للأجسام بوجهٍ من الوجوه [ق 68 ب].
فشيءٌ من ذلك غير لازمٍ لعلوه على عرشه وثبوت صفاته، لا عقلًا ولا سمعًا إلَّا بالدعاوى الكاذبة، حتى لو قُدِّر لزوم ذلك كله لكان التزامه أسهل من تعطيل علوِّه على عرشه، وتعطيل كلامه، وإبطال أمره ونهيه، وتعطيل صفاته وأفعاله، وجعله بمنزلة المعدوم الممتنع الذي لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا له فعلٌ يقوم به، ولا صفة كمالٍ يتصف بها، فلا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يقدر، ولا يريد ولا يفعل
(1)
شيئًا؛ فأي ذاتٍ من الذوات المخلوقة المتصفة بذلك فُرضت فهي أكمل من هذه الذَّات.
وقد تقدَّم
(2)
أن الدليل العقلي الصحيح إنما دلَّ على انتهاء المخلوقات إلى خالقٍ واحدٍ قديمٍ غير مخلوقٍ ولا مصنوعٍ ولا محتاج إلى سواه بوجهٍ من الوجوه، وكل ما عداه محتاجٌ إليه من جميع الوجوه؛ ولم يدل على أن هذا الواحد سبحانه معطلٌ عن الأفعال والصفات وحقائق الأسماء الحُسنى. وأن الدليل العقلي إنما دلَّ على خلاف ذلك، وأنه أحقُّ بكل صفة كمالٍ من غيره، وأن كل كمالٍ ثبت للمخلوق لا نقص فيه، فلا يستلزم نقصًا؛ فمعطيه
(1)
«ح» : «يعقل» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
تقدم (ص 648).
وموجده أحقُّ به وأولى:
فكيف يكون المخلوق يتكلم، وخالقه لا يتكلم؟!
وكيف يكون سميعًا بصيرًا، وخالقه لا يسمع ولا يبصر؟!
وكيف يكون حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا، وخالقه ليس كذلك؟!
وكيف يكون ملِكًا آمرًا ناهيًا مرسلًا مثيبًا معاقبًا، وخالقه ليس كذلك؟!
وكيف يكون فاعلًا باختياره ومشيئته، وخالقه ليس كذلك؟!
وكيف يكون قويًّا، وخالقه ليس له قوة؟!
وكيف يكون رحيمًا، وخالقه لم تقم به صفة رحمة ولا رأفة؟
وكيف يكون كريمًا حليمًا جوادًا ماجدًا، وخالقه ليس كذلك؟!
هذا ومن المعلوم بالضرورة أن ما يُرى أكمل ممَّن لا يمكن أن يُرى؛ فإنه إمَّا معدومٌ، وإما عرضٌ، والمرئي أكمل منهما.
وما يتكلم أكمل ممَّن لا يتكلم، فإنه إمَّا جمادٌ وإمَّا عرضٌ وإمَّا معدومٌ، والمتكلم أكمل من ذلك.
وما له سمعٌ وبصرٌ ووجهٌ ويدان أكمل من الفاقد لذلك بالضرورة.
وهكذا سائر الصِّفات، فلا أحسن الله في تلك العقول عن أصحابها إذا أحسن عن الصَّابئين
(1)
، ولا حيَّاها بما حيَّى به عباده المرسلين، ولا زكَّاها بما زكَّى به أتباعهم من المؤمنين، ونسأله ألَّا يبتلينا بما ابتلاهم به من مفارقة
(1)
كذا جاءت هذه العبارة في «ح» ، ولم أفهم معناها، ولعلها مصحفة.
المنقول والمعقول، وتلقي العلم واليقين من غير مشكاة الرَّسول، ولا يجعلنا من أتباع قومٍ ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل.
الوجه
الحادي والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيءٌ، وأنه لا سَمِيَّ له، ولا كفؤ له،
وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين، واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] وهكذا كونه ليس له سَمِيٌّ، أي: مثيلٌ يُساميه في صفاته وأفعاله ولا مَن يكافئه فيها. ولو كان مسلوب الصِّفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين، ومنفيًّا عنه مباينة العالم ومحايثته، واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه، وكونه يَمنَتَه أو يَسْرَتَه وأمامه أو وراءه = لكان كل عدمٍ مثلًا له في ذلك، فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات، وأثبت لها مماثلة المعدومات. فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض، فإن العدم المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سَمِيَّ. فلو كان المراد بهذا نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه؛ لكان ذلك وصفًا له بغاية العدم. فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى مَن كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحُسنى حتى تفرَّد بذلك الكمال؛ فلم يكن له شبه في كماله ولا سَمِيٌّ ولا كفوءٌ.
فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعيَّن ذلك المعنى الباطل قطعًا، وصار المعنى أنه لا يُوصف بصفةٍ أصلًا، ولا يفعل فعلًا، ولا له وجهٌ ولا يدٌ، ولا يسمع ولا يُبصر، ولا يعلم ولا يقدر، تحقيقًا لمعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ}. وقال إخوانكم من الملاحدة: ليس له ذات أصلًا، تحقيقًا لهذا النفي. وقال غُلاتهم: ولا وجود له تحقيقًا لهذا النفي.
وأمَّا الرُّسل وأتباعهم فقالوا: إنه حيٌّ وله حياة، وليس كمثله شيءٌ في حياته، وهو قويٌّ وله القوة، وليس كمثله
(1)
شيءٌ في قوته، وهو سميعٌ بصيرٌ له السمع والبصر يسمع ويبصر، وليس كمثله شيءٌ في سمعه وبصره، ومتكلم ومكلم، وليس كمثله شيءٌ في كلامه وتكليمه، وله وجه ويدان وليس كمثله شيءٌ، وهو مستوٍ على عرشه وليس كمثله شيءٌ. وهذا النفي لا يتحقق إلَّا بإثبات صفات الكمال؛ فإنه مدحٌ له وثناءٌ أثنى به على نفسه، والعدم المحض لا يُمدح به
(2)
أحدٌ، ولا يُثنى به عليه، ولا يكون كمالًا له، بل هو أنقص النقص، وإنما يكون كمالًا إذا تضمن الإثبات، كقوله [ق 69 أ] تعالى:
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 253] لكمال حياته وقيُّوميته.
وقوله: {مَن ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 253] لكمال غناه وملكه وربوبيته.
وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 45]{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 48]{وَمَا اَللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر: 31] لكمال عدله وغناه ورحمته.
وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قدرته.
وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اِلْأَرْضِ وَلَا فِي اِلسَّمَاءِ} [يونس: 61]{وَمَا يَخْفَى عَلَى اَللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي اِلْأَرْضِ وَلَا فِي اِلسَّمَاءِ} [إبراهيم: 40]
(1)
«ح» : «مثله» . والمثبت من «م» .
(2)
«به» ليس في «ح» . ومثبت من «م» .
ونظائر ذلك، لكمال علمه.
وقوله: {لَّا تُدْرِكُهُ اُلْأَبْصَارُ} [الأنعام: 104] لعظمته وإحاطته بما سواه، وأنه أكبر من كل شيءٍ، وأنه واسع؛ فيُرى ولكن لا يُحاط به إدراكًا، كما يُعلم ولا يحاط به علمًا، فيُرى ولا يحاط به رؤيةً.
فهكذا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال. وهذا هو المعقول في نظر النَّاس وعقولهم، وإذا قالوا: فلان عديم المثل، أو قد أصبح ولا مثل له في النَّاس، أو ما له شبيهٌ، ولا له من يكافئه؛ إنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصِّفات والأفعال والمجد بما لم يلحقه فيه غيره، فصار واحدًا من الجنس لا مثيل له. ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذمِّ والتنقُّص له. فإذا أُطلق ذلك في سياق المدح والثناء لم يَشُكَّ عاقلٌ في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها.
فهل يقول عاقلٌ لمن لا علم له، ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر، ولا يتصرف بنفسه، ولا يفعل شيئًا، ولا يتكلم، ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل: إنه لا شبيه له، ولا مثل له، وإنه وحيدُ دهره، وفريدُ عصره ونسيجُ وحده. وهل فَطَرَ الله الأُمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلَّا على ضد ذلك؟!
وهل كان ربُّ العالمين أهلَ الثناء والمجد إلَّا بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأسمائه الحسنى. وإلا فبماذا يُثني عليه المثنون، وبماذا يُثني على نفسه أعظمَ ممَّا يُثني به عليه جميع خلقه؟ ولأي شيءٍ يقول أعرف
خلقه به: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(1)
؟ ومعلومٌ أن هذا الثناء الذي أخبر أنه لا يُحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه، وأشد إحصاءً له، فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيًا مفصَّلًا، وذلك ممَّا يُحصيه المُحصي بلا كُلفةٍ ولا تعبٍ، وقد فصَّله النُّفاة وأحصوه وحصروه. يوضحه:
الوجه الثَّاني والسبعون: أن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يُناقض الإثبات ويُضاد ثبوت الصِّفات والأفعال، فلم ينفِ إلَّا أمرًا عدميًّا أو ما يستلزم العدم، فنفى السِّنَة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية.
ونفى العُزُوب والخفاء المستلزم لنفي كمال العلم.
ونفى اللغوب المستلزم نفي كمال القدرة.
ونفي الظلم المستلزم لنفي كمال الغنى والعدل.
ونفى العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم.
ونفى الصَّاحبة والولد المستلزمَينِ لعدم كمال الغنى.
وكذلك نفى الشَّريك والظَّهير والشَّفيع المتقدِّم بالشفاعة المستلزم لعدم كمال الغنى والقهر والملك.
ونفى الشبيه والمثيل والكفؤ المستلزم لعدم التفرد بالكمال المطلق.
ونفى إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمَينِ لعدم كمال عظمته وكبريائه وسَعته وإحاطته.
(1)
أخرجه مسلم، وقد تقدم تخريجه.
وكذلك نفى الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه لاستلزام ذلك عدم غناه الكامل.
وإذا كان إنما نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم ذلك العدم عُلم أنه أحقُّ بكل وجودٍ وثبوتٍ وكلِّ أمرٍ وجودي لا يستلزم عدمًا ولا نقصًا ولا عيبًا. وهذا هو الذي دلَّ عليه صريح العقل؛ فإنه سبحانه له الوجود الدَّائم القديم الواجب بنفسه الذي لم يستفده من غيره، ووجودُ كل موجودٍ فمفتقرٌ
(1)
إليه، ومتوقفٌ في تحققه عليه، والكمال وجودٌ كله، والعدم نقصٌ كله، فإن العدم كاسمه لا شيء.
فعاد النفي الصحيح إلى نفي النقائص والعيوب، ونفي المماثلة في الكمال، وعاد الأمران إلى نفي النقص، وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم العدم. فتأمَّل هل نفى القرآن والسُّنَّة عنه سبحانه سوى ذلك؟ وتأمَّل هل ينفي العقل الصحيح ـ الذي لم يفسد بشُبه هؤلاء الضُّلال الحيارى ـ غير ذلك؟ فالرُّسل جاؤوا بإثبات ما يضاده، وهو سبحانه أخبر أنه لم يكن له كفوًا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد. والصمد: السيد الذي كمل في سؤدده، ولهذا كانت العرب تُسمِّي أشرافها بهذا الاسم؛ لكثرة الصِّفات المحمودة في المسمَّى به، قال شاعرهم
(2)
:
(1)
«م» : «مفتقر» .
(2)
البيت لهند بنت مَعْبد بن نَضْلة تبكي عمَّيها عمرَو بن مسعودٍ، وخالدَ بن نَضْلة. وقد قتلهما النعمان بن المنذر اللخمي، كما في «السيرة النبوية» لابن هشامٍ (1/ 572). ويُنسب لسبرة بن عمرو الأسدي، ينظر «الصحاح» للجوهري (2/ 652) و «البيان والتبيين» للجاحظ (1/ 180) و «سمط الآلي» (ص 933).
أَلَا بَكَرَ النَّاعِي بِخَيْرِ
(1)
بَنِي أَسَدْ
…
بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
فإن الصمد من تَصمُد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة، وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له، ولهذا قال جمهور السلف [ق 69 ب] منهم عبد الله بن عباسٍ:«الصمد: السيد الذي كمُل سُؤْدُده، فهو العالم الذي كمُل علمه، القادر الذي كمُلت قدرته، الحكيم الذي كمُل حكمه، الرحيم الذي كمُلت رحمته، الجواد الذي كمُل جوده»
(2)
. ومن قال: «إنه الذي لا جوف له»
(3)
فقوله لا يناقض هذا التفسير، فإن اللفظة من الاجتماع، فهو الذي اجتمعت فيه صفات الكمال ولا جوف له، فإنما لم يكن أحدٌ كفوًا له لمَّا كان صمدًا كاملًا في صمديته.
فلو لم يكن له
(4)
صفات كمالٍ ونعوت جلالٍ، ولم يكن له علمٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا إرادةٌ ولا كلامٌ، ولا وجهٌ ولا يدٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا فعل يقوم به، ولا يفعل شيئًا البتة، ولا هو داخل العالم
(1)
«ح» : «يخبر» . «م» : «بخبر» . والرواية الأخرى: «بخيري» . ينظر المصادر السابقة.
(2)
أخرجه الطبري في «التفسير» (24/ 736) وأبو الشيخ في «العظمة» (96) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (98).
وينظر في تفسير الصمد: «تفسير الطبري» (24/ 731 - 736) و «البسيط» للواحدي (24/ 436 - 444) و «النكت والعيون» للماوردي (6/ 371 - 372).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (2548) وابن أبي عاصم في «السنة» (665) والطبري في «التفسير» (24/ 731) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (100) عن ابن عباس رضي الله عنه. وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، ينظر «تفسير الطبري» (24/ 731 - 732) و «الدر المنثور» (15/ 777 - 778).
(4)
«له» ليس في «ح» ، ومثبت من «م» .
ولا خارجه، ولا فوق عرشه، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يحب ولا يبغض، ولا هو فعالٌ لما يريد، ولا يُرى ولا يمكن أن يُرى، ولا يُشار إليه، ولا يُمكن أن يُشار إليه = لكان العدم المحض كفوًا له، فإن هذه الصِّفات منطبقةٌ على المعدوم، فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحقَّ لم يكن صمدًا، وكان العدم كفوًا له.
وكذلك قوله: {رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاَعْبُدْهُ وَاَصْطَبِر لِّعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 64] فأخبر أنه لا سَمِيَّ له، عَقِيبَ قول العارفين به:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (63 ) رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاَعْبُدْهُ وَاَصْطَبِر لِّعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 63 - 64].
فهذا الربُّ الذي له هذا الجند العظيم ولا يتنزَّلون
(1)
إلَّا بأمره، وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك، فهو الذي قد كمُلت قدرته وسلطانه وملكه، وكمُل علمه؛ فلا ينسى شيئًا أبدًا، وهو القائم بتدبير أمر السماوات والأرض وما بينهما، كما هو الخالق لذلك كله، وهو ربُّه ومليكه
(2)
، فهذا الربُّ هو الذي لا سَمِيَّ له لتفرُّده
(3)
بكمال هذه الصِّفات والأفعال.
فأمَّا مَن لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه، إن هي إلَّا ألفاظ فارغةً من المعاني؛ فالعدم سَمِيٌّ له.
(1)
«ح» : «ينزلون» . والمثبت من «م» . وهو الموافق للآية الكريمة.
(2)
«ح» : «وملائكته» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «التفرده» . والمثبت من «م» .
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] فإنه سبحانه ذكر ذلك بعد ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اَللَّهُ اُلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ (1) لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ (2) * تَكَادُ اُلسَّمَاوَاتُ يَنفَطِرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَاَلْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي اِلْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اُلرَّحِيمُ (3) وَاَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اَللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الشورى: 1 - 4] إلى قوله: {فَاطِرُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ اَلْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9].
فهذا الموصوف بهذه الصِّفات والنُّعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزَّة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والرحمة
(1)
والولاية وإحياء الموتى والقدرة التَّامة الشَّاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السماوات والأرض، وهو السميع البصير = فهذا هو الذي ليس كمثله شيءٌ، لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله، وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيءٌ.
فالمثبِتُ للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الذي يصفه سبحانه بأنه ليس كمثله شيءٌ. وأمَّا المعطل النَّافي لصفاته وحقائق
(1)
أعاد ذكر الرحمة في «ح» هنا وقد ذكرت قبل الكلام، ولم يعده في «م». وإنما كررها اتباعًا لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَاَلظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (6) أَمِ اِتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاَللَّهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَهْوَ يُحْيِ اِلْمَوْتى وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 6 - 7]. فقد ذُكرت الرحمة مرتين في الآيات: مرة مع المغفرة، ومرة مع المشيئة.
أسمائه فإن وصفه له بأنه ليس كمثله شيءٌ مجازٌ لا حقيقة له، كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه. ولهذا قال من قال من السَّلَف: إن النُّفاة جمعوا بين التشبيه والتعطيل
(1)
، فسمَّوْا تعطيلهم تنزيهًا، وسمَّوْا ما وصف به نفسه تشبيهًا، وجعلوا ما يدلُّ على ثبوت صفات الكمال وكثرتها دليلًا على نفيها وتعطيلها، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورًا، واغترَّ به من شاء الله، وهدى الله من اعتصم بالوحي والعقل والفطرة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه
التَّاسع
(2)
والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى،
فقال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60]. وقال تعالى: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26].
فجعل مَثَل السَّوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده. وبهذا كان المثل أعلى
(3)
، وهو أفعل تفضيلٍ، أي: أعلى من غيره، فكيف يكون أعلى وهو عدمٌ محضٌ ونفيٌ صرفٌ، وأيُّ مَثَلٍ أدنى من هذا؟! تعالى الله عن قول المعطلين علوًّا كبيرًا.
(1)
وتقدم بيان المصنِّف لهذا المعنى في الفصل الثامن (ص 73 - 106).
(2)
كتب الناسخ بحاشية «ح» : «هكذا في الأصل» . فقد انتقل من الثاني والسبعين إلى التاسع والسبعين مباشرة، فلم يذكر من الثالث والسبعين إلى الثامن والسبعين.
(3)
«ح» : «الأعلى» . والمثبت من «م» .
فمثل السَّوء لعادم [ق 70 أ] صفات الكمال، ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته، لأنهم فقدوا الصِّفات التي من اتصف بها كان كاملًا، وهي: الإيمان، والعلم، والمعرفة، واليقين، والعبادة لله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والصبر، والرضا، والشكر، وغير ذلك من الصِّفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة. فلمَّا سُلبت تلك الصِّفات عنهم ـ وهي صفات كمالٍ ـ صار لهم مثل السَّوء.
فمن سلب صفات الكمال عن الله وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته وسائر ما وصف به نفسه؛ فقد جعل له مثل السَّوء، ونزَّهه عن المثل الأعلى، فإن مثل السَّوء هو العدم وما يستلزمه، وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره.
ولمَّا كان الربُّ تعالى هو الأعلى، ووجهه
(1)
الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته عُليا؛ كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه. بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمَثَل الأعلى أحدهما وحده، يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مِثْل أو نظير. وهذا برهانٌ قاطعٌ من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمَّلْه فإنه في غاية الظهور والقوة.
ونظير هذا: القهر المطلق مع الوحدة؛ فإنهما متلازمان، فلا يكون القهار إلَّا واحدًا؛ إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق،
(1)
«هو الأعلى ووجهه» في «ح» : «هؤلاء على وجه» . والمثبت من «م» .
وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهار واحدًا.
فتأمَّل كيف كان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] وقوله: {وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} [الروم: 26] من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه.
فإن قلت: قد فهمت هذا وعرفته، فما حقيقة المثل الأعلى؟
قلت: قد أَشكل هذا على جماعةٍ من المفسرين، واستشكلوا قول السلف فيه، فإن ابن عباس وغيره قالوا:«{مَثَلُ اُلسَّوْءِ} العذاب والنَّار {وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} شهادة أن لا إله إلَّا الله»
(1)
. وقال قتادة: «هو الإخلاص والتوحيد»
(2)
. قال الواحدي
(3)
: «هذا قول المفسرين في هذه الآية، ولا أدري لِمَ قيل للعذاب مثل السَّوء، وللإخلاص المثل الأعلى» . قال
(4)
: «وقال قومٌ: المثل السَّوء الصفة السَّوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للإناث خوف العَيْلة والعار {وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى} الصفة العُليا من تنزهه وبراءته
(5)
عن الولد. قال: وهذا قولٌ صحيحٌ، فالمثل كثيرًا يرد بمعنى الصفة، وقاله جماعةٌ من المتقدمين. وقال ابن كيسان: مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعَبَدَتها من الأمثال، والمثل الأعلى نحو قوله:{اَللَّهُ نُورُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} الآية [النور: 35]».
(1)
نسبه الواحدي في «التفسير البسيط» (13/ 96) لابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 357) والطبري في «التفسير» (14/ 258) عن قتادة.
(2)
أخرجه الطبري في «التفسير» (14/ 258).
(3)
«التفسير البسيط» (13/ 96).
(4)
«التفسير البسيط» (13/ 97).
(5)
«ح» : «وبراءة» . والمثبت من «م» ، «البسيط» .
وقال ابن جرير
(1)
قلت: المثل الأعلى يتضمن الصفة العُليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الربِّ سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أربعة أمور:
ثبوت الصِّفات العُليا لله سبحانه في نفس الأمر، عَلِمَها العِباد أو جهلوها، وهذا معنى قول من فسَّره بالصفة.
الثَّاني: وجودها في العلم
(2)
والتصور. وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته، وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسِّرين: أهل السماء يُعظِّمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض يُعظِّمونه ويُجلُّونه، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظِّمون له، مجلُّون له، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى:{و لَّهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [الروم: 25] فلست تجد أحدًا من أوليائه وأعدائه إلَّا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل ما سواه.
(1)
«تفسير الطبري» (14/ 258).
(2)
«ح» : «العالم» . والمثبت من «م» .
الثَّالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل.
الرَّابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه.
وكلما كان الإيمان بالصفات [ق 70 ب] أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى، فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها.
وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئًا وهي مخلوقة، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا
(1)
.
وقال تعالى: {* ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهْوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهْوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76]. فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام، فللأصنام مثل السَّوء، وله المثل الأعلى.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ
(1)
قال تعالى: {وَاَتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
عَزِيزٌ} [الحج: 71 - 72]. فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه، والأول مثل السَّوء للصنم وعابديه.
وقد ضرب سبحانه للمعارضين
(1)
بين الوحي وعقولهم مثل السَّوء بالكلب تارةً
(2)
، وبالحُمُر تارةً
(3)
، وبالأنعام تارةً
(4)
، وبأهل القبور تارةً
(5)
، وبالعُمْي الصُّم تارة
(6)
،
وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله، وضرب لأوليائه وعابديه أحسن أمثال
(7)
. ومَن تدبر القرآن فَهِمَ المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء، وبالله التوفيق.
(1)
«ح» : «للعارضين» . والمثبت من «م» .
(2)
(3)
قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اِلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
(4)
(5)
قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي اِلْأَحْيَاءُ وَلَا اَلْأَمْوَاتُ إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي اِلْقُبُورِ} [فاطر: 22].
(6)
قال تعالى: {مَثَلُ اُلْفَرِيقَيْنِ كَاَلْأَعْمَى وَاَلْأَصَمِّ وَاَلْبَصِيرِ وَاَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [هود: 24] ..
(7)
«ح» : «الأمثال» . والمثبت من «م» .
الوجه الثمانون: أن كل من عارض بين الوحي والعقل وردَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة بالرَّأي ـ الذي يُسمِّيه عقلًا ـ لا بد أن يبغض
(1)
تلك النصوص المخالفة لعقله ويُعاديها، ويود أنها لم تكن جاءت، وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة بحسب حاله، واشمأز لها قلبه، والله يعلم ذلك من قلوبهم، وهم يعلمونه أيضًا، حتى حمل جهمًا الإنكارُ والبُغْض لقوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] على أن قال: «لو أمكنني كَشْطها من المصحف كشطتها»
(2)
.
وحمل آخَرَ
(3)
بُغْضُ قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] على أن حرَّفها وقرأها بالنصب، وكلَّم اللهَ موسى تكليمًا، أي أن موسى هو الذي كلَّم الله وخاطبه، والله لم يكلمه
(4)
. فقال له أبو عمرو بن العلاء: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فبُهت المعطِّل.
وجرى بيني وبين بعض رؤساء هؤلاء مناظرة في مسألة الكلام، فقال: نحن وسائر الأمة نقول: القرآن كلام الله لا يُنازع في هذه الإضافة أحدٌ، ولكن
(1)
«ح» : «ينقض» . والمثبت هو الموافق للسياق.
(2)
أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (70).
(3)
«ح» : «أخرى» . والمثبت هو الصواب. وهو عمرو بن عبيد، قد سمَّاه ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 303).
(4)
أخرج ابن مردويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلًا يقرأ: «وكلم اللهَ موسى تكليمًا» فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. قال ابن كثير: وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك لأنه حرَّف لفظ القرآن ومعناه. «تفسير ابن كثير» (2/ 474).
لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلِّمًا، ولا أنه يتكلم، فمن أين لكم ذلك؟ فقال له بعض من كان معي من أصحابنا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ»
(1)
. وقالت عائشة: «ولَشأني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحيٍ يُتلى»
(2)
. فرأيت الجهمي قد عَبَس وبَسَر وكَلَح
(3)
، وزوى وجهه عنه، كالذي شمَّ رائحةً كريهةً أعرض عنها بوجهه، أو ذاق طعامًا كريهًا مُرًّا مذاقه.
وهذا أمرٌ
(4)
لم يزل عليه كل مبطلٍ إذا واجهته بالحق المخالف له وصدمته به، وقلَّ من يتصبَّر منهم عند الصدمة الأولى. ولهذا قال بعض السلف
(5)
: «ما ابتدع أحدٌ بدعةً إلَّا خرجت حلاوة الحديث من قلبه» .
وقال بعض رؤساء الجهمية ـ إمَّا بشر المريسي أو غيره
(6)
ـ: «ليس شيءٌ أبغضَ لقولنا من القرآن، فأقِرُّوا به ثم أوِّلوه» . وقال بشرٌ أيضًا
(7)
: «إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجوا بالأخبار فادفعوها بالتكذيب» . وقال الإمام أحمد: «قلَّ من نظر في الكلام إلَّا وفي قلبه غلٌّ على الإسلام»
(8)
.
(1)
تقدم (ص 54 - 55) تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (2661) ومسلم (2770).
(3)
عَبَسَ يَعْبِس عبوسًا فهو عابس الوجه غضبان، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قلت: كَلَح. وإن اهتمَّ لذلك وفكر فيه قلت: بَسَرَ. «العين» (1/ 343).
(4)
«ح» : «أمره» .
(5)
هو أحمد بن سنان القطان، كما في «ذم الكلام» للهروي (229) و «شرف أصحاب الحديث» للخطيب البغدادي (ص 73).
(6)
كذا نسبه ابن تيمية في «درء التعارض» (5/ 217) لبشر أو غيره.
(7)
نقله عنه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في «النقض» (2/ 868).
(8)
«جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 939) و «تحريم النظر في كتب أهل الكلام» لابن قدامة (ص 41).
وجاء أفضل متأخريهم
(1)
فنصب على حصون الوحي أربعة مناجنيق
(2)
:
الأول: أنها أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد اليقين.
الثَّاني: أنها مجازاتٌ واستعاراتٌ لا حقيقة لها.
الثَّالث: أن العقل عارضها، فيجب تقديمه عليها.
الرَّابع: أنها أخبار آحادٍ، وهذه المسائل علمية فلا يجوز أن يُحتج فيها بالأخبار.
ولهذا تجد كثيرًا من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية أو إظهارها وإشاعتها، وقد يشترطون في أماكن يوقفونها
(3)
ألَّا يُقرأ فيها أحاديث الصِّفات، وكان بعض متأخريهم ـ وهو أفضلهم عندهم
(4)
ـ كَلِفًا بإعدام كتب السُّنَّة المصنَّفة في الصِّفات وكتمانها وإخفائها
(5)
.
وبلغني عن كثيرٍ منهم أنه كان يَهُمُّ بالقيام والانصراف عند ختم «صحيح البخاري» وما
(6)
فيه من التوحيد والردِّ على الجهمية، وسُمع منه الطعن في
(1)
يعني: الفخر الرازي.
(2)
كذا في «ح» ، والمنجنيق يجمع على منجنيقات ومجانق ومجانيق. «المعجم الوسيط» (1/ 140).
(3)
«ح» : «يقفونها» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
لم أقف على تسميته.
(5)
وقد اشتهر ذلك عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته خاصةً، بل لقد حدث هذا مع كتاب «الصواعق المرسلة» نفسه، فلم نجد له نسخة تامة إلى الآن، نسأل الله أن يمنَّ علينا بنسخة تامة منه؛ إنه جواد كريم.
(6)
كذا في «ح» ، ولعل الأنسب «لما» .
محمد بن إسماعيل. وما ذنب البخاري وقد بلَّغ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال آخر من هؤلاء: «لقد شان البخاري صحيحه بهذا الذي أتى به في آخره» .
ومعلومٌ أن هذه مضادةٌ صريحةٌ لِمَا يحبه الله ورسوله من التبليغ عنه، حيث يقول:«لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ»
(1)
. وقال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»
(2)
(3)
.
وقد ذمَّ الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله؛ لأنه يُخالف ما يقولونه، ويُعارض ما حكمت به عقولهم وآراؤهم. وهؤلاء الذين قال فيهم عمر:«إنهم أعداء السُّنن»
(4)
. يوضحه:
الوجه الحادي والثمانون: أن كل من أبغض شيئًا من نصوص الوحي
(1)
أخرجه البخاري (67) ومسلم (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (21991) وأبو داود (3660) والترمذي (2656) وابن ماجه (230) وابن حبان (680) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن» . وقال ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 363): «وهو حديث مشهور خُرِّج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم، وصححه ابن حبان والحاكم، وذكر أبو القاسم بن منده في «تذكرته» : رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون صحابيًّا. ثم سرد أسماءهم، وقد تتبعت طرقه فوقع لي أكثرها وزيادة ستة».
(4)
أخرجه ابن شبَّة في «تاريخ المدينة» (3/ 801) والدارقطني في «السنن» (5/ 256) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (201).
ففيه من عداوة الله ورسوله بحسب ذلك، ومن
(1)
أحب نصوص الوحي ففيه من ولاية الله ورسوله بحسب ذلك. وأصل العداوة البغض، كما أن أصل الولاية الحب، قال عبد الله بن مسعود:«لا يسأل أحدكم عن نفسه غير القرآن؛ فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله»
(2)
.
ومن تأمَّل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 113] وجده منطبقًا على هؤلاء أتمَّ انطباق، فإنهم يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا. والزخرف هو الكلام المُزيَّن، كما يُزيَّن الشيء بالزُّخرف، وهو الذَّهب. وهو غرورٌ
(3)
لأنه يغرُّ المستمع، والشُّبهات المعارضة للوحي هي كلامٌ زخرفٌ يغرُّ المستمع:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 114]. فانظر إلى إصغاء
(4)
المستجيبين لهؤلاء، ورضاهم بذلك، واقترافهم المترتب عليه، فتأمَّل.
الوجه الثَّاني والثمانون
(5)
: وهو قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 115] وهذا يُبيِّن أن الحَكَم
(1)
«ح» : «وما» .
(2)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1097) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 51) والبغوي في «مسند علي بن الجعد» (1956) وعبد الله بن أحمد في «السنة» (125).
(3)
غرَّه يَغُرُّه غرورًا: خدعه. «الصحاح» (2/ 769).
(4)
أصغى يُصغي إصغاءً: إذا أمال سمعه. «جمهرة اللغة» (2/ 890).
(5)
«ح» : «والثمانين» .
بين النَّاس هو الله عز وجل وحدَه بما أنزله من الكتاب المفصَّل، كما قال في الآية الأخرى:{وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8] وقال تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 211] وقال تعالى: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَراكَ اَللَّهُ} [النساء: 104] وقال: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64].
فقوله: {أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 115] استفهام إنكارٍ. يقول: كيف أطلب حَكَمًا غير الله وقد أنزل كتابًا مفصَّلًا؛ فإن قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا} جملةٌ في موضع الحال. وقوله: {مُفَصَّلًا} يُبيِّن أن الكتاب الحاكم مفصَّلٌ بيِّنٌ، ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال وآراءهم تُعارِض بعض نصوصه، وأن نصوصه خيَّلتْ وأفهمتْ خلاف الحقِّ لمصلحة المخاطب، أو أن لها معانيَ لا تُفهم ولا يُعلم المراد منها، أو أن لها تأويلاتٍ باطلةً خلاف ما دلَّت عليه ظواهرها. فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصَّلًا، بل مجملٌ مؤوَّلٌ
(1)
، أو لا يُعلم المراد منه، أو المراد منه
(2)
خلاف ظاهره، أو إفهام خلاف الحقِّ.
ثم قال: {وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 115] وذلك أن الكتاب الأول مصدقٌ للقرآن، فمن نظر فيه علم علمًا يقينيًّا أن هذا وهذا من مشكاةٍ واحدةٍ،
لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقةٌ للقرآن في ذلك موافقةٌ له، وهذا يدل على أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المُبَدَّل المُحَرَّف الذي أنكره الله عليهم، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن
(1)
وصدَّقه.
ولهذا لم يُنكر النَّبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما في التوراة من الصِّفات، ولا عابهم به، ولا جعله تشبيهًا وتجسيمًا وتمثيلًا، كما فعل كثيرٌ من النُّفاة، وقالوا: اليهود أُمة التشبيه والتجسيم. ولا ذنب لهم في ذلك، فإنهم قرؤوا
(2)
ما في التوراة، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يَعِبْهم به المعطلة النُّفاة؛ بل شاركوهم فيه، والذي استشهد الله سبحانه على نبوة رسوله به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات، عابوهم به ونسبوهم فيه إلى التجسيم والتشبيه. وهذا ضدُّ ما كان عليه الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئًا من هذا ـ الذي تُسميه المعطلة تجسيمًا وتشبيهًا ـ صدَّقهم عليه وأقرَّهم ولم يُنكره، كما صدَّقهم في خبر الحبر المتفَق على صحته من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وضحك [ق 71 ب] تعجبًا وتصديقًا له
(3)
، وفي غير ذلك.
ثم قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 116] فقرَّر
(4)
أن ما أخبر به فهو صدقٌ، وما أمر به فهو عدلٌ. وهذا يُبيِّن
(5)
(1)
في «ح» : «شهد للقرآن» . والمثبت من «م» .
(2)
كذا في «ح» ، «م». ولعل الصواب:«قرروا» .
(3)
أخرجه البخاري (4811) ومسلم (2786).
(4)
«ح» : «فقدر» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «يميز» . والمثبت من «م» .
أن ما في النصوص من الخبر فهو صدقٌ، علينا أن نُصدِّق به، لا نُعرض عنه ولا نُعارضه، ومن دفعه أو عارضه بعقله لم يُصدِّق به، ولو صدَّقه تصديقًا مجملًا ولم يصدقه تصديقًا مفصَّلًا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنًا، ولو أقرَّ بلفظه مع جَحْد معناه أو صَرْفه إلى معانٍ أُخَر غير ما أُريد به لم يكن مُصدِّقًا؛ بل هو إلى التكذيب أقرب.
الوجه
الثَّالث والثمانون: أنه سبحانه أخبر أن كل حُكمٍ خالف حُكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى، لا من أحكام العقل،
وهو من أحكام الجاهلية، لا من حكم العلم والهدى، فقال تعالى:{وَأَنِ اِحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاَحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اُللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ اَلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ (51) أَفَحُكْمَ اَلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 51 - 52] فأخبر سبحانه وتعالى أنه ليس وراء ما أنزله إلَّا اتباع الهوى الذي يُضل عن سبيله، وليس وراء حكمه إلَّا حكم الجاهلية.
وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرَّسول هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإن سمَّاها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهةً، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصدَّ القلوب عن الإيمان إصلاحًا وإحسانًا وتوفيقًا.
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لَا يَهْدِي اِلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. وقال: {وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ اَلَّذِي جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اَللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 119] وقال: {وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 144] وقال: {فَلِذَلِكَ فَاَدْعُ وَاَسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 13] وقال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 151].
وهؤلاء وإن أقرُّوا بألفاظ الوحي فقد كذَّبوا بمعاني آياته، وجحدوا حقائقها، ولهذا اتفق السلف على تسميتهم «أهل الأهواء» ، وأخبروا أن سبب ظهورهم خفاء السُّنن، كما قال عبد الله بن المبارك:«إذا خفيت السُّنَّة ظهرت الأهواء، وإذا قلَّ العلم ظهر الجفاء»
(1)
.
بل أهل الأهواء أحسن حالًا من المعارضين للوحي بعقولهم؛ فإنهم عند السلف إنما سُمُّوا أهل الأهواء لأنهم تأوَّلوا النصوص على تأويلات نزلوها على أهوائهم، وهؤلاء عارضوا بينها وبين معقولاتهم.
الوجه الرَّابع والثمانون: أن من عارض نصوص الوحي بالعقل لزمه لازم من
(2)
خمسة لا محيد له البتَّةَ: إمَّا تكذيبها، وإمَّا كتمانها، وإمَّا تحريفها، وإمَّا تخييلها، وإمَّا تجهيلها وهو نسبة المصدِّقين بها إلى الجهل، إمَّا البسيط وإمَّا المركب؛ وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
(3)
.
(1)
لم نقف عليه عن الإمام ابن المبارك، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (1/ 271) وفي «مجموع الفتاوى» (17/ 308، 20/ 163) عن الإمام مالك نحوه.
(2)
«ح» : «في» .
(3)
«ح» : «اللازم» . والمثبت هو الصواب.
وبيان الملازمة أنه [ق 72 أ] إذا اعتقد أن العقل يخالف ظاهرها فقد اعتقد أن ظاهرها باطلٌ ومحالٌ، فإمَّا أن يُقرَّ بلفظها وأن الرَّسول جاء به أو لا، فإن لم يُقِرَّ بذلك فهو مكذبٌ، وإن أقرَّ بألفاظها فإمَّا أن يقرَّ بأنه أراد معانيها وحقائقها أم لا، فإن أقرَّ بذلك لزمه اعتقاد التخييل فيها والخطاب الجمهوري، وإن لم يقرَّ بأنه أراد حقائقها وما دلت عليه فإمَّا أن يقول: إنه أراد خلاف ظواهرها وحقائقها أو لا. فإن قال: أراد خلاف حقائقها وظواهرها، لزم التحريف والتأويل الباطل. وإن قال: لم يرد ذلك، فإمَّا أن يقول: لم يرد بها معنًى أصلًا، بل هي بمنزلة الألفاظ المهملة التي لا معنى لها، أو يقول: أراد بها معنًى لا يفهمه ولا يعرفه. وهذا هو التجهيل.
وقد ذهب إلى كل تقديرٍ من هذه التقادير طائفةٌ من النَّاس، وقد ذمَّ الله سبحانه الجميع. قال تعالى:{* أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اَللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (74) وَإِذَا لَقُوا اُلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (75) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (77) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اِللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 74 - 78].
فذمَّ سبحانه وتعالى المُحرِّفين لكتابه، والأُميين الذين لا يعلمون منه إلَّا مجرد التلاوة ـ وهي الأماني ـ والذين يكتبون، فيكتبون الباطل ويقولون: هذا حقٌّ وهو من عند الله. وذمَّ في عدة مواضع الذين يكتمون ما أنزله من الكتاب والبينات والهدى.
وهذه الأنواع الأربعة المذمومة موجودة في هؤلاء المعرضين عن نصوص الوحي، المعارضين لها بآرائهم وعقولهم وأهوائهم، فإنهم تارةً يكتمون الأحاديث والآيات المخالفة لأقوالهم، ومنهم طوائف تضع أحاديث على وَفْق مذاهبهم وأهوائهم في الأصول والفروع، ويقولون هذا من عند الله، وتارةً يضعون كُتبًا بآرائهم وعقولهم وأذواقهم وخيالاتهم، ويدَّعون أنها دين [الله]
(1)
الذي يجب اتباعه، ويقدمونها على نصوص الوحي.
وأمَّا تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يُحرِّفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر وأشهر من أن تُذكر، كتأويلات القرامطة والباطنية والفلاسفة والرَّافضة والجهمية والقدرية.
وأمَّا التخييل فكثيرٌ منهم يُصرِّحون بأن الرُّسل قصدت من النصوص إفهام خلاف الحقِّ للمصلحة الجمهورية.
وأمَّا التجهيل فكثيرٌ منهم يصرِّح بأن هذه النصوص لا معنى لها، وإنما هي ألفاظٌ مجردةٌ. ومَن أحسنَ منهم وأجملَ يقول: لها معانٍ استأثر الله بعلمها، ولم يجعل لنا سبيلًا إلى العلم بها.
وأكثر هذه الطوائف لا يعرف الحديث ولا يسمعه، وكثيرٌ منهم لا يُصدِّق به إذا طرقَ سمعه، ثم إذا صدَّقوا به فإن تحريفهم له وإعراضهم عن معانيه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه. ولهذا يُقرُّ بعض هؤلاء بما في القرآن من الصِّفات دون ما في الحديث وحده.
الوجه
الخامس والثمانون: أن المعارضين للوحي بآرائهم خمس طوائف:
(1)
سقط من «ح» لفظ الجلالة، وأثبته من «درء التعارض» (5/ 226).
طائفةٌ عارضته بعقولهم في الخبريات، وقدَّمت عليه العقل، فقالوا لأصحاب الوحي: لنا العقل ولكم النقل
(1)
.
وطائفةٌ عارضته بآرائهم وقياساتهم، فقالوا لأهل الحديث: لكم الحديث ولنا الرَّأي [ق 72 ب] والقياس.
وطائفةٌ عارضته بحقائقهم وأذواقهم، وقالوا: لكم الشريعة ولنا الحقيقة.
وطائفةٌ عارضته بسياساتهم وتدبيرهم، فقالوا: أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.
وطائفةٌ عارضته بالتأويل الباطن، فقالوا
(2)
: أنتم أصحاب الظَّاهر ونحن أصحاب الباطن.
ثم إن كل طائفةٍ من هذه الطوائف لا ضابط لما تأتي به من ذلك، بل ما تأتي به تبعٌ
(3)
لأهوائها؛ كما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] وقال: {وَأَنِ اِحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 51] فما هو إلَّا الوحي أو الهوى
(4)
، كما قال تعالى:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ اِلْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} [النجم: 3 - 4] فجعل النُّطق نوعين: نطقًا عن الوحي، ونطقًا عن الهوى.
ثم إذا رُدَّ على كلٍّ من هؤلاء باطله رجع إلى طاغوته، وقال: في العقل ما
لا يقتضيه النقل. وقال الآخر: في الرَّأي والقياس ما لا يجيزه الحديث. وقال الآخر: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة. وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وقال الآخر: في الباطن ما يكذبه الظَّاهر. فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمر مضبوطٌ مطابقٌ لما عليه الأمر في نفسه، تلقَّاه الصَّادق المصدوق من لدن حكيمٍ عليمٍ.
الوجه السَّادس والثمانون: أن الصَّحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص فيه
(1)
، فيوردون إشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحدٌ منهم يورد عليه معقولًا يعارض النَّصَّ البتةَ، ولا عُرف فيهم أحدٌ ـ وهم أكمل الأُمم عقولًا ـ عارَضَ نصًّا بعقله يومًا من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار ـ كما تقدم
(2)
.
وثبت في «الصحيح»
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. فقالت عائشة يا رسول الله: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8] فقال: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . فأشكل عليها الجمع بين النصَّين حتى بيَّن لها ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه لا تعارُض بينهما، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يُبيِّن الله فيه لكل عاملٍ عمله، كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] حتى إذا ظنَّ
(1)
«فيه» ليس في «م» . والضمير يعود للوحي.
(2)
تقدم (ص 674 - 675).
(3)
البخاري (6536) ومسلم (2876).
أنه لن ينجو نجَّاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته، فإذا ناقشه الحساب عذَّبه ولا بدَّ.
(1)
. فأشكل عليها الجمع بين النصين، وظنت الورود دخولها، كما يُقال: ورد المدينة، إذا دخلها. فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظَّالمين، فإن المتقين يردونها ورودًا ينجون به من عذابها، والظَّالمين يردونها ورودًا يصيرون جثيًّا
(2)
فيها به، فليس الورود كالورود.
وقال عمر يوم الحديبية: «ألم تكن تحدثنا أنَّا نأتي البيت ونطوف به. فقال: هَلْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّكَ تَدْخُلُهُ الْعَامَ؟ قال: لا. قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»
(3)
. فأشكل على عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ولا طافوا بالبيت، وظنَّ أن الدخول والطواف الذي بشرهم به ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم [يكون ذلك العام]
(4)
، فبيَّن له أن [ق 73 أ] اللفظ مطلقٌ لا دليل فيه على ذلك العام بعينه، فتنزيله على ذلك العام غلطٌ، فرجع عمر، وعَلِمَ أنه غَلِطَ في فهمه.
ولمَّا أنزل الله عز وجل: {* لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ اِلْكِتَابِ مَن
(1)
أخرجه مسلم (2496).
(2)
أي: قيامًا على الرُّكَب. وينظر «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 287 - 288).
(3)
رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه.
(4)
قوله: «يكون ذلك العام» ليس في «ح» . وأثبته ليستقيم السياق.
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 122] قال أبو بكر الصدِّيق: «يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر، وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ فقال: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَيْسَ يُصِيبُكَ الْأَذَى
(1)
؟ قال: بلى. قال: فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ»
(2)
. فأشكل على الصدِّيق أمرُ النجاة مع هذه الآية، وظن أن الجزاء في الآخرة ولا بدَّ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا، بما يصيبهم من النَّصَب والحزن والمشقة واللأواء
(3)
؛ فيكون ذلك كفارة لسيئاتهم، ولا يُعاقبون عليها في الآخرة.
وهذا مثل قوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28] ومثل قوله: {* مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78] وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وإن كان قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 122] أعم؛ لأنه يتناول الجزاء في الدنيا والآخرة.
(1)
كذا في «ح» ، «م» . وكأن المصنِّف ذكره بالمعنى، والمعروف في لفظ الحديث:«ألست تصيبك اللأواء» .
(2)
أخرجه الإمام أحمد (68) وسعيد بن منصور في «التفسير» (696) وابن أبي الدنيا في «الهم والحزن» (86) وابن حبان (2910، 2926) والحاكم في «المستدرك» (3/ 74) والضياء في «المختارة» (1/ 159 - 161) عن أبي بكر بن زهير عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وروايته عنه مرسلة، وللحديث شواهد كثيرة يتقوَّى بها، منها ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (2574) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يُصاب به المسلم كفارةٌ، حتى النَّكْبة يُنكَبُها، أو الشوكة يشاكها» .
(3)
اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 221).
ولمَّا نزل قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83] قال الصَّحابة: وأيُّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلمٍ. قال: «ذَلِكَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 12]»
(1)
. فلمَّا أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخلٌ فيه، وأن من ظلم نفسه أيَّ ظلمٍ كان لا يكون آمنًا، أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرَّافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو
(2)
الجواب الذي يَشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التَّامَّ هو الشرك ـ الذي هو
(3)
وضع العبادة في غير موضعها ـ والأمن والهُدى المطلق هو
(4)
الأمن في الدنيا والآخرة، والهُدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التَّامُّ [رافعٌ للأمن وللاهتداء المطلق التامِّ]
(5)
، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمَّلْه، فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة.
ولمَّا أنزل الله سبحانه قوله: {* لِّلَّهِ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اِللَّهُ فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} [البقرة: 283] أشكل ذلك على بعض الصَّحابة، وظنوا أن ذلك من تكليفهم ما لا يطيقونه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابلوا النَّصَّ بالقبول
(1)
أخرجه البخاري (32) ومسلم (124) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أثبته من «م» .
(3)
«هو» ليس في «ح» . وأثبته من «م» .
(4)
في «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» (ص 57): «هما» . وقد نقل عن الإمام ابن القيم تفسير الآية.
(5)
سقط من «ح» ، وأثبته من «فتح المجيد» (ص 57).
لا بالعصيان، فبيَّن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه لا يُكلف نفسًا إلَّا وُسْعَها، وأنه لا يُؤاخذهم بما نسوه وأخطؤوا فيه، وأنه لا يَحمِل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم، وأنه لا يُحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وأنهم إن قصَّروا في بعض ما أُمروا به أو نُهوا عنه ثم استعفوه واستغفروه عفا عنهم وغفر لهم ورحمهم. فانظر ماذا أعطاهم الله لمَّا قابلوا خبره بالرضا والتسليم والقبول والانقياد دون المعارضة والردِّ.
ومن ذلك أن عائشة لمَّا سمعت قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» عارضته بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}
(1)
[الأنعام: 166] ولم تعارضه بالعقل، بل غلَّطت الرَّاوي. والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة؛ فإنهم
(2)
ممَّن لا يُتَّهم، وهم عمر
(3)
وابنه
(4)
والمغيرة بن شعبة
(5)
وغيرهم. والعذاب الحاصل للميت [ق 73 ب] ببكاء أهله عليه هو تألمه وتأذيه ببكائهم عليه، والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريمة غيره، وهذا لا ينفي تأذي البريء السليم بمصيبة غيره
(6)
.
فالقوم لم يكونوا يُعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم، وإن كانوا يطلبون الجمع بين نصين يُوهم ظاهرهما التعارض
(7)
. ولهذا لمَّا عارض
(1)
أخرجه البخاري (1288) ومسلم (929).
(2)
«ح» : «فإنه» . والمثبت من «م» .
(3)
أخرجه البخاري (1290) ومسلم (927).
(4)
أخرجه البخاري (1286) ومسلم (928).
(5)
أخرجه البخاري (1291) ومسلم (933).
(6)
قرر المصنِّف هذا المعنى أتم تقرير في «تهذيب سنن أبي داود» (3/ 1483 - 1489).
(7)
«ح» : «العارض» . والمثبت من «م» .
بلال بن عبد الله قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» . برأيه وعقله، وقال: والله لنمنعهنَّ؛ أقبل عليه أبوه عبد الله فسبَّه سبًّا ما سبَّه مثله، وقال: أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ
(1)
.
ولمَّا حدَّث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ الْحَيَاءَ خَيْرٌ كُلُّهُ» ، فعارضه مُعارِضٌ بقوله: إن منه وقارًا ومنه ضعفًا، فاشتد
(2)
غضب عمران بن حصين، وقال: أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول إن
(3)
منه كذا ومنه كذا
(4)
. وظنَّ أن المُعارِض زنديقٌ، فقيل له: يا أبا نُجَيد
(5)
: إنه لا بأس به.
ولمَّا حدث عبادة بن الصَّامت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ
…
» الحديث، قال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلًا. غضب عبادة وقال: تراني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: ما أرى بهذا بأسًا، لا أساكنك بأرضٍ أنت بها أبدًا
(6)
.
ومعاوية لم يُعارض النص بالرَّأي، وكان أتقى لله من ذلك، وإنما خصَّص عمومه وقيَّد مطلقه بهذه الصورة وما شابهها، ورأى أن التفاضل في مقابل أثر الصنعة، فلم يدخل في الحديث، وهذا ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد؛
(1)
أخرجه مسلم (442) والحديث دون القصة في البخاري (900).
(2)
«ح» : «واشتد» . والمثبت من «م» .
(3)
«وتقول إن» سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
(4)
أخرجه البخاري (6117) ومسلم (37) وهذا لفظ مسلم.
(5)
«ح» : «عبد» . والمثبت من «م» و «صحيح مسلم» ، وهو الصواب، كما قيده ابن ماكولا في «الإكمال» (1/ 188) وغيره.
(6)
أخرجه مسلم (1587) بلفظ: «ما أبالي ألَّا أَصحَبَه في جُنْدِه ليلةً سوداءَ» . وهو عند ابن ماجه (18) بلفظ: «لا أساكنك بأرضٍ لك عليَّ فيها إمرة» .
وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرَّأي. ولو قال له: نعم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرَّأس والعين
(1)
ولا يجوز مخالفته بوجهٍ، ولكن هذه الصورة لا تدخل في لفظه؛ فإنه إنما قال:«الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ» ، وهذه الزيادة ليست في مقابلة الفضة، وإنما هي في مقابلة الصنعة، ولا تذهب الصنعة هدرًا
(2)
= لما أنكر عليه عبادة، فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أُريد بها.
كما أنه هو
(3)
ومعاذ بن جبل
(4)
وغيرهما من الصَّحابة لمَّا وَرَّثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من المسلم، لم
(5)
يعارضوا قوله: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»
(6)
بآرائهم وعقولهم، بل قيَّدوا مطلق هذا اللفظ، أو خصُّوا عمومه، وظنُّوا أن المراد به الحربي، كما فعل ذلك بعض الفقهاء بقوله:«لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ»
(7)
حيث حملوه على الحربي دون الذِّمي والمعاهد. والصَّحابة في ذلك التقييد والتخصيص أعذر
(1)
«ح» : «والعينين» . والمثبت من «م» .
(2)
«جواز بيع المصوغ من الذهب بالذهب والمصوغ من الفضة بالفضة من غير اشتراط تماثل، وجعل الزائد في مقابلة الصنعة» . هذا اختيار شيخَيِ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم، ينظر:«العقود الدرية» (ص 391) و «الفروع» لابن مفلح (6/ 294) و «اختيارات شيخ الإسلام» للبعلي (ص 188) و «أعلام الموقعين» (3/ 409 - 410).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (32102).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (32101).
(5)
«ح» ، «م»:«ولم» . وهو جواب «لمَّا» فيما يظهر.
(6)
أخرجه البخاري (6764) ومسلم (1614) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(7)
أخرجه البخاري (111) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
من هؤلاء من وجوهٍ كثيرةٍ ليس هذا موضعها
(1)
.
وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرِّجال، ولا يُقرُّون المعارِض على ذلك. وكان عبد الله بن عباسٍ يحتج في مسألة متعة الحج بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها، فيقولون له: إن أبا بكر وعمر أفردا الحج، ولم يتمتعا. فلمَّا أكثروا عليه قال:«يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء. أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر»
(2)
.
فرحم الله ابن عباسٍ كيف لو رأى أقوامًا يُعارضون قول الله ورسوله بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم؟!
ولقد سُئل عبد الله بن عمر عن متعة الحجِّ فأمر بها، فقيل له: إن أباك نهى عنها. فقال: إن أبي لم يرد ما تقولون. فلمَّا أكثروا عليه، قال:
أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أمْ عمر
(3)
؟!
(1)
ينظر للمصنِّف «أحكام أهل الذمة» (2/ 855 - 856).
(2)
ذكره بهذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/ 215) وغيره، ولم نقف عليه مسندًا بهذا اللفظ، إنما وجدناه بلفظ:«أراهم سيهلكون، أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون نهى أبو بكر وعمر» . أو نحوه، أخرجه الإمام أحمد (3182) وعبد الرزاق في «المناسك الكبير» (476) وإسحاق بن راهويه في «المسند» ـ كما في «المطالب العالية» (1306) ـ والطبراني في «المعجم الأوسط» (1/ 11) وابن عبد البر في «الجامع» (2378) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 376) وابن حزم في «حجة الوداع» (391) والضياء في «المختارة» (10/ 331) من طرق. وصحَّح ابن حجر في «المطالب» إسناد «مسند إسحاق» .
(3)
أخرجه الإمام أحمد (5804) والترمذي (824) وعبد الرزاق في «المناسك الكبير» (462) وأبو عوانه في «المسند» (3826) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 21) وابن حزم في «حجة الوداع» (445). وقال النووي في «المجموع» (7/ 155): «رواه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ» .
ولمَّا حدَّث حميدٌ عن ثابتٍ عن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قال: وضع إصبعه على طرف
(1)
خِنصِره فساخ الجبل = أنكر عليه بعض الحاضرين، وقال: أتحدث بهذا؟ فضرب حميدٌ في صدره، وقال: أُحدِّثك عن ثابتٍ عن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أتحدث بهذا
(2)
؟!
(1)
«ح» : «ظفر» . والمثبت من «م» .
(2)
كذا أورد الإمام ابن القيم هذا الحديث هنا وفي «مدارج السالكين» (2/ 486). جعل حميدًا هو الراوي للحديث عن ثابت وجعله المنكر عليه، والذي وجدناه أن راوي الحديث عن ثابت البناني هو حماد بن سلمة، وأن حميدًا هو المنكر له، أنكره على ثابت البناني، فقد أخرجه الإمام أحمد (12453) وابن أبي عاصم في «السنة» (480، 481) وابن خزيمة في «التوحيد» (162 - 165) والطبري في «التفسير» (10/ 429) والضياء في «المختارة» (1672 - 1675) وغيرهم عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال حماد: فقال حميدٌ لثابت: تقول هكذا؟ فوكزه، وقال:«يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنسٌ، فأكتمه أنا» ؟! وقال الذهبي في كتاب «الأربعين في صفات رب العالمين» (ص 128): «هذا الحديث على رسم مسلم» . وقال المصنِّف في «مدارج السالكين» (2/ 486): «إسناده على شرط مسلم» .
والحديث دون القصة أخرجه الإمام أحمد (13380) والترمذي (3047) والحاكم في «المستدرك» (1/ 25، 2/ 577) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلَّا من حديث حماد بن سلمة» . وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
وقد أدخل ابن الجوزي هذا الحديث في «الموضوعات» (1/ 122): وقال: «هذا حديث لا يثبت» . وتعقبه السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (1/ 25) فقال: «هذا الحديث صحيح رواه خلق عن حماد، وأخرجه الأئمة من طرق عنه وصححوه
…
».
وهذا كثيرٌ عنهم
(1)
جدًّا، لا يتسع له هذا الموضع. فكانت نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أَجَلَّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحدٍ من النَّاس كائنًا من كان، ولا يثبت قدم الإيمان إلَّا على ذلك، وفتحُ باب هذه المعارضة الباطلة سدٌّ لباب الإيمان، والله المستعان.
الوجه السَّابع والثمانون: أن حقيقة قول المعارضين بين النصوص الإلهية النبوية وآراء الرجال وتقديم الآراء عليها ألَّا يُحتج بالقرآن والسُّنَّة على [ق 74 أ] شيءٍ من المسائل العلمية، بل ولا يُستفاد التصديق الجازم بشيءٍ من أخبار الله ورسوله البتةَ. فإذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسُّنَّة أخبارٌ يُعارضها صريح العقل، ويجب تقديم العقل عليها، من غير بيانٍ من الله ورسوله للحق الذي يُطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل. فالإنسان لا يخلو من حالين:
فإنه إذا سمع النصوص التي أخبر الله ورسوله فيها عمَّا لا يُدركه عقله فإمَّا أن يقدَّر أن له رأيًا مخالفًا للنصِّ، أو ليس له رأيٌ يخالفه.
فإن كان عنده معقولٌ ـ بزعمه ـ يناقض خبر الله ورسوله قدَّم معقوله
(2)
وألقى خبر الله ورسوله، وحينئذٍ فكل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدَّم عقله، ولم يستفد بخبر الرَّسول العلم بثبوت
(3)
مخبره، ولم
(1)
«ح» : «عليهم» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «منقوله» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «يكبوت» . والمثبت هو الصواب.
يستفد منه فائدةً علميةً، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه، وإعمال فكره فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب، ليصرف دلالة الخطاب إليها، ومعلوم أن المقصود من الخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، ولا الصواب، فإنَّ الحق إنما استفاده من عقله، والمعنى الذي دلَّ عليه الخطاب الدلالةَ المألوفة لم يُقصد بالخطاب إفهامه، والمعنى البعيد ـ الذي صَرف اللفظ إليه وحمله عليه ـ هو عالمٌ بثبوته بدون الخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله عند هؤلاء فائدةٌ علميةٌ البتة.
ولقد صرَّحوا بهذا، وقالوا: المقصود تعريض متأوليه للثواب. ومضمون هذا أن نصوص الوحي إنما أفادت تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان. وإلقاء العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد من الطعن في القرآن والإيمان، هذا إن كان في عقله معارضٌ لخبر الله ورسوله.
وإن لم يكن عنده معقولٌ يُعارض النصوص لم يَجزم بأنه ليس في عقول جميع النَّاس ما يُعارض ذلك الخبر، وعدم العلم بالمعارض لا يستلزم العلم بعدمه، فهو يجوِّز أن يكون ثَمَّ معارضٌ ولا علم له به. وهذا يمنع الجزم بالتصديق قطعًا، كما تقدَّم التنبيه عليه
(1)
.
فظهر أن هذه الطريقة تمنع التصديق الجازم بما
(2)
أخبر به الرَّسول من الغيب، وتحول بين القلب وبين الإيمان.
(1)
تقدم (550 - 551).
(2)
«ح» : «بما» .
وسر
(1)
المسألة أنه متى جُوِّز أن يكون في العقل ما يناقض خبر الله ورسوله امتنع منه الإيمان الجازم. والإيمان اليقيني الجازم وهذا التجويز لا يجتمعان أبدًا. يوضحه:
الوجه
الثَّامن والثمانون: أن المعقولات ليس لها ضابطٌ يضبطها، ولا هي منحصرة في نوعٍ معينٍ،
فإنه ما من أُمة من الأُمم إلَّا ولهم عقليات يختصون بها، فللفُرْس عقلياتٌ، وللهند عقلياتٌ، ولليونان عقلياتٌ، وللمجوس عقلياتٌ، وللصابئة عقلياتٌ. بل كل طائفةٍ من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات، بل بينهم فيها من الاختلاف والتباين ما هو معروفٌ عند المعتنين به. ونحن نُعفيكم من هذه
(2)
المعقولات واضطرابها، ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأُمة، فإنه ما من مدةٍ من المدد إلَّا
(3)
وقد ابتُدعت فيها بدعٌ يزعم أربابها أن العقل دلَّ عليها، ونحن نسوق لك الأمر من أوله إلى أن يصل إليك ـ بعون الله وحُسن توفيقه ـ فنقول:
لمَّا أظلمت الأرض، وبعُد عهد أهلها بنور الوحي، وتفرقوا في الباطل فرقًا وأحزابًا، لا يجمعهم جامعٌ، ولا يحصيهم إلَّا الذي خلقهم، فإنهم فقدوا نور النبوة، ورجعوا إلى مجرد العقول، فكانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه أنه قال: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ
(4)
عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا
(1)
«ح» : «ويكسر» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«هذه» سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(3)
«ح» : «وإلا» . والمثبت من «م» .
(4)
أي: استخفتهم، فذهبت بهم وساقتهم إلى ما أرادوه منهم وجالوا معهم. «مشارق الأنوار» (1/ 165).
بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»
(1)
.
فكان أهل العقول كلهم في مقته إلَّا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلَّا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر، أو
(2)
الحيرة والشك، أو السحر، أو تعطيل الصَّانع والكفر به، فاستفادوا بها مقت الربِّ سبحانه لهم، وإعراضه عنهم.
فأطلع الله شمس الرِّسالة في تلك الظُّلَم سراجًا منيرًا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم، ومعاشهم ومعادهم، نعمة لا يستطيعون لها شكورًا ـ فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه، [ق 74 ب] ورأوا في ضوء الرِّسالة ما لم يكونوا بآرائهم يرونه. فكانوا كما قال الله تعالى:{اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} [البقرة: 255] وقال: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1 - 2] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] وقال: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي اِلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي اِلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 123].
فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النُّور لم تطفئه عواصف الأهواء،
(1)
أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.
(2)
«ح» : «و» . والمثبت من «م» .
ولم تلتبس به ظُلَم الآراء، وأوصوا من بعدهم ألَّا يُفارقوا
(1)
النُّور الذي اقتبسوه منهم، وألَّا يخرجوا عن طريقهم. فلمَّا كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة، فبعدوا عن النُّور الذي كان عليه أوائل الأُمة
(2)
. ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظِّمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدِّمين، ولم يَدَّعِ أحدٌ منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أُتوا من سُوء الفهم فيها، والاستبداد بما ظهر لهم منها دون مَن قبلهم، ورأوا أنهم إن اتبعوهم
(3)
كانوا مقلِّدين لهم، فصاح بهم من أدركهم من الصَّحابة وكبار التَّابعين من كل قُطرٍ، ورموهم بالعظائم، وتبرؤوا منهم، وحذَّروا من سبيلهم أشد التحذير، وكانوا لا يرون السلام عليهم، ولا مجالستهم. وكلامهم فيهم معروفٌ في كتب السُّنَّة، وهو أكثر من أن يُذكر هاهنا.
فلمَّا كثرت الجهمية ـ في أواخر عصر التَّابعين ـ كانوا هم أول من عارض الوحي بالرَّأي، ومع هذا كانوا قليلين أذلاء مقموعين مذمومين عند الأُمة. وأولهم وشيخهم الجعد بن درهم. وإنما نفق
(4)
عند النَّاس بعضَ الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا كان يُسمَّى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة، وشتتهم في البلاد، ومزقهم كل ممزقٍ ببركة شيخ المعطلة النُّفاة. فلمَّا اشتهر أمره في المسلمين طلبه
(5)
(1)
بعده في «م» : «ذلك» .
(2)
«ح» : «الأئمة» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «ابتغوا بهم» .
(4)
نفق البيع نَفَاقًا بالفتح: أي راج. «الصحاح» (4/ 1560).
(5)
«ح» : «فطلبه» . والمثبت من «م» .
خالد بن عبد الله القسري ـ وكان أميرًا على العراق ـ حتى ظفر به، فخطب النَّاس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: «أيها النَّاس، ضَحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يُكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا. تعالى الله عمَّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر؛ فكان ضحيَّته
(1)
»
(2)
.
ثم طفئت تلك البدعة، فكانت كأنها حصاة رُمي بها، والنَّاس إذ ذاك عُنُقٌ واحدٌ
(3)
: أن الله فوق سماواته على عرشه، بائنٌ من خلقه، موصوفٌ بصفات الكمال ونعوت الجلال، وأنه كلَّم عبده ورسوله موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا.
إلى أن جاء أول المائة الثَّالثة وولي على النَّاس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامرًا بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حبُّ المعقولات، فأمر بتعريب كتب يونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فعُرِّبت له، واشتغل بها النَّاس. والملك سُوقٌ ما نفق
(4)
فيه جُلب
(1)
«ح» : «ضحية» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرج القصة البخاري في «خلق أفعال العباد» (3) وفي «التاريخ الكبير» (1/ 64) والدارمي في «النقض على المريسي» (1/ 580 - 581) وفي «الرد على الجهمية» (13، 387) وحرب الكرماني في «مسائله» (1847) والخلال في «السنة» (1690) والآجري في «الشريعة» (694، 2072) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (512) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (563) وفي «السنن الكبرى» (10/ 205) وغيرهم. وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (3/ 219): «هذه قصة مشهورة» .
(3)
أي: جماعة واحدة. «تهذيب اللغة» (1/ 252).
(4)
«ح» : «سوق» . والمثبت من «م» .
إليه. فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ـ ممَّن كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتتبعهم
(1)
بالحبس والقتل ـ فحشوا بدعة التجهُّم في أذنه وقلبه، فقبلها واستحسنها، ودعا النَّاس إليها، وعاقبهم عليها، فلم تَطُلْ مدته.
فصار الأمر بعده إلى المعتصم ـ وهو الذي ضرب الإمام أحمد بن حنبل ـ فقام بالدعوة بعده، والجهمية تصوِّب فِعْله، وتدعوه إليه، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الربِّ عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وهم الذين قد غلبوا على قربه ومجلسه، والقضاة والولاة منهم، فإنهم تبعٌ لملوكهم. ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص، وتقديم الآراء والعقول عليها، فإن الإسلام كان في ظهورٍ وقوةٍ، وسوق الحديث نافقةٌ، ورؤوس السُّنَّة على ظهر الأرض، ولكن كانوا على ذلك يحومون، وحوله يدندون، وأخذوا النَّاس بالرغبة والرهبة
(2)
، فمِن بين أعمى مستجيبٍ، ومن بين مكرهٍ مفتدٍ
(3)
نفسَه منهم بإعطاء ما سألوه، وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.
وثبَّت الله أقوامًا جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر، وأشد من الحديد، وأقامهم لنصر دينه [ق 75 أ] وجعلهم أئمةً يقتدي بهم المؤمنون؛ لمَّا صبروا وكانوا بآياته يوقنون، فإنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّين، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد، ولم يتركوا سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا أرغبوهم به من الوعد، ولا لِمَا
(4)
............................................
(1)
«ح» : «تبعهم» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «الرغبة والهبة» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «مقيد» . وهو تصحيف، والمثبت من «م» .
(4)
«ولا لما» «ح» : «وما» . والمثبت من «م» .
تهددوهم
(1)
به من الوعيد. ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة، وأخمد تلك الكلمة، ونصر السُّنَّة نصرًا عزيزًا، وفتح لأهلها فتحًا مبينًا، حتى صُرخ
(2)
بها على رؤوس المنابر، ودُعي إليها في كل بادٍ وحاضر، وصُنِّف ذلك الزمانَ في السُّنَّة ما لا يُحصيه إلَّا الله.
ثم انقضى ذلك العصر وأهله، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسُنة رسوله على بصيرة، إلى أن جاء ما لا قِبل لأحدٍ به، وهم جنود إبليس حقًّا، المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم من القرامطة والباطنية والملاحدة، ودعوتهم إلى العقل المجرد، وأن أمور الرُّسل تُعارض المعقول، فهم
(3)
القائمون بهذه الطريقة حقَّ القيام بالقول والفعل. فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى، وكسروا عسكر الخليفة مرارًا عديدة، وقتلوا الحاجَّ قتلًا ذريعًا، وانتهوا إلى مكة، فقتلوا بها من وصل من الحاجِّ إليها، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه، وقويت شوكتهم، واستفحل أمرهم، وعظمت بهم الرزية، واشتدت بهم البلية.
وأصل طريقهم: أن الذي أخبرت به الرُّسل قد عارضه العقل، وإذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا العقل، قالوا: فنحن أنصار العقل الدَّاعين إليه المخاصمين به المحاكمين
(4)
إليه. وفي زمانهم استولى الكفار على كثيرٍ من
(1)
«م» : «أرعبوهم» .
(2)
«م» : «صرح» . بالحاء المهملة.
(3)
«ح» : «المنقول منهم» . والمثبت من «م» .
(4)
كذا في «ح» : «الداعين، المخاصمين، المحاكمين» . ثلاثتها منصوبة، وهي صفات لمرفوع وهو «أنصار» ، على تقدير أعني.
بلاد الإسلام في الشرق والغرب، وكاد الإسلام أن ينهدَّ ركنه؛ لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق، وظهرت من المغرب قليلًا قليلًا حتى استفحلت وتمكنت، واستولى أهلها على كثيرٍ من بلاد المغرب، ثم أخذوا يطوون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر، فملكوها، وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مُصرِّحين بها غير متحاشين
(1)
منها، هم وولاتهم وقضاتهم وأتباعهم. وفي زمانهم صُنِّفت «رسائل إخوان الصفا»
(2)
و «الإشارات»
(3)
و «الشفا» وكُتب ابن سينا، فإنه قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية.
وعُطلت في زمانهم السُّنَّة وكتبها والآثار جملة إلَّا في الخفية، بحيث يكون قارئها وذاكرها وكاتبها على أعظم خطر. وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي، واستولوا على بلاد الغَرْب
(4)
ومصر والشَّام والحجاز، واستولوا على العراق سنة، وأهل السُّنَّة فيهم كأهل الذِّمَّة بين المسلمين، بل
(1)
«ح» : «محاسين» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (4/ 79) عنه: «صنَّفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيءٌ كثيرٌ، ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلام جعفر الصادق، وهذا قول زنديق، وتشنيع جاهل» .
(3)
«إشارات ابن سينا» يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادًا كثيرًا. «منهاج السنة النبوية» (5/ 433).
(4)
«م» : «المغرب» .
كان لأهل الذِّمة من الأمان
(1)
والجاه والعزِّ عندهم ما لا يصل
(2)
إليه أحدٌ من أهل السُّنَّة، ولا يطمع فيه. فكم أُغمدت سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، وكم ماتت بهم سُنة، وقامت بهم
(3)
بدعة وضلالة
(4)
!
حتى استنقذ الله الأُمة والملَّة من أيديهم في أيام نور الدِّين وابن أخيه صلاح الدِّين
(5)
، فأبلَّ
(6)
الإسلام من علته بعدما وطَّن المسلمون أنفسهم على العزاء، وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المُحاق
(7)
، وثابَتْ إليه رُوحه بعدما بلغت التراقيَ وقيل: من راق! واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، وأخذ كلٌّ من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب، وعلت كلمة الإسلام والسُّنَّة، وأُذِّن بها على رؤوس الأشهاد، ونادى المنادي: يا أنصار الله لا تنكلوا
(8)
عن الجهاد، فإنه أبلغ الزَّاد ليوم المعاد.
(1)
«ح» : «الإيمان» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يحصل» .
(3)
«ح» : «به» .
(4)
وينظر «إغاثة اللهفان» (2/ 1031).
(5)
كذا في «ح» ، «م» ، والمراد نور الدِّين محمود زنكي وصلاح الدِّين الأيوبي، ومعلوم أن نور الدِّين ليس عمًّا لصلاح الدِّين، وإنما عمُّه أسد الدِّين شيركوه أحد قادة نور الدِّين. وينظر «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» لابن شداد (ص 31). فلعل الصواب:«نور الدِّين وأسد الدِّين وابن أخيه صلاح الدِّين» .
(6)
بلَّ من مرضه وأبلَّ واستبلَّ، أي: برأ. «الصحاح» (4/ 1640).
(7)
المحاق من الشهر: ثلاث ليال من آخره. «الصحاح» (4/ 1553).
(8)
نَكَل عن العدو ينكُل بالضم: أي جبن. «الصحاح» (5/ 1835).
فعاش النَّاس في ذلك النُّور مدةً حتى استولت الظُّلمة على بلاد الشرق، وطفي نور النبوة والوحي، وقدَّموا العقول والآراء والسياسة والأذواق
(1)
على الوحي، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعها. فبعث الله عليهم عبادًا له أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدِّيار، وعاثوا في القُرى والأمصار، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رَسْمُه.
وكان مشار هذه الفرقة وعالمها الذي يرجعون إليه، وزعيمها الذي يُعوِّلون عليه، شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل وإمامهم في وقته: نصير الكفر والشرك الطوسي، فلم يُعلَم في عصره أحدٌ عارض بين العقل والنقل معارضته، فرام إبطال السمع بالكلية، وإقامة الدعوة الفلسفية، وجعل «الإشارات» بدلًا عن السُّوَر والآيات، وقال: هذه عقليات [ق 75 ب] قطعية برهانية، قد عارضت تلك النقليات الخطابية. واستعرض علماء الإسلام وأهل القرآن والسُّنَّة على السيف، فلم يُبق منهم إلَّا من أعجزه؛ قصدًا لإبطال الدعوة الإسلامية، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للبخشية
(2)
السَّحَرة والمنجمين والفلاسفة والملاحدة والمنطقيين، ورام إبطال الأذان، وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي، فحال بينه وبين ذلك من تكفَّل بحفظ الإسلام ونصره.
وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل وتقديم العقل على
(1)
بعده في «ح» : «والرأي» . وهي زائدة، ليست في «م» .
(2)
«ح» : «البخسية» . والمثبت من «م» . والبخشية: كهنة البوذية، عبدة الأصنام. ينظر:«منهاج السنة النبوية» (3/ 446) و «مجموع الفتاوى» (14/ 166) و «النبوات» (1/ 158) و «نهاية الأرب» للنويري (27/ 406).
السمع. ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم
(1)
منك على ذُكْرٍ كلَّ وقتٍ؛ فإنه أول من عارض بين العقل والنقل، وقدَّم العقل، فكان من أمره ما قصَّ الله عليك. وورَّث هذا الشيخُ تلامذتَه هذه المعارضة، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنةٍ وبليةٍ. وأصل كل بليةٍ في العالم ـ كما قال محمد الشهرستاني
(2)
ـ: من معارضة النص بالرَّأي، وتقديم الهوى على الشرع. والنَّاس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة وشؤم عاقبتها، فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
ثم إنه خرج مع هذا الشيخ المتأخر
(3)
المعارض بين العقل والنقل أشياء لم تكن تُعرف قبله، جُست
(4)
العميدي، وحقائق ابن عربي، وتشكيكات الرَّازي. وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرُّسل التي فرحوا بها لمَّا جاءتهم رسلهم بالبينات، وصارت الدولة والدعوة لأرباب هذه العلوم.
ثم نظر الله إلى عباده وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جندًا تغزو ملوك هؤلاء
(1)
يعني: إبليس لعنه الله.
(2)
ينظر «الملل والنحل» (1/ 10).
(3)
يعني: نصير الدِّين الطوسي.
(4)
جُسْت: كلمة فارسية، معناها بحث وفحص، وقد سُمي بها فرع من فروع الخلاف، وكان العميدي إمامًا في فنِّ الخلاف، وهو أول من أفرد الجُست بالتصنيف، فنُسب إليه. ينظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 257) و «تكملة المعاجم العربية» (2/ 211). والعميدي هو ركن الدِّين أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي، توفي ببخارى سنة خمس عشرة وستمائة. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (22/ 76 - 77).
بالسيف والسنان، وجندًا تغزو علماءهم بالحجة والبرهان.
ثم نبغت نابغةٌ منهم في رأس القرن الثَّامن
(1)
، فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيميَّة ـ قدَّس الله روحه ـ فأقام على غزوهم مدة حياته، باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم، وبيَّن تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول، وصحيح المنقول، وشفى واشتفى. وبيَّن مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل، الذي به يُدِلُّون، وإليه يدعون، وأنهم أترك النَّاس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حُفَرهم، ورشقهم بسهامهم. وبيَّن أن صحيح معقولاتهم خَدَمٌ لنصوص الأنبياء، شاهدة لها بالصحة. وتفصيل هذه الجملة موجودة في كتبه، فمن نصح نفسه ورغب عن قوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 22] يتبيَّن له حقيقة الأمر: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39].
والمقصود أن كل بليةٍ طرقت العالم عامَّةً أو خاصَّةً فأصلها من معارضة الوحي بالعقل، وتقديم الهوى على الأمر، والمعصوم من عصمه الله.
الوجه
التَّاسع والثمانون: أنه قد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح ثبوت صفات الكمال للربِّ سبحانه،
وأنه أحق بالكمال من كل ما سواه، وأنه يجب أن تكون القوة كلها له، والعزة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له، والجمال كله له، وكذلك سائر صفات الكمال. وقام البرهان السمعي والعقلي على أنه يمتنع أن يشترك في الكمال التَّام اثنان، وأن الكمال التَّام
(1)
«م» : «السابع» .
لا يكون إلَّا لواحدٍ. وهاتان مقدمتان يقينيتان معلومتان بصريح العقل، وجاءت نصوص الأنبياء مفصلةً لما في صريح العقل إدراكه قطعًا، فاتفق على ذلك العقل والنقل.
قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 164]. وقد اختُلف في تعلُّق قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} بماذا؛ فقالت طائفة: هو مفعول
(1)
{يَرَى} أي: ولو يرون أن القوة لله جميعًا لما عصوه، ولما كذَّبوا رسله، وقدَّموا عقولهم على وحيه. وقالت طائفة: بل المعنى لأن القوة لله جميعًا، وجواب {لَوْ} محذوفٌ على التقديرين، أي: لو يرى هؤلاء حالهم وما أعدَّ الله لهم إذ يرون العذاب لرأوا أمرًا عظيمًا، ثم قال:{أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وهو متضمن للتهديد الشديد والوعيد
(2)
.
وقال تعالى: {بَل لِّلَّهِ اِلْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 32] وقال: {إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلُّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ
(3)
»
(4)
. وفي الأثر الآخر: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ»
(5)
. فلله سبحانه كل
(1)
«ح» : «منقول» . وهو تصحيف، والمثبت من «م» .
(2)
ينظر: «التفسير البسيط» للواحدي (3/ 471 - 477).
(3)
«م» : «في يديك» . وكذا في «صحيح مسلم» .
(4)
أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (23835) وعبد الرزاق في «المصنف» (5142، 7949) وابن أبي الدنيا في «الهواتف» (ص 61) والطبراني في «الدعاء» (1746) عن رجل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما مرفوعًا، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 96 (:«رواه أحمد، وفيه راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات» . وينظر «السلسلة الضعيفة» (6850).
وله شاهد أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (4087) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وشاهد آخر أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» ـ كما في «المطالب العالية» (462) و «إتحاف الخيرة» (1249) ـ والبرقاني ـ كما في «الجمع بين الصحيحين» للحميدي (3017) ـ عن رفاعة بن رافع الأنصاري رضي الله عنه موقوفًا عليه. قال ابن حجر في «المطالب» : «هذا حديث صحيح، وهو هنا غير مرفوع، وأظن أن حكمه الرفع» . وذكر أن البخاري روى طرفًا منه في «صحيحه» ، وأن باقيه على شرطه.
صفة كمال، وهو موصوفٌ بتلك الصِّفة كلها.
ونذكر من ذلك صفةً واحدةً تعتبر بها سائر الصِّفات، وهو أنك لو فرضت جمال الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم اجتمع لشخصٍ واحدٍ منهم، ثم كان الخلق كلهم على جمال ذلك الشخص؛ لكان نسبته إلى جمال [ق 76 أ] الربِّ تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى جِرْم الشمس.
وكذلك قوَّته سبحانه وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته ورحمته وحكمته وجوده، وسائر صفاته. وهذا ممَّا دلت عليه آياته الكونية السمعية، وأخبرت به رسله عنه، كما في «الصحيح»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ
(2)
مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
(1)
«صحيح مسلم» (179) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
يقال في السُّبحة: إنها جلال وجهه ونوره، ومنه قيل: سبحان الله؛ إنما هو تعظيم له وتنزيه. «غريب الحديث» لأبي عبيد (3/ 7).
فإذا كانت سُبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيءٌ من خلقه، ولو كشف حجابَ النور عن تلك السُّبحات لاحترق العالم العُلوي والسُّفلي، فما الظنُّ بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله؟!
وإذا كانت السماوات مع عظمتها وسعتها يجعلها على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والبحار على إصبع
(1)
، فما الظن باليد الكريمة التي هي صفة من صفات ذاته؟!
وإذا كان يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات، على تفنُّن الحاجات، في أقطار الأرض والسماوات، فلا يشتبه عليه ولا يختلط ولا يلتبس ولا يغلطه سمعٌ عن سمعٍ
(2)
.
ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، تحت أطباق الأرض في الليلة الظلماء.
ويعلم ما تُسِرُّه القلوب وأخفى منه، وهو ما لم يخطر لها أنه
(3)
سيخطر لها.
ولو كان البحر المحيط بالعالم مدادًا ويحيط به من بعده سبعة أبحر كلها مداد وجميع أشجار الأرض ـ وهو كل نبتٍ قام على ساقٍ ممَّا يُحصد وممَّا لا يُحصد ـ أقلام يُكتب بها، نَفِدَتِ البحار والأقلام ولم ينفد كلامه.
(1)
كما في حديث الحبر اليهودي وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له، أخرجه البخاري (4811) ومسلم (2786) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
«عن سمع» ليس في «ح» ، وأثبته من «م» .
(3)
بعده في «ح» ، «م»:«سبحانه» . وهي زيادة تفسد المعنى، وقد ضرب عليها ناسخ «م» .
وهذا وغيره بعض ما تَعرَّف به إلى عباده من كماله
(1)
، وإلَّا فلا يمكن أحدًا قط أن يُحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد وكل الكمال له سبحانه. هذا الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات، وتلقَّوْه عن الرَّسول، ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشُّبه القادحة في ذلك، وإذا وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورةً من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك.
فلو قال لهم قائل: هذا الذي علمتموه لا يثبت إلَّا بجواب عمَّا عارضه من العقليات، قالوا لقائل هذه المقالة: هذا كذبٌ وبهتٌ؛ فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهاتٌ كثيرةٌ تُعارض ما عُلم بالحسِّ والعقل، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلِّها لم يثبت لها ولا لأحدٍ علمٌ بشيءٍ من الأشياء، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشُّبه، وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئًا فشيئًا. بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يُناقض ثبوته، ولم يكن ما يُقدر من الشُّبه الخيالية على نقيضه مانعًا من جزمنا به، ولو كانت الشُّبه ما كانت، فما من موجود يدركه الحسُّ إلَّا ويمكن كثيرًا من النَّاس أن يقيم على عدمه شُبهًا كثيرةً يعجز السَّامع عن حلها.
ولو شئنا لذكرنا لك طرفًا منها تعلم أنه أقوى من شُبه الجهمية النُّفاة لعلو الربِّ على خلقه وكلامه وصفاته.
وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثيرٌ من المتكلمين من الشُّبه على أن
(1)
«ح» : «كلامه» . والمثبت من «م» .
الإنسان تُبدَّل نفسه النَّاطقة
(1)
في السَّاعة الواحدة أكثر من ألف مرةٍ
(2)
، وكل لحظة تذهب روحه وتفارق، وتحدث له روحٌ أخرى غيرها هكذا أبدًا.
وما أقاموه من الشُّبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظةٍ ويخلفها غيرها.
وما أقاموه من الشُّبه على أن رُوح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه، وزعموا أن هذا أصحُّ المذاهب في الرُّوح.
وما أقاموه من الشُّبه على أن الإنسان إذا انتقل من مكانٍ إلى مكانٍ لم يمر على تلك الأجزاء التي بين مبدأ حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها، وهي مسألة طفرة النظَّام
(3)
.
وأضعاف أضعاف ذلك.
وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقول: إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق، لا فرق بينهما البتةَ، وأن الاثنين واحدٌ، وإنما
الحس والوهم يغلط في التعدد. ويقيمون على ذلك شُبهًا كثيرةً قد
نظمها ابن الفارض في «قصيدته»
(4)
وذكرها صاحب «الفتوحات» في
(1)
«ح» : «الناقصة» . والمثبت من «م» . والنفس الناطقة هي الروح.
(2)
«مرة» ليس في «ح» ، وأثبته من «م» .
(3)
ضُرب المثل بهذه المسألة، فقيل: طفرة النظَّام. فإنها ضحكة. قاله الصفدي في «الوافي بالوفيات» (6/ 14).
(4)
القصيدة التائية المشهورة المسماة بـ «نظم السلوك» ، قال عنها ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 73 - 74):«وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك، الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرًا وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد» . وقال عنها الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (22/ 368): «فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال» .
«فصوصه»
(1)
وغيرهما.
وهذه الشُّبَه كلها من وادٍ واحدٍ، ومشكاةٍ واحدةٍ، وخزانةٍ واحدةٍ، وهي مشكاة الوساوس، وخزانة الخيال، فلو لم [ق 76 ب] نجزم بما علمناه إلَّا بعد التعرض لتلك الشُّبَه على التفصيل وحلِّها والجواب عنها لم يثبت لنا علمٌ بشيءٍ أبدًا. فالعاقل إذا علم أن هذا الخبر صادقٌ علم أن كل ما عارضه فهو كذبٌ، ولم يَحتَجْ أن يعرف أعيان الأخبار المعارضة له ولا وجوهها، وبالله المستعان.
الوجه التسعون: أن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علمٌ ولا هدًى ولا كتابٌ مبينٌ، فمعارضتهم باطلةٌ، وهم فيها أتباع كل {شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ اِلسَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4] فهذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، ليس عنده إلَّا الجهل والضلال، ورتَّب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب، فبدأ بالأعم وهو العلم، وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله
(2)
، ثم انتقل منه إلى ما هو أخص، وهو الهدى، ثم انتقل إلى ما هو أخص، وهو الكتاب المبين؛ فإن العلم أعم ممَّا يُدرك بالعقل والسمع والفطرة، وأخص منه الهدى
(1)
قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (17/ 253): «الكتاب المسمى بـ «فصوص الحكم» فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح». ولشيخ الإسلام ابن تيمية «الرد الأقوم على ما في «فصوص الحكم» مطبوع ضمن «مجموع الفتاوى» (2/ 362 - 451).
(2)
«ح» : «بفعله» .
الذي لا يُدرك إلَّا من جهة الرُّسل، وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله، فإن الهدى قد يكون كتابًا وقد يكون سُنةً
(1)
.
وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعًا. أمَّا الكتاب والهدى المأخوذ عن الرُّسل فقد قالوا: إنه لايفيد علمًا ولا يقينًا، والمعقول يعارضه. فقد أقروا أنهم ليس معهم كتابٌ ولا سُنةٌ، وبقي العلم، فهم يدَّعونه، والله تعالى قد نفاه عنهم، وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله على صدق الربِّ في خبره، فعُلم قطعًا أن هذا الذي عارضوا به الوحي ليس بعلمٍ؛ إذ لو كان علمًا لَبَطَل دليل العقل الدَّالِّ على صدق الربِّ تعالى في خبره، فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علمًا. فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة، وأنها تخص الجهل المركب؛ فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل. ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاثٍ: إمَّا كتابٍ مُنزَّلٍ، أو أثارةٍ من علمٍ يُؤثر عن نبيٍّ من الأنبياء، أو معقولٍ صحيح المقدمات قد اتفق العقلاء على صحة مقدماته.
وهم يعلمون ـ والله شهيدٌ عليهم ـ بأنهم عاجزون عن
(2)
هذا وهذا. [أفنترك]
(3)
ما علمناه من كتاب ربنا، وسُنة نبينا، ونزل به جبريل من ربِّ العالمين على قلب رسوله الأمين بلسانٍ عربيٍ مبينٍ؛ لوحي الشياطين، وشُبَه الملحدين، وتأويلات المعطِّلين؟!
(1)
«ح» : «شبه» . وهو تصحيف.
(2)
«ح» : «على» .
(3)
«ح» : «فترك» . والمثبت ليستقيم الكلام.
فإن قيل: فما الفرق بين الصِّنف الأول الذي يجادل في الله بغير علمٍ ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ، والصنف الثَّاني الذي يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ، كما ذكرهم سبحانه صنفين؟
قيل: قد ذكر سبحانه ثلاثة أصناف:
صنفًا يجادل في الله بغير علمٍ ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ مكتوبًا عليه إضلال مَن تولاه، وهذه حال المتَّبِع لأهل الضلال.
وصنفًا يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ ثاني عِطْفِه ليُضِلَّ عن سبيله
(1)
، وهذه حال المتبوع المستكبر الصادِّ عن سبيل الله.
فالأول حال الأتباع، والثَّاني حال
(2)
المتبوعين.
ثم ذكر حال من يعبد الله على حَرْف، وهذه حال المتَّبِع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عَبَدَ الله، وإن أصابه ما يُمتحَن به في دنياه ارتد عن دينه، وهذه حال من كان مريضًا في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء، ولهذا ذكر ذلك في العبادة [التي]
(3)
أصلها القصد والإرادة.
وأمَّا الأولان فحال الضالِّ والمضل، وذلك مرضٌ في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشُّبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل. والله سبحانه
(1)
في قوله تعالى: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اِللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيَضِلَّ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ لَهُ فِي اِلدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} [الحج: 8 - 9].
(2)
«ح» : «حالة» .
(3)
ليس في «ح» ، وأثبته ليستقيم الكلام.
يحب البصر النَّافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا صلاح للعبد إلَّا بمعرفة الحقِّ وقصده، كما قال تعالى:{اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ اِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اَلضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5 - 7]. فمن لم يعرف الحقَّ كان ضالًّا، ومن عرفه ولم يَتَّبعه كان مغضوبًا عليه، ومن عرفه واتَّبعه فقد هُدي إلى الصراط المستقيم. وأول الشرِّ
(1)
الضلال، ومنتهاه الغضب، كما أن أول الخير الهدى، ومنتهاه الرحمة والرضوان.
فذكر سبحانه في آيات الحجِّ ما يعرض في العلم من الضلال والإضلال، وما يعرض في الإرادة والعمل من اتباع الأهواء، كما جمع بينهما في قوله:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23].
فقال أولًا: {وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اِللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3]. وهذا يتضمن الجدال فيه بغير هدًى [ق 77 أ] ولا كتابٍ منيرٍ، فإن من جادل بغير ذلك فقد جادل بغير علمٍ، فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علمًا بأي طريقٍ حصل، وذلك ينفي أن يكون مجادلًا بهدًى أو كتابٍ منيرٍ، هذه حال الضالِّ المتبع لمن يُضِلُّه فلم يَحتَجْ إلى تفصيل، فبيَّن أنه يجادل بغير علمٍ، ويتَّبع كل شيطانٍ مريدٍ، كُتب على ذلك الشيطان أن من اتبعه فإنه يضله ويهديه
(2)
إلى عذاب السعير، وهذه حال مقلدة أئمة الضلال من الكفار وأهل الأهواء والبدع.
(1)
«ح» : «الشهر» .
(2)
«ح» : «ويهدي» .
ثم ذكر حال المتبوع الذي يثني عِطْفَه تكبُّرًا؛ كما قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 6] وذكر التفصيل في مجادلة المتبوع الدَّاعي، وأنها
(1)
في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ. واكتفى في ذكر التَّابع بنفي العلم المستلزم لنفي هذه الثلاثة، فإن مجادلة المتبوع أصلٌ، وهو أقعد بها من مجادلة التَّابع، ومصدرها كِبْرٌ، ومصدر مجادلة التَّابع ضلالٌ وتقليدٌ، فذكر حال المتبوع على التفصيل، ولهذا ذكر فساد قصده وعلمه، وذكر من عقوبته أشد ممَّا
(2)
ذكر من عقوبة التَّابع.
وهذا وأمثاله من أسرار القرآن التي حرَّمها الله على من عارض بينه وبين العقل وقدَّم العقل عليه.
الوجه
الحادي والتسعون
(3)
: أن العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له،
ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين. فإن هذا
(4)
التلازم يستلزم أربع
(5)
نتائج، إذ يلزم من ثبوت هذا الملزوم ثبوت لازمه، ومن ثبوت لازمه المساوي ثبوته، ومن نفي اللازم نفي ملزومه، ومن نفي ملزومه
(6)
المساوي نفيه. وهذا شأن كل شيئين بينهما
(1)
«ح» : «وأنه» .
(2)
«ح» : «من» .
(3)
«ح» : «والسبعون» .
(4)
بعده في «ح» : «التزام» . وهي زائدة.
(5)
«ح» : «سيلزم أربعة» . ولعل المثبت هو الصواب.
(6)
قوله «ومن نفى ملزومه» تكرر في «ح» .
تلازمٌ من الطرفين.
وبيان ذلك هاهنا أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عُرف صحة السمع ـ كما تقدم
(1)
ـ وقد بيَّنا أن العقل ليس أصلًا للسمع في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصلٌ في ثبوت علمنا
(2)
، أي: دليل لنا على صحته. وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فإن المخلوقات آيات ودلائل على الخالق سبحانه يلزم من ثبوتها ثبوته، ولا يلزم من عدمها عدمه، ولا من وجوده وجودها، وكذلك الآيات الدَّالة على نبوة رسله. هذا إذا لم يكن الدليل لازمًا للمدلول عليه، فإن كان لازمًا أمكن أن يكون مدلولًا له؛ إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكلٍّ منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه، وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله إذا لم يُنقل فإنه يلزم من عدم نقله عدمه، وإذا كان من المعقول ما هو دليلٌ على صحة الشرع لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر.
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريقٌ إلى العلم بصحة الشرع إلَّا ذلك العقل لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدَّال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه. فإذا كان صحة الشرع لا تعلم إلَّا بدليلٍ عقليٍّ فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع
(1)
تقدم (ص 475 - 477).
(2)
«ح» : «علمناه» .
علمنا بالدليل العقلي الدَّال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع، ويلزم أيضًا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل، وإذا كان العلم بصحة الشرع لازمًا للعلم بالمعقول الدَّال عليه وملزومًا له فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلًا عن تعارض المتلازمين.
فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين، والمتلازمين يلزم من ثبوت كلٍّ منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين أو متضادين؟!
فهؤلاء عمدوا إلى المتلازمين المتصادقين فأبطلوا أحدهما بالآخر، ولزم من بطلانه بطلانهما جميعًا كما تقدم بيانه
(1)
، وقد تبيَّن أن الدليل العقلي الذي به يُعلم صحة الشرع مستلزمٌ للعلم بصحة الشرع، ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، وعِلْمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل إنه أصل الشرع، والعلم بصحة الشرع موقوفٌ عليه، وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزمًا لثبوت ذلك الدليل العقلي.
فعُلم [ق 77 ب] أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر، فإن ثبوت الشرع في علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي، إن قيل إنه يمكن أن يُعلم صحته بغير ذلك الدليل، وإلَّا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين، وإذا كان كذلك كان القدح في الشرع قدحًا في
(1)
تقدم (ص 710).
دليله العقلي على صحته بخلاف العكس، وكان القدح في الشرع قدحًا في هذا العقلي، وليس القدح في
(1)
هذا العقلي مستلزمًا للقدح في الشرع مطلقًا. وأمَّا ما سوى المعقول الدَّال على صحة الشرع فذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع، كما لا يلزم من صحته صحة الشرع.
الوجه الثَّاني والتسعون: أن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي هم في الأصل فرقتان: الفلاسفة وجهمية المتكلمين، وهؤلاء لهم طريقٌ قد سلكوها، وأولئك لهم طريقٌ أخرى، وكلٌّ من الفريقين ينقض حجج الفريق الآخر، ويبيِّن فساد طريقته، ثم كل فرقةٍ منهما تنقض بعضهم حجج بعضٍ. واعتبر هذا بالرَّازي والآمدي؛ فإنهما جمعا خلاصة ما ذكره النُّفاة من أهل الفلسفة والكلام، ثم إنهما أفسدا عامة تلك الطرق التي سلكوها، فكل طائفةٍ تُبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى، بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح، وليسوا متفقين على طريقةٍ واحدةٍ.
وهذا يبيِّن خطأهم كلهم من وجهين:
من جهة العقل الصريح الذي يبيِّن به كل قومٍ فساد ما قاله الآخرون.
ومن جهة أنه ليس معهم معقولٌ اشتركوا فيه، فضلًا عن أن يكون من صريح المعقول، بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها تقول الأخرى هي باطلةٌ.
وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرَّسول؛ فإنها
(1)
بعده في «ح» : «الشرع قدحًا في هذا العقلي، وليس القدح في» . وهو تكرار، ربما نشأ من انتقال النظر.
من العقليات التي تقبلها فطر العقلاء السليمة، بل الفطر التي لم تفسد متفقة عليها، ولا ينازع فيها إلَّا من تلقى تعلمًا من غيره، لا من موجب فطرته، فإنما يقدح فيها بمقدمةٍ تقليدية، وهو يدَّعي أنها عقلية فطرية.
ومن تدبَّر ما عند المعارضين ولم يقلدهم فيه تبيَّن له أن جميع المقدمات التي ترجع إليها أدلة المعارضين إنما ترجع إلى تقليدٍ منهم لأسلافهم، لا إلى ما يُعلم بضرورة العقل ولا نظره، فهم يُعارضون ما قامت الأدلة العقلية على ثبوت تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه، بل قد عُلم جواز الخطأ عليه، وعُلم وقوع الخطأ فيه فيما هو دون الإلهيات، فضلًا عن الإلهيات التي تُيُقِّن خطأ من خالف الرُّسل فيها بالأدلة المجملة والمفصَّلة، بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يُعلم بصريح العقل أنه خطأ، بل يعارضون السمعيات التي يُعلم أن العقل الصريح موافقٌ لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطلٌ.
والمقصود أن الطرق التي سلكها الفلاسفة في إبطال الصِّفات والأفعال قد أفسدها عليهم المتكلمون وبيَّنوا خطأهم فيها بصريح العقل، كما هو موجود في كتب هؤلاء وهؤلاء. فانظر ما فعل أبو علي وأبو هاشم والقاضي عبد الجبار والأشعري وأبو بكر بن الباقلاني وأبو الحسين البصري والجويني والغزالي وأمثالهم بطريق الفلاسفة، وانظر ما فعل ابن سينا وابن رشد والطوسي وأمثالهم بطرق المتكلمين؛ فإنك تجد ذلك من أعظم النُّصرة للنصوص النبوية.
والمثال المنطبق عليهم بعسكر الإسلام خرج عليه عسكرٌ كثيفٌ يغزونهم، فخرج على ذلك العدوِّ عدوٌّ من ورائهم، فأقبلوا إليهم واشتغلوا
بهم، فيصادم بعضهم بعضًا، ويكسر بعضهم سلاح بعضٍ، وعسكر الإسلام في حصنٍ من الطَّائفتين، ولكن إذا اصطلح العسكران فإنهما يصطلحون على المسلمين. ومن علم ما في الوجود تبيَّن له مطابقة هذا المثال، وبالله التوفيق.
الوجه الثَّالث والتسعون: أن الطريقة التي سلكها نُفاة الصِّفات والعلو والتكليم من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم وما يُسمُّونه معقولًا هي بعينها الطريق التي سلكها إخوانهم من الملاحدة في معارضة نصوص المعاد بآرائهم وعقولهم، ومقدماتها مقدماتها، ثم نقلوها بعينها إلى ما أُمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصيام، فجعلوها للعامة دون الخاصة، فآل بهم الأمر إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرُّسل، وهي الإيمان بالله [ق 78 أ] واليوم الآخر والأعمال الصَّالحة، قال الله تعالى:{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَاَلنَّصَارى وَاَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61].
فهؤلاء الملاحدة يحتجون على نُفاة الصِّفات بما وافقوهم عليه من الإعراض عن نصوص الوحي ونفي الصِّفات، كما ذكر ابن سينا في «الرسالة الأضحوية»
(1)
فإنه قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن، وأن الدَّاعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات، فقال: «وأمَّا أمر الشرع فينبغي أن يُعلم فيه قانونٌ واحدٌ، وهو أن الشرع والملة الآتية على لسان نبيٍّ من الأنبياء يُرام بها خطاب الجمهور كافة.
(1)
«الرسالة الأضحوية» (ص 97 - 103).
ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصَّانع موحدًا مقدسًا عن الكم والكيف والأين والمتى والوضع والتغير، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذاتٌ واحدةٌ، لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع، أو يكون لها جزءٌ وجودي كمي أو معنوي، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه، ولا حيث تصح الإشارة إليه بأنه هنا أو هناك = ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور، ولو أُلقيَ هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لسارعوا إلى العناد، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمانٌ بمعدومٍ لا وجود له أصلًا، ولهذا ورد ما في التوراة تشبيهًا كله.
ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيءٌ، ولا أتى بصريح
(1)
ما يحتاج إليه في التوحيد بيانٌ مفصلٌ، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظَّاهر، وبعضه جاء تنزيهًا مطلقًا عامًّا جدًّا لا تخصيص ولا تفسير له. وأمَّا الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تُحصى، ولكن لقومٍ ألَّا يقبلوها
(2)
، فإذا كان الأمر في التوحيد هكذا
(3)
فكيف بما
(4)
هو بعده من الأمور الاعتقادية. ولبعض النَّاس أن يقولوا: إنَّ للعرب توسُّعًا في الكلام ومجازًا، وإن الألفاظ التشبيهية مثل الوجه واليد والإتيان
(5)
في ظُلل من
(1)
«ح» ، «م»:«إلى تصريح» . والمثبت من «الرسالة الأضحوية» .
(2)
«ح» : «يقبلوه» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» ، «م»:«هذا» . والمثبت من «الرسالة الأضحوية» .
(4)
في «الرسالة الأضحوية» : «فيما» .
(5)
«ح» : «الإثبات» . والمثبت من «م» ، و «الرسالة الأضحوية» .
الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحةٌ، ولكن هي مستعملة استعارة ومجازًا».
قال: «ويدل على استعمالها غير مجازيةٍ ولا مستعارةٍ بل محققةً أن المواضع التي يوردونها حجةً في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارات والمجاز على غير معانيها الظَّاهرة = مواضعُ في مثلها يصلح أن تُستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس.
وأمَّا قوله: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ}
(1)
[البقرة: 208] وقوله: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] على القسمة المذكورة وما جرى مجراه، فليس
(2)
ممَّا
(3)
تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية، فإن كان أُريد فيها ذلك إضمارًا فقد رضي بوقوع الغلط والتشبيه والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحًا.
وأمَّا قوله: {يَدُ اُللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقوله: {مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام، ولا يَشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب، ولا يلتبس على ذي معرفةٍ في لغتهم كما يلتبس
(4)
في تلك الأمثلة؛ فإن هذه الأمثلة لا تقع شبهةٌ في أنها مستعارةٌ مجازيةٌ، كذلك في تلك لا تقع شبهةٌ في أنها ليست استعارية،
(1)
الآية بتمامها: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ} .
(2)
«ح» : «تلبس» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
(3)
«مما» ليس في «الرسالة الأضحوية» .
(4)
«ح» : «تلبس» . «م» : «تلتبس» . والمثبت من «الرسالة الأضحوية» .
ولا مرادًا فيها شيء غير الظَّاهر. ثم هب أن هذه كلها موجودة
(1)
على الاستعارة فأين التوكيد
(2)
والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدِّين المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة».
ثم قال في ضمن كلامه: «إن الشريعة الجائية على لسان نبينا جاءت أفضل ما يمكن أن تجيء عليه الشرائع وأكمله، ولهذا صلحت أن تكون خاتمة للشرائع وآخر الملل» .
قال: «وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل أنه عالم بالذَّات أو عالم بعلم، قادر بالذَّات أو قادر بقدرةٍ، واحد الذَّات على كثرة الأوصاف أو قابل للكثرة تعالى عنها بوجهٍ من الوجوه، متحيز الذَّات
(3)
أو منزَّه
(4)
عن الجهات، فإنه لا يخلو إمَّا أن تكون هذه المعاني واجبًا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها، أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والرَّوِيَّة
(5)
فيها، فإن كان البحث عنها معفوًّا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذٍ به؛ فجلُّ مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلفٌ وعنه غنية، وإن كان فرضًا محكمًا فواجب أن يكون ممَّا صرح به في
(1)
«الرسالة الأضحوية» : «مأخوذة» .
(2)
«الرسالة الأضحوية» : «النصوص التوكيدية» .
(3)
«الرسالة الأضحوية» : «بالذات» .
(4)
«ح» : «منزهًا» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
(5)
روَّأت في الأمر تروئة وترويئًا: إذا نظرت فيه ولم تعجل بجواب، والاسم الرَّوِيَّة، جرت في كلامهم غير مهموزة. «الصحاح» (1/ 54).
الشريعة، وليس التصريح المُعمَّى أو المُلبَّس أو المقتصَر فيه بالإشارة والإيماء، بل
(1)
التصريح المستقصى [ق 78 ب] فيه والمنبَّه عليه، والموفَّى حق البيان والإيضاح والتعريف على معانيه، فإن المبرزين
(2)
المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتزكية أفهامهم وترسيخ نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهُّم
(3)
هذه المعاني إلى فضل بيانٍ وشرح عبارة، فكيف غُتْم
(4)
العبرانيين وأهل الوبر من العرب.
لعمري لو كلف الله رسولًا من الرُّسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم، ثم سامه
(5)
أن ينتجز
(6)
منهم الإيمان والإجابة غير متمهَّلٍ فيه، وسامه أن يتولى رياضة نفوس النَّاس قاطبة حتى يستعد للوقوف عليها = لكلَّفه شططًا، وأن يفعل ما ليس في قوة البشر، اللهم إلَّا أن تدركهم خاصة إلهية، وقوة علوية، وإلهام سماوي، فتكون حينئذٍ وساطة الرَّسول مستغنًى عنها، وتبليغه غير محتاجٍ إليه.
(1)
بعده في «ح» : «بلى» . وهي زائدة عن السياق.
(2)
«ح» : «المبرين» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
(3)
«ح» : «تفرسهم» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
(4)
«ح» : «قتم» . وفي «الرسالة الأضحوية» : «غشم» . والمثبت من «م» . والغُتمة: العجمة، والأغتم: الذي لا يفصح شيئًا، والجمع غُتْم. «الصحاح» (5/ 1995).
(5)
أي: حمله عليه وطلبه منه. «مشارق الأنوار» (2/ 230).
(6)
«ح» : «منجز» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
ثم هب أن الكتاب العربي جاء على لغة العرب وعبارة لسانهم في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، وكله من أوله إلى آخره تشبيهٌ صرفٌ. وليس لقائلٍ أن يقول: إن ذلك الكتاب محرفٌ كله. وأنى يُحرَّفُ كليةً كتابٌ منتشرٌ
(1)
في أُمم لا يُطاق تعدادهم
(2)
، وبلادهم متباينة وأهواؤهم
(3)
متباينة، منهم يهودي ونصراني
(4)
، وهم أمتان متعاديتان. فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون، مقرِّبًا ما لا يفهمون إلى أفهامهم بالتمثيل والتشبيه، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة».
قال: «فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب ـ يعني: أمر المعاد ـ ولو فرضنا الأمور الأخروية روحانيةً غيرَ مجسمةٍ، بعيدةً عن إدراك بدائة الأذهان تحقيقها لم يكن سبيل
(5)
للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلَّا بالتعبير عنها بوجوهٍ من التمثيلات المقرِّبة إلى الأفهام، فكيف يكون وجود شيءٍ حجة على وجود شيءٍ آخر، لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته. فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصًّا من النَّاس لا عامًّا: أن ظاهر الشرائع غير محتجٍّ به في مثل هذه الأبواب».
(1)
«ح» : «مبشر» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
(2)
«ح» : «تعدديهم» . وفي «الرسالة الأضحوية» : «تعديدهم» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» ، «م»:«وأوهامهم» . والمثبت من «الرسالة الأضحوية» .
(4)
في «الرسالة الأضحوية» : «يهود ونصارى» .
(5)
«ح» : «سبيلي» . والمثبت من «م» و «الرسالة الأضحوية» .
فتأمَّل كلام هذا الملحد بل رأس ملاحدة الملة، ودخولَه إلى الإلحاد من باب نفي الصِّفات، وتسلطه في إلحاده على المعطلة النُّفاة بما وافقوه عليه من النفي، وإلزامَه لهم أن يكون الخطاب بالمعاد جمهوريًّا أو مجازًا واستعارة، كما قالوا في نصوص الصِّفات التي اشترك هو وهم في تسميتها تشبيهًا وتجسيمًا
(1)
، مع أنها أكثر تنوعًا، وأظهر معنًى، وأبين دلالة من نصوص المعاد، فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن ظواهرها أسهل.
ثم زاد هذا الملحد عليهم باعترافه بأن نصوص الصِّفات لا يمكن حملها كلها على المجاز والاستعارة، وأن يُقال: إن المراد غير ظاهرها، وإن لذلك الاستعمال مواضع تليق به، بحيث تكون دعوى ذلك في غيرها غلطًا محضًا، كما في مثل قوله:{* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز والاستعارة، فإنما أُريد ما دلَّ اللفظ عليه ظاهرًا، ومع هذا فقد ساعدهم على امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه، فهكذا نفعل نحن في نصوص المعاد سواء.
فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله إلى الإلحاد
(2)
من باب نفي الصِّفات والتجهم، وطريق الردِّ المستقيم بإبطال قوله وقول المعطلة جميعًا.
والمقصود أن هؤلاء الجهمية والمعتزلة لمَّا وافقوا هذا الملحد على نفي الصِّفات، وأن هذا النفي هو التوحيد الحق، احتج عليهم بهذه الموافقة
(1)
«ح» : «تجسمًا» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «إلحاد» . والمثبت من «م» .
على أن الرُّسل لم يثبتوا ما هو الحق في نفسه في معرفة توحيد الله ومعرفة اليوم الآخر، ولم يذكروا ما هو الذي يصلح لخاصة بني آدم وأولي العقول بينهم أن يفهموه ويعقلوه من هذا الباب، وأن نصوص الوحي من كتب الله المنزلة وكلام رسله لا يُحتجُّ بها في باب الإيمان بالله ولا في اليوم الآخر، لا في الخلق ولا في البعث، لا المبدأ ولا المعاد، وأن الكتب الإلهية إنما أفادت تخييلًا ينتفع به العامة لا تحقيقًا يفيد العلم والمعرفة، وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها ـ وهو العلم بالله ـ لم تُثبِته الرُّسل ولم تنطق به، ولم يهد إليه الخلق، فلم تُبيِّنْ معرفة الله ولا معرفة المبدأ ولا [ق 79 أ] المعاد، بل نطقت فيه بخلاف الصواب. فاشتركت المعطلة الجهمية والملاحدة في نسبة الرَّسول إلى ذلك في باب الصِّفات، وامتازت عليها الملاحدة بأن الرَّسول أراد إفهام ظاهرها، وقالت المعطلة: أراد إتعاب الأذهان في إفهام خلاف ظاهرها، وعَرَّض الأُمة إلى الباطل في اعتقاده ظاهرها.
الوجه الرَّابع والتسعون: أن يُقال: لا يخلو إمَّا أن يكون الرَّسول يعرف ما دلَّ عليه العقل بزعمكم ـ من إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكليمه لرسله وملائكته ـ أو لم يكن يعرف ذلك. فإن قلتم: لم يكن يعرفه، كانت الجهمية والمعطلة والملاحدة والمعتزلة والقرامطة الباطنية والنصيرية والإسماعيلية وأمثالهم وأفراخهم وتلامذتهم أعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه من رُسله وأتباعه.
وإن كان يعرفه امتنع ألَّا يتكلم به يومًا من الدهر مع أحد من خاصته والمطلعين على سرِّه. ومن المعلوم قطعًا أن الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يتكلم مع أحدٍ بما يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواصُّ
أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس، بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم موافقةً له وتصديقًا له على ما أظهره وبيَّنه وأخبر به.
فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره لزم أحد الأمرين: إمَّا أن يكون جاهلًا به، أو كاتمًا له عن الخاصَّة والعامَّة، ومظهرًا خلافه للخاصة والعامة، وهذا من أعظم الأمور امتناعًا، ومُدَّعيه في غاية الوقاحة والبهت.
ولهذا لمَّا علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بيَّنوا فيها أنه كان له خطابٌ مع خاصَّته غير الخطاب العامِّي، مثل الحديث المُختلق المُفترى عن عمر أنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما»
(1)
.
ومثل ما تدعيه الرَّافضة أنه كان عند عليٍّ علمٌ خاصٌّ باطنٌ يُخالف هذا الظَّاهر. ولمَّا علم الله
(2)
سبحانه أن ذلك يُدَّعى في عليٍّ وَفَّقَ مَن سأله: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ خصكم به دون النَّاس؟ فقال: «لا، والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أَسَرَّ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كتمه عن غيرنا إلَّا فهمًا يُؤتيه الله عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقول والديات
(3)
وفكاك
(1)
أخرجه عمر بن محمد الملا في «وسيلة المتعبدين» كما في «الرياض النضرة» للمحب الطبري (1/ 151) وهو حديث موضوع مكذوب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «الفرقان» (ص 19):«كذبٌ موضوعٌ باتفاق أهل العلم بالحديث» . وعَدَّه المصنف في «المنار المنيف» (ص 77) مما وضعه جهلة المنتسبين للسنة في فضائل أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه. وينظر «مجموع الفتاوى» (11/ 109).
(2)
«ح» : «أنه» . والمثبت من «م» .
(3)
كذا في «ح» ، «م» ، والعقول هي الديات، وقد تقدم (ص 260) بلفظ «العقل أي الديات» .
الأسير، وألَّا يُقتل مسلمٌ بكافر». وهذا الحديث متفق على صحته
(1)
، وفي لفظ في «الصحيح»
(2)
الوجه الخامس والتسعون: أن الله سبحانه أنزل كتبه حاكمةً بين النَّاس فيما اختلفوا فيه. قال الله تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 211] وقال تعالى: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَراكَ اَللَّهُ} [النساء: 104] وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ} [النساء: 58].
فكيف يحكم بين النَّاس في مواطن الخلاف والنزاع كلامٌ وخطابٌ ليس فيه علمٌ ولا هدًى ينتفع به أولو الألباب، كما زعم هؤلاء أن الكتب الإلهية لا يُحتج بها في مثل هذه الأبواب، فكيف تكون حاكمة بين النَّاس فيما اختلفوا فيه؟! وأي اختلافٍ أعظم من الاختلاف في أجلِّ الأمور، وهو معرفة الله تعالى واليوم الآخر، والخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخبرية التي لا تقبل النسخ والتغيير، فأمَّا العمليات التي تقبل النسخ فتلك تنوع في الشريعة الواحدة، فكيف بالشرائع المتنوعة! وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه حقيقيًّا، فإنهما إن كانا مشروعين في وقتين أو برسولين فكلاهما حقٌّ، وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو، فهذا يُعلم بالخبر المنقول عن الصَّادق. وحينئذٍ فنقول في:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«صحيح البخاري» (3047، 6903، 6915).
الوجه السَّادس والتسعين
(1)
: إن ما ذكره ابن سينا وأمثاله من
(2)
أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيءٌ، فكلامٌ صحيحٌ، وهذا دليلٌ على أنه باطلٌ لا حقيقة له، وأن من وافقهم عليه فهو جاهلٌ ضالٌّ.
وكذلك ما ذكره من
(3)
أن من المواضع التي ذُكرت فيها الصِّفات ما لا يحتمل اللفظ فيها إلَّا معنًى واحدًا لا يحتمل ما يدَّعيه أهل التأويل من الاستعارة والمجاز، كما ذكره في قوله [ق 79 ب]:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ وَاَلْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 208] وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159]. وهذا حجةٌ على من نفى حقيقة ذلك ومدلَوله من المعطلة نفاة الصِّفات، وهو حجة عليه وعليهم جميعًا، وموافقتهم له على التعطيل لا ينفعه؛ فإن ذلك حجةٌ جدليةٌ لا علمية؛ إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له، فإذا تبيَّن بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دلَّ ذلك على فساد قوله وقولهم جميعًا.
وكذلك قوله: «هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين
(4)
التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي يدعو إليه حقيقة هذا الدِّين القيِّم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة»؟ كلامٌ صحيحٌ لو كان ما قاله النُّفاة حقًّا، فإنه على قولهم لا يكون هذا
(5)
الدِّين القيِّم قد بيَّن
(1)
«ح» : «والتسعون» .
(2)
«ح» : «في» . والمثبت من «م» .
(3)
«من» ليس في «ح» ، ومثبت من «م» .
(4)
«ح» : «فإلى» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «لهذا» . والمثبت من «م» .
التوحيد الحقَّ أصلًا، وحينئذٍ فنقول في:
الوجه السَّابع والتسعين
(1)
: أن التوحيد الذي دعا إليه هؤلاء الملاحدة، وذكروا أنه التوحيد الحق هو من أعظم الإلحاد في أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، وهو حقيقة الكفر به، وتعطيل العالم عن صانعه، وتعطيل الصَّانع الذي أثبتوه عن صفات كماله. فشِرْك
(2)
عُبَّاد الأصنام والأوثان والكواكب والشمس والقمر خيرٌ من توحيد هؤلاء بكثيرٍ، فإنه شركٌ في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيدُ هؤلاء تعطيلُ الربوبية والإلهية وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازمٌ لأعظم أنواع الشرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلًا كان أعظم شركًا، ولا تجد معطلًا نافيًا إلَّا وفيه من الشرك بقدر ما فيه من التعطيل.
وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرُّسل من كل وجهٍ، فإن مضمون توحيد الجهمية إنكارُ حياة الربِّ وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانًا من فوقهم يوم القيامة، وإنكارُ وجهه الأعلى ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه وسائر ما أخبر به الرَّسول عنه.
ومعلومٌ أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرَّسول فيما أخبر به عن الله وجحده، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد وقالوا: نحن الموحدون
(3)
. كما استعار المنكرون للقدر اسم العدل بجحده ودفعه، وقالوا: نحن أهل
(1)
«ح» : «والتسعون» .
(2)
«ح» : «فسر لي» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «الموحدين» .
التوحيد والعدل. فهذا
(1)
توحيدهم وهذا عدلهم! والعدل والتوحيد الذي جاء به الرَّسول خلاف هذا وهذا، قال الله تعالى:{شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ (18) إِنَّ اَلدِّينَ عِندَ اَللَّهِ اِلْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19].
الوجه
الثَّامن والتسعون: أنه لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النُّفاة المعطلون وإخوانهم من الملاحدة لكان
(2)
قبول الفِطَر له أعظم من قبولها للإثبات
الذي هو ضلالٌ وباطلٌ عندهم، فإن الله سبحانه نصب على الحقِّ الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل والنور والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام والفهم والإفهام. وكما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذاك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوةً تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك. فخاصة العقل الفرق
(3)
بين الحق والباطل، وتمييز هذا من هذا، كما أن خاصة السمع التمييز بين الأصوات حسنها وقبيحها، وخاصة الشم
(4)
التمييز بين أنواع الروائح طيبها وخبيثها، وكذلك خاصة الذوق في الطعوم.
فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق، وأنها لو صُرِّح لها به لأنكرته
(1)
«ح» : «أنه» .
(2)
«ح» : «فكان» . والمثبت من «م» .
(3)
«م» : «التفريق» .
(4)
«ح» : «السمع» . وهو خطأ ظاهر.
ولم تذعن
(1)
إلى الإيمان؛ فقد سلبتم العقول خاصتها، وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفَطَرَها عليه، وكان نفس ما ذكرتم أن الرُّسل لو خاطبت به النَّاس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم، وأنه مخالف للعقل والفطرة كما هو مخالف للسمع والوحي [ق 80 أ]. فتأمل هذا الوجه فإنه كافٍ في إبطال قولهم.
ولهذا إذا أراد أهله
(2)
أن يدعوا النَّاس إليه ويقبلوه منهم وطَّؤوا له توطئات
(3)
، وقدَّموا له مقدمات، بنوها في القلب درجةً بعد درجةٍ، ولا يُصرِّحون به أولًا، حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظًا مزخرفةً، واستعاروا لما خالفه ألفاظًا شنيعةً، فتجتمع تلك المقدمات التي قدموها، وتلك الألفاظ التي زخرفوها، وتلك الشناعات التي على من خالفهم
(4)
شنعوها، فهنالك إن لم يُمسِك الإيمانَ مَن يمسك السماوات والأرض أن تزولا وإلَّا
(5)
تَرَحَّل عن القلب ترحُّل الغيث استدبرته الريح، يوضحه:
الوجه التَّاسع والتسعون: أنَّا نعرض على الفطر السليمة والعقول التي لم
(1)
«ح» : «تدعي» . والمثبت من «م» .
(2)
أي: أهل التأويل.
(3)
«ح» : «تاطوله موطيات» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «ما خالفه» . والمثبت من «م» .
(5)
لا يصح المعنى إلا بحذف «وإلا» ، وهو تركيب شائع في كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من ذلك العصر، والمعنى: إن لم يمسك الله الإيمانَ ترحل الإيمانُ.
تفسد بتلقِّي المقالات الفاسدة وتلقنها
(1)
عن المعلمين خصمين اختصموا في ربهم:
فقال أحدهما: هو الله الذي لا إله إلَّا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلَّا من بعد إذنه، حيٌّ له الحياة، قديرٌ له صفة القدرة، مريدٌ له صفة الإرادة، كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، يرى من فوق سبع سماوات، ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في غياهب الظلمات، لا تتحرك ذرةٌ إلَّا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلَّا بعلمه، ولا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماوات، تُرفع إليه الحاجات، وتصعد إليه الكلمات الطيبات، وينزل من عنده الأمر بتدبير المخلوقات، له القوة كلها، والعزُّ كله، والجمال كله، والعلم كله، والكمال كله، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ، موصوفٌ بكل جمالٍ، منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، لا تُضرب له الأمثال، ولا يُشبَّه بالمخلوقات، فعالٌ لما يريد، لوجهه سُبحات الجلال، وهو الجميل الذي له كل الجمال، إحدى يديه للجود والفضل، والأخرى للقسط والعدل، يقبض سماواته السبع بإحدى يديه، والأرضين السبع باليد الأخرى، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك. لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار
(1)
«ح» : «وتلقيها» . ولعل المثبت هو الصواب.
قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، قريبٌ مجيدٌ، رحيمٌ ودودٌ، لطيفٌ خبيرٌ.
فصل
وقال الآخر: بل هو موصوفٌ بالسلوب والإضافات، فلا سمع له، ولا بصر، ولا حياة ولا إرادة، ولا يتكلم ولا يكلِّم أحدًا من خلقه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق العرش ولا تحته، ولا يمينه ولا يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا له وجهٌ ولا يدٌ، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يسخط ولا يضحك، ولا يفرح بتوبة تائبٍ، ولا استوى على عرشه، ولا ينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة، ولا يجيء لفصل القضاء، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم، ولا يستمعون كلامه، ولا يقوم به فعل البتة ولا وصف، ولا له حقيقة وماهية غير وجودٍ مطلقٍ، وهو وجهٌ كله، وسمعٌ كله، وبصرٌ كله، ويدٌ كله، علمه ذاته، وسمعه وبصره علمه، ليس له يدٌ غير القدرة، خلق بها آدم، وكتب بها التوراة، وغرس بها جنة عدن، يقبض بها السماوات، وليس له وجهٌ يراه المؤمنون بأبصارهم، ليس بجوهرٍ ولا جسمٍ ولا متحيزٍ ولا متحركٍ ولا ساكنٍ، ولا ينزل من عنده شيءٌ، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا يقرب من شيءٍ، ولا يقرب منه شيءٌ، ولا يحبه أحدٌ، ولا يحب أحدًا، إلى أمثال ذلك من النفي.
فاعرض أقوال هذين الخصمين على الفطرة الصحيحة والعقل واجلس مجلس الحكومة بينهما، ثم تحيَّزْ إلى أيِّ الفئتين شئت، فما ثَمَّ إلَّا الإثبات من كل وجهٍ لما أثبته الله لنفسه وأثبته رسوله، أو التعطيل الصرف والنفي المحض. فاختر لنفسك إحدى الخطتين، واجعلها مع إحدى الفئتين، فالمرء
مع من أحب، وحينئذٍ فنقول في:
الوجه المائة: أن الأعمال الصَّالحة والفاسدة نتائج الاعتقادات الصحيحة والباطلة، فانظر رؤوس المثبتة والنُّفاة وملوكهم وأتباعهم يُبَيَّنْ لك حقيقة [ق 80 ب] الأمر، فرؤوس المثبتة آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم الخليل، وسائر الأنبياء من ذريته، وموسى الكليم وعيسى، وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيِّد ولد آدم محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، فجاء بالإثبات المفصَّل الذي لم يأت رسولٌ
(1)
بمثله، فصرَّح من إثبات الصِّفات والأفعال بما لم يصرِّح به نبيٌّ قبله، وذلك لكمال عقول أمته، وكمال تصديقهم، وصحة أذهانهم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حامل لواء الإثبات، وتحت ذلك اللواء آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم، ثم المهاجرون والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وسائر الصَّحابة، ثم التَّابعون
(2)
لهم بإحسانٍ ممَّن لا يحصيهم إلَّا الله، ثم أتباع التَّابعين، ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار، منهم الأئمة الأربعة، ثم أهل الحديث قاطبةً وأئمة التفسير والتصوف والزهد والعبادة المقبولون عند الأُمة ممَّن لا يحصي عددهم إلَّا الله.
فهل سُمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المشهود لهم بالجنة وسائر المهاجرين والأنصار؟ وهل سُمع بقومٍ أتم عقولًا، وأصح أذهانًا، وأكمل علمًا ومعرفة، وأزكى قلوبًا من هؤلاء الذين قال الله فيهم:{قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى} [النمل: 61] قال غير واحدٍ
(1)
«ح» : «رسوله» .
(2)
«ح» : «التابعين» .
من السلف: هم أصحاب محمدٍ
(1)
. قال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمَن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمدٍ، أبرُّ هذه الأُمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»
(2)
.
فهؤلاء أُمراء هذا الشأن، وأمَّا الجند والعساكر فالتَّابعون كلهم، ثم الذين يلونهم، مثل: مالك بن أنسٍ، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثَّوْري، وحماد بن زيدٍ، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعدٍ، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، والشَّافعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعِين، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وأبي حاتم وأبي زُرعة الرَّازيَّان
(3)
، وأمثالهم. وأمَّا عامتهم فأهل
(1)
أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 98) وابن أبي حاتم في «التفسير» (9/ 2906) والبزار في «مسنده» ـ كما في «كشف الأستار عن زوائد البزار» (2480) ـ والثعلبي في «الكشف والبيان» (20/ 300 - 301) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 87): «رواه البزار، وفيه الحكم بن ظهير، وهو متروك» .
وأخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 99) والثعلبي في «الكشف والبيان» (20/ 301) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 77) عن سفيان الثوري.
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 241) عن السدي.
(2)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1810) والخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/ 460) والهروي في «ذم الكلام» (746).
وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 305) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
كذا في «ح» ، بدلًا من:«الرازيين» .
الدِّين والصدق والورع والزُّهد والعبادة والإخلاص واجتناب المحارم وتوقِّي المآثم.
وأمَّا رؤوس النُّفاة والمعطلين ففرعون إذ يقول: {يَاهَامَانُ اُبْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ اُلْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] وجنوده كلهم، ونمرود بن كنعان ـ هذا خصم إبراهيم الخليل، وذاك خصم موسى الكليم ـ وأرسطاطاليس وبقراطيس وأضرابهما، وطمطم
(1)
وتنكلوشا
(2)
وابن وحشية
(3)
وأضرابهم
(4)
، وابن سينا والفارابي، وكل فيلسوفٍ لا يُؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه.
(1)
طمطم الهندي صاحب كتاب صور الدَّرج والكواكب. ينظر: «الرد على المنطقيين» (ص 286 - 287) و «مفتاح دار السعادة» (3/ 1439) و «النونية» (3/ 758) و «تاريخ ابن خلدون» (1/ 655).
(2)
تينكلوش البابلي ويقال: تنكلوشا، كان عالمًا من علماء بابل، وله تصنيف، وهو كتاب «الوجوه والحدود» كتاب مشهور. ينظر:«أخبار العلماء» للقفطي (ص 85) و «الرد على المنطقيين» (ص 286 - 287) و «مفتاح دار السعادة» (3/ 1439) و «النونية» (3/ 758).
(3)
هو أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الصوفي الكُسْدَاني، كان يدَّعي أنه ساحر، وله مؤلَّفات، منها كتاب «الفلاحة النبطية». ينظر:«الفهرست» للنديم (ص 378، 439) و «سلم الوصول إلى طبقات الفحول» لحاجي خليفة (1/ 180).
(4)
قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 55 - 56): «الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوشا البابلي، ومثل طمطم الهندي، ومثل ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية» .
وأمَّا عوامُّهم فاعتبر عوام النُّصَيرية والإسماعيلية والدُّرزية والحاكمية
(1)
والطُّرقية
(2)
والعرباء
(3)
، وعبادهم: البخشية
(4)
والطونية
(5)
. وعلماؤهم السحرة. وعساكرهم: المشركون، والقرامطة الذين هم أعظم الأمم إفسادًا للدُّنيا والدِّين.
فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء، وعوام هؤلاء وهؤلاء، وليقابل بين الطَّائفتين، وحينئذٍ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلَّا من أهل الإثبات، وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلَّا من أهل النفي والتعطيل: إمَّا تعطيل الصَّانع عن صفات كماله ونعوت جلاله، وإمَّا تعطيل القلب عن توحيده وعبوديته وإخلاص الدِّين له.
واعتبر ذلك بإمام النُّفاة في زمانه وما جرى على أهل السُّنَّة منه: ابن أبي دؤاد
(6)
وأصحابه الذين سَعَوْا في ضرب الإمام أحمد، وقتل كثيرٍ من
(1)
هم فرقة ضالة تعتقد رجوع الحاكم بأمر الله الفاطمي بزعمهم. «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/ 332).
(2)
هم أتباع الطرق الصوفية المبتدعة.
(3)
كذا في «ح» ، و «درء التعارض» (5/ 67). ولم أتبين من هم.
(4)
تقدم (ص 698) أنهم كهنة البوذية، عبدة الأصنام.
(5)
هم طائفة من سحرة التتر، كما في «درء التعارض» (5/ 67) وفي «ح»:«الطوسية» ، تصحيف.
(6)
أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، ولي القضاء للمعتصم وللواثق بالله، وكان مصرحًا بمذهب الجهمية، داعية إلى القول بخلق القرآن، وهو الذي أفتى بقتل الإمام أحمد بن حنبل، توفي سنة 240 هـ. ينظر:«تاريخ بغداد» (5/ 233 - 252) و «تاريخ الإسلام» (5/ 758 - 761).
أهل السُّنَّة، وحبسهم وتشتيتهم في البلاد، وقطع أرزاقهم؛ ثم إمامهم في زمانه نصير الكفر والشرك الطوسي، وما جرى على المسلمين منه من قتل خليفتهم وعلمائهم وعُبَّادهم.
وإذا اعتبرت أحوال القوم رأيت عوامَّ اليهود والنصارى أقلَّ فسادًا في الدِّين والدُّنيا من أئمة هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم، وغاية الواحد من هؤلاء إذا أراد الجاه أن يتقرب إلى الملوك الجهلة الظلَمة بما يناسبهم من السحر، فيُصنِّف لهم فيه، ويتقرب به إليهم.
فهؤلاء علماؤهم وملوكهم وعوامهم، فكيف يكون هؤلاء أحظى بالعقل وأسعد به من الرُّسل وأتباعهم، وسيرةُ هؤلاء وهؤلاء معلومةٌ في العالم، وأعمالُهم وعلومهم ومعارفهم وآثارهم دالةٌ لمن له أدنى عقلٍ على حقيقة الحال، والله أعلم.
[ق 81 أ] الوجه
الحادي والمائة: أن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به،
فإن الله سبحانه وصفه بكونه هُدًى في غير موضعٍ، وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم
(1)
، أي: للطريق التي هي أقوم الطُّرق، وهي أقربها إلى الحقِّ، فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل
(2)
بين نقطتين، وكلما تعوَّج بَعُدَ.
وأخبر سبحانه أنه شفاءٌ لما في الصدور
(3)
. وهذا يتضمن أنه يشفي ما
(1)
في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
(2)
«ح» : «مفصل» . والمثبت هو الصواب كما جاء فيما يأتي.
(3)
في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد جَّاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي اِلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
فيها من الجهل والشك والحيرة والريب، كما أن الهُدى يتضمن أنه موصلٌ إلى المقصود، فالهدى يوصلها إلى الحقِّ المقصود من أقرب الطُّرق، والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحقِّ وطلبه، فهذا يُحصِّل المقتضى، وهذا يزيل المانع، ومن المحال أن تكون هذه صفة كلامٍ مخالفٍ
(1)
للعقل ومعارضه.
وكذلك أخبر أنه نورٌ، كما قال تعالى:{فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49] فهو نور البصائر من العمى، كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك. ومحالٌ أن تتنوَّر البصائر بما يخالف صريح العقل؛ فإن ما يخالف العقل مستوجب
(2)
الظُّلمة.
وأخبر سبحانه أنه برهانٌ، فقال:{يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ قَد جَّاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 173]. ومحالٌ أن يكون ما يخالف صريح العقل برهانًا.
وأخبر سبحانه أنه علمٌ، كما قال:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ} [آل عمران: 60]، وما يخالف العقل الصريح لا يكون علمًا.
وأخبر أنه حقٌّ، والعقل الصريح لا يخالف الحق، فقال تعالى: {الم اَللَّهُ
(1)
«ح» : «مخالفة» .
(2)
«ح» : «فوجبَ» .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ (1) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1 - 2] وقال: {* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 104] وقال: {لَقَد جَّاءَكَ اَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94] وقال: {إِنَّ هَذَا لَهْوَ اَلْقَصَصُ اُلْحَقُّ} [آل عمران: 62]. وحينئذٍ فكونه حقًّا يدل على أن ما خالفه ممَّا يُسمَّى معقولًا باطل، فإن كان ما خالفه حقًّا لزم أن يكون باطلًا، وإن كان هو الحق فما خالفه باطلٌ قطعًا.
وأخبر أنه آياتٌ بيناتٌ
(1)
، وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك.
وأخبر أنه أحسن القصص
(2)
، وأحسن الحديث
(3)
، ولو خالف صريح العقل لكان موصوفًا بضد ذلك.
وأخبر أنه أصدق الكلام، فقال:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلًا} [النساء: 121]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 86]. ولو خالف العقل لم يكن كذلك، وكان كلام هؤلاء الضَّالين المضلين أصدق منه.
وأخبر أن القلوب تطمئن به، أي: تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك، كما يطمئن القلب إلى الصدق، ويرتاب بالكذب، فقال تعالى:{اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 29] وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه، وأنه حقٌّ من عنده، ولهذا ذكره جوابًا لقول الكفار:{لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} فقال: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ
(1)
في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج: 16] وغيره.
(2)
في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا اَلْقُرْآنَ} [يوسف: 3].
(3)
في قوله تعالى: {اِللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 22].
مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (28) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ} [الرعد: 28 - 29]. أي: بكتابه الذي أنزله، وهو ذكره وكلامه، ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء. والعاقل اللبيب إذا تدبَّر القرآن وتدبَّر كلام هؤلاء المعارضين له تبين أن الريبة كلها في كلامهم، والطمأنينة في كلام الله ورسوله.
وأخبر سبحانه أن التوراة ـ التي هو أكمل وأجلُّ منها ـ إمامٌ، فقال تعالى:{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 11] والإمام هو القدوة الذي يُؤتم به، وكيف يُقتدى بكلامٍ يخالف صريح العقل.
وسمَّاه سبحانه فرقانًا
(1)
؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقانًا، ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضَّالين المضلين.
وأخبر أنه كتابٌ مباركٌ
(2)
، والمبارك: الكثير البركة والخير والهُدى والرحمة، وهذا لا يكون فيما يردُّه العقل ويقضي بخلافه.
وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه
(3)
، ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهةٍ.
وأخبر أنه كتابٌ أُحكِمت آياته
(4)
، ....................................
(1)
في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
(2)
في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 93] وغيره.
(3)
في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (40) لَّا يَأْتِيهِ اِلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 40 - 41].
(4)
في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وأنه حكيمٌ
(1)
، وأنه فصلٌ
(2)
. وما يخالفه العقل لا يوصف بشيءٍ من ذلك.
وأخبر أنه مهيمنٌ على
(3)
كل كتابٍ
(4)
، أي: أمينٌ عليه وحاكمٌ وشاهدٌ وقيِّمٌ، ولو خالفه العقل لكان مهيمنًا عليه، وكانت معقولات هؤلاء الضَّالين المضلين هي
(5)
المهيمنة عليه، ولم يكن هو المهيمن عليها.
وأخبر أنه لا عوج فيه وأنه قيِّمٌ، فقال:{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ اِلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2]، وأي عوجٍ أعظم من مخالفة صريح العقل له؟ وقال تعالى:{وَلَقَد ضَّرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (26) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 26 - 27] ومن تدبَّره وتدبَّر ما خالفه عرف أن العوج
(6)
كله فيما خالفه، وعِلْمُه بتعوُّج ما خالفه يُعرَف من طريقتين: من جهة الكلام في نفسه وأنه باطلٌ، ومن جهة مخالفته للقرآن.
وجعله سبحانه حجة على خلقه كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاَتَّبِعُوهُ وَاَتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (156) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ اَلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (157) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا
(1)
في قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْأيَاتِ وَاَلذِّكْرِ اِلْحَكِيمِ} [آل عمران: 57].
(2)
في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل} [الطارق: 13].
(3)
«ح» : «في» .
(4)
في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 50].
(5)
«ح» : «من» .
(6)
«ح» : «القدح» .
اَلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَد جَّاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي اِلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ اَلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 156 - 158]. وقال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} [النساء: 164]. وكيف تقوم الحجة بكلامٍ يخالف صريح العقل؟ وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الثَّاني والمائة: إن الله سبحانه ضمن الهُدى والفلاح لمن اتبع القرآن، والضلال والشقاء لمن أعرض عنه، فكيف بمن عارضه
(1)
بمعقولٍ أو رأيٍ، أو حقيقةٍ باطلةٍ، أو سياسةٍ ظالمةٍ، أو قياسٍ إبليسيٍّ، أو خيالٍ فلسفيٍّ ونحو ذلك؟ قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى (120) فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى (122) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (123) * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنسى} [طه: 120 - 124] فضمن سبحانه لمن اتبع هداه ـ وهو كلامه ـ الهُدى في الدنيا والآخرة، والسعادة في الدنيا والآخرة.
فهاهنا أمران: طريقٌ وغايةٌ. فالطريق: الهُدى، والغاية: السعادة والفلاح. فمن لم يسلك هذه الطريق لم يصل إلى هذه الغاية، والله سبحانه قد أخبر أن كتابه الذي أنزله هو الهُدى والطريق، فلو كان العقل الصريح يخالفه
(2)
لما كان طريقًا إلى الفلاح والرشد.
(1)
«ح» : «عارض» .
(2)
«ح» : «يخالفهم» .
وقد أخبر سبحانه أن الذين اتبعوا النور الذي أُنزل مع رسوله هم المفلحون لا غيرهم، وقال تعالى:{الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (1) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (2) وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 4].
وكما جعل سبحانه الهُدى والفلاح لمن اتبع كتابه وآمن به وقدَّمه على غيره، جعل الضلال والشقاء لمن أعرض عنه واتبع غيره وعارضه برأيه ومعقوله وقياسه. قال تعالى:{اِللَّهُ وَلِيُّ اُلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (255) وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اُلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلنّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 255 - 256]. وقال: {إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]. وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى} [طه: 122] فوصفه بالعمى الذي هو ضد الهُدى، وبالمعيشة الضنك التي هي ضد السعادة، فكتاب الله أوله هداية وآخره سعادة، وكلام المعارضين له بمعقولهم أوله ضلال وآخره شقاوة.
الوجه
الثَّالث بعد المائة: أن الله سبحانه ذمَّ المجادلين في آياته بالباطل
في غير آيةٍ من كتابه، فقال تعالى:{اِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اُللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُّتَكَبِّرٍ جَبّارٍ} [غافر: 35].
وقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (69) اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسْلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ اِلْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
…
} إلى قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 69 - 75].
وأنت إذا تأمَّلت أقوال هؤلاء وسيرتهم رأيت هذه الآيات منطبقة عليهم، وهم المرادون بها، ومن أعظم الجدال في آيات الله جدال من يعارض النقل بالعقل ثم يقدِّمه [ق 82 أ] عليه، فإن جداله يتضمن أربع مقامات:
أحدها: أنه تبيَّن أن الأدلة النقلية من الكتاب والسُّنَّة لا تُفيد علمًا ولا يقينًا.
الثَّاني: أن ظاهرها يدل على الباطل والتشبيه والتمثيل.
الثَّالث: أن صريح العقل يخالفها.
الرَّابع: أنه يتعيَّن تقديمه عليها.
ولا يصل إلى هذه المقامات إلَّا بأعظم الجدال، فهو مراد بهذه الآيات قطعًا، وأعمالهم شاهدةٌ عليهم لمن لم يطلع على حقيقة أقوالهم، وهي التكبر والتجبر والفرح في الأرض بغير الحق والمرح وطلب العلو في الأرض والفساد، ولا تجد من يعارض الوحي بالعقل ويقدمه عليه إلَّا بهذه المنزلة، فهذه علومهم وعقائدهم، وهذه إراداتهم وأعمالهم.
الوجه الرابع والمائة: أن الله سبحانه وصف المُعْرِضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة والشك والعمى والريب، فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى. ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين:
أحدهما: الإعراض عمَّا جاء به الرسول.
الثاني: معارضته بما يناقضه.
فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسُّنَّة. فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيءٍ من أمر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواءٌ اعتقد ذلك بجَنانه أو قاله بلسانه أو كَتَبَه ببنانه.
وهذا حال أهل الجهل المركب. ومن أعرض عمَّا جاء به الرسول ولم يعرفه ولم يتبيَّنه ولا عارضه بمعقولٍ أو رأيٍ فهو من أهل الجهل البسيط. وهو أصل المركب، فإن القلب إذا كان خاليًا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به ومحبته كان معرَّضًا لاعتقاد نقيضه والتصديق به، لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها. وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمِّرون، وتنافس فيها المتنافسون، وأجرى إليها المتسابقون. فإلى نحوها تمتد الأعناق، وإليها القلوب الصحيحة بالأشواق، فالصادقون فيها أهل الإثبات أئمة الهدى، كإبراهيم خليل الرحمن وأهل بيته، والكاذبون فيها أهل النفي والتعطيل، كفرعون وقومه.
وقال تعالى في أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
(1)
أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وقال في أئمة الضلال:
(1)
«ح» : «وجعلناهم» . وهذه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَىمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ اَلصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 72].
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَىمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص: 41].
فمن لم يكن فيها على طريق أئمة الهُدى كان على طريق أئمة الضلال، إذ كان ثغر قلبه مفتوحًا
(1)
لهم يلقون فيه أنواع الضلال، ويصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه التقصير في إظهار السُّنَّة والهُدى، فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التعطيل والنفي في توحيد الله وأسمائه وصفاته كان من أعظم أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته، حتى إن كثيرًا من المنتسبين إلى السُّنَّة يعتقدون أن طريقة السلف هي الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبُّر معانيها وفقهها وتعقلها، فلما أفهموا النُّفاة والمعطلة أن هذه طريقة السلف قال من قال منهم: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. لأنه اعتقد أن طريقة الخلف متضمنة لطلب معاني نصوص الإثبات، ولنفي حقائقها وظاهرها
(2)
الذي هو باطل عنده، فكانت متضمنة للعلم والتنزيه، وكان فيها علم بمعقولٍ وتأويل لمنقولٍ، ومذهب السلف عنده عدم النظر في النصوص وفهم المراد منها لتعارض
(3)
الاحتمالات. وهذا عنده أسلم؛ لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معانٍ فحَمْله على بعضها دون بعض مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة.
(1)
«ح» : «مفسوحًا» .
(2)
«ح» : «ظواهرها» .
(3)
«ح» : «التعارض» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 378).
فلو تبين لهذا البائس وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصِّفات وفهمُها وتدبُّرها وتعقُّل معانيها وتنزيه الربِّ عن تشبيهه فيها بخلقه، كما ينزهونه عن العيوب والنقائص، وإبطال طريقة النُّفاة المعطلة وبيان مخالفتها لصريح المعقول، كما هي مخالفة لصحيح المنقول = عَلِمَ أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى [ق 82 ب] إلى الطريق الأقوم، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر وفَهْم ذلك ومعرفته. ولا يناقض ذلك إلَّا ما هو باطلٌ وكذبٌ وخيالٌ.
ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسُّنَّة، وعدم إثبات ما تضمناه من الصِّفات، فقد أخطأ خطأً فاحشًا على السلف، كما أن من قال على الرسول أنه لم يُبعث بالإثبات وإنما بُعث بالنفي كان من أعظم الناس افتراءً عليه. فهؤلاء المعطلة مفترون على الله ورسوله، وعلى سلف الأمة، وعلى العقول والفِطَر، وما نصبه الله من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية. والكذب قرين الشرك، كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله تعالى:{وَاَجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ (28) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 28 - 29].
وقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا اُلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي اِلْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» . مرتين أو ثلاثًا
(1)
.
الوجه الخامس والمائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم ومعقولاتهم لا يمكنهم أن يقولوا: كل واحد من الدليلين المتعارضين
(2)
يقيني، وأنهما قد تعارضا على وجهٍ لا يُمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقول. ولكن نهاية ما يقولون أن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وأن ما ناقضها من الأدلة البدعية التي يُسمُّونها هم العقليات تُفيد اليقين. فينفون إفادة اليقين عن كلام الله ورسوله، ويثبتونه لما ناقضه من أدلتهم المبتدعة التي يدَّعون أنها براهين قطعية، ولهذا كان لازم قولهم لا محالة
(1)
أخرجه الإمام أحمد (19200) وأبو داود (3599) والترمذي (2300) وابن ماجه (2372) من طريق محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، عن أبيه، عن حبيب بن النعمان، عن خريم بن فاتك رضي الله عنه مرفوعًا. وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (5/ 63):«هذا يروى عن خريم بن فاتك بإسنادٍ صالحٍ» .
وأخرجه الإمام أحمد (17878، 18329، 19204) والترمذي (2299) وابن قانع في «معجم الصحابة» (1/ 53) من طريق مروان بن معاوية، عن سفيان بن زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم به. وقال الترمذي:«وهذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد، واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم» .
والحديث ضعَّفه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (4/ 548) وابن حجر في «التلخيص الحبير» (6/ 3185)، وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (9/ 576 - 578).
(2)
«ح» : «المعارضين» . والمثبت من «درء التعارض» (6/ 3).
الإلحاد والنفاق والإعراض عمَّا جاء به الرسول. وهذه حال الذين ذكرهم الله في قوله: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اِلْحَقَّ فَأَخَذتُّهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 4].
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113].
فجنس هؤلاء هم المكذبون للرسل، ولا يُحتج عليهم بما هم مكذبون به، ولا بما يزعمون أن العقل الصريح عارضه. ولكن المقصود تعريف حال هؤلاء، وأن طريقتهم مشتقة من طريقة المكذبين للرسل. وأمَّا طريق الرد عليهم فلأتباع الرسول وأنصاره فيه مسالك:
الأول: بيان فساد ما ادعوه معارضًا للنصوص من عقلياتهم.
الثاني: بيان [أن]
(1)
ما جاء به الرسول من الإثبات معلوم بالضرورة من دينه، كما هو معلوم بالأدلة اليقينية، فلا يمكن مع تصديق الرسول مخالفة ذلك.
الثالث: بيان أن المعقول الصريح يوافق ما جاء به الرسول، لا يعارضه. وبيان أن ذلك معلومٌ بضرورة العقل تارةً
(2)
، وبنظره تارةً. وهذا أقطع لحجة المعارضين للوحي؛ فإنهم يدلون بالعقل، والعقل الصحيح من أقوى الأدلة على بطلان قولهم.
(1)
من «درء التعارض» (6/ 4).
(2)
في: «ح» : «بشأنه» . ولعل المثبت هو الصواب.
الوجه
السادس والمائة: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها، ومقدِّماتها أصح من مقدِّماتها،
فيجب تقديمها عليها لو
(1)
قُدر تعارضهما، ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه المعقولات.
وحينئذٍ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص. فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارةً، وبالنصوص تارةً، وبهما تارةً. ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلَّا بمقدمات يردُّها النصُّ وهذا العقل، فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك؟ وهذا قاطع لمن تدبَّره. واعتَبِرْ ذلك بالمعقولات التي أقامها المعطلة على نفي علو الله على خلقه ومباينته للعالم، والمعقولات التي أقامها أهل الإثبات على ضد قولهم، يتبين لك ما بينهما من التفاوت، [ق 83 أ] وتَسْلَم نصوص الوحي عن المعارض.
ونحن نعلم أن المعطلة تقدح في مقدمات هذه المعقولات الدالة على الإثبات، ولكن القدح فيها من جنس القدح في الضروريات والبديهيات. ولا ينفعهم كون طائفة من العقلاء منكرين لها، والضروريات لا ينكرها أحدٌ؛ فإن هذا ينتقض عليهم، بكل طائفة من طوائف
(2)
بني آدم قالوا ما يخالف ضرورة العقل، مع كونهم أكثر من هؤلاء النُّفاة، وكل طائفة تشهد على الأخرى أنها خالفت ضرورة العقل. فيشهد أصحاب العقل والسمع على النفاة أنهم كما خالفوا صحيح
(3)
النقل خالفوا صريح العقل،
(1)
«ح» : «ولو» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الطوائف» .
(3)
«ح» : «صريح» .
وسيشهدون على ذلك: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي اِلْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي اِلصُّدُورِ} [العاديات: 9 - 10]. وقال المعارضون للوحي: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11].
الوجه السابع والمائة: أن كل عاقلٍ يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في علم من أنواع العلوم من الطب أو الحساب أو النحو أو الهيئة أو غير ذلك بكلامٍ ذكر أنه بيَّن لهم فيه حقيقة ذلك العلم وأوضح مشكلاته وبيَّن غوامضه ولم يُحْوِجهم بعده إلى كتابٍ سواه، ولم يكن في ذلك الكتاب بيان ذلك العلم، ولا معرفة ذلك المطلوب، بل كانت دلالة الكتاب على نقيض ذلك العلم أكمل، وعلى خلافه أدل، أو كان العقل الصريح يدل على خلاف ما دل عليه ذلك الكتاب = كان هذا المصنِّف مفرطًا في الجهل والضلال، أو في المكر والاحتيال
(1)
، أو في الكذب والمحال.
فكيف بكتابٍ لم ينزل من السماء كتابٌ أهدى منه، خضعت له الرِّقاب، وسجدت له عقول ذوي الألباب، وشهدت العقول والفِطَر بأن مثله ليس من كلام البشر، وأن فضله على كل كلامٍ كفضل المتكلم به على الأنام، وأنه نور البصائر من عماها، وجلاء القلوب من صداها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها
(2)
، فهو حياها الذي به حياها
(3)
، ونورها الذي انقشعت به عنها ظَلْماها، وغذاؤها الذي به قوام قوتها، ودواؤها الذي به حِفْظ صحتها. وهو
(1)
«ح» : «الأخبال» .
(2)
الجوى مقصور: كل داءٍ يأخذ في الباطن لا يُستمرأ معه الطعام، وقيل: هو داءٌ يأخذ في الصدر. «لسان العرب» (14/ 158).
(3)
الحيا الأول بمعنى الغيث، والحيا الثاني بمعنى الخصب.
البرهان الذي زاد على برهان الشمس ضياءً ونورًا، فلو {اِجْتَمَعَتِ اِلْإِنسُ وَاَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
فيه نبأ ما كان قبلنا، وخبر ما يكون بعدنا، وحكم ما بيننا. وهو الجدُّ ليس باللعب، والفصل ليس بالهزل. وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذِّكر الحكيم، والصِّراط المستقيم، والنبأ العظيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يعوجُّ فيُقوَّم، ولا يزيغ فيتشعَّب. ولا تَخلَق بهجته على كثرة التَّرداد، بل لا يزداد على تتابع التلاوة إلَّا بهجة وطلاوة وحلاوة. من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضله الله. ومن أعرض عنه أو عارضه بعقله أو رأيه أو سياسته أو خياله فالضلال منتهاه، والنار منقلبه ومثواه، والخذلان قرينه، والشقاء صاحبه وخدينه. مَن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن حاكم إليه فلج، ومن خاصم به استظهر بأقوى الحُجَج، ومن استنصر به فهو مؤيَّد ومنصور، ومن عدل عنه فهو مخذول ومثبور.
فبغاه هؤلاء النُّفاة المعطلة عِوَجًا، وجعلوا دون الاهتداء به
بابًا مُرْتَجًا
(1)
، وعزلوه عن إفادة
(2)
العلم واليقين، وقالوا: قد عارض
ما أثبته العقول والبراهين. وقالوا: لم يدلَّ على الحقِّ في الأمور الإلهية، ولا أفاد علمًا ولا يقينًا في هذه المطالب العلية. بل دلالته ظاهرة في نقيض الصواب، مُفهِمة لنقيض ما يقوله أولو العقول والألباب. فالواجب أن
(1)
أَرتَجْتُ الباب: أغلقته إغلاقًا وثيقًا. «العين» (6/ 91).
(2)
«ح» : «الإفادة» .
نحترمه
(1)
بالإمساك والتفويض، أو نُسلط عليه التأويل إن
(2)
أَفهَمَ الخلاف والضد والنقيض. فإن عجزنا عن ذلك أتينا بالقانون المشهور بيننا والمقبول: أنه إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا المعقول على المنقول. فهذا حقيقة قول هؤلاء النُّفاة المعطلين في كلام ربِّ العالمين وكلام رسوله الأمين.
الوجه
الثامن والمائة: أن هذا يتضمن الصدَّ عن آيات الله وبغيها عوجًا.
وقد ذمَّ الله سبحانه مَن فعل ذلك، وتوعَّده بأليم العقاب؛ فقال:{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ (1) بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ (2) اِللَّهِ اِلَّذِي لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (3) اِلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 1 - 4]. [ق 83 ب] وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ اُلْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ اِلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اُللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ (18) اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 - 19].
وهؤلاء المعارضون للوحي بعقولهم جمعوا بين الأمور الثلاثة: الكذب على الله، والصد عن سبيل الله، وبَغْيها عوجًا.
أمَّا الكذب على الله فإنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال، ووصفوه بما لم يصف به نفسه.
وأمَّا صدهم عن سبيله وبغيها عوجًا فإنهم أفهموا الناس بل صرَّحوا لهم
(1)
«ح» : «نحرمه» .
(2)
«ح» : «وإن» .
بأن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تُفيد علمًا ولا يقينًا، وأن العقول عارضتها فيجب تقديم العقول عليها. وأيُّ عِوَج أعظم من عوج مخالفة العقل الصريح؟! وقد وصف الله كتابه بأنه غير ذي عوجٍ، ولا ريب أن الله هو الصادق في ذلك، وأنهم هم الكاذبون.
فإن قلت: بغى يبغي
(1)
يتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، فما وجه انتصاب «عِوَجًا» ؟
قيل: فيه وجوهٌ:
أحدها: أنه نصب على الحال، أي: يطلبونها ذات عوجٍ، لا يطلبونها مستقيمة، والمعنى يطلبون لها العوج
(2)
.
الثاني: أن «عوجًا» مفعول «يبغونها» على تقدير حذف اللام، أي: يطلبون لها عوجًا، يرمونها به، ويصفونها به
(3)
.
وأحسن منهما أن تُضمَّن «يبغونها» إمَّا معنى يعوجونها، فيكون «عوجًا» منصوبًا على المصدر، ودلَّ فعل البغي على طلب ذلك وابتغائه. وإمَّا معنى يسومونها ويُولونها.
وعلى كل تقديرٍ فسبيل الله: هداه وكتابه الهادي للطريق الأقوم والسبيل الأقصد. فمن زعم أن في العقل ما يعارضه فقد بغاه عوجًا، ودعا إلى الصدِّ
(1)
«ح» : «بغا لهما» .
(2)
وهو قول الزجاج في «معاني القرآن» (3/ 145).
(3)
ذكر هذين القولين الواحدي في «البسيط» (5/ 456 - 460) ومكي بن أبي طالب في «الهداية» (5/ 3771) وابن عطية في «المحرر الوجيز» (3/ 322).
عنه. ومن له خبرة بالمعقول الصحيح يعلم أن العوج في كلام هؤلاء المُعْوِجين الذين هم عن الصِّراط ناكبون، وعن سبيل الرشد حائدون، وعن آيات الله بعيدون، وبالباطل والقضايا الكاذبة يُصدقون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي ريبهم يترددون، وهم للعقل الصريح والسمع الصحيح مخالفون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي اِلْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (10) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ اُلْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ (11) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ اَلنَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ اَلسُّفَهَاءُ اَلَا إِنَّهُمْ هُمُ اُلسُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ (12) وَإِذَا لَقُوا اُلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (13) اَللَّهُ يَسْتَهْزِيئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:10 - 14].
الوجه التاسع والمائة: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب، بل تكلموا فيه بغاية الإثبات المناقض لما عليه الجهمية المعطلة، وعند الجهمية أن الساكت عنه خيرٌ من المتكلم فيه بالإثبات المناقض لتعطيلهم، والمتكلم فيه بالنفي والتعطيل ـ الذي يُسمونه تنزيهًا ـ خيرٌ من الساكت عنه، فجعلوا المتكلم فيه بالإثبات آخر المراتب وأخسها
(1)
.
ولا ريب أن هذا يستلزم غاية القدح في الرُّسل والتنقص بهم
(2)
ونسبتهم إلى القبيح، ووصفهم بخلاف ما وصفهم الله به. ومضمون هذا أنهم لم يهدوا الخلق، ولم يعلموهم الحق، بل لبَّسوا عليهم، ودلسوا، وأضلوهم،
(1)
«ح» : «وأحسنها» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
كذا في «ح» .
وعرضوهم للجهل المركب، ولو تركوهم في جهلهم البسيط لكان خيرًا لهم، بل تركوهم في حيرة مذبذبين، لا يعرفون الحق من الباطل، ولا الهُدى من الضلال.
فعند هؤلاء الضالين كلام الأنبياء لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، ولا يبيِّن الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، بل يكون كلام مَن تَسَفْسَطَ في العقليات وتَقَرْمَطَ في السمعيات
(1)
ـ وهو كخيط السحار والمشعوذ، يخرجه تارة أحمرَ، وتارة أبيض، وتارة أسود ـ أهدى سبيلًا من نصوص الوحي، فإن نصوص الوحي عند هؤلاء أضلت الخلق وأفسدت عقولهم وعرَّضتهم لاعتقاد الباطل.
ومن راعى حرمة النصوص منهم قال: فائدة إنزالها اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها وحقائقها بالأدلة المعارضة لها، حتى تنال النفوس كد
(2)
الاجتهاد، وتنهض إلى التفكر [ق 84 أ] والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق.
فحقيقة الأمر عند المعطلة أن الرُّسل خاطبوا الخلق
(3)
بما لا يُبيِّن الحقَّ، ولا يُنال منه الهدى، بل ظاهره يدل على الباطل، ويُفهم منه الضلال، ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في ردِّ ما أظهرته الرُّسل وأفهمته الخلق، ليصلوا بِرَدِّه إلى معرفة الحق الذي استنبطوه بعقولهم، ولم
(1)
يعني: سلك مذهب السوفسطائين في العقليات ومذهب القرامطة في السمعيات.
(2)
«ح» : «كل» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 365). والكدُّ: الشدة في العمل وطلب الكسب. «الصحاح» (2/ 530).
(3)
«ح» : «الحق» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 365).
يحتاجوا فيه إلى الرُّسل، بل احتاجوا فيه إلى ردِّ ما جاؤوا به بالقانون العقلي، أو رد معناه بالتأويل اللفظي. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه العاشر بعد المائة: إن مَثَل ما جاءت به الرُّسل عند النُّفاة والمعطلة مثل من أرسل مع الحاج أدِلَّاء يدلونهم على
(1)
طريق مكة، وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطابٍ يدلهم على غير الطريق، ليكون ذلك الخطاب سببًا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا الطريق بنظرهم واستدلالهم لا بأولئك الأدلة. وحينئذٍ يردُّون ما فهموا من كلام الأدلة وخطابهم، ويجتهدون في نفي دلالته، وإبطال مفهومه ومقتضاه. ومن المعلوم أن خَلْقًا كثيرًا لا يتبعون إلَّا الأدلاء الذين يدَّعون أنهم أخبر بالطريق منهم، وأن ولاة الأمور قلدوهم دلالة الحاج وتعريفهم الطريق، وأن دَرَكَ
(2)
ذلك عليهم.
والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم [يقصدوا]
(3)
بكلامهم الدلالة والإرشاد إلى سبيل الرشاد، صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده، فاختلفوا في الطُّرق وتشتتوا، فمنهم من سلك طُرقًا أخرى غير طُرق مكة، فأفضت بهم إلى مفاوزمُعطِشة، وأودية مهلكة، وأرض مَسبَعة
(4)
، فأهلكتهم.
وطائفة أخرى شكُّوا وحاروا، فلا
(5)
مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود، ولا لطُرق المخالفين للأدلاء اتَّبَعُوا؛ بل وقفوا مواقف التائهين
(1)
«ح» : «يدلون بهم في» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 366).
(2)
الدَّرَك: التَّبِعَة. «الصحاح» (4/ 1582).
(3)
سقط من «ح» ، وأثبته من «درء التعارض» (5/ 366).
(4)
أرض مَسبَعة بفتح الأول والثالث: كثيرة السِّباع. «المصباح المنير» (1/ 264).
(5)
«ح» : «ولا» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 366).
الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضًا جوعًا وعطشًا، كما هلك أرباب تلك الطُّرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب.
وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين: حزبًا يقولون: الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نُصبوا له دون غيرهم. وحزبًا يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق. فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال، وانتشر القيل والقال.
وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء، وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين، فهلك الحجيج، وكثر الضجيج، وعظم البكاء والنشيج، واضطربت الآراء، وعصفت الأهواء، وصار حالهم كحال قوم سَفْر نزلوا في ليلة ظلماء، فهجم عليهم عدو وهم نيام، فقاموا في ظلمة الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلًا، ولا يتَّبعون دليلًا!
وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء: خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق، ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق. فهل يكون مَن فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل، أو أرشدهم إلى اتِّباع الدليل، أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفقُ على رعيته الناصحُ لهم؟ وهل هذا مطابق لقول الدليل:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 92] وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61] وقوله: {أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67]؟ فأين النُّصح والأمانة على قول المعطلين النُّفاة؟!
فإذا قال هذا الدليل: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحاج في معرفة الطريق بعقولهم وبحثهم ونظرهم، ولا يستدلوا بكلامي؛ فهل يكون هذا دليلًا أم قاطع طريق؟!
فهذا مثال ما يقوله هؤلاء المعطلة النُّفاة في رسل الله، الذين أرسلهم الله سبحانه إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم، ويدعوهم إلى الله وإلى السبيل الموصلة إليه.
فجعل هؤلاء المعطلة الجهاد في إفساد سبيل الله جهادًا في سبيله، والاجتهاد في ردِّ ما جاءت به رسله اجتهادًا في الإيمان به، والسعي في إطفاء نور الله سعيًا في إظهار نوره، والحرصَ على ألَّا يُصدق كلامه ولا تُقبل شهادته ولا تُتبع دلالته حرصًا على أن تكون كلمة الحق هي العليا، والمبالغة في طريق أهل الإشراك والتعطيل مبالغةً في طريق التوحيد الموصلة إلى سواء السبيل [ق 84 ب]. فقلبوا الحقائق، وأفسدوا الطرائق، وأضلوا الخلائق، وعطَّلوا الخالق.
وإنما يعرف حقيقة هذا المثل ومطابقته للواقع من ضرب في الكتاب والسُّنَّة بسهمٍ
(1)
، وحصل منهما على نصيبٍ وافرٍ، واطلع على حقيقة أقوال المعطلين النُّفاة في دلائلهم ومسائلهم، ونظر إلى غايتها من خلال كلماتهم.
ومن البلية العُظمى أن كثيرًا ممَّن لهم علمٌ وفقهٌ وعبادةٌ وزُهدٌ ولسان صدقٍ في العامة، وقد ضرب في العلم والدِّين بسهمٍ؛ قد التبس عليه كثيرٌ من كلامهم، فقبله معتقدًا أنه حقٌّ، وأن أصحابه محققون! فسمع كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم والإيمان، وكلام هؤلاء وغيرهم من أهل الإلحاد،
(1)
«ح» : «نسبهم» . والمثبت هو الصواب.
فيؤمن بهذا وهذا إيمانًا مجملًا، ويُصدِّق الطائفتين، ولا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء.
فإذا سمع القرآن والحديث قال: هذا كلام الله وكلام رسوله. وإذا سمع كلام الملاحدة والمعطلة الذين حَسُنَ ظنه بهم قال: هذا كلام العارفين المحققين والنُّظارِ أصحاب العقول والبراهين. وإذا سمع كلام الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر طوائف بني آدم قال: هذا كلام أولياء الله أو كلام خاتم الأولياء، ومرتبتنا تقصر عن فهمه، فضلًا عن الاعتراض عليه.
وبالجملة فلِرسول الله صلى الله عليه وسلم أتباع خاصة وعامة، ولمسيلمة الكذاب أتباع خاصة وعامة، والله تعالى جعل للهدى أئمة وأتباعًا إلى آخر الدهر، وللضلال أئمة وأتباعًا إلى آخر الدهر.
الوجه
الحادي عشر بعد المائة: أن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام،
وهي من أعظم الكفر والإلحاد، وبطلان اللازم يستلزم بطلان ملزومه، فإن من لوازمه ألَّا يُستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علمٌ ولا هُدًى ولا بيان للحق في نفسه.
ومن لوازمه أن يكون كلامه متضمنًا
(1)
لضدِّ ذلك، ظاهرُه وحقيقته.
ومن لوازمه القدح في علمه ومعرفته، أو في فصاحته وبيانه، أو في نصحه وإرادته، كما تقدم تقريره مرارًا.
ومن لوازمه أن يكون المعطلة النُّفاة أعلم بالله منه أو أفصح أو أنصح.
ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرُّسل قد قصَّر في هذا
(1)
«ح» : «مضمونًا» . والمثبت من «م» .
الباب غاية التقصير، بل أَفرَطَ في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط، وتنوَّع فيه غاية التنوع:
فمرةً يقول: أين الله
(1)
؟ ومرةً يُقرُّ عليها لمن سأله ولا ينكرها
(2)
.
ومرةً يشير بإصبعه
(3)
، ومرةً يضع يده على عينه وأذنه حين يُخبر عن سمع الربِّ وبصره
(4)
.
ومرةً يصفه بالنزول
(5)
والمجيء والإتيان
(6)
والانطلاق
(7)
(1)
لفظ الجلالة ليس في «ح» ، وأثبته من «م» . والحديث أخرجه مسلم كما تقدم (ص 124).
(2)
في حديث أبي رزين العقيلي، تقدم تخريجه (ص 586).
(3)
في حديث جابر في حجة الوداع، تقدم تخريجه (ص 426).
(4)
في حديث أبي هريرة، تقدم تخريجه (ص 182 - 183).
(5)
أحاديث النزول متواترة، وتقدمت الإشارة إليها (ص 177).
(6)
مجيء الرب سبحانه وإتيانه ثابتان في القرآن الكريم، وقد تقدمت الإشارة إلى الآيات (ص 725).
(7)
هذا لفظٌ غريبٌ في صفات الله تعالى، وقد جاء في أثر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «فتُدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه
…
». أخرجه مسلم في «صحيحه» (191) هكذا موقوفًا. قال المصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (1/ 65 - 66): «وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا وذلك؛ يفتح لك بابًا من أسرار التوحيد وفهم القرآن، ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحدهم ولم يشركوا به شيئًا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلها أهل الشرك، حيث ذهبت كل أمةٍ مع معبودها؛ فانطلق بها، واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين الذي قرَّت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم» .
والمشي
(1)
والهرولة
(2)
.
ومرةً يُثبت له الوجه والعين واليد والإصبع والقدم والرِّجل، والضَّحك والفرح والرِّضا والغضب، والكلام والتكليم، والنِّداء بالصوت
(3)
(1)
هذا لفظٌ غريبٌ في صفات الله تعالى، وقد جاء في حديث رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قال الله تعالى: يا ابن آدم قم إلي أمش إليك، وامش إلي أهرول إليك» . أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (16171) وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 104): «رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ» . وأخرجه مسدد في «مسنده» ـ كما في «المطالب العالية» (3146) ـ موقوفًا. قال ابن حجر: «صحيحٌ موقوفٌ» ..
(2)
أخرج البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» .
(3)
أخرج البخاري في «صحيحه» (4741، 7483) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار» .
وأخرج الإمام أحمد في «المسند» (16288) والبخاري في «الأدب المفرد» (970) وفي «خلق أفعال العباد» (480) والحاكم في «المستدرك» (2/ 437، 574) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (600) والضياء في «الأحاديث المختارة» (9/ 25 - 26) وغيرهم عن القاسم بن عبد الواحد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن أنيس رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة» . وعلَّقه البخاري في «الصحيح» (9/ 141). وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال البيهقي: «هذا حديث تفرد به القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل، وابن عقيل والقاسم بن عبد الواحد بن أيمن المكي لم يحتج بهما الشيخان ـ أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ـ ولم يخرجا هذا الحديث في «الصحيح» بإسناده، وإنما أشار البخاري إليه في ترجمة الباب، واختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أو في حديثٍ صحيحٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديثه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته». وقد حسَّن الحديث: المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 404) وابن حجر في «فتح الباري» (1/ 174) وابن ناصر الدِّين في جزءٍ أفرده للكلام على هذا الحديث، وغيرهم.
والمناجاة
(1)
، ورؤية أهل الجنة له مواجهة عيانًا بالأبصار من فوقهم، ومحاضرته لهم محاضرةً، ورفع الحُجُب بينه وبينهم، وتجليه لهم، واستدعاءهم لزيارته
(2)
، وسلامه عليهم سلامًا حقيقيًّا قولًا من ربٍّ رحيمٍ،
(1)
أخرج البخاري (2441) ومسلم (2768) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته» .
(2)
أخرجه الترمذي (2549) وابن ماجه (4336) وابن حبان (7438) وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سوق الجنة. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . وقد اختلف في إسناده، وصوَّب الدارقطني وغيره أنه منقطع. ينظر:«علل الدارقطني» (1348) و «الحنائيات» (19) و «حادي الأرواح» (1/ 571 - 573).
واستماعه وأَذَنه لِحَسَنِ الصوت إذا تلا كلامه
(1)
، وخلقه ما شاء بيده، وكتابته كلامَه بيده، ويصفه بالإرادة والمشيئة والقوة والقدرة والحياة والحياء، وقبض السماوات وطيها بيده، والأرض بيده الأخرى، ووضعه السماوات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع.
وإلى أضعاف ذلك ممَّا إذا سمعه المعطلة سبَّحوا الله ونزهوه جحودًا وإنكارًا، لا إيمانًا وتصديقًا.
فما ضحك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا لقائله
(2)
يعبس منه هؤلاء إنكارًا وتكذيبًا. وما شهد لقائله بالإيمان، شهد هؤلاء له بالكفر والضلال.
وما أوصى بتبليغه إلى الأُمة وإظهاره يُوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه. وما أطلقه على ربِّه لئلا يُطْلَق عليه ضدُّه ونقيضُه، يُطْلِق هؤلاء عليه ضدَّه ونقيضَه؛ لئلا يُطْلَق هو عليه. وما نزَّه ربَّه عنه من العيوب والنقائص، يمسكون عن
تنزيهه عنه، وإن اعتقدوا أنه منزَّه عنه، ويبالغون في تنزيهه عمَّا وصف به نفسه.
فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمه بالقرآن حقيقة، وإثبات الوجه واليد والعين له = ما لا يبالغون مثله ولا قريبًا منه في تنزيهه عن الظلم والعبث
(3)
والفعل
(4)
(1)
أخرج البخاري (5024) ومسلم (792) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . ومعناه: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، أي يتلوه يجهر به. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 33).
(2)
في حديث ابن مسعود المتفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 209).
(3)
«ح» : «والعيب» . والمثبت من «م»
(4)
«ح» : «والعقل» . والمثبت من «م» .
لا لحكمة، والتكلم بما ظاهره ضلالٌ ومحالٌ.
وتراهم إذا أثبتوا أثبتوا [ق 85 أ] مجملًا لا تعرفه القلوب، ولا تُميِّز بينه وبين العدم. وإذا نفوا نفوا نفيًا مفصَّلًا
(1)
يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة.
فهذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة.
ومن لوازمه: أن القلوب لا تحبه، ولا تريده، ولا تبتهج به، ولا تشتاق إليه، ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم، كما صرَّحوا بذلك وقالوا: هذا كله إنما يصح تعلُّقه بالمحدث لا بالقديم. قالوا: وإرادته ومحبته محال، لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود، والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث.
ومن لوازمه: أعظم العقوق لأبيهم آدم، فإن من خصائصه أن الله خلقه بيده، فقالوا: إنما خلقه بقدرته، فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.
ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: جحدهم حقيقة خُلَّة إبراهيم، وقالوا: هي حاجته وفاقته وفقره إلى الله. فلم يثبتوا له بذلك مزيةً على أحدٍ من الخلق، إذ كل أحدٍ فقيرٌ إليه في كل نَفَسٍ وطرفة عينٍ.
ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، وإنما خلق كلامًا في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح، لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته، لا يُصدِّق الجهمي بهذا أبدًا.
ومن لوازمه، بل صرَّحوا به: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله حقيقةً،
(1)
«ح» : «مفصلًا نفيًا» . والمثبت من «م» .
ولم يَدْنُ من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارًا يسأل التخفيف لأمته؛ فإن «من» و «إلى» عندهم في حق الله محال فإنها تستلزم المكان ابتداءً وانتهاءً.
ومن لوازمه: أن الله سبحانه لم يفعل شيئًا، ولا يفعل شيئًا البتةَ، فإن الفعل
(1)
عندهم عين المفعول، وهو غير قائم بالرب تعالى، فلم يقم به عندهم فعل أصلًا، وسَمَّوْه فاعلًا من غير فعلٍ يقوم به، كما سَمَّوْه مريدًا من غير إرادة تقوم به، وسَمَّوْه متكلمًا من غير كلامٍ يقوم به، وسمَّاه زعيمهم ـ المستأخر عند الله وعند عباده ـ عالمًا من غير علمٍ يقوم به؛ حيث قال: العلم هو المعلوم، كما قالوا: الفعل هو المفعول.
ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يحب ولا يبغض؛ فإن ذلك من مقولة «أن ينفعل» ، وهذه المقولة لا تتعلق به، وهي في حقِّه محال؛ كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه بكون ذلك من «مقولة الأين» وهي عليه محال، ونفوا كلامه وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته وسائر صفاته لأنها من «مقولة العرض» وهي ممتنعة عليه؛ كما نفوا استواءه على عرشه لأنه من «مقولة الوضع» المستحيل ثبوتها له.
ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه، وإنما أشرنا إلى بعضها إشارةً يتفطن بها اللبيب لما وراءها، وبالله التوفيق.
الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن الرسول إذا لم يُبيِّن للناس أصول إيمانهم ولا عرَّفهم علمًا يهتدون به في أعظم أمور الدِّين، وأصل مقاصد
(1)
«ح» : «العقل» . والمثبت من «م» .
الدعوة النبوية، وأجلِّ ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركوه وحصلوه وظفروا به، وهو معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه، بل إنما بيَّن لهم الأمور العملية، كانت رسالته مقصورة
(1)
على أدنى المقصودَينِ، فإن الرِّسالة لها مقصودان عظيمان:
أحدهما: تعريف العباد ربهم ومعبودهم بما هو عليه من الأسماء والصفات.
والثاني: محبته وطاعته والتقرب إليه.
فإذا لم يكن الرسول قد بيَّن للأمة أجلَّ المقصودَينِ وأفضلهما كانت رسالته قاصرة جدًّا، فكيف إذا أخبرهم فيه بما تحيله عقولهم وأذهانهم. وإذا كان النُّفاة المعطلة قد بيَّنوا ذلك بيانًا مُفصَّلًا يجب على كل أحدٍ اعتقاده، فحينئذٍ ما أتوا به أفضل ممَّا
(2)
جاء به الرسول في القسمين، فإن النفي عندهم هو الحق، والإثبات باطلٌ. فما جاؤوا به من ذلك خيرٌ عندهم ممَّا جاء به الرسول من هذا الوجه، ومن جهة أن العلم أشرف من العمل.
ومن المعلوم أن النُّفاة المعطلة ليس فيهم أحدٌ من أئمة الإسلام ومَنْ لهم في الأمة لسان صدقٍ، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة والباطنية والإسماعيلية والنُّصيرية، وأمثالهم من ملاحدة الفلاسفة كابن سينا والفارابي وأمثالهما، وملاحدةِ المتصوفة القائلين بوحدة الوجود، كابن سبعين وصاحب «الفصوص» وصاحب «نظم السلوك»
(3)
وأمثالهم. ثم من أئمتهم من هو أمثل من هؤلاء كأئمة الجهمية، كالجهم [ق 85 ب] بن صفوان والجعد بن درهم
(1)
«ح» : «مقصودة» .
(2)
«ح» : «كما» . والمثبت هو الصواب.
(3)
هو ابن الفارض، وقد تقدم (ص 705 - 706) الكلام على «نظم السلوك» .
وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظَّام وبشر المَرِيسي وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء ممَّن هم من أجهل الخلق بما بعث الله به رسوله.
فيا للعقول! ويا للعجب! أيكون ما أتى به هؤلاء من التعطيل والنفي أكمل ممَّا أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله خاتم الرُّسل وإخوانهما من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم؟!
فإن الرسل عند النُّفاة لم يُبيِّنوا أفضل العلم والمعرفة، وإنما هم الذين بيَّنوا ذلك ودلائله تأصيلًا وتفصيلًا، وقد صرَّح ملاحدة هؤلاء بأن الرُّسل راموا إفادة ما بيَّنوا
(1)
هؤلاء الملاحدة، كما قال ابن سبعين في خطبة كتابه: «أمَّا بعد: فإني قد عزمت على إفشاء السِّرِّ
(2)
الذي رمز إليه هرامس
(3)
الدُّهور الأولية، ورامت
(4)
إفادته الهداية النبوية»
(5)
.
ويقول صاحب «الفصوص» : «إن الرُّسل يستفيدون معرفة ذلك من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه المَلَك الذي يُوحي به إلى الرسول»
(6)
.
(1)
كذا في «ح» على لغة أكلوني البراغيث.
(2)
«بد العارف» : «الحكمة» .
(3)
«بد العارف» : «هرامسة» . والهرامسة: ثلاثة من الحكماء، يزعمون أن أولهم نبي الله إدرس عليه السلام، ويلقبونه هرمس الهرامسة. ينظر «إخبار العلماء» للقفطي (ص 8، 259).
(4)
«بد العارف» : «والحقائق التي رامت» .
(5)
«بد العارف» (ص 29).
(6)
«فصوص الحكم» (1/ 62 - 63).
فهو أعلى إسنادًا من الرسول، وأقرب تلقيًا على قوله.
وطائفة من الفلاسفة تقول: «إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه» بناءً على هذا الأصل الملعون، ومن لم يصل إلى هذا ـ الذي هو غاية تحقيقهم ـ من أهل التعطيل والتجهيم ومبتدعة المتصوفين فقد شاركهم في الأصل، وقاسمهم في الربح والثمرة، والله الموفق.
الوجه
الثالث عشر بعد المائة: أن أقوال هؤلاء النُّفاة المعطلة متناقضةٌ مختلفةٌ، وذلك يدل على بطلانها وأنها ليست من عند الله.
وما جاء به الرسول متسقٌ متفقٌ، يُصدِّق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا. وهذا يدل على أنه حقٌّ في نفسه، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81].
وأنت إذا تأمَّلت مقالات القوم ومعقولاتهم وجدتها أعظم شيءٍ تناقضًا، ولا تجد أحدًا من فضلائهم ورؤسائهم أصلًا إلَّا وهو يقول الشيء ويقول ما يخالفه ويناقضه تارةً في المسألة الواحدة، وتارةً يقول القول ثم ينقضه في مسألة أخرى من ذلك الكتاب بعينه، وأمَّا قوله الشيء وقول نقيضه في الكتاب الآخر، فمن له فهمٌ واطلاعٌ على كتب القوم يعلم ذلك.
وأمَّا الجاهل المقلد فلا تعبأ به، ولا يسوءك سبُّه وتكفيره وتضليله، فإنه كنباح الكلب، فلا تجعل للكلب عندك قدرًا أن ترد عليه كلما نبح عليك، ودعه يفرح بنباحه، وافرح أنت بما فَضُلْتَ به عليه من العلم والإيمان والهُدى، واجعل الإعراض عنه من بعض شكر نعمة الله التي ساقها إليك وأنعم بها عليك.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا في هذا الموضع من تناقضهم في مسائلهم ودلائلهم في كل مسألةٍ ما يتعجب منه العاقل، ويتنبه به الغافل.
وأمَّا مناقضة بعضهم بعضًا ومعارضة بعضهم بعضًا في الأدلة والأحكام فأمر لا خفاء به. فالواحد منهم متناقض مع نفسه، وأصحابه متناقضون فيما بينهم، وهم وخصومهم في هذا الباب أشد تناقضًا، ومناقضتهم
(1)
لنصوص الوحي معلومة، وهم متناقضون لما تعلم صحته بصريح العقل، فهم في {ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا} ولكن لا يرى هذه الظلمات إلَّا من هو في نور السمع والعقل {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39].
الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل يستلزم قولهم ثلاث مقدِّمات تناقض دعواهم غاية المناقضة:
المقدمة الأولى: ثبوت الرِّسالة في نفس الأمر على قاعدة أهل الملل
(2)
، وأن الرسول جاء من عند الله برسالةٍ ليس مقدورًا لبشرٍ نيلها باكتساب ولا رياضة ولا صناعة من الصنائع.
الثانية: أنه جاء بهذا الكلام الذي ادعوا أن العقل عارضه.
الثالثة: أنه أراد به حقيقته وظاهره.
فلا تتم دعوى المعارضة إلَّا بهذه الأمور، وحينئذٍ فإمَّا أن يقر المعارض
(1)
«ح» : «مناقضا ومناقضة» .
(2)
«ح» : «الملك» .
بها أو ينكرها، فإن أقر بها ثم ادعى المعارضة كان قوله في غاية القدح
(1)
في المرسل والرسول. وإن أنكرها كان الكلام معه في أصل ثبوت الرسالة، واحتج عليه بما يُحتج على منكري النبوات.
وإن أقر بالنبوة على طريقة ملاحدة الفلاسفة ومن سلك سبيلهم [ق 86 أ] أنها مكتسبة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة يتصرف بها في العالم، وقوة يتصرف فيها في المعقولات فيشكلها في نفسه خيالات تُرى وتُسمع، وهي المسماة بالملائكة، كما يقوله شيوخ هؤلاء كابن سينا وأتباعه، ولم يمكنه أن يجزم بأن النبي عالمٌ بما يقول، معصومٌ عن الخطأ فيه، فكيف وهو يقول: إن النبي قد يقول ما يعلم خلافه = فهو لا يستفيد بخبر النبي حقًّا البتةَ، فكيف يتكلم في المعارضة التي هي فرع الاعتراف بصحة الدليل ولكن قد عارضه غيره
(2)
.
فيكون مقام هذا مقام منع لا مقام معارضة، فإما أن يمنع كون النبي عالمًا بما يقول، أو كونه جازمًا معصومًا فيه، أو كونه جاء بذلك، أو كونه أراد به خلاف ما دلَّ العقل بزعمه عليه؛ وإلَّا فمع إقراره بذلك تستحيل المعارضة؛ إذ
(3)
ترجع حقيقتها إلى أن ما جاء به حقٌّ وأنه باطلٌ، وهذا جمع بين النقيضين. فثبت أن هذه الطريقة طريقة ممانَعة
(4)
، لا طريقة معارضة، وأن دعوى المعارض تستلزم الجمع بين النقيضين. فمن لم يعلم أن الرسول
(1)
«ح» : «غاية وحالة القدح» . والكلمة الثانية زائدة أو محرفة.
(2)
جملة «ولكن قد عارضه غيره» إما أنها مقحمة أو وقع فيها سقط أو تحريف.
(3)
«ح» : «أن» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «مانعة» . ولعل المثبت هو الصواب.
معصومٌ صادقٌ فيما يُخبر به كيف تمكنه المعارضة، ومن لم يعلم أنه جاء بكذا لم تمكنه المعارضة، ومن لم يعلم أنه أراده بكلامه لم تمكنه المعارضة، ومن علم هذه الأمور الثلاثة وأقر
(1)
بها لم يمكنه المعارضة.
فبطلت دعوى المعارضة على التقريرين، وبالله التوفيق.
الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن من عرف بطلان هذه المعقولات التي يُعارض هؤلاء بها السمع امتنع عنده أن يحصل بها المعارضة لامتناع ثبوت المعارضة بين الحق والباطل، ومن اعتقد صحتها فاعتقاد صحتها عنده ملزومٌ لبطلان السمع، فيلزم من صحتها بطلانه، وتمتنع المعارضة أيضًا، فالمعارضة ممتنعة على تقدير صحتها وفسادها.
الوجه
السادس عشر بعد المائة: أن تجويز التعارض بين السمع والعقل والإيمان بالله ورسوله لا يمكن اجتماعهما البتةَ،
فإن صَحَّتِ المعارضة امتنع الإيمان، وإن صحَّ الإيمان امتنعت المعارضة. فإن الإيمان مبناه على أن الرسول صادقٌ فيما يُخبِر به عن الله، معصومٌ في خبره، وعلى أنه جاء بهذا الكتاب، وعلى أنه أراد من الأُمة أن يثبتوا حقائقه ويفهموه ويتدبروه، ولا ينفوا حقائق ما أخبر به، ويُقِرُّوا بلفظه، فلا يمكن وجود الإيمان بالرسول إلَّا بهذه الأصول الثلاثة.
فإذا جوَّزنا معارضة العقل الصريح لما جاء به لزم القدح والطعن فيها أو في بعضها، والطعن في الأمرين الأولين مناقضٌ للإيمان بالذات، والطعن في الثالث يستلزم الطعن فيهما؛ إذ غايته الاعتراف بأنه جاء بهذه الألفاظ ولم
(1)
«ح» : «استقر» . ولعل المثبت هو الصواب.
يجئ بحقائقها ومعانيها، وهذا جحدٌ لما أُرسل به حقيقةً. فثبت أن الإيمان وهذه المعارضة لا يجتمعان أبدًا. ويوضحه:
الوجه السابع عشر بعد المائة: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم: إمَّا أن تردوا هذه النصوص وتكذبوها، وإمَّا أن تصدقوها وتقبلوها. والأول إلحادٌ وكفرٌ ظاهرٌ.
وإن قبلتموها فإمَّا أن تعتقدوا أن الرسول أراد حقائقها ومعانيها المفهومة منها أو لا، فإن اعتقدتم أنه أراد حقائقها فإمَّا أن تعتقدوا ثبوت تلك الحقائق في نفس الأمر أو انتفاءها أو تشكون في الأمر، ولا ريب أنه مع اعتقاد ثبوت تلك الحقائق تمتنع المعارضة، وأنه مع الشك تمتنع المعارضة. فلا تمكن المعارضة إلَّا على تقدير العلم بانتفاء تلك الحقائق في نفس الأمر، وحينئذٍ فإذا أراد إفهامها فقد أراد إفهام خلاف الحقِّ، فإمَّا أن توافقوه في مراده وتمنعوا تأويلها بما يخالف حقائقها لأنه مناقضة لمراده، وإمَّا أن توجبوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ومعانيها المفهومة منها.
والأول يستلزم الإقرار على الباطل، وإفهام أقبح الكذب، وهو الكذب على الله وأسمائه وصفاته، وهذا يرجع على أصل الرسالة ومقصودها
(1)
بالإبطال، فلم يبق إلَّا التأويل. ولا يمكنكم سلوك طريقه؛ لأنكم تناقضون فيه أقبح التناقض، فإنكم إمَّا أن تتأولوا الجميع، وليس في المنتسبين إلى القبلة من يجوِّز ذلك ولا يمكنه، وإمَّا أن تتأولوا البعض دون البعض، فيقال لكم: ما الفرق بين ما جوَّزتم تأويله فصرفتموه عن حقيقته ومعناه الظاهر منه
(1)
«ومقصود لها» . ولعل المثبت هو الصواب.
وبين ما أقررتموه على حقيقته؟
فإن قلتم ما يقوله جمهوركم: إن ما عارضه عقليٌّ قاطعٌ تأولناه، وما لم يعارضه عقليٌّ قاطعٌ أقررناه.
قيل لكم: فحينئذٍ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيءٍ، [ق 86 ب] فإنكم لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية ـ كما تقدم ـ؛ إذ غاية ما معكم نفي العلم بها، وعدم العلم لا يستلزم عدم المعلوم. وأيضًا فمعقولات الناس ليست على حدٍّ واحدٍ، فهب أن معقولاتكم ليست تعارض ما أقررتموه فقد ادَّعى غيركم أن معقولاته تعارضها، وبيَّن تلك المعارضة بمقدمات أقوى من مقدماتكم التي عارضتم بها ما تأولتموه ومثلِها.
وأيضًا فعدم العلم بالمعارض العقلي القطعي لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنكم إذا جوَّزتم على الرسول أن يقول قولًا له معنًى وهو لا يريده ـ لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر ببال الخلق في قرونٍ كثيرةٍ ما يخالف ذلك ـ جاز أن يريد بما أقررتموه ما يخالف مقتضاه، وعدم العلم بما يعارضه من العقليات لا يستلزم عدم المعارض في نفس الأمر، وهذا ممَّا لا جواب لكم عنه.
فإن قلتم: نتأول ما [لا]
(1)
يُعلم بالاضطرار أنه جاء به وأراده، وما عُلم بالاضطرار أنه جاء به وأراد معناه أقررناه.
قيل لكم: فخصومكم من أهل الباطل يقولون لكم فيما أقررتموه: نحن لم نعلم أنه جاء بهذا ولا أراد معناه، كما قلتم أنتم فيما تأولتموه سواء.
(1)
سقط من «ح» .
فدعواكم من جنس دعواهم، لا فرق بينهما، فما الذي جعل قولكم أولى بالصواب من قولهم؟
وأتباع الرسول وحزبه العالمون بما جاء به ـ الذين هم خاصته ـ يعلمون بالاضطرار من دينه أنه جاء بما يخالف تأويلاتكم وتأويلات إخوانكم، ويعلمون بالضرورة أنها مناقضةٌ لما جاء به مناقضةً ظاهرةً، ولا يدَّعون عليكم أنكم تعلمون ذلك؛ فإنكم لا علم لكم بما جاء به، وأنتم من أبعد الناس عنه. فإذا قلتم: لا نعلم أنه جاء به صدَّقوكم في ذلك، ولكن جهلكم بما جاء به وإعراضكم عنه، لا يوجب مشاركتهم لكم في هذا الجهل.
فالمثبتون لعلوِّ الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلمه بالقرآن حقيقة، وتكليمه لعبده موسى حقيقة منه إليه بلا واسطةٍ كلامًا أسمعه إياه، وتكليمه عباده في الآخرة، وتكليمه ملائكته، وإثبات صفاته، ورؤية المؤمنين له في الجنة من فوقهم عيانًا جهرة بأبصارهم = يعلمون أن نبيَّهم جاء بذلك ضرورةً، كما أنه جاء بالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش، فكيف تنكرون ذلك لعدم علمكم؟
ولما علم أئمة هؤلاء وفضلاؤهم أن هذا لازم لا محالة صرحوا بأنه لا يُستفاد من السمعيات علمٌ ولا يقينٌ؛ إذ هي موقوفة على أمور عشرة، ومنها نفي المعارض العقلي، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه، وهذا أتم ما يكون من عزل الرسول عن موجب رسالته، وبالله التوفيق.
الوجه الثامن عشر بعد المائة: أن هؤلاء المُعرِضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلَّا طريقان: إمَّا طريق النظار وهي
الأدلة القياسية العقلية، وإمَّا طريق الكشف وما يدرك بالرياضة وصفاء الباطن.
وكل من هاتين الطريقتين باطِلُه أضعاف حقِّه، وفيها من التناقض والاضطراب والفساد ما لا يُحصيه إلَّا رب العباد. ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك، وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح. فغاية أولئك عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء التصديق بالباطل. وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم، وحال هؤلاء
(1)
تشبه حال الضالين. ونهاية أولئك التعطيل والنفي، ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد.
ولهذا لمَّا وصل حُذَّاقهم في طريقة النظر إلى آخرها ورأوا غوائلها وآفاتها ورأوها لا توصل إلى المطلوب الصحيح رجعوا إلى طريقة الوحي والآثار النبوية، كما صرَّح به الرازي
(2)
وابن أبي الحديد
(3)
وأبو حامد
(4)
وأبو المعالي
(5)
وغيرهم، واعترفوا في آخر الأمر بأن الطرق كلَّها مسدودة إلَّا طريقة الوحي والأثر.
الوجه
التاسع عشر بعد المائة: أن يقال لمن جوَّز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل: ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا؟
هل تبادر إلى ردِّه وإنكاره؟ أم إلى قبوله واعتقاده؟ أم تتوقف
(1)
«ح» : «أولئك» .
(2)
تقدم (ص 17) قوله.
(3)
تقدم (ص 371) قوله.
(4)
تقدم (ص 17) قوله.
(5)
تقدم (ص 17) قوله.
فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده؟ أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط، وتقول: أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده؟
فلا بد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة، فالأول والثالث والرابع مناقضٌ للإيمان بالرسول مناقضةً صريحةً، [ق 87 أ] والثاني
(1)
لا سبيل لك إليه؛ لأنك قد جوَّزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به، فكيف تجزم مع ذلك بصحته! فالقسم الإيماني قد سددتَ طريقه على نفسك، والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان. وهذا إنما نشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به. يوضحه:
الوجه العشرون بعد المائة: أن كل من لم يُقرَّ بما جاء به الرسول إلَّا بعد أن يقوم على صحته عنده دليلٌ منفصلٌ من عقلٍ أو كشفٍ أو منامٍ أو إلهامٍ لم يكن مؤمنًا به قطًعا، وكان من جنس الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اُللَّهِ} [الأنعام: 125] بل قد يكون هؤلاء خيرًا منهم من وجهٍ، فإنهم علقوا الإيمان بأن يُؤتَوا سمعًا مثل ما أوتيه الرُّسل، وهؤلاء علَّقوا الإيمان على قيام دليلٍ عقليٍّ على صحة ما أخبروا به، وإذا كان مَن فعل هذا ليس بمؤمنٍ بالرُّسل، فكيف من عارض ما جاؤوا به بمعقوله ثم قدَّمه عليه؟!
الوجه
الحادي والعشرون بعد المائة: أن حال هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل ضدُّ حال أهل الإيمان من كل وجهٍ،
فإن الله سبحانه أخبر عن أهل الإيمان بأنهم كلما سمعوا نصوص الوحي زادتهم إيمانًا وفرحًا
(1)
«ح» : «الثانية» .
واستبشارًا، وأن الذين في قلوبهم مرضٌ وريبٌ يزيدهم رجسًا إلى رجسهم، ويودون أنها لم تنزل. قال الله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (125) وَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125 - 126].
وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر إلى وجوه القوم وشمائلهم عند استماع آيات الصِّفات وأخبارها، كيف تجدهم ورثة الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَراكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ اَنصَرَفُوا صَرَفَ اَللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 128].
وقال تعالى: {وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 37]. وهؤلاء يسوءهم ما يخالف قواعدهم الباطلة ممَّا أنزل إليه.
وقال تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. وهؤلاء في أعظم الريب في أشرف ما جاء به الرسول.
ومن جوَّز أن يكون فيما أخبر به ما يُعارضه صريح المعقول لم يزل في ريبٍ من ثبوت ما أخبر به، ولا يزال بنيانهم
(1)
لتلك القواعد التي بنوها ممَّا يُعارض ما جاء به الرسول {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 111].
وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا اُلْأَلْبَابِ} [الرعد: 21]. وهؤلاء يرون أن أشرف ما أُنزل إليه
(1)
«ح» : «بنيانه» .
يخالفه صريح العقل.
وقال تعالى: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه وأجلَّه يخالف المعقول
(1)
ويهدي إلى التشبيه والتجسيم والضلال.
الوجه الثاني والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين. ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم. قال الرازي في «نهايته»
(2)
: «فصل في تزييف الطُّرق الضعيفة وهي أربع
…
»، فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات، ثم قال
(3)
: «والرابع هو التمسك بالسمعيات» .
وهذا تصريحٌ بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة، وأخذ في تقرير ذلك فقال
(4)
: «المطالب على أقسام ثلاثة: منها: ما يستحيل [حصول]
(5)
العلم بها بواسطة السمع، ومنها: ما يستحيل [حصول]
(6)
العلم بها إلَّا من السمع، ومنها: ما يصح حصول العلم بها من السمع تارةً، ومن العقل أخرى».
(1)
«ح» : «للمعقول» .
(2)
«نهاية العقول» (1/ 124 - 142) مطولًا جدًّا.
(3)
«نهاية العقول» (1/ 142).
(4)
«نهاية العقول» (1/ 142).
(5)
من «نهاية العقول» .
(6)
من «نهاية العقول» .
قال
(1)
قال
(2)
: «وأمَّا القسم الثاني فهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر، إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيءٍ من حواسه، فإن حصول
(3)
غراب على قُلَّة
(4)
جبل قاف
(5)
إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقًا، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلًا، وهو غائب
(6)
عن الحسِّ والنفس، استحال العلم بوجوده إلَّا من قول [ق 87 ب] الصادق.
وأمَّا القسم الثالث: وهو معرفة وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، أو استحالة المستحيلات، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل مسألة الرُّؤية والصفات والوحدانية وغيرها
…
» ثم عدَّد أمثلة
(7)
.
(1)
«نهاية العقول» (1/ 142).
(2)
«نهاية العقول» (1/ 142 - 143).
(3)
كذا في «ح» ، «م». وفي «نهاية العقول»:«جلوس» .
(4)
القلة: أعلى الجبل. «الصحاح» (5/ 1804).
(5)
جبل قاف ذكر بعض المفسرين وغيرهم أنه جبل محيط بالأرض، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (7/ 394):«وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يُصدق ولا يُكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلبِّسون به على الناس أمر دينهم» .
(6)
«ح» : «غرائب» . والمثبت من «م» و «نهاية العقول» .
(7)
كذا في «ح» ، «م» . وليس في «نهاية العقول» بعده أي أمثلة، وكأن المصنِّف أخذه مما فهمه من كلام شيخه ابن تيمية، فإنه عقب في «درء التعارض» (5/ 330) على كلام الرازي هذا بقوله:«قلت: ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال» . ففهم أنه عدد بعده أمثلة، والله أعلم.
ثم قال
(1)
: «إذا عرفت ذلك فنقول: أمَّا أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا وقع الدور
(2)
. وأمَّا أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف. وأمَّا القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال، وذلك لأنَّا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي؛ لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل، وإمَّا أن يُؤول النقل، فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلَّا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلَّا العقل، فحينئذٍ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذًا لا يكون النقل
(3)
مقطوع الصحة.
فإذًا تصحيح النقل بردِّ العقل يتضمن القدح في النقل، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلًا، وتعين تأويل النقل. فإذًا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلَّا بشرط ألَّا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيدًا للمطلوب إلَّا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما
(1)
«نهاية العقول» (1/ 143 - 145).
(2)
الدور: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. «التعريفات» (ص 47). وقيل: هو علاقة بين شرطين يتوقف ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر. «المعجم الفلسفي» (1/ 567).
(3)
«ح» ، «م»:«العقل» . والمثبت من «نهاية العقول» .
يقتضي خلاف ظاهره. ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلَّا من وجهين:
إمَّا أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلًا غير محتاج إليه.
وإمَّا بأن نزيف أدلة المنكرين لما دلَّ عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيفٌ لما بيَّنا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه ألَّا يكون هناك معارض أصلًا، إلَّا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه
(1)
، ولكنا زيَّفنا هذه الطريقة ـ يعني: انتفاء الشيء لانتفاء دليله ـ أو نقيم
(2)
دلالةً قاطعةً على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النصِّ، ولا المقدمة الأخرى، وحينئذٍ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدةٍ من هذه المقدِّمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.
فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك، فإذًا الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل عقلي، وكل ما يبتنى صحته على ما لا يكون يقينًا لا يكون هو أيضًا يقينًا، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدًا لليقين».
قال: «وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدِّمات لا يُكتفى فيها بألَّا يُعلم فسادها، بل لا بد وأن يُعلم بالبديهة صحتها، أو
(3)
يُعلم بالبديهة لزومها ممَّا عُلم صحته بالبديهة، ومتى كان كذلك استحال أن يُوجد
(1)
بعده في «ح» : «على» . وهي زائدة.
(2)
«ح» : «ويقيم» . والمثبت من «م» و «نهاية العقول» .
(3)
«ح» : «إذ» والمثبت من «نهاية العقول» .
ما يُعارضه؛ لاستحالة التعارض في العلوم البديهية».
ثم قال
(1)
: «فإن قيل: إن الله سبحانه لمَّا أسمع المكلف الكلام الذي يُشعر ظاهره بشيءٍ، فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يُخطِر ببال المكلف ذلك الدليل، وإلَّا كان ذلك تلبيسًا من الله تعالى، وإنه غير جائز.
قلنا: هذا بناء على قاعدة الحُسن والقُبح، وأنه يجب على الله سبحانه شيءٌ، ونحن لا نقول بذلك. سلمنا
(2)
ذلك، فلِمَ قلتم: إنه يجب على الله أن يُخطِر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟ وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسًا على المكلف لو أسمعه كلامًا يمتنع عقلًا أن يريد به إلَّا ما أشعر به ظاهره. وليس الأمر كذلك؛ لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر [ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر]
(3)
فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير
(4)
واقعًا من المكلف لا من قِبَل الله تعالى، حيث قطع لا في موضع القطع.
فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون مُلبِّسًا».
(1)
«نهاية العقول» (1/ 145 - 146).
(2)
«نهاية الإقدام» : «ثم إن سلمنا» .
(3)
ليس في «ح» ، «م» . وأثبته من «درء التعارض» (5/ 334) و «نهاية الإقدام» .
(4)
«نهاية الإقدام» : «التقدير التقصير» .
قال
(1)
: «فخرج ممَّا
(2)
ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية. نعم، يجوز التمسك بها في المسائل النقلية، تارةً لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع [ق 88 أ] وخبر الواحد، وتارةً لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية». انتهى.
فليتدبَّر المؤمن هذا الكلام، وليرُدَّ أوله على آخره وآخره على أوله ليتبيَّن له ما ذكرناه عنهم من العزل
(3)
التام للقرآن والسُّنَّة عن أن يستفاد منهما علمٌ أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يُحتج بكلام الله ورسوله في شيءٍ من هذه المسائل.
وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق، وتوريطهم في طُرق الضلال، وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال.
وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يُحتج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثلَ الإخبار بأن على قُلَّة جبل قاف غُرابًا صفته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد.
وأن مقدِّمات أدلة القرآن والسُّنَّة غير معلومةٍ ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو ـ صاحب المنطق ـ والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعيةٌ معلومة الصحة.
(1)
«نهاية العقول» (1/ 146).
(2)
«ح» : «ما» . والمثبت من «م» ، «نهاية العقول» .
(3)
«ح» : «العدل» . والمثبت من «م» .
وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة؛ لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه، وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضلة لا يُحتاج إليها، بل هي مستغنًى عنها إذا كان موافقًا للعقل.
فتأمَّل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصَّلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدمًا منه لقواعد الدِّين، وأشد مناقضةً منه لوحي ربِّ العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرُّسل، وعند جميع أهل الملل.
وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هي قليلٌ من كثيرٍ ممَّا يدل على بطلانه. ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به. وتمام إبطاله أن نُبيِّن
(1)
فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل وأنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي، والله يعلم أنَّا عازمون على ذلك وبيانه على التفصيل في جميع أدلتهم إن ساعد التوفيق. ويجب على كل مؤمنٍ بالله ورسوله أن يعتقد ذلك جملةً، وإن لم يُحط
(2)
به تفصيلًا، ولا يضع قدمه في أول درجة من درجات الإيمان إلَّا بذلك. والمقصود أن مناقضة هذا الأصل الإيمان بالله ورسوله كمناقضة أحد الضدَّين للآخر، وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والعشرون بعد المائة: أن يقال: كل ما أخبر به الرسول عن الله سبحانه إثباتًا ونفيًا فهو واجب عليه وممتنع عليه، أو ما أثبته له فهو كمالٌ،
(1)
«ح» : «يتبين» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يحيط» .
والكمال كله واجبٌ له، وما نفاه عنه فهو نقصٌ، والنقائص كلها ممتنعة عليه.
وقد صرَّح هؤلاء بأن ما يجب لله ويمتنع عليه لا تمكن استفادته من الرسول؛ لأنه إن أخبر بما يخالفه العقل من ذلك لم يجز إثباته، ولم يلتفت إلى خبره فيه. وإن أخبر بما يدل عليه العقل كان الاستدلال بخبره فضلةً غير محتاجٍ إليها، لا سيما وقد صرَّحوا بأنه ليس في حقِّ الربِّ ما يمكن أن يوصف به وما لا يمكن، بل إمَّا واجبٌ وإمَّا محالٌ، والعلم بوجوب الواجبات واستحالة المحالات لا يتوقف على السمع، ولا يحتاج إليه فيه.
وهذا تصريحٌ بأنه لا يُحتج بكلام الله ورسوله على شيءٍ من هذه المسائل، ولا يُصدَّق بشيءٍ من خبر الرسول عن ذلك لكونه أخبر به؛ بل لكون العقل دلَّ عليه، وذلك يستلزم الكفر
(1)
والإلحاد والزندقة. وهذا لازمٌ لكل من سلك هذه الطريق؛ لأنه إذا جوَّز المجوِّز أن يكون في الأدلة العقلية التي يجب اتباعها ما يناقض ما أخبر الله به ورسوله ـ من ذكر صفاته سبحانه وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والمعاد والعقوبات التي أخبر بها عن الأمم والمعجزات التي أيَّد بها أنبياءه ورسله ـ لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيءٍ كما أخبر به الرسول إذ
(2)
لم يعلم انتفاء المعارض. ولا طريق له إلى ذلك إلَّا أن يحيط علمًا بكل ما يخطر ببال بني آدم في كل وقتٍ ممَّا يُظن أنه دليلٌ عقليٌّ، وهذا أمر لا ينضبط وليس له حدٌّ، فلا تزال الشُّبه العقلية تتولد في نفوسهم تولد الوساوس والخطرات [ق 88 ب] وحديث النفس. وقد اعترف هؤلاء بأنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض على التفصيل، وحينئذٍ
(1)
«ح» : «للكفر» .
(2)
«ح» : «أو» . ولعل المثبت هو الصواب.
فلا يمكن الجزم بانتفاء المعارض أبدًا، فلا يمكن الجزم بشيءٍ ممَّا أخبر به الرسول أبدًا إن لم يكن في العقل الصريح ما يقتضي ثبوته. وحقيقةُ هذا سلبُ الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه.
فهذا الأصل الباطل الجائر الظالم مستلزمٌ للزندقة والإلحاد، فمن طرده أدَّاه إلى الكفر والنفاق والزندقة، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح. ومن هذا
(1)
دخلت الملاحدة والقرامطة والباطنية على كل فرقةٍ من الطوائف الذين وافقوهم على هذا الأصل أو على بعض شُعبه، حتى إن من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى طرده إن أمكنهم وإلَّا رضوا منه بما وافقهم فيه.
الوجه الرابع والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء يعيبون أهل السُّنَّة والحديث المتمسكين بها التاركين لما خالفها بالتقليد، وأنهم
(2)
يأخذون ما يعتقدونه مُسلَّمًا من غير قيام برهانٍ عقليٍّ على اعتقاده.
فإن كان تمسكهم بكلام المعصوم تقليدًا، واقتداؤهم
(3)
بآثار أصحابه تقليدًا؛ فهم لا ينكرون هذا التقليد، ولا ينفرون عن عيبهم به. ولكن العيب كل العيب تقليد المشركين وعُبَّاد الأصنام والمجوس والهند والصابئين عبدة الكواكب والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر، فإن مقدمات هذه الأدلة العقلية التي عارضوا بها النصوص وقدموها عليها متلقاة عن هؤلاء، فخَلَفهم مقلِّدون لسلفهم، إذا حاققتهم
(1)
كذا في «ح» ، ولعل الصواب:«هنا» .
(2)
«ح» : «وأنها» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «وأووهم» . ولعل المثبت هو الصواب.
عليها وطلبت منهم البرهان على صحتها، قالوا
(1)
: هكذا قال العقلاء أرباب المعقولات. وسلفهم ليسوا فيها على بصيرةٍ، بل على خَرْصٍ وحَدْسٍ وتخمينٍ، فالسلف خرَّاصون، والخلف عُميٌ مقلدون.
وإذا تأملها اللبيب العاقل الفطن وجدها مبنيةً على ألفاظٍ مجملةٍ ومعاني مشتبهة، متى استفسرتهم عن معانيها وفصَّلت مجملها تجدها دعاوى كاذبة، تتضمن الجمع بين المختلفات، والتفريق بين المتماثلات:
فيجمعون بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصِّفات، ويفرقون بين المثلينِ من كل وجهٍ بالدعاوى الكاذبات.
ويثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون الشيء ويثبتون ملزومه.
ويقدحون في الضروريات بالقضايا الوهميات.
ويجعلون الذهني خارجًا، ويصفون الوجود الخارجي بما ينافي وجوده، وواجب الوجود بما يجعله ممتنع الوجود.
ويجردون الماهية عن صفاتها التي لا تحقق إلَّا بها، ثم يجعلون الصفة هي الذات.
ويجعلون العاقل والمعقول والعقل شيئًا واحدًا.
ويجعلون العلم هو نفس المعلوم، والفعل هو عين المفعول.
وواجب الوجود الذي يمتنع عدمه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بغير شرط الذي يمتنع وجوده
(2)
.
(1)
«ح» : «قال» .
(2)
كذا في «ح» والعبارة مختلة، والذي في «درء التعارض» (5/ 313):«وهذا يقول: وجوده وجود مطلق: إما بشرط الإطلاق، وإما مطلقًا لا بشرط، وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه، وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات» .
إلى أضعاف أضعاف ذلك من مقالاتهم التي هي عند من فهمها وعرف مضمونها
(1)
ضحكةٌ للعاقل تارةً، وأعجوبةٌ له تارةً، ومغضبةٌ له تارةً.
ومثل هذه المعقولات لو
(2)
تصرف بها الرجل في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسد التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات ربِّ البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه؟!
وإنما عظمت الشبهة بذلك بأن أقوامًا لهم نوع ذكاءٍ تميزوا
(3)
به في أنواع من العلوم، ولم تكن لهم خبرة بالأمور الإلهية كخبرتهم بتلك العلوم، فخاضوا فيها بعقولهم، وظنُّوا أنهم يبرزون فيها كما برزوا في تلك العلوم، وظنَّ المقلدون لهم ذلك أيضًا، فرُكِّب من ظنِّهم وظنِّ مقلَّدهم اعتقادها والدعوة إليها، وإساءةُ الظن بما خالفها. ثم إنهم رأوا النصوص واقفة في طريقها، فقاموا لها وقعدوا، وجدوا في دفعها واجتهدوا، فتارةً سطوا عليها بالتأويل، وتارة نسبوا من تكلم بها إلى قصد التخييل، ودفعوا بجهدهم في الصدور منها والأعجاز، وقالوا: لا مقام لك عندنا ولا عبور لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز!
(1)
«ح» : «ستمونها» . ولعل المثبت هو الصواب، والذي في «درء التعارض» (5/ 314):«حقيقة قول أصحابها» .
(2)
«ح» : «لم» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 314).
(3)
«ح» : «تميزون» . والمثبت من «درء التعارض» (5/ 314).
وتارةً قالوا: هذه أخبار آحاد، والمسألة [ق 89 أ] من المسائل العلمية.
وإن كان قرآنًا أو خبرًا متواترًا قالوا: تلك أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين، وغايتها إفادة الظن والتخمين.
وإن أعجزهم ذلك أو طال عليهم طريقه لجؤوا إلى القانون المجتث لقواعد الإيمان، الكفيل بالإلحاد والكذب والبهتان، الذي جعلوه أصلًا لتقديم آرائهم الباطلة على السُّنَّة والقرآن، وقالوا: قد تعارض العقل والنقل ولا سبيل إلى الجمع، وتقديمُ النقل قدحٌ في العقل، فتعيَّن تقديم العقل بهذا البرهان.
والمقصود أنك إذا حققت الأمر على هؤلاء المعارضين لم يكن عندهم إلَّا الرجوع إلى تقليد أسلافهم الماضين، وقولهم: هذه أمور عقلية قد صقلتها الأذهان منذ دهر وزمان.
وإذا دعوتهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله دعوك إلى قول أرسطو عابد الأوثان، وإلى ما أصَّله من منطق اليونان. وإن أحسنوا دعوك إلى أصول جهم بن صفوان، وقول الجعد بن درهم معلِّم مروان، الذي ضحَّى به خالد بن عبد الله القسري يوم ذبائح القربان. وإن زادوا في الإحسان دعوك إلى قول أبي الهذيل العلَّاف و [أبي]
(1)
يعقوب الشحَّام وإبراهيم النظَّام وأبي علي وأبي هاشم الجبائيان
(2)
، فإنهم تلقوا كلمات هؤلاء يدرسونها لا كدرس القرآن، ويحاربون بها أهل العلم والإيمان، ويحرفون بها التنزيل
(1)
سقط من «ح» ، وتقدم (ص 464) ذكر أبي يعقوب الشحام.
(2)
كذا في «ح» في موضع «الجبائيين» .
عن مواضعه إذا عجزوا عن الليِّ والكتمان، وآخر أمرهم أن يصلوا إلى: هكذا قال فلان وهكذا قال فلان! فإذا ذكرت لهم الحجة الصحيحة التي يقبلها العقل وفطرة الإنسان، قالوا: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل وأبي علي وابنه وأمثالهم أن يخفى عليهم مثل هذا، وهم أهل العقل والحجة والبرهان؟!
هذا وهم يرون تعصبًا وجهلًا تقليدَ من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلَّا وحي يوحى، ومن قام الدليل على عصمته وعلمه ومعرفته وصدق اللهجة منه واللسان. فما أشبههم بإبليس أبي الجان، حين استكبر عن السجود لآدم ورضي أن يكون قوادًا لأهل الفسوق والعصيان.
وما أشبههم بأعداء الرسل إذ أنفوا أن ينقادوا لرسول من نوع الإنسان، ثم رضوا بعبادة
(1)
الشيطان والأوثان والصلبان والنيران، وسلكوا سبيل هؤلاء في تنزيه الربِّ تعالى عن صفات كماله خشية التجسيم والتشبيه المستلزم عندهم للنقصان، ثم شبهوه بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات التي لا تدخل تحت قضايا الإمكان. فنزهوه خشية الحصر عن استوائه على عرشه الذي هو فوق جميع الأكوان، ثم قالوا: هو في كل مكان. فيا للعقول! أيُّ الأمكنة أشرف وأجلًّ: أعرش الوحي أم الآبار والأنجاس والمواطن التي يرغب عن ذكرها كل إنسان؟! فاسأل مقلِّب القلوب أن يثبت قلبك على دينه الذي أرسل به رسوله وأنزل به الفرقان، وألَّا يزيغه بعد أن هداه عن سبيل الهدى والإيمان، وقل: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث وعليك التكلان.
(1)
«ح» : «فعبادة» . والمثبت هو الصواب.
الوجه
الخامس والعشرون بعد المائة: أن الدِّين تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر.
وكلٌّ منهما نوعان: مطلقٌ ومقيدٌ.
فالمقيد مثل أن يقول: لا أصدقه إلَّا فيما علمت صحته بعقلي أو فيما [لا]
(1)
يخالف عقلي أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي.
والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظَّه وهواه، فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظَّه وهواه عليه. فهذا غير مطيعٍ للرسول في الحقيقة، بل هو متبعٌ لهواه، كما أن ذاك غير مصدقٍ له في الحقيقة، بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله لا لكونه قاله، كما أن مطيعه فيما وافق هواه إنما هو متبعٌ لما يحبه ويهواه، فإن جاء الأمر بما يهواه فعله، وإلا لم يفعله. وهذا حال أكثر الناس، وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم:{* قَالَتِ اِلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ اِلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اُللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَئْلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 14].
ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
فالتصديق والطاعة لا يكون إيمانًا حتى يكون مطلقًا، فإذا تقيَّد فأعلى أحواله ـ إن سلم من الشك ـ أن يكون إسلامًا، [ق 89 ب] ويكون صاحبه من عوام المسلمين، لا من خواص المؤمنين.
(1)
سقط من «ح» .
الوجه
السادس والعشرون بعد المائة: أن السمع حجة الله على خلقه، وكذلك العقل.
فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركَّب فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من السمع. والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه، وكذلك العقل مع السمع. فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض، ولكن تتوافق وتتعاضد. وأنت لا تجد سمعًا صحيحًا عارضه معقولٌ مقبولٌ عند كافة العقلاء أو أكثرهم، ولا تجده ما دام الحق حقًّا والباطل باطلًا، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح، ويشهد ببطلانه. وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألةٍ عُورض فيها السمع بالمعقول، ونحن نذكر من ذلك مثالًا واحدًا يُعلم به ما عداه.
فنقول: قالت الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر، معطلة الصِّفات المكذِّبة بالقدر: صِدْقُ الرَّسول موقوفٌ على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على العلم بأن الله لا يُؤيِّد الكذاب بالمعجزة، والعلم بذلك موقوفٌ على العلم
(1)
بقبحه، وعلى أن الله لا يفعل القبيح، وتنزيهُه عن فعل القبيح موقوفٌ على العلم بأنه غنيٌّ عنه عالمٌ بقبحه، والغنيُّ عن القبيح العالمُ بقبحه لا يفعله، وغناه عنه موقوفٌ على أنه ليس بجسمٍ، وكونُه ليس بجسمٍ موقوفٌ على عدم قيام الأعراض والحوادث به، وهي الصِّفات والأفعال، ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث الأجسام، والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
(1)
«ح» : «الصحة» . والمثبت من «م» .
وأيضًا فإنها لا تخلو عن الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين؛ فهي حادثة، فإذا لم تَخْلُ الأجسام عنها لزم حدوثها.
وأيضًا فإن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
(1)
، والمركب مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلَّا حادثًا مخلوقًا.
وأيضًا فالأجسام متماثلة، كل ما صحَّ على بعضها صحَّ على جميعها، وقد صحَّ على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق، فيجب أن يصح على جميعها.
قالوا: وبهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم، ونفي كون الصانع جسمًا، وإمكان المعاد، فلو بطل الدليل على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على إثبات الصانع وصدق الرسول. فصار العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفًا على نفي الصِّفات والأفعال، فإذا جاء في السمع ما يدل على إثبات الصِّفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه، ويُعلم أن الرسول لم يُرد إثبات ذلك؛ لأن إرادته لإثباته تنافي تصديقه، ثم إمَّا أن يُكذِّب الناقل، وإمَّا أن يَتأول المنقول، وإمَّا أن يُعرِض عن ذلك جملةً كافةً، ويقول: لا نعلم المراد.
فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم، ولم يُقيَّض لهم من يُبيِّن لهم فساد هذا الأصل وبطلانه، ومخالفته لصريح العقل. بل قُيِّض لهم من المنتسبين إلى السُّنَّة من وافقهم عليه، ثم أخذ يُشنع عليهم القول بنفي الصِّفات والأفعال، وتكليم الربِّ لخلقه، ورؤيته في الدار الآخرة، وعلوه
(1)
«م» : «الفرد» .
على خلقه، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى سماء الدنيا، فأضحكهم عليه، وأغراهم به، ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله. والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء وبغيهم وظلمهم، وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل، ثم تكفيرهم وتبديعهم في القول بفروعه ولوازمه.
وهذه الطريق من الناس من يظنها من لوازم الإيمان، وأن الإيمان لا يتم إلَّا بها، ومن لم يعرف ربَّه بهذه الطريق لم يكن مؤمنًا به، ولا بما جاء به رسوله. وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشعرية، بل أكثرهم، وكثيرٌ من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، وكثيرٌ من أهل الحديث والصوفية.
ومن الناس من يقول: ليس الإيمان موقوفًا عليها، ولا هي من لوازمه، وليست طريقة الرُّسل، ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل، وإن لم يعتقد بطلانها. وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه، فإنه صرَّح بذلك في «رسالته إلى أهل الثغر»
(1)
وبيَّن أنها طريقةٌ خطرةٌ مذمومةٌ محرمةٌ، وإن كانت غير باطلة، ووافقه على هذا جماعةٌ من أصحابه من أتباع الأئمة.
وقالت طائفة أخرى: بل هي طريقٌ في نفسها متناقضةٌ مستلزمةٌ لتكذيب الرسول [ق 90 أ] لا يتم سلوكها إلَّا بنفي ما أثبته، وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد. فإن هذه الطريقة لا تتم إلَّا بنفي سمع الربِّ وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه، فضلًا عن نفي علوه على خلقه، ونفي الصِّفات الخبرية من أولها إلى آخرها، ولا تتم إلَّا بنفي
(2)
أفعاله جملةً وأنه لا يفعل
(1)
(ص 185 - 192).
(2)
«ح» : «نفي» . والمثبت من «م» .
شيئًا البتةَ إذ لم يقم
(1)
به فعلٌ، وفاعلٌ بلا فعل محالٌ في بدائه العقول.
فلو صحتْ هذه الطريق نفتِ الصانع، وصفاته وأفعاله، وكلامه، وخلقه للعالم، وتدبيره له. وما يثبته أصحاب هذه الطريق من ذلك لا حقيقة له، بل هو لفظٌ لا معنى له. فأنتم تثبتون ذلك
(2)
وتُصرِّحون بنفي لوازمه البينة التي لا ريب في لزومها، فتثبتون ما لا حقيقة له، بل ما يخالف العقل الصريح، كما تنفون ما دلَّ العقل الصريح على إثباته، فهي مستلزمة لإنكار جميع الصِّفات والأفعال والعلو والكلام، وذلك يستلزم نفي الرسالة، فحقيقتها جحد الرِّسالة والمرسل، ولوازمها الباطلة أكثر من مائة لازم لا تُحصى إلَّا بكلفة.
فأول لوازمها نفي الصِّفات، ونفي الأفعال، ونفي العلو، ونفي الكلام، ونفي الرُّؤية.
ومن لوازمها: القول بخلق القرآن. وبهذه الطريق استُجيز ضرب الإمام أحمد، لما قال بما يخالفها من إثبات الصِّفات، وتكلم الله بالقرآن، ورؤيته في الدار الآخرة. وكان أرباب هذه الطريقة هم المستولين على الخليفة، فقالوا له: اضرب عنقه فإنه كافرٌ مشبِّهٌ مجسمٌ. فقيل له: إنك إن قتلته ثارت عليك العامة، ولم تأمن مَعَرَّتهم. فأمسَكوا عن قتله لذلك بعد الضرب الشديد.
ومن لوازمه: أن الربَّ تعالى كان مُعطَّلًا عن الفعل من الأزل، والفعل ممتنعٌ عليه، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بغير موجبٍ في
(1)
«ح» : «يتم» . والمثبت من «م» .
(2)
زاد بعده في «ح» : «لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له» . وهي عبارة زائدة ليست في «م» .
ذلك الوقت دون ما قبله. وهذا ممَّا أغرى
(1)
الفلاسفة بالقول بقدم العالم، ورأوا أنه خيرٌ من القول بذلك.
بل حقيقة هذا القول أن الفعل لم يزل ممتنعًا منه أزلًا وأبدًا، إذ يستحيل قيامه به. وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه بفَناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم
(2)
عدمًا محضًا. وعنها قال أبو الهذيل العلاف بفناء حركاتهم دون ذواتهم، فإذا رفع أحدهم اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك، وتبقى كذلك أبد الآبدين، وإذا جامع الحوراء وفنيت الحركات يبقيان كذلك في تلك الحال أبد الآبدين، فيبقون في سكون الأحجار.
وعن هذه الطريق قالت الجهمية: إن الله في كل مكان بذاته. وقال إخوانهم: ليس في العالم، ولا خارج العالم، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا مباينًا له، ولا محايثًا له، ولا
(3)
فوقه ولا خلفه، ولا أمامه ولا وراءه.
وعنها قال من قال: إن ما شاهده من الأعراض الثابتة كالأكوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل نَفَسٍ ولحظةٍ، ويخلفها غيرها، حتى قال من قال: إن الروح عَرَضٌ، وإن
(4)
الإنسان يستحدث في كل ساعةٍ عدة أرواح، تذهب له روحٌ، وتجيء غيرها.
وعنها قال من قال: إن جسم أنتن الرجيع وأخبثه مماثل لجسم أطيب الطيب في الحدِّ والحقيقة، لا فرق بينهما إلَّا بأمر عرضي، وإن جسم النار
(1)
«ح» : «اعترى» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «عرفهم» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «و» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «إن» . والمثبت من «م» .
مساوٍ لجسم الماء في الحدِّ والحقيقة.
وعنها قالوا: إن الروائح والأصوات والمعارف والعلوم تُؤكل وتُشرب وتُرى وتُسمع وتُلمس، وإن الحواس الخمس تتعلق بكل موجودٍ.
وعنها قالوا: إن الله سبحانه لم يُكلِّم موسى تكليمًا، ولا اتخذ إبراهيم خليلًا، ولا تجلى للجبل، ولا يتجلى لعباده يوم القيامة. وقالوا: ليس [له]
(1)
وجهٌ يراه المؤمنون، ولا يدٌ خلق بها آدم وكتب بها التوراة وغرس بها جنة عدن ويقبض بها السماواتِ، والأرضُ بيدٍ أخرى، ليس لشيءٍ
(2)
من ذلك حقيقة، إنْ هو إلَّا مجازات واستعارات وتخييلات.
وعنها قالوا: إن الله لا يُحِب ولا يُحَب، ولا يغضب ولا يرضى، ولا يضحك ولا يفرح، ولا له رحمة ولا رأفة في الحقيقة. بل ذلك كله إرادةٌ محضةٌ، أو ثوابٌ منفصلٌ مخلوقٌ سُمِّي بهذه الأسماء.
وعنها قالوا: إن الكلام معنًى واحد بالعين، لا ينقسم ولا يتبعض، ولا له جزءٌ ولا كلٌّ، وهو الأمر بكل مأمورٍ، والنهي عن كل منهيٍّ، والخبر عن كل مُخبرٍ عنه، والاستخبار عن كل مستخبرٍ عنه. كل ذلك حقيقة واحدة بالعين.
وكذلك قالوا في العلم: [ق 90 ب] إنه أمرٌ واحدٌ، فالعلم بوجود الشيء هو عين
(3)
العلم بعدمه، لا فرق بينهما البتة، وإنما يتعدد التعلق.
(1)
«له» ليس في «ح» . وزدته ليستقيم الكلام.
(2)
«ح» : «بشيء» .
(3)
«ح» : «غير» . والمثبت من «م» .
وكذلك قالوا: إن إرادة إيجاد الشيء هي
(1)
نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادتان
(2)
، وكذلك رؤية زيدٍ هي نفس رؤية عمرٍو.
ومعلوم أن هذا لا يُعقل، بل هو مخالف لصريح العقل، وهذا كله وأمثاله نشأ عن هذه الطريق واعتقاد صحتها.
ومن العجب أنهم لم يثبتوا بها في الحقيقة صانعًا، ولا صفةً من صفاته، ولا فعلًا من أفعاله، ولا نبوةً، ولا مبدأً، ولا معادًا، ولا حكمةً؛ بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحًا، أو لزومًا بيِّنًا أو بوسطٍ
(3)
. فالطريق التي جعلوها أصلًا للدِّين هي أصل المناقضة للدِّين وتكذيب الرسول.
وجاء آخرون فراموا إثبات الصِّفات والأفعال وموافقتهم في هذه الطريق، فتجشموا أمرًا ممتنعًا، واشتقوا طريقة لم يمكنهم الوفاء بها، فجاؤوا بطريقة بين النفي والإثبات. لم يُوافقوا فيها المعطلة النُّفاة، ولم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات، فجاءت طريقًا بين الطريقتين، ومقالة بين المقالتين، لم يكونوا فيها بررةً أتقياءَ، ولا فجرةً أقوياءَ. وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين المعقول والمنقول، ويصلون في هذه الطريق إلى تصديق الرَّسول، وصار كثيرٌ من الناس يحب النظر والبحث والمعقول، وهو مع ذلك يريد ألَّا
(4)
يخرج عمَّا جاء به الرسول، ويرى أن هذا المسلك أصح من مسلك أولئك
(1)
«ح» : «هو» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «إرادات» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «يوسط» . وينظر «مجموع الفتاوى» (9/ 179) و «الرد على المنطقيين» (ص 190).
(4)
«ح» : «أن» . والمثبت من «م» .
النُّفاة، وأنه لا طريق غير الطريقين، وتلك لا سبيل إلى المصير إليها، فتعيَّن المصير إلى هذه الطريق.
ولما أصَّل هؤلاء هذا الأصل، وجاؤوا إلى تفصيله ظهر سرُّ تأصيلهم في تفصيلهم، ودلَّ بطلان تفصيلهم على فساد تأصيلهم، فإنهم أصَّلوا تأصيلًا مستلزمًا لبطلان التفصيل، ثم فصَّلوا تفصيلًا دلَّ على بطلان الأصل وفساده، فصاروا حائرين بين التأصيل والتفصيل. وصار من طرد منهم هذا الأصل خرج عن العقل والسمع بالكلية، وبالغ في التعطيل والإلحاد. ومن لم يطرده تناقَضَ واضطربت أقواله. وقد سلك الناس في إثبات الصانع وحدوث العالم طرقًا متعددة سهلة قريبة موصلة
(1)
إلى المقصود، لم يتعرضوا فيها لطريقة هؤلاء بوجهٍ، وذموا هذه الطريقة.
قال الخطابي
(2)
: «وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة، وأخذوه عنهم. وفي الأعراض اختلافٌ كثيرٌ
(3)
، منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسًا، ومنهم من لا يُفرِّق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر».
قلت: ومنهم من يقول بكمونها وظهورها، ومنهم من يقول بعدم بقائها. ثم سلك طرقًا في إثبات الصانع، منها الاستدلال بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته، والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام العلوية وغير ذلك.
(1)
«ح» : «موصولة» . والمثبت من «م» .
(2)
قاله في كتابه «شعار الدين» ، وهو كتاب مفقود حسب علمي، وهذا القول قد نقله عنه ابن تيمية في «منهاج السنة» (2/ 141 - 143).
(3)
«ح» : «كثيرة» . والمثبت من «م» .
قلت: وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها، وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحسِّ والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يُسميها الله سبحانه آياتٍ بيناتٍ، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها.
فإن انقلاب عصًا تُقِلُّها
(1)
اليد ثعبانًا عظيمًا يبتلع ما يمرُّ به، ثم يعود عصًا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد، فكل قواعد الدِّين في هذه العصا.
وكذلك اليد [ق 91 أ] وفَلْق البحر طُرقًا والماء قائمٌ بينهما كالحيطان،
(1)
أقل الشيء يقله: إذا رفعه وحمله. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 104).
ونتق الجبل من موضعه، ورفعه على قدر العسكر العظيم فوق رؤوسهم، وضرب حجرٍ مربعٍ بعصًا فتسيل منه اثنتا عشرة
(1)
عينًا تكفي أُمةً عظيمة.
وكذلك سائر آيات الأنبياء. فإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها، ثم انصدعت عنها والناس حولها ينظرون، وكذلك تصوير طائر من طين، ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرًا ذا لحمٍ ودمٍ وريشٍ وأجنحةٍ يطير بمشهد من الناس.
وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين، بحيث يراه الحاضر والغائب، فيخبر به كما رآه الحاضرون.
وأمثال ذلك ممَّا هو من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر. وهذه من طرق القرآن التي أرشد إليها عباده ودلَّهم بها، كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر والسحاب والحوادث التي في الجو وفي الأرض، وأحوال المعلومات من السماء والشمس والقمر والنجوم، وأحوال النُّطفة، وتقلُّبها
(2)
طَبَقًا بعد طَبَق، حتى صارت إنسانًا سميعًا بصيرًا حيًّا متكلمًا عالمًا قادرًا، يفعل الأفعال العجيبة، ويعلم العلوم العظيمة.
فكل طريقٍ من هذه الطرق أصحُّ وأقرب وأسهل وأوصل من طُرق المتكلمين التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الرَّبانية أن يدلَّ بها عباده عليه، وعلى صدق رسله،
(1)
«ح» : «اثنا عشر» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «وبقلها» . والمثبت من «م» .
وعلى اليوم الآخر. فأين هذه الطريق الطويلة العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الربِّ عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه، وإنكار وجهه الأعلى ويديه الكريمتين ورؤيته في الدار الآخرة وسائر ما أخبر به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله؛ إلى طرق القرآن التي هي ضدُّ هذه الطريق من كل وجه، وكلُّ طريقٍ منها كافية شافية هادية، وإن صرَّفها الله لعباده ونوَّعها {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 43].
هذا، وإن القرآن وحده ـ لمن جعل الله له نورًا ـ أعظم آيةٍ ودليلٍ وبرهانٍ على هذه المطالب، وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوهٍ متعددةٍ جدًّا. كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر، لا يلحقها إشكال، ولا يغبِّر
(1)
في وجه دلالتها إجمال، ولا يعارضها تجويز واحتمال، تلج الأسماع بلا استئذان، وتحل من العقول محل الماء الزُّلال من الصادي الظمآن، فضلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يمكن أحدًا أن يقدح فيها قدحًا يوقع في اللبس إلَّا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوًا في طلوع الشمس.
ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزامًا بينًا، وتُنبِّه على جواب المعترض تنبيهًا لطيفًا، ففيها إقامة الدلالة، والجواب عن المعارضة والشُّبهة. وهذا الأمر إنما هو لمن نوَّر الله بصيرته، وفتح عين قلبه لأدلة القرآن، وآتاه فهمًا في كتابه، فلا تعجب
(2)
من منكرٍ أو معترضٍ أو معارضٍ.
(1)
«م» : «يغير» . وهو تصحيف.
(2)
«ح» : «يعجب» . والمثبت من «م» .
وَقُلْ لِلْعُيُونِ الْعُمْيِ لِلشَّمْسِ أَعْيُنٌ
…
سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ
وَسَامِحْ نُفُوسًا أَطْفَأَ اللهُ نُورَهَا
…
بِأَهْوَائِهَا لَا تَسْتَفِيقُ وَلَا تَعِي
(1)
فأي دليل على الله سبحانه أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه كقوله: {أَفِي اِللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [إبراهيم: 13]، وقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 27].
(1)
البيتان من قصيدة أنشدها لنفسه العفيف التلمساني في «شرح مواقف النفري» (ص 103).
وقوله: {فَلْيَنظُرِ اِلْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ اِلصُّلْبِ وَاَلتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7].
إلى أضعاف أضعاف ذلك، كما ذكر في سورة ق والذاريات والطور والرحمن والمرسلات وسورة إبراهيم والحجر والنحل، فتأمل أدلة سورة النحل من أولها إلى قوله:{فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلَاغُ اُلْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ اُلْكَافِرُونَ} [النحل: 82 - 83].
وما ذكر في سورة لقمان والسجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى اَلْإِنسَانِ} وآخر الغاشية وسورة البلد والشمس وضحاها، وما ذكر في سورة الأنعام وسورة الصافات وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان من الأدلة التي هي للبصائر كالشمس للأبصار، فأبى المتكلمون إلَّا دليل الجواهر والأعراض والحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
ولعمر الله لم يزل إيمان الخلق صحيحًا حتى حدثت هذه الأدلة المبتدعة
(1)
الباطلة، فأوقعت الأمة في العناء الطويل، وفرقت الكلمة، وعارضت بين العقل والوحي، وألقت بينهم العداوة والتباغض والتلاعن، حتى استحل بعضهم من بعضٍ ما لم يستحل مثلها المحاربون للإسلام وأهله، وحتى فُتح على النصوص باب التحريف والتأويل، ورُميت بأنها أدلة لفظية لا تُفيد اليقين، وساءت ظنون أتباع هؤلاء بوحي ربِّ العالمين، وهذا كله ببركة هذه الطريق المخالفة للسمع والعقل.
فالله سبحانه نَهَجَ لعباده الطريق الموصلة إلى معرفته والإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله، فأعرض عنها هؤلاء واشتقوا طريقًا موصلة إلى تعطيل الخالق، ونفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وقالوا للناس: لا يتم إيمانكم
(1)
«ح» : «المتبوعة» . ولعل المثبت هو الصواب.
ومعرفتكم بالصانع إلَّا بهذه الطريق. فلمَّا سلكها من سلكها أدَّت به إلى ما [آخره]
(1)
الحيرة والشك والتأويل والتجهيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
(2)
.
الوجه
السابع والعشرون بعد المائة: أن هذه المعارضة بين الوحي والعقل نتيجة جهلين عظيمين: جهل بالوحي، وجهل بالعقل.
أمَّا الجهل بالوحي، فإن المعارض لم يفهم مضمونه وما دلَّ عليه، بل فهم منه خلاف الحقِّ الذي دلَّ عليه وأُريد به، ثم عارض ما دلَّ عليه بالرأي والمعقول. ونحن ننزل معه درجة، ونُبيِّن أن المعقول الذي ذكره لا يصلح لمعارضة المعنى الباطل الذي فهمه من الوحي، فضلًا عن المعنى الصحيح الذي دلَّ عليه الوحي، فإنه يستحيل أن يُعارَض معارضةً صحيحة البتة، بل هو الحق الذي ليس بعده إلَّا الضلال. والله تعالى هو الحق، وكلامه حقٌّ، ورسوله حقٌّ، ودينه حقٌّ، ووحيه حقٌّ. وما خالف ذلك فهو الباطل المحض الذي لا يقوم على صحته
(3)
دليلٌ، بل الأدلة الصحيحة التي تنتهي مقدماتها إلى الضروريات تدل على بطلانه.
وأمَّا الجهل بالعقل فإنه لا يُتصور أن يعارض العقل الصحيح الوحي أبدًا، ولكن الجاهل يظنُّ أن تلك الشُّبهة عقليةٌ، وهي جهلية خيالية من جنس شبه السوفسطائية.
(1)
«ح» : «أسره» . والمثبت أقرب شيء للرسم.
(2)
كتب على حاشية «ح» : «مطلب أول الجزء الثاني» .
(3)
«ح» : «صحة» . ولعل المثبت هو الصواب.
فالحاصل أنه إن عارض ما فهمه من النصِّ بما هو الباطل كان جاهلًا بالوحي ومدلوله، وإن عارض مدلوله وحقيقته التي دلَّ عليها فهو جاهلٌ بالعقل، فلا يُتصور أن يجتمع لهذا المعارض علمٌ بالوحي والعقل أصلًا، بل إمَّا أن يكون جاهلًا بهما ـ وهو الأغلب على هؤلاء ـ أو بأحدهما.
ولسنا ندفع معرفتهم ببعض العقليات المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وعُبَّاد الأصنام، بل ولا ندفع تبريزهم فيها وحذقهم بها، وإنما نُبيِّن بالبراهين الواضحة أنهم من أجهل الناس بالعقليات المتعلقة بأسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، كما هم جهالٌ بوحيه وبما جاءت به رسله. وقد نفى الله سبحانه السمع والعقل عمَّن أعرض عن رسله، فكيف بمن عارض ما جاؤوا به؟! وأخبر سبحانه أنه لا بد أن يظهر لهم في معادهم أنهم لم يكونوا من أهل السمع ولا من أهل العقل
(1)
.
الوجه الثامن والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين ـ كما تقدم ـ هم صنفان: ملاحدة دهرية، ومعطلة جهمية.
والملاحدة الدَّهرية أصل معارضتهم تكذيب الرُّسل والطعن فيما جاؤوا به، فهم خصوم الرُّسل في الأصل. وهؤلاء الجهمية المعطلة قولهم مأخوذٌ من قول [ق 92 ب] أولئك بعينه، وطريقتهم مشتقة من طريقتهم. بل كلماتهم واحدة، ولكن أولئك سلكوا المعارضة بين العقل ونفس الرِّسالة، وهؤلاء سلكوا المعارضة بين العقل وبين أشرف ما جاءت به الرُّسل، وأفضله وأجلِّه.
(1)
في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11].
فتأمَّل موافقة الجهمية لفرعون ـ خصم موسى وعدوه ـ فإنه أنكر الصانع، وهؤلاء وافقوه على إنكار صفاته، وأقروا بصانعٍ لا صفة له، ولا فعل. ولهذا قال بعض الأئمة: كان فرعون أعقل من هؤلاء، فإنهم اشتركوا في مخالفة صريح العقل، وتناقضت الجهمية، فقالوا: هو صانع للعالم من غير صنعٍ يقوم به، ولا وصف، ولا مباينة للعالم، ولا دخول فيه. وجحد فرعون أن يكون الله فوق سماواته على عرشه، وكذَّب موسى في ذلك، ووافقته الجهمية على هذا النفي. وبهذا احتج عليهم الأشعري في كتبه كلها
(1)
والقاضي أبو بكر
(2)
وأبو عمر بن عبد البر
(3)
، وجمهور أئمة السُّنَّة
(4)
.
وأنكر فرعون أن يكون الله كلَّم موسى، ووافقه الجهمية على ذلك.
وأنكر أعداء الرُّسل من المشركين عُبَّاد الأصنام والكواكب والفلاسفة وغيرهم معاد الأبدان، وخراب العالم، وحقيقة الجنة والنار. ووافقهم ابن سينا وأتباعه على ذلك. وأخذ الجهمية بعض هذا الإنكار فقالوا: تفنى الجنة
(1)
ينظر «الإبانة» (ص 106).
(2)
الباقلاني، لم أقف على احتجاجه بذلك فيما عندي من كتبه وهي قليلة.
(3)
ينظر: «التمهيد» (7/ 133) و «الاستذكار» (8/ 150).
(4)
ينظر: «تفسير الطبري» (20/ 327) و «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 264) و «رسالة في إثبات الاستواء والفوقية» لأبي محمد الجويني (ص 33) و «الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» للعمراني (2/ 610) و «إثبات صفة العلو» لابن قدامة (ص 65) و «النصيحة في صفات الرب جل وعلا» لابن شيخ الحزاميين (ص 12) و «الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد» لابن العطار (ص 179) و «العرش» للذهبي (2/ 378).
والنار. وهذا قول شيخهم جهم.
وكلهم أنكروا أشرف ما في الجنة، وأجلَّ نعيمها، وأفضله على الإطلاق ـ الذي ما طابت الجنة إلَّا به ـ وهو النظر إلى وجه الربِّ تبارك وتعالى من فوقهم، وسماع كلامه، وتسليمه عليهم، وخطابه لهم، بل هذا حقيقة الجنة، ورأس نعيمها؛ فنفوه وكذبوا به، وأثبتوا أكلًا وشربًا وجماعًا، ثم قالوا بنفاده وانقطاعه.
وهذا باب إذا تتبعه
(1)
من يعلم ما عند القوم وما جاءت به الرُّسل ويعتبر هذا بهذا يجد أقوالهم مشتقة من أقوال أعداء الرسل.
فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ
…
أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
(2)
الوجه التاسع والعشرون بعد المائة: أن الكلام في الدِّين نوعان: أمرٌ وخبرٌ، فما عارض الأمر كان من باب الهوى الذي يأمر به الشيطان
(3)
والنفس، وما عارض الخبر كان من باب الظنِّ والخرص الذي هو أكذب الحديث. وهؤلاء لا تجدهم إلَّا وقد جمعوا بين الأمرين، فهم في الإرادات تابعون لأهوائهم، وفي الاعتقادات تابعون لظنونهم. قال الله:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلْأَنفُسُ وَلَقَد جَّاءَهُم مِّن رَّبِّهِمِ اِلْهُدى} [النجم: 23].
وقال تعالى: {كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم
(1)
«ح» : «تتبعته» . والمثبت هو الصواب.
(2)
البيت لأبي الأسود الدؤلي، وقد سبق تخريجه.
(3)
«ح» : «السلطان» . والمثبت هو الصواب.
بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]. فالاستمتاع بالخَلَاق
(1)
اتباع الهوى والشهوات، والخوض اتباع الباطل والشبهات. وقد نزَّه سبحانه رسوله عن طريقة هؤلاء، فقال تعالى:{وَاَلنَّجْمِ إِذَا هَوى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوى} [النجم: 1 - 2]. فنزَّهه عن الضلال الذي هو نقيض الهُدى، وعن الغي الذي هو نقيض الرُّشد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خلفائه:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»
(2)
.
والمقصود أن ما ناقض خبر الرسل كان كذبًا وضلالًا [وقولًا]
(3)
على الله غير الحقِّ. وقد نهى الله سبحانه أن يقال عليه غير الحقِّ، وأخذ الميثاق على اتباع الرُّسل بذلك، فقال:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ اُلْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلَّا اَلْحَقَّ} [الأعراف: 169]. وقال: {يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلَّا اَلْحَقَّ} [النساء: 170]. وأخبر سبحانه أنه لا بد
(1)
الخَلاق: الحظ والنصيب. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 70).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (17416، 17418، 17419) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وصحَّحه ابن حبان (5) والحاكم (1/ 95 - 97). وقال أبو نعيم في «المسند المستخرج على صحيح مسلم» (1/ 36): «هذا حديث جيد صحيح من حديث الشاميين» . وقال الجورقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (1/ 473): «هذا حديث صحيح ثابت مشهور» . وقال البغوي في «شرح السنة» (1/ 205): «هذا حديث حسن» . وصححه الضياء المقدسي في «اتباع السنن واجتناب البدع» (ص 20) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (10/ 77) وابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 582) وابن حجر في «موافقة الخُبر الخبر» (1/ 137).
(3)
سقط من «ح» ، وأثبته بدلالة السياق.
أن ينال المفترين غضبٌ من ربهم وذلةٌ في الحياة الدُّنيا
(1)
، وأعظَمُ الافتراء: الفريةُ عليه سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله. وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب
(2)
أهل الافتراء ولا يُهدى كيدهم
(3)
، وأنه يسحتهم بعذابه، أي: يستأصلهم
(4)
. قال تعالى إخبارًا عن كليمه موسى أنه قال لرؤوس المعطلة وأئمتهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا فَيَسْحَتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى} [طه: 60].
وهذه الأصول التي عارضوا بها الكتاب والسُّنَّة تشتمل على الكذب والفرية في مسائلها ودلائلها، كأصول الملاحدة من الفلاسفة والدهرية النافين لما أخبر الله به من أصول الإيمان الخمس، وأصول الجهمية المناقضة لما أخبر به من أسمائه وصفاته وأفعاله، وأصول القدرية المعارضة لما أخبر به من عموم قدرته ومشيئته، وأصول الملاحدة الاتحادية التي رفعت العقل والنقل والحسَّ، وأبطلت الخلق والأمر والنبوة والرسالة والثواب والعقاب. وأصول هؤلاء كلهم أصول الزندقة والاتحاد المناقضة للعقل والدِّين.
الوجه الثلاثون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين [ق 93 أ] لا يتم لهم ما ادعوه من المعارضة إلَّا بأربعة أمور يستلزمها قولهم: لبس الحق بالباطل
(1)
في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ اَتَّخَذُوا اُلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي اِلْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152].
(2)
«ح» : «يحسب» . والمثبت بدلالة الآية التالية.
(3)
«ح» : «كبيرهم» .
(4)
ينظر «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 435).
[وكتمان الحقِّ، والتكذيب به، والتصديق بالباطل]
(1)
فهذه أربعة
(2)
مقامات تتضمنها أصولهم، بل هذه الأربعة هي قواعدهم التي يبنون عليها.
أمَّا لبس الحق بالباطل، فأنتم تُسمُّون ما أثبته الله لنفسه من الصِّفات والكلام والعلو والاستواء «تركيبًا وتجسيمًا وتشبيهًا» وتُسمُّون عرشه «حيزًا» واستواءه عليه «تحيزًا» ، وتُسمُّون صفاته «أعراضًا» وتنزهونه عنها، وأفعاله «حوادث» وتنفونها عنه، وحكمته «أغراضًا» وتُبطلونها، ووجهه الكريم ويديه «جوارح» وتُنكرونها.
ويُسمُّون نفيهم وتعطيلهم تنزيهًا وتقديسًا وتوحيدًا، فيلتبس الحق بالباطل على من لم يعرف مرادهم من هذا التنزيه والتوحيد والتقديس، ولا من ذلك التجسيم والتشبيه والتمثيل. فإذا وقعوا في هذا اللبس والتلبيس ترتب عليه ضرورة كتمان الحقِّ، والتكذيب به، والتصديق بالباطل. ولهذا جعل سبحانه كل اثنين من هذه الأربعة فريقين.
أمَّا الأولان فقال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا اُلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا اُلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41]. وقد اختُلف في قوله: {وَتَكْتُمُوا} هل هو منصوبٌ أو مجزومٌ؟ على قولين مبنيين على الواو، هل هي واو عطف، أو واو صرف
(3)
.
(1)
سقط من «ح» ، وأثبتناها من كلام المصنِّف فيما يأتي.
(2)
«ح» : «أربع» .
(3)
ينظر: «معاني القرآن» للأخفش (1/ 71) و «معاني القرآن» للفراء (1/ 33 - 34) و «تفسير الطبري» (1/ 607 - 608) و «التفسير البسيط» للواحدي (2/ 442 - 444).
فمن جعلها واو عطف قال: النهي تعلق بكل واحد من الأمرين على انفراده، ولو كانت واو صرف لكان المنهي عنه جمعهما لا إفرادهما.
ومن جعلها
(1)
واو صرف قال: لبس الحق بالباطل مستلزمٌ لكتمانه، كما يكتم الحق من لبسه بما يستره ويغشيه، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالنهي عن أحدهما نهي عن الآخر بطريق اللزوم. ففي كون الواو واو جمع إفادة هذا المعنى، وأن كتمان الحق ملازم للبسه بالباطل لا ينفك عنه ولا يمكن إيقاع أحدهما إلَّا بالآخر، وهذا شأن كل متلازمين.
وهذا القول أميز من الأول وأعرب.
وأما القرينان الآخران فقال تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ
(2)
عَلَى اَللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذ جَّاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكافِرِينَ} [الزمر: 31].
وهذان أيضًا متلازمان، فكل من صدَّق بالباطل كذَّب بضده وهو الحق. وإذا عرف هذا فما أثبته الله لنفسه من صفاته وكلامه وتكليمه واستوائه على عرشه وعلوه على خلقه هو الحق عقلًا وسمعًا، وما خالفه هو الباطل، والله سبحانه قد فصَّل لنا هذا من هذا، ولم يدعه ملتبسًا
(3)
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 43].
(1)
«ح» : «جعلهما» .
(2)
«ح» : «افترى كذبا» .
(3)
«ح» : «لمتبسًا» .
فلبس النُّفاة المعطلة هذا بهذا، فاضطرهم اللبس إلى كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بضده، وإذا أردت معرفة هذا فامتحنه في مسائلهم ودلائلهم وكلماتهم المجملة الألفاظ المشتبهة المعاني. وبالله التوفيق. يوضحه:
الوجه
الحادي والثلاثون بعد المائة: أنه ما من حقٍّ وباطلٍ إلَّا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه،
ولو في أصل الوجود، أو في أصل الإخبار، أو في مجرد المعلومية، بأن يكون هذا معلومًا مذكورًا، وهذا معلومًا مذكورًا، ولكل واحدٍ منهما خصائص يتميز بها عن الآخر.
فأحظى الناس بالحقِّ وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة، ويلغي القدر المشترك، فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به.
وأبعدهم عن الحقِّ والهُدى من عكس هذا السير، وسلك ضدَّ هذه الطريق، فألغى الخصائص الفارقة، وأخذ القدر المشترك، وحكم به على القدر الفارق.
وأضَلُّ منه مَن أخذ خصائص كل من النوعين، فأعطاها للنوع الآخر.
فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شُعب ضلالهم وباطلهم.
مثال ذلك: أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاؤوا به من الحق لمَّا أرادوا تلبيس الحق الذي جاؤوا به بالباطل، أخذوا بينه وبين الباطل قدرًا مشتركًا، ثم ألغوا القدر الفارق، وما اختص به أحد النوعين، فقالوا: هذا
الرسول شاعرٌ وكاهنٌ ومجنونٌ وطالب مُلكٍ ورياسةٍ وصيت في العالم. فأخذوا قدرًا مشتركًا بين الشِّعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحُسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس، فقالوا: هو شاعرٌ، وهذا شعرٌ. وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحًا.
وقالوا: هو كاهنٌ. لأن الكاهن كان عندهم معروفًا بالإخبار عن الأمور [ق 93 ب] الغائبة التي لا يُخبر بها غيره، وكذلك هذا المدَّعي لذلك مثله
(1)
.
وقالوا: مجنونٌ. لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس.
وقالوا: ساحرٌ. لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون، ويُحبب تارةً، ويُنفر أخرى. ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة ـ وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد ـ ففكر وقدَّر، ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحرٌ؛ لأنه يُفرِّق بين المرء وزوجه، ومحمد يفعل ذلك؛ فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو أسلم زوجها دونها وقعت الفُرقة بينهما والعداوة.
وكذلك قولهم عن القرآن: أساطير الأولين. أخذوا قدرًا مشتركًا بينهما وهو جنس الإخبار عمَّا أخبر عنه الأولون.
وهكذا قولهم: هو طالب ملك ورياسة وصيت.
والمقصود أن كل مبطلٍ فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق، ثم يلبس
(2)
ما يدعو إليه خصائص الحقَّ، .....................................
(1)
«ح» : «لك مثاله» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «يلبسوا» .
وما ينفر
(1)
عنه خصائص الباطل. وهذا شأن الساحر بكلامه يخرج الحقَّ في صورة الباطل فيُنفر عنه، والباطل في صورة الحقِّ فيُرغب فيه.
إذا عُرف هذا فهؤلاء أخذوا قدرًا مشتركًا بين ما أثبته الله لنفسه من الصِّفات والأفعال وبين ما للمخلوقين من ذلك، وحكموا بذلك القدر المشترك على خصائص الربِّ سبحانه، ثم ألغوا حكم تلك الخصائص واعتبارها، ثم جعلوا حكمها حكم خصائص المخلوقين، فأخطؤوا من أربعة أوجه.
مثاله: أنهم أخذوا قدرًا مشتركًا بين اليد القديمة والحادثة، ثم حكموا بما فهموه من ذلك القدر المشترك على القديمة، ثم ألغوا القدر الفارق بين اليد واليد، ثم جعلوا خصائص إحداهما هي خصائص الأخرى، واعتبر هذا منهم في كل صفةٍ يريدون نفيها. يوضحه:
الوجه
الثاني والثلاثون بعد المائة: أنك إذا أخذت لوازم المشترك والمميِّز، وميزت هذا من هذا صحَّ نظرك ومناظرتك،
وزال عنك اللبس والتلبيس. وذلك أن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي، فهذه اللوازم يجب إثباتها، ولا يصح نفيها؛ إذ نفيها ملزومٌ لنفي
(2)
الصفة.
مثاله: الفعل والإدراك للحياة، فإن كل حيٍّ فعالٌ مدركٌ، وإدراك المسموعات بصفة السمع، وإدراك المبصرات بصفة البصر، وكشف المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصِّفات. فهذه اللوازم يمتنع
(3)
رفعها
(1)
«ح» : «نفر» .
(2)
«ح» : «كنفي» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «ينتفع» . والمثبت من «م» .
عن الصفة فإنها ذاتية لها، ولا يرتفع إلَّا برفع الصفة، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة للقديم مثل كونها واجبة قديمة عامة التعلُّق، فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثةٍ، متعلقة بكل معلومٍ على التفصيل. وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوق، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة له مثل كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن، مخلوقة غير صالحة للعموم، مفارقة له، فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم.
واجعل هذا التفصيل ميزانًا لك في جميع الصِّفات والأفعال، واعتصم به في نفي التشبيه والتمثيل، وفي بطلان النفي والتعطيل.
واعتبره في العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث، فهذا اللازم حقٌّ لا يجوز نفيه، ويلزمها كون السافل حاويًا
(1)
للأعلى، محيطًا به حاملًا له والأعلى مفتقر إليه، وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها، بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى الأسفل
(2)
، ولا يحويه الأسفل، ولا يحيط به، ولا يحمله كالسماء مع الأرض. فالربُّ تعالى أجل شأنًا وأعظم أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله للسافل، وفقر السافل إليه، وغناه سبحانه عنه، وإحاطته
(3)
عز وجل به. فهو فوق العرش مع حمله العرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
(1)
«ح» ، «م»:«حادثًا» . والمثبت من حاشية «م» وعليه: «ظ» .
(2)
«ح» : «السفل» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «وإحاطة» . والمثبت من «م» .
وأصحاب التلبيس واللبس لا يُميِّزون هذا التمييز، ولا يُفصِّلون هذا التفصيل. ولو ميَّزوا وفصَّلوا لهُدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل الصريح للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل، وضلوا عن سواء السبيل.
الوجه الثالث والثلاثون بعد المائة: أن الأصل الذي قادهم إلى النفي والتعطيل واعتقاد المعارضة بين العقل والوحي أصلٌ واحدٌ، هو منشأ ضلال بني آدم، وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته، وقيام الأمور المتجددة به. وهذا لا محذور فيه، وهو الحق [ق 94 أ] الذي لا يثبت كونه سبحانه ربًّا وإلهًا وخالقًا إلَّا به، ونفيه جحدٌ للصانع بالكلية وإنكارٌ له.
وهذا القدر لازمٌ لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم
(1)
، حتى لمن جحد الصانع بالكلية وأنكره رأسًا؛ فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك، وإن قام عنده ألف شبهةٍ أو أكثر على خلافه.
أمَّا من أقر بالصانع فإنه مضطرٌّ إلى أن يُقرَّ بكونه حيًّا عالمًا قادرًا مريدًا حليمًا فعالًا، ومع إقراره بهذا فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه وأفعاله، فلو تكثرت بعدُ ما تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذورٌ بوجهٍ من الوجوه.
وإن قال: أنا أنفيها جملةً، ولا أثبت تعددها بوجه.
قيل
(2)
له: فهل تثبته موجودًا أم لا؟
(1)
«ح» : «ينحلهم» . وفي «م» : «وعلومهم» .
(2)
«ح» : «فقيل» . والمثبت من «م» .
فإن قال: أثبته موجودًا.
قيل له: فهو هذه الموجودات أم غيرها؟
فإن قال: غيرها.
قيل له: فهل هو خالقها أم لا؟
فإن قال: هو خالقها.
قيل له: فهل هو قادرٌ عليها عالمٌ بها مريدٌ لها أم لا؟
فإن قال: نعم هو كذلك.
اضطر إلى تكثر صفاته وتعددها.
وإن نفى ذلك كان جاحدًا للصانع بالكلية، نافيًا له، فيستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية المنكرين لربهم تعالى، ويقال له ما قالت الرسل لأممهم:{أَفِي اِللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 13].
وهل يستدل عليه بدليلٍ هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته.
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ
…
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
(1)
وإن قال: أنا أثبته موجودًا، واجب الوجود، لا صفة له.
قيل له: بل زعمت أنه معدومٌ
(2)
ممتنع الوجود، وكل موجودٍ محققٍ أو مقدرٍ
(3)
أكمل منه على هذا التقدير، فضُلَّال اليهود والنصارى وعُبَّاد
(1)
البيت للمتنبي، وهو في «ديوانه» (ص 343).
(2)
«ح» : «معدوما» .
(3)
«ح» : «يعدد» . ولعل المثبت هو الصواب.
الأصنام أعرف به منك، وأقرب إلى الحق والصواب منك.
وأمَّا فرارك من قيام الأمور المتجددة به ففررت من أمرٍ لا يثبت كونه إلهًا وربًّا وخالقًا إلَّا به، ولا يتقدر كونه صانعًا لهذا العالم مع نفيه أبدًا. وهو لازم لجميع طوائف
(1)
أهل الأرض على اختلافهم حتى للفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصِّفات والأفعال، هو لازم لهم لزومًا لا انفكاك لهم عنه. ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة:«إنه لا يتقرَّر كونه ربًّا للعالمين إلَّا بإثبات ذلك» . ثم قال: «والإجلال من هذا الإجلال واجبٌ، والتنزيه من هذا التنزيه متعينٌ»
(2)
.
قال بعض أهل العلم: «وهذه المسألة يقوم عليها قريب
(3)
من ألف دليلٍ عقليٍّ وسمعيٍّ، والكتب الإلهية والنصوص النبوية ناطقةٌ بذلك، وإنكاره إنكارٌ لما عُلم بالضرورة من دين الرُّسل أنهم جاؤوا به»
(4)
.
ونحن نقول: إن كل سورةٍ من سور القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة، وفيها أنواع من الأدلة عليها، فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليلٍ.
فأول سورةٍ من القرآن تدل عليها من وجوهٍ كثيرةٍ، وهي سورة أم الكتاب. فإن قوله:{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل عليها، فإنه سبحانه يُحمد على أفعاله،
(1)
«ح» : «الطوائف» . والمثبت من «م» .
(2)
نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (6/ 151) لابن الخطيب يعني الفخر الرازي.
(3)
«ح» : «رتب» . والمثبت من «م» .
(4)
لم أقف على تسمية قائل ذلك، غير أن المصنِّف قال نحوه في «بدائع الفوائد» (1/ 261).
كما حمد نفسه عليها في كتابه، وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده، فمن لا فعل له البتة كيف يُحمد
(1)
على ذلك، فالأفعال هي المقتضية للحمد. ولهذا تجده مقرونًا بها كقوله:{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [الأنعام: 1]{اُلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 42]{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ اِلْكِتَابَ} [الكهف: 1]{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [فاطر: 1].
الثاني: قوله: {رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقتٍ فيه، وكونه معه كل ساعةٍ في شأنٍ، يخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي، ويخفض ويرفع، ويُعطي ويمنع، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُصرف الأمور بمشيئته
(2)
وإرادته، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه.
الثالث: قوله: {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} وهو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن راحمًا له قبل ذلك.
الرابع: قوله: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} والملك هو المتصرف فيما هو مَلِكٌ عليه ومالكٌ له، و من لا له تصرف ولا يقوم به فعلٌ البتةَ لا يُعقل له ثبوت مُلكٍ ولا مِلكٍ.
الخامس: قوله: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} فهذا سؤالٌ لفعلٍ يفعله بهم، لم يكن موجودًا قبل ذلك، وهو الهداية التي هي فعله، فيترتب عليها الاهتداء، الذي هو مطاوع، وهو فعلهم.
(1)
«ح» : «الحمد» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «بمشيئة» . والمثبت من «م» .
السادس: قوله: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ونعمته عليهم
(1)
وفعله القائم به، وهو الإنعام، فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة.
السابع: قوله: {غَيْرِ اِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب؛ إذ
(2)
الغضب على المعدوم محالٌ.
وقد ثبت
(3)
عن النبي [ق 94 ب] صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَ: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} . يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإِذَا قَالَ {اَلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} . يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {مَلِكِ يَوْمِ اِلدِّينِ} . قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي [وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ]
(4)
. فَإِذَا قَالَ: {اُهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِهَا، قَالَ اللَّهُ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»
(5)
.
فهذه أدلة من الفاتحة وحدها. فتأمل أدلة الكتاب العزيز بعدُ على هذا الأصل تجدها فوق عدِّ العادِّين، وإحصاء المُحصين، حتى إنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة، كقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 81] ففي هذه الآية عدة أدلةٍ:
أحدها: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر المكوَّن، بل يعقبه.
(1)
«ونعمته عليهم» ليس في «م» .
(2)
«ح» : «أي» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «يثبت» . والمثبت من «م» .
(4)
سقط من «ح» . وأثبته من «م» .
(5)
أخرجه مسلم، وقد تقدم (ص 580) تخريجه.
الثاني: قوله: {إِذَا
(1)
أَرَادَ شَيْئًا} و «إذا» تُخلص الفعل للاستقبال.
الثالث: قوله: {أَن يَقُولَ لَهُ} و «أن» تخلص المضارع للاستقبال.
الرابع: {أَن يَقُولَ} فعل مضارع إمَّا للحال وإمَّا للاستقبال.
الخامس: قوله: {كُن} وهما حرفان، سبق أحدهما الآخر، ويتعقبه الثاني.
السادس: قوله: {فَيَكُونُ} والفاء للتعقيب، يدل على أنه يكون عَقِيب قوله له {كُن} سواء، لا يتأخر عنه.
السابع: أن قوله: {كُن} تكوين قائم به سبحانه والكون قد تعقبه ولم يتراخ
(2)
عنه.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] فهو سبحانه إنما كلَّمه ذلك الوقت.
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 51]{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص: 62] وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} [الأعراف: 21] فالنداء إنما حصل ذلك الوقت.
وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ} [البقرة: 208]{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 24]{ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53]{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]{يُرِيدُ اُللَّهُ بِكُمُ اُلْيُسْرَ} [البقرة: 184]{يُرِيدُ اُللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: 28] {وَاَللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ
(1)
«إذا» ليس في «ح» ، وأثبته من «م» .
(2)
«ح» : «ينزاح» . والمثبت هو الصواب.
عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اَسْتُضْعِفُوا فِي اِلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَىمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اُلْوَارِثِينَ (4) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اِلْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 - 5]{وَاَللَّهُ يَقُولُ اُلْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي اِلسَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]{قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرى} [طه: 45]{إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 14]{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 27]. وهذا عند النُّفاة لا حقيقة له، بل الشؤون للمفعولات، وأمَّا هو فله شأنٌ واحدٌ قديمٌ.
فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعاف
(1)
أضعافها ممَّا يشهد بها صريح العقل ويشهد ببطلان ما خالفها. فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصِّفات وتعدد الأسماء هو الذي أفسد العقل والنقل، وفتح باب المعارضة بينهما. وتفصيل أدلة هذه المسألة وبيان بطلان الشُّبه المعارضة لها يستدعي مجلدًا كبيرًا، ولعلنا إن ساعد القدر أن نكتبه. والله المستعان.
الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن من أئمة هؤلاء المعارضين من يقول: إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الربِّ سبحانه وتعالى عن النقائص، ولم يقم على ذلك دليلٌ عقليٌّ أصلًا. كما صرَّح به الرازي
(2)
وتلقاه عن الجويني وأمثاله، قالوا:«وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع»
(3)
.
(1)
«أضعاف» ليس في «م» .
(2)
ينظر «نهاية العقول في دراية الأصول» (3/ 188 - 189، 231 - 232)، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 295 - 296) و «مجموع الفتاوى» (6/ 73).
(3)
ينظر «شفاء العليل» (ص 302).
وقد قدح الرازي وغيره من النُّفاة في دلالة الإجماع، وبيَّنوا أنها ظنية لا قطعية، فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص، بل غاية ما عندهم في ذلك الظن.
فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب! كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله، ونعوت جلاله، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلمه بالقرآن حقيقة، وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانًا من فوقهم في الجنة حتى يُدَّعى أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل؛ وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليلٌ عقليٌّ، ولكن علمناه بالإجماع، وقد قلتم دلالته ظنية؟!
فوالله لو قال المُشبِّه المُجسِّم ـ بزعمكم ـ ما قال ما رضي لنفسه بهذا، ولكان ربُّ العالمين وقيوم السماوات والأرض أكبر في صدره وأجلَّ في قلبه من ألَّا يكون في عقله دليلٌ يُنزِّهه عن النقائص.
ولعل جاهلًا أن يقول: إنَّا قلنا عليهم ما لم يقولوا، أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم بما
(1)
يعتقدونه هم لازمًا
(2)
لأقوالهم، فيكذبون عليهم كذبًا صريحًا، يقولون
(3)
: مذهب الحنابلة: أن الله يجوز أن يتكلم بشيءٍ ولا يعني به شيئًا، ومذهبهم أن الله لا يجوز أن يُرى، وأمثال ذلك ممَّا هو كذبٌ صريحٌ وفريةٌ، مستندهم [ق 95 أ] فيها ما فهموه من
(1)
«ح» : «فما» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «لازم» .
(3)
«ح» : «لا يقولون» . والمثبت هو الصواب.
لازم قولهم. فنحن لا نستجيز ذلك على أحدٍ من الناس، ولكن هذه كتب القوم فراجعها، ولا تُقلِّد الحاكي عنهم.
ويكفيك من فساد عقلٍ يُعارض
(1)
الوحي أنه لم يقم عنده دليلٌ عقليٌّ يُنزِّه ربَّه وخالقه عن العيوب والنقائص، فلقد كشف لك صاحب هذا العقل عن حقيقة معقوله، وأقر على نفسه وعقله أنه أقل وأحقر شأنًا أن يُعارض الوحي ونصوص الأنبياء ثم يتقدم عليها، وبالله التوفيق.
الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة: أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم: لا يمكنكم
(2)
تنزيه الربِّ سبحانه عن النقائص والعيوب إلَّا أن تتحيزوا إلى أهل السُّنَّة، وتصيروا أضيافًا لهم، وتستضيئوا بنورهم، وإلَّا فلن يمكنكم على أصولكم تنزيه الربِّ عن العيوب البتة.
فإنكم نزهتموه عن صفات كماله، وزعمتم أنها تستلزم التجسيم، وهو يستلزم الحدوث، فبذلك نفيتم صفاته وأفعاله. فلمَّا قال لكم أهل الإثبات: نفيكم لهذه الصِّفات يستلزم ثبوت ضدها له وهو نقصٌ وهو محالٌ على من له الكمال كله، أجبتموه بأن هذا إنما يلزم في القابل للشيء وضدِّه، وأما الربُّ سبحانه فإنه لا يقبل هذه الصِّفات ولا أضدادها، فلا يلزم من سلبها
(3)
عنه ثبوت أضدادها له، كما لا يلزم من سلب الكلام والسمع والبصر والحياة عن الحجر وصفه بالخرس والطرش والعمى والموت.
فقال لكم أهل الإثبات: لو جعلتموه قابلًا لصفات الكمال وسلبتموها
(1)
«م» : «معارض» .
(2)
«ح» : «يمكنهم» .
(3)
«ح» : «سلها» .
عنه لكان أكمل ممَّن لا يقبل صفات الكمال البتة، فالأعمى والأخرس والأصم والعاجز أكمل من الحجر والتراب.
فنزلتم درجة أخرى وشبهتموه بأنقص الناقصات وهو ما لا يقبل الكمال بوجهٍ. فلو أثبتم له صفات الكمال كلها على وجه التشبيه والتمثيل بخلقه لكان خيرًا من تشبيهكم
(1)
له بأنقص الناقصات من الجمادات التي لا تقبل الكمال. فإن الحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة، فيكون تارةً سميعًا وتارةً أصمَّ، أكمل من الجماد الذي لا يقبل هذا ولا هذا، بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك.
فإذا قلتم: إن الربَّ لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال، مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها، جعلتموه أنقص من الحيوانات، وكان من وصفه بهذه النقائص خيرًا منكم، وهم يشنعون بما يحكى عن ضُلَّال اليهود والنصارى أن الله ندم على الطوفان حتى عضَّ إصبعه، وجرى الدم، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأمثال ذلك. وهؤلاء مع كفرهم وضلالهم أحسن قولًا فيه ممَّن يقول: إنه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال. بل من جعله يأكل ويشرب وينام ويألم خيرٌ ممَّن جعله بمنزلة الأحجار والجامدات التي لا تقبل هذه الصِّفات. فالمشبهة المحضة خير منكم وأحسن قولًا في ربهم وخالقهم.
وأمَّا خصومكم من أهل السُّنَّة والحديث فهم لا يقولون بتشبيهكم،
(1)
«ح» : «تشبهكم» .
ولا بتشبيه إخوانكم، وإن كان تشبيهكم شرًّا من تشبيههم؛ وإنما يصفون الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، ويثبتون أفعاله حقيقة لا مجازًا، كما يثبتون ذاته وصفاته، ولا يُشبِّهون الله بخلقه، ولا يمثلونه بهم. والله سبحانه أجلُّ في صدورهم، وأعظم في قلوبهم من أن يُشبِّهوه بخلقه، أو ينفوا عنه صفات كماله وأفعاله فيشبهونه بالجامدات العادمة للكمال وقبوله. يوضحه:
الوجه السادس والثلاثون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه عاب آلهة المشركين بنفس ما وصفتم الإله الحقَّ سبحانه به
(1)
، فعابها بأنها لا تتكلم ولا تكلم عابديها، وقلتم: إن هذا من خصائص الربوبية.
وعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، وقلتم: إن إثبات السمع والبصر للربِّ يقتضي التشبيه والتجسيم.
وعابها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تهدي السبيل، فنفى عنها هذه الأفعال، وقلتم: ليس للقديم فعلٌ يقوم به البتة، فإنه لو قامت به الأفعال لكان محلًا للحوادث.
وعابها بأنها لا يد لها تبطش بها، ولا رجل تمشي بها، ولا عين تبصر بها، وقلتم بأن الرب سبحانه كذلك، فإنا لو وصفناه بذلك وصفناه بالجوارح والأبعاض.
وجميع
(2)
ما عابها به إنما هو نفيٌ وسلبٌ، لم
(3)
يعبها بصفة ثبوتية
(1)
«ح» : «بها» .
(2)
«ح» : «وجمع» .
(3)
«ح» : «لمن» .
البتة، وعندكم أعظم التنزيه السلب والنفي الذي هو جماع ما عاب به آلهة المشركين.
الوجه السابع والثلاثون بعد المائة: أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه، قديم أزلي، لا يجوز عليه العدم، [ق 95 ب] ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه تنازعًا لا يحصيه إلَّا رب العباد، ولم تختلف مقالات أهل الأرض في شيءٍ كاختلافهم في ربِّهم تعالى.
وأحدث الأمم عهدًا هذه الأمة، وهذه مقالاتهم قد فاقت الحصر، وقد حكى منها أهل المقالات ما بلغهم، وأعظم من استوعبها الأشعري في «مقالاته» . وقد حَدَثَ بعده مقالات لم يحكها، ولم يودعها كتابه. وكلٌّ يدَّعي أن العقل دلَّه على تلك المقالة وصحتها، وإذا جاء السمع بخلافها لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت الأربع.
ومقالة النُّفاة المعطلة شرُّ مقالات أهل الأرض على الإطلاق، وأشدها مناقضة للمعقول والمنقول، فإنهم يصفونه بصفات المعدوم الصِّرْف، بل بصفات الممتنع الوجود، يعني: بصفات المعدوم. والممتنع ما يُخبر به عنه ويحكم به عليه، وإلا فليس هناك صفة ولا موصوف. فيقولون: ليس هو فوق خلقه، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا مباينًا له، ولا محايثًا، ولا مجاورًا، ولا فوق ولا تحت، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل من عنده، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسوله إليه ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ولا يقرب منه شيءٌ، ولا يقرب من شيءٍ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يأتي يوم القيامة في ظُللٍ من الغمام،
ولا يجيء للفصل بين عباده، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا يُشار إليه بالأصابع، ولا يمكن رؤيته البتة، ولا قال ولا يقول، ولا يكلم ولا يتكلم، ولا نادى ولا ينادي، ولا له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا إرادة ولا وجه ولا يد ولا عين ولا إصبع.
وغلاتهم يقولون: لا يُسمَّى حيًّا عالمًا قادرًا إلَّا بطريق المجاز. ويقولون: لو أثبتنا هذه الصِّفات لزم أن يكون جسمًا، والجسم مركب، والمركب ممكن، والممكن محدث؛ فإثبات هذه الصِّفات تنافي قدمه ووجوب وجوده.
وأمَّا أهل الإثبات فيقولون: الموصوف بهذه الصِّفات السلبية، المنفي عنه الصِّفات الثبوتية لا يكون إلَّا ممتنعًا، والامتناع ينافي الوجود فضلًا عن وجوبه، والذين وصفوه بهذه السلوب وصفوه بما لا يتصف به إلَّا ما يمتنع وجوده، ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود.
ويقولون للمعطلة النفاة: أنتم فررتم من وصفه بما يستلزم الإنكار بزعمكم، فوصفتموه بما يستلزم الامتناع من وصفه، ومن وصفه
(1)
بما يستلزم الحدوث على ظنكم، فوصفتموه بما يستلزم العدم. والأجسام الجامدة خير من المسلوب عنه هذه الصِّفات، فضلًا عن الأجسام الحية الناقصة، فضلًا عن الأجسام الحية الكاملة. قالوا: ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين وجود حيٍّ كاملٍ وبين معدومٍ أو ممتنعٍ كان الموجود خيرًا من المعدوم. يوضحه:
(1)
«ح» : «وصف» .
الوجه
الثامن والثلاثون بعد المائة: أن اللوازم التي تلزم المعطلة النُّفاة شرٌّ من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة،
دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات، فإنهم يلزمهم عشرة لوازم:
أحدها: جحد الصانع ونفيه.
الثاني: سلب كماله عنه.
الثالث: وصفه بالنقائص والعيوب.
الرابع: تشبيهه بالجمادات الناقصة.
الخامس: تشبيهه بالمعدومات، بل بالممتنعات.
السادس: الطعن فيما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله.
السابع: القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه، أو الجميع.
الثامن: إفساد الفِطَر والعقول وتغييرها عمَّا فُطرت عليه كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي.
التاسع: إلقاء العداوة بين الوحي والعقل، ودعوى تناقضهما وتعارضهما.
العاشر: القدح في شهادة العقل؛ فإنهم إذا جوَّزوا معارضته ومناقضته لكلام الله ورسوله فقد قدحوا فيه أعظم القدح، وجرحوه أبين الجرح، ويكفي في جرحه
(1)
والطعن
(2)
في شهادته إقرارهم بأنه مضادٌّ مناقضٌ لما
(1)
«ح» : «جروحه» .
(2)
«ح» : «الطعن» . بغير واو.
بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه التاسع والثلاثين
(1)
بعد المائة: إنكم أسأتم القول في العقل غاية الإساءة، وقدحتم فيه أعظم القدح، فإن الله سبحانه ركب العقول
(2)
في عباده ليعرفوا بها صدقه، وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا كماله، وصفاته وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده
(3)
، وأنه الإله الحق، وما سواه باطل؛ فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون [ق 96 أ] عونًا لهم على ما خُلقوا لأجله وأُعطوا العقول له. فأعظم ثمرة العقل معرفته
(4)
لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله، والخضوع والذل والتعبد له. فإذا أقررتم على العقل بأنه لا يدرك ذلك ولا يُصدِّق به بل يعارضه ويُكذِّبه ويردُّه؛ فقد نسبتموه إلى أقبح الجهل، وأعظم شهادة الزُّور؛ وما كان هكذا فلا تُقبل له شهادةٌ في شيءٍ، فضلًا عن تقديم شهادته على ما شهد الله به لنفسه، وشهدت له به رسله من أولهم إلى آخرهم. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الأربعين بعد المائة: إن الشهادة تعتمد على الشاهد وصدقه، فإنها خبرٌ، ولا بد أن يكون المخبر به عالمًا صادقًا، وقد عُلم كذب العقل المعارض لما جاءت به الرسل قطعًا وجملةً، فإنه لا يجتمع صدقه وصدق الرُّسل، ولا صحة ما أخبر به وصحة ما أخبرت به الرُّسل؛ لاستحالة الجمع
(1)
«ح» : «والثلاثون» .
(2)
«ح» : «المعقول» .
(3)
«ح» : «وتوحيدهم» .
(4)
«ح» : «معرفة» .
بين النقيضين، وحينئذٍ فيلزم من قبول شهادته تكذيب شهادة الرُّسل. هذا لو لم يُعلم كذبه فيما شهد به إلَّا بمجرد مخالفته لما شهدت به الرُّسل، فكيف إذا عُلم كذبه بشهادة عقلٍ آخر أصح منه وأزكى وأصدق؟! كيف وقد عُلم كذب العقل الشاهد بخلاف ما جاءت به الرُّسل بوجوهٍ كثيرةٍ من مناقضته واضطرابه وإثباته للشيء ثم نفيه للوازمه، ونفيه للوازمه ثم إثباته لملزوماتها، وتفريقه بين المتساويين، وجمعه بين المختلفين، فقد عُلم كذبه وجهله من هذه الوجوه الثلاثة؟! فلا يصلح أن يُستشهد به على مخالفة السمع بوجهٍ من الوجوه. يوضحه:
الوجه الحادي والأربعون بعد المائة: وهو أن هؤلاء المعارضين ردُّوا حكم العقل الصريح المبني على المقدِّمات الضرورية الفطرية، ونسبوه إلى البطلان، وحينئذٍ فلا يمكنهم أن يُقيموا معقولًا صحيحًا على خلاف ما دلَّ عليه السمع البتة؛ لأن حكم العقل الذي ردُّوه وأبطلوه أظهرُ وأبين وأصدق من حكم العقل الذي قدَّموه على كلام الله ورسوله، بما لا نسبة بينهما، فصاروا في ذلك بمثابة حاكمٍ فاسقٍ ظالمٍ ردَّ شهادة العدول المبرِّزين في العدالة، وقَبِلَ شهادة المجهولين والمعروفين بالكذب والزُّور والفسق؛ ثم لم يكفه ذلك حتى عارض شهادة أولئك العدول الصادقين بشهادة هؤلاء الفسقة الكاذبين، ثم قدَّمها عليها، وطعن في أولئك العدول، فارتكب أنواعًا من الجهل والظُّلم، جمع فيها بين إبطال
(1)
الحقِّ، وتحقيق الباطل، وتزكية شهود الزُّور، والطعن في شهادة
(2)
العدول.
(1)
«ح» : «أطال» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الشهادة» .
فتوَّهوا
(1)
العقول الصحيحة والنصوص الصريحة وضيقوها، واستدعوا العقول الفاسدة، والأقوال الكاذبة، فولوها مكانها واستعملوها؛ كما قال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب إمام الأشعري وأصحابه في كتاب «الصفات» ـ ممَّا نقله عنه أبو بكر بن فورك ـ فقال في الكتاب المذكور في باب القول في الاستواء وهذا لفظه:«ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعًا به يُجيز السؤال بـ «أين» ويقوله، ويستصوب قول القائل:«إنه في السماء» . ويشهد له بالإيمان عند ذلك
(2)
. وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين ـ زعموا ـ ويُحيلون القول به. ولو كان خطأ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها
(3)
: لا تقولي ذلك، [فتوهمين]
(4)
أنه عز وجل محدودٌ في مكانٍ دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان؛ لأنه الصواب دون ما قلتِ. كلا، لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب به الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطقٌ به وشاهدٌ له».
قال: «ولو لم يشهد بصحة
(5)
مذهب الجماعة في هذا الفنِّ خاصة إلَّا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بِنية الفطرة
(1)
تيَّه نفسه وتوَّه بمعنى، أي: حيَّرها وطوَّحها. «الصحاح» (6/ 2229).
(2)
أخرجه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، وقد تقدم (ص 124).
(3)
أي: للجارية في حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(4)
«ح» : «فهو قسمين» . وفي «اجتماع الجيوش الإسلامية» : «فتوهمي» . والمثبت من «درء التعارض» .
(5)
«اجتماع الجيوش» و «درء التعارض» : «لصحة» .
ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك
(1)
لا تسأل أحدًا
(2)
من الناس عنه عربيًّا ولا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا فتقول: أين ربك؟ إلَّا قال: «في السماء» ، إن أفصح، أو أومأ بيده وأشار بطرفه إن كان لا يُفصح، لا يُشير إلى غير ذلك من أرضٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ. ولا رأينا أحدًا داعيًا إلَّا رافعًا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدًا غير الجهمية يُسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يزعمون
(3)
أنهم أفضل الخلق كلهم، فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده [ق 96 ب] وخمسون رجلًا معه؟! نعوذ بالله من الخذلان ومضلات
(4)
الفتن»
(5)
.
ثم ألزمهم ابن كُلَّاب بمذهب الدهرية الملاحدة، وأن يكونوا وهم بمنزلةٍ واحدةٍ؛ فقال في هذا الكتاب: «يقال للجهمية: أليست الدهرية كفارًا ملحدين في قولهم: إن الدهر هو واحدٌ، إلَّا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم عنه، ولا يباين العالم ولا يباينه، ولا يماس العالم ولا يماسه، ولا يداخل شيئًا من العالم ولا يداخله؛ لأنه واحد والعالم غير مفارق له؟
فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: صدقتم، فلِمَ أثبتم المعبود بمعنى الدهر، وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟ هل تجدون بينكم وبينه فرقًا أكثر من أن سمَّيتموه بغير ما سَمَّوْه به، وقد قلتم: إنه غير مفارق للعالم، ولا العالم
(1)
«ح» : «لا تبل» . والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض» .
(2)
«ح» : «أحد» . والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض» .
(3)
«اجتماع الجيوش» و «درء التعارض» : «يدعون» .
(4)
«ح» : «ومعضلات» . والمثبت من «اجتماع الجيوش» و «درء التعارض» .
(5)
نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 193 - 194) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 435 - 436).
مفارق له، ولا هو داخل في العالم، ولا العالم داخل فيه، ولا مماس للعالم، ولا العالم مماس له؟ فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون؟! مَن أولى أن يكون قد شبَّه الله بخلقه نحن أو أنتم؟ ولِمَ رجعتم على من خالفكم بالتكفير، وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحدٌ منفردٌ بائنٌ. فلِمَ لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذْ
(1)
زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم مثل مقالة الضالين، وخرجتم من توحيد ربِّ العالمين»
(2)
.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: «وأخرج من العقل والخبر من قال: إنه سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه. لأنه نفاه نفيًا مستويًا»
(3)
.
وألزم الجهمية في موضع آخر منه مفارقة صريح المعقول، حيث زعموا بأنه سبحانه فعل الأشياء لا بائنة عنه ولا قائمة به حالة فيه، وهذا لا يثبته عقل عاقلٍ
(4)
.
وأخذ هذا من حُجَّة الإمام أحمد وأئمة السُّنَّة على هؤلاء المعطلة الجهمية. قال الإمام أحمد في كتابه الذي خرَّجه في «الرد على الزنادقة والجهمية»
(5)
، وذكره الخلَّال في «الجامع»
(6)
والقاضي أبو يعلى
(7)
وسائر
(1)
«ح» : «إذا» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 194 - 195).
(3)
نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 119) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 44).
(4)
نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 195 - 196).
(5)
«الرد على الزنادقة والجهمية» (ص 155).
(6)
لم يُعثر إلَّا على قطعة منه، وهو من أجلِّ كتب الخلال، حتى قال في «كشف الظنون» (1/ 576):«لم يصنَّف في مذهبه مثله» .
(7)
«إبطال التأويلات» (ص 444).
أصحاب أحمد. قال في باب ما أنكرت الجهمية الضُلَّال أن يكون الله على العرش: «وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذبٌ على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان؛ فقل له: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكانٍ وحُشٍّ قذر رديء. فإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ولم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع» .
فقد بيَّن الإمام أحمد ما هو معلومٌ بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينًا له أو محايثًا له، ومع المحايثة إمَّا أن يكون هو في العالم وإمَّا أن يكون العالم فيه؛ لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثًا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها تكون قائمةً بغيرها، فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده. وكذلك قول من يقول: لا هو مباينٌ ولا محايث لما كان [معلومًا بصريح]
(1)
العقل بطلانه لم يدخله في التقسيم.
والمقصود أن أئمة الكلام وأئمة السُّنَّة متفقون على أن قول الجهمية مخالفٌ لصريح العقل والنقل، وفطرة الله التي فطر عليها عباده، وأنه لا يمكن أحدًا أن يقول بقولهم حتى يتوّه العقل والسمع ويفارق حكمهما.
(1)
«ح» : «صريح» . والمثبت من «درء التعارض» (6/ 144).
الوجه الثاني والأربعون بعد المائة: أن فحول الكلام وأئمة النظر والبحث ـ الذين سبروا المقالات، وتبحروا في المعقولات ـ قد شهدوا لطريقة النُّفاة المعطلة بمناقضتها للسمع والعقل، وأن السمع والعقل إنما يقتضيان الإثبات، وعلو الربِّ على جميع المخلوقات، واستواءه على عرشه فوق سبع سماوات.
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب «الإبانة»
(1)
و «الموجز»
(2)
و «المقالات»
(3)
وهذا لفظه في كتاب «الموجز» إذ هو من أجلِّ كتبه المتوسطات:
«إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه، كما قال:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقد قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] وقال: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 4] وقال حكاية عن فرعون: {يَاهَامَانُ اُبْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ اُلْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] كذَّب موسى في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات.
وقال عز وجل: {آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17][ق 97 أ] والسماوات فوقها العرش الذي هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال:{آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ} يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى
(1)
«الإبانة» (ص 105 - 107).
(2)
عزاه له ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 198 - 201).
(3)
«مقالات الإسلاميين» (ص 290).
السماوات. ألا ترى أن الله سبحانه ذكر السماوات فقال: {وَجَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يرد أن القمر ملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا؟
ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا [يحطونها]
(1)
إذا دعوا نحو الأرض».
قال
(2)
قال
(3)
: «ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادرٌ على كل شيءٍ، والأرض فالله قادر عليها، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويًا
(4)
على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستولٍ على الأشياء كلها؛ كان مستويًا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادرٌ على الأشياء ومستولٍ عليها. وإذا كان قادرًا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحدٍ من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية؛ لم يجز أن يكون الاستواء على
(1)
«ح» : «يحيطونها» . والمثبت من «الإبانة» .
(2)
«الإبانة» (ص 108).
(3)
«الإبانة» (ص 108 - 109).
(4)
«ح» : «مستو» . والمثبت من «الإبانة» .
العرش الاستيلاء الذي هو عامٌّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها».
قال
(1)
ثم قال
(2)
ومقصود الأشعري بهذا الكلام أنه على قول النُّفاة لا فرق بين البشر وغيرهم، فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدًا بحجابٍ منفصلٍ عنه، بل هو محتجبٌ من جميع الخلق، بمعنى أنه لا يمكن أحدًا أن يراه، فاحتجابه عن بعضهم دون بعضٍ دليلٌ على نقيض قولهم. وذلك أن نفاة المباينة يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرُّؤية، لامتناع قبول الذات لها، لا لمانعٍ منفصلٍ يمنعها من حجابٍ منفصلٍ عن المحجوب. وإذا كانت الذات غير قابلة
(1)
«الإبانة» (ص 109).
(2)
«الإبانة» (ص 115 - 116).
للرُّؤية بل حجابها عدم قبولها لتعلق الرُّؤية بها كان هذا الحجاب بالنسبة إلى جميع المخلوقات واحدًا، ولم يختص به البشر دون غيره. فلمَّا أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دلَّ على أنه قد يكلم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله: «إِنَّ اللهَ مَا كَلَّمَ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ أَحْيَا أَبَاكَ فكَلَّمَهُ كِفَاحًا
(1)
»
(2)
. وكما في الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ وَلَا تُرْجُمَانُ»
(3)
. فلا يناقض هذا ما دلَّت عليه الآية، فإن هذا في الدنيا، وما دلت عليه السُّنَّة في دار الآخرة، وتكليم عبد الله بن حرام والد جابر كان بعد الموت، لم يكن في الدنيا.
قال الأشعري
(4)
(1)
أي: مواجهةً ليس بينهما حجاب ولا رسول. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 185).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (14881) والترمذي (3010) وابن ماجه (190، 2800) وابن خزيمة في «التوحيد» (599) وابن حبان (7022) والحاكم في «المستدرك» (3/ 203) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
(3)
متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 38).
(4)
«الإبانة» (ص 116 - 117).
ووجه استدلاله بهذه النصوص أنها صريحة في المباينة والمقابلة والوقوف بين يديه، ولو كان غير داخل في العالم ولا خارجه لم يصح شيءٌ من ذلك. فهذه النصوص صريحةٌ في مباينته
(1)
العالم، ومقابلته للواقف بين يديه، حتى يكون ناكس الرأس قدَّامه، فلو لم يكن فوق العرش بطلت هذه النصوص جملةً.
قال الأشعري
(2)
وهذا الحديث قد رواه أبو أحمد العسال في كتاب «المعرفة»
(3)
من
(1)
«ح» : «مباينة» . ولعل المثبت هو الصواب، وينظر «درء التعارض» (6/ 203).
(2)
«الإبانة» (ص 118).
(3)
نسبه له ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 203 - 204). والحديث أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (22) من طريق عبد الوهاب الوراق به. وتابعه عاصم بن علي عن أبيه به، أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (108) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (618، 887) وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» (16). وقال الذهبي في «العرش» (2 134): «رواه البيهقي في «الصفات» وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «العظمة» وغيرهما بإسنادٍ حسنٍ عنه». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 383): «وحديث ابن عباس: «تَفكَّروا في كل شيءٍ، ولا تَفكَّرُوا في ذات الله» موقوف، وسنده جيدٌ».
وقد روي مرفوعًا من طرق أخرى، وفي أسانيدها ضعف شديد، وحسَّنه الشيخ الألباني في «الصحيحة» (1788).
حديث عبد الوهاب الوراق، ثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ:«تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك» .
ثم قال عبد الوهاب ـ الرجل الصالح العالم، الذي سُئل الإمام أحمد من يُسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب الوراق
(1)
ـ قال
(2)
: «من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة» .
قال الأشعري
(3)
(4)
.
قال
(5)
: «ودليل آخر قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]
(1)
رواه المروذي في «الورع» (4). وينظر: «العرش» للذهبي (226) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 130).
(2)
يعني: عبد الوهاب الوراق. ينظر: «العلو» للذهبي (511) و «العرش» له (226).
(3)
«الإبانة» (ص 110).
(4)
حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم (ص 177) تخريجه.
(5)
«الإبانة» (ص 112 - 113).
وقال تعالى: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى إِلَى اَلسَّمَاءِ وَهْيَ دُخَانٌ} [فصلت: 10] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ اِلرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] وقال: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 3]. وكل ذلك يدلُّ على أنه في السماء مستوٍ على عرشه».
قال
(1)
: «ودليلٌ آخر قوله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَاَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 24] وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ وَاَلْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 208]. وقال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرى} [النجم: 8 - 12]. وقال تعالى لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
[آل عمران: 54]. وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (156) بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 156 - 157]. وأجمعت الأُمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء».
قال الأشعري
(2)
: «ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أن يقولوا جميعًا: يا ساكن العرش
(3)
، لا والذي احتجب بسبع سماوات».
فقد حكى أبو الحسن الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش، وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات. وهذا مناقضٌ لقول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هؤلاء يقولون: ليس للعرش به
(1)
«الإبانة» (ص 114 - 115).
(2)
«الإبانة» (ص 115).
(3)
في «الإبانة» : «السماء» . وذكرت المحققة أنه في نسختين: «العرش» .
اختصاص، وليس شيءٌ من المخلوقات يحجب عنه شيئًا.
وقال لسان المتكلمين القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب «الإبانة»
(1)
و «التمهيد»
(2)
وغيرهما: «فإن قال قائل: أتقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه؛ كما أخبر في كتابه، فقال:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]. ولو كان في كل مكانٍ لكان في بطن الإنسان، وفي المواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا أبطل منها ما كان، ولصحَّ
(3)
أن يُرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا. وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله».
وقد ذكرنا في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية»
(4)
أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصًّا صريحًا عنهم، نقل أصحابهم وغيرهم، وأئمة التفسير، وأئمة اللغة، وأئمة النحو، وأئمة الفقه، وسادات الصوفية، وشعراء الجاهلية والإسلام، ممَّا في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته. ومن طبع الله على قلبه، فإن آيات الله تُتلى عليه وكلام رسوله ولا يزيده ذلك إلَّا مرضًا على مرضه.
(1)
لم نقف عليه.
(2)
«التمهيد» (ص 260).
(3)
«ح» : «ما يصح» . والمثبت من «التمهيد» .
(4)
«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 - 510).
والله الموفق للصواب، لا إله غيره ولا ربَّ سواه.
الوجه الثالث والأربعون بعد المائة: أن هؤلاء لم يكفهم أن سدُّوا على أنفسهم باب الردِّ على أعداء الإسلام بما وافقوهم فيه من النفي والتعطيل، حتى فتحوا لهم [ق 98 أ] الباب، وطرَّقوا لهم الطريق إلى محاربة القرآن والسُّنَّة. فلمَّا دخلوا من بابهم، وسلكوا من طريقهم، تحيزوا معهم وصاروا جميعًا حربًا للوحي، وادَّعوا أن العقل يخالفه. ولا يمكن الردُّ على أهل الباطل إلَّا مع اتباع السُّنَّة من كل وجهٍ، وإلَّا فإذا وافقها الرجل من وجهٍ وخالفها من وجهٍ طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه، واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسُّنة.
ومن تدبَّر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتهم إنما تقوى على من ترك شيئًا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركه من الحقِّ من أعظم حجة للمبطل عليهم؛ ويجد كثيرًا من أهل الكلام يوافقون خصومهم على الباطل تارةً، ويخالفونهم في الحقِّ تارةً، فيتسلطون عليهم بما وافقوهم فيه من الباطل، وبما خالفوه
(1)
من الحقِّ.
وليس لمبطلٍ ـ بحمد الله ـ حجةٌ ولا سبيلٌ بوجهٍ من الوجوه على من وافق السُّنَّة ولم يخرج عنها، حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السُّنَّة. فالسُّنَّة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه
(1)
«ح» : «خالفوهم» . ولعل المثبت هو الصواب.
من الواصلين، وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين. فمن وافق مبطلًا على شيءٍ من باطله جرَّه بما وافقه منه إلى بقية
(1)
باطله.
وقد ضرب بعض أهل العلم لذلك مثلًا مطابقًا فقال: مثل الحق مثل طريق مستقيم واسع، وعلى جنبيه قُطَّاع ولصوص، وعندهم خواطئ
(2)
قد ألبسوهنَّ
(3)
الحلي والحلل وزينوهن للناظرين. فيمر الرَّجل بالطريق فيتعرَّضْن له، فإن التفت إليهن طمعن في حديثه، فألقين إليه الكلام، فإن راجعهن وأجابهن دعينه
(4)
إلى الذبح، فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرًا أو قتيلًا! فكيف يُحارب قومًا مَن هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم، بل يصير هذا عونًا من أعوانهم، قاطعًا من قطاع الطريق. ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلَّا من عرف الطريق المستقيم وقُطَّاع الطريق ومكرهم وحيلهم. وبالله التوفيق، وهو المستعان.
وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس عليه
(5)
إلى الجنة، ونصب بجانبيه كلاليب
(6)
تخطف الناس بأعمالهم، فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي، تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلوكه، والمعصوم من عصمه الله.
(1)
«ح» : «نفيه» .
(2)
الخاطية: المرأة الفاجرة، العاهرة. «تكملة المعاجم العربية» (4/ 129).
(3)
«ح» : «ألبسوهم» .
(4)
كذا في «ح» ، والصواب:«دَعَونه» .
(5)
«عليه» ليس في «ح» .
(6)
الكلاليب: الخطاطيف، واحدها كَلوب. «مشارق الأنوار» (1/ 340).
الوجه الرابع والأربعون بعد المائة: أن يقال لهذه الفرقة المعارضة بين النقل والعقل: أتدَّعون هذه المعارضة بين العقل وجميع النقل أو بعضه؟
والأول لا يقوله مسلمٌ، بل ولا عاقلٌ ولا أحد من بني آدم، فلا حاجة إلى الكلام على تقريره.
وإذا ادَّعيتم أن التعارض واقعٌ بين العقل وبين بعض المنقول، قيل لكم: المنقول أنواع متعددة:
نوعٌ يتعلق بالأمر والنهي والإباحة.
ونوعٌ يتعلق بمبدأ الخليقة وتخليق العالم ومادته ومبدئه.
ونوعٌ يتعلق بالمعاد وحشر الأجساد وطي العالم وخرابه وإنشاء الخلق نشأةً أخرى.
ونوعٌ يتعلق بالإخبار عن الأمم السالفة والقرون الماضية وأحوالهم وما أصابهم من نعمة ونقمة.
ونوعٌ يتعلق بالإخبار عن عجائب المخلوقات وبدائع الآيات في الأرض والسماء.
ونوعٌ يتعلق بأسماء الربِّ وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه.
فأي هذه الأنواع تدَّعون معارضة العقل لها حتى يقع الكلام معكم فيه؟
ومعلومٌ أنه ما من نوعٍ من هذه الأنواع إلَّا وقد عارضه طائفةٌ من شياطين الإنس بآرائهم وعقولهم. وقد قدَّمنا معارضة شيخ القوم
(1)
للأمر بمعقوله،
(1)
يعني: إبليس لعنه الله.
وأن العقل يقتضي ألَّا يسجد الفاضل للمفضول، وبيَّنا سريان تلك المعارضة في تلامذته وأتباعه، حتى إن منهم من عارض الأمر كله بعقله، وذكروا وجوهًا عقلية تدفع الأمر والنهي، والله يعلم أن الوجوه العقلية التي ذكرها المعطلة النُّفاة لدفع علو الربِّ واستوائه على عرشه وصفات كماله أوهى منها أو من جنسها.
وطائفةٌ أخرى عارضت نصوص المبدأ والمعاد بمعقولات هي من جنس معقولات نُفاة الصفات، فهل يوافقون هؤلاء في صحة هذه المعارضة أم يخالفوهم
(1)
؟
وفي أي الأنواع تدَّعون المعارضة؟
فإن قصرتموها على نوع الأسماء والصفات، قيل لكم: فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين سائر هذا [ق 98 ب] النوع أم بينه وبين بعضه؟
فإن قلتم: إن العقل يُعارض جميع المنقول، كان هذا من الكفر والإلحاد والزندقة ما لا مزيد عليه.
وإن قلتم: بل المعارضة حاصلةٌ بين العقل وبين بعض المنقول دون بعض؛ قيل لكم: فما هو القدر الذي عارضه العقل من المنقول، وما جنسه وصفته، وفي أي باب هو؟
فإن قلتم: ما خالف صريح العقل، كان هذا تعريفًا دوريًّا غير مقيد، وكان حاصل كلامكم إذا عارض العقل لما خالف العقل وجب تقديم العقل، وهذا من جنس الهذيان.
(1)
كذا في «ح» دون نون الرفع، وقد سبق (ص 236) مثله.
فإن قلتم: نحن قلنا إذا جاء النقل بخلاف العقل وجب تقديم العقل، قيل لكم: فالسؤال عائد بعينه، والمطالبة قائمة، ففي أي الأنواع جاء النقل مناقضًا للعقل
(1)
؟
ولا ضابط لفرقةٍ منكم في دعوى هذه المناقضة أصلًا، بل كل من نفى شيئًا ممَّا أثبته الرسول قال قد عارضه صريح العقل. فإمامكم الذي تقدمون نصوص «إشاراته» على نصوص القرآن والسُّنَّة عنده أن صريح العقل معارضٌ لنصوص المعاد وحدوث العالم وإثبات الصِّفات.
والقدرية المجوسية عندهم أن صريح العقل معارضٌ للنصوص المثبتة للقدر.
والجهمية المعطلة عندهم أن العقل الصريح معارضٌ لنصوص الرُّؤية، والعلو، والاستواء على العرش، وصفة التكلم والتكليم، وغير ذلك من الصِّفات.
فمع من أنتم من أرباب هذه المعارضات، وأهل هذه المعقولات؟ هل تصوبون جميعهم أم بعضهم؟ ومن البعض المصيب، ومن المخطئ؟ وفي أي شيءٍ أصاب هؤلاء وأخطأ هؤلاء؟
ولقد صدق القائل: إنكم لا ترجعون في الحقيقة إلى شيءٍ، وإن منتهاكم الشك والحيرة. وبالله التوفيق. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الخامس والأربعين بعد المائة: إن نهاية أمر هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بالرأي انتهاؤهم إلى الشك والتشكيك والحيرة في أمرهم،
(1)
«ح» : «للنقل» . والمثبت هو الصواب.
فتجدهم يشكون في أوضح الواضحات، وفيما يجزم عوام الناس به، ويتعجبون ممَّن يشك فيه، ولا تعطيك كتبهم وبحوثهم إلَّا الشك والتشكيك والحيرة والإشكالات، وكلما ازددت فيها إمعانًا ازددت حيرة وشكًّا حتى يؤول بك الأمر إلى الشك في الواضحات.
واعتبر هذا بإمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم
(1)
وكتبه تجده شاكًّا في الزمان والمكان لم يعرف حقيقته وماهيته.
وشاكٌّ
(2)
في وجود الربِّ تعالى: هل هو عين ماهيته أو زائد عليها؟ وهل الوجود مقول على الواجب والممكن بالتواطؤ أو بالاشتراك اللفظي؟ وهل الوجود الواجب وجود محضٌ لا يُقارن شيئًا من الماهيات، أم وجود مقارن لماهية غير معلومة للبشر؟
وشاكٌّ في الربِّ سبحانه: هل كان معطلًا في الأزل والفعلُ ممتنعٌ عليه، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا تجدد أمرٍ حصل في الفاعل كما يقوله المتكلمون، أو لم يزل فعله مقارنًا له كما يقوله الفلاسفة، وهو حائرٌ بين هذين القولين، معارضٌ أدلة كلٍّ منهما بأدلة الآخر؟ وتارةً يرجح أدلة المتكلمين في كتبه الكلامية، وتارةً يرجح أدلة الفلاسفة في كتبه الفلسفية، وتارةً يصُفُّ الجيشين ويلقي الحرب بينهما، ولا يتحيز إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما في كتبه الجامعة بين الطريقتين.
(1)
يعني: الفخر الرازي.
(2)
«ح» : «شاكل» . والمثبت موافق لما سيأتي سبع مرات، والجادة في المواضع الثمانية:«شاكًّا» لأنه معطوف على مفعول به.
وشاكٌّ في الجوهر الفرد، فمرةً يثبته، ويوقف الإيمان بالمبدأ والمعاد عليه، وتارةً ينفيه ويبطله.
وشاكٌّ في تماثل الأجسام، فتارةً يثبته، ويحتج عليه، وتارةً ينفيه.
وشاكٌّ في مسألة حلول الحوادث، فتارةً ينفيها، وتارةً يقول بها ويقوي أمرها ويلزمها جميع الطوائف.
وشاكٌّ في النبوات: هل هي ثابتة على طريق الفلاسفة، أو على طريق المعتزلة، أم على طريق الأشعرية؟
وشاكٌّ في مسألة التحسين والتقبيح، فتارةً يسلك فيها مسلك النُّفاة، وتارةً مسلك المثبتين.
وشاكٌّ في إثبات الصِّفات، ففي كتبه الفلسفية
(1)
ينفيها، وفي الكتب الكلامية يثبتها إثباتًا لا حقيقة له، بل هو لفظٌ بلا معنًى.
وشاكٌّ في الإنسان: هل هو هذا البدن المشهود، أم أمر آخر وراءه، وهو الرُّوح، أم مجموع الأمرين؟
وشاكٌّ في الرُّوح وحقيقتها وماهيتها، وهل هي جسم أو جوهر مجرد لا داخل العالم ولا خارجه أو عرض من أعراض البدن؟
وشاكٌّ في مسألة الكلام والرُّؤية، فمرةً يقوي فيها قول المعتزلة، ومرةً قول الأشعرية.
إلى أضعاف ما ذكرنا من المسائل، ولهذا تجد أتباعه أكثر الناس شكًّا وتشكيكًا.
(1)
«ح» : «كبه الفلسفة» . وقد سبقت على الصواب.
والفاضل عندهم الشاك، وكلما كان الرجل أعظم شكًّا كان عندهم أفضل، [ق 99 أ]. فهذا شكهم في الدنيا، وأمَّا عند الموت فقد قال العارف بحقيقة أمرهم
(1)
: «أكثر الناس شكًّا عند الموت أرباب الكلام» .
وقد أقروا على أنفسهم بالشك وعدم اليقين في كتبهم وعند موتهم، كما تقدم
(2)
حكاية ذلك عن أفاضلهم ورؤوسهم حتى قال بعضهم
(3)
عند موته: «والله ما أدري على ماذا أموت عليه، ثم قال: اشهدوا علي أني على عقيدة أمي» .
وقال الآخر
(4)
: «اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلَّا مسألة واحدة، وهي أن الممكن مفتقرٌ إلى الواجب» . ثم قال: «الافتقار أمر عدمي، بل أموت وما عرفت شيئًا» .
وقال الآخر
(5)
: «أضع الإزار
(6)
على وجهي، ثم أقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولا يتبيَّن لي منها شيءٌ».
ويقول الآخر
(7)
: «لقد تأمَّلت الطُّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن:
(1)
هو أبو حامد الغزالي، كما تقدم (ص 17).
(2)
ينظر (ص 16 - 17، 508).
(3)
هو أبو المعالي الجويني، كما تقدم (ص 17).
(4)
هو الخونجي، كما تقدم (ص 17).
(5)
هو ابن واصل الحموي، كما تقدم (ص 508).
(6)
كذا في «ح» ، وتقدم بلفظ:«الملحفة» .
(7)
هو الفخر الرازي، كما تقدم (ص 17).
أقرأ في الإثبات: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9]
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي». وقد حكينا كلامه فيما تقدم
(1)
.
وقال الآخر
(2)
:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
وهذا بابٌ طويلٌ، من أراد الوقوف عليه فليطالع أخبار القوم وسيرتهم، وما أقرُّوا به على أنفسهم. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه السادس والأربعين بعد المائة: إن أئمة الإسلام وملوك السُّنَّة لمَّا عرفوا أن طرق المتكلمين إنما تنتهي
(3)
إلى هذا وما هو شرٌّ منه تنوَّعوا في ذمِّها، والطعن فيها، وعيب أهلها، والحكم بعقوبتهم، وإشهارهم والتحذير منهم.
قال أبو القاسم بن عساكر
(4)
: «وقد حُفظ عن غير واحدٍ من علماء الإسلام عيب المتكلمين، وذمُّ أهل الكلام. ولو لم يذمَّهم غير الشافعي
(1)
تقدم (ص 17).
(2)
قيل: هو الشهرستاني، وقيل: ابن الصائغ الأندلسي، وقيل: ابن سينا، كما تقدم (ص 16).
(3)
«ح» : «ستي» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
«تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري» (ص 333 - 337).
لكفى، فإنه قد بالغ في ذمِّهم، وأوضح حالهم وشفى».
ثم ذكر بإسناده إلى الفريابي، حدثني بشر بن الوليد، قال: سمعت أبا يوسف يقول: «من طلب الدِّين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس» . قال البيهقي: وروي هذا الكلام عن مالك بن أنسٍ.
ثم ذكر ابن عساكر عن الشافعي أنه قال: «لَأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خيرٌ له من أن يُبتلى بالكلام. ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيءٍ ما ظننت أن مسلمًا يقوله» .
وقال ابن أبي حاتم
(1)
: حدثنا أحمد بن أصرم المزني، قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: «ما تردَّى
(2)
أحدٌ بالكلام فأفلح».
وقال
(3)
: حدثنا الربيع، قال: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة، وقوم في المجلس يتكلمون بشيءٍ من الكلام، فصاح فقال: إمَّا أن تجاورونا بخيرٍ، وإمَّا أن تقوموا عنا.
وذكر أيضًا
(4)
عن ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: «لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد» .
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت يونس بن عبد الأعلى
(1)
«آداب الشافعي ومناقبه» (ص 142 - 143).
(2)
تردى وارتَدَى بمعنًى، أي: لبس الرداء. «الصحاح» (6/ 2355).
(3)
«آداب الشافعي ومناقبه» (ص 141).
(4)
يعني: ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» (ص 336).
يقول: «جئت الشافعي بعدما كلم حفصًا الفرد، فقال: غبت عنَّا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيءٍ ما توهمته قط، ولأن يُبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك
(1)
بالله خيرٌ له من أن يبتلى بالكلام».
وقال الإمام أحمد: «علماء الكلام زنادقة»
(2)
.
قال شيخنا
(3)
: «والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمِّه، وذمِّ أصحابه، والنهي عنه، وتجهيل أربابه، وتبديعهم وتضليلهم = هو هذه الطُّرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصِّفات والعلو والاستواء على العرش، وجعلوا بها القرآن مخلوقًا، ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن وتكليمه لعباده، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده؛ فإنهم سلكوا فيه طُرقًا غير مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسُّنَّة وصريح المعقول. وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثيرٍ من مسائلهم ورسائلهم، أحكامهم
(4)
ودلائلهم.
وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور. وما من أحد قد شدا طرفًا من العلم إلَّا وقد بلغه من ذلك بعضه، لكن كثيرًا من الناس لم يحيطوا علمًا بكثيرٍ من أقوال السلف والأئمة. وقد أفرد الناس في ذلك مصنَّفاتٍ، مثل
(1)
«ح» : «بالشرك» . والمثبت من «تبيين كذب المفتري» .
(2)
ذكره الغزالي في «إحياء علوم الدين» (1/ 95) وابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 75) وذكره ابن تيمية في «درء التعارض» (7/ 157) وغيره.
(3)
«درء التعارض» (7/ 144 - 167) مطولًا.
(4)
في «درء التعارض» : «وأحكامهم» . وذكر المحقق أنه في نسخة بغير واو كما هنا.
أبي عبد الرحمن السلمي، ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وسمَّى كتابه «ذم الكلام وأهله» .
وممَّن ذكر اتفاق السلف على ذلك: أبو حامد الغزالي في أجلِّ كتبه، الذي سماه «إحياء علوم الدِّين» [ق 99 ب] قال فيه
(1)
قال: «وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف» . ثم ذكر بعض نصوص الشافعي التي تقدمت.
قال: «وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلَّا وفي قلبه دَغَلٌ
(2)
».
قال: «وبالغ فيه حتى [هَجَرَ]
(3)
الحارث المحاسبي».
(1)
«إحياء علوم الدين» (1/ 94 - 98) مطولًا.
(2)
الدغل بالتحريك: الفساد، مثل الدخل. يقال: قد أدغل في الأمر، إذا أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. «الصحاح» (4/ 1697).
(3)
أثبته من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض» .
قال: «وقال مالك: أرأيت إن جاء رجلٌ أجدل من رجلٍ يدع الرجل دينه كل يومٍ لدينٍ جديدٍ» .
وهذا الذي [حكى]
(1)
عنه أبو حامد تأويلَ [قول]
(2)
مالك هو محمد بن خويز منداد البصري المالكي، قال:«إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين تُرَدُّ شهادتهم هم أهل الكلام» . قال: «وكل متكلمٍ هو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه، أشعريًّا كان أو غير أشعري» . هكذا ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»
(3)
.
ثم ذكر أبو حامد كلام أبي يوسف: «من طلب العلم بالكلام تزندق» .
قال: «وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر عنهم ما نقل من التشديدات فيه، وقالوا: ما سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم ـ مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم ـ إلَّا لعلمهم
(4)
بما يتولد عنه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»
(5)
. أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء».
(1)
«ح» : «حكاه» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«قول» سقط من «ح» .
(3)
«جامع بيان العلم وفضله» (2/ 942).
(4)
«ح» : «بعلمهم» . والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض» .
(5)
أخرجه مسلم (2670) عن عبد الله بن مسعود.
قال: «واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدِّين لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعلِّم طريقه، ويُثني على أربابه. فقد علَّمهم الاستنجاء، وندبهم إلى حفظ الفرائض، ونهاهم عن الكلام في القدر. وعلى هذا استمر الصحابة، فالزيادة على الأستاذ طغيانٌ وظلمٌ، وهم الأستاذون والقدوة، ونحن الأتباع والتلامذة
…
». إلى أن قال: «وأمَّا منفعته فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف. وهذا إذا سمعته من محدثٍ أو حشويٍّ ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممَّن خبر الكلام، ثم قلاه
(1)
بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود».
قال: «ولعمري لا ينفك الكلام عن كشفٍ وتعريفٍ وإيضاحٍ لبعض الأمور، ولكن على سبيل النُّدور
(2)
في أمور جليلة تكاد تنال
(3)
قبل التعمق في صناعة الكلام».
قال
(4)
: «بل منفعته شيءٌ واحدٌ وهو حراسة العقيدة وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العاميَّ يستفزه
(5)
جدل المبتدع وإن
(1)
أي: أبغضه، تقول: قلاه يقليه قِلًى وقَلاءً. «الصحاح» (6/ 2467).
(2)
«ح» : «المندوب» . والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض» .
(3)
«ح» : «تسأل» . وفي «إحياء علوم الدين» : «تفهم» . والمثبت من «درء التعارض» .
(4)
«ح» : «قل» . والمثبت من «درء التعارض» . والكلام متصل بسابقه في «إحياء علوم الدين» .
(5)
«ح» : «يستفز» . والمثبت من «إحياء علوم الدين» و «درء التعارض» .
كان فاسدًا، ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة».
وقال: «إن فيه من المضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وفيه مضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ويمكَّن هذا الإصرار بواسطة التعصب
(1)
الذي يثور عن الجهل».
فهذا كلام أبي حامد، مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك، يذكر اتفاق سلف أهل السُّنَّة على ذم الكلام، ويذكر أنه ليس فيه فائدة إلَّا الذَّب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول أمته. وإذا لم يكن فيه فائدة إلَّا الذَّب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضًا لها، فضلًا عن أن يكون مقدَّمًا عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول معارضًا للكتاب والسُّنَّة. وما كان معارضًا لهما فهو من الكلام الباطل المردود المرذول، الذي لا يُنازع
(2)
في ذمه أحدٌ من أهل الإسلام، لا من السلف ولا من أتباعهم من الخلف. هذا مع أن السلف والأئمة يذمُّون [ق 100 أ] ما كان من العقليات والجدل والكلام مبتدعًا وإن قُصد به نصر السُّنَّة، فكيف ذمُّهم لمن عارض السُّنَّة بالبدعة، والوحي بالرأي، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحقَّ؟
(1)
«إحياء علوم الدين» : «التعب» . وهو في «درء التعارض» كما في الأصل، وهو الصواب.
(2)
«ح» : «شارع» . والمثبت من «درء التعارض» .
وهذا الذمُّ من أبي حامد للكلام وأهله ذمٌّ متوسطٌ بحسب ما اطلع عليه من غوائله وآفاته، وبحسب ما بلغه من السلف. ولم يكن جزمه بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول كجزمه بما سلكه من طريق الكلام والفلسفة. فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره، فإن ما ذكره من أن مضرته في إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يُقال إذا كان الكلام في نفسه حقًّا، بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة، بل معلومة
(1)
، فإذا كان مع ذلك قد يُورث النظر فيه شبهًا وعداوة قيل فيه ذلك.
وأمَّا السلف فلم يكن ذمُّهم للكلام لمجرد
(2)
ذلك، ولا
(3)
لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، ولا حرَّموا
(4)
معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك، ولا حرَّموا نظرًا صحيحًا في دليلٍ صحيحٍ يُفضي إلى علمٍ نافعٍ، ولا مناظرة في ذلك إمَّا لهدى مسترشدٍ، وإمَّا لقطع مبطلٍ؛ بل هم أكمل الناس نظرًا واستدلالًا واعتبارًا، وهم نظروا في أصحِّ الأدلة وأقومها، فإن القوم كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه، وأدله على الحقِّ، وأوصله إلى المقصود بأقرب الطُّرق، وهو كلام الله.
وكانوا ينظرون في آيات الله تعالى الأفقية والنفسية، فيرون منها من الأدلة
(1)
«ح» : «معلوماته» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
«ح» : «لا المجرد» . والمثبت من «درء التعارض» .
(3)
«ح» : «لا» . بغير واو، والمثبت من «درء التعارض» .
(4)
«ح» : «صرحوا» . والمثبت من «درء التعارض» .
ما يُبيِّن أن القرآن حقٌّ، فيتطابق عندهم السمع والعقل، ويتصادق الوحي والفطرة، كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اِلْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اُلْحَقُّ} [فصلت: 52] وقال: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ} [سبأ: 6].
والإنسان له حالتان: إمَّا أن يكون ناظرًا، وإمَّا أن يكون مناظرًا. والناظر له حالتان: إحداهما يُحمد فيها، والثانية يُذم فيها. والمناظر له حالتان أيضًا. قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] فأشار بقيامهم اثنين اثنين إلى المناظرة، وفُرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى محمودٍ ومذمومٍ.
فالنظر المحمود: النظر
(1)
في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحقِّ.
والنظر المذموم نوعان:
أحدهما: النظر في الطريق الباطل، وإن قُصد به التوصل إلى الحقِّ؛ فإن الطريق الباطل لا يُفضي إلى الحقِّ.
والثاني: النظر والفكر الذي يُقصد به ردُّ قول خصمه مطلقًا، حقًّا كان أو باطلًا، فهو ينظر نظرًا يردُّ به قول من يبغضه ويُعاديه بأي وجهٍ كان.
وأمَّا المناظرة فتقسم إلى محمودةٍ ومذمومةٍ، والمحمودة نوعان، والمذمومة نوعان. وبيان ذلك أن المناظر إمَّا أن يكون عالمًا بالحقِّ، وإمَّا أن يكون طالبًا له، وإمَّا ألَّا يكون عالمًا به ولا طالبًا له. وهذا الثالث هو
(1)
«ح» : «بالنظر» .
المذموم؛ وأمَّا الأولان فمن كان عالمًا بالحق فمناظرته التي تُحمد أن يُبيِّن لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدًا طالبًا للحق، أو يقطعه أو يكسره
(1)
إن كان معاندًا غير طالبٍ للحق ولا متبعٍ له، أو يوقفه ويبعثه على النظر في أدلة الحقِّ إن كان يظنُّ أنه على الحقِّ وقصده الحقُّ
(2)
.
قال تعالى: {اَدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَاَلْمَوْعِظَةِ اِلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسامٍ بحسب حال المدعو:
فإنه إمَّا أن يكون طالبًا للحق راغبًا فيه محبًّا له مؤثرًا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظةٍ ولا جدالٍ.
وإمَّا أن يكون معرضًا مشتغلًا بضدِّ الحقِّ، ولكن لو عُرِّفه عرفه وآثره واتبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
وإمَّا أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يُجادَل بالتي هي أحسن، فإن رجع إلى الحقِّ وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن.
فلمناظرة المبطل فائدتان:
إحداهما: أن يُرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكفَّ شرُّه وعداوته، ويتبين للناس أن الذي معه باطلٌ.
وهذه الوجوه كلها لا يُمكن أن تُنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته
(1)
في «درء التعرض» : «ويكف عدوانه» .
(2)
هذا آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرف من المصنِّف.
للطوائف، فإنه كفيل بذلك على أتمِّ الوجوه لمن تأمَّله وتدبَّره ورُزق فهمًا فيه، وحُججه مع أنها في أعلى مراتب الحُجج ـ وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات ـ فهي أقرب شيءٍ تناولًا وأوضح دلالةً، وأقوى برهانًا، وأبعد من كل شبهةٍ وتشكيك.
وأمَّا طريق المتكلمين وأرباب الجدل فهي كما قال الخبير بها
(1)
:
حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا
…
حَقًّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ
وأَخصُّ أوصافها أنها تعطيك مناقضة الخصوم واضطراب أقوالهم، وأمَّا أن تعطيك علمًا وهدًى
فَإِذَا بَعَثْتَ إِلَى السِّبَاخِ بِرَائِدٍ
…
تَبْغِي الرِّيَاضَ فَقَدْ ظَلَمْتَ الرَّائِدَا
(2)
وإذا كان هذا حالها وهي خيرٌ من طريق الفلاسفة وأقرب إلى الحقِّ، فكيف يُعارض الوحي بهذه الطرق وهذه، ثم تقدم عليه؟!
الوجه السابع
(3)
والأربعون بعد المائة: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها، لا تقبل سوى الحقِّ، ولا تُؤْثر عليه غيره لو تُركت
(4)
، وأيَّدها
(1)
البيت لابن الرومي في «ديوانه» (ص 303)، وروايته:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
…
حجج تضلّ عن الهدى وتجور
وُهُنٌ كآنية الزّجاج تصادمت
…
فهوت، وكلّ كاسر مكسور
(2)
البيت لابن سنان الخفاجي، وهو في «ديوانه» (ص 159).
(3)
«ح» : «التاسع» . وكتب الناسخ على حاشية «ح» : «كذا وجدتها» . والمثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «تريث» .
بعقولٍ
(1)
تُفرق بين الحق والباطل، وكمَّلها بشرعةٍ تُفصِّل لها
(2)
ما هو مستقرٌّ في الفطرة وأدركه العقل مجملًا.
فالفطرة قابلة، والعقل مزكٍّ، والشرع مُبصِّر مُفصِّل لما هو مركوز في الفطرة، مشهود أصله دون تفاصيله
(3)
بالعقل. فاتفقت فطرة الله المستقيمة والعقل الصريح والوحي المبصِّر المكمِّل على الإقرار بموجودٍ فَطَر هذا العالم بجميع ما فيه عاليه وسافله وما بينهما، وشهدت الفِطَر والعقول والشرائع المنزلة كلها بأنه ليس من جنس العالم، ولا مماثلًا له، وأنه مباين له، غير ممتزج به، ولا متَّحدٍ به، ولا حالٍّ فيه، وأنه فوق جميع العالم عالٍ عليه، بجميع أنواع العلو ذاتًا وقهرًا وعظمة، وأنه موصوفٌ بجميع الكمال المقدَّس من لوازم ذاته، فتوهم رفعه عنه كتوهم عدم ذاته.
ومن لم يكن هذا الأصل معلومًا عنده علمًا لا يَشك فيه ولا يَرتاب بل هو لقلبه كالمشاهدات لبصره، وإلا
(4)
اضطرب عليه باب معرفة الله ووحدانيته وتصديق رسله.
فلا يجوز أن يُقدح في مقدِّمات هذا الأصل التي هي في أعلى مراتب الضروريات بمقدِّمات يدَّعي أربابها أنها نظريات، ومن خالفهم فيها يقول: إنها غير صحيحةٍ بل معلومة الفساد، إمَّا بضرورة العقل، أو بالنظر الصحيح المُفضي إلى الضرورة.
(1)
«ح» : «بمعقول» .
(2)
«تفصل لها» في «ح» : «يصل لها بها» .
(3)
«ح» : «تفاصله» .
(4)
تقدم (ص 728) التعليق على هذا التركيب.
ومن أبين [ما]
(1)
شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوُّه سبحانه فوق جميع العالم، فإن الله فطر على هذا الخليقة حتى الحيوان البهيم. ومن أنكر هذا فهو في جانب، والفطر السليمة والعقول المستقيمة وجميع الكتب السماوية ومن أُرسل بها في جانب.
قال الشيخ عبد القادر الكيلاني المتفق على كراماته وآياته وولايته، المقبول عند جميع الفرق:«إن كون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه في كل كتابٍ أنزل على كل نبيٍ أُرسل»
(2)
.
وصدق قُدس روحه؛ فإن الرُّسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلافٌ في أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله، وإن تنوَّعت شرائعهم العملية بحسب المصلحة، فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات، وإن كان في الكتابين ـ اللذين لم يُنزل من السماء كتاب أهدى منهما ـ من ذلك ما ليس في غيرهما، حتى زعمت أئمة المعطلة أنهما كتابا تشبيه، ومن جاء بهما إماما المشبهة.
وقال بعض من تتبع النصوص النبوية في ذلك والآثار السلفية إنه وجدها تزيد على ألف
(3)
، وقال غيره: إنها تزيد على مائة ألف. ولا تنافي بينهما؛ فإن
(1)
«ح» : «كما» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«الغنية لطالبي طريق الحق» (1/ 87). ونقله عنه: ابن تيمية في «الفتوى الحموية» (ص 479) والذهبي في «العرش» (2/ 369) وفي «العلو» (ص 265) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 93، 425).
(3)
قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/ 121): «قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عالٍ على الخلق، وأنه فوق عباده» .
الأول أراد ما يدل على نصوص العلو والاستواء، والثاني أراد ما يدل على المباينة، وأن الله سبحانه بائنٌ من خلقه.
وأمَّا تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرقٍ كثيرةٍ جدًّا
(1)
:
منها
(2)
: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباينٌ للمخلوقات، وثبت أن العالم كُري ـ كما اعترف به النُّفاة المعطلة، وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الربُّ تعالى في العلو ضرورةً؛ وذلك لأن العالم إذا كان مستديرًا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط، فإذا كان الربُّ تعالى مباينًا للعالم امتنع أن يكون في السفل، فوجب قطعًا أن يكون في العلو، فإذا كان العالم كُريًّا وقد ثبت بالضرورة أنه إمَّا مُداخل له وإمَّا مُباين له، وليس بمُداخل قطعًا؛ ثبت أنه مباينٌ قطعًا. وإذا كان مباينًا فإمَّا أن يكون تحته أو فوقه قطعًا، وليس تحته بالضرورة، وجب أن يكون فوقه بالضرورة.
ولا جواب عن هذا البتة إلَّا بنفي النقيضين، وهو أنه لا مباين ولا مداخل، وهذا حقيقة العدم المحض، ونفيهما [نظير نفي القدم]
(3)
والحدوث عنه، وأن يُقال ليس بقديمٍ ولا حادثٍ، فإن القدم والحدوث من مقولة «متى» وهي ممتنعة عليه، كما أن المباينة والمداخلة من مقولة «أين» وهي ممتنعة عليه. فالشُّبه والأدلة التي تنفي وجود الصانع من جنس الشُّبه التي تنفي مباينته للعالم وعلوه عليه، لا فرق بينهما البتة.
(1)
ذكر المصنِّف ثلاثين طريقًا، ثم قال:«فهذه ثلاثون طريقًا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما» .
(2)
هذا هو الوجه الثامن والأربعون بعد المائة.
(3)
«ح» : «بطريقي العدم» . والمثبت ما يقتضيه السياق.
الطريق الثاني
(1)
: أن يُقال: علوه سبحانه [ق 101 أ] على العالم، وأنه فوق السماوات كلها، وأنه فوق عرشه = أمرٌ مستقرٌّ في فِطَر العباد، معلومٌ لهم بالضرورة؛ كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارًا بذلك وتصديقًا من غير تواطؤٍ منهم على ذلك ولا تشاعر، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة، وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلَّا من تلقَّاه منهم.
وأمَّا العامة من جميع الأُمم ففِطَرهم جميعهم مُقرةٌ بأن الله فوق العالم، وإذا قيل لهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا ينزل منه شيءٌ، ولا يقرب إليه شيءٌ، ولا يقرب هو من شيءٍ، ولا يحجب العباد عنه حجابٌ منفصلٌ، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو = أنكرت فِطَرهم ذلك غاية الإنكار، ودفعته غاية الدفع.
قال أبو الحسن الأشعري في كتبه: «ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض» .
هذا لفظه في أجلِّ كتبه وأكبرها، وهو «الموجز» ، وفي أشهرها، وهو «الإبانة»
(2)
التي اعتمد عليها أنصر
(3)
الناس له وأعظمهم ذبًّا عنه من أهل
(1)
هذا هو الوجه التاسع والأربعون بعد المائة.
(2)
«الإبانة عن أصول الديانة» (ص 107).
(3)
«ح» : «أبصر» بالباء الموحدة، ولعل المثبت هو الصواب، وهو الأنسب مع قوله عقبه:«وأعظمهم ذبًّا عنه» . أو تكون العبارة: «أبصر الناس به» . أي أعلمهم به.
الحديث: أبو القاسم بن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب «تبيين كذب المفتري»
(1)
.
ثم قال في كتابه
(2)
وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب في كتاب «الصفات»
(3)
ـوقد ذكر مسألة الاستواء وقد تقدم حكاية لفظه
(4)
وقال ابن عبد البر إمام أهل السُّنَّة ببلاد الغرب في «التمهيد»
(5)
لمَّا تكلم
(1)
«تبيين كذب المفتري» (ص 389).
(2)
«الإبانة» (ص 115).
(3)
لم نقف عليه، وكلامه هذا نقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 194) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 435 - 436).
(4)
تقدم (ص 835 - 836).
(5)
«التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» (7/ 128 - 129). ونقله المصنِّف بتمامه في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 205 - 213).
على حديث النزول قال: «هذا حديثٌ ثابتٌ من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. وهو منقول من طُرقٍ سوى هذه
(1)
من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه دليلٌ على أن الله في السماء على العرش، فوق سبع سماوات، كما قال
(2)
الجماعة. وهو من حجتهم على المعتزلة
(3)
في قولهم: إن الله بكل مكان».
قال
(4)
: «والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى
…
» وذكر عدة آياتٍ، إلى أن قال: «وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم
(5)
عليه أحدٌ، ولا أنكره عليهم مسلمٌ».
وهذا قليلٌ من كثيرٍ من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية. وأمَّا من نقل إجماع الأنبياء والرُّسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فأكثر من أن يُذكر، ولكن نُنبِّه
(6)
على اليسير منه.
قال الشيخ أبو نصر السِّجْزي
(7)
في كتاب «الإبانة»
(8)
له: «وأئمتنا
(1)
في «التمهيد» : «من طرقٍ متواترةٍ ووجوهٍ كثيرةٍ» .
(2)
في «التمهيد» : «قالت» .
(3)
بعده في «التمهيد» : «والجهمية» .
(4)
«التمهيد» (7/ 129 - 134).
(5)
في «التمهيد» : «يؤنبهم» . ولعله تحريف.
(6)
«ح» : «نبه» .
(7)
«ح» : «السنجري» . وهو تصحيف، والسِّجْزي: بكسر السين المهملة وسكون الجيم وفي آخرها الزاي، نسبة إلى سجستان على غير قياس. «الأنساب» للسمعاني (7/ 80).
(8)
لم نقف عليه.
كسفيان الثَّوْري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي = متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكانٍ، وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه بَراءٌ»
(1)
.
وأبو نصر هذا كان مقيمًا بمكة في أثناء المائة الخامسة
(2)
.
وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي ـ أحد أئمة وقته بالأندلس ـ في كتاب «الوصول إلى معرفة الأصول»
(3)
(1)
نقله عنه: شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 167) وفي «درء التعارض» (6/ 250) والذهبي في «العرش» (270) وفي «العلو» (569).
(2)
تُوفي أبو نصر بمكة في المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة. كما في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (17/ 656 (.
(3)
لم نقف عليه، وقوله هذا نقله عنه: شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 250 - 251) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 186، 3/ 398) وغيرهما، والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 204).
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي ـ الشيخ المشهور ـ في كتابه «الحجة»
(1)
له: «إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسُنة رسوله، وما أجمع عليه [ق 101 ب] الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السُّنَّة والجماعة، فاذكر مذاهبهم، وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم.
فالجواب: أن الذي أدركت عليه أهل العلم، ومن لقيتهم وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم
…
» فذكر جُلَّ اعتقاد أهل السُّنَّة، وفيه:«أن الله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]» .
وقال قبله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المشهور ـ صاحب التصانيف المشهورة كـ «حلية الأولياء» وغيرها ـ في «عقيدته»
(2)
(1)
لم يطبع بعد، ولم أقف على النص في المختصر المطبوع، ونقل هذا القول عن المقدسي: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 251) و «منهاج السنة» (1/ 211، 3/ 407).
(2)
نقله عنه: ابن تيمية في «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 369) و «درء التعارض» (6/ 252) و «منهاج السنة» (1/ 203، 3/ 403 - 404).
وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في «العقيدة» التي ذكر أنها اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة
(1)
القادر بالله، وقرأها على الناس، وجمع الناس عليها، وأقرَّ بها طوائف أهل السُّنَّة، وكان قد استتاب من خرج عن السُّنَّة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان حينئذٍ قد تحرَّك ولاة الأمور لإظهار السُّنَّة؛ لمَّا كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة
(2)
الملاحدة قد انتشر أمرهم، فكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم، وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السُّنَّة، وتناظر عنده ابن الهيصم
(3)
وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجَّح ذلك، ويقال: إنه قال لابن فورك: فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا. وقال: فرِّق
(4)
لي بين هذا الربِّ الذي تصفه وبين المعدوم. وإن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلَّا أنه: لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسمًا. ومن الناس من يقول: إن السلطان لمَّا ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السُّمَّ حتى قتله. وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب
(1)
كذا في «ح» و «درء التعارض» ، وغيرَّها محقق «الدرء» إلى «للخليفة» . ولعل الخليفة كتبها بيده ثم قرأها على الناس.
(2)
«ح» : «لية» . والمثبت من «درء التعارض» .
(3)
«ح» : «الهيضم» بالضاد المعجمة، وكذا في الموضع التالي، وهو تصحيف، والمثبت من «درء التعارض» . ومحمد بن الهيصم ترجمته في «تاريخ الإسلام» (9/ 171 - 172).
(4)
«ح» : «فوق» . والمثبت من «درء التعارض» .
الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجَّحه، وغزا المشركين بالهند.
(1)
.
وقال أبو عمر أيضًا
(2)
وقال أيضًا
(3)
: «أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها
(1)
نقله عنه ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 252 - 254).
(2)
«التمهيد» (7/ 139).
(3)
«التمهيد» (7/ 145).
في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلَّا أنهم لا يُكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأمَّا أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا على الحقيقة، ويزعم أن من أقرَّ بها مشبِّه. وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود يلاشون
(1)
ـ أي: يقولون: لا شيء ـ والحقُّ فيها ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسُنة رسول الله، وهم أئمة الجماعة».
وقال الشيخ العارف معمر
(2)
بن أحمد الأصفهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة: «أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السُّنَّة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل [ق 102 أ] المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين» . قال فيها: «وأن الله مستوٍ على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقولٌ، والكيف مجهولٌ
(3)
، وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله سميعٌ بصيرٌ عليمٌ
(1)
ليست هذه الكلمة في «التمهيد» ، وهي في «درء التعارض» (6/ 256):«بلاشون» بالباء.
(2)
«ح» : «بكر» . وهو تحريف، والمثبت من «الحجة في بيان المحجة» و «درء التعارض» و «اجتماع الجيوش الإسلامية» وغيرها. وهو أبو منصور معمر بن أحمد بن محمد بن زياد الأصفهاني الزاهد، كبير الصوفية بأصفهان، سمع أبا القاسم الطبراني، وأبا الشيخ، وطبقتهما، وتوفي سنة 418 هـ. ترجمته في «تاريخ الإسلام» (9/ 302).
(3)
بعده في «الحجة في بيان المحجة» (1/ 232): «والإيمان به واجب، والإنكار له كفر» .
خبيرٌ، يتكلم ويرضى، ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر. ونزول الرب إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدعٌ ضالٌّ»
(1)
.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السُّنَّة ـ يعني في أصول الدِّين ـ وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا: [أدركنا العلماء في جميع الأمصار]
(2)
حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا وكان من مذاهبهم: أن الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوقٍ بجميع جهاته
…
» إلى أن قالوا: «إن الله على عرشه بائنٌ من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا»
(3)
.
وقال الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته أبو محمد موفق الدِّين بن قدامة المقدسي: «إن الله وصف نفسه بالعلو في
(1)
روى الوصية بطولها قوام السُّنَّة في «الحجة في بيان المحجة» (1/ 231 - 244). والقدر المذكور في الأصل نقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256 - 257) وفي «الاستقامة» (1/ 168 - 169) والذهبي في «العلو» (562) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 423 - 424).
(2)
سقط من «ح» ، وأثبته من «درء التعارض» .
(3)
أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (321) والذهبي في «العرش» (228) وفي «العلو» (502، 503) بإسنادهما. ونقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 257) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 350 - 352).
السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع
(1)
العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون بذلك بألسنتهم، ولا ينكر ذلك إلَّا مبتدع غالٍ في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته»
(2)
.
قال: «وأنا ذاكر في هذا الجزء
(3)
ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ويُعلَم تواتر الرواية بوجوده منهم، ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانًا، ويثبته من خفي عليه ذلك حتى يصير كالمشاهد له عيانًا»
(4)
.
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي في «شرح الأسماء الحسنى» لما ذكر اختلاف الناس في تفسير الاستواء قال: «وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقاله الفضلاء الأخيار، أن الله على عرشه كما أخبر في
(1)
«ح» : «جمع» . والمثبت من «إثبات صفة العلو» .
(2)
«إثبات صفة العلو» (ص 63). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 215 - 216) و «درء التعارض» (7/ 258) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 286 - 287).
(3)
«ح» : «الخبر» . والمثبت من «إثبات صفة العلو» .
(4)
«إثبات صفة العلو» (ص 63). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 216) و «درء التعارض» (7/ 258).
كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيفٍ، بائن من خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات»
(1)
.
وقال أيضًا في كتابه في «التفسير»
(2)
لمَّا تكلم على آية الاستواء قال: «هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلامٌ، وقد بيَّنا أقوال العلماء في «شرح الأسماء الحسنى» وذكرنا فيها أربعة عشر قولًا».
وذكر قول النُّفاة المعطلين فقال: «وإنهم يقولون: إذا وجب تنزيه الربِّ عن الحيز
(3)
فمن ضرورة ذلك ولواحقه تنزيه الربِّ عن الجهة. فليس بجهة
(1)
«الأسنى» (2/ 132). ونقله ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 171 - 172، 3/ 387 - 388) وفي «درء التعارض» (7/ 258) والمصنف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 431).
تنبيه: وقع في مطبوعة «الأسنى» زيادة، وهي: «وأظهر هذه الأقوال وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره
…
» ونقلها هكذا مرعي الكرمي في «أقاويل الثقات» (ص 132) وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار» (1/ 206) وعلَّق عليها الكرمي بقوله: «العجب من القرطبي حيث يقول: «وإن كنت لا أقول به ولا أختاره» . ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك». فإما أن يكون هذا ممَّا عبثت به يد التحريف، وإما أن يصح ما ذكره الكرمي. ويقرِّبُ الأول: عدم نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذه العبارة، وأن القرطبي نفسه ذكر مقتضى هذا التحقيق في «تفسيره» كما سيأتي، ولم يتنصَّل منه، وأحال في «التفسير» إلى «الشرح الأسنى» ولم يذكر مضمون هذه العبارة، وإحسان الظن به يحمل على ألا يظن به مخالفة ما تظاهرت عليه الآيات، وقد أُثِرَ عن أهل الأهواء التطاول بالتحريف والدس، والله أعلم بحقيقة الحال.
(2)
«الجامع لأحكام القرآن» (7/ 219). ونقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 259) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 172، 3/ 389) والذهبي في «العلو» (595).
(3)
في «الجامع لأحكام القرآن» : «الجهة والتحيز» .
فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكانٍ أو حيزٍ
(1)
، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون، ويلزم من ذلك التغير والحدوث. قال: وكان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه مستوٍ على عرشه حقيقةً، وإنما جهلوا كيفية الاستواء».
وقال أبو بكر
(2)
(3)
.
وقال الخلَّال في كتاب «السُّنة»
(4)
: أخبرنا المرُّوذي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري، حدثنا سليمان بن داود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فهو فوق سماواته على عرشه، ويعلم كل شيءٍ في أسفل الأرض
(1)
«ح» : «أو حين» . والمثبت من «الجامع لأحكام القرآن» .
(2)
«بكر» سقط من «ح» . وأثبته من «درء التعارض» وغيره، وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش المفسر، توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وقيل: سنة إحدى. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (15/ 573).
(3)
نقله: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 260) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 209) والذهبي في «العلو» (470).
(4)
لم نقف عليه في القدر المطبوع من كتاب «السنة» ، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في «الدرء» (6/ 260) و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 186).
السابعة، وفي قعر البحار، وفي رؤوس الآكام
(1)
وبطون الأودية، وفي كل موضعٍ، كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما دون العرش، أحاط بكل شيءٍ علمًا، فلا تسقط من ورقةٍ إلَّا يعلمها، ولا حبةٍ في ظُلمات [ق 102 ب] الأرض، ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلَّا في كتابٍ، قد عرف ذلك وأحصاه، ولا يعجزه معرفة شيءٍ عن معرفة غيره».
وفي كتاب «السُّنة» لعبد الله بن الإمام أحمد وكتاب «الرد على الجهمية» لعبد الرحمن بن أبي حاتم
(2)
عن سعيد بن عامر الضُّبَعي ـ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق ـ أنه ذُكر عنده
(3)
الجهمية فقال: «هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيء» .
ورويا أيضًا في هذين الكتابين
(4)
عن عبد الرحمن بن مهدي ـ الإمام المشهور ـ قال: «أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ، وأن الله ليس على العرش. أرى أن
(1)
الآكام: جمع أكمة، ويقال إكام بكسر الهمزة أيضًا، قال مالك: هي الجبال الصغار. «مشارق الأنوار» (1/ 30).
(2)
لم نقف عليه في «السنة» لعبد الله، وكتاب ابن أبي حاتم مفقود، وقد نقله عنهما: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261). وقد نقله الذهبي في «العلو» (430) والمصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 327) عن ابن أبي حاتم وحده.
(3)
«ح» : «عنه» . والمثبت من «درء التعارض» وغيره.
(4)
«السنة» لعبد الله (147). وعزاه ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) إلى الكتابين معًا.
يُستتابوا، فإن تابوا؛ وإلَّا قُتلوا».
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة»
(1)
عن عباد بن العوام الواسطي ـ من طبقة عبد الرحمن بن مهدي وذويه ـ قال: «كلمت بشرًا المريسي وأصحاب بشرٍ، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ» .
وقال علي بن عاصم شيخ البخاري: «ناظرت جهميًّا، فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربًّا» . ذكره عبد الله بن أحمد
(2)
وابن أبي حاتم
(3)
.
وروى عبد الله بن أحمد
(4)
عن سليمان بن حرب، قال: سمعت حماد بن زيدٍ وذكر هؤلاء الجهمية فقال: «إنما يجادلون
(5)
أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ».
وروى عن أبيه، حدثنا سُريج
(6)
بن النعمان، قال: سمعت عبد الله بن
(1)
«السنة» لعبد الله (65، 199، 516). وأخرجه الخلال في «السنة» (1753، 1756) والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 331). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525) والذهبي في «العلو» (453).
(2)
«السنة» لعبد الله (191).
(3)
ينظر: «درء التعارض» (6/ 261) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525) و «العلو» (453).
(4)
«السنة» (41) و «زوائد المسند» (28234). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261) وغيره.
(5)
في «السنة» و «زوائد المسند» و «درء التعارض» : «يحاولون» . وفي بعض نسخ «زوائد المسند» كما في المتن.
(6)
«ح» و «درء التعارض» : «شريح» . بالشين والحاء، وهو تصحيف، والمثبت من «السنة» لعبد الله بن أحمد، وهو الصواب؛ وكذا قيده ابن ماكولا في «الإكمال» (4/ 271) وغيره. وترجمته في «تهذيب الكمال» (10/ 218).
نافع الصائغ، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: «الله في السماء، وعلمه في كل مكان»
(1)
.
وروى البيهقي
(2)
بإسنادٍ صحيحٍ عن الأوزاعي قال: «كنا نحن
ـ والتابعون متوافرون
(3)
ـ نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، نؤمن بما وردت به السُّنَّة من صفاته».
فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين، الذين كان فيهم: مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم من أئمة أهل الحجاز، والليث بن سعد ونحوه من أئمة مصر، والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم من أئمة أهل الكوفة، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة ونحوهم من أئمة أهل البصرة، فهؤلاء وأمثالهم أئمة الإسلام شرقًا وغربًا في ذلك الزمان = وقد حكى الأوزاعي شهرة القول بأن الله فوق عرشه في زمن التابعين.
وقال أبو حنيفة: «من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله يقول:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وعرشه فوق سبع
(1)
«السنة» لعبد الله (11، 532). وأخرجه الآجري في «الشريعة» (652، 653) وابن بطة في «الإنابة» (110) وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 138) والذهبي في «العلو» (346، 546). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 261 - 262) وصحح إسناده.
(2)
«الأسماء والصفات» (865). ونقله ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 262) وصحح إسناده.
(3)
«ح» : «متوافرين» .
سماوات». قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش، وقال: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض. قال: هو كافرٌ؛ لأنه أنكر أن يكون الله في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وهو يُدعى مِن أعلى لا مِن أسفل.
وفي لفظ آخر: قال أبو مطيع: سألت أبا حنيفة عمَّن قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وعرشه فوق سبع سماواتٍ. قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء. قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر». ذكره البيهقي
(1)
وغيره.
وروى عبد الله بن أحمد
(2)
وغيره عن عبد الله بن المبارك بأسانيد صحيحةٍ بأنه سُئل: بماذا نعرف ربنا؟ قال: «بأنه فوق سماواته على عرشه، بائنٌ من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية بأنه هاهنا في الأرض» .
وهكذا قال الإمام أحمد فيما حكاه الخلَّال عنه في «الجامع»
(3)
قال في
(1)
لم نقف عليه في مظانه من كتب البيهقي المطبوعة، وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 263):«وقال أبو حنيفة في كتاب «الفقه الأكبر» المعروف المشهور عند أصحابه، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي». فذكره، وينظر:«الفقه الأكبر» (ص 135) و «إثبات صفة العلو» لابن قدامة (ص 170) و «العلو» للذهبي (363). وعزاه منهم ابن تيمية في «الفتوى الحموية» (ص 323) وغير واحد لشيخ الإسلام الأنصاري في كتابه «الفاروق» . وقد نقل البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 337) عن أبي حنيفة أثرًا آخر في علو الله على خلقه.
(2)
«السنة» (22، 598).
(3)
ينظر «الرد على الزنادقة والجهمية» للإمام أحمد (ص 142).
رواية ابنه عبد الله: «باب ما أنكرت الجهمية الضُلَّال أن يكون الله على العرش. قلنا: لم أنكرتم أن الله على العرش؟ وقد قال جلَّ ثناؤه: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وقال: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الحديد: 4] ثم قال: وقد أخبرنا أنه في السماء فقال:
{أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 18] وقال جل ثناؤه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اُلْكَلِمُ اُلطَّيِّبُ وَاَلْعَمَلُ اُلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 54] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157] وقال: {وَلَهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {ذِي اِلْمَعَارِجِ} [المعارج: 3] وقال: {وَهْوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 19] وقال: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]. وقد أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا، يقول جل ثناؤه:{إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اِلدَّرَكِ اِلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ} [النساء: 144]
…
ونصوص أحمد في ذلك كثيرةٌ جدًّا، مذكورة في غير هذا الموضع.
وأمَّا الشافعي فقد [ق 103 أ] صرَّح في خطبة «الرسالة»
(1)
بأن الله سبحانه لا يوصف إلَّا بما وصف به نفسه، وصرَّح بأن خلافة الصدِّيق حقٌّ قضاها الله فوق سماواته، وجمع عليها قلوب عباده.
(1)
«الرسالة» (ص 8).
وصرَّح في باب الكفارة في حديث الجارية وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: «أَيْنَ اللهُ؟» قال الشافعي: فلمَّا وصفت الإيمان قال: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ، فجعل إقرارها بأن الله في السماء إيمانًا
(1)
.
وذكر البخاري في كتاب «خلق الأفعال»
(2)
عن وهب بن جريرٍ ـ أحد أئمة الإسلام ـ قال: «الجهمية الزنادقة إنما يُريدون أنه ليس على العرش استوى» .
وعن حماد بن زيدٍ: «القرآن كلام الله نزل به جبريل، ما يجادلون إلَّا أن
(3)
ليس في السماء إله»
(4)
.
وقال ابن المبارك: «لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا. بل على العرش استوى»
(5)
.
وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: «فوق سماواته على عرشه»
(6)
.
وقال لرجلٍ من الجهمية: «أبطنك خالٍ منه؟» فبُهت الآخر
(7)
.
وذكر البخاري في هذا الكتاب أيضًا قول سعيد بن عامر
(8)
، وقد تقدم
(9)
.
(1)
ينظر «الأم» (6/ 707).
(2)
«خلق أفعال العباد» (6).
(3)
«خلق أفعال العباد» : «أنه» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (10).
(5)
«خلق أفعال العباد» (13).
(6)
«خلق أفعال العباد» (14). وقال ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264 (: «وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة» . فذكره.
(7)
«خلق أفعال العباد» (15).
(8)
«خلق أفعال العباد» (18).
(9)
تقدم (ص 881).
وقال
(1)
عن شيخه علي بن عاصم: «احذر من المريسي وأصحابه، فإن كلامهم أبو جاد الزندقة
(2)
، وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا».
وقال يزيد بن هارون: «من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرَّر في قلوب العامة فهو جهميٌّ»
(3)
.
وقال صدقة: سمعت سليمان التيمي يقول: «لو سُئلت أين الله تعالى؟ لقلت: في السماء. فإن قال: فأين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء. فإن قال: فأين كان عرشه قبل
(4)
الماء؟ لقلت: لا أعلم»
(5)
.
وفي «مسائل حرب
(6)
لأحمد وإسحاق»: «إن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بصفات، استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما
(7)
وصف به نفسه. من ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اُللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ اَلْغَمَامِ} [البقرة: 208] وقوله: {وَتَرَى اَلْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اِلْعَرْشِ} [الزمر: 72] وآيات
(1)
«خلق أفعال العباد» (22).
(2)
لعله يريد: مبدأ الزندقة، فإن أبا جاد هي الحروف الأبجدية وهي مبدأ الكلام. وقد يكون المعنى: باطلهم، كما يقال: وقع القوم في أبي جاد: أي في باطلٍ. «لسان العرب» (3/ 138).
(3)
«خلق أفعال العباد» (63).
(4)
«ح» : «على» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
(5)
«خلق أفعال العباد» (64).
(6)
«ح» : «جرت» . وهو تصحيف، والنقل من «مسائل حرب الكرماني» (1787) وفيه:«أملى علي إسحاق بن راهويه» . فذكره.
(7)
«ح» : «بغيرها» . والمثبت من «مسائل حرب الكرماني» .
مثلها تصف العرش، وقد ثبتت الروايات في العرش، وأعلى شيءٍ فيه وأثبته قول الله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4].
وذكر
(1)
وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خُزَيمة: «من لم يقل بأن الله فوق سماواته على عرشه بائنٌ من خلقه وجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقه، ثم أُلقي على مزبلةٍ؛ لئلا يتأذى بنَتْن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذِّمَّة» . ذكره عنه أبو عبد الله الحاكم في كتاب «علوم الحديث»
(2)
له، وفي كتاب «تاريخ نيسابور»
(3)
، وذكره أبو عثمان النيسابوري في «رسالته»
(4)
المشهورة.
وروى الخلَّال
(5)
بإسنادٍ كلهم ثقات عن سفيان بن عُيينة، قال: سُئل
(1)
«مسائل حرب الكرماني» (1788).
(2)
«علوم الحديث» (ص 84).
(3)
عزاه إلى «تاريخه» أبو عثمان الصابوني في «عقيدته» وابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264).
(4)
«عقيدة السلف وأصحاب الحديث» لأبي عثمان الصابوني (ص 29).
(5)
لم نقف عليه في الجزء المطبوع من «السنة» للخلال، وعزاه له: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 264) وفي «الفتوى الحموية الكبرى» (304). والأثر أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (665) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (868) وابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (74) والذهبي في «العلو» (ص 129).
ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فقال: «الاستواء [غير]
(1)
مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق».
وقد روي هذا الكلام عن الإمام مالكٍ من وجوهٍ متعددةٍ
(2)
.
وروى ابن أبي حاتم
(3)
عن هشام بن عبيد الله الرازي: أنه حبس رجلًا في التجهم، فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال:«أتشهد أن الله على عرشه بائنٌ من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب» .
وروى أيضًا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم قال: «لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى بائنٌ من خلقه»
(4)
.
وروى أيضًا عن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: «كلام الجهمية
(1)
«غير» سقط من «ح» . وأثبته من «درء التعارض» وغيره.
(2)
أخرجه ابن المقري في «المعجم» (1003) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (664) وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 325) والصَّابوني في «عقيدة السلف» (ص 38 - 39) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (867) والذهبي في «العلو» (352).
(3)
أخرجه الهروي في «ذم الكلام وأهله» (1210) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (5/ 719) وفي «العلو» (457) من طريق ابن أبي حاتم.
(4)
نقله عنه: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256) والذهبي في «العرش» (210) وفي «العلو» (441).
أوله عسلٌ، وآخره سمٌّ، وإنما يجادلون
(1)
أن يقولوا: ليس في السماء إله»
(2)
.
وقال أبو الوليد بن رشد في كتاب «مناهج الأدلة»
(3)
: «القول في الجهة: وأمَّا هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله حتى نفتها المعتزلة، وتبعهم على ذلك متأخرو الأشعرية» . وساق أدلة القرآن عليها إلى أن قال: «والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى. قال: وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك» . ثم قرَّر ذلك بالدليل العقلي، وبيَّن بطلان شُبهة المعطلة
(4)
.
وهذه النقول التي حكيناها قليلٌ من كثيرٍ، وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية»
(5)
، وهي تُبيِّن كَذِبَ مَن قال: إنه لم يقل بذلك إلَّا الكرَّامية والحنبلية، وفريتَه
(6)
وجهلَه.
والمقصود بأن علو الخالق على المخلوقات كلها وكونه [ق 103 ب]
(1)
في «درء التعارض» : «يحاولون» .
(2)
نقله عنه: ابن تيمية في «درء التعارض» (6/ 256) والذهبي في «العرش» (210) وفي «العلو» (441) وفي «الأربعين» (41).
(3)
«الكشف عن مناهج الأدلة» (ص 176).
(4)
وقد سبق (ص 188 - 197) نقل كلام ابن رشد بتمامه.
(5)
«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 - 510).
(6)
«ح» : «قريبه» . ولعل المثبت هو الصواب.
فوق العالم أمرٌ مستقرٌّ في فِطَر العباد، معلومٌ لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم من غير تواطؤ وتشاعر، بخلاف النفي والتعطيل؛ فإنه يتلقاه بعضهم عن بعضٍ كسائر المقالات الباطلة، المخالفة لصريح العقل والنقل.
فصل
وممَّا ينصر
(1)
ذلك أن العباد كلهم مضطرون إلى دعاء الربِّ سبحانه وسؤاله وقصده والافتقار إليه، كما قال الله تعالى:{يَسْئَلُهُ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 27] وهم مضطرون إلى توجيه قلوبهم إلى العلو، كما أنهم مضطرون إلى دعائه وقصده وسؤاله، كما أنهم يضطرون إلى الإقرار به، وأنه ربُّهم وخالقهم ومليكهم، ولا يجدون فرقًا بين هذا الاضطرار وهذا. فكما لا تتوجه قلوبهم إلى ربٍّ غيره ولا إلى إلهٍ سواه، فكذلك لا يجدون في قلوبهم توجهًا إلى جهة أخرى غير العلو، بل يجدون قلوبهم مضطرةً إلى قصد جهة العلو دون سائر الجهات، وهذا يتضمن اضطرارهم إلى قصده سبحانه في العلو، وإقرارهم وإيمانهم بذلك.
فصل
الطريق الثالث
(2)
: أنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا
(1)
«ح» : «ينصرف» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الرابع» . ولم يذكر الطريق الثالث، ومشى الناسخ على ذلك إلى آخر الطريق الحادي والثلاثين، وممكن يُصحح صنيعه بأن يُعدَّ الفصل السابق هو الطريق الثالث، لكن يأبى ذلك أن المصنِّف قال عقب تعداد هذه الطرق:«فهذه ثلاثون طريقًا» . فلم أجد بدًّا من تصحيح كل أرقام الطرق من الثالث إلى الثلاثين. وهذا هو الوجه الخمسون بعد المائة.
كان أحدهما صفة كمالٍ والآخر صفة نقصٍ؛ فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص. ولهذا لمَّا تقابل الموت والحياة وُصف بالحياة دون الموت. ولمَّا تقابل العلم والجهل وُصف بالعلم دون الجهل. وكذلك العجز والقُدرة، والكلام والخرس، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والغنى والفقر. ولمَّا تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وُصف بالمباينة دون المداخلة. وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتَقَابلَ العلو والسفول؛ وُصف بالعلو دون السفول. وإذا كان مباينًا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم، ولمَّا كان العلو صفة كمالٍ كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود العالم إلَّا عاليًا عليه ضرورةً، ولا يكون سبحانه إلَّا فوق المخلوقات كلها، ولا تكون المخلوقات محيطةً به أصلًا. وإذا قابلت بين هذه المقدِّمات ومقدِّمات شُبه المعطلة ظهر لك الحقُّ من الباطل.
فصل
الطريق الرابع
(1)
: أنه إذا كان سبحانه مباينًا للعالم فإمَّا أن يكون محيطًا به أو لا يكون محيطًا به. فإن كان محيطًا به لزم علوه عليه قطعًا ضرورة
علو المحيط على المحاط به. ولهذا لمَّا كانت السماء محيطةً بالأرض كانت عاليةً عليها، ولمَّا كان الكرسي محيطًا بالسماوات كان عاليًا عليها، ولمَّا كان العرش محيطًا بالكرسي كان عاليًا. فما
(2)
كان محيطًا بجميع ذلك كان عاليًا عليه ضرورةً، ولا يستلزم ذلك محايثته لشيءٍ ممَّا هو محيطٌ به ولا مماثلته
(1)
«ح» : «الخامس» . وهذا هو الوجه الحادي والخمسون بعد المائة.
(2)
كذا في «ح» ، وربما كانت:«فلما» .
ومشابهته له. فإذا كانت السماء محيطةً بالأرض وليست مماثلةً لها فالتفاوت الذي بين العالم وربِّ العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء.
وإن لم يكن محيطًا بالعالم بألَّا يكون العالم كُريًّا، بل تكون السماوات كالسقف المستوي فهذا ـ وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دلَّ عليه العقل والحس ـ فلو قال به قائلٌ لزم أيضًا أن يكون الربُّ تعالى عاليًا على العالم؛ لأنه إذا كان مباينًا وقُدر أنه غير محيط فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره، ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات؛ فوجب ضرورة اختصاص الربِّ بأشرف الأمرين وأعلاهما.
والمعطلة تقول: هذه القضية خطابية لا برهانية. ولعمر الله إنك لو سألت كل صحيح التمييز والفطرة عن ذلك لوجدت في فطرته أن الربَّ تعالى أولى وأحق بهذه القضية التي يُسمِّيها هؤلاء خطابية، وليس في المعقول أصحُّ من هذه المقدمة، وتسميتها خطابية لا تقتضي جحد العقول الصحيحة لها وإنكارها للربِّ سبحانه.
فصل
الطريق الخامس
(1)
: ما احتجَّ به الإمام أحمد نفسه على الجهمية،
فقال
(2)
: «وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذبٌ على الله
(3)
فقل له: أليس
(1)
«ح» : «السادس» . وهذا هو الوجه الثاني والخمسون بعد المائة.
(2)
«الرد على الجهمية والزنادقة» (ص 155).
(3)
بعده في «الرد على الجهمية والزنادقة» : «حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان» .
الله كان ولا شيء؟
فيقول نعم.
فقل له: فحين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال [لا بد له من]
(1)
واحدٍ منها:
إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكانٍ وحَشٍّ
(2)
قَذِرٍ رديءٍ.
وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة».
وبقي هاهنا قسمان، سكت الإمام أحمد عن التعرُّض لإبطالهما؛ لأن بطلانهما معلومٌ بالضرورة، [ق 104 أ] فإن أحدهما يتضمن إثبات النقيضين، والآخر يتضمن رفعهما.
فالأول: أن يكون خلقهم خارجًا عن نفسه وداخلًا في نفسه.
والثاني: أن يكون غير خارجٍ عنهم ولا داخلٍ فيهم، أو يكونوا غير خارجين عنه ولا داخلين فيه؛ فإن نفي هذا كنفي أن يكون قائمًا بنفسه وقائمًا بغيره وأن يكون قديمًا ومحدثًا، ونحو ذلك ممَّا يُنفَى فيه النقيضان.
(1)
ليس في «ح» ، وأثبته من «الرد على الجهمية والزنادقة» .
(2)
يعني: موضع قضاء الحاجة. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 390).
ولا يُغني الجهمي في هذا المقام اعتذاره بأنه غير قابل للدخول والخروج والمباينة والمحايثة، لثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يقال له: وهكذا قال أخوك معطل الذات سواء: إنه غير قابل للقدم والحدوث، فما كان جوابك له فهو جواب أهل الإثبات لك.
الثاني: أن هذا التقسيم يتناول كل موجودٍ، ولا يخرج عنه إلَّا العدم المحض، فإنه تقسيمٌ حاصرٌ. ولا واسطة بين نفيه وإثباته البتة، بل هذا حُكْم كل موجودين بالضرورة، فإنه إمَّا أن يكون أحدهما مباينًا للآخر أو غير مباين له، كما يقال إمَّا أن يكون أحدهما قائمًا بالآخر، أو غير قائمٍ به، وإنكار
(1)
هذا مكابرة صريحة للعقل، وكذلك إما أن يكون متقدمًا عليه أو مقارنًا له، فقولكم: إن هذا فيما هو قابل. كلام باطل يتضمن رفع النقيضين والخلو منهما.
الثالث: أن يقال: لا يتصور العقل شيئًا غير قابل لذلك إلَّا العدم المحض والنفي الصِّرْف، ودعواكم على العقل أنه يثبت قسمًا آخر غير قابل للنقيضين كذبٌ على العقل وفريةٌ.
فصل
يوضحه:
الطريق السادس
(2)
: أن يقال: كل موجودين فإمَّا أن يكون أحدهما قائمًا بنفسه، أو قائمًا بالآخر
؛ فإن كان قائمًا بالآخر امتنع قيام الآخر به ضرورةً، وإن كان قائمًا بنفسه فحقيقته خارجة عن حقيقة الآخر ضرورةً،
(1)
«ح» : «وأن كان» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «السابع» . وهذا هو الوجه الثالث والخمسون بعد المائة.
وإلا لزم اتحادهما، وإذا كانت حقيقته خارجةً عن حقيقة الآخر كان مباينًا له بالضرورة، وهذا برهانٌ ضروريٌّ لا يقدح فيه إلَّا ما يقدح في سائر الضروريات.
فصل
الطريق السابع
(1)
: أن يقال: الربُّ سبحانه إمَّا أن يكون موجودًا خارج الأذهان، موجودًا في الأعيان أو لا يكون له وجود خارجي.
فإن قلتم: ليس له وجودٌ خارجيٌّ. وهو حقيقة قولكم، كان خيالًا ذهنيًّا لا حقيقة له.
وإن قلتم: بل هو موجودٌ خارج الذهن في الأعيان منفصلًا عن الأذهان مباينًا لها، فقد أقررتم بأنه قابل للخروج والانفصال والمباينة. فهلَّا جعلتم جملة العالم كالذهني، وقلتم بأنه خارجٌ عنه منفصلٌ مباينٌ له! وكيف صحَّ بل وجب أن يكون خارج الأذهان مباينًا لها منفصلًا عنها، ولم يلزم من ذلك محالٌ، وامتنع أن يكون خارج العالم مباينًا له ولزم من ذلك المحال؟ فمن هاهنا قيل: إنكم فارقتم حكم العقل والسمع، وكان أتباع الرُّسل أسعد بالمعقول والمنقول منكم.
فصل
الطريق الثامن
(2)
: إذا ثبت له سبحانه وجود
(3)
خارج الأذهان فإمَّا أن
(1)
«ح» : «الثامن» . وهذا هو الوجه الرابع والخمسون بعد المائة.
(2)
«ح» : «التاسع» . وهذا هو الوجه الخامس والخمسون بعد المائة.
(3)
«ح» : «موجود» .
يكون هو العالم المشهود، أو صفة من صفاته، وعرضًا من أعراضه، أو غيره.
فإن قلتم بالأول، فهو حقيقة قول الاتحادية الملاحدة، الذين لا يثبتون خالقًا ومخلوقًا وصانعًا ومصنوعًا، بل حقيقة الربِّ عندهم هي هذا الوجود بعينه.
وإن قلتم: هو عرض من أعراض العالم وصفة من صفاته، فهو من أمحل المحال، لا يقوله أحدٌ من بني آدم.
فتعيَّن أن يكون غير هذا العالم. وحينئذٍ يلزم مباينته له ضرورةً؛ إذ الغيران اللذان لا يكون أحدهما صفة للآخر ولا أحدهما قائمًا بالآخر لا بد أن يتباينا، إذ لو لم يتباينا لزم اتحاد أحدهما بالآخر أو حلوله فيه حلول الصفة في الموصوف، أو حلول الحال في المحل، ولا ينفعكم قولكم: إن هذا إنما يلزم فيما هو قابلٌ لذلك، لما تقدم بيانه
(1)
.
فصل
الطريق التاسع
(2)
: أنَّا إذا عرضنا على العقل الصريح ـ الذي لم يفسد بتلقي الآراء والمذاهب الباطلة ـ التصديق بموجودين قائمين بأنفسهما، وأحدهما مباين للآخر، مع كونه غير مماثل له ولا هو من جنسه.؛ وعرضنا عليه التصديق بموجودين قائمين بأنفسهما، ليس أحدهما مباينًا للآخر، ولا مداخلًا له ولا فوقه ولا تحته، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا محايثًا له ولا مباينًا = علمنا بالضرورة تصديقه بالأول، ودفعه الثاني
(1)
تقدم في الطريق الخامس (ص 893 - 895).
(2)
«ح» : «العاشر» . وهذا هو الوجه السادس والخمسون بعد المائة.
وإنكاره. وكل شُبهةٍ تقدح في هذا فهي قادحةٌ في الضروريات، وكل شُبهةٍ تُقام على الثاني فهي من الشُّبه التي تُقام على إمكان الممتنعات.
فصل
الطريق العاشر
(1)
: أنه عند المعطلة النُّفاة كون الله سبحانه فوق العالم مستويًا على عرشه بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام، بل هو بمنزلة إثبات الزوجة والولد له، في كون هذا منافيًا لإلهيته وربوبيته وقِدَمه، وكون علوه على خلقه واستوائه على عرشه [ق 104 ب] منافيًا لذلك. وهذا من أعظم القدح في العقول والفِطَر والشرائع والنُّبوات والكتب المنزلة؛ فإنها فرَّقت بين الأمرين تفرقةً معلومةً بالاضطرار لكل من له أدنى مُسكةٍ من عقلٍ. فمن سوَّى بين الأمرين، وجعل تنزيه الربِّ عنهما من لوازم الإقرار به، فليبكِ على عقله وإيمانه.
فصل
الطريق الحادي عشر
(2)
: أن يقال للمعطلة: تنزيهكم له سبحانه عن كونه مباينًا لخلقه تنزيهٌ له عن غناه ووجوده، وتنزيهكم له عن استوائه على عرشه تنزيهٌ له عن كماله.
والمثبت لو شبهه بخلقه ـ بافترائكم وكذبكم عليه تعالى الله عن ذلك ـ لكان قد أثبت موجودًا قائمًا بنفسه مباينًا لخلقه، له الكمال المطلق مع نوع تشبيهٍ
(3)
. وهذا خيرٌ من تنزيهكم، وأقرب إلى العقول
(1)
«ح» : «الحادي عشر» . وهذا هو الوجه السابع والخمسون بعد المائة.
(2)
«ح» : «الثاني عشر» . وهذا هو الوجه الثامن والخمسون بعد المائة.
(3)
«ح» : «شبيه» .
والفطر؛ فكيف وهو مع ذلك يثبت أنه لا يماثل خلقه ولا يشابههم، وأنه لا يلزم من علوه على خلقه واستوائه على عرشه أن يكون من جنسهم مماثلًا لهم؟
يوضحه:
فصل
الطريق الثاني عشر
(1)
: أن الله سبحانه جعل بعض مخلوقاته عاليًا على بعضٍ، ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي للسافل ومشابهته له، فهذا الماء فوق الأرض، والهواء فوق الماء، والنار فوق الهواء، والأفلاك فوق ذلك؛ وليس عاليها مماثلًا لسافلها. والتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات، فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه؟
فإن قلتم: وإن لم يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم. قيل: انفصلوا أولًا عن قول معطلة الصِّفات لكم: لو كان له سمعٌ أو بصرٌ أو حياةٌ أو علمٌ أو قدرةٌ أو كلامٌ لزم التجسيم. فإذا انفصلتم عنهم، وتخلصتم من أَسْرهم لكم، عاد عليكم أهل السُّنَّة بالرأفة والرحمة، وجبروكم وخلَّصوكم من هذا الوثاق
(2)
الذي شدَّكم به الملاحدة المعطلة.
فإن أبيتم إلَّا الجواب قيل لكم: ما تعنون بالتجسيم؟
أتعنون به العلو على العالم والاستواء على العرش؟ وهذا حاصل قولكم، وحينئذٍ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد الدعوى التي اتحد فيها
(1)
«ح» : «الثالث عشر» . وهذا هو الوجه التاسع والخمسون بعد المائة.
(2)
«ح» : «الوفاق» . ولعل المثبت هو الصواب.
اللازم والملزوم بتغيير العبارة، وكأنكم قلتم: لو كان فوق العالم مستويًا على عرشه لكان فوق العالم. ولكنكم لبَّسْتم وأوهمتم.
وإن عنيتم بالجسم المركب من الجواهر الفردة، فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجوهر الفرد، فضلًا عن تركب الأجسام الحادثة منه، فالملازمة باطلة كاذبة.
وإن عنيتم به المركب من الهيولى والصورة، فأنتم قد قررتم بطلان تركب الأجسام من ذلك، فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي يدَّعيه الفلاسفة، وهم أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة، وجمهور العقلاء أبطلوا هذا وهذا. فإذا كان هذا غير لازمٍ في الأجسام المحسوسة المشاهدة بل هو باطلٌ، فكيف يُدَّعى لزومه فيمن ليس كمثله شيءٌ؟
وإن عنيتم بالتجسيم تميز شيءٍ منه عن شيءٍ، قيل لكم: انفصلوا أولًا عن قول نفاة الصِّفات: لو كان له سمعٌ وبصرٌ وحياةٌ وقدرةٌ، لزم أن
(1)
يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، وذلك عين التجسيم.
فإذا انفصلتم منهم أجبناكم بما تجيبونهم به. فإن أبيتم إلَّا الجواب منَّا قلنا: إنما قام الدليل على إثبات إلهٍ قديمٍ غنيٍّ بنفسه عن كل ما سواه، وكلُّ ما سواه فقير إليه، كلُّ أحدٍ محتاج إليه، وليس محتاجًا إلى أحدٍ، ووجود كل شيءٍ مستفاد منه، ووجوده ليس مستفادًا من غيره. ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف كماله، وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله؛ بل هو إلهٌ واحدٌ، وربٌّ واحدٌ، وإن تكثرت صفاته، وتعددت أسماؤه؛ فلا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
(1)
سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
فصل
الطريق الثالث عشر: أن يقال: أخبرُ الناس بمقالات الفلاسفة
(1)
قد حكى اتفاق الحكماء على أن الله والملائكة في السماء،
كما اتفقت على ذلك الشرائع، وقرَّر
(2)
ذلك بطريقٍ عقليٍّ من جنس تقرير ابن كُلَّاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم ممَّن يقول: إن الله فوق العرش وليس بجسمٍ. قال هؤلاء: وإثبات صفة العلو والفوقية له سبحانه لا يوجب الجسمية، بل ولا إثبات المكان.
وبنى الفلاسفة ذلك على ما ذكره ابن رشد: أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المَحْوي. فمكان
(3)
الإنسان عندهم هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطحٍ باطنٍ فهو مكان للسطح الظاهر فيما يلاقيه، ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسمٍ باطنٍ يحوي شيئًا، فلا مكان هناك؛ إذ لو كان هناك مكانٌ حاوٍ لسطح الجسم لكان الحاوي جسمًا. ولهذا قال: فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسمٍ، لا وجود [ق 105 أ] ما ليس بجسمٍ. وقرَّر إمكان ذلك كما قرر إثباته بما ذكر من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس، فيجب أن يكون في جهة العلو.
(1)
يعني: أبا الوليد بن رشد، وقوله في «الكشف عن مناهج الأدلة» (ص 176 - 178).
(2)
«ح» ، «م»:«وورد» . والمثبت من «درء التعارض» (6/ 242).
(3)
«ح» : «فكان» . والمثبت من «م» ، «مناهج الأدلة» .
والذي يمكن منازعوه
(1)
من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة أن يقولوا: لا يمكن أن يوجد هناك شيءٌ لا جسم ولا غير جسمٍ، أمَّا الجسم فلما ذكر، وأمَّا غير الجسم فلأن كونه مُشارًا إليه بأنه هناك يستلزم أن يكون جسمًا.
وحينئذٍ فيقول هؤلاء المثبتون لمن نازعهم في ذلك: وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه ليس وراء أجسام العالم ولا داخلًا في العالم إمَّا أن يكون ممكنًا أو لا يكون. فإن لم يكن ممكنًا بطل قولكم، وإن كان ممكنًا فوجود موجود وراء أجسام العالم وليس بجسمٍ أولى بالجواز.
ويوضحه:
فصل
الطريق الرابع عشر
(2)
: وهو أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه لا في العالم ولا خارجًا عنه ولا يُشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجودٍ يُشار إليه فوق العالم ليس بجسمٍ، كان إنكارُ العقل للأول أعظم،
وامتناعُه فيه أظهر من إنكاره للثاني وامتناعه فيه. فإن كان حكم العقل في الأول مقبولًا وجب قبول الثاني، وإن كان الثاني مردودًا وجب ردُّ الأول؛ ولا يمكن العقل الصريح أن يقبل الأول ويردَّ الثاني أبدًا.
فصل
الطريق الخامس عشر
(3)
: أنه سبحانه لو لم يقبل الإشارة الحسية إليه
(1)
كذا في «ح» ، «م» ، والصواب:«منازعيه» .
(2)
«ح» : «الخامس عشر» . وهذا هو الوجه الحادي والستون بعد المائة.
(3)
«ح» : «السادس عشر» . وهذا هو الوجه الثاني والستون بعد المائة.
كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حسًّا بإصبعه بمشهد الجَمْع الأعظم
(1)
، وقبل ممَّن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية إليه
(2)
، فإمَّا أن يقال: إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط، أو لا
(3)
يقبلها أيضًا كما لا يقبل الحسية، فإن لم يقبل هذه ولا هذه فهو عدمٌ محضٌ، بل العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية.
وإن قيل: يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية، لزم أن يكون معنًى من المعاني، لا ذاتًا خارجية؛ وهذا ممَّا لا حيلة في دفعه. فمن أنكر جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين: إمَّا أن يجعله معدومًا، أو معنًى من المعاني، لا ذاتًا قائمة بنفسها.
فصل
الطريق السادس عشر
(4)
: أن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فرُّوا
(1)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه في خطبة حجة الوداع.
(2)
أخرج ابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (1/ 283 - 284) والطحاوي في «مشكل الآثار» (4991) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/ 194) عن أبي هريرة «أن محمد بن الشريد جاء بخادم سوداء غتماء إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن أمي جعلت عليها عتق رقبة مؤمنة. فقال: يا رسول الله، هل يجزئ أن أعتق هذه؟ فقال رسول الله للخادم: أين ربك؟ فرفعت رأسها، فقالت: في السماء. فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة» . وقال الذهبي في «العرش» (2/ 26): «هذا حديث حسن، رواه القاضي أبو أحمد العسال في كتاب «المعرفة» له». وقد روي حديث الجارية من وجوهٍ كثيرةٍ، ينظر:«التوحيد» لابن خزيمة (1/ 284 - 289).
(3)
«ح» : «ولا» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «السابع عشر» . وهذا هو الوجه الثالث والستون بعد المائة.
من القول بعلو الله فوق المخلوقات واستوائه على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنهم لا يمكنهم إثبات الصانع إلَّا بنوعٍ من التشبيه والتمثيل. ونحن لا نحيلك على عدمٍ، بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوةً إلى مكانها. قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالعدم:
«الوجه العاشر: لو كان العالم محدثًا فمحدثه
(1)
إمَّا أن يكون مساويًا له من كل وجهٍ، أو مخالفًا له من كل وجهٍ، أو مماثلًا له من وجهٍ ومخالفًا له من وجه.
فإن كان الأول فهو حادثٌ، والكلام فيه كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل الممتنع.
وإن كان الثاني فالمحدث له ليس بموجودٍ، وإلَّا لما كان مخالفًا له من كل وجهٍ، وهو خلاف الفرض. وإذا لم يكن موجودًا امتنع أن يكون مفيدًا للوجود
(2)
.
وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثًا، والكلام فيه كالأول، وهو تسلسلٌ محالٌ.
وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه مُحْدِثًا للعالم»
(3)
.
قال: «والجواب عن هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير. ولا يلزم من كون القديم مماثلًا للحوادث من وجهٍ أن يكون مماثلًا
(1)
في «أبكار الأفكار» : «فحدوثه» . والمثبت موافق لما ورد في «م» و «درء التعارض» (4/ 167).
(2)
في «أبكار الأفكار» و «درء التعارض» : «موجبا للموجود» .
(3)
«أبكار الأفكار» (3/ 346).
للحادث من جهة كونه حادثًا، بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القِدَم والحدوث، وإنما تماثلَا بأمرٍ آخر. وهذا كالسواد والبياض يختلفان من وجهٍ دون وجهٍ؛ لاستحالة اختلافهما من كل وجهٍ وإلَّا لما اشتركا في العرضية واللونية
(1)
والحدوث؛ واستحالة تماثلهما من كل وجهٍ، وإلَّا كان السواد بياضًا، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجهٍ أن يكون مماثلًا له في صفة البياضية»
(2)
.
فيقال: يا لله العجب، هلَّا طردتم هذا الجواب، وسلكتم هذا الطريق في إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وإثبات صفات كماله كلها، وإثبات الصِّفات الخبرية كلها؛ وأجبتم بهذا الجواب لمن قال لكم من المعطلة النُّفاة: لو كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات! وهلَّا تقنعون من أهل السُّنَّة ـ المثبتين لصفات كماله، ونعوت جلاله، وعلوه على مخلوقاته، واستوائه على عرشه ـ بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم! بل إذا أجابوكم به قلبتم لهم ظَهْر المِجَنِّ، وصرَّحتم بتكفيرهم وتبديعهم، وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم موحِّدين، ناصرين لله ورسوله!
فصل
الطريق السابع عشر
(3)
: أن يقال: هل للربِّ تعالى ماهية متميزة على سائر الماهيات يختص بها لذاته، أم تقولون: لا ماهية له؟
(1)
«ح» : «والكونية» والمثبت من «أبكار الأفكار» .
(2)
«أبكار الأفكار» (3/ 361).
(3)
«ح» : «الثامن عشر» . وهذا هو الوجه الرابع والستون بعد المائة.
فإن قلتم بالثاني كان هذا إنكارًا له سبحانه وجحودًا، وجعله وجودًا مطلقًا لا ماهية له.
وإن قلتم: بل له ذاتٌ مخصوصةٌ وماهيةٌ متميزةٌ عن سائر الماهيات.
قيل لكم: ماهيته وذاته [ق 105 ب] سبحانه غير متناهية، بل ذاهبة في الأبعاد إلى غير نهاية أم متناهية؟
فإن قلتم بالأول لزم منه محالات غير واحدة. وإن قلتم بالثاني بطل قولكم، ولزم إثبات المباينة والجهة؛ وهذا لا محيد عنه.
وإن قلتم: لا نقول له ماهية ولا ليست له ماهية.
قيل: لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلَّا هذا المحال والباطل.
وإن قلتم: بل له ذاتٌ مخصوصةٌ، وماهيةٌ متميزةٌ عن سائر الماهيات ولا نقول: إنها متناهية ولا غير متناهية؛ لأنها لا تقبل واحدًا من الأمرين.
قلنا: التناهي وعدم التناهي يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فلا واسطة بينهما، كما لا واسطة بين الوجود والعدم، والقدم والحدوث، والسبق والمقارنة، والقيام بالنفس والقيام بالغير. وتقدير قسمٍ آخر لا يقبل واحدًا من الأمرين تقديرٌ ذهنيٌّ يفرضه الذهن، كما يفرض سائر المحالات، ولا يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه.
ألا ترى أن قائلًا لو قال: التقسيم يقتضي أن
(1)
المعلوم إمَّا قديم
(2)
،
(1)
«أن» سقط من «ح» ، وأثبته من «م» .
(2)
«ح» : «قدم» . والمثبت من «م» .
وإمَّا حادث، وإمَّا قديم حادث، وإمَّا لا قديم ولا حادث، وكذلك إمَّا أن يكون متناهيًا، أو غير متناهٍ، أو [لا]
(1)
متناهيًا ولا غير متناهٍ، أو قائمًا بنفسه أو بغيره، أو بنفسه وبغيره، أو لا بنفسه ولا بغيره، أو داخلًا في العالم، أو خارجًا عنه، أو داخلًا خارجًا، أو لا داخلًا ولا خارجًا = كان ذلك كله بمنزلةٍ واحدةٍ، وكان التقسيم تقسيمًا ذهنيًّا لا خارجيًّا، وإن سلب النقيضين في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين.
فصل
الطريق الثامن عشر
(2)
: أن يقال: ذاته سبحانه إمَّا أن تكون قابلةً للعلو على العالم، أو لا تكون قابلةً.
فإن كانت قابلةً وجب وجود المقبول؛ لأنه صفة كمالٍ وإلَّا لم تقبله؛ ولأن قبولها لذلك هو من لوازمها، كقبول
(3)
الذات للعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، فوجود هذه لازم للذات ضرورةً؛ ولأنها إذا قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت
(4)
بضدِّه، وهو نقصٌ يتعالى ويتقدس عنه.
وإن لم تكن قابلةً للعلو لزم أن يكون قابلُ العلو أكمل منها؛ لأن ما
(5)
يقبل أن يكون عاليًا ـ وإن لم يكن عاليًا ـ أكمل ممَّن لا يقبل العلو، وما قبله
(1)
«لا» : سقط من «ح» ، والصواب إثباته.
(2)
«ح» : «التاسع عشر» . وهذا هو الوجه الخامس والستون بعد المائة.
(3)
«ح» : «لقبول» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «لا تتصف» . والمثبت من «م» .
(5)
بعده في «ح» : «لا» . وهي زيادة تفسد المعنى ليست في «م» .
وكان عاليًا أكمل ممَّن قبله ولم يكن عاليًا. فالمراتب ثلاثةٌ
(1)
، أدناها ما لا يقبل العلو، وأعلاها ما قبله واتصف به.
والذي يوضح ذلك أن ما لا يقبل أن يكون فوق غيره إمَّا
(2)
أن يكون عرضًا من الأعراض لا يقوم بنفسه، ولا يقبل أن يكون عاليًا على غيره، وإمَّا أن يكون أمرًا عدميًّا لا يقبل ذلك، وأمَّا إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها؛ فهذا يطالب بإمكان تصوره قبل التصديق بوجوده، وليس مع من ادَّعى إمكانه إلَّا الكليات
(3)
والمجردات، وكلاهما وجوده ذهني، لا وجود له في الخارج. وإلا فما له
(4)
وجود خارجي وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر الذوات
(5)
، موصوفٌ بصفات الحي الفعال، لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات ذهنية لا أمور خارجية. وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو في الأذهان لا في الأعيان.
(1)
كذا في «ح» ، «م» .
(2)
«ح» : «وإما» . والمثبت من «م» .
(3)
الكلي: هو اللفظ الذي لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه، كالإنسان والحيوان. «الكليات» للكفوي (ص 745).
(4)
«ح» : «خاله» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «الدواب» . والمثبت من «م» .
فصل
الطريق التاسع عشر
(1)
: أن الجهمية المعطلة معترفون
(2)
بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو
(3)
القدر، وأن ذلك كمالٌ لا نقصٌ، فإنه من لوازم ذاته
؛ فيقال: ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه، وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو. فأحد الأمرين لازمٌ لكم ولا بد: إمَّا أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل جهةٍ ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وإمَّا أن تنفوا ذلك كله.
فإنكم إذا نفيتم علو ذاته سبحانه بناءً على لزوم التجسيم، وهو لازم لكم فيما أثبتموه من وجهَيِ
(4)
العلو؛ فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرًا من غيرها إن لم يُعقل كونها غير جسمٍ لزمكم التجسيم، وإن عُقل كونها غير جسمٍ فكيف لا يُعقل أن تكون الذات العالية على سائر الذوات غير جسمٍ، وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم من ذلك العلو؟!
فإن قلتم: لأن هذا العلو يستلزم تميز شيءٍ عن شيءٍ منه.
قيل لكم: في الذِّهن
(5)
أو في الخارج؟
(1)
«ح» : «العشرون» . وهذا هو الوجه السادس والستون بعد المائة.
(2)
«ح» : «مقرنون» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «على» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «وجهين» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» ، «م»:«العالِم» . واستظهر ناسخ «م» فكتب على الحاشية: «الذهن» . وعليها: ظ. والسياق يدل عليه.
فإن قلتم: في الخارج، كذبتم وافتريتم، وأضحكتم عليكم المجانين، فضلًا عن العقلاء.
وإن قلتم: في الذِّهن. فهذا لازمٌ لكل من أثبت [ق 106 أ] للعالم ربًّا خالقًا، ولا خلاص من ذلك إلَّا بإنكار وجوده رأسًا. يوضحه:
فصل
الطريق العشرون
(1)
: أن الفلاسفة لمَّا أوردوا عليكم هذه الحُجَّة بعينها في نفي الصِّفات أجبتم عنها
بأن قلتم ـ واللفظ للرازي في «نهايته»
(2)
فقال:
قال
(3)
«وممَّا يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا: إن الله عالم بالكليات. وقالوا: إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم. وقالوا: إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى. حتى ابن سينا قال:
(1)
«ح» : «الحادي والعشرون» . وهذا هو الوجه السابع والستون بعد المائة.
(2)
«نهاية العقول في دراية الأصول» (2/ 240).
(3)
«نهاية العقول» (2/ 240).
إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من لوازم الذات. ومن كان هذا مذهبًا له كيف يمكنه أن يُنكر الصِّفات»
(1)
.
قال
(2)
فيقول له مثبتو العلو: هلَّا قنعت منَّا بهذا الجواب بعينه حين قلت: يلزم من علوه أن يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ، ويلزم وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية. وتكون قد وافقت السمع
(3)
ونصوص الأنبياء، وكُتب الله كلها، وأدلة العقول، والفِطَر الصحيحة، وإجماع أهل السُّنَّة قاطبةً!
فصل
الطريق الحادي والعشرون
(4)
: أن هذه الحجة العقلية القطعية ـ وهي الاحتجاج بكون الربِّ قائمًا
(5)
بنفسه على كونه مباينًا للعالم، وذلك ملزوم لكونه فوقه عاليًا عليه بالذات ـ لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها وكانت ممَّا ناظر بها الكرَّامية لأبي إسحاق الإسفراييني، فرَّ
(6)
أبو إسحاق
(1)
«نهاية العقول» (2/ 238 - 239).
(2)
«نهاية العقول» (2/ 239).
(3)
«ح» : «الشرح» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «الثاني والعشرون» . وهذا هو الوجه الثامن والستون بعد المائة.
(5)
«ح» : «قلبا» . والمثبت من «م» .
(6)
«ح» : «فرا» . والمثبت من «م» .
إلى كون الرب قائمًا بنفسه بالمعنى المعقول، وقال: لا نُسلِّم أنه قائمٌ بنفسه إلَّا بمعنى أنه غنيٌّ عن المحل، فجعل قيامه بنفسه وصفًا عدميًّا لا ثبوتيًّا، وهذا لازم لسائر المعطلة النُّفاة لعلوه، ومن المعلوم أن كون الشيء قائمًا بنفسه أبلغ من كونه قائمًا بغيره. وإذا كان قيام العرض بغيره يمتنع أن يكون عدميًّا فقيام الشيء بنفسه أحق ألَّا يكون أمرًا عدميًّا بل وجوديًّا. وإذا كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمالٍ، وهو مفتقر بالذات إلى غيره، فقيام الغني بذاته بنفسه أحق وأولى.
فصل
الطريق الثاني والعشرون
(1)
: وهو أن القيام بالنفس صفة كمالٍ، فالقائم بنفسه أكمل ممَّن لا يقوم بنفسه،
ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته. وهذه حقيقة قيوميته سبحانه، وهو الحي القيوم، فالقيوم: القائم بنفسه، المقيم لغيره. فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد أنكر قيوميته، وأثبت له قيامًا بالنفس يشاركه فيه العدم المحض، بل جعل قيوميته أمرًا عدميًّا لا وصفًا ثبوتيًّا، وهي عدم الحاجة إلى المحل، ومعلوم أن العدم لا يحتاج إلى محل.
وأيضًا فإنه يقال له: ما تعني بعدم الحاجة إلى المحل؟ أتعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه الذي يفارق به العرض القائم بغيره، أم تعني به أمرًا آخر؟ فإن عنيت الأول فهو المعنى المعقول والدليل قائمٌ، والإلزام صحيحٌ. وإن عنيت به أمرًا آخر فإمَّا أن يكون وجوديًّا أو عدميًّا، فإن كان عدميًّا فالعدم لا شيء كاسمه، فتعود قيوميته تعالى إلى لا شيء. وإن عنيت
(1)
«ح» : «الثالث والعشرون» . وهذا هو الوجه التاسع والستون بعد المائة.
به أمرًا وجوديًّا غير المعنى المعقول الذي يعقله الخاصة والعامة، فلا بد من بيانه؛ لينظر فيه هل يستلزم المباينة أم لا.
فصل
الطريق الثالث والعشرون
(1)
: أن كل من أقرَّ بوجود ربٍّ خالقٍ للعالم مدبِّرٍ له لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم، وكل من أنكر مباينته وعلوه لزم إنكاره وتعطيله.
فهاتان دَعْوِيان
(2)
في جانب النفي والإثبات.
أمَّا الدعوى [ق 106 ب] الأولى فإنه إذا أقرَّ بالربِّ فإمَّا أن يُقرَّ بأن له ذاتًا وماهية مخصوصة أو لا. فإن لم يُقرَّ بذلك لم يُقرَّ بالربِّ، فإن ربًّا لا ذات له ولا ماهية سواء والعدم. وإن أقرَّ بأن له ذاتًا مخصوصة وماهية فإمَّا أن يقرَّ بتعينها أو يقول: إنها غير معينة، فإن لم يقرَّ بأنها معينة كانت خيالًا في الذهن لا موجودًا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلَّا معين، لا سيما وتعين تلك الذات أولى من تعين كل متعين، فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظيرٌ
(3)
، فتعين ذاته سبحانه واجب.
وإذا أقرَّ بأنها معينة لا كلية، والعالم المشهود معين لا كلي، لزم قطعًا مباينة أحد المُعينين للآخر؛ إذ لو لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلًا فيه ولا خارجًا عنه. قيل: هذا والله حقيقة قولكم وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية
(1)
«ح» : «الرابع والعشرون» . وهذا هو الوجه السبعون بعد المائة.
(2)
«ح» : «دعوتان» تصحيف، والمثبت من «م» ، وهو الصواب.
(3)
«ح» : «نظر» . والمثبت من «م» .
تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينه لماهيته وذاته المخصوصة. وأنتم إنما جعلتم تعينه بأمرٍ عدميٍّ محضٍ ونفيٍ صرفٍ، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجًا عنه. وهذا التعيُّن لا يقتضي وجوده، فإنه يصح على العدم المحض، وأيضًا فالعدم المحض لا يُعيِّن المتعين؛ فإنه لا شيء، وإنمَّا يُعيِّنه
(1)
ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعًا من إثبات ذاته تعيُّنُ تلك الذات بعينها، ومن تعيُّنِها مباينتُها للمخلوقات، ومن المباينة العلوُّ عليها، لما تقدم تقريره. وصحَّ مقتضى العقل والنقل والفطرة، ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية، وهي أن من أنكر
(2)
مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إنكار ربوبيته وكونه إلهًا للعالم.
فصل
الطريق الرابع والعشرون
(3)
: أنه قد دلَّ البرهان الضروري والعقل الصريح على استغنائه سبحانه بنفسه، وأنه الغني بذاته عن كل ما سواه.
فغناه من لوازم ذاته، ولا يكون غنيًّا على الإطلاق إلَّا إذا كان قائمًا بنفسه؛ إذ القيام بالغير يستلزم فقر القائم إلى ما قام به، وعدم القيام بالنفس وبالغير يستلزم العدم، فصحَّ ضرورةً وجوب قيامه بنفسه، وهذا حقيقة المباينة. ونفي المباينة والمداخلة كنفي القيام بالنفس وبالغير، ولا تتصور العقول قط قائمًا بنفسه مع قائم بنفسه إلَّا إذا كان مباينًا له أو محايثًا. والفرق بين هذا الوجه وبين الاستدلال بقيامه بنفسه أن ذاك استدلال بالقيام بالنفس، وهذا استدلال
(1)
«ح» : «وأما تعيينه» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «افتكر» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «الخامس والعشرون» . وهذا هو الوجه الحادي والسبعون بعد المائة.
بغناه المستلزم للأمرين.
فصل
الطريق الخامس والعشرون
(1)
: أنه قد ثبت بالعقل إمكان رؤيته سبحانه، وبالشرع وقوعها في الدار الآخرة، فاتفق العقل والشرع على إمكان الرؤية ووقوعها.
وقد ذكرنا في كتاب «صفة الجنة»
(2)
أربعين دليلًا على مسألة الرُّؤية من الكتاب والسُّنَّة. والعقل الصريح شاهدٌ بذلك، فإن الرُّؤية أمرٌ وجوديٌّ لا يتعلق إلَّا بموجود، وما كان أكمل وجودًا كان أحق بأن يُرى. فالباري سبحانه أحق بأن يُرى من كل ما سواه؛ لأن وجوده أكمل من وجود كل ما سواه.
يوضحه: أن تعذر الرؤية إمَّا لخفاء المرئي، وإمَّا لآفةٍ وضعفٍ في الرائي. والربُّ سبحانه أظهر من كل موجودٍ، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه. فإذا كان الرائي في دار البقاء كانت قوة الباصرة في غاية القوة لأنها دائمة، فقويت على رؤيته تعالى. وإذا جاز
(3)
أن يُرى سبحانه فالرؤية المعقولة عند جميع بني آدم عربهم وعجمهم وتركهم وسائر طوائفهم أن يكون المرئي مقابلًا للرائي، مواجهًا له، مباينًا عنه، لا تعقل الأمم رؤية غير ذلك. وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينته للمرئي لزم ضرورةً أن يكون مرئيًّا له من فوقه أو من تحته أو عن يمينه أو عن شماله أو خلفه أو أمامه. وقد دلَّ النقل الصريح على أنهم إنما يرونه سبحانه
(1)
«ح» : «السادس والعشرون» . وهذا هو الوجه الثاني والسبعون بعد المائة.
(2)
«حادي الأرواح» (2/ 605 - 714).
(3)
«ح» : «كان» . والمثبت من «م» .
من فوقهم لا من تحتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا
(1)
أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جل جلاله قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 57] ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ»
(2)
.
فلا يجتمع الإقرار بالرؤية وإنكار الفوقية والمباينة لهذا. ولهذا الجهمية المُغْل
(3)
تُنكر علوَّه على خلقه، ورُؤية المؤمنين له في الآخرة، ومخانيثُهم [ق 107 أ] يُقرُّون بالرُّؤية وينكرون العلوَّ.
وقد ضحك جمهور العقلاء من القائلين بأن الرُّؤية تحصل من غير مواجهةٍ للمرئي ومباينةٍ له، وقالوا: هذا ردٌّ لما هو مركوز في أوائل العقول.
قال المنكرون: الإنسان يرى صورته في المرآة، وليس صورته في جهة منه.
(1)
«ح» : «بينات» . والمثبت من «م» .
(2)
أخرجه ابن ماجه (184) وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (94) والآجري في «الشريعة» (615) والدارقطني في «الرؤية» (51) من طرق عن أبي عاصم العباداني عن الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه به، وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (67):«هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي» . وينظر «الضعفاء الكبير» للعقيلي (2/ 367) و «الكامل» لابن عدي (7/ 119 - 120) و «الموضوعات» لابن الجوزي (3/ 260 - 262).
(3)
استخدم المصنِّف -رحمه الله تعالى- هذا المصطلح «الجهمية المغل» هنا وفيما سيأتي (ص 970) في مقابلة «مخانيثهم» أو «الجهمية المخانيث» . فهو يقصد بهم المغالين، أي: الجهمية المحضة، وقد ذهب محققو «النونية» (2/ 250) إلى أن المغل هم المغول أي التتار. وهو غير بيِّنٍ في المعنى، والله أعلم.
قال العقلاء: هذا تلبيسٌ، فإنه إنما يرى خيال صورته، وهو عرض منطبع في الجسم الصقيل، وهو في جهةٍ منه، ولا يرى حقيقة صورته القائمة به.
والذين قالوا: يُرى من غير مقابلةٍ ولا مباينةٍ قالوا: مصحح الرؤية الوجود، وكل موجودٍ يصح أن يُرى. فالتزموا جواز رؤية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني كلها، وجواز أكلها وشربها وشمها ولمسها.
فهذا منتهى عقلهم الذي عارضوا به الكتاب والسُّنَّة، ثم قدَّموه عليهما. وتقرير هذه المسألة له موضعٌ آخر.
فصل
الطريق السادس والعشرون
(1)
: أنه قد ثبت بالعقل والنقل والفطرة أن الله سبحانه سميعٌ بصيرٌ، وهو سبحانه يرى كل المرئيات، لا يخفى عليه منها شيءٌ. ورؤيته لخلقه تستلزم مباينته لهم ضرورةً
ـ كما تقدم في الوجه الذي قبله ـ فذاك استدلالٌ بكونه مرئيًّا، وهذا استدلال بكونه رائيًا، ولا يُعقل واحدٌ من الأمرين إلَّا مع
(2)
مباينته لخلقه. ولهذا لما علم منكرو العلو والفوقية أن هذا يلزمهم ولا بد، قالوا: لا يُرى بالأبصار، وإنما الحاصل في الآخرة مزيد علمٍ ومعرفةٍ به تُسمَّى رؤية.
وطرد الجهمية هذا في رؤيته لخلقه فقالوا: بصره ورؤيته هي علمه، لا
(3)
أن هناك بصرًا حقيقةً ورؤية حقيقةً. وأمَّا مخانيثهم فتناقضوا فقالوا: بل
(1)
«ح» : «السابع والعشرون» . وهذا هو الوجه الثالث والسبعون بعد المائة.
(2)
«مع» ليس في «ح» .
(3)
«ح» : «إلا» . والمثبت هو الصواب.
يبصِر ويرى من غير مباينة للمرئي المُبصَر ولا مقابلة
(1)
له. فكانت فحولهم أقرب إلى العقل من هؤلاء وهؤلاء، وإن تناقضوا تناقضًا بيِّنًا، فهم أقرب إلى الوحي بما أثبتوه من الرؤية وأبعد عنه بما نفوه من المباينة والعلو، والطائفتان خارجتان عن حُكْم الوحي والعقل.
فصل
الطريق السابع والعشرون
(2)
: أن كل من أثبت الصِّفات أو شيئًا منها لزمه إثبات المباينة، وإلَّا
(3)
تناقض غاية التناقض،
فإن الصِّفات نوعان:
أحدهما: ما له تعلقٌ بالمخلوق، كالقدرة والمشيئة والرحمة والعلم والسمع والبصر.
والثاني: ما لا يتعلق به، كالصفات اللازمة كالحياة والجمال.
وإثبات النوعين يستلزم المباينة. أمَّا النوع الأول فلأن تعلق تلك الصِّفات بمتعلقاتها لا تعقل إلَّا مع ثبوت المباينة بينهما وبين تلك المتعلقات، كمباينة العلم للمعلوم، والقدرة للمقدور، والسمع للمسموع. فلو قيل: صفة السمع ليست مباينة للمسموع، كان مكابرةً وردًّا لأوائل العقول وبدائهها. وإذا لزم من تحقق الصفة وإمكان تعلقها بمتعلقها مباينتها له، فهذه المباينة تابعة لمباينة الذات، فإن الصفة لا تقوم بنفسها، فإذا باين العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة لمتعلقاتها بمعنى انفصالها عنه،
(1)
«ح» : «مقابلته» .
(2)
«ح» : «الثامن والعشرون» . وهذا هو الوجه الرابع والسبعون بعد المائة.
(3)
«ح» : «ولا» .
فمباينة الذات أولى. وهذا لا محيص عنه، ويلزم من ثبوت هذه المباينة ثبوتها بين النوع الآخر وبين المخلوق بطريق الأولى.
فصل
يوضحه:
الطريق الثامن والعشرون
(1)
: أنهم إذا اعترفوا بقيام الصِّفات بالذات وأنها زائدة على الذات المجردة، ولم يكن ذلك تجسيمًا ولا تركيبًا يستلزم الحدوث، بطلت كل شُبهةٍ لهم تمنع
(2)
العلو والاستواء على العرش،
فإن مدارها على أن ذلك يستلزم التركيب والتجسيم، وهو يستلزم الافتقار والحدوث. وقد صرَّحوا هم بالتزام هذا القدر ولم ينكروه لأجل تسمية المعطلة له تركيبًا وتجسيمًا، وقالوا لخصومهم من نفاة الصِّفات: التركيب خمسة أنواع:
أحدها: تركيب الموجود من الوجود والماهية.
والثاني: تركيب الحقيقة من الوجود والوجوب.
والثالث: تركيب الذات الموصوفة من الذات والصفات.
قالوا: وهذه الأقسام الثلاثة لا تنافي وجوب الوجود، ولا يُتحاشى من إلقائها. والدليل لا يدل على بطلانها؛ لأن الدليل إنما دلَّ على انتهاء الممكنات إلى واجبٍ بذاته لا علة له، ولم يدل على أنه لا ماهية له ولا صفة له.
والرابع من التركيب: تركب الجسم من الجواهر الفردة.
(1)
«ح» : «التاسع والعشرون» . وهذا هو الوجه الخامس والسبعون بعد المائة.
(2)
«ح» : «يمتنع» .
والخامس: تركبه من المادة والصورة عند من يقول بهذا وهذا.
ولا ريب أنه يمتنع وجود موجودٍ قائمٍ بنفسه بدون ثبوت الأقسام الثلاثة الأولى، وتسميتهم لذلك تركيبًا خطأٌ وكذبٌ على اللغة.
وإن قالوا: نحن اصطلحنا على تسميته تركيبًا.
قيل: فلا ترتفع بسبب اصطلاحكم ـ المتضمن للتلبيس [ق 107 ب] والإيهام ـ الحقائق الموجودة والمعاني العقلية. ولا يُنكر بسببه
(1)
علمُ الربِّ وحياته وقوته وسمعه وبصره وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه، فإنه ليس في العقل ما ينفي ذلك، بل العقل الصريح يصدق السمع الدال على إثبات صفات الربِّ سبحانه ومباينته لمخلوقاته، والعقل أثبت موجودًا واجبًا بنفسه غنيًّا عمَّا سواه، وأمَّا كون ذلك الموجود مجردًا عن الصِّفات الثبوتية لا يوصف إلَّا بالسلوب والإضافات العدمية، فالعقل لا يدل على ذلك، بل يدل على خلافه كما يدل السمع
(2)
.
فصل
الطريق التاسع والعشرون
(3)
: أن يقال: ما أثبته هؤلاء المعطلة من المباينة لا يبطل الحلول والاتحاد،
فإنهم أثبتوا مباينة في المفهوم كمباينة طعم التفاحة للونها وريحها وشكلها. ومعلومٌ أن هذه المباينة لا تقتضي انفصال كل من المتباينين من الآخر، بل هي ثابتة مع قيام هذه الصِّفات كلها
(1)
«ح» : «بتشبيه» . تصحيف.
(2)
«ح» : «المسمع» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «الثلاثون» . وهذا هو الوجه السادس والسبعون بعد المائة.
بمحلٍّ واحدٍ، وهذه المباينة معناها أن هذا غير هذا. وهذا القدر الذي أثبته النفاة من المباينة لا ينافي كونه حالًّا في غيره ولا حلول غيره فيه، ولا تقتضي قيامه بنفسه ولا انفصال ذاته عن ذات خلقه، بل ولا يقتضي تنزيهه عن التشبيه والتمثيل.
وأمَّا المباينة التي دلَّ عليها العقل والنقل والفطرة فأعظم من ذلك، فإنها مباينة تستلزم تفرده بصفات كماله ونعوت جلاله، وكونه أعظم من كل شيءٍ، وفوق كل شيءٍ، وعاليًا على كل شيءٍ، وأن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيءٌ، والآخر الذي ليس بعده شيءٌ، والظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطن الذي ليس دونه شيءٌ؛ فباين خلقه بذاته وصفاته وأفعاله وأوليته وآخريته ووجوب وجوده وامتناع عدمه وكثرة أوصافه التي ليس كمثله فيها شيءٌ. فهو العليم الذي ليس كمثله شيءٌ في علمه، البصير الذي ليس كمثله شيءٌ في بصره، القدير الذي ليس كمثله شيءٌ في قدرته، الحي القيوم الذي ليس كمثله شيءٌ في حياته وقيوميته، العلي الذي ليس كمثله شيءٌ
(1)
في علوه؛ بل هو منفرد بذاته وصفاته عن مماثلة مخلوقاته، فله أعظم المباينة وأجلُّها وأكملها، كما له من كل صفة كمالٍ أعظمها وأكملها. فهذه هي المباينة التي لا يليق به غيرها. فأثبت له النُّفاة المعطلة مباينة لا حقيقة لها، ولا ترجع إلى أمرٍ وجوديٍّ، بل المباينةُ التي أثبتوها من جنس مباينة العدم للوجود، والمباينةُ التي أثبتها لنفسه مباينة
(2)
فوق كل مباينة.
(1)
«شيء» سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «مباينته» . والمثبت هو الصواب.
فصل
الطريق الثلاثون
(1)
: أنه لو لم يكن مباينًا للعالم لزم أحد أمور ثلاثةٍ، قد قال بكلٍّ منها قائلٌ:
أحدها: أن يكون هو هذا العالم، كما قال أهل وحدة الوجود. والذي قادهم إلى هذا القول هو نفي المباينة، كأن قلوبهم وفِطَرهم طلبت معبودًا، فلمَّا اعتقدوا أنه غير مباين للعالم وتيقنوا أنه موجودٌ قائمٌ بنفسه قالوا: فهو هذا العالم بعينه.
الثاني: قول من يقول: بل هو حالٌّ في العالم. وهو قول الحلولية.
الثالث: قول من يقول: لا هو العالم ولا هو حالٌّ فيه ولا بائن عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه. وهو قول الجهمية.
ومعلومٌ أنه إذا عُرض على العقول الصحيحة هذه الأقوال الأربعة
(2)
علمت أن الصواب منها القول بأنه سبحانه بائنٌ من خلقه. وإذا كان
(3)
القولان الآخران مخالفين لصريح العقل، فالقول الرابع
(4)
أشد مخالفة لصريح العقل منهما؛ لأنه يتضمن نفي النقيضين. وإن كان ممكنًا في العقل فالقولان أقرب إلى الإمكان منه. فأمَّا أن يكون واجبًا والقولان مخالفان [للعقل]
(5)
، فهذا تحكمٌ باطلٌ.
(1)
«ح» : «الحادي والثلاثون» . وهذا هو الوجه السابع والسبعون بعد المائة.
(2)
يعني: القول بأنه سبحانه مباين للعالم إضافة إلى الأقوال الثلاثة المذكورة.
(3)
«ح» : «كانت» . والمثبت هو الصواب.
(4)
يعني: قول الجهمية.
(5)
قوله «للعقل» سقط من «ح» .
فهذه ثلاثون طريقًا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما.
وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الثامن
(1)
والسبعين بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم تتضمن معارضتهم الفرية على الوحي والعقل واللغة والفطرة وإفسادها.
أمَّا فريتهم على الوحي فإنهم متى اعتقدوا معارضة العقل له لزمهم أحد أمرين باطلين: إمَّا أن يقولوا: إن الرُّسل أرادوا من الناس اعتقاد الباطل وخلاف الصواب، أو أنهم أتعبوهم غاية التعب وكلَّفوهم أعظم الحرج، وهو اعتقادُ خلاف ما دلت عليه النصوص، ومعرفة الحق بعقولهم وفطرهم، والاجتهادُ في صرف
(2)
ألفاظ الوحي عن حقائقها وظواهرها المفهومة منها. وبيان ذلك أنهم إمَّا
(3)
أن يريدوا منهم اعتقاد الظاهر أو يريدوا منهم خلافه. فإن أرادوا الأول ـ وهو [ق 108 أ] باطلٌ عند النُّفاة ـ فقد أرادوا منهم اعتقاد الباطل. وإن أرادوا الثاني لزمت تلك المفاسد العظيمة. وعلى التقديرين فلا يكونون قد بينوا الحق ولا هدوا الخلق.
وأمَّا فريتهم على العقل فإنهم جاؤوا إلى المقدِّمات الفطرية التي فطر الله عليها عباده، فجعلوها من حكم الوهم والخيال، وجاؤوا إلى المقدِّمات الباطلة فجعلوها من أحكام العقل؛ فافتروا على العقل في النفي والإثبات.
(1)
بحاشية «ح» : «هكذا وجدناه» . كأنه لم يتنبه لقول المصنِّف قبله.
(2)
«ح» : «طرق» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «إنما» .
وأمَّا فريتهم على الفطرة فإن الله فطر عباده على الإقرار بعلوه كما فطرهم على الإقرار بأنه ربهم وخالقهم، فغيَّروا الفطرة وأفسدوها بإنكار ذلك.
وأمَّا فريتهم على اللغة فإنهم أزالوا دلالة الألفاظ الدالة على ذلك دلالة صريحة لا يحتمل غير معناها عن مواضعها، وأنشؤوا لها معاني أُخر حملوها عليها، يقطع من له إلفٌ بتلك اللغة أن المتكلم لم
(1)
يُرد بتلك الألفاظ ما ذكروه من المعاني؛ كما حملوا قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] على معنى قول القائل: الذهب فوق الفضة، والمسك فوق العنبر، أي في القيمة والقدر، ومعلومٌ أن هذا التركيب الخاص لا يحتمل هذا المعنى في لغة أُمةٍ من الأمم، ولا يجوز أن يُراد باللفظ. وكذلك قوله:«إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ»
(2)
. فمثل هذا اللفظ إذا حُمل على غير معناه الظاهر لكل أحدٍ كان فريةً على اللغة، كما هو فريةٌ على المتكلم به. وعامة تأويلات النُّفاة المعطلة من هذا الباب لمن تدبَّرها ورُزق هداية وإنصافًا. وأمَّا الأعمى المتبع هواه فكما قال الله عز وجل:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39].
الوجه التاسع والسبعون بعد المائة: أن المعارضين للوحي بعقولهم في الأصل هم أعداء الرُّسل المكذبون لهم ـ كما تقدم
(3)
ـ ودونهم طوائف
(1)
«ح» : «لمن» . والمثبت هو الصواب.
(2)
متفق عليه، وقد تقدم (ص 32) تخريجه.
(3)
تقدم (ص 492).
الجهمية المعطلة، وملاحدة الصوفية، وزنادقة الباطنية، وخونة الولاة وظلمتهم. فالجهمي يقول: قال لي عقلي. وملاحدة المتصوفة يقول قائلهم: قال لي قلبي. وزنادقة الباطنية يقولون: لكل شيء تأويلٌ وباطنٌ يعلمه أهل الباطن وينكره أهل الظاهر. وخونة الولاة يقولون: لا تستقيم أمور الرعية إلَّا بهذه السياسة، ولو وكلناهم إلى الشريعة لفسدت أمورهم.
ولقد وقعتُ على فصلٍ من كلام أبي الوفاء بن عقيل
(1)
في ذلك، قال: «المتكلمون دققوا
(2)
النظر بأدلة العقول فتفلسفوا، والصوفية اهتموا بالمتوهمات على واقعهم فتكهنوا؛ لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يُلقى إليهم من الاطلاع
(3)
، وهم جميعًا خوارج على الشرائع. هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقلٍ بما يُخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه حكم العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي. فلا على هؤلاء أصبحتُ، ولا على هؤلاء أمسيتُ. لا كان مذهبٌ جار
(4)
على غير طريق السُّفراء والرُّسل،
(1)
في كتابه «الفنون» ، وعنه نقل ابن تيمية في «درء التعارض» (8/ 61 - 68) وقال:«ومن خطه نقلت» . والمصنِّف نقله بتصرف.
(2)
في «درء التعارض» : «وقفوا» .
(3)
أخرج البخاري (5762) ومسلم (2229) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بشيءٍ» . قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًّا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الجن، يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» .
(4)
في «درء التعارض» : «جاء» .
ولا نفق نقدٌ طُبع على غير السِّكة
(1)
النبوية!
هل يُعلم للصوفية عمل في إباحة دمٍ أو فرجٍ، أو تحريم معاملةٍ، أو فتوى معمول بها في عبادةٍ أو معاقدةٍ؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلدٍ أو رستاق
(2)
؟ أو تُصيب للمتوهمة فتاوى وأحكامًا؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية: المُحدِّثون والفقهاء، هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف والغلط. وهؤلاء ينفون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهؤلاء هم الذين عدَّلهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ»
(3)
.
فهم العدول على سائر الطوائف؛ يُقبل
(1)
السِّكَّة: الحديدة التي تُضرب عليها الدنانير والدراهم، وتطلق على الدنانير والدراهم أيضًا. ينظر «النهاية في غريب الحديث» (2/ 384).
(2)
الرستاق: معرب، ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم. «المصباح المنير» (1/ 226).
(3)
رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (1، 2) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (3884) والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (6/ 132) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 17) والآجري في «الشريعة» (1، 2) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 109) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (55) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 58 - 59) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلًا. والحديث روي موصولًا عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم. وقد ذكر المصنِّف كثيرًا من طرقه في «مفتاح دار السعادة» (1/ 463 - 467). وقال العقيلي: «وقد رواه قومٌ مرفوعًا من جهةٍ لا تثبت» . وقال عبد الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (1/ 121): «وأحسن ما في هذا ـ فيما أعلم ـ مرسل إبراهيم بن عبد الرحمن العذري» . وقال العراقي في «التقييد والإيضاح» (ص 116): «قد روي هذا الحديث متصلًا من رواية جماعة من الصحابة ـ علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة ـ وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيءٌ، وليس فيها شيءٌ يقوي المرسل المذكور» .. وقال ابن حجر في «الإصابة» (1/ 429): «وقد أورد ابن عدي هذا الحديث من طرقٍ كثيرةٍ كلها ضعيفة» . وقال السخاوي في «الغاية في شرح الهداية» (ص 64): «وهو من جميع طرقه ضعيفٌ، كما صرَّح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعددها، ويكون حسنًا، كما جزم به العلائي» .
قولهم على الناس، ولا يُقبل قول الناس عليهم.
والخارج عن هؤلاء ـ وإن خفقت بنوده
(1)
، وكثرت جموعه، وسعى حتى ضُرب له الدرهم والدينار، وخُطب باسمه على رؤوس المنابر ـ لا تكون أموره إلَّا على المغالطة والمخالسة
(2)
؛ لأنه كالخارج على الملك الذي دانت له الرعايا، ونفذ حكمه في البلاد. فالخارج
(3)
عليه لا يزال خائفًا مستوحشًا يتخشَّى
(4)
من أن يقابله الملك بقتالٍ أو يصافَّه
(5)
بحربٍ، لأن في نفس الخارجي بقية من انخناس
(6)
الباطل، والمَلِكُ ـ وإن قلَّت
(1)
أي: أعلامه، جمع بَنْد، وهو العَلَم الكبير، فارسيٌّ مُعرَّب. «الصحاح» (2/ 450).
(2)
«ح» : «المجالسة» بالجيم، والمثبت من «درء التعارض» . وهو الصواب، والمخالسة: استغفال الرقيب وانتهاز الفرصة للتغلب على الخصم.
(3)
«ح» : «فالخراج» . والمثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «يتحش» . والمثبت من «درء التعارض» .
(5)
أي: يقابله، يقال: صفَّ الجيش يصفُّه صفًّا، وصافَّه فهو مُصافٌّ: إذا رتَّب صفوفه في مقابل صفوف العدو. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 38).
(6)
«ح» : «الخناس» . وفي «درء التعارض» : «انخساس» . والانخناس: التأخر والتخلف، يريد الجبن وعدم الإقدام على القتال.
جموعه ـ فعنده صولة الحق، وهيبة المُلْك.
وكذلك الغريب المداوي للناس ـ بزعمه ـ مع الطبيب المقيم. هذا مجتازٌ يطلب من الأدوية ما يُسكِّن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الحادة
(1)
العاملة بسرعةٍ، فيأخذ الخِلْعة
(2)
والعطية لسكون الألم وإزالة [ق 108 ب] المرض، ويُصبح على أرض أخرى ومنزلٍ بعيدٍ. فطبُّه مجازفة؛ لأنه يأمن المعاتبة والمواقفة
(3)
، والأطباء المقيمون يُلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المركبة دون الحارة؛ لأن الحارة من الأدوية وإن عجلت سكون الآلام فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب؛ لأن ما يعطي الأدوية الحارة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهنت
(4)
قوى المحل الذي حلت به، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب يُنقيه ويُبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب.
فكذلك الفقهاء والمُحدِّثون يقصرون عن الاستقصاء في إزالة الشبهة لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويحففون
(5)
، فهم حال الأجوبة ينظرون في العواقب، والمبتدعة والمتوهمة يهجمون، فعلومهم فرح ساعةٍ، ليس لها ثباتٌ.
(1)
«ح» هنا وفي المواضع التالية: «الحارة» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
الخِلْعة: ما يعطيه الإنسان غيره من الثياب منحة. «المصباح المنير» (1/ 178 (.
(3)
«ح» ، «درء التعارض»:«الموافقة» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «أوهشت» . وفي «درء التعارض» : «أوهت» . والمثبت بمعناه.
(5)
«ح» : «يحققون» . وفي «درء التعارض» : «ويقللون» . والمثبت بمعناه.
فإن اشتبه على قومٍ ما دلَّسه
(1)
جُهَّال الصوفية عليهم من الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: «فِي أُمَّتِي مُحَدَّثُونَ وَمُلْهَمُونَ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ»
(2)
. قيل: لو نطق عمر برأيه ما نطق، ولم يصدقه الوحيُ، لم يُلتفت إلى واقعاته وما يُحدِّث به، ولا يبتنى
(3)
الشرع والأحكام على فراسته. ألا ترى إلى قول من هو خيرٌ منه: «أي سماء تُظلُّني وأي أرض تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي»
(4)
؟
سبحان الله العظيم! يقول الصدِّيق هذا، وأُسَلِّم اليوم لشيخ رباطٍ يخلو بأمرد على شمعة، ويأكل من الحرام شَبْعَه. ويسمع الغناء في مجالس المردان من النساء الأجانب والصبيان. تهزه الأشعار الخماريات، وتثقل عليه الآيات البينات. يرقص على ذكر المليح والمليحة طلبًا ورغبًا، ويتواجد على المواصيل
(5)
والألحان طربًا، قد اتخذ دينه لهوًا ولعبًا. تقرب أولياء الله إليه بالقرآن، وتقرب هو باستماع المعازف والألحان. مفتون في نفسه، فاتن لأشباهه وبني جنسه. فإذا لُمتَ أحدهم قال: أنا خيرٌ أم الشيخ فلان!
وذاك ـ لعَمْرُ الله ـ من أولياء الشيطان، قد نصبه شبكة يصطاد به جهلة
(1)
«ح» : «دله» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
أخرج البخاري (3469) ومسلم (2398) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» .
(3)
غير منقوطة في «ح» ، والمثبت من «درء التعارض» .
(4)
أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 375) وسعيد بن منصور في «التفسير» (39) وابن أبي شيبة في «المصنف» (30731) وابن جرير في «التفسير» (1/ 72) والبيهقي في «شعب الإيمان» (2082) عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه. وإسناده منقطع، ينظر «علل الدارقطني» (58).
(5)
لعله يعني: الأغاني. وينظر «تكملة المعاجم العربية» (10/ 76)
العوام، ويحتج به على أشباه الأنعام. فما أعظم على الناس فتنته! وما أشدَّ على الدِّين محنته!
يقول أتباعه المفتونون وحزبه المغرورون: نُسلِّم إلى الشيخ طريقته. وأيُّ طريقة مع الشرع؟ هل أبقت الشريعة لقائلٍ مقالًا، أو لمتصرفٍ بعدها مجالًا؟ وهل جاءت إلَّا بهدم العوائد ونقض الطرائق؟
ما على الشريعة أضرُّ من مبتدعة المتكلمين وجهلة المتصوفين. هؤلاء يُفسدون العقول بتوهمات وشُبهات تُشبه المعقول، وهؤلاء يُفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان
(1)
. يحبون البطالات، والاجتماعات على اللذات، وسماع الأصوات المشوِّشات للمعايش والطاعات. وأولئك
(2)
يُجرِّئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة
(3)
السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمعارضات والمناقضات.
وما عرفنا للسلف الصالح أحوال أولئك البطالين أصحاب الشهوات، ولا أقوال
(4)
هؤلاء المتكلمين أرباب الشُّبهات، بل كانوا عبيد إيمانٍ وتسليمٍ، عن معرفةٍ تامةٍ، وبصيرةٍ نافذةٍ، وجدٍّ وتشميرٍ في الطاعات.
فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحِّدين ألَّا يقرع أبكار
(5)
قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل
(1)
«ح» : «الأزمان» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
«ح» : «أولئك» . والمثبت من «درء التعارض» .
(3)
«ح» : «والتنزه» . والمثبت من «درء التعارض» .
(4)
في «درء التعارض» .
(5)
«ح» : «أبصار» . والمثبت من «درء التعارض» .
بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف على النصوص أولى من شُبهات المتخيلة المتوهمة.
وقد خبرت طريق الفريقين، غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح».
قال: «والمتكلمون عندي خيرٌ من المتصوفة؛ لأن المتكلمين مؤداهم مع التحقيق مزيد الشكوك في حق بعض الأشخاص، ومؤدى المتصوفة إلى توهم الأشكال والتشبيه، وهو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال.
ما يُسقط المشايخ من عيني
(1)
ـ وإن نبلوا عند الناس أقدارًا وأنسابًا وعلومًا وأخطارًا ـ إلَّا قول العاقل منهم إذا خُوطب بمقتضى الشرع: عادتنا كذا. يشير إلى طريقة قد قننوها لأنفسهم تخرج عن سَمْتِ
(2)
الشرع. قد اختلقوا طريقةً، واستحدثوا رسومًا، وكل مُختلَقٍ مُستحدَثٍ فبدعةٌ، و
(3)
الاستمرار على ترك السُّنن خذلان، قال أحمد رضي الله عنه وقد سُئل عن رجلٍ استمر على ترك الوتر:«هذا رجلُ سَوءٍ»
(4)
.
إياك أن تتبع شيخًا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمامٌ يُعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك [ق 109 أ] بشيخٍ إلى شيخٍ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. الله الله! الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السُّنَّة أحب إليَّ من الخشونة والانقباض مع البدعة. لا يُتقَرَّب إلى الله تعالى بالامتناع ممَّا لم يمنع منه، كما لا يُتقَرَّب إليه بعمل ما لم يأذن فيه.
(1)
«ح» : «عين» . والمثبت من «درء التعارض» .
(2)
«ح» : «سمعت» . والمثبت من «درء التعارض» .
(3)
بعده في «درء التعارض» : «لو كان في ترك النوافل لأن» .
(4)
«مسائل الإمام أحمد» رواية ابنه صالح (206، 284).
أصحاب الحديث رُسل السفير إلينا، والفقهاء تَراجِم
(1)
لمعاني كلامه. ولا يتم اتباع إلَّا بمنقول، ولا فهمُ منقولٍ إلَّا بترجمان، وما عداهما تكلفٌ لا يُفيد إلَّا التعب والعناء. وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلة وفقهاء، ولا نعرف فيهم ثالثًا إلَّا أصحاب المعاش والتجارات، لا مشايخ رُبُط
(2)
ولا مُناخات
(3)
البطالات، ولا أصحاب زوايا ينتظرون الفتوحات، ولا رقاصون على الغناء والأصوات المطربات، ولا متكلمون بالتخيلات والشبُّهات، ولا بالشطحات والتوهمات، ولا بالكلمات
(4)
الخمس، والمقولات العشر، والمُوجهات والمُختلطات، بل كانوا بحبل الوحي معتصمين، وبكتاب ربهم وسُنَّة نبيهم متمسكين، وهو في قلوبهم أجلُّ من أن تُضرب له الأمثال، أو تتقدم إليه آراء الرجال.
يا أصحاب المُخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، ويا أصحاب الزوايا والانقطاع عليكم بحسم مواد الطمع. ويا أرباب العلم والنظر، إياكم واستحسانَ طرائق أهل التوهم
(5)
والخدع.
ليست السُّنَّة بحبِّ معاوية ويزيد، ولا بمجرد حبِّ أبي بكر وعمر، ولا بإزعاج أعضائك بالصلاة على السفير
(6)
، ولا بالاكتحال يوم عاشوراء
(1)
جمع «ترجمان» ، وفي «درء التعارض»:«المترجمون» .
(2)
جمع الرباط الذي يُبنى للفقراء مولد. «المصباح المنير» (1/ 215).
(3)
جمع مُناخ: أي منزل. «تاج العروس» (7/ 362).
(4)
كذا في «ح» ، والصواب «الكليات» ، وتقدم بيان الكليات الخمس (ص 544).
(5)
«ح» : «العلم» . والمثبت من «درء التعارض» .
(6)
«ح» : «السفر» . والمثبت هو الصواب، وأراد ابن عقيل بالسفير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتوسعة على العيال! السُّنَّة تتبع طريق الرسول، واقتفاء آثاره، والوقوف عند مراسمه وحدوده من غير تقصيرٍ ولا غلوٍّ، وألَّا يتقدم بين يديه، ولا تختار لنفسك قولًا لم يتبيَّن لك أنه جاء به. فالسُّنَّة مقابلة أوامره بالامتثال، ونواهيه بالانكفاف، وأخباره بالتصديق، ومجانبة الشُّبه والآراء وكل ما خالف النقل، وإن كانت له حلاوةٌ في السمع وقبولٌ في القلب، ليست القلوب والعقول والآراء معيارًا على الشرع.
ليس لله طائفةٌ أجلُّ من قومٍ حدَّثوا عنه وعن رسوله وما أَحْدَثوا، وعوَّلوا على ما رووا، لا على ما رأوا. الوقوف مع النقل مقام الصدِّيقين، وورثة النبيين والمرسلين، هذه نصيحتي لنفسي ولإخواني من المؤمنين».
فهذا كلام من دخل مع المتكلمين إلى غايتهم، ووقف على نهايتهم، وخبَرَ الكلام وقلاه، وعرف مداه ومنتهاه. وقد تقدَّم حكاية كلام معاصره ومُناظره أبي حامد الغزالي
(1)
في ذمِّ الكلام. وهما من أعلم أهل عصرهما بمذاهب المتكلمين.
الوجه الثمانون بعد المائة: أنه من المعلوم عند جميع العقلاء أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم أعقل الخلق، وعقولهم أكمل العقول. ولهذا كان ما جاؤوا به فوق عقول البشر، ولهذا حصل على أيديهم من الخير ما لم يحصل على أيدي سواهم، وصلح من أحوال النفوس والقلوب وعمارتها بالخير وتزكيتها بالعلم والعمل ما لم يحصل لأحدٍ غيرهم؛ فعمارة القلوب والدنيا والآخرة على أيديهم.
(1)
تقدم (ص 858).
وكل فسادٍ في العالم عامًّا وخاصًّا فإنما سببه العدول عمَّا جاؤوا به ومخالفتهم. فإذا استقريت جميع الشرور التي في العالم جزئياتها وكلياتها وكل فتنةٍ وبليةٍ ورزيةٍ رأيت سببها معصيتهم. وكل خيرٍ ونعمةٍ في الدنيا والآخرة فسببه طاعتهم. واستقر هذا من زمن نوح إلى ساعتك التي أنت فيها. وما عُذبت به الأُمم من أنواع العذاب، وما جرى على هذه الأمة حتى ما أُصيب به المسلمون مع نبيهم يوم أُحدٍ، كان سببه معصية أمره. وللعاقل البصير عبرة في نفسه وأحواله خاصة.
فهذا شأن هذه العقول الزاكية الكاملة وشأن من خلقهم بمعقوله، وإذا كان هذا التفاوت بين عقولهم وعقول الناس في الأمور المتعلقة
(1)
بالإرادات والأعمال والحب والبغض، فما الظنُّ بالتفاوت الذي بين عقولهم وعقول الناس في العلوم والمعارف؟! فما الظنُّ بما يتعلق بمعرفة الربِّ تعالى وأسمائه وصفاته وشأنه؟!
ويا لله العجب! كيف يُقدَّم قول من يقول: قال لي عقلي عن ابن سينا والفارابي وأرسطاطاليس وأشباههم، أو عن أبي الهذيل العلَّاف والشحَّام والنظَّام وأضرابهم، أو عمَّن تلقى عن هؤلاء = على قول من يقول: قال لي جبريل عن ربِّ العالمين؟! فالرسول يقول: قال لي ربي، وهذا المعارض يقول: قال لي عقلي، أو قال أرسطاطاليس ونحوه!
الوجه الحادي والثمانون بعد المائة: لو عُورض ما جاء به [ق 109 ب] خاتم الرُّسل صلوات الله وسلامه عليه بموسى وعيسى كانت هذه المعارضة
(1)
«ح» : «المعلقة» .
ضلالًا وانسلاخًا من الدِّين بالكلية، كما صرَّح به صلى الله عليه وسلم ـ وقد رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقةً من التوراة ـ فقال:«أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً. وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ»
(1)
. فإذا كان اتِّباع موسى مع وجود محمد صلوات الله وسلامه عليه ضلالًا، فكيف باتِّباع أرسطو وابن سينا ورؤوس الجهمية والمعطلة؟! وفي بعض ألفاظ هذا الحديث:«كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ. فأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ} [العنكبوت: 51]»
(2)
.
فكيف بضلالة قومٍ اتبعوا كتابًا أوحاه الشيطان إلى رؤوس المشركين وأهل الضلال، لم ينزله الله على نبيٍّ من أنبيائه، فلا نزل به وحيٌ، ولا نطق به نبيٌّ، كما قال تعالى عن هؤلاء المعارضين للوحي:{وَإِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 122]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
(1)
أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (15388) وابن أبي شيبة في «المصنف» (26949) والدارمي في «السنن» (435) وابن أبي عاصم في «السنة» (50) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 174):«رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه مجالد بن سعيد، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما» . وقد تقدم (ص 498) بنحوه مرسلًا، وللحديث شواهد حسَّنه بها الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (1589).
(2)
أخرجه أبو داود في «المراسيل» (454) والدارمي في «السنن» (495) عن يحيى بن جعدة مرسلًا.
يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113 - 114]. ويوضحه:
الوجه الثاني والثمانون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه أنكر على من لم يكتفِ بكتابه، فقال:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. ومن المحال أن يكون الكتاب الذي يخالفه صريح العقل كافيًا، وإنما يكون كافيًا لمن قدَّمه على كل معقولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وحقيقةٍ وسياسةٍ، فهذا الكتاب في حقِّه كافٍ له، كما أنه إنما يكون رحمةً وذكرى له دون غيره. وأمَّا مَن أعرض عنه أو عارضه بآراء الرجال فليس بكافٍ له، ولا هو في حقِّه هدًى ولا رحمةٌ، بل هو من الذين آمنو بالباطل وكفروا بالله. ويوضحه:
الوجه
الثالث والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا ـ بزعمهم ـ طريقة العقل وعارضوه به وقدَّموه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلهًا
حتى جعلوا له أندادًا يعبدونهم كما يعبدون الله، بل أولئك لم يقدِّموا أندادهم على الله. فهؤلاء جعلوا لله ندًّا يطيعونه ويعظِّمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه، وهؤلاء جعلوا لكتابه ندًّا يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدِّمونه على حُكم كتابه. بل الأمران متلازمان، فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به، فمتى
(1)
جعل لكتابه ندًّا فقد جعل له ندًّا، لا يكون غير ذلك البتة. فلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله ندًّا له إلَّا مشركًا بالله قد اتخذ من دون الله أندادًا. ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه،
(1)
«ح» : «حتى» . ولعل المثبت هو الصواب.
فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم ندًّا لكتاب الله، والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان ندًّا له.
وممَّا يُبيِّن تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خُلقت متحركة طالبة للتألُّه والمحبة، فهي لا تسكن إلَّا لمحبوبٍ تطمئن إليه وتسكن عنده، يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها. ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه، ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلَّا فاقةً وفقرًا وحاجةً وقلقًا واضطرابًا.
فطلب هذا المراد المطلوب كامنٌ مستقرٌّ فيها، وإن أعرضت عنه واشتغلت بغيره ولم تشعر به. فوجود الشيء لا يستلزم الشعور به، بل وجوده شيءٌ والشعور به شيءٌ. وهذا الطلب والإرادة هو بحسب الشعور والمعرفة بالمطلوب المراد وصفات كماله ونعوت جلاله وجماله، فكيف إذا انضاف إلى ذلك معرفته بشدة الحاجة إليه والفاقة والضرورة، وأنه لا حياة له في الحقيقة ولا فلاح ولا لذة ولا سرور ولا نعيم إلَّا بقُربه والأُنس به والتنعم بذكره، وأن منزلة ذلك من الروح منزلة الروح من البدن، فإذا فقدته الروح كانت كالبدن الفاقد لروحه، بل القلب مضطرٌّ إليه، فقيرٌ إليه أعظم من ضرورة البدن إلى روحه. إذ غاية ما يقدر بفوات الروح موت البدن، وقد يعقبه راحة العبد، وأمَّا إذا فات الروح والقلب هذا المطلوب المحبوب ماتت [ق 110 أ] موتًا يتضمن كل ألمٍ وهمٍّ وغمٍّ وحزنٍ وخوفٍ واضطرابٍ.
فلو أن ما يحصل للقلب من الموت مثل موت البدن لكان في الموت راحة، ولكنه موت يتجرع صاحبه كأسات الآلام من الهموم والغموم
والحسرات، ولا يكاد يسيغها، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميتٍ! وهذا أمرٌ لا يُصدِّق به إلَّا من باشر قلبه هذا وهذا.
وإذا كانت الروح مفطورة على تأله فاطرها وخالقها، وهي فقيرة إليه أعظم الافتقار من جهة كونه ربها وخالقها وممسكها وحافظها ومغذيها وطبيبها ومداويها، ومن جهة كونه إلهها ومحبوبها ومطلوبها وغاية مناها، فهي إلى معرفة هذا المطلوب ومعرفة كماله وجماله وأوصاف جلاله أشد شيءٍ ضرورة، وكلما كانت معرفتها بذلك أوفر
(1)
كانت محبتها له أقوى، ما لم
(2)
يَعُقْها عائقٌ ويمنعها مانعٌ من مرضٍ تتعطل به، أو تضعف عن نهوضها بالجدِّ في طلب هذا المحبوب.
وهذا العائق شيئان:
إمَّا جهلٌ بهذا المطلوب وكونه لم تَقْدُره
(3)
حقَّ قدره، ولم تهتد من معرفة كماله وجماله وجلاله إلى ما يدعوها إلى طلبه وإيثاره على غيره.
وإمَّا فسادٌ في إرادتها لمَّا تعلقت بغيره وآثرته عليه، ففسدت فطرتها التي فُطرت عليها، فانتقلت بفسادها عنه إلى غيره.
وهذه مقدِّماتٌ فطريةٌ ضروريةٌ لا ينازع فيها سليم العقل والفطرة. وإذا عرف هذا فالرُّسل جاؤوا بكمال الأمرين على أتم الوجوه، فإنهم ذكروا من صفات هذا الربِّ الذي تألهه القلوب وتطمئن إليه الأرواح ما يكون داعيًا
إلى محبته، وأمروا الناس من توحيده وعبادته وحده لا شريك له بما إذا فعلوه أحبهم عليه.
فجاءت النُّفاة المعارضون للوحي بعقولهم وآرائهم، فوقفوا في طريق الرُّسل، وأتوا بما يضاد دعوتهم، فنفوا صفاته التي تعرَّف بها إلى عباده، وجعلوا إثباتها تجسيمًا وتشبيهًا، ووصفوه من السلوب والنفي بما حال بين القلوب وبين معرفته، وأكدوا ذلك بأنه لا يُحِبُّ ولا يُحّبُّ، ولا له وجه يراه العابدون المحبون له يوم القيامة، فضلًا عن أن يحصل لهم لذة هناك بالنظر إليه، ولا يكلمهم ولا يخاطبهم، ولا يُسَلِّم عليهم من فوقهم. فلما استقر هذا النفي في قلوبهم تعلقت بغيره من أصناف المحبوبات؛ فأشركت به في المحبة ولا بد، وكان أعظم الأسباب الحاملة لها على الشرك هو التعطيل. فانظر إلى تلازم الشرك والتعطيل وتصادقهما، وكونهما
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا
…
بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ
(1)
الوجه
الرابع والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء المعطلة النُّفاة المعارضين
(2)
للوحي بآرائهم ومعقولاتهم من الظانِّين بالله وكتابه ورسوله ظنَّ السوء،
ولم يجئ في القرآن وعيدٌ أعظم من
(3)
وعيد من ظنَّ به ظنَّ السوء. قال تعالى: {لِّيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اَللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ وَاَلْمُنَافِقَاتِ وَاَلْمُشْرِكِينَ وَاَلْمُشْرِكَاتِ اِلظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ
(1)
البيت للأعشى في «ديوانه» ، وقد تقدم (ص 159).
(2)
«ح» : «المعارضون» .
(3)
«من» ليس في «ح» .
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ اُلسُّوءِ وَغَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 5 - 6]. وقال تعالى: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (21) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اُلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ اَلْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 22] فهؤلاء ظنُّوا أنه لا يعلم بعض الجزئيات، فكيف بمن ظنَّ أنه لا علم له، ولا سمع، ولا بصر، ولا تكلم ولا يتكلم، ولا استوى على عرشه، ولا له فعلٌ حقيقةً يدبر به الأمر، ولا له حكمةٌ يفعل ما يفعل لأجلها.
وأولئك جوَّزوا عليه ألَّا ينصر رسوله، وأن يجعل
(1)
الدائرة عليه وعلى المؤمنين، ومنكرو الحكمة والتعليل يُجوِّزون عليه أن يُعذب أنبياءه ورسله. قالوا: ولا نعلم تنزيهه عن ذلك بالعقل، وإنما نعلمه بالخبر.
ومن أعظم ظنِّ السوء به وبكتابه أن يُظنَّ أن العقل الصريح مخالفٌ له، وأي نقصٍ وعيبٍ أبلغ من نقص كلامٍ مخالفٍ لصريح المعقول؟ وأي إساءة ظنٍّ أعظم من هذه الإساءة؟ يوضحه:
الوجه
الخامس والثمانون بعد المائة: أن هذا نسبة له إلى كونه كذبًا في نفسه، فإنه إذا خالف صريح العقل لم يكن مطابقًا لمُخْبَره، فيكون المتكلم به قد أخبر بخبرٍ لم يطابق مُخْبَره، وهذا حقيقة الكذب،
بل هو من أقبح الكذب؛ فإن الكذب نوعان:
أحدهما: كذبٌ يجوز أن يكون متعلقه واقعًا [ق 110 ب] كمن يقول: مات فلان، أو تزوج، أو وُلد له؛ ولم يكن ذلك.
(1)
«ح» : «جعل» .
والثاني: كذبٌ لا يجوز أن يقع متعلقه، وهو ما يحيله العقل، وهذا أقبح نوعي الكذب، فكيف يجوز على أصدق الكلام وأهداه وأفضله أن يكون فيه أقبح نوعي الكذب.
الوجه
السادس والثمانون بعد المائة: أن من ادَّعى معارضة العقل لما جاءت به الرُّسل من صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه لم
(1)
يَقْدُره حقَّ قدره،
وقد ذمَّ الله تعالى من لم يقدره حقَّ قدره في ثلاثة
(2)
مواضع من كتابه:
أحدها: قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اَللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 92].
الثالث: قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 64].
فأخبر أنه لم يقدره حقَّ قدره مَن أنكر إرساله للرسل وإنزال كتبه عليهم. وهذا حقيقة قول من قال: إنه لا يتكلم، ولم ينزل له إلى الأرض كلامٌ، ولا كلَّم موسى تكليمًا. ومعلوم أن هذا إنكارٌ لكمال ربوبيته، وحقيقة إلهيته، ولحكمته ورحمته. ولم يقدره حقَّ قدره من عبد من دونه إلهًا غيره، ولم يقدره حق قدره
(1)
«ح» : «فلم» .
(2)
«ح» : «ثلاث» . والمثبت من «م» .
من جحد صفات كماله ونعوت جلاله.
وقد وصف سبحانه نفسه بأنه العلي العظيم، وحقيقة قول المعطلة النُّفاة أنه ليس بعليٍّ ولا عظيمٍ؛ فإنهم يردُّون علوه وعظمته إلى مجرد أمرٍ معنويٍّ، كما يقال: الذهب أعلى وأعظم من الفضة، والبُرُّ أعلى وأعظم من الشعير. وقد صرَّحوا بذلك فقالوا: معناه عليُّ القدر، وعظيم القدر.
قال شيخنا
(1)
: «فيقال لهم: أتريدون أنه في نفسه عليُّ الذات عظيم القدر، وأن له في نفسه قدرًا عظيمًا، أم تريدون أن عظمته وقدره في النفوس فقط؟
فإن أردتم الأول فهو الحقُّ الذي دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة والعقل. فإذا كان في نفسه عظيم القدر فهو في قلوب الخلق كذلك، ومع ذلك فلا يُحصي أحد
(2)
ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، ولا يقدر أحدٌ قدره، ولا يعلم عظم قدره إلَّا هو. وتلك صفة يمتاز بها ويختص بها عن خلقه؛ إذ هي
(3)
من لوازم ماهيته وذاته التي اختص بها عن خلقه، كما قال الإمام أحمد لما قالت الجهمية إنه في المخلوقات:«نحن نعلم مخلوقاتٍ كثيرةً ليس فيها من عظم الربِّ شيء»
(4)
.
وإن أعدتم
(5)
ذلك إلى مجرد تعظيم القلوب له من غير أن يكون هناك
(1)
لم أقف على نص هذا الكلام في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
«ح» : «أحدا» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «هو» .
(4)
«الرد على الجهمية والزنادقة» (ص 144).
(5)
«م» : «أضفتم» .
صفات ثبوتية وقدر عظيم يختص به، فذاك اعتقادٌ لا حقيقة له، وصاحبه قد عظَّمه بأن اعتقد فيه عظمة
(1)
لا حقيقة لها، وذلك يضاهي اعتقاد المشركين في آلهتهم.
وإن قالوا: بل نريد
(2)
معنًى ثالثًا لا هذا ولا هذا، وهو أن له في نفسه قدرًا يستحقه لكنه قدرٌ معنوي.
قيل لهم: أتريدون أن له حقيقةً عظيمةً يختص بها عن غيره، وصفات عظيمة يتميز بها، وذاتًا عظيمة تمتاز عن الذوات، وماهية عظيمة أعظم من كل ماهية، ونحو ذلك من المعاني المعقولة؛ فذلك أمرٌ وجوديٌّ محقَّقٌ. وإذا أُضيف ذلك إلى الربِّ كان بحسب ما يليق به، ولا يشركه فيه المخلوق، كما أنه إذا أُضيف إلى المخلوق كان بحسب ما يليق به، ولا يشركه فيه الخالق. فهو في حقِّ الخالق تعالى قدرٌ يليق بعظمته وجلاله، وفي حقِّ المخلوق قدر يناسبه، كما قال تعالى:{قَد جَّعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] فما من مخلوقٍ إلَّا وقد جعل الله له قدرًا يخصُّه.
والقدر يكون علميًّا ويكون عينيًّا، فالأول هو التقدير العلمي، وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب
(3)
، كما يقدر العبد في نفسه ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله، فيجعل له قدرًا. ومن هذا تقدير الله سبحانه لمقادير الخلائق في علمه وكتابه قبل تكوينها، ثم كوَّنها على ذلك القدر الذي علمه وكتبه.
(1)
«ح» : «عظيمة» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يزيد» . تصحيف، والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «وللكتاب» . والمثبت من «م» .
فالقدر الإلهي نوعان:
أحدهما: في العلم والكتابة.
والثاني: خَلْقها وبرؤها وتصويرها بقدرته التي بها يخلق الأشياء، والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعًا.
والمقصود أن كل موجودٍ فله قدرٌ، والعباد لا تقدر
(1)
الخالق قدره، والكفار منهم لا يقدرونه حقَّ قدره. ولهذا لم يذكر ذلك سبحانه إلَّا في حقهم، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اَللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 92] وهذا إنما وصف به الذين لا يؤمنون بجميع كتبه المنزلة، من المشركين [ق 111 أ] واليهود وغيرهم. وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 92] ولم يقل: وما قدروا الله قَدْرَه. فإن حقَّ قدره هو الحق الذي لقدره، فهو حقٌّ عليهم لقدره سبحانه، فجحدوا ذلك الحق وأنكروه، وما قاموا بذلك الحقِّ معرفةً ولا إقرارًا ولا عبوديةً، وذلك جحودٌ وإنكارٌ لبعض قدره من صفات كماله وأفعاله، لجحودهم أن يتكلم أو يعلم الجزئيات أو يقدر على إحداث فعل، فشُبهات منكري الرسالة ترجع إلى ذلك: إمَّا إنكار علمه تعالى، أو إنكار قدرته، أو إنكار كلامه. فمن أقرَّ بما أرسل به رسله، وأنه عالمٌ به، متكلمٌ بكتبه التي أنزلها عليهم، قادرٌ على الإرسال، لا يليق بحكمته تركه؛ فقد قدره حقَّ قدره من هذا الوجه، وإن
(2)
لم يقدره حقَّ قدره مطلقًا.
(1)
«ح» : «يقدر» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «إن» . والمثبت من «م» .
وكذلك ذكر الآية الأخرى في سياق خطابه للمشركين ولمنكري آياته كقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اُلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 51] إلى قوله: {بَلَى قَد جَّاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاَسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ} [الزمر: 56] إلى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64] فكان هذا ردًّا على المشركين والمعطلين الجاحدين لتوحيده ولصفاته، كما كان ذلك ردًّا على منكري كتبه ورسله، وهذان أصلَا الإسلام: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وهذا الذي وصف به نفسه هاهنا يتضمن من اقتداره على تغيير
(1)
العالم وتبديله ما يبطل قول أعدائه الملاحدة المكذبين بالمبدأ والمعاد، أئمةِ هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل والرأي.
وقال تعالى في آية الحج: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (72) اِللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ اَلنَّاسِ} [الحج: 71 - 73] فما قدره حقَّ قدره من عبد من دونه من لا يخلق ذبابًا واحدًا، وإن سلبه الذباب شيئًا ممَّا عليه من خَلوقٍ وغيره لم يقدر على استنقاذه منه، ولا يكون أضعف من هذا الإله وعابده، فكيف يُعبد من دون من له القوة كلها والعزة كلها؟ ولمَّا كان هذا من جهلهم بالله وترك تعظيمه الذي ينبغي له، قال كثيرٌ من المفسرين في معنى ذلك: ما عظَّموه حقَّ عظمته. وقال بعضهم: ما عرفوه حقَّ معرفته. وقال بعضهم: ما
(1)
«ح» : «نصير» .
عبدوه حقَّ عبادته. وقال آخرون: ما وصفوه حقَّ صفته
(1)
.
ولمَّا كان أهل العلم والإيمان قد قاموا من ذلك بحسب قدرتهم وطاقتهم التي أعانهم بها ووفقهم بها لمعرفته وعبادته وتعظيمه لم يتناولهم هذا الوصف، فإن التعظيم له سبحانه والمعرفة والعبادة ووصفه بما وصف به نفسه قد أمر به عباده وأعانهم عليه ورضي منهم بمقدورهم من ذلك، وإن كانوا لا يقدرونه قدره، ولا يَقدُر أحدٌ
(2)
من العباد قدره، فإنه إذا كانت السماوات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك، فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان، فضلًا عن أن يقبض بهما شيئًا، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة، وإنما ذلك مجازٌ لا حقيقة له. وللجهمية والمعطلة نُفاة الصِّفات من هذا الذمِّ أوفر نصيبٍ، وللمتفلسفة وأفراخهم وأتباعهم ذَنُوبًا
(3)
مثل ذَنُوب أصحابهم وأكثر.
وقد شرع الله سبحانه لعباده ذكر هذين الاسمين: العلي العظيم في الركوع والسجود، كما ثبت في الصحيح أنه لمَّا نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ} [الواقعة: 77] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . فلمَّا نزلت: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»
(4)
.
(1)
ينظر «التفسير البسيط» للواحدي (8/ 273).
(2)
«ح» : «أحدا» . والمثبت من «م» .
(3)
كذا وقع في «ح» منصوبًا، والذنوب: النصيب. «الصحاح» (1/ 128).
(4)
أخرجه الإمام أحمد (17686) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) وابن خزيمة (600) وابن حبان (1898) والحاكم (1/ 225، 2/ 477) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. وقال الحاكم: «حديث حجازي صحيح الإسناد، وقد اتفقا على الاحتجاج برواته غير إياس بن عامر، وهو عم موسى بن أيوب القاضي، ومستقيم الإسناد» . فتعقبه الذهبي بقوله: «إياس ليس بالمعروف» . وحسَّن إسناده النووي في «خلاصة الأحكام» (1255) وينظر «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 248) و «الإرواء» للألباني (334).
وهو سبحانه كثيرًا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين، كقوله:{وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253] وقوله: {هُوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [الحج: 60] وقوله: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10] يُثبت بذلك علوه على المخلوقات وعظمته. فالعلو رفعته، والعظمة عظمة قدره ذاتًا ووصفًا. وعند الجهمية ليس له علوٌّ ولا عظمة إلَّا ما في النفوس من اعتقاد كونه أفضل من غيره.
فصل
الوجه السابع والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل من الجهمية المعطلة والفلاسفة الملاحدة ومن اتبع سبلهم هم دائمًا يُدِلُّون بنفي
(1)
التشبيه والتمثيل، ويجعلونه جُنَّةً لتعطيلهم ونفيهم، فجحدوا علوَّهُ على خَلقه ومباينتَه لهم، وتكلُّمَه بالقرآن والتوراة والإنجيل وسائرِ كتبه، وتكليمَه لموسى، واستواءَه على عرشه، ورؤيةَ المؤمنين [ق 111 ب] له بأبصارهم من فوقهم في الجنة، وسلامَه عليهم، وتجلِّيَه لهم ضاحكًا، وغيرَ ذلك ممَّا أخبر به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله، وتترَّسوا بنفي التشبيه، واتخذوه جُنَّةً يصدُّون
(2)
به القلوبَ عن الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته.
(1)
«ح» : «نفي» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يصيدون» . والمثبت هو الصواب.
وكل مَن نفى شيئًا ممَّا وصف به نفسه جعل نفيَ التشبيه له كالوقاية في الفعل، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن نفى ذاتَه وماهيته خشيةَ التشبيه، فقال: هو وجود محضٌ لا ماهيةَ له. ونفى آخرون وجوده بالكلية خشيةَ التشبيه، وقالوا: يلزمنا في الوجود ما لزم مثبتي الصِّفات والكلام والعلو في ذلك، فنحن نسدُّ الباب بالكلية.
ولا ريب أن المشبِّهة المحضة خيرٌ من هؤلاء، وأحسنُ قولًا في ربهم، وأحسنُ ثناءً عليه منهم.
والطائفة المعطِّلة بمنزلة مَن قدح في مُلك المَلِك وسلطانه، ونفى قدرته وعلمه وتدبيره لمملكته وسائر صفات الملك.
والطائفة الثانية بمنزلة مَن شبَّهه بملك غيرُه موصوف بأكمل الصِّفات وأحسنِ النعوت.
فينبغي أن تعلم في هذا قاعدةً نافعة جدًّا؛ وهي أن نفي الشِّبْهِ والمِثل والنَّظير ليس في نفسه صفة مدحٍ ولا كمالٍ، ولا يُحمد به المنفي عنه ذلك بمجرده، فإن العدم المحض ـ الذي هو أخسُّ المعلومات وأنقصها ـ يُنْفَى عنه الشبهُ والمثل والنظير، ولا يكون ذلك كمالًا ومدحًا إلَّا إذا تضمن كون مَن نُفي عنه ذلك قد اختصَّ من صفات الكمال ونعوت الجلال بأوصاف باينَ بها غيره، وخرج بها عن أن يكون له نظيرٌ أو شبهٌ، فهو لتفرده بها عن غيره صحَّ أن يُنفى عنه الشبه والمثل والنظير والكفؤ. ولا
(1)
يقال لمن لا سمع له، ولا بصر
(2)
، ولا حياة، ولا علم، ولا كلام، ولا فعل: ليس له شبهٌ،
ولا مثل، ولا نظير. اللهم إلَّا في باب الذمِّ والعيب، أي: قد سُلب صفات الكمال كلها؛ بحيث صار لا شبهَ له في النقص. هذا الذي عليه فِطَرُ الناس وعقولُهم واستعمالهم في المدح والذم، كما قال شاعر القوم
(1)
:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ
…
خَلْقٌ يُسَاوِيهِ فِي الْفَضَائِلْ
وقال الآخر
(2)
:
مَا إِنْ كَمِثْلِهِمُ فِي النَّاسِ مِنْ أَحَد
وقال الفرزدق
(3)
:
فَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا
…
أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ
أي: ما مثله في الناس حي يقاربه إلَّا مملك هو أخوه
(4)
.
وقال الآخر
(5)
:
فَمَا مِثْلُهُ فِيهِمْ وَلَا هُوَ كَائِنٌ
…
وَلَيْسَ يَكُونُ الدَّهْرَ مَا دَامَ يَذْبُلُ
(1)
البيت بلا نسبة في «تفسير الثعلبي» (23/ 336) ومنسوب لأوس بن حجر في «البحر المحيط» (9/ 326) و «الدر المصون» (9/ 545).
(2)
عجز بيتٍ، وصدره:
سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ إِذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمْ
بلا نسبة في «تفسير الطبري» (21/ 509) وغيره.
(3)
البيت سبق تخريجه (ص 414).
(4)
كذا في «ح» ، «م»:«أخوه» . والصواب: «خاله» كما تقدم.
(5)
البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه، وهو في «ديوانه» (1/ 433) وروايته:«ولا كان قبله» .
نفى أن يكون له مثلٌ في الحال والماضي والمستقبل.
وقال الآخر
(1)
:
وَلَمْ أَقُلْ مِثْلُكَ أَعْنِي بِهِ
…
سِوَاكَ يَا فَرْدًا بَلَا مُشْبِه
ومنه قولهم: فلان نسيجُ وحدِه. شبهه بثوبٍ لم يُنسَج له نظيرٌ في حُسنه وصفاته
(2)
.
فعكسَ المعطلةُ المعنى، وقلبوا الحقائقَ، وأزالوا دلالة اللفظ عن موضعها، وجعلوا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] جُنَّةً وتُرسًا لنفي علوِّه سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله.
وممَّا ينبغي أن يُعلم أن كل سلبٍ
(3)
ونفيٍ لا يتضمن إثباتًا فإن الله لا يُوصف به؛ لأنه عدمٌ محضٌ، ونفيٌ صرفٌ، لا يقتضي مدحًا ولا كمالًا ولا تعظيمًا. ولهذا كان تسبيحُه وتقديسه سبحانه متضمِّنًا لعظمته ومستلزِمًا لصفات كماله ونعوت جلاله، وإلَّا فالمدح بالعدم المحض كلا مدحٍ. والعدم في نفسه ليس بشيءٍ يُمدح به ويُحمد عليه، ولا يكسب القلب عِلمًا بالمذكور ولا محبةً وقصدًا له.
ولهذا كان عدم السِّنَة والنوم مدحًا وكمالًا في حقِّه سبحانه؛ لتضمنه
(4)
(1)
البيت للمتنبي، وهو في «ديوانه» (ص 576).
(2)
ينظر: «الزاهر في معاني كلمات الناس» لابن الأنباري (1/ 231) و «الصحاح» (1/ 344).
(3)
«ح» : «شاب» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «المتضمنة» . والمثبت من «م» .
أو استلزامه كمالَ حياته وقيوميته.
ونفي اللُّغوب عنه كمالٌ؛ لاستلزامه كمالَ قدرته وقوته.
ونفي النسيان عنه كمالٌ، لتضمنه كمالَ عِلمه، وكذلك نفي عزوب شيءٍ عنه.
ونفي الصاحبة والولد كمالٌ؛ لتضمنه كمالَ غناه وتفرُّده بالربوبية، وأن من في السماوات والأرض عبيدٌ له.
وكذلك نفي الكفؤ والسَّمِيّ والمثل عنه كمالٌ؛ لأنه يستلزم ثبوتَ جميع صفات الكمال له على أكمل الوجوه، واستحالة وجود مشاركٍ له فيها.
فالذين يصفونه بالسُّلُوب فقط من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرُّسل، وعرَّفوه به إلى الخلق، وهو الوجه الذي يُحمد
(1)
به ويُثنَى عليه ويُمجَّد وتُعرف به عظمتُه وجلاله. وإنما عرفوه
(2)
من الوجه الذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به، بعدم
(3)
اعتقادهم الحقَّ. واعتقادهم خلافَ الحقِّ، وحقيقة أمرهم أنهم
(4)
لم يثبتوا لله عظمةً إلَّا ما تخيلوه في نفوسهم من السُّلوب والنفي الذي لا عظمةَ فيه ولا مدح، فضلًا عن أن يكون كمالًا، بل ما أثبتوه مستلزمٌ لنفي ذاته رأسًا.
وأمَّا الصِّفَاتية
(5)
، الذين يؤمنون ببعضٍ ويجحدون بعضًا، فإذا أثبتوا
(1)
«ح» : «يحمده» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «عرفوا» . والمثبت من «م» .
(3)
«م» : «لعدم» .
(4)
«ح» : «أنه» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «للصفاتية» . والمثبت من «م» .
عِلمًا وقدرة وإرادة وغيرها تضمن ذلك [ق 112 أ] إثباتَ ذات تقوم بها هذه الصِّفات وتتميز بحقيقتها وماهيتها، سواء سمَّوه قدرًا أو لم يُسموه. فإن لم يثبتوا ذاتًا متميزةً بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفاتٍ بلا ذات، كما أثبت إخوانهم ذاتًا بلا صفات، وأثبتوا أسماء بلا معانٍ ولا حقائقَ، وذلك كله مخالفةٌ لصريح المعقول، وهم يدَّعون أنهم أرباب عقليات! فلا بد من إثبات ذات محقَّقة لها الأسماء الحسنى التي لا تكون حسنى إلَّا إذا كانت دالةً على صفات كمال، وإلَّا فأسماء
(1)
فارغة لا معنى لها، لا توصف بحُسنٍ فضلًا عن كونها أحسنَ من غيرها. يوضح ذلك:
الوجه
الثامن والثمانون بعد المائة: أنه سبحانه فرَّقَ بين هذين الاسمين الدالين على علوِّه وعظمته
في آخر آية الكرسي
(2)
وفي سورة الشورى
(3)
وفي سورة الرعد
(4)
، وفي سورة سبأ في قوله:{قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اُلْحَقَّ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
ففي آية الكرسي ذَكَر الحياة التي هي أصلُ جميع الصِّفات، وذكَرَ معها قيوميته المقتضية لذاته وبقائه وانتفاء الآفات جميعها
(5)
عنه من النوم والسِّنة والعجز وغيرها. ثم ذَكَر كمال مُلكه، ثم عقبه بذكر وحدانيته في مُلكه، وأنه
(1)
«ح» : «فالأسماء» . والمثبت من «م» .
(2)
قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253].
(3)
قال تعالى: {لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [الشورى: 2].
(4)
قال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10].
(5)
«ح» : «جمعها» . والمثبت من «م» .
لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه. ثم ذكر سعة عِلمه وإحاطته، ثم عقبه بأنه لا سبيلَ للخلق إلى علم شيءٍ من الأشياء إلَّا بعد مشيئته لهم أن يعلموه. ثم ذَكر سعة كرسيِّه، منبِّهًا به على سعته سبحانه وعظمته وعلوِّه، وذلك توطئة بين يدي ذكر علوه وعظمته. ثم أخبر عن كمال اقتداره وحِفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراثٍ ولا مشقةٍ ولا تعبٍ. ثم ختم الآيةَ بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه.
وقال في سورة طه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 107] وقد اختُلف في تفسير الضمير في {بِهِ} فقيل: هو الله سبحانه. أي: ولا يحيطون بالله علمًا. وقيل: هو ما بين أيديهم وما خلفهم
(1)
. فعلى الأول يرجع إلى العالم، وعلى الثاني يرجع إلى المعلوم. وهذا القول يستلزم الأول من غير عكسٍ؛ لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم، فألَّا يحيطوا علمًا به سبحانه أولى.
وكذلك الضمير في قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 253] يجوز أن يرجع إلى الله، ويجوز أن يرجع إلى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: ولا يحيطون بشيءٍ من عِلم ذلك إلَّا بما شاء. فعلى الأول يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وعلى الثاني يكون مضافًا إلى المفعول
(2)
.
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (16/ 171) و «التفسير البسيط» للواحدي (14/ 523) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (11/ 248).
(2)
ذكر القولين الراغب في «تفسيره» (1/ 537). والمشهور في التفاسير القول الأول، ينظر: تفسير الطبري» (4/ 536) و «التفسير البسيط» (4/ 351) و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (3/ 276). واقتصر السمعاني في «تفسيره» (1/ 258) على الثاني.
والمقصود أنه لو كان {اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} إنما يُراد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك وتوابع ذلك كان تكريرًا، بل دون التكرير، فإنَّ ذِكر ذلك مفصَّلًا أبلغُ من الدلالة عليه بما لا يُفهم إلَّا بكلفةٍ.
وكذلك إذا قيل: إن علوه وعظمته مجردُ كونِه أعظمَ من مخلوقاته وأفضل منها، فهذا هضمٌ عظيمٌ لهاتين الصفتين العظيمتين، وهذا لا يليق ولا يحسن أن يُذكَر ويُخبَر به عنه إلَّا في معرض الرد لمن سوَّى بينه وبين غيره في العبادة والتألُّه، كقوله:{قُلِ اِلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ اِلَّذِينَ اَصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 61]، وقول يوسف الصدِّيق:{آارْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اِللَّهُ اُلْوَاحِدُ اُلْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وقوله تعالى عن السحرة إنهم قالوا لفرعون:{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَاَللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [طه: 72].
فهذا السياق يُقال في مثله: إن الله خيرٌ ممَّا سواه من الآلهة الباطلة. وأمَّا بعد أن يذكر أنه مالك الكائنات، ويقال مع ذلك: هو أفضل من مخلوقاته وأعظم من مصنوعاته؛ فهذا يُنزَّه عنه كلام الله. وإنما يليق هذا بهؤلاء الذين يجعلون له مَثَل السَّوْء في كلامه، ويجعلون ظاهره كفرًا تارةً، وضلالةً تارةً، وتشبيهًا وتجسيمًا تارةً، ومخالفًا لصريح العقل تارةً، ويحرفونه بالتحريفات الباطلة، ويقولون فيه ما لا يرضى أحدُهم أن يُقال مِثله في كلامه، فيجعلون لكلامه مثل السوء، كما جعلوا له سبحانه مثل السوء، بإنكارهم صفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى.
ولو تأوَّل أحدٌ كلامهم أو كلام مَن يُعظِّمونه على ما يتأولون عليه كلام الله ورسوله لقامت قيامة أحدهم، وإذا حُقق الأمر عليهم تبيَّن أن ما يتأولون
عليه كلام الله ورسوله من التأويلات الفاسدة لا يليق حملُ كلام
(1)
آحاد فضلاء بني آدم عليها. ولهذا سقطت حُرمة الإيمان والقرآن والرسول من قلوبهم، ولهذا يُصرِّحون بأن القرآن والسُّنَّة لا تفيدان علمًا ولا يقينًا في هذا الباب [ق 112 ب] ويقولون: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وإنها في منطق اليونان.
الوجه
التاسع والثمانون بعد المائة: أن العظيم يُوصف به الأعيانُ والكلام والصفات والمعاني،
أمَّا الأعيان فكقوله تعالى: {وَرَبُّ اُلْعَرْشِ اِلْعَظِيمِ} [المؤمنون: 87]، وقوله:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. وأمَّا المعاني فكقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
فيُوصَف بالذوات
(2)
وصفاتها وأفعالها، وكل موصوفٍ فصفته بحسبه، فعِظَم الذات شيءٌ وعِظَم صفاتها شيءٌ، وعِظَم القول شيءٌ، وعِظم الفعل شيءٌ. والرب تعالى له العظمة بكل اعتبارٍ وكل وجهٍ بذاته، والمعطِّلة تُنكر عظمة ذاته، ولا يثبتون إلَّا عظمةً معنويةً، لا يثبتون عظمة الذات. كما يقولون مثل ذلك في العلوِّ أنه علوٌّ
(3)
معنويٌّ، لا أن ذاته عالية على كل المخلوقات، فليس عندهم عليًّا ولا عظيمًا إلَّا باعتبارٍ معنويٍّ فقط، كعلو قيمة الجوهر على قيمة الخزف، وأهل السُّنَّة أثبتوا له العلوَّ والعظمة بكل اعتبارٍ.
ومثل هذا وصفه سبحانه بأنه الكبير المتعال
(1)
، فالكبير يُوصف به الذات وصفاتها القائمة بها، فيقال: هذا أكبر من هذا حِسًّا ومعنًى وسنًّا.
وكذلك الطول يقال: هو أطول يدًا منه صورةً ومعنى. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه: «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا»
(2)
. فكلهن يمددن أيديهن أيهن أطول، وكانت
(3)
زينب أولهن موتًا، وكانت أطولهن يدًا بالخير والصدقة.
وكذلك السعة والبسطة تكون في الذوات والمعاني، كما قال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي اِلْعِلْمِ وَاَلْجِسْمِ} [البقرة: 245]، فكبر قدرُه في باطنه بالعلم وفي ظاهره باشتداد الجسم، فكمل ظاهره وباطنه ومعناه وصورته. وهذا أكمل من أن يكمل معناه وفِكره
(4)
دون ذاته وصورته. وهذا شأنه سبحانه فيما يريد تكميله مِن خَلْقه، فإنه يكمله ذاتًا ومعنى ظاهرًا وباطنًا، كما قال تعالى في أهل الجنة:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] فكمَّل ظواهرهم بالنضرة، وبواطنهم بالمسرَّة.
وقال تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فهذا زينة ظواهرهم، وهذا زينة بواطنهم.
وقال
(5)
: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌٌ} [القيامة: 21 - 22] فكمل ظواهرهم بالنضرة
(6)
، وبواطنهم بالنظر إليه.
(1)
قال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ اِلْكَبِيرُ اُلْمُتَعَالِ} [الرعد: 10].
(2)
أخرجه البخاري (3624) ومسلم (2452) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
«ح» : «وكان» .
(4)
«ح» : «ويكره» . ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
«ح» : «وقالوا» .
(6)
«ح» : «بالنظرة» .
وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ اُلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 25] وأنعم على عباده بزينتين ولباسين: زينةٍ تجمل ظواهرهم، وزينةٍ من التقوى تجمل بواطنهم.
وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 69] قال المفسرون: خيرات
(1)
الأخلاق، حسان الوجوه
(2)
. وقد رُوِيَ هذا التفسير مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة، وهو في «معجم الطبراني»
(3)
وغيره.
وقال تعالى: {وَلَقَد زَّيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ}
(4)
[الملك: 5]، فجعل المصابيح زينة لظاهرها ولباطنها بالحراسة
(1)
«ح» : «خراب» .
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (22/ 262) و «التفسير البسيط» (21/ 199) و «الجامع لأحكام القرآن» (17/ 187).
(3)
«المعجم الكبير» (23/ 367) و «المعجم الأوسط» (3141). من طريق سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أم سلمة رضي الله عنها. والحديث أخرجه الطبري في «تفسيره» (22/ 263) والثعلبي في «الكشف والبيان» (25/ 378) من هذا الوجه. وقال الهيثمي في «المجمع» (11396): «رواه الطبراني، وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي» . وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/ 530): «سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان، يحدث بمناكير، ولا يتابع عليه، ولا يتابع على كثير من حديثه» . ثم روى من طريقه قطعة من الحديث، وقال:«لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به» . وروى في «الكامل» (5/ 223) قطعة من الحديث من هذا الطريق، وقال:«وهذا الحديث منكر» .
(4)
«ح» : «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا من كل شيطان مارد» . فأدخل آية سورة الملك في آية سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةِ اِلْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 6 - 7]. ويمكن أن يكون المصنِّف ذكر الآيتين في الأصل، لكن كلامه عقب الآية، يرجح إرادته لآية سورة الملك.
من الشياطين، فهي زينة الظاهر والباطن.
وقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ اُلْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 5 - 6] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام. والِمرِّة: المنظر البهي الجميل
(1)
، فأعطاه كمال القوة في باطنه، وجمال المنظر في ظاهره.
وهذان الكمالان هما اللذان أرتهما امرأةُ العزيز النسوةَ اللاتي لُمْنَها في محبة يوسف، فإنها أجلستهن في البيت {وَقَالَتِ اِخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَا لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فأخبرتهن أن باطنه أحسن وأجمل فقالت: {فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاَسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] فأرتهن جماله الظاهر، وأخبرتهن بجماله الباطن.
والمقصود أن أهل السُّنَّة يثبتون لله سبحانه العلو الذاتي والمعنوي، والعظمة الذاتية والمعنوية، والجمال والجلال الذاتي والمعنوي. ومن هذا قول المسلمين:«الله أكبر» ، فإنه أفعل تفضيل يقتضي كونه أكبرَ من كل شيءٍ بجميع الاعتبارات. وبهذا فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد
(2)
والترمذي
(3)
وابن حِبَّان في «صحيحه»
(4)
من حديث عديِّ بن حاتم في قصة
(1)
روي عن ابن عباس: {ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو منظرٍ حسنٍ. وقال قتادة: ذو خَلْقٍ طويلٍ حسنٍ. والمشهور عند المفسرين أن المرة: القوة. ينظر: «تفسير الطبري» (22/ 11) و «الكشف والبيان» للثعلبي (25/ 77 - 79) و «التفسير البسيط» للواحدي (21/ 199).
(2)
«المسند» (19691).
(3)
«الجامع» (3095) وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(4)
«الإحسان» (6679). والحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 564). وأصل الحديث في البخاري (3595) دون موضع الشاهد منه.
إسلامه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عَدِيُّ مَا يُفِرُّكَ
(1)
؟ أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى
(2)
اللهِ؟» ثم قال: «يَا عَدِيُّ مَا يُفِرُّكَ؟ أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللهِ؟» . فالله سبحانه أكبرُ من كل شيءٍ ذاتًا وقدرًا ومعنى وعزةً وجلالةً، فهو أكبر من كل شيءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله، كما هو فوق كل شيءٍ، وعالٍ على كل شيءٍ، وأعظم من كل شيءٍ، وأجلُّ من كل شيءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله. يوضحه:
الوجه
التسعون بعد المائة: أن تعطيل ذاته المقدسة عن وصفها بذلك وجعل ذلك مجردَ أمرٍ
(3)
معنويٍّ يقتضي سلبَ ذلك عنه بالكلية،
ولا سيما عند الجهمية النُّفاة لصفاته وأفعاله، فإنه عندهم لا تقوم به صفةٌ ثبوتيةٌ يستحق بها أن يكون أعظمَ من غيره وأكبرَ منه وفوقه وأعلى منه؛ فإنهم لا يجعلون ذلك عائدًا إلى ذاته، لأنه يلزم منه عندهم التجسيم.
فليست ذاته عندهم موصوفةً بكبرٍ ولا عظمةٍ ولا علوٍّ ولا فوقية، وليس له عندهم صفةٌ ثبوتيةٌ تكون عظمته وفوقيته وعلوه لأجلها، فإن إثبات الصِّفات عندهم يستلزم التركيب. ولا له فعل يقوم به يكون به أعظم وأكبر من غيره، فإن ذلك يستلزم عندهم حلول الحوادث وقيامها به. فلا حقيقة عندهم لكونه أكبر وأعظم وأجل من غيره إلَّا ما يرجع إلى مجرد السلب والنفي والعدم، مثل كونه لا داخلَ العالم، ولا خارجَه، ولا تَحُلُّه
(1)
«ح» : «يضرك» . في المواضع الأربعة.
(2)
«ح» : «سواي» .
(3)
«ح» : «مجردا من» .
الحوادث، ولا يفعل
(1)
لحِكْمةٍ ولا مصلحةٍ، ولا له وجهٌ ولا يدان، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا هو مستوٍ على عرشه، ولا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، ولا يراه المؤمنون في الجنة ولا يكلمهم، ولا كلَّم موسى في الدنيا ولا أحدًا من الخلق، ولا يشار إليه بالأصابع، ولا يُرفع إليه الكلم الطيب، ولا تعرُج الملائكة والروح إليه، ولا عرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولا دنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ونحو ذلك من النفي والسلب الذي يفرون عنه بنفي التشبيه والتجسيم والتركيب، فيوهمون السامع أن إثبات ذلك تشبيهٌ وتجسيمٌ، ثم ينفونه عنه، وحقيقة ذلك نفي ذاته وصفاته وأفعاله.
فهذا حقيقة كونه أكبرَ من كل شيءٍ وأعظمَ منه وفوقه وعاليًا عليه عندهم. وحقيقة ذلك نفيُ هذا عنه، وجعلُ كل شيءٍ أكبرَ منه. لأن ما لا ذاتَ له ولا صفةَ ولا فعلَ فكل ذات لها صفة أكبرُ منه، فالقوم كبَّروه وعظَّموه ونزَّهوه في الحقيقة عن وجوده فضلًا عن صفات كماله وأفعاله! يوضحه:
الوجه الحادي والتسعون بعد المائة: وهو أنه قد عُلم بالاضطرار أن الله سبحانه له ذات مخصوصة، يقال: ذات الله، كما قال خُبَيْب
(2)
:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
ولفظ «ذات» في الأصل تأنيث «ذو» أي
(3)
: ذات كذا وذو كذا. والذي
(1)
«ح» : «يفعله» .
(2)
هو خبيب بن عدي رضي الله عنه، قاله لما خرجوا به من الحرم ليقتلوه، أخرجه البخاري (3045) في قصة طويلة.
(3)
«ح» : «رأي» .
يضاف إليه «ذو» نوعان:
وصفٌ، ويضاف إليه إضافة الموصوف إلى صفته، كقوله تعالى:{إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اُلْقُوَّةِ اِلْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ} [يونس: 60]، فالفضل وصفُه وفِعله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده:«سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»
(1)
.
والثاني: إضافته إلى مخلوقٍ منفصلٍ، كقوله تعالى:{وَهْوَ اَلْغَفُورُ اُلْوَدُودُ (14) ذُو اُلْعَرْشِ اِلْمَجِيدُ} [البروج: 14 - 15].
فإذا أطلقوا لفظ الذات من غير تقييدها
(2)
بإضافةٍ إلى معين دلت على ماهية لها صفات تقوم بها، فكأنهم قالوا: صاحبة الصِّفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية، فدلوا بلفظ الذات على الحقيقة وصفاتها القائمة بها؛ ومحالٌ أن يصح وجود ذات لا صفات لها ولا قدرَ، وإنْ فرَضَها الذهن فرضًا لا وجود لمتعلِّقه في الخارج إلَّا كما يفرض سائر الممتنعات. فالذات هي قابلة للصفات والموصوفة بالصفات القائمة بها.
ومنه: «ذات الصدور» أي: ما فيها من خيرٍ وشرٍّ. وقال ابن الأنباري
(3)
: «معناه عليمٌ بحقيقة القلوب من المضمرات. فتأنيث «ذات» لهذا المعنى،
(1)
أخرجه أحمد (24613) وأبو داود (873) والنسائي (1049) عن عوف بن مالك رضي الله عنه. وصحَّح إسناده النووي في «الخلاصة» (1254) وابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 72).
(2)
«ح» : «تقيدها» .
(3)
نقله عنه الأزهري في «تهذيب اللغة» (15/ 34) والواحدي في «التفسير البسيط» (5/ 552 - 553).
كما قال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ اِلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] فأنَّث لمعنى الطائفة، كما يقال: لقيتُه ذات [يوم]
(1)
، فيؤنّث؛ لأن قصدهم: لقيتُه مرةً في يوم».
وقال الواحدي
(2)
: ««ذات الصدور» يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون نفس الصدور؛ لأن ذات الشيء نفسه وعينه. يقال: فهمتُ ذات كلامك، كما يقال: فهمتُ [نفس]
(3)
كلامك. قال [الشاعر]
(4)
:
نَطُوفُ بِذَاتِ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
(5)
وقال: «وفيه معنى التأكيد، فيكون المعنى: والله عليمٌ بالصدور.
والثاني: أن «ذات الصدور» الأشياءُ التي في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور؛ لأنها فيها، تحلُّها وتصاحبها، وصاحب الشيء: ذُوه، وصاحبته: ذاته».
قلت: أكثر استعمالهم ذات الشيء بمعنى السبيل والطريق المُوصِلة
(1)
سقط من «ح» . وأثبته من «التفسير البسيط» .
(2)
«التفسير البسيط» (6/ 99 - 100).
(3)
من «التفسير البسيط» .
(4)
من «التفسير البسيط» . وهو عمرو بن الحارث بن مضاض، والمذكور عجز البيت، وصدره في «سيرة ابن هشام» (1/ 115):
وكنَّا ولاةَ البيتِ من بعد نابت
والرواية فيها: «بذاك البيت» . وكذا في «شرح القصائد السبع» لابن الأنباري (ص 254). وينظر «الأغاني» (15/ 17).
(5)
«ح» : «والحر طاهر» . والمثبت من «التفسير البسيط» .
إليه، كقول خُبَيب:«وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ» .
وكذلك الجَنْب، كقوله [ق 113 أ]:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53]، فليست الذات والجنب هنا هي نفس الحقيقة. ومنه قوله:{فَإِذَا أُوذِيَ فِي اِللَّهِ} [العنكبوت: 9] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ»
(1)
. وأمَّا استعمالهم ذات الشيء بمعنى عينه ونفسه فلا يكاد يُظفَر به.
وكذلك قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اِلصُّدُورِ} [الأنفال: 44]، ليس المراد به عليم بمجرد الصدور، فإن هذا ليس فيه
(2)
كبيرُ أمرٍ، وهو بمنزلة أن يقال: عليمٌ بالرؤوس والظهور والأيدي والأرجل. وإنما المراد به: عليمٌ بما تُضمِره الصدور من خيرٍ وشرٍّ، أي: بالأسرار التي في الصدور وصاحبة الصدور، فأضافها إليها بلفظ يعمُّ جميع ما في الصدور من خيرٍ وشرٍّ.
وأمَّا استعمال لفظ «ذات» في حقيقة الشيء الخارجية فأظنه استعمالًا مولَّدًا، وهو من العربية المولَّدة لا العربية العَرْباء. ولما ولَّدوا هذا الاستعمال أدخلوا عليها الألف واللام ـ وهو من العربية المولدة أيضًا ـ فقالوا: الذات، والعرب لا تستعملها
(3)
إلَّا مضافةً. وقد تنازع فيها أهل العربية، فكثيرٌ منهم يُغلِّط أصحابَ هذا الاستعمال، ويقول: هو خلاف لغة
(1)
أخرجه الإمام أحمد (12395) والترمذي (2472) وابن ماجه (151) وابن حبان (6560) والضياء في «المختارة» (5/ 30) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
«ح» : «بمجرد» .
(3)
«ح» : «لاستعمالها» .
العرب. وبعضهم يجعله قياس اللغة، وإن لم ينطقوا به. والصواب أنه من العربية المولدة، كما قالوا: الكل والبعض والكافة. والعرب لا تستعملها إلَّا مضافة.
وقريبٌ من هذا لفظ الماهية والكمية والكيفية والأينية
(1)
ونحوها، فإن العرب لم تنطق بها، فهي عربية مولَّدة
(2)
. ويُشبه هذا قولهم: الدمعزة والطلبقة، لقولهم: دام عزُّك، وطال بقاؤك. وهذا لم ينطق به العرب، وإن نطقت بنظيره كالبسملة والحوقلة والحيعلة.
ولمَّا استعملوا الذات بمعنى النفس، قالوا: جاء بذاته. ومنه قول أهل السُّنَّة: استوى على عرشه بذاته، أي ذاته فوق العرش عالية عليه. وقد غلَّط بعضهم مَن قال: جاء بذاته وجاء بنفسه، وقال: الصواب جاء زيد ذاته ونفسه. ونازعهم في ذلك آخرون، وجوَّزوا هذا الاستعمال.
والمقصود أن إثبات الذات ونفيَ قدْرها وصفاتها جمعٌ بين النقيضين، فإنه إثبات للشيء ونفيٌ لما يستلزم نفيه، فإن أَبْيَنَ لوازم الذات تمييزُها بحقيقتها وماهيتها عن غيرها ومباينتها له، ولو بالتعيين. فمن أنكر مباينة الربِّ لخلقه وصفاته التي وصف بها نفسه فقد جحد ذاته وأنكرها، وإن أقرَّ بها لفظًا.
الوجه
الثاني والتسعون بعد المائة: أن كل مَن عارض الوحيَ بالرأي والعقل فهو مِن خصماء الله
؛ لأنه قد خاصم الله في الوحي الذي أنزله على
(1)
«ح» : «الآنية» .
(2)
«ح» : «متولدة» .
رسوله، واحتجَّ على بطلانه. ويكفي العبد خذلانًا وجهلًا وعمًى أن يكون خصمَ ربِّه تبارك وتعالى، ولهذا أخبر تعالى عن هؤلاء المعارضين للكتاب بعقولهم بذلك، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ اَلْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس: 76]. ثم ذكَرَ سبحانه مخاصمته لربه فيما ضربه من المثل، قال:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77].
وفي «الصحيح»
(1)
قال: كان المشركون يُخاصِمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدَر، فنزلت:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اِلنّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. فهؤلاء إنما كانت خصومتهم خصومةَ معارضةٍ للوحي بعقولهم وآرائهم، كخصومة مَن خاصم في المعاد، وكذلك مجادلتهم في الله وآياته كذا كانت جدالَ معارضةٍ للوحي بالرأي والعقل، فهؤلاء خُصماء الله حقيقة. وفي الأثر:«يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا لِيَقُمْ خُصَمَاءُ اللهِ. فَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ»
(2)
.
(1)
(2656) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرج إسحاق بن راهويه وأبو يعلى في «مسنديهما» ـ كما في «إتحاف الخيرة» (214) و «المطالب العالية» (2979) ـ وابن أبي عاصم في «السنة» (336) والطبراني في «الأوسط» (6510) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: ألَا لِيقُمْ خصماءُ الله. وهم القَدَرية» . وقال أبو حاتم الرازي: «هذا حديث منكر، وحبيب بن عمر ضعيف الحديث مجهول، لم يرو عنه غير بقية» . كما في «العلل» لابنه (2810) وقال الدارقطني في «العلل» (115): «هو حديث مضطرب الإسناد» . ثم قال: «والحديث غير ثابت» . وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 206): «رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك، ورواه أبو يعلى في «الكبير» باختصار من رواية بقية بن الوليد عن حبيب بن عمرو ـ كذا ـ وبقية مدلس، وحبيب مجهول».
فخُصماء الله حقيقةً هم المعارضون لكِتابه، وما بعث به رسلَه، بعقولهم وآرائهم. وإن لم يكن هؤلاء خصماءَ الله فمن هم خصماؤه غيرهم؟!
وقد حكم اللهُ سبحانه بين خصمائه وبين مَن خاصمهم فيه أحسن الحكومة وأعدلها، وهي حكومة يحمده عليها الفريقان، كما يحمده عليها أهل السموات والأرض، فقال تعالى:{* هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمِ اِلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَاَلْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (19) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 20][ق 114 أ]، ثم حَكَم لخصومهم الذين خاصموا به وله، فقال:{إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اُلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اُلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤِا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (21) وَهُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ اِلْحَمِيدِ} [الحج: 21 - 22].
ولا يستوي مَن خاصم بكتاب الله وحاكم إليه وعوَّل فيما يُثبِته لله وينفيه عليه، ومَن
(1)
خاصم كتابَ الله، وحاكم إلى منطق يونان، وكلام أرسطو وابن سينا والجهم بن صفوان وشيعتِهم، وعوَّل فيما يُثبِته وينفيه على أقوالهم وآرائهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ» .
(1)
«ح» : «كمن» .
فالرُّسل إنما خاصموا قومهم بالوحي، وإليه حاكموهم، به كانت لهم عليهم الحُجة البالغة.
وكيف يُعارض مَن يقول: قال لي ربي كذا وكذا، بقول مَن يقول: قال لي عقلي أو قلبي أو قال فلان؟ فهذا هو المخصوم، الداحضة حُجته في الدنيا والآخرة، الذي لا يمكنه تنفيذ ضلاله وباطله إلَّا بالعقوبة والتهديد والوعيد، أو بالرغبة العاجلة في الدنيا وزخرفها،؛ كما فعل المنافقون بنو عبيدٍ
(1)
، حين أظهروا دعوتهم، فإنهم استولوا على النفوس الصغيرة الجاهلة المُبطِلة بالرغبة والرهبة العاجلة مع نوع شُبهةٍ، وإذا انضاف الهوى إلى الشُّبهة ترحَّلَ العقلُ والإيمان، وتمكن الهوى والشيطان، و «النفس مُوكَلة بحب العاجل»
(2)
بدون شبهة تدعوها إليه، فكيف إذا قويت الشبهة وأظلم ليلها، وغابت شمس الهُدى والإيمان، وحِيلَ بين القلوب وبين حقائق القرآن بتلك الطواغيت التي عزلوه بها عن إفادة الإيقان. يوضحه:
الوجه الثالث والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء النُّفاةَ المعطِّلة إذا غُلبوا مع
(1)
قال شيخ الإسلام: «كانوا يقولون إنهم فاطميون، وبنوا القاهرة، وبقوا ملوكًا يدَّعون أنهم علويون نحو مائتي سنة، وغلبوا على نصف مملكة الإسلام حتى غلبوا في بعض الأوقات على بغداد، وكانوا كما قال فيهم أبو حامد الغزالي: «ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض» . وقد صنَّف القاضي أبو بكر بن الطيب كتابه الذي سمَّاه «كشف الأسرار وهتك الأستار» في كشف أحوالهم، وكذلك ما شاء الله من علماء المسلمين». «مجموع الفتاوى» (27/ 174).
(2)
من الأمثال: «النفس مولعة بحب العاجل» . وهو عجز بيت لجرير. ينظر «فصل المقال» للبكري (ص 346) و «مجمع الأمثال» للميداني (2/ 333) و «ديوان جرير» (2/ 737).
أهل الإثبات، وقامت حُجتهم عليهم؛ عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل، وتارةً يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها، فلا تُقبَل أقوالهم إلَّا برغبةٍ أو رهبةٍ، والناس إلَّا القليل منهم عبيد رغبةٍ ورهبةٍ. وبهذه الطريقة أخذ إمامُ المعطِّلة فرعونُ قومه حين قال للسحرة لمَّا ظهرت حُجة موسى عليه، وصحَّت دعوته، وصحَّت نبوته، وأُلقِيَ السحرة ساجدين إيمانًا بالله وتصديقًا برسوله:{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اِلنَّخْلِ} [طه: 70]. ولمَّا تمكن الإيمانُ من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاءً، وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظمُ وأنفع وأكثر بقاءً.
فهذه العقول التي قدَّموا بها خيرَ الآخرة على خير الدنيا، وعقوبةَ الدنيا وألمَها المنقضي على عقوبة الآخرة وألمِها الدائم، هي العقول التي أثبتوا بها صانع العالم وصفاته وعلوه على عرشه، وتكليمه لموسى، وغضبه ورضاه ومحبته ورحمته وسمعه وبصره ومجيئه وإتيانه وأفعاله.
وأمَّا إمام المعطِّلة النُّفاة وقومه فإنهم بالعقول ـ التي قدَّموا بها عاجلَ الدنيا وزينتَها وزُخرفَها على آجل الآخرة، وباعوا بها الذهب الباقي بالخزف الفاني، وآثروا بها خُسران الدنيا والآخرة على العبودية والانقياد لموسى والإيمان بالله وحده ـ هي العقول التي
(1)
نفوا بها مباينةَ الله لخَلقه، واستواءَه على عرشه، وتكليمَه لموسى، ونفوا بها صفاتِ كماله من السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة، بل نفى بها شيخُهم وإمامُهم نفس الذات، فقال:{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. فهذه العقول التي دلتهم في
(1)
كذا والسياق غير مترابط، ولعل ذلك نشأ من طول الجملة الاعتراضية.
النفي والتعطيل هي تلك العقول التي آثَروا بها الدنيا على الآخرة، ففاتتهم الدنيا والآخرة، بل آثروا بها العقوبة العاجلة وأسبابها على العافية والنعمة، فمَن الذي يتخير بعد ذلك تقديم ما حكمت به هذه العقولُ السخيفة [ق 114 ب] من التعطيل والنفي على ما جاءت به الرسل من الإثبات المفصل؟!
والمقصود أن هؤلاء إنما يأخذون الناس بالرغبة والرهبة، لا بالحُجة والبيان. ولهذا لمَّا علم إمامهم فرعون أنه لا يقاوم بها موسى عدل معه إلى التوعد بالسجن، فقال:{لَئِنِ اِتَّخَذتَّ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 28].
وكذلك فَعَل أصحاب الأخدود مع المؤمنين
(1)
، وكان ذنبهم عند ربهم أن آمنوا بالله وصفاته ورسله وكُتبه ولقائه. وكذلك فعلت الجهمية بأولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أُمته أهل السُّنَّة والحديث من [القتل]
(2)
والضرب والحبس، ما فعلوه بأحمد بن حنبل وأمثاله. وكان ذنبهم عند ربهم أن أثبتوا لله صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه رسولُه من غير تجاوز ولا تقصير. ولمَّا لم يقم لهم عليهم حُجة نقلية ولا عقلية ـ إذ من
(3)
المحال أن تقوم حُجةٌ صحيحةٌ على نقيض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ عدَلوا معهم إلى العقوبة، وتوصلوا بالتدليس والتلبيس على أولياء الأمر والجُهَّال
(4)
، فأوقعوا في نفوسهم أن هؤلاء مُشبِّهةٌ مُجسِّمةٌ.
(1)
أخرج مسلم (3005) عن صهيب الرومي رضي الله عنه قصتهم مطولة.
(2)
«ح» : «الثقل» . تحريف.
(3)
«ح» : «أدنى» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
كذا في «ح» ، ولعل الصواب «الجهال» بغير واو.
و {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللَّهُ} [المائدة: 66]{وَيَأْبَى اَللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
الوجه الرابع والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم في الأصل صِنفان:
صِنفٌ مباينون للرسل، محادُّون لهم، مكذِّبون لهم في أصل الرسالة، كالفلاسفة الصابئين والمجوس وعباد الأوثان والسحرة وأتباعهم.
وصِنفٌ منتسبون إلى الرُّسل في الأصل غير مكذِّبين لهم في أصل الرسالة، وهم الجهمية والمعطلة ومَن سلك سبيلهم ووافقهم على بعض باطلهم وخالَفهم في بعضه.
وقد تقدَّم أن الصنف الأول يستطيلون على الصنف الثاني بما وافقوهم فيه من التعطيل، ويجرُّونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه. والجهمية المُغْل يستطيلون على الجهمية المخانيث
(1)
بما وافقوهم فيه من النفي، ويجرُّونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه. وهؤلاء المخانيث يستطيلون على أهل السُّنَّة والحديث
(2)
أيضًا بالقدر الذي وافقوهم فيه، ويدعونهم به إلى موافقتهم في الباقي. فلم يستطل المبطِل على المُحِقِّ من حيث خالفه، وإنما استطال عليه من حيث وافقه، فما أُصيبَ المُحقُّ إلَّا بطاعته للمبطِل في بعض أمره.
وأصول هؤلاء يكرهون ما أنزل الله، ممَّا هو بخلاف عقولهم وآرائهم
(1)
أي: المعتزلة. ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 227، 14/ 348)
(2)
بعده في «ح» : «في» . وهي زائدة.
وقواعدهم، فمن أطاعهم في بعض أمرهم كان من الذين قال الله عز وجل فيهم:{إِنَّ اَلَّذِينَ اَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اُلْهُدَى اَلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِيَ لَهُمْ (26) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اِلْأَمْرِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ} [محمد: 26 - 27]. ولهذا تجد هؤلاء المبطِلين إنما يصولون على مَن وافقهم في بعض باطلهم، فيعلِّقون له برهانًا يطالبونه.
وأمَّا أتباع الرسل المصدِّقون لهم في كل ما جاؤوا به المُثبِتون لحقائقه ـ لست أعني المُقرِّين بمجرد ألفاظه مع اعتقادهم فيها التخييل أوالتحريف والتأويل أو التجهيل ـ فليس للمبطِلين عليهم سبيلٌ البتةَ، لكن بالافتراء
(1)
والتلبيس والكذب والألقاب الذين هم أحقُّ بها وأهلها دونهم، وما رتبوا على ذلك من الأذى الذي يبلغونه منهم، وذلك ممَّا يحقق ميراثهم من إمامهم ومتبوعهم الذي أُوذِيَ في الله هو وأصحابه، وقال له وَرَقَةُ بنُ نَوْفَل:«لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ»
(2)
. فكل مَن دعا إلى نفس ما جاء به الرسولُ فهو من أتباعه، فلا بد أن يناله من الأذى من أتباع الشيطان بحسَب حاله وحالهم، والله المستعان.
والمقصود أن المبطِلين لا سبيلَ لهم على أتباع الرسول البتةَ. قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 140]. قيل: بالحُجة والبرهان، فإن حُجتهم داحضة عند ربهم.
وقيل: هذا في الآخرة، وأمَّا في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى.
(1)
«ح» : «بالإقراء» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
أخرجه البخاري (3) ومسلم (160) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلًا مستقرةً، بل وإن نُصروا عليهم في وقتٍ فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسول.
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، ولا إشكال فيها بحمد الله، فإن الله سبحانه ضَمِنَ ألَّا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا، فحيث كانت لهم [ق 115 أ] سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترْكَ بعض ما أقرُّوا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه. فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلُّط عدوهم عليهم من هذه الثغرة التي أخلوها
(1)
.
كما أخلى الصحابةُ يوم أُحدٍ الثغرة التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وحفظها، فوجد العدوُّ منها طريقًا إليهم، فدخلوا منها. قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]. فذَكَر السبب الذي أُصيبوا به، وذَكَر القدرة التي هي مناط الجزاء، فذَكَر عدله فيهم بما ارتكبوه من السبب، وقدرته عليهم بما نالهم به من المكروه. وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 28]. وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يَا عِبَادِي، إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ
إلَّا نَفْسَهُ»
(2)
.
(1)
وهو الذي رجحه المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 174، 2/ 927).
(2)
أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
الوجه الخامس والتسعون بعد المائة: أنه كيف يكون النفاة المعطلة من الجهمية ومَن تبعهم أولى بالصواب والحقِّ في معرفة الله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه، وشهداءُ الله في أرضه من جميع أقطار الأرض يشهدون عليهم بالضلالة والحيرة والكذب على الله ورسوله وكتابه، ويرمونهم بالعظائم، ويشهدون عليهم بالكفر والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بخَيْرٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بِشَرٍّ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ»
(1)
.
فكيف إذا كان الشهداء على هؤلاء قد شَهِدَ لهم بأنهم أولو العلم وعدَّلهم مَن جعل الله شهيدًا عليهم، وهو رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مُعدِّلًا لهؤلاء الشهود:«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»
(2)
.
فاسمع الآن بعض شهادات هؤلاء العدول على أهل النفي والتعطيل:
قال إمام أهل السُّنَّة والحديث محمدُ بن إسماعيل البخاري في كتاب «خلق الأفعال»
(3)
: [وقال أحمد بن الحسن: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سليم القاري]
(4)
سمعت سفيان الثوري قال: قال لي حماد بن أبي سليمان:
(1)
أخرجه البخاري (1367) ومسلم (949) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
تقدم (ص 926 - 927) تخريجه.
(3)
(برقم 2).
(4)
«ح» : «حدثنا أبو نعيم سليمان الفارسي» . وفيه سقط وتحريف، والمثبت من «م» (ق 212 أ) و «خلق أفعال العباد» .
«أَبلِغْ أبا فلان المشركَ أني بريءٌ مِن دِينِه» . وكان يقول: «إن القرآنَ مَخلوقٌ» .
وذكَرَ عن خالد بن عبد الله القسري أنه خطبهم بواسطَ في يوم أضحى، وقال: ارجعوا فضَحُّوا، تقبل اللهُ ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى الله عمَّا يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه
(1)
.
أخبرنا محمد بن عبد الله أبو جعفر البغدادي، قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن يوسف، قال: كنت عند عبد الله بن إدريس، فجاء رجل فقال:
يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ قال: أمِن اليهودِ؟ قال: لا. قال: أفمِن النصارى؟ قال: لا. قال: أفمِن المجوس؟ قال: لا. قال: فمِمَّن؟ قال: من أهل التوحيد. قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء الزنادقة، مَن زعم أن القرآن مخلوقٌ فقد زعم أن الله مخلوق. يقول الله عز وجل:{بِسْمِ اِللَّهِ اِلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ} فالله لا يكون مخلوقًا، والرحمن لا يكون مخلوقًا، والرحيم لا يكون مخلوقًا، فهذا أصل الزندقة؛ مَن قال هذا فعليه لعنةُ الله، لا تجالسوهم ولا تناكحوهم
(2)
.
قال البخاري
(3)
: «وقال وهب بن جرير: «الجهمية زنادقةٌ، إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى» .
قال البخاري
(4)
: «وحلفَ يزيدُ بن هارون بالله الذي لا إله إلَّا هو مَن
(1)
«خلق أفعال العباد» (3). وقد سبق (ص 693) تخريج هذا الأثر.
(2)
«خلق أفعال العباد» (5).
(3)
«خلق أفعال العباد» (6).
(4)
«خلق أفعال العباد» (7).
قال «القرآن مخلوق» زنديقٌ يُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتل».
قال
(1)
: «وقيل لأبي بكر بن عياش: إن قومًا ببغداد يقولون: إنه مخلوق. فقال: ويلك، مَن قال هذا؟ على مَن قال: «إن القرآن مخلوق» لعنةُ الله، وهو كافر زنديق، لا تجالسوهم».
قال
(2)
: وقال الثوري: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر» .
وقال حماد بن زيد: القرآن كلام الله، نزل به جبريلُ، ما يحاولون إلَّا أنْ ليس في السماء إلهٌ»
(3)
.
قال
(4)
: «وقال ابن مقاتل: سمعت ابن المبارك يقول: مَن قال: {إِنَّنِيَ أَنَا اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاَعْبُدْنِي} [طه: 13] مخلوقٌ فقد كفر، ولا ينبغي لمخلوقٍ أن يقول ذلك.
وقال ابنُ المبارك
(5)
:
وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إِنَّ لَهُ
…
قَوْلًا يُضَارِعُ أَهْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا
وَلَا أَقُولُ تَخَلَّى عَنْ بَرِيَّتِهِ
(6)
…
رَبُّ الْعِبَادِ وَوَلَّى الْأَمْرَ شَيْطَانَا
مَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا فِي تَجَبُّرِهِ
…
فِرْعَوْنُ مُوسَى وَلَا فِرْعَوْنُ هَامَانَا
(1)
«خلق أفعال العباد» (8).
(2)
«خلق أفعال العباد» (9).
(3)
«خلق أفعال العباد» (10).
(4)
«خلق أفعال العباد» (11).
(5)
الأبيات في «خلق أفعال العباد» للبخاري (12).
(6)
«ح» : «ربقه» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
[ق 115 ب] ومِن شِعره أيضًا فيه، ولم يذكره البخاري:
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً
…
إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمِ
(1)
قال البخاري
(2)
: «قال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا. بل على العرش استوى.
وقيل له: كيف نعرف ربَّنا؟ قال: فوق سمواته على عرشه.
وقال
(3)
لرجلٍ منهم: أبَطْنُك خالٍ منه؟ فبُهت الآخرُ
(4)
.
وقال: مَن قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} مخلوق. فهو كافر. وإنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية»
(5)
.
قال
(6)
: «وقال سعيد بن عامر: لَلْجهميةُ شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى. قد أجمعت اليهودُ والنصارى وأهلُ الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم
(7)
: ليس على العرش».
قال
(8)
: وقال ضمرة [عن]
(9)
ابن شَوْذَبٍ: «ترك جهمٌ الصلاةَ أربعين
(1)
البيت منسوب إلى ابن المبارك في «شرح أصول الاعتقاد» للالكائي (639).
(2)
«خلق أفعال العباد» (13).
(3)
بعده في «ح» : «رجل» . وهي زيادة مفسدة للمعنى، فالقائل هو الإمام عبد الله بن المبارك، كما في «خلق أفعال العباد» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (15).
(5)
«خلق أفعال العباد» (16).
(6)
«خلق أفعال العباد» (18).
(7)
«ح» : «لهم» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
(8)
«خلق أفعال العباد» (19).
(9)
سقط من «ح» ، وأثبته من «خلق أفعال العباد» . وضمرة هو ابن ربيعة الفلسطيني، وابن شوذب هو عبد الله بن شوذب الخراساني.
يومًا على وجه الشك، خاصمَه بعض السُّمَنية
(1)
فأقام أربعين يومًا لا يصلي». قال ضمرة: وقد رآه
(2)
ابنُ شَوْذَب.
قال البخاري
(3)
: «وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشونُ: كلام جهم صفةٌ بلا معنى، بناءٌ بلا أساسٍ، ولم يُعَدَّ قط من أهل العلم» . قال: «ولقد سُئل جهمٌ عن رجلٍ طلَّق امرأته قبل الدخول، فقال: عليها العِدَّة»
(4)
.
قال
(5)
: وقال علي بن عاصم: «ما الذين قالوا: إن لله ولدًا، بأكفرَ مِن الذين قالوا: إن الله لا يتكلم. وقال: احذر من المَرِيسي وأصحابه، فإن كلامهم أبوجاد
(6)
الزنادقة، وأنا كلمتُ أستاذَهم جهمًا، فلم يُثبِت أن في السماء إلهًا».
قال البخاري
(7)
: «وكان إسماعيل بن أبي أُويس يُسميهم زنادقة
(1)
السُّمَنية بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم بالأخبار، ويُنكرون ما لا يُحَسُّ. «الصحاح» (5/ 2138) و «الفرق بين الفرق» (ص 270). وقد ذكر الإمام أحمد في «الرد على الجهمية» (ص 93 - 95) تفاصيل المناظرة بين جهم بن صفوان والسمنية.
(2)
يعني: رأى الجهم بن صفوان. وفي «ح» : «رواه» . خطأ.
(3)
«خلق أفعال العباد» (20).
(4)
بعده في «خلق أفعال العباد» : «فخالف كتاب الله بجهله، وقال الله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]» .
(5)
«خلق أفعال العباد» (21 - 22).
(6)
تقدم (ص 887) التعليق عليه.
(7)
«خلق أفعال العباد» (23 - 24).
العراق. وقيل له: سمعت أحدًا يقول: القرآن مخلوق. فقال: هؤلاء الزنادقة، والله لقد فررتُ إلى اليمن حين تكلم أبو العباس
(1)
ببغداد بنحو هذا فرارًا من هذا الكلام».
قال
(2)
: «وقال علي بن الحسن: سمعت أبا مصعب يقول: كفرتِ الجهميةُ في غير موضع من كتاب الله
(3)
. وقال: أبلغوا الجهمية أنهم كفارٌ، وأن نساءهم طَوالِقُ».
قال
(4)
: «وقال عفان: مَن قال: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} مخلوقٌ، فهو كافرٌ» .
قال
(5)
: «وقال علي بن عبد الله: القرآن كلام الله، مَن قال: إنه مخلوق، فهو كافرٌ لا يُصلَّى خلفه» .
قال
(6)
قلت: يريد حديث الرؤية.
قال
(7)
(1)
في «خلق أفعال العباد» : «العباسي» . وذكر محققه أن ما هنا في نسخة.
(2)
«خلق أفعال العباد» (25، 26).
(3)
ذكر في «خلق أفعال العباد» بعض هذه الآيات.
(4)
«خلق أفعال العباد» (30).
(5)
«خلق أفعال العباد» (31).
(6)
«خلق أفعال العباد» (32).
(7)
«خلق أفعال العباد» (33).
وقال أبو عبيد
(1)
قال
(2)
: «وقال عبد الرحمن بن عفان: سمعت سفيان بن عُيينة يقول: وَيْحَكم! القرآن كلام الله. قد صحبت الناسَ وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حتى ذكر منصورًا والأعمش ومِسْعر بن كِدَام، فما نعرف
(3)
القرآن إلَّا كلام الله، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله. ما أشبه هذا القول بقول النصارى! لا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم».
قال البخاري
(4)
: وحدثني الحكم بن محمد الطبري ـ كتبتُ عنه بمكة ـ حدثنا سفيان بن عُيينة قال: أدركتُ مشيختنا منذ سبعين سنة ـ منهم عمرو بن دينار ـ يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق».
قال
(5)
: وقال الحُميدي: حدثنا سفيان، ثنا حُصَين، عن مسلم بن صبيح، عن شُتَيْر
(6)
بن شَكَل، عن عبد الله قال: «ما خلق اللهُ من أرضٍ
(1)
في «خلق أفعال العباد» : «أبو عبد الله» .
(2)
«خلق أفعال العباد» (35).
(3)
«ح» : «يعرف» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (1).
(5)
«خلق أفعال العباد» (38).
(6)
«ح» : «بشر» . وهو تحريف، والمثبت من «خلق أفعال العباد» . وشُتَير بضم الشين المعجمة بعدها تاء مفتوحة معجمة باثنتين من فوقها ثم ياء معجمة باثنتين من تحتها وآخره راء، كذا قيَّده الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (3/ 1261) وعبد الغني الأزدي في «المؤتلف والمختلف» (2/ 461) وابن ماكولا في «الإكمال» (4/ 378) وغيرهم.
ولا سماءٍ ولا جنةٍ ولا نارٍ أعظم من {اَللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْحَيُّ اُلْقَيُّومُ} [البقرة: 253]. قال سفيان: تفسيره أن كل شيءٍ مخلوقٌ، والقرآن ليس بمخلوقٍ، وكلامه أعظم مِن خلقه، لأنه إنما يقول للشيء: كن، فيكون. فلا يكون شيءٌ أعظمَ ممَّا يكون به الخلق، والقرآن كلام الله».
قال
(1)
: «وقال زهير السجستاني: سمعت سلَّام بن أبي مطيع يقول: الجهمية كفار» .
وقال جرير بن عبد الحميد
(2)
(3)
.
قال
(4)
: وقال وكيع: «[احذروا]
(5)
هؤلاء المرجئةَ، هؤلاء الجهميةَ، والجهميةُ كفارٌ، والمَرِيسي جهميٌّ، وعلَّمهم
(6)
كيف كفروا. قالوا
(7)
: يكفيك المعرفة؛ وهذا كفرٌ. والمرجئة يقولون: الإيمان قولٌ بلا عملٍ؛ وهذا
(1)
«خلق أفعال العباد» (39).
(2)
في «خلق أفعال العباد» : «وقال عبد الحميد» . وقد روى هذا القول أبو داود في «مسائل الإمام أحمد» (1738) والخلال في «السنة» (1680) وغيرهما عن عبد الحميد الحماني.
(3)
«خلق أفعال العباد» (40).
(4)
«خلق أفعال العباد» (41).
(5)
سقط من «ح» . وفي «خلق أفعال العباد» : «أحدثوا» . والمثبت من «مجموع الفتاوى» (6/ 403).
(6)
في «خلق أفعال العباد» : «وعلمتم» . وذكر محققه أن في نسخة كما هنا.
(7)
«ح» : «قال» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
بدعةٌ. ومَن قال: القرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ بما أُنزل على محمدٍ، يُستتاب فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقه».
[ق 116 أ] وقال وكيعٌ: «على المَرِيسي لعنة الله، يهودي [هو]
(1)
أو نصراني؟ فقال له رجلٌ: كان أبوه أو جَدُّه يهوديًّا أو نصرانيًّا»
(2)
.
قال وكيعٌ: «وعلى أصحابه لعنة الله، القرآنُ كلام الله. وضرب وكيعٌ إحدى يديه على الأخرى، فقال: هو
(3)
ببغدادَ، يقال له المَرِيسي، يُستتاب، فإن تاب وإلَّا ضُربت عنقُه»
(4)
.
قال البخاري
(5)
: وقال يزيد بن هارون: «لقد حرَّضتُ أهل بغداد على قتله جَهْدِي، ولقد أُخبرت من كلامه بشيءٍ وجدتُ وجعَه في صُلبي بعد ثلاثٍ» .
وقال علي بن عبد الله: «إنما كان غايته أن يُدخِل الناسَ في كفره»
(6)
.
وقال عُبيد الله بن عائشة: «لا يُصلَّى خلف مَن قال: القرآن مخلوق. ولا كرامة له»
(7)
.
وقال سليمان بن داود الهاشمي وسهل بن مزاحم: «مَن صلى خلف مَن
(1)
من «خلق أفعال العباد» .
(2)
«خلق أفعال العباد» (42).
(3)
في «خلق أفعال العباد» : «شيء» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (43).
(5)
«خلق أفعال العباد» (44).
(6)
«خلق أفعال العباد» (45).
(7)
«خلق أفعال العباد» (46).
يقول: القرآن مخلوق، أعاد الصلاة»
(1)
.
وقال ابن أبي الأسود: سمعتُ ابنَ مهدي يقول ليحيى بن سعيد: «لو أن جهميًّا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئًا»
(2)
.
وقال ابن مهدي: «لو رأيتُ رجلًا على الجسر، وبيدي سيفٌ، يقول: القرآن مخلوق، لَضربتُ عنقه»
(3)
.
وقال يزيد بن هارون: «المَرِيسي أضرُّ من ماني
(4)
».
قال أبو عبد الله البخاري
(5)
: «ما أبالي أصليتُ خلف الجهميِّ أو الرافضيِّ، أم صليتُ خلف اليهودي والنصراني، ولا يُسلَّم عليهم ولا يُعادون ولا يُناكَحون ولا يُشْهَدون
(6)
ولا تُؤكل ذبائحُهم».
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «هما ملتان: الجهمية والرافضة»
(7)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (47).
(2)
«خلق أفعال العباد» (48).
(3)
«خلق أفعال العباد» (49).
(4)
«ح» : «سمالي» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» . والمراد ماني بن فاتك الذي ظهر بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وأحدث دِينًا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام، وأتباعه يسمون المانوية. «الملل والنحل» للشهرستاني (1/ 290)«الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (2/ 350)«جامع المسائل» لابن تيمية (5/ 187).
(5)
«خلق أفعال العباد» (51).
(6)
أي: لا تُشهد جنائزهم.
(7)
«خلق أفعال العباد» (52).
قال شيخ الإسلام
(1)
: «وهذا الكلام الذي قاله الإمام عبد الرحمن بن مهدي قد قاله غيره، وهو كلامٌ عظيمٌ، فإن هاتين الفرقتين هما أعظم الفرق فسادًا في الدين، وأصلهما من الزنادقة المنافقين، ليستا من ابتداع المتأولين مثل قول الخوارج والمرجئة والقدرية، فإن هذه الآراء ابتدعها قومٌ مسلمون بجهلهم، قصدوا بها طاعة الله، فوقعوا في معصيته، ولم يقصدوا بها مخالفة الرسولِ ولا محادته؛ بخلاف الرفض والتجهم فإن مبدأهما من قوم منافقين مكذِّبين لِمَا جاء به الرسول مبغضين له، لكن التبس أمر [كثيرٍ]
(2)
من ذلك على كثيرٍ من المسلمين ـ الذين ليسوا بمنافقين ولا زنادقة ـ فدخلوا في أشياء من الأقوال والأفعال التي ابتدعها الزنادقة والمنافقون، ولبَّسوا الحق بالباطل. وفي المسلمين سماعون للمنافقين كما قال الله تعالى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي: قابلون مستجيبون لهم. فإذا كان جِيلُ القرآن كان بينهم منافقون وفيهم سمَّاعون لهم، فما الظن بمن بعدهم؟! فلا يزال المنافقون في الأرض، ولا يزال في المؤمنين سمَّاعون لهم لجهلهم بحقيقة أمرهم وعدم معرفتهم بغَوْر كلامهم.
وأمَّا الرفض فإن الذي ابتدعه زنديقٌ منافقٌ، وهو عبد الله بن سبأ الذي أظهر الإسلامَ وكان يُبطِن الكفر، وقصدُه فساد الإسلام. والتجهم مأخوذ في الأصل عن الصابئين والمشركين، [وهو]
(3)
أعظم من الرفض، ولهذا تأخر دخوله في الأُمة.
(1)
لم أقف على هذا الكلام فيما عندي من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
«ح» : «كبيرهم» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «وهم» .
فهاتان الملتان يُناقضان
(1)
أصلَيِ الإسلام، وهما شهادة أن لا إله إلَّا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله. أمَّا التجهم فإنه نقضُ التوحيد، وإن سمَّى أصحابه أنفسهم موحدين. ولهذا كان السلف يُترجمون الردَّ على الجهمية بالتوحيد والرد على الزنادقة والجهمية، كما ترجم البخاري آخر كتاب «الجامع» بـ «كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة»
(2)
. وكذلك ابن خزيمة سمَّى كتابه «التوحيد» وهو في الرد على الجهمية.
وأمَّا الرافضة فقدحُهم وطعنُهم في الأصل الثاني، وهو شهادة أن محمدًا رسول الله، وإن كانوا يُظهِرون موالاة أهل بيت الرسول ومحبتهم. قال طائفة من أهل العلم، منهم مالك بن أنس وغيرُه: هؤلاء قوم أرادوا الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فطعنوا في الصحابة، ليقول القائل: رجلُ سَوْءٍ، كان له أصحاب سَوْءٍ، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين. والرافضة المتقدمون لم يكونوا جهمية معطلة، وأمَّا المتأخرون منهم من حدود أواخر المائة الثالثة فضموا إلى بدعة الرفض التجهُّمَ والقدَر، فتغلَّظ أمرهم، وظهر منهم حينئذٍ القرامطة والباطنية. واشتهرت الزندقة الغليظة والنفاق الأعظم في أمرائهم وعلمائهم وعامتهم، وأخذوا مِن دِين المجوس والصابئة والمشركين ما خلطوه في الإسلام. وهم أعظم الطوائف نفورًا عن [ق 116 ب] سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه وآثار أصحابه لمضادة ذلك لبدعتهم، كنفور الجهمية عن آيات الصِّفات وأخبارها».
(1)
كذا في «ح» ، والجادة «تناقضان» .
(2)
في «صحيح البخاري» (9/ 114): «كتاب التوحيد» . وزيادة: «والرد على الجهمية» في نسخة المستملي، وينظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 344).
قال البخاري
(1)
: وقيل لأبي عُبيدٍ القاسم بن سلَّام: إن المَرِيسي سُئل عن ابتداء خَلْق الأشياء، وقولِ الله:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فقال: هذا كلامُ صِلةٍ. أي: هو مثل قوله: قالت السماء، وقال الجدار. يعني: أن الله لم يتكلم. قال أبو عبيد: أمَّا تشبيهه قول الله: {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} بـ قالت السماء وقال الجدار
…
وبيَّنَ بطلان قوله، ثم قال: ومَن قال هذا فليس شيءٌ من الكفر إلَّا وهو دونه، ومَن قال هذا قال على الله ما لم يقله اليهودُ والنصارى، ومذهبه التعطيل للخالق».
قال البخاري
(2)
: قال علي: وسمعت بشر بن المفضل وذكَر بعض الجهمية بالبصرة فقال: «هو كافر» .
وسُئل وكيع عن مثنى الأنماطي، فقال:«هو كافرٌ»
(3)
.
وقال عبد الله بن داود: «لو كان لي على مثنى الأنماطي سبيلٌ لنزعت لسانَه من قفاه. وكان جهميًّا»
(4)
.
وقال سليمان بن داود الهاشمي: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ»
(5)
.
قال
(6)
: وقال الفضيل بن عياض: «إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر بربٍّ
(1)
«خلق أفعال العباد» (53 - 54).
(2)
«خلق أفعال العباد» (55).
(3)
«خلق أفعال العباد» (56).
(4)
«خلق أفعال العباد» (57).
(5)
«خلق أفعال العباد» (58).
(6)
«خلق أفعال العباد» (61).
يزول من مكانه، فقل: أنا أؤمن بربٍّ يفعل ما يشاء».
قال
(1)
: وقال ابن عُيينة ومعاذ بن معاذ وحجاج بن محمد ويزيد بن هارون وهاشم بن القاسم والربيع بن نافع الحلبي ومحمد بن يوسف وعاصم بن علي ويحيى بن يحيى وأهل العلم: «مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، ومَن زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر» .
وقال محمد بن يوسف: «مَن قال: إن الله ليس على عرشه، فهو كافر»
(2)
.
قال
(3)
وذكر
(4)
عن وكيع قال: «لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوقٌ، فإنه من شرِّ قولهم، إنما يذهبون إلى التعطيل» .
قال
(5)
: وحدثني أبو جعفر، سمعت الحسن بن موسى
(6)
الأَشْيَب وذكَر الجهمية، فنال
(7)
منهم، ثم قال: «أُدخِلَ رأسٌ من رؤساء الزنادقة يقال
(1)
«خلق أفعال العباد» (66).
(2)
«خلق أفعال العباد» (67).
(3)
«خلق أفعال العباد» (68).
(4)
«خلق أفعال العباد» (69).
(5)
«خلق أفعال العباد» (70).
(6)
«ح» : «يونس» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» . والحسن بن موسى الأشيب ترجمته في «تهذيب الكمال»
(7)
«ح» : «فقال» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
له شمعلةُ على المهدي، فقال: دُلَّني على أصحابك. فقال: أصحابي أكثر من ذلك. فقال دلني عليهم. فقال: صِنفان ممَّن ينتحل القبلة: الجهمية والقدرية، الجهمي إذا غلا قال: ليس ثَمَّ شيءٌ، وأشار الأشيب إلى السماء؛ والقَدَري إذا غلا قال: هما اثنان: خالقُ خيرٍ وخالقُ شرٍّ. فضرب عنقه وصَلَبه».
قال
(1)
: وحدثني أبو جعفر، حدثني يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم شجاعًا البلخي يقول: «كان رجلٌ من أهل مرو صديقًا لجهم، ثم قطَعَه وجفاه، فقيل له: لِمَ جفوتَه؟ قال: جاء منه ما لا يُحتمَل، قرأتُ يومًا آية كذا وكذا ـ نسيها يحيى ـ فقال: ما كان أظرفَ محمدًا حين قالها. واحتملتها، ثم قرأ سورة طه، فلما بلغ {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] قال: أما والله لو وجدت سبيلًا إلى حَكِّها لحككتُها من المصحف. فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى قال: ما هذا؟ ذكَرَ قصة في موضع فلم يُتمَّها، ثم ذكرها هنا فلم يتمها. ثم رمى المصحف مِن حَجْره برجليه، فوثبتُ عليه» .
حدثني أبو جعفر، سمعت يحيى بن أيوب قال: «كنا ذات يوم عند مروان بن معاوية الفزاري، فسأله رجل عن حديث الرؤية، فلم يحدثه، فقال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي. فقال مروان: يقول لي: جهمي، وجهمٌ مكثَ أربعين ليلة لا يعرف ربه
(2)
.
حدثني أبو جعفر، حدثني هارون بن معروف ويحيى بن أيوب قالا: قال ابن المبارك: «كل قوم يعرفون مَن يعبدون إلَّا الجهمية»
(3)
.
حدثنا أبو جعفر، سمعت يزيد بن هارون، حدثنا حديث إسماعيل، عن قيس، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ»
(1)
. قال يزيد: «مَن كذَّب بهذا فقد برئ من الله ورسولِه»
(2)
.
حدثنا أبو جعفر، حدثنا أحمد بن خلاد سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم والمريسي، فقال:«هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالَا الدم»
(3)
.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «مَن زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتل»
(4)
.
وقال يزيد بن هارون: «والله الذي لا إله إلَّا هو، ما هم إلَّا زنادقةٌ. أو قال: مشركون»
(5)
.
وسُئل
(6)
عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع، فقال:«لم يزل في الناس إذا كان فيهم مَرْضيٌّ أو عَدْلٌ فصَلِّ خلفه. قلت: فالجهمية؟ قال: لا، هذه من المَقَاتِل، هؤلاء لا يُصلَّى خلفهم [ق 117 أ]، ولا يُناكحون، وعليهم التوبة»
(7)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«خلق أفعال العباد» (74).
(3)
«خلق أفعال العباد» (75).
(4)
«خلق أفعال العباد» (76).
(5)
«خلق أفعال العباد» (78).
(6)
«ح» : «وقبل» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
(7)
«خلق أفعال العباد» (79).
وسُئل حفص بن غِياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس. قيل: فالجهمية؟ قال: «لا أعرفهم. قيل له: قوم يقولون القرآن مخلوق. قال: لا جزاك الله خيرًا، أوردتَ على قلبي ما لم يَسمع به قط. قلت: فإنهم يقولونه. قال: هؤلاء لا يُناكحون، ولا تجوز شهادتُهم»
(1)
.
وسُئل ابن عيينة فقال نحو ذلك. قال: فأتيت وكيعًا فوجدتُه مِن أعلمهم بهم، فقال: يكفرون مِن وجه كذا، ويكفرون مِن وجه كذا، حتى أكفرَهم مِن كذا وكذا وجهًا»
(2)
.
(3)
.
قال البخاري
(4)
: «يقال: سَلْم بن أَحْوز الذي قتل جهمًا» .
فصل
قال البخاري
(5)
: حدثنا محمد بن كثيرٍ، حدثنا إسرائيل، ثنا عثمان بن
(1)
«خلق أفعال العباد» (80).
(2)
«خلق أفعال العباد» (81 - 82).
(3)
«خلق أفعال العباد» (83).
(4)
«خلق أفعال العباد» (86).
(5)
«خلق أفعال العباد» (ص 60،40). والحديث أخرجه الإمام أحمد (15424) وأبو داود (4734) والترمذي (2925) والنسائي في «السنن الكبرى» (7680) وابن ماجه (201) والحاكم (2/ 612) من طريق إسرائيل به. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (1/ 644): «هو على شرط البخاري» .
المغيرة، عن سالم، عن جابرٍ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسَه بالموقف، فقال:«أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ! فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» .
وقال أنس بن مالكٍ: «لمَّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، فإذا موسى في السماء السابعة بتفضيل كلامِ الله عز وجل»
(1)
.
وقال أبو ذَرٍّ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل: عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ»
(2)
.
قال
(3)
: وقال عبد الله بن أُنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ يَحْشُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ» .
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ»
(4)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (89). والحديث أخرجه البخاري في «الصحيح» (7517) ومسلم (162) من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس به، وخطَّأ بعض النقاد شريكًا فيه؛ لأن المشهور أن الذي في السماء السابعة هو إبراهيم عليه السلام، وينظر «فتح الباري» (13/ 482).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (21764) والترمذي (2495) وابن ماجه (4257) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
(3)
«خلق أفعال العباد» (90). والحديث علقه البخاري في «صحيحه» (7517). وتقدم (ص 760 - 761) تخريجه.
(4)
«خلق أفعال العباد» (91). والحديث أخرجه البخاري في «الصحيح» (4701).
وقال خَبَّاب بن الأَرَت: «تَقرَّبْ إلى الله ما استطعتَ، فإنك لن تتقربَ إلى الله بشيءٍ أحبَّ إليه مِن كلامه»
(1)
.
وقال نِيَار بن مُكْرم
(2)
(3)
.
وكانت أسماء بنت أبي بكرٍ إذا سمعت القراءةَ قالت: «كلامُ ربي»
(4)
.
وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: «فضلُ القرآن على سائر الكلام كفضل الربِّ على خلقه»
(5)
.
وقال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، من أول الأنبياء؟ قال:«آدَمُ» . قلت: إنه لَنبيٌّ؟ قال: «نَعَمْ، مُكَلَّمٌ»
(6)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (93). والأثر أخرجه الآجري في «الشريعة» (157) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (5/ 244) والحاكم (2/ 479) وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 394) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (558).
(2)
«ح» : «مسلم أم» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» . ونيار بن مكرم الأسلمي رضي الله عنه ترجمته في «تهذيب الكمال» (30/ 72).
(3)
«خلق أفعال العباد» (94). والحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (116، 1210) وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 404) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (5/ 271) وأصل الحديث في الترمذي (3194) دون موضع الشاهد منه.
(4)
«خلق أفعال العباد» (95). والأثر أخرجه حرب الكرماني في «المسائل» (3/ 1138) والخلال في «السنة» (1995، 2078).
(5)
«خلق أفعال العباد» (96). والأثر أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (341) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (556) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 578).
(6)
«خلق أفعال العباد» (97). والحديث أخرجه الإمام أحمد (21947، 21953) وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (480) والدارمي في «الرد على الجهمية» (317) والبزار في «مسنده» (4034) والبيهقي في «شعب الإيمان» (129). وله عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه طرق كثيرة، أشرت إلى بعضها في تخريجي لأحاديث «تفسير القرآن العزيز» لابن أبي زمنين (1/ 375 - 377). وذكرت له شاهدينِ، أشهرهما عن أبي أمامة رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد (22719) والدارمي في «الرد على الجهمية» (317) وابن حبان (6190) والحاكم (2/ 262) وقال الحاكم:«حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
وقال ابن عباس: «لمَّا كَلَّم اللهُ موسى كان النداءُ في السماء، وكان الله في السماء»
(1)
.
ثم ذكر
(2)
حديث عبد الله
(3)
قال ابن مسعود: «أصدقُ الحديث كلامُ الله»
(4)
.
قال
(5)
: «وقال أبو بكر الصديق، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الشفاعة، قال: «يَقُولُ نُوحٌ: انْطَلِقُوا إِلَى [إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا إِلَى]
(6)
مُوسَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا»
(7)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (98).
(2)
«خلق أفعال العباد» (99).
(3)
كذا في «ح» . والذي في «خلق أفعال العباد» : عن عبد الرحمن بن عابس، قال: حدثني ناسٌ من أصحاب عبد الله، عن عبد الله ـ يعني: ابن مسعود ـ به.
(4)
أخرجه البخاري في «صحيحه» (7277) بلفظ: «إن أحسن الحديث كتاب الله» .
(5)
«خلق أفعال العباد» (100).
(6)
سقط من «ح» . وأثبته من «خلق أفعال العباد» .
(7)
الحديث أخرجه الإمام أحمد (16) والبزار في «مسنده» (76) وأبو عوانة في «المستخرج» (511) وابن خزيمة في «التوحيد» (468) وابن حبان (6476) وغيرهم من طريق أبي هنيدة البراء بن نوفل، عن والان العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه. وقال البزار:«وهذا الحديث حديث فيه رجلان لا نعلمهما رويا إلا هذا الحديث، أبو هنيدة البراء بن نوفل، فإنا لا نعلم روى حديثًا غير هذا، وكذلك والان لا نعلم روى إلا هذا الحديث، على أن هذا الإسناد ـ مع ما فيه من الإسناد الذي ذكرنا ـ فقد رواه جماعة من جلة أهل العلم بالنقل واحتملوه» .
وقال أبو هريرة
(1)
وابن عمر
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مُوسَى بِكَلَامِهِ وَبِرِسَالَاتِهِ»
(3)
.
وقال عَدِيُّ بن حاتم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
(4)
.
وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ إِنَّ اللَّهَ كَلَّمَ أَبَاكَ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، فَقَالَ لَهُ: عَبْدِي سَلْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، رُدَّنِي
(1)
أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194).
(2)
لعله يريد حديث ابن عمر رضي الله عنهما في احتجاج آدم وموسى، فقد ورد فيه:«اصطفاك اللهُ برسالاتِه وكلامه» . فقد رواه عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (366) وابن منده في «الإيمان» (1/ 145). وروي أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن النجار في «الذيل» (1/ 203) من طريق أبي بكر النجاد، لكنه في «مسند عمر» للنجاد (17) عن عمر لا ابن عمر، وقال مرعي الكرمي في «رفع الشبهة والغرر» (ص 29):«روي أيضًا بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم» .
(3)
«خلق أفعال العباد» (101).
(4)
«خلق أفعال العباد» (102). والحديث أخرجه البخاري (6539) ومسلم (1016).
إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَلَ فِيكَ. قَالَ: إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَرجِعُونَ. قَالَ: فأَبْلِغْهُمْ عَنَّا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَا تَحْسِبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اِللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]
(1)
.
قال أبو عبد الله
(2)
: «وهو عبد الله بن عمرو بن حرام قُتِل يوم أُحد شهيدًا» .
وقال جُبَير بن مُطْعِمٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل عَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ [وَسَمَاوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ]
(3)
مِثْلُ الْقُبَّةِ»
(4)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (103). والحديث تقدم (ص 482) تخريجه.
(2)
«خلق أفعال العباد» (104).
(3)
سقط من «ح» . وأثبته من «خلق أفعال العباد» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (105). والحديث أخرجه أبو داود في «السنن» (4726) والبزار في «المسند» (3432) وأبو عوانة في «المستخرج» (2570) وابن أبي عاصم في «السنة» (576) والدارمي في «الرد على الجهمية» (71) وفي «النقض» (1/ 468 - 469، 518) وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 239) وابن أبي حاتم في «التفسير» (1/ 61) والآجري في «الشريعة» (710) وأبو الشيخ في «العظمة» (198) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (656) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (884) وغيرهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده به. وهذا الحديث هو المشهور بحديث الأطيط، والكلام عليه منتشرٌ جدًّا، من ذلك: قال البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، ولم يقل فيه محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة» . وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/ 18): «وقد صنَّف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي جزءًا في الرد على هذا الحديث سماه بـ «بيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط» واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن يسار راويه، وذكر كلام الناس فيه». وقال الذهبي في «العلو» (ص 44 - 45):«هذا حديث غريبٌ جدًّا فردٌ، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب» . وقد صحَّحه المصنِّف في «تهذيب السنن» (7/ 95 - 117) وردَّ على من أعله.
وقال ابن مسعودٍ في قوله: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] قال: «العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه»
(1)
.
وقال قتادة في قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي فِي اِلسَّمَا إِلَهٌ وَفِي اِلْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 83] قال: «يُعبَد في السماء، ويُعبَد في الأرض»
(2)
.
وقال ابن عباس في قوله: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 4] قال: «من
(3)
الأيام الستة»
(4)
.
(1)
«خلق أفعال العباد» (106). والأثر أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (81) وفي «النقض» (1/ 422، 471، 519) وابن خزيمة في «التوحيد» (149، 150) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 202) وأبو الشيخ في «العظمة» (279) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (851) وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 139). وقال الذهبي في «العلو» (ص 79): «رواه عبد الله بن الإمام أحمد في «السنة» له وأبو بكر بن المنذر وأبو أحمد العسال وأبو القاسم الطبراني وأبو الشيخ وأبو القاسم اللالكائي وأبو عمر الطلمنكي وأبو بكر البيهقي وأبو عمر بن عبد البر في تواليفهم، وإسناده صحيحٌ». وصحح إسناده المصنِّف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 390).
(2)
«خلق أفعال العباد» (107). والأثر أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2795) وابن جرير في «تفسيره» (20/ 660).
(3)
«ح» : «ومن» . والمثبت من «خلق أفعال العباد» .
(4)
«خلق أفعال العباد» (108). والأثر أخرجه الطبري في «التفسير» (18/ 594).
وقال تعالى [ق 117 ب]: {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 18].
وقال عمران بن حصين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: «كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟» قال: سبعةُ آلهةٍ: ستةٌ في الأرض، وواحد في السماء. قال:«فأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟» قال: الذي في السماء. قال: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ يَنْفَعَانِكَ
(1)
». فلمَّا أسلم الحصين قال: يا رسول الله، علِّمْني الكلمتين اللتين وعدتَني. قال:«قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»
(2)
.
قال البخاري
(3)
: «وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المُشبِّهة؛ لأنهم شبهوا ربَهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر
(1)
كذا في «ح» ، «خلق أفعال العباد» ، بتأويل «لفظين» ، وفي «جامع الترمذي» وغيره:«تنفعانك» على الجادة.
(2)
«خلق أفعال العباد» (110). أخرجه الترمذي (3483) والبزار (3579، 3580) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ 174 رقم 396) وفي «المعجم الأوسط» (1985) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (894) من طريق أبي معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال في «العلل» (677): «سألت محمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث أبي معاوية، قال محمد: وروى موسى بن إسماعيل هذا الحديث عن جويرية بن بشير، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال أبو عيسى: وحديث الحسن عن عمران بن حصين في هذا أشبه عندي وأصح» . والحسن عن عمران مرسل، ينظر «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 38). وللحديث طريق آخر ضعيف أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 277 - 278). وينظر «العلو» للذهبي (43 - 44). وقد صحح المصنِّف الحديث في «الوابل الصيب» (ص 411).
(3)
«خلق أفعال العباد» (111، 113).
ولا يتكلم ولا يَخلُق، وقالت الجهمية كذلك: لا يتكلم ولا يبصر. وقالوا: إن اسم الله مخلوق. ولقد اختصم يهوديٌّ ومسلمٌ إلى بعض معطِّلتهم، فقضى باليمين على المسلم، فقال اليهودي: حَلِّفْه. فقال المخاصَم له: أحلفُ بالله الذي لا إله إلَّا هو. فقال اليهودي: حَلِّفْه بالخالق لا بالمخلوق؛ فإن هذا من القرآن، وزعمتَ أن القرآن مخلوقٌ، فحلِّفْه بالخالق. فبُهت الآخر وقال: قُومَا حتى أنظر في أمركما. وخسر هنالك المبطلون».
وفي «تاريخ الخطيب»
(1)
في ترجمة بشر المريسي عن إسحاق ابن عمِّ أحمد بن منيع
(2)
قال: «كان بشرٌ المريسي يقول [بقول]
(3)
صِنف من الزنادقة ـ سمَّاهم صنف كذا وكذا ـ يقولون: ليس بشيء».
وذكَر فيه
(4)
عن [يحيى بن]
(5)
علي بن عاصم قال: «كنت عند أبي، فاستأذن عليه بشر المريسي، فقلت: يا أبتِ يدخل عليك مثل هذا! فقال: يا بني، فما قال؟ قلت: إنه يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل معه في الأرض، وإن الجنة والنار لم يُخلقا، وإن منكرًا ونكيرًا باطلٌ، وإن الصراط باطلٌ، وإن الميزان باطلٌ، وإن الشفاعة
(6)
باطلٌ، مع كلامٍ كثيرٍ. قال: فأَدخِلْه
(1)
(7/ 533 - 534).
(2)
في «تاريخ بغداد» : «إسحاق بن إبراهيم بن عمر بن منيع» . وما في المتن هو الصواب، فهو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن منيع البغوي، ابن عم أحمد بن منيع، ترجمته في «تهذيب الكمال» (2/ 366).
(3)
سقط من «ح» . وأثبته من «تاريخ بغداد» .
(4)
«تاريخ بغداد» (7/ 534 - 535).
(5)
من «تاريخ بغداد» ، «اجتماع الجيوش الإسلامية» للمصنِّف (ص 328).
(6)
في «تاريخ بغداد» : «الساعة» .
عليَّ. قال: فأدخلتُه عليه. قال: فقال: يا بشرُ، ادْنُهْ، ويلك يا بشر ادنه. مرتين أو ثلاثًا، فلم يزل يُدنيه حتى قرب منه. قال: ويلك يا بشر، مَن تعبد؟ وأين ربك؟ قال: فقال: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أُخبرت عنك أنك تقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله معك في الأرض، مع كلامٍ كثيرٍ ـ ولم أر شيئًا أشد على أبي مِن قول القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض ـ فقال: يا أبا الحسن، لم أجئ لهذا، وإنما جئتُ في كتاب خالد لتقرأه عليَّ. فقال له: ولا كرامةَ، حتى أعلم ما أنت عليه، أين ربك؟ ويلك! قال: أو تعفيني؟ قال: ما كنت لأُعفيك. قال: أما إذا أبيتَ فإن ربي نورٌ في نورٍ. قال: فجعل يزحف إليه ويقول: ويحكم اقتلوه؛ فإنه واللهِ زنديقٌ، وقد كلمتُ هذا الصنف بخراسان
(1)
».
وذكر فيه أيضًا
(2)
عن أبي يوسف القاضي أنه قال لبشر المريسي: «طلبُ العلم بالكلام هو الجهل، والجهلُ بالكلام هو العلم، وإذا صار رأسًا في الكلام قيل: زنديق، أو يُرمى بالزندقة. يا بشر، بلَغَني أنك تتكلم في القرآن، إنْ أقررت أن لله عِلمًا خُصمت، وإن جحدتَ العلم كفرتَ» .
وذكر عبد الله بن أحمد
(3)
وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: «ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يريدون أن
(1)
قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 496): «والصنف الذي أشار إليهم علي بن عاصم محتمل أنهم من أتباع المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأنهما امتزجا واختلطا؛ فإنهم لا يثبتون فوق العالم شيئًا كما تقول الجهمية» .
(2)
«تاريخ بغداد» (7/ 538).
(3)
كتاب «السنة» (147).
يقولوا: إن الله لم يكلم موسى. ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيءٌ، وإن الله ليس على العرش. أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلَّا قُتلوا»
(1)
.
وذكر أيضًا عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذُكِر عنده الجهمية، فقال:«هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس عليه شيءٌ»
(2)
.
فهذا وأضعافه قليلٌ من كثيرٍ من شهادة شهداءِ الله في أرضه، الذين استشهدهم على توحيده وقرَنَ شهادتهم
(3)
بشهادته وشهادة ملائكته
(4)
، وعدَّلهم رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ»
(5)
. وهؤلاء شهداء الله على الناس يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَيَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 142] فإنهم قاموا بشروط الشهادة، وهي العلم والعدل، فإن الشاهد لا يكون مقبولًا حتى يكون عالمًا بما يشهد له عدلًا في نفسه. ولم يكن الله سبحانه ليجمع شهادة هؤلاء ـ الذين هم ورثة رسوله وأنصار دِينه ولهم لسان الصدق في الأمة ـ على باطلٍ وزورٍ، وتكون شهادة أتباع أهل
(1)
تقدم (ص 988) تخريجه.
(2)
تقدم (ص 881) تخريجه.
(3)
«ح» : «شهادهم» .
(4)
قال الله تعالى: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاَلْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا اُلْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
(5)
تقدم (ص 926) تخريجه.
الفلسفة الصابئين والمشركين، وشهادة الجهمية الجاحدين لصفات ربِّ العالمين وكلامِه وعلوِّه على خلقه، وأوقاح المعتزلة وأفراخ المجوس وأمثالهم؛ هي المقبولةَ عند الله، وهي شهادة الحقِّ.
بل هؤلاء هم المشهود عليهم [ق 118 أ] بين يدي الله، فإنهم خصماؤه، وخصماءُ وحيه ورسوله، حيث نسبوا كلامه وكلام رسوله إلى ما لا يليق به، وظنوا به أسوأ الظنِّ، واعتقدوا أن ظاهره باطلٌ ومحالٌ وتشبيهٌ وضلالٌ. فكيف يقبل أحكمُ الحاكمين وأعدل العادلين شهادة هؤلاء المتهوِّكين المتجبرين على حزبه وأنصارِه وأنصار كِتابه وسُنة رسوله، الذين قدَّموا كتابه وسُنة رسوله على كل ما خالفهما، ولم يقدِّموا ما خالفهما [عليها]
(1)
، وتركوا الآراء الباطلة والمعقولات السخيفة لهما، ولم يتركوهما لأجلها؛ وقرروا بالعقل الصريح صحةَ ما جاء به الرسول، ولم يُقرِّوا بالعقل الفاسد بطلانَ ما جاء به وأنه مخالفٌ للعقل الصحيح؛ ورأوا أن اليقين كلَّ اليقين مستفادٌ من كلام الله ورسوله، ولم يقولوا إنه لا يُستفاد منه علمٌ ولا يقينٌ؛ ورأوا أن ما أخبر به عن أسمائه وصفاته وأفعاله حقيقةٌ، ولم يقولوا إنه مجازٌ لا حقيقةَ له. فأي الفريقين أحق بالعلم والعدالة، وقبول الشهادة عند الله وعند ملائكته وعند جميع
(2)
المؤمنين؟ وأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟!
الوجه السادس والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء أصَّلوا أصولًا جعلوها أساسًا لبنائهم، وسمَّوها قواطع عقلية، وسمَّوا أدلتها براهين يقينية، فجاءت
(1)
«ح» : «عليه» . والظاهر ما أثبت.
(2)
«ح» : «جمع» .
فروع تلك الأصول ولوازمها والبناء الذي ارتفع عليها من أبطل الفروع وأفسد اللوازم وأضعف البناء وأوهاه. وذلك بيِّنٌ لكل ذي عقلٍ سليمٍ وفطرةٍ صحيحةٍ لم تفسد بالتقليد، ولم تَعْمَ بالهوى والتعصب [عن]
(1)
فساد تلك الأصول ومناقضتها للمعقول والمنقول. وهذا موضع يستدعي عدة أسفار، لكن نذكر منه أدنى تنبيهٍ على طريق الاختصار يكون مُنبِّهًا على ما وراءه
(2)
.
مثال ذلك: أن المتفلسفة لمَّا أصَّلوا أن الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، انبنى على ذلك من اللوازم الباطلة في المصدر والصادر ما هو متضمن لأعظم أنواع الباطل.
أمَّا المصدر فإنهم التزموا ألَّا يكون فيه معنيانِ متغايران أصلًا، فنفوا عنه جميع الصِّفات، إذ لو ثبت له صفةٌ وجوديةٌ لم يكن عندهم واحدًا، وقد فرضوه واحدًا من كل وجهٍ، فنفوا علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه واختياره ومشيئته، وأن يكون فاعلًا باختياره لشيءٍ من العالم. ونفوا علوَّه على خَلْقه، ومباينته للعالم، واستواءه على عرشه. ولو ثبت له ذلك لكان جسمًا والأجسام مركبة، فلم يكن واحدًا من كل جهة.
ولزمهم من ذلك نفيُ ماهيته وذاته، وأن يقولوا إنه لا ماهيةَ له سوى الوجود المطلق، إمَّا بغير شرطٍ أو بشرط الإطلاق. ومن المعلوم أن المطلق لا وجودَ له في الخارج، ولا سيما إذا أخذ بشرط الإطلاق، فلزمهم من هذا الأصل نفيُ وجود الخالق سبحانه في الخارج، وأن يكون وجوده ذهنيًّا لا خارجيًّا.
(1)
سقط من «ح» .
(2)
«ح» : «رواه» . والمثبت هو الصواب.
ولزمهم عنه لو صحَّ لهم إثباتُه: أنه لا يَخلُق، ولا يرزق، ولا يميت، ولا يحيي، ولا يعلم شيئًا. ولا يُرسل رسولًا، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يبعث مَن في القبور.
ولزمهم عنه أن يكون هذا العالَم قد وُجد مِن غير خالقٍ، أو أنه لم يزل موجودًا قديمًا أزليًّا، ولمَّا كان اللازمُ الأول أشنعَ وأظهر فسادًا لكل عاقلٍ؛ التزموا الثاني.
وأمَّا الباطل الذي لزمهم في جانب الصادر فهو أن يكون واحدًا من كل وجهٍ، ولا يكون فيه كثرةٌ بوجهٍ ما [لأن]
(1)
مصدره واحد كذلك، فالصادر عنه أيضًا يجب أن يكون كذلك، وهلم جرًّا. والحِسُّ يكذبه.
ولا ينفعهم الجواب بأن الصادر له وجوهٌ واعتبارات لأجلها تعدَّد الصادر عنه. فإن تلك الوجوه إن كانت وجودية لزم صدورُ الكثرة عن الوحدة، وبطل أصلهم، وإن كانت عدمية لم يكن مصدرًا للموجود، وهذا قاطعٌ.
فصل
ولمَّا أصَّلوا هم وأتباعهم من الجهمية أن المختص بصفةٍ أو حقيقةٍ أو قدَرٍ لا بد له من تخصيص منفصل، لزمهم من هذا الأصل إنكارُ حقيقته وذاته وصفاته، إذ لو أثبتوا له ذلك بزعمهم لزم أن يكون له مخصصٌ غيره خصَّصه بتلك الماهية والصفات والقدر، فلزم أيضًا من هذا الأصل الباطل ما لزم من الأصل الذي قبله.
(1)
«ح» : «ليس» . والسياق يقتضي ما أثبت.
وهم طردوا هذا الأصل، وجحدوا حقيقة الربِّ وصفاته. وإخوانهم من الجهمية لمَّا لم يمكنهم أن يصرِّحوا
(1)
به بين أَظهُر المسلمين صرَّحوا بالأصل وبما أمكنهم أن يصرِّحوا به من اللوازم، كنفي الصِّفات ونفي العلو والمباينة والكلام والوجه واليدين والاستواء والنزول.
ولمَّا أصَّلوا ذلك لزمهم [ق 118 ب] القول بأنه
(2)
في كل مكانٍ بذاته وأنه تعالى في الأجواف والأمكنة التي يتعالى عنها. فلمَّا صاح عليهم أهلُ العلم والإيمان من كل قُطرٍ من أقطار الأرض، قالوا: نقول إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا فوق العرش ولا تحته. فلمَّا رأى عُبَّادهم ومتصوِّفوهم
(3)
أن الإرادة والعبادة والطلب لا تُعلق بمعبود هذا شأنه، وأن القلوب لا تعرفه والألسنة لا تعرفه؛ فرُّوا إلى أن قالوا: فهو عين هذا العالم لا غيره. وكل هذه اللوازم أُسست
(4)
على ذلك الأصل الفاسد.
ولمَّا أصَّلوا أن الصِّفات أعراضٌ لا تقوم إلَّا بالأجسام لزمهم إنكارها رأسًا. ومَن أثبت منهم صفة ونفى غيرها أضحك أهلَ العقل والنقل على عقله. ولمَّا أصَّلوا هذا الأصل لزمهم عنه أن الله لم يتكلم ولا يكلم أحدًا مِن خلقه، ولم ينزل له إلى الأرض كلام تكلم به، وإنما خلق أصواتًا وحروفًا في الريح سُميت كلامه مجازًا لا حقيقة.
فلمَّا فهم سفهاؤهم هذا، وأنه ليس لله في الأرض كلام، وأنه ليس في
(1)
«ح» : «يصرحون» .
(2)
«ح» : «بأن» .
(3)
«ح» : «ومتصوفيهم» .
(4)
«ح» : «أست» .
المصحف إلَّا صنعة المخلوقين ومِدادهم وما عملت أيديهم صار فيهم مَن يكتب {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} بما يُستحى مِن ذِكره، ومنهم مَن يلقي المصحف في المكان الذي يُرغب عن ذكره، ويقول: إنما ألقيت كاغَدًا ومِدادًا
(1)
. ومنهم مَن يجعله كرسيًّا له يضعه تحت رجليه ويرقى عليه ويتناول به حاجته، ومنهم
(2)
من يكون له وعاء يضع فيه المصحف ونعله وغيره، وفيهم من يتوسَّده، إلى غير ذلك من الأنواع التي فيها من الاستخفاف بالمصحف والإهانة له ما يدل على براءة فاعله من الله ورسوله وكتابه ودينه.
وأمَّا إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة، فهم لا يتحاشون منها، بل يُصرِّحون بقولهم: أي شيءٍ في المصحف سوى المِداد والورق! ويقولون: ليس في المصحف كلام الله، ولم ينزل إلى الأرض لله كلام، وهذا الذي يقرؤُه المسلمون ليس بكلام الله حقيقةً! وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدةً، وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها. وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل.
كما أنهم لما أصَّلوا تعطيل الربِّ من صفة العلو وتعطيل العرش من استواء ربه عليه؛ لزمهم التكذيب بما لا يُحصى من الآيات والأحاديث، وإن أقروا بألفاظها. ولزمهم الطعن في خيار الأُمة وساداتها وأئمة الإسلام وأهل السُّنَّة والحديث، ولزمهم إنكار نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلةٍ، وإنكار مجيئه وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وإن أقروا بذلك أقروا به مجازًا لا حقيقة. ولزمهم من ذلك التكذيب بمعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ودنوِّه
(1)
الكاغد: القرطاس، والمداد: الحبر.
(2)
«ح» : «منهم» . بغير واو.
منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وتردُّدِه
(1)
بين موسى وبين ربه مرارًا، كلُّ ذلك لا حقيقةَ له عندهم، كما صرَّح به أفضل متأخريهم ومَلِك مناظريهم
(2)
في كلامه على المعراج، وجعله خيالًا لا حقيقة له.
ولمَّا أصَّلوا أنه سبحانه لا تقوم به الأفعال الاختيارية، وسمَّوْا ذلك حلولَ الحوادث؛ لزمهم عنه أنه لا يفعل شيئًا البتةَ، فإنه لا يتكلم بمشيئته، وأن يكون بمنزلة الجمادات التي لا تفعل شيئًا؛ فإنهم جعلوا المفعول عين الفعل، ومن المعلوم أن مفعولًا بلا فعلٍ أبلغ في الاستحالة والبطلان من مفعولٍ بلا فاعلٍ، أو هما سواء، فلزمهم من هذا الأصل مخالفة صريح المعقول والمنقول والفطرة والتكذيب بما لا يُحصى من النصوص.
ولمَّا أصَّلت القدرية أن الله سبحانه لو شاء أفعالَ عباده وقدَرَ عليها وخلقها، ثم كلفهم بها وعاقبهم عليها، لَكان ذلك ظلمًا ينافي العدل؛ لزمهم عن هذا الأصل لوازمُ مخالِفةٌ للعقل والشرع، منها التكذيب بقدَر الله، وتكذيب غُلاتهم بعلمه السابق، وإنكار كمال قدرته، ونسبته إلى أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإخراج أشرف ما في مُلكه عن أن يكون قادرًا عليه أو خالِقًا له، وهو طاعاتُ أنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه، وأن تكون أفعالهم حدثت من غير خالقٍ
(3)
مُحْدِثٍ أو يكونوا هم الخالقين
(1)
«ح» : «تراده» .
(2)
يعني: الفخر الرازي، وذلك في كتابه «السر المكتوم في مخاطبة النجوم» وهو كتاب مختلف في نسبته إليه، وينظر «الرد على المنطقيين» لابن تيمية (ص 588) و «كشف الظنون» (2/ 989).
(3)
«ح» : «خالي» .
المُحْدِثين لها، وأن تكون إراداتهم مشيئاتهم حادثة بلا مُحْدِث، ولزمهم تكذيبهم بنصوص القدَر كلها، والطعن في نَقَلة أخبارها، وتحريفها عن مواضعها بالتأويلات التي هي كذبٌ على اللغة وعلى الله وعلى رسوله. إلى أضعاف ذلك من اللوازم الباطلة. ولزم هؤلاء كلهم أن الكتاب والسُّنَّة جاءا بما يخالف العقل الصريح، وأنه إذا تعارض العقل والنقل قُدِّم العقل وأُطرح النقل.
فهذه الأصول الرديئة الخبيثة تولدت عنها هذه الأولادُ المناسبة لها، ومَن أشبه أباه فما ظلم. فإذا قابلتَ [ق 119 أ] بين أصول أهل الإثبات وما تولَّد عنها وبين أصول المعطلة النُّفاة وما تولَّد عنها تبيَّن لك الفرق بين هذه الأصول وفروعها، وهذه الأصول وفروعها، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.
الوجه السابع والتسعون بعد المائة: أن مَن تأمَّل أقوال هؤلاء المعارضين للوحي بمعقولهم وآرائهم وجدها قد جمعت أمرين، كلٌّ منهما يدل على بطلانها:
أحدهما: اختلافها في نفسها واضطرابها وتهافتها. وهذا يدل على أنها ليست من عند الله. كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81] فيكفيك مِن فساد القول اختلافُه واضطرابه وتناقضه.
الثاني: أنما مصدرُها الخرصُ والظن والتخمين ليست صادرةً عن وحيٍ عُلمت عِصمته، ولا عن فطرةٍ وعقلٍ اشترك العقلاء فيما أثبته ونفاه.
وقد أخبر سبحانه عن حقيقة أقوال المخالفين لكتابه وسُنة رسوله بهذين الأمرين في قوله: {وَاَلذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَاَلْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَاَلْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَاَلْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَاَلسَّمَاءِ ذَاتِ اِلْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ (10) اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}
(1)
[الذاريات: 1 - 11]. فأقسم سبحانه بمخلوقاته طَبقًا بعد طَبَق، فأقسم أولًا بالرياح والذاريات، ثم بما فوقها، وهي السحاب الحاملات وقرًا، ثم بما فوقها، وهي النجوم الجاريات يُسرًا، ثم بما فوقها، وهي الملائكة المقسمات أمرًا. ثم أقسم بالسماء ذات الحُبك، وهي الطرائق التي هي كطرائق الماء حين تحركه الرياح. ومنه في وصف الدجَّال:«شَعَرُهُ حُبُكٌ»
(2)
أي: فيه تجعدٌ وتثنٍّ
(3)
. ومنه قوله: «فِي السَّمَاءِ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ»
(4)
.
(1)
تكلم المصنِّف في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 428 - 438) على تفسير هذه الآيات كلامًا مفصلًا.
(2)
أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (20828) وأحمد في «المسند» (16518) والطبراني في «الكبير» (22/ 175) والحاكم في «المستدرك» (4/ 508) من طريق معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة عن هشام بن عامر رضي الله عنه، ولفظه:«إن رأس الدجال من ورائه حُبك حُبك» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 343): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني» . وقال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (13/ 630): «أظن فيه انقطاعًا» . وأخرجه الإمام أحمد (23629، 23970) من طريق حماد بن زيد وابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجلٍ من أصحاب النبي به .. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 343):«رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» .
(3)
«ح» : «نتن» . وهو تصحيف.
(4)
أخرجه الإمام أحمد (8950) والترمذي (3298) والبزار (9559) والجورقاني في «الأباطيل» (65) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (849) من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي:«هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة» . وقال الجورقاني: هذا حديث باطل، وله علة تخفى على من لم يتبحر، فمن تأمل هذا الحديث، واعتبر أقوال رواته، يحكم عليه بالصحة لأمانتهم وعدالتهم، والعلة فيه إرسال الحسن، عن أبي هريرة؛ فإنه لم يسمع من أبي هريرة شيئًا». وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 299) والطبري في «تفسيره» (23/ 80) عن معمر عن قتادة مرسلًا. قال ابن كثير في «تفسيره» (7/ 8):«ولعل هذا هو المحفوظ، والله أعلم» .
وهذا يتضمَّن حُسنها وبهجتها وكمال
(1)
خَلقها.
فأقسم بذلك على أن الرادِّين لما بَعَث به رسوله المعارضين له بعقولهم في قولٍ مختلفٍ. ولهذا تجدهم دائمًا في قول مختلف، لا يثبت لهم قدم على شيءٍ يعوِّلون عليه. فتأمَّل أي مسألةٍ أردت من مسائلهم ودلائلهم تجدهم مختلفين فيها غاية الاختلاف، يقول هذا قولًا وينقضه الآخر، فيجيء الثالث فيقول قولًا غير ذَيْنك القولين، وينقضهما ويُبطِل أدلتهما. ولا تجد لهم مسألةً واحدةً إلَّا وقد اضطربوا
(2)
فيها حُكمًا ودليلًا، فهم أعظم الناس اختلافًا، حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدَّعي أنه قطعيٌّ، ثم يقول خلافه ويُبطِله، ويدَّعي أنه قطعيٌّ!
ثم أخبر سبحانه أن ذلك القول المختلف {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9]. أي يُصرف بشبه عن الحق من صُرف، فلما كان انصرافه عن
(1)
«ح» : «وكما» .
(2)
«ح» : «اضطروا» .
الحق بشبه صار كأنه منفصلٌ عنه، وإفكُه صادر عنه.
ثم قال تعالى: {قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10]. وأصل الخرص القول بلا علمٍ، بل بالظنِّ والتخمين والقذف بالكلام من غير برهانٍ على صحته، ومنه سُمِّي الكاذِبُ خارصًا، والحازرُ خارصًا، وصاحب الظنِّ والتخمين خارصًا. وهذا الوصف منطبقٌ على هؤلاء أتمَّ انطباق، فليس معهم إلَّا الخرص واتباع الظنِّ، كما قال تعالى في وصف سَلَفهم المعارضين لشرعه بالقدَر:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 117]. وهذا بخلاف متَّبِع الوحي، فإنه يتبع قولًا يصدق بعضُه بعضًا ويشهد بعضُه لبعض، لا اختلاف فيه ولا اضطراب، متصلًا برب العالمين قوله ووحيه الذي نزله على رسوله، فمصدره منه سبحانه، ومظهره على لسان رسوله، فعليه سبحانه البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، وقد فعل سبحانه ما عليه، وفَعل رسوله ما عليه، فماذا يشنا
(1)
بعد ذلك إلَّا أن نأتي بما علينا، وبالله التوفيق.
الوجه
الثامن والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء النُّفاة المعطِّلة لا بد لهم من أصلٍ يقرِّرون به قولَهم الذي ابتدعوه، وأصلٍ ينفون به ما أخبرت به الرُّسل.
وهذا حال كل مَن وضع رأيًا أو نصب مذهبًا لا بد له من أصلٍ يُقرِّر به رأيه، وأصلٍ يُبطل به قول مخالفه.
وعلى هذين الأصلين بنوا مذاهبهم الفاسدة، فكلامهم كله يدور على هاتين القاعدتين. فإذا تكلموا في توحيدهم الذي هو غاية الإلحاد والتعطيل، والتشبيه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم، كما قال حافظ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب «خلق الأفعال» ـ وهو من
(1)
كذا في «ح» .
أجلِّ كُتبه الصغار ـ وهذا لفظه: «وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية
[ق 119 ب] هم المُشبِّهة؛ لأنهم شبهوا ربَّهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يَخلُق، وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم ولا يبصر نفسه»
(1)
. والمقصود أن توحيدهم غاية التعطيل والتشبيه = فإذا تكلموا فيه قرروه بالأصل الأول. فإذا جاؤوا إلى الكتاب والسُّنَّة قرروا نفيَ دلالتهما بوجوهٍ
(2)
:
أحدها: أن النصوص أدلةٌ لفظيةٌ لا تُفيد علمًا ولا يقينًا.
الثاني: أن الأخبار أخبار آحاد لا تُفيد العلم، وهذه المسائل علمية.
الثالث: أن العقل إذا عارض النقل وجب تقديمُ العقل عليه.
الرابع: استعمال التأويلات وأنواع الاستعارات والمجازات في نصوص الصِّفات.
وقد أوصاهم سلفُهم بكلمتين يتداولهما
(3)
منهم آخر عن أول، قالوا: إذا احتجَّ عليكم أهل الحديث بالقرآن فغالطوهم بالتأويل، وإذا احتجوا بالأخبار فقابلوها بالتكذيب. وإذا مهَّدوا هذين الأصلين انبنى لهم عليهما أصلان آخران أدهى منهما وأمرُّ: التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب وإساءة الظن به، وتسليط التحريف عليه، والتصديق بالباطل الذي يسمونه قواطع عقلية. وصدَقوا وكذَبوا! فهي قواطع، ولكن
عن الإيمان بالله ورسوله وأسماء الرب وصفاته، وهي خيالات جَهْلية شُبِّهت عليهم، فظنوها قواطع عقلية.
وترتب لهم على هذين الأصلين أصلان آخران: تلقيبُ الحق المنزَل وأصحابه بالألقاب الشنيعة المنفِّرة، كتلقيبه بالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب، وتلقيب الآخِذين به بالمشبهة والمجسمة والحشوية، وتلقيب الكفر والضلال والإلحاد بالألقاب المستحسنة كالتوحيد والتنزيه والعدل، وتلقيب أصحابه بالموحدين أهل العدل والتوحيد والتنزيه.
فترتب
(1)
لهم على ذلك أصلان آخران: الإعراضُ عن القرآن والسُّنَّة جملةً، ومعارضتهما بآراء الرجال وعقولهم الفاسدة المتهافتة المتناقضة.
ثم ترتب لهم على ذلك أصلان آخران: معاداةُ أهل الحق، وموالاة أهل الباطل.
وبَقِيَ أمران آخران، إنما يظهران إذا بُعثر ما في القبور، وحُصل ما في الصدور، {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلَاهُمُ اُلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]. يوضحه:
الوجه التاسع والتسعون بعد المائة: أن هؤلاء المعطلة النُّفاة من
الجهمية ومَن اتبعهم لا يمكن على أصولهم التي أصَّلوها وقواعدهم
التي أسَّسوها محبةُ الله، ولا مدحُه، ولا حمده وتمجيده والثناء عليه، ولا الرضى به، ولا الابتهاجُ بقربه ولا الفرحُ به، ولا اللذة العظمى برؤية وجهه، ولا لذةُ الآذان والأرواح بسماع كلامه، بل ولا الشوق إليه،
(1)
«ح» : «فرتب» .
ولا الإنابة
(1)
ولا الطمأنينة به وإليه، ولا الأمنُ من عذابه لهم بغير جُرْمٍ
(2)
أصلًا، ومن إبطاله أعمالهم الصالحة بغير سببٍ.
بل أعظم من ذلك أنهم سدُّوا على أنفسهم طريقَ العلم بإثباته وإثبات ربوبيته إلَّا بما يُنافي صفاته وأفعاله، فليس لهم طريقٌ إلى إثبات ذاته إلَّا بما يستلزم نفي ذاته وصفاته وأفعاله. وسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بصدق رسله بتجويزهم عليه كل
(3)
شيءٍ، حتى إنه يجوز عليه تأييد
(4)
الكاذب المفتري عليه بأعظم المعجزات، وليس في العقل ما يُحيل ذلك عندهم. وسدُّوا على أنفسهم طريق العلم بالمعاد؛ لأنهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد، ولا حقيقة له. وهذه جملةٌ إنما يظهر تفصيلها عند الكلام على مسائلهم ودلائلهم.
أمَّا محبة الربِّ سبحانه فإنهم صرحوا بأنه لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، واستدلوا على ذلك بما هو مناقِض للفطرة والعقل والشرائع، كما سنذكره
(5)
إن شاء الله. وأصل الدِّين هو كونُه سبحانه يُحِبُّ ويُحَبُّ
(6)
؛ فإن الشرائع مبناها على شهادة أن لا إله إلَّا الله، والإله هو المستحقُّ لكمال الحب بكمال التعظيم والإجلال والذُّل له والخضوع له. فإنكار المحبة إنكار لنفس الإلهية. وأمَّا
(1)
«ح» : «الأمانة» . وستأتي على الصواب.
(2)
الجُرْم: الذنب. «الصحاح» (5/ 1885).
(3)
«ح» : «بكل» .
(4)
«ح» : «تأبيد» .
(5)
سيأتي في الوجه التالي.
(6)
«ح» : «ولا يحب» . وزيادة «لا» خطأ يفسد المعنى.
فروعها فمبناها على كونه سبحانه يُحب أقوالًا وأعمالًا، ويمدح [فاعليها]
(1)
، ويُثني عليهم ويُقرِّبهم منه، ويبغض أقوالًا وأعمالًا، ويذم فاعليها ويبغضهم ويبعدهم منه. [وعندهم]
(2)
أنه لا يُحِب ولا يبغض، بل كل ما شاءه فهو محبوبٌ له، وما لم يَشَأْه فهو مبغوضٌ، فإن محبته عندهم هي إرادته. ولهذا قالوا: لا يحبه أحدٌ؛ لأن المحبة نوعٌ من الإرادة، والقديم لا يمكن أن يُراد.
وأمَّا أنه لا يُمدح ولا يُحمد، فلِمَا قرَّروا أن المدح هو مجرد الإخبار عن استحقاق الممدوح ما يلتذُّ به ويفرح به، واللذة والألم عليه محالٌ، كما سنذكر ألفاظهم [ق 120 أ] بعد هذا الوجه والكلام عليها.
وأمَّا الرضا به والابتهاج والسرور بقُربه فذلك من توابع المحبة، وعندهم أنه لا يمكن تعلق المحبة به بوجهٍ.
وأمَّا اللذة برُؤية وجهه وسماع كلامه، فليس له عندهم وجهٌ، ولا يُرى بحال، ولا يكَّلم ولا يمكن أن يتكلم.
وأمَّا الإنابة إليه، فأصل الإنابة محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد، فمن لا يُحَبُّ لا يمكن الإنابة إليه.
وكذلك الفرح والسرور بقُربه عندهم أنه أمرٌ محالٌ.
وأمَّا الطمأنينة به والأمن من عذابه بغير جُرمٍ فلا طريقَ لهم إلى ذلك؛ لأنهم يُجوِّزون عليه أن يُعذِّب أعظم أهل طاعته، ويُنَعِّم أكفرَ الخلق به،
(1)
«ح» : «فاعلها» . والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
«ح» : «وعنده» .
وكلاهما بالنسبة إليه سواء عندهم، وإنما يُعلم ضدُّ ذلك بخبر صادق. والأدلة اللفظية عندهم لا تفيد اليقين، وكثيرٌ منهم يشك في العموم أو ينكره، والقدرة صالحة، ولا حُسن ولا قُبح هناك البتةَ.
وأمَّا طريق العلم بإثباته فإنهم إنما أثبتوه بطريق الجواهر والأعراض والحركة والسكون، وأن ما قامت به الأعراضُ والحوادث يجب أن يكون حادثًا. فلزمهم نفيُ جميع صفاته وأفعاله، إذ لو أثبتوها بزعمهم لَأفسدَ عليهم طريق إثباته والعلم به، ولزمهم إنكارُ علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وتكلُّمِه، وأن يكون له كلام يُسمَع منه، فضلًا أن ينزل إلى الأرض. ومَن استجاز
(1)
منهم هذا ارتكب التناقض، وأثبت بعضها ونفى بعضًا، ولم يُوفِ ما أثبته حقَّه، بل نفى حقيقته وأثبت لفظه، أو أثبته من وجهٍ ونفاه من غيره، أو أثبت منه ما لا يُعقل. فهم سلكوا في طريق إثبات وجوده أعظم الطُّرق المنافية لوجوده، فضلًا عن ثبوت صفات كماله وأفعاله.
وأمَّا طريق العلم بالنبوة فإنهم أصَّلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكنٍ، وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات، وأنه لا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها، فإن العقل لا [يُقبِّح]
(2)
ذلك ولا يُحسِّن هذا، وليس إلَّا مجرد القدرة والمشيئة.
فلمَّا أورد عليهم العقلاء أن هذا يَسُدُّ طريق العلم بالنبوة عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة، وقالوا: هذا يلزمنا ويلزمكم، فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم وإن وجب بالعقل لكن وجوبه نظريٌّ،
(1)
«ح» : «استجهز» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «يقبل» . والمثبت هو الصواب.
فالمكلف يقول: لا أنظر حتى يجب عليَّ، ولا يجب عليَّ حتى أنظر. فسددتم على أنفسكم طريقَ إثبات النبوة.
فانظر كيف آلَ أمرُ الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم، وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين؟! فأبعد الله أصولًا وقواعدَ هذا حاصلُها ورأسُ مال أصحابها! أفلا يستحي مَن هذا حاصلُ معقوله وعِلمه ومنتهى معرفته أن يذكر أنصارَ الله ورسوله وحزبه بما لا يليق، أو ينسبهم إلى ما هو أولى به منهم من الجهل ومخالفة المعقول والمنقول؟! وهذا موضع المثل السائر: «[رمتني بدَائها]
(1)
وانسلَّتْ»! وقد تقدَّم ما ذَكره إمام أهل السُّنَّة محمد بن إسماعيل البخاري
(2)
عن بعض أهل العلم: «إن الجهمية هم المشبهة؛ لأنهم شبَّهوا الله سبحانه بالأصنام والمَوَات» . وممَّا يوضح الأمر:
الوجه الموفي [مائتي وجه]
(3)
: وهو أن هؤلاء كما وضعوا قانونًا أصَّلوه لنفي كلامه وسمعه وبصره، ومباينته لخلقه واستوائه على عرشه ومجيئه لفصل القضاء بين عباده ورؤية أنبيائه وأوليائه له في دار الكرامة؛ بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب وحلول الحوادث = وضعوا قانونًا آخر يتضمن نفي ما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والمحبة والمودة والحنان والغضب والرضى والفرح والضحك والتعجب. قالوا: لأن هذه الأمور متضمِّنةٌ للألم واللذة، والله سبحانه منزَّهٌ عن ذلك. قالوا:
(1)
«ح» : «ومنتهى بدايتها» . وقد سبق المثل (ص 372) على الصواب.
(2)
تقدم (ص 996).
(3)
«ح» : «مائتين وجهًا» .
ولأنها تستلزم الشهوة والنُّفرة وهو سبحانه منزهٌ عنهما.
فانظر كيف توصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله من هذه الأمور بهذه الألفاظ المجمَلة المتشابهة المتضمنة للحق والباطل، فهي ذات وجهين حقٍّ وباطلٍ، فتُقبل من الوجه الحقِّ، وتُردُّ من الوجه الباطل. فلفظ الشهوة واللذة والألم والنُّفرة من
(1)
الألفاظ التي فيها إجمالٌ وإبهامٌ، فكثير من الناس إنما يُطلِقها بإزاء شهوة الحيوان من الأكل والشرب والنكاح (والله تعالى قد جعل الباعث على إتيان الذكور الشهوة المجردة، لا الحاجة إلى ذلك، فإن الله لم يُحرِّم على عباده ما يحتاج العباد [ق 120 ب] إليه)
(2)
وتطلق
(3)
الشهوة بإزاء ما هو أعمُّ من ذلك، كشهوة الجاه والمال والعزِّ والنصر والعلم. قال الإمام أحمد
(4)
: «محمد بن إسحاق صاحب حديث، يُشتهى حديثُه» . وقد قال تعالى في الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي اِلْأَنفُسُ وَتَلَذُّ اُلْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وهذا يعمُّ كل ما تشتهيه الأنفس من مأكولٍ ومشروبٍ
(1)
«ح» : «ممن» .
(2)
كذا وقعت هذه الجملة في «ح» ، ويقصد بها قول الله تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ اَلْعَالَمِينَ (79) أَانَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ اِلنِّسَاءِ} [الأعراف: 79 - 80].
(3)
«ح» : «ويطلق» .
(4)
الذي وقفنا عليه في «سؤالات أبي داود للإمام أحمد» (177): «سمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق، فقال: كان رجلًا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه» . ونقلها كذلك: العقيلي في «الضعفاء» (5/ 201) والخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 28) وابن سيد الناس في «عيون الأثر» (1/ 20) والمزي في «تهذيب الكمال» (24/ 421) وغيرهم.
ومسموعٍ ومرئيٍّ وغيره.
وتُطلق الشهوة على الإرادة نفسها، فيقال لمَن له إرادة في الشيء ومحبة له: هو يشتهيه. كما يقال: فلان يشتهي لقاء فلان، ويشتهي قُربه، ويشتهي الحج. بل يقال لمن يريد ما تكره نفسه لمصلحةٍ أنه يشتهيه كما يقال: فلان يشتهي الشهادة في سبيل الله، ويشتهي شُرْب الدواء.
فنقول: أتعنون بالشهوة التي نفيتموها عن الله الشهوةَ الحيوانية، أم الشهوة التي هي أعمُّ، أم الإرادة والمحبة؟ فإن أردتم الأول فنفيُه حقٌّ
(1)
، ودعواكم لزومه ممَّا أثبته لنفسه من الفرح والرضى والضحك ونحوها؛ باطلةٌ، تتضمن الكذب والتلبيس.
وإن أردتم الثالث فنفيُه باطلٌ، وتوسُّلُكم إلى نفيه بتسميته شهوةً تلبيسٌ وتدليسٌ، ونفيٌ للمعنى الحق الثابت بتسميته بالاسم المستهجن في حقِّ مَن وُصف به.
وإن أردتم الثاني استفصلناكم عن مرادكم، فإن فسرتموه بما يمتنع وصفه به قبلناه، وإن فسرتموه بما وصف به نفسه قابلناه بالإنكار والردِّ، وإن فسرتموه بأمرٍ مجملٍ محتملٍ استفصلناه، فقبلنا حقَّه، ورددنا باطلَه.
وهؤلاء النُّفاة تجدهم دائمًا يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس، وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه. فيأتون إلى ألفاظٍ معناها في اللغة العربية أخصُّ من معناها في اصطلاحهم، فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه، ويُوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها المعروف في
(1)
«ح» : «حتى» . والمثبت هو الصواب.
اللغة. والناس أول ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها
(1)
معناها اللغوي، فيوافقونهم على النفي تعظيمًا لله وتنزيهًا له؛ ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه، وقد جمعوا في ذلك تحريف لغة العرب عن مواضعها وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه، ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات.
فمعرفة
(2)
مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدِّين، ليتمكن أهل السُّنَّة والحديث مِن ردِّ باطلهم وتبيين إفكهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود؛ فكان يكتب له كتبهم، ويقرأ له كتبهم
(3)
. وسأل رجلٌ عبدَ الله بن عمر عن الأنبذة، وقال: أخبِرْني عنها بِلُغتكم وفسِّرْها لي بلغتنا، فإن لكم لغةً ولنا لغةً. فذكرها ابن عمر باللفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فسَّرها بلغة السائل
(4)
.
فنقول: أنتم في هذا المقام، إنما نظركم في المعاني العقلية، لا في إطلاق الألفاظ، فإن أهل السُّنَّة والحديث أعلمُ بذلك منكم، وأولى بمراعاة الألفاظ الشرعية، وهم أبعدُ عن أن يصفوا الله إلَّا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله منكم، فما مقصودكم [مِن]
(5)
نفي الشهوة والنفرة واللذة والألم
(1)
«ح» : «منهما» .
(2)
«ح» : «فمعروف» . والمثبت هو الصواب.
(3)
علَّقه البخاري في «صحيحه» (7195)، ووصله الإمام أحمد (22019) وأبو داود (3645) والترمذي (2715) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير هذا الوجه عن زيد بن ثابت» .
(4)
أخرجه مسلم (1997).
(5)
سقط من «ح» .
عنه؟ إن عنيتم به ما هو من خصائص المخلوقين فلا ريب في انتفائه عنه سبحانه؛ لأن كماله المقدَّس ينفيه، فإثباته نقصٌ وعيبٌ. وأنتم قد اعترفتم أنه لم يقم دليلٌ عقليٌّ على تنزيهه عن العيوب والنقائص، وإنما استندتم فيه إلى الإجماع، واعترفتم بأن دلالته ظنيةٌ، وهذا موجود في «إرشادكم»
(1)
و «نهايتكم»
(2)
وغيرها.
ونحن نُقرِّر نفي ذلك بالأدلة القطعية والبراهين اليقينية؛ فإنه سبحانه لا يجوز أن يُماثل خلقه في شيءٍ من صفاتهم وأفعالهم، فهو منزهٌ عن أن يطلب ما يَقْبُح طلبه، أو يريد ما لا يَحْسُن إرادته، أو يطلب ويكره ويحب ما لا يصلح طلبه وكراهته ومحبته إلَّا للمخلوق. وكل ما يُنزَّه سبحانه عنه من العيوب والنقائص، فهو داخلٌ فيما نزَّه نفسه عنه، وفيما يُسبَّح به ويُقدَّس ويُحمد ويُمجَّد، وداخل في معاني أسمائه الحُسنى، وبذلك كانت حُسنى، أي أحسن من غيرها، فهي أفعل تفضيل معرَّفة باللام، أي: لا أحسن منها بوجهٍ من الوجوه، بل لها الحُسن الكامل التام المطلق، وأسماؤه الحسنى وآياته البينات متضمنةٌ لذلك ناطقةٌ به صريحةٌ فيه، وإن أَلْحَد فيها الملحدون، وزاغ عنها الزائغون.
وقد بيَّنا فيما تقدَّم
(3)
أن كل ما يُنزَّه الربُّ عنه إن لم يكن متضمنًا لإثبات
(1)
يعني: «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» لأبي المعالي الجويني، وينظر (ص 74 - 76) منه.
(2)
يعني: «نهاية العقول في دراية الأصول» للفخر الرازي، وينظر (3/ 188 - 189، 231 - 232) منه.
(3)
تقدم (ص 653 - 661).
كماله ومستلزمًا لأمرٍ ثبوتيٍّ يُوصف به لم يكن في تنزيهه عنه مدحٌ ولا حمدٌ ولا تمجيدٌ ولا تسبيحٌ، إذ العدم المحض ـ كاسمه ـ لا حمد فيه ولا مدح، وإنما يُمدح سبحانه بنفي أمور تستلزم أمورًا هي حقٌّ ثابتٌ [ق 121 أ] موجودٌ يستحق الحمد عليها، وذلك الحق الموجود ينافي ذلك الباطلَ المنفي؛ فيُستدل برفع أحدهما على ثبوت الآخر. فتارةً يستدل بثبوت تلك المحامد والكمالات على نفي النقائص التي تنافيها، وتارةً يُستدل بنفي تلك النقائص على ثبوت الكمالات التي تنافيها.
فهو سبحانه القدوس السلام، كما قال:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 253] لكمال حياته وقيوميته، و {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمال علمه، {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قدرته، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 48] لكمال عدله وغناه ورحمته، و {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه: 51] لكمال علمه وحفظه، {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 253] لكمال قدرته وقوته، {وَهْوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 15]، و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] لكمال صمديته، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُؤًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] لتفرده
(1)
بالكمال المطلق الذي لا يُشاركه فيه غيره، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ اَلذُّلِّ} [الإسراء: 110] لكمال عزِّته وسلطانه.
{وَلَا يَخَافُ عُقْباهَا} [الشمس: 16] فنفى عن نفسه خوف عاقبة ما فعله من إهلاك أعدائه، بخلاف المخلوق؛ فإنه إذا انتقم من عدوه يخاف عاقبة ذلك، إمَّا من الله وإمَّا من المنتصرين لعدوه، وذلك على الله
(2)
محال. والخوف
(1)
«ح» : «كفرده» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «أنه» . والمثبت هو الصواب.
يتضمن نقصانَ العلم والقدرة والإرادة؛ فإن العالم بأن الشيء لا يكون لا يخافه، والعالم بأنه يكون ولا بد قد يَئِسَ من النجاة منه فلا يخاف، وإن خاف فخوفُه دون خوف الراجي. وأمَّا نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه؛ فإذا تيقَّن أنه قادرٌ على دفعه لم يخفه. وأمَّا نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوفُ بدون مشيئته واختياره، وذلك محالٌ في حقِّ من هو بكل شيءٍ عليمٌ، وعلى كل شيءٍ قديرٌ، ومَن لا يكون شيءٌ إلَّا بمشيئته وإرادته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه؛ فإن هذه الصِّفات لا تستلزم نقصًا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته، بل هي كمالٌ؛ لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه، وكلما كان العلم بحاله [أتم]
(1)
كانت كراهته وبغضه أقوى، ولهذا يشتد غضبه سبحانه على مَن قتل نبيَّه أو قتله نبيُّه
(2)
.
فصل
وإن قال: أعني بذلك ما هو أعمُّ من شهوة الحيوان وألمه ولذته ونُفْرته. قيل له: الشهوة والنفرة جنسهما الحبُّ والبغض، فكل مشتهٍ لشيءٍ فهو
(1)
«ح» : «أهم» . والمثبت هو الصواب.
(2)
أخرج البخاري (4073) ومسلم (1793) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتدَّ غضبُ الله على رجلٍ يقتله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اللهِ عز وجل» . وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» (3945) والبزار في «مسنده» (1728) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (6) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدُّ الناسِ عذابًا يوم القيامة رجلٌ قتله نبيٌّ أو قتلَ نبيًّا
…
». وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 168): «رواه البزار بإسنادٍ جيدٍ» .
محبٌّ له، وكل نافرٍ عن شيءٍ فهو مبغضٌ له، وإن كان من المحبة والبغض ما لا يُسمَّى في لغة القوم شهوةً ونفرةً، كمحبتنا لله ورسوله. وإذا كان كذلك فمعلومٌ أن الله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والبغض في غير موضعٍ من كتابه وسُنة رسوله، وهو موصوفٌ بالإرادة والكراهة المتضمنة للحب والبغض والشهوة. والنفرة أيضًا تتضمن معنى الإرادة والكراهة، فإن المشتهي فيه نوع إرادةٍ والنافر فيه نوع كراهةٍ، والإرادة والكراهة من لوازم الحياة؛ فكل حيٍّ مريدٌ كارهٌ، والشهوة والنفرة من لوازم الحيوان
(1)
؛ فإنه يشتهي ما يتضمن بقاء ذاته ويلائمه، وينفر من ضدِّ ذلك.
وهذه الأسماء قد تتنوع إمَّا بحسب صفاتها في أنفسها، وإمَّا بحسب متعلقها، وهو المحبوب المكروه، لما في لغة العرب من التفريق بين اللفظين لأدنى فرق بين المعنيين لقوة التمييز في عقولهم وألسنتهم، بخلاف الأُمم الذين يضعف فيهم التمييز، فإنهم يغلب عليهم الاقتصار على القدر المشترك في العقل واللسان. وثبوت تلك الفروق اللفظية في المعاني والألفاظ لا يمنع
(2)
ثبوت القدر المشترك بينها الذي تدركه سائر الأُمم، فيجب إثبات القدر المشترك والقدر المميز.
وإذا كان بين الشهوة والمحبة والإرادة والرضى والفرح قدرٌ مشتركٌ، وبين النُّفرة والبغض والكراهة والسخط ونحوها قدرٌ مشتركٌ، فمن نفى مُسمَّى أحد هذه الألفاظ فإن عنى به نفي جميع مُسمَّاه لزم نفي القدر المشترك الثابت في البواقي، وإن نفى ما يختص به ممَّا هو من خصائص
(1)
«ح» : «الخوان» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «يمتنع» . والمثبت هو الصواب.
المخلوقين فقد أصاب. والله سبحانه منزهٌ في جميع ذلك أن يثبت له، وإن نفى عنه شيئًا من ذلك ممَّا هو مختصٌّ به لأجل ما يُظَنُّ مستلزمًا لنقصٍ فذلك لازم له في جميع ما يُوصف به، فإنه سبحانه إنما يُوصف من كل نوعٍ بأكمل
(1)
ذلك النوع على وجهٍ لا يستلزم نقصًا ولا تمثيلًا.
فصل
يُبيِّن ذلك أن الحبَّ والبغض من لوازم الحياة، فلا يكون حيٌّ إلَّا محبًّا مبغضًا، كما لا يكون حيٌّ إلَّا وله علمٌ وإرادةٌ وفعلٌ، بل حبُّ الله سبحانه لما يحبه، وبغضه لما يبغضه، وإرادته لما يريده، وكراهته = لما يكرهه أكمل الحبِّ والبغض والإرادة والكراهة [ق 121 ب]، كما قال تعالى:{لَمَقْتُ اُللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 9]، وقال تعالى:{وَاَللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 83]، وهذا تابعٌ لشدة غضبه ومَقْته. وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 14]، وكذلك هو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين. فهو أكبر في كل صفةٍ من صفاته، كما هو أكبر في جميع صفاته وذاته وأفعاله.
فصل
وقد ذكر أفضلُ متأخِّريهم أدلتهم على امتناع هذه الأمور على الله، وأبطَلَها كلها، فكفانا مؤنتَها؛ ثم اختار لنفسه مَسلكًا هو أبطلُ منها، فقال
(2)
:
«والمعتمد أن نقول: لو صحَّت اللذةُ على الله تعالى لكان خلقه للملتذِّ
(1)
«ح» : «بما كمل» . والمثبت هو الصواب.
(2)
الفخر الرازي في «نهاية العقول» (3/ 226 - 227).
به إمَّا أن يكون في الأزل أو لا يكون، والقسمان باطلان
(1)
، فالقول بصحة اللذة على الله محالٌ. وإنما قلنا إنه لا يصح
(2)
خلقُه للملتذِّ به في الأزل؛ لأن الفعل الأزلي محالٌ، وإنما قلنا يستحيل أن يكون حادثًا؛ لأنه إذا كان حادثًا كان ممكنًا قبل كونه، وإلَّا كان ممتنعًا ثم انقلب إلى الإمكان وهو محالٌ. وإذا كان ممكنًا فالله قادرٌ على إيجاده قبل ذلك، وإلا كان منتقلًا من [العجز إلى القدرة]
(3)
وهو محالٌ. وإذا ثبت ذلك فنقول: كل مَن صحَّت عليه اللذة إذا كان عالمًا بقدرته على تحصيل الملتذِّ به، وكان الملتذُّ به في نفسه ممكنًا فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد الملتذ به، وإذا كان كذلك لزم كونُه تعالى فاعلًا للملتذِّ به قبل فِعله، وذلك محالٌ. فثبت أن القول بصحة اللذة على الله محالٌ؛ لأنه يُفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال محالٌ».
ومضمون هذه الحجة بعد تطويل مقدماتها أن جواز ذلك عليه مستلزمٌ لكون الملتذِّ به حادثًا، وكونه متقدمًا على حدوثه، وكون الشيء متقدمًا على وجوده محالٌ. وفسادها بيِّنٌ من وجوهٍ:
أحدها: النقض والمعارضة بالإرادة والمحبة والرحمة والرضى،
بأن يقال: لو صحت على الله الإرادة والمحبة والرِّضى لكان فِعله للمراد المحبوب المرضي إمَّا في الأزل وهو محالٌ، وإمَّا فيما لم يزل وهو محال؛ لما ذكره بعينه من مقدمات دليله.
الوجه الثاني: أن لفظ اللذة والألم من الألفاظ التي فيها إجمالٌ واشتباهٌ،
(1)
«نهاية العقول» : «محالان» . وذكر محققه أن ما هاهنا في نسخة.
(2)
«لا يصح» في «نهاية العقول» : «يستحيل» . وذكر محققه أن ما هاهنا في نسخة.
(3)
«ح» : «من القدرة إلى العجز» . والمثبت من «نهاية العقول» .
كلفظ الجسم
(1)
والحيز والتركيب وغيرها، وليس لها ذكرٌ في الكتاب والسُّنَّة بنفيٍ ولا إثباتٍ، بل جاء في القرآن والسُّنَّة وصفُه بالمحبة والرِّضى والفرح والضحك، ووصفه بأنه يصبر على ما يُؤذيه، وإن كان العباد لا يبلغون نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه
(2)
. والذي نفاه هؤلاء يُدرجون تحته ما وصف به نفسه، وهو إبطالٌ لِمَا جاءت به الرسلُ، ونزلت به الكتبُ، ولِمَا خُلق الخلق لأجله؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كُتبه، ليدعو الخلق إلى ما يُحبُّه ويرضاه، وينهاهم عمَّا يبغضه ويسخطه. وقد أخبر رسوله عنه من محبته ورضاه وفرحه وضحكه وتَبَشْبُشِه
(3)
بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته، وعن غضبه وسَخَطه وبغضه ومقته وكراهته لأعدائه وأهل مخالفته، ممَّا يضيق هذا المكان عن استقصائه.
وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً
(1)
«ح» : «الجسيم» . والمثبت هو الصواب.
(2)
أخرج مسلم في «صحيحه» (2577) عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي الله صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى قال:«يا عبادي، إنكم لن تَبلُغُوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نَفْعي فتنفعوني» .
(3)
«ح» : «وتسيسه» . وهو تصحيف. يشير المصنِّف إلى ما أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (8180، 8465، 8603، 9976) وابن ماجه في «سننه» (800) وابن خزيمة في «صحيحه» (359، 1491، 1503) وابن حبان في «صحيحه» (1607) والحاكم في «المستدرك» (1/ 213) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوضأ أحدٌ فيُحسِن وضوءه ويُسبِغه، ثم يأتي المسجدَ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيه، إلَّا تبشبش اللهُ به كما يتبشبشُ أهلُ الغائب بطَلْعته» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . والبشاشة: طلاقة الوجه، يقال: لقيته فتبشبش بي. «الصحاح» (3/ 996).
في كتاب «المفتاح»
(1)
وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»
(2)
(3)
. وقال حاكيًا عن ربِّه: «شَتَمَنِي ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَّبَني ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ»
(4)
. وقد فرَّق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات، فقال:{إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اَكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 57 - 58]. وليس أذاه سبحانه من جِنس الأذى الحاصل للمخلوقين، كما أن سَخَطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين.
الوجه
الثالث: أن ما وصف اللهُ سبحانه به نفسَه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبُغْض والسَّخَط من أعظم صفات الكمال،
إذ في العقول
(5)
أنَّا إذا فرضنا ذاتين:
إحداهما لا تحب شيئًا ولا تبغضه ولا ترضاه ولا تفرح به، ولا تُبغِض شيئًا، ولا تغضب منه، ولا تكرهه وتَمقُته.
(1)
«مفتاح دار السعادة» (2/ 875 - 891).
(2)
أخرجه البخاري (4826) ومسلم (2246) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2804) واللفظ له، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (3193) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
«ح» : «القول» . والمثبت هو الصواب.
والذات الأخرى تحب كلَّ جميلٍ من الأقوال والأفعال والأخلاق والشِّيم، وتفرح به، وترضى به، وتبغض كل قبيحٍ يُسمى، وتكرهه وتمقته، وتَمقُت أهله، وتصبر على الأذى، ولا تجزع منه ولا تتضرَّر به [ق 122 أ].
= كانت هذه الذات أكمل من تلك الموصوفة بصفات العدم والموات والجهل الفاقدة للحسِّ، فإن هذه الصِّفات لا تُسلب إلَّا عن الموات، أو عمَّن فقد حسَّه، أو بلغ في النهاية والضعف والعجز والجهل إلى الغاية التي لم تدَعْ له حبًّا ولا بُغضًا ولا غضبًا ولا رضًى. بل اليهود الذين وصفوه بالغمِّ والحزن والبكاء والندم أحسن حالًا من الذين سلبوه هذا الكمال، كما أن المُشبِّهة المحضة خيرٌ من المعطلة النُّفاة لصفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى. وأهل الحقِّ أنصار الله ورسوله وكتبه والسُّنَّة
(1)
براء من الفريقين.
الوجه
الرابع: أنه لا كمالَ في مجرد سلب ذلك عنه،
كما قدمنا
(2)
أن السلب إن لم يتضمن إثباتًا، وإلَّا
(3)
لم يكن مدحًا ولا كمالًا. فليس له من مجرد كونِه لا يحب ولا يرضى ولا يفرح ولا يضحك ولا يغضب، حمدٌ ولا كمالٌ؛ فإنه نفيٌ صرفٌ وعدمٌ محضٌ، فلا يُحمد به. وهذا بخلاف نفي الغمِّ والهمِّ والحزن والندم عنه؛ فإنه يتضمن ثبوتًا، وهو كمال قدرته وعلمه، فإن أسباب هذه الأمور إمَّا عجزٌ منافٍ للقدرة، وإمَّا جهلٌ منافٍ للعلم؛ وكمال قدرته وعلمه يناقض وصفه بذلك. وهذا وغيره ممَّا يُبيِّن أن النُّفاة المعطلة أقل الناس تحميدًا وتمجيدًا وتسبيحًا وثناءً على الله، وأن أهل
(1)
الواو ليست في «ح» .
(2)
تقدم (ص 653 - 661).
(3)
كذا والسياق يستقيم دون «وإلا» .
الإثبات أعظم تسبيحًا وتحميدًا وثناءً على الله، كما سنقرره فيما بعد إن شاء الله.
الوجه
الخامس: أن يقال: ما المانع من أن يكون رضاه ومحبته وفرحه من كماله في نفسه وما هو عليه من الجلال
(1)
والجمال،
ولا يحتاج في ذلك إلى شيءٍ مخلوق، بل يكفي في حصوله
(2)
حصول جماله وجلاله؟
وحينئذٍ فيقال: قولُك لو صحَّ الرضى والفرح ـ الذي تسميه أنت لذةً ـ عليه لكان خلقُ المفروح المرضيِّ به إمَّا في الأزل أو بعده، إنما يجب ذلك إذا امتنع أن تكون محبته لنفسه ورضاه بنفسه وفرحه بنفسه سبحانه، وحينئذٍ فلا ينتفي المعنى الذي سميته لذةً إلَّا إذا امتنع هذا، وأنت لم تُقِم دليلًا على امتناعه، بل أنت في نفي هذا أضعف حجةً ممَّن نفى التذاذ أوليائه بالنظر إلى وجهه، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين كلهم وأهلَ السُّنَّة كلهم متفقون على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.
ولكن زعم بعض أهل الكلام أنه لا يحصل لهم بذلك لذةٌ، كما زعم أبو المعالي الجويني في «رسالته النظامية»
(3)
أن نفس النظر إليه سبحانه لا لذةَ فيه، إذ اللذة إنما تكون بالمناسِب، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث، وزعم أن هذا من أسرار التوحيد، وكذلك أبو الوفاء بن عقيل
(4)
سمع قائلًا
(1)
«ح» : «الحال» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «حصول» . والمثبت هو الصواب.
(3)
ينظر (ص 59) منها.
(4)
نقله عنه ابن تيمية في «الاستقامة» (2/ 98) وفي «النبوات» (1/ 342) وفي «مجموع الفتاوى» (10/ 695).
يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال:«يا هذا، هب أن له وجهًا، أفتلتذُّ بالنظر إليه؟»
(1)
. وهذه نزعةٌ اعتزاليةٌ، وإلَّا فأهل المعرفة بالله وخاصة أولياء الله ليس عندهم شيءٌ ألذُّ من النظر إلى وجهه الكريم، وليس بين هذه اللذة ولذة الأكل والشرب والنعيم المنفصل نسبةٌ أصلًا، كما لا نسبة بين الربِّ جل جلاله وبين شيءٍ من مخلوقاته، فالنسبة بين اللَّذَّتين لا تُدرك أصلًا.
قال شيخنا
(2)
: «وعلى ذلك جميع أهل السُّنَّة وسلف الأمة وأئمة الإسلام» .
قال الحسن البصري شيخ الإسلام في زمن التابعين: «لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه»
(3)
.
وقال الشافعي رحمه الله: «لو علم محمد بن إدريس أنه لا يرى ربه في الآخرة لَمَا عبده في الدنيا»
(4)
.
وقال: «أنا أخالف ابن عُلَية
(5)
في كل شيءٍ حتى في قول لا إله إلَّا الله،
(1)
قال ابن تيمية في «منهاج السنة» (5/ 392 (: «وهذا ونحوه ممَّا أُنكر على ابن عقيل، فإنه كان فاضلًا ذكيًّا، وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع، ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية، وهذا من ذاك.» .
(2)
«مجموع الفتاوى» (10/ 696).
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (486) والدارمي في «الرد على الجهمية» (202) والآجري في «الشريعة» (571) واللالكائي في «أصول الاعتقاد» (869) وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 278).
(4)
أخرجه الحاكم ـ كما في «حادي الأرواح» (2/ 616) ـ واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (883) والبيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 419).
(5)
هو إبراهيم بن إسماعيل ابن عُلية، قال ابن تيمية في «الاستقامة» (1/ 337):«كان متكلمًا تلميذًا لعبد الرحمن بن كيسان الأصم ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ وكان قد ذهب إلى مصر، وكان بينه وبين الشافعي مناوأة» .
فإني أقول: لا إله إلَّا الله الذي يُرى في الآخرة. وهو يقول: لا إله إلَّا الله الذي لا يُرى في الآخرة»
(1)
.
وكذلك جاءت السُّنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في «صحيحه»
(2)
عن صُهَيبٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَمَا أَعَطَاهُمُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ» . فأخبر الصادق المصدَّق أن نظرهم إليه أحبُّ إليهم من كل ما أعطاهموه.
وكذلك ما رواه الإمام أحمد
(3)
وأهل السُّنن
(4)
وابن حِبَّان
(5)
في
(1)
أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 409) وابن عبد البر في «الانتقاء» (ص 78).
(2)
(181) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه. وقد تفرد به حماد بن سلمة هكذا، وخالفه غيره. قال الترمذي في «الجامع» (2552):«هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة ورفعه. وروى سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد هذا الحديث عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله» . وقال البزار في «مسنده» (2087): «والحديث إذا رواه الثقة كان الحديث له إذا زاد، وكان حماد بن سلمة رضي الله عنه من خيار الناس وأمنائهم» . وقال المصنِّف في «حادي الأرواح» (2/ 638): «هذا حديثٌ رواه الأئمة عن حمادٍ، وتلقوه عن نبيهم بالقبول والتصديق» .
(3)
(18615).
(4)
النسائي (1305، 1306).
(5)
(1971). والحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 524) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
«صحيحه» من حديث عمار بن ياسرٍ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ [فِي]
(1)
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ [ق 122 ب] لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
يوضحه:
الوجه
السادس: وهو أن اللذة والفرح تابعةٌ للمحبة في الكمال والقوة، والمحبة تابعة لمعرفة المحب بصفات المحبوب وجماله.
فكلما كان العلم به أكملَ كانت محبته أقوى، وكلما كانت المحبةُ أقوى كانت اللذة والفرح به أكملَ وأتم. وإذا ثبت هذا فإذا كان العبادُ يحصل لهم بمعرفته وذِكره ورؤيته واستماعِ كلامه منه ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، وهو سبحانه أعلمُ بنفسه من غيره، وكذلك كان حمدُه لنفسه وثناؤه على نفسه أعظمَ مِن حمد الحامدين له وثناء المُثْنِين عليه؛ فإن الحمد والثناء تابعٌ للمعرفة والعلم بصفات المحمود، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظمَ الناس حمدًا لربه وثناءً عليه؛ لما كان أعلمَ الخلق به. فثناءُ الربِّ سبحانه على نفسه وحمده لنفسه وتمجيده لنفسه ومحبته لنفسه ورضاه عن نفسه فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في قلوبهم، أو تجري به ألسنتُهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً
(1)
سقط من «ح» .
عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(1)
.
يوضحه:
الوجه السابع: أنه سبحانه إذا كان يحب بعضَ ما خَلَقه، ويرضى عنه ويفرح به لما أعطاه من صفات الكمال؛ فمحبته لنفسه ورضاه عن نفسه أولى وأحرى وأعظمُ من محبته لمخلوقه. وأنه إذا أحب أهل العلم وأهل الرحمة، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب الشاكرين، ويُثنِي عليهم، وهو الذي أعطاهم هذه الصِّفات وأحبَّهم لأجلها؛ فما الظن بمحبته لنفسه وثنائه عليها؟ ومن المعلوم أن محبته لهم وثناءه عليهم تبعٌ لمحبته لنفسه وثنائه على نفسه.
الوجه الثامن: أن الجهمي أَبطلَ هذا بقوله: إن اللذة إدراك الملائم، فيلزم أن يقال: ذات الله ملائمة لذاته، وذلك غير معقول؛ لأن الملاءمة لا تتقرر إلَّا بين شيئين. وهذا الذي قرَّره باطلٌ من وجوهٍ:
أحدها: أن اللذة ليست نفس إدراك الملائم كما زعم، بل هي حالة تنشأ عن الإدراك، فالإدراك سببُها لا نفسها. فهاهنا ثلاثة أشياء: ملائم، وإدراكه، وما ينشأ عن الإدراك من الالتذاذ والفرح والسرور. وكذلك الألم، ليس هو نفس إدراك المنافي، بل حالة تنشأ عن إدراكه. وعلى هذا فإدراك الذات: ملائمٌ. والفرح والرضى ـ الذي سميته لذةً ـ مترتب على إدراك الذات، وهذا أمر معقولٌ لكل عاقلٍ. فإن المخلوق يدرك من ذاته كمالًا يلتذُّ بإدراكه ويُسرُّ ويفرح به، مع كون ذلك الكمال ناقصًا بين عدمين، وهو من غيره ليس منه،
(1)
أخرجه مسلم في «صحيحه» ، وقد تقدم (ص 620) تخريجه.
فكيف بمن له الكمال المطلق الواجب السرمد، وهو لم يستفدْه من غيره، وهو أعلم بكماله وكل ما سواه.
الثاني: قولك: الملاءمة لا تتقرَّر إلَّا بين اثنين. جوابه: أن مثل هذا يكون في الذات الواحدة باعتبارين، كما قال تعالى:{وَنَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اِلْهَوى} [النازعات:39]، وقال:{إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّو} [يوسف: 53] وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 22]. فالنفس واحدةٌ، وهي الناهية المنهية، والأمارة المأمورة، والظالمة المظلومة، كما تكون هي العاقلة المعقولة. والإنسان يحب نفسه، فيكون هو المحِبَّ المحبوبَ، فإذا كان هذا أمرًا معقولًا في المخلوق غير ممتنعٍ؛ فكيف يمتنع في حقِّ الخالق؟
الثالث: أنه سبحانه يحب صفاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ»
(1)
. وقال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»
(2)
. و «إِنَّ اللهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ»
(3)
...........................................................
(1)
أخرجه الإمام أحمد (26021) والترمذي (3513) والنسائي في «السنن الكبرى» (7665، 10642، 10643) وابن ماجه (3850) والحاكم (1/ 530) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وصحح إسناده ابن حجر في «نتائج الأفكار» (5/ 188).
(2)
أخرجه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الترمذي (2799) والبزار (1114) وأبو يعلى (790، 791) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1186) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ، وخالد بن إلياس يُضعَّف» . وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد» . وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح» . وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 258): «وفي إسناده مقال» .
و «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»
(1)
. و «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»
(2)
. ورُوِيَ «إِنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كَلَّ عَلِيمٍ»
(3)
.
وإذا كان يحب صفاته وهي قائمة بذاته فكيف بمحبته لذاته؟!
الوجه
التاسع: أن يقال: ما المانع أن
(4)
يحب ويرضى ويفرح ويضحك بما يكون من الأمور الحادثة الموافقة لمحبته ورضاه،
كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة، مثل ما في «صحيح البخاري»
(5)
وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي. وَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ. وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ» .
(1)
أخرجه البخاري (6410) ومسلم (2677) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
علَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (236) بصيغة التمريض، وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (18):«لم أظفر له بإسناد» . وأورده تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (6/ 88) ضمن أحاديث «الإحياء» التي لم يجد لها إسنادًا.
(4)
«المانع أن» ألحقه الناسخ على حاشية «ح» لكن خرَّج اللحق قبل «يقال» فاختل السياق، ولعل المثبت هو الصواب.
(5)
(7405) دون قوله: «وَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ» . وأخرجه مسلم (2675) بتمامه.
وفي «الصحيح»
(1)
عن البراء بن عازبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَقُولُ بِفَرَحِ عَبْدٍ إِذَا انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ، تَجُرُّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا، فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟» قلنا: شديدًا، يا رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَاللَّهِ، لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ» .
وفي «الصحيح»
(2)
عن أنسٍ أن رسول الله [ق 123 أ] صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ أَضلَّهُ بِأَرْضِ فَلاةٍ» .
وفي كتاب «العلل» للدارقطني
(3)
: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ وَالمُضِّلِّ
(4)
الوَاجِدِ وَالظَّمْآنِ الْوَارِدِ
(5)
» هذا أو نحوه.
(1)
«صحيح مسلم» (2746).
(2)
أخرجه البخاري (6309) ومسلم (2747).
(3)
(7/ 269 - 270) معلقًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:«من الضال الواجد» . والحديث أخرجه أبو عوانة في «مستخرجه» ـ كما في «إتحاف المهرة» (18722) ـ والحسن الخلال في «المجالس العشرة» (86) وابن عساكر في «التوبة» (5) وأبو طاهر السِّلفي في «مشيخة أبي عبد الله الرازي» (24) من طريق عطية بن بقية بن الوليد، عن أبيه، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الدارقطني:«تفرد به عنه ابنه عطية بن بقية» .
(4)
في «علل الدارقطني» : «الضال» .
(5)
«من العقيم الوالد» أي: من المرأة التي لا تلد إذا ولدت، «ومن الضال الواجد» أي: الذي ضل راحلته ثم وجدها، «ومن الظمآن الوارد» أي: ومن العطشان إلى ورود الماء». «فيض القدير» (5/ 252).
ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره. فتأمَّل سائرًا وحدَه بأرض مفازةٍ معطشةٍ لا ماء بها ولا زاد، ضلت راحلته فيها فاشتد جوعه وظمؤه، فأيس من الحياة، فاضطجع في أصل شجرةٍ ينتظر الموت، ثم استيقظ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه، كما جاء ذلك مصرحًا به في بعض طرق هذا الحديث
(1)
. فهل في الفرح قط أعظم من هذا. ولهذا الفرحِ بتوبة العبد سرٌّ أكثر الخلق محجوبون عنه، لا تبلغه عقولهم. وبه يُعرف سرُّ تقدير ما يُتاب منه على العبد؛ لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الربِّ سبحانه من عدمه. فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحِكَم إلَّا هذه وحدها لكانت كافيةً، فكيف وفيه من الحِكَم ما لا يحصيه إلَّا الله، ممَّا ليس هذا موضعه
(2)
.
الوجه العاشر: أن الجهمي احتجَّ على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتأثير عن العبد، والمخلوق لا يؤثر في الخالق، فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المُحْدَث قد أثَّر في القديم تلك الكيفيات، وهذا محالٌ.
وهذه الشُّبهة من جنس شُبَههم التي تُدهش السامع أول ما تطرق سمعه وتأخذ منه وتروعه، كالسِّحر الذي يُدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره، وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره على خصمه. وهكذا شُبه
(1)
أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
توسع المصنِّف في ذكر هذه الحِكَم في «مفتاح دار السعادة» (2/ 811 - 847) وفي «طريق الهجرتين» (362 - 372). وقد ابتدأه المصنِّف في «المفتاح» بقوله: «وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة، قل من استفتحه من الناس، وهو شهود الحكمة البالغة في قضاء السيئات وتقدير المعاصي
…
فقل أن ترى لأحدهم فيه ما يشفي أو يُلم».
القوم كلها، هي كحبال السحرة وعِصِيِّهم التي خُيِّل إلى موسى أنها تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسى (66) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ اَلْأَعْلى (67) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلَقَّفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ اُلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} [طه: 66 - 68]. فهكذا الحجة الحق تبطل جميع الشُّبه الباطلة التي هي للعقول كحبال السحرة وعصيِّهم للأبصار. وجواب هذه الشبهة من وجوه:
أحدها: أن الله سبحانه خالق كل شيءٍ وربُّه ومليكه
(1)
، وكل ما في الكون من أعيان وأفعال وحوادث فهو بمشيئته وتكوينه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قضيتان لا تخصيص فيهما
(2)
بوجهٍ من الوجوه. وكل ما يشاؤه فإنما يشاؤه بحكمةٍ اقتضاها حمدُه ومجدُه، فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمسببات
(3)
، فهو سبحانه خالق الأسباب التي ترضيه وتغضبه، وتسخطه ويفرح بها، والأشياء التي يحبها ويكرهها، هو سبحانه خالق ذلك كله، فالمخلوق أعجز وأضعف أن يُؤثر فيه سبحانه، بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه بأنه يحب هذا ويرضى به، ويبغض هذا ويسخطه، ويفرح بهذا، فما أثَّر غيره فيه بوجهٍ.
الثاني: أن التأثير لفظ فيه اشتباه وإجمال، أتريد به
(4)
أن غيره لا يُعطيه كمالًا لم يكن له ولا يُوجد
(5)
فيه صفة كان فاقدها؟ فهذا معلومٌ بالضرورة.
(1)
«ح» : «ملائكته» . وهو تحريف، والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «فيها» . والمثبت من «م» .
(3)
«ح» : «والمشيات» . وهو تصحيف، والمثبت من «م» .
(4)
من «م» .
(5)
«ح» : «وجد» . والمثبت من «م» .
أم تريد
(1)
به أن غيره لا يُسخطه ولا يُغضبه ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه أو نحو ذلك؟ فهذا غير ممتنعٍ. وهو أول المسألة، وليس معك في نفيه إلَّا نفس الدعوى بتسمية ذلك تأثيرًا في الخالق، وليس الشأن في الأسماء، إنما الشأن في المعاني والحقائق. وقد قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اُتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اَللَّهَ} [محمد: 29]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في أهل الصُّفَّة: «إِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ» . فما الدليل العقلي أو النقلي على استحالة هذا؟!
الثالث: أن هذا يبطل محبته لطاعات المؤمنين، وبغضه لمعاصي المخالفين، وكراهته لظلم الظالمين إذا فعلوا ذلك. وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطرة الإنسانية واتفاق أهل الأديان كلهم وإطباق الرُّسل، بل هذا حقيقة دعوة الرُّسل بعد التوحيد
(2)
.
الرابع: أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم، وإغاثة لهفاتهم، وسماع أصواتهم، ورؤية حركاتهم وأفعالهم، فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم. فما كان جوابك عنها في محل الإلزام. فهو جواب منازعيك لك في هذا المقام.
فصل
الوجه الحادي عشر: أن قولك: «يستحيل أن يخلق الملتذ به في الأزل وألَّا يخلقه في الأزل
…
» إلى آخره، مبنى الحجة على مقدمتين:
(1)
«ح» : «أنه يريد» . والمثبت من «م» .
(2)
يريد أن حقيقة دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بعد التوحيد محبة الله لطاعات المؤمنين، وبغضه لمعاصي المخالفين، وكراهته لظلم الظالمين.
إحداهما: إنكار وجود الملتذ به قبل وجوده.
والثانية: وجوب حصوله إذا كان كذلك.
ونحن نتكلم على المقدمتين فنقول: لا نسلم وجوب وجود الملتذ به والحالة هذه، ولا أنه يكون كالمُلجأ إليه.
فإن قلت: داعية اللذة إذا تحققت خالية عن الموانع وكان الملتذ به ممكن الحصول، فالعلم الضروري حاصل بوجوب حصوله.
فالجواب: أن الداعي [ق 123 ب] الجازم مع القدرة التامة يوجب وجود المقدور بلا ريب. والداعي هو إمَّا الإرادة الحادثة، أو العلم المقتضي للإرادة، أو مجموعهما. وأمَّا مجرد كون الشيء سببًا للذة، فهذا لا يوجب الإرادة الحادثة، بل العلم الضروري حاصلٌ بضدِّ ذلك، فقد يحصل للإنسان نوعٌ ما من أنواع الالتذاذ بالشيء مع قدرته عليه ولا يفعله. وذلك أن اللذة تَتْبع المحبة، وقد لا تتم محبة الملتذ به وإرادته فلا يوجد؛ لضعف المحبة والإرادة المتعلقة به، أو لاستلزامه
(1)
فوات ما هو أحب إليه منه، أو لحصول ما هو أكره إليه. والمعهود في بني آدم أن الإرادة [الجازمة]
(2)
لا يجب حصولها منهم إلَّا للذة التي يُوجب فقدها ألمًا، فمتى استلزم عدم اللذة وجود الألم قصدوا دفع الألم بالذات وحصول اللذة بالعرض. وقد يتعلق القصد الذاتي بالأمرين، وقد يغيب بشعوره بأحدهما عن
(3)
الآخر لاستيلاء سلطانه على الآخر. أمَّا إذا لم يكن أحدهم متألمًا بعدم اللذة، ولكن في وجود
(1)
«ح» : «لا يستلزمه» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الجارية» .
(3)
«ح» : «على» .
الملتذ به زيادة لذة فقط، وليس في فقده ألمٌ، فهذا ليس الواقع وجوب
(1)
تعلق الإرادة به، بل قد يريد ذلك وقد لا يريده استغناءً بما عنده من اللذة عن تلك الزيادة، فلا يجب فيه حصول الداعي التام، وهذا أمرٌ محسوسٌ.
الوجه
الثاني عشر: أنا لو فرضنا في حقنا أنه يجب تحصيل المفروح به مع القدرة عليه، فلِمَ قلت: إنه في حقِّ الربِّ تعالى كذلك؟
وليس معك إلَّا مجرد القياس التمثيلي الذي يتضمن تمثيل الله بخلقه. والقضية الكلية التي ادعيتها ممنوعةٌ، والعلم الضروري إذا سُلِّم فإنما هو في حقِّ المخلوق، فأمَّا في حقِّ الخالق فليس هناك إلَّا مجرد القياس، وهو منتقض
(2)
بسائر الأمور الفارقة بين الله وبين خلقه، ومن جملتها الإرادة والمحبة والرضا؛ فإن الإنسان إذا أراد الفعل وهو قادر عليه وجب وجوده منه، والله تعالى مريد لجميع الكائنات وهو قادر عليها، ومع هذا فلا توجد إلَّا في مواقيتها، لا توجد قبل ذلك. والعبد يقع مراده حين
(3)
قدرته عليه والله تعالى متأخر
(4)
مراده مع دوام قدرته عليه.
الوجه الثالث عشر: أن العبد إنما يجب مع قدرته وداعيته حصول مراده ولذته؛ لأنه يتضرر بعدم حصوله، فإن كماله وصلاحه بحصول ما يحبه ويريده ويلتذ به، وبعدمه يكون متضررًا ناقصًا! والله سبحانه لا يلحقه الضرر بوجهٍ ما.
(1)
كذا في «ح» ، والعبارة فيها خلل، والمعنى: ليس بمقتضٍ وجوبَ.
(2)
«ح» : «مشقص» . والمثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «فيرين» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
كذا في «ح» ، والعبارة غير بينةٍ.
الوجه
الرابع عشر: لِمَ قلتَ بأن كل ما يحبه الربُّ سبحانه ويرضاه ويفرح به يمكن وجوده في وقتٍ واحدٍ? فإن ذلك قد يستلزم الجمع بين النقيضين،
فإن الحوادث المتعاقبة يستحيل اجتماعها في آنٍ واحدٍ، فإذا كان يحب ما يمتنع حصوله كله في آنٍ واحدٍ كانت محبته ورضاه وفرحه به متعلقًا به وقت وجوده، وحصوله ووجوده قبل ذلك محالٌ، والمحال لا تتعلق به المحبة والفرح. يوضحه:
الوجه
الخامس عشر: أنه سبحانه إذا كان يحب أمورًا، وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها كان وجود تلك الأمور مستلزمًا للوازمها التي لا تُوجد بدونها.
مثاله: محبته للعفو والمغفرة والتوبة، وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه، ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ، فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يُتاب منه ويغفره ويعفو عن صاحبه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
(1)
. وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به، وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب، فضلًا عن أن يكون قديمًا، فهذا المفروح به يجب تأخُّره قطعًا. ومثل هذا ما رُوي أن آدم لمَّا رأى بنيه ورأى تفاوتهم قال:«يا ربِّ هلَّا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببتُ أن أُشكَر»
(2)
. ومعلومٌ أن محبته للشكر على ما فضَّل به
(1)
أخرجه مسلم (2749) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «زيادات المسند» (21633) والفريابي في «القدر» (52) والآجري في «الشريعة» (435) والحاكم في «المستدرك» (2/ 353) والبيهقي في «القضاء والقدر» (66) والضياء في «المختارة» (3/ 324) عن أُبي بن كعب رضي الله عنه موقوفًا. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 25): «رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح» .
بعضهم على بعضٍ يوجب تفضيل بعضهم على بعضٍ، ولا يحصل ذلك مع التسوية بينهم، فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين، وذلك محالٌ.
الوجه السادس عشر: أن يقال: اللذة ـ التي هي الفرح والرضا والسرور ونحوها ـ يجب وجودها من القادر إذا كان مستغنيًا عنها بلذةٍ أخرى أكمل منها أم مطلقًا؟ إن قلتم بالثاني فهو ممنوعٌ، وإن قلتم بالأول قيل: فالله سبحانه مستغنٍ عن أن يُحْدِث كل ما يقدر [ق 124 أ] عليه من هذه الأمور في وقتٍ واحدٍ. بل إذا كان العبد مستغنيًا عن فعل ما هو من جنس اللذات مع قدرته على ذلك فالله أجلُّ وأعظم.
فإن قال: إذا كان غنيًّا عنها لم تكن لذة.
قيل: إن صحَّ هذا فهو حجة عليكم ومبطلٌ لحجتكم.
الوجه
السابع عشر: أن يقال: هو لا يحدثها إلَّا إذا أحبها ورضيها وتضمنت فرحه بها،
وحيث لا يكون ذلك لا تكون محبوبة ولا مرضية له ولا مفروحًا بها. فالأمور التي يحبها الله ويرضاها ويفرح بها لها صفاتٌ ومقادير تقتضي أن تكون محبوبةً مرضيةً مفروحًا بها في وقتٍ دون وقتٍ، كما تقتضي أن تكون مراده في وقتٍ دون وقتٍ.
فإن قلت: هذا يقتضي حلول الحوادث به.
قيل: هذا لا يمتنع على أصول الطائفتين، فمن قال بهذه المسألة من المتكلمين والصوفية والفقهاء وجمهور أهل الحديث وأكثر الفلاسفة لم يرد هذا عليه. ومن منع ذلك فإنه يقول فيه ما يقوله في محبته ورضاه: أنه قديمٌ أزليٌّ لم يزل محبًّا راضيًا مواليًا لمن أحبه ورضيه ووالاه، ولم يزل غضبان مبغضًا لمن غضب عليه وأبغضه وعاداه. ويقول: إن المتجدد هو التعلق فقط. وهذا قول ابن كُلَّاب والأشعري ومن وافقه من الفقهاء والمُحَدِّثين والمتكلمين.
الوجه
الثامن عشر: أن يقال: لو صحَّ ما ذكرته كان مستلزمًا ألَّا يخلق الربُّ تعالى شيئًا، أو يخلق كل شيءٍ قبل خلقه إياه.
وهو من جنس شُبه الدهرية الفلاسفة في قدم العالم، قالوا: المقتضي لوجود العالم إن كان تامًّا في الأزل وجب وجوده، وإن لم يكن تامًّا لزم ألَّا يوجد.
وهذا منقوضٌ بما
(1)
يوجد من الحوادث اليومية. ووجه الإلزام أن يقال: لو صحَّ عليه الخلق والإبداع والإرادة لكان إمَّا خالقًا لمراده في الأزل وهو محالٌ، وإمَّا ألَّا يخلقه في الأزل وهو محالٌ؛ لأنه ممكنٌ مقدورٌ، وكل من صحَّت عليه الإرادة والخلق والإبداع إذا كان عالمًا بقدرته على تحصيل مراده وهو ممكنٌ مقدورٌ فإنه يكون كالمُلجأ إلى إيجاد مراده.
فإن قلت: الإرادة من شأنها أن تخصص
(2)
وتميز، والله سبحانه أراد
(1)
«ح» : «ما» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «تخصيص» . والمثبت هو الصواب.
وجود كل شيءٍ في وقته على صفةٍ ومقدارٍ وجعل لكل شيءٍ قدرًا.
قلت: هذا حقٌّ في نفسه، ولكن هو حجة عليك لا لك، فإنه سبحانه كما أراد وجود كل شيءٍ في وقته على صفةٍ ومقدارٍ يختص به، فهكذا محبته ورضاه لما يرضى به وفرحه بما يفرح به سواء.
الوجه التاسع عشر: أنَّا متى رجعنا إلى الموجود، فمتى علمنا أن أحدنا إذا كانت إرادته جازمةً وقدرته تامةً وجب وجود الفعل منه مقترنًا بإرادته وقدرته، ولا يتأخر الفعل إلَّا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة. وهذا أمرٌ يجده الإنسان من نفسه، وهذا النافي لا يُنازع في ذلك ويُقرُّ به ويُقرِّره، فإذا كان هذا حالنا فيما نريده ونقدر عليه، فإذا كان الله عندك قادرًا مريدًا إرادةً جازمةً وجب وجود جميع مراده في الأزل، وذلك محالٌ، ووجب ألَّا يكون في الأزل لأنه متعاقب وهو محالٌ؛ لوجود القدرة التامة والإرادة الجازمة، وما أفضى إلى المحال فهو محالٌ، فيلزم انتفاء القدرة والإرادة كما ذكرتَ في انتفاء المحبة والفرح والرضا الذي أدخلته في قسم اللذة سواءً بسواءٍ. ومهما أجبت
(1)
به عن هذا فهو بعينه جوابنا لك.
إن قلتَ: إن إرادة الله لا تقاس بإرادة خلقه.
قيل لك: وفرحه ورضاه لا يقاس بفرحهم ورضاهم.
وإن قلت: إرادة الله تخصيص الأشياء بخواصها.
قيل لك: هذا بعينه موجودٌ في محبته ورضاه؛ فإنه مستلزم للإرادة أو نوعٍ منها، وذلك مستلزم لما نفيته من لوازمه. وهو للفلاسفة ألزم، فإن كل كائن
(1)
«ح» : «أجيب» .
له [ما]
(1)
يختص به صفةً وقدرًا، وللحوادث أوقات يختص بها، فذاته سبحانه إن كانت مقتضية لوجود كل موجودٍ وجب وجود كل ممكنٍ مقارنًا لوجوده، وإن لم تكن مقتضية للوجود لزم ألَّا يوجد عنه شيءٌ.
فإذا قالوا: لا يمكن للأمر إلَّا كذا، كان هذا جوابنا بعينه في هذا المقام.
الوجه
العشرون: أنهم فسَّروا في مسألة التحسين والتقبيح الحمد والذمَّ بما يستلزم اللذة والألم،
كما فعل ابن الخطيب وغيره لما ناظروا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين. قال
(2)
بعد مطالبته لهم بحقيقة المدح والذم:
«فإن قيل: فما حقيقة المدح والذمِّ عندكم?
قلنا: المدح هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقًّا لأن يفعل به ما يفرح به أو يلتذ به، والذمُّ هو الإخبار عن كونه مستحقًّا [ق 124 ب] لأن يفعل به ما يحزن به».
قال: «ولكن إذا فسَّرنا المدح والذمَّ بذلك استحال تصوره في حقِّ الله؛ لاستحالة الفرح والغمِّ عليه» .
قال: «وقد [يمكننا أن نوجه]
(3)
هذا السؤال ابتداء على سبيل المطالبة من غير التزام لتقسيمٍ [حاصر]
(4)
، فنقول: معنى الاتضاع والارتفاع الأمر الذي يسوءه ويحزن به، والذي يسرُّه ويفرح به، أو أمر آخر وراء ذلك. فإن كان الأول لم يتقرَّر معناه في حقِّ الله تعالى لاستحالة الفرح والحزن عليه،
(1)
سقط من «ح» .
(2)
«نهاية العقول» (3/ 241 - 242).
(3)
«ح» : «حكينا أن توجُّه» . والمثبت من «نهاية العقول» .
(4)
«ح» : «خاص» . والمثبت من «نهاية العقول» .
وإن كان الثاني فبيِّنوه، فإنا بعد الإنصاف
(1)
جرَّبنا أنفسنا فلم نجد للمدح والذمِّ حاصلًا وراء الفعل المؤدي إلى الفرح والحزن».
فليتدبَّر العاقل هذا الكلام حقَّ التدبُّر وما يلزم منه، فإنه إذا كان حقيقة المدح هو الخبر الذي يتضمن فرح الممدوح ولذته، والذمُّ خبرٌ يتضمن ألم المذموم فلا يتصور مدحٌ ولا ذمٌّ عنده إلَّا مع اللذة والألم. وقد عُلم بالاضطرار من دين المسلمين كلهم، بل ومن دين جميع الرسل أن الله سبحانه يُحمد ويُمدح ويُثنى عليه، وأنه يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، بل حمده والثناء عليه من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات.
وفي «المسند»
(2)
من حديث الأَسْود بن سَرِيع قال: أَتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يا رسول الله، إنِّي قد حَمِدتُ ربي تبارك وتعالى بِمحامِدَ ومِدَحٍ، وإيَّاكَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّ رَبَّكَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ» . فقال: فجَعَلتُ أُنْشِدُه.
وفي «الصحيحين»
(3)
من حديث عبد الله بن مسعودٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ
(1)
«نهاية العقول» : «الاتصاف» .
(2)
(15830). والحديث أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (868) والنسائي في «السنن الكبرى» (7698) والطبراني في «المعجم الكبير» (1/ 282) والحاكم في «المستدرك» (3/ 614) والضياء في «الأحاديث المختارة» (4/ 250 - 252) وغيرهم. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 118): «رواه أحمد والطبراني بنحوه بأسانيد، ورجال أحدها عند أحمد رجال الصحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3179).
(3)
البخاري (4634) ومسلم (2760).
أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ». ولمسلم
(1)
ومن محبته سبحانه الثناء عليه يصدِّق المثنيَ عليه بأوصاف كماله، كما في «النسائي»
(2)
و «الترمذي»
(3)
و «ابن ماجه»
(4)
من حديث الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: يَقُولُ تبارك وتعالى: [صَدَقَ عَبْدِي]
(5)
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا اللهُ أَكْبَرُ. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَلَا شَرِيكَ لِي. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ. وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي». فمن محبته للثناء عليه صدَّق المثني عليه ووافقه في ثنائه عليه.
(1)
(2760).
(2)
«السنن الكبرى» (9774)، و «عمل اليوم والليلة» (30).
(3)
(3430) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن، وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، بنحو هذا الحديث بمعناه، ولم يرفعه شعبة» .
(4)
(3794). والحديث أخرجه ابن حبان (851) والحاكم (1/ 46) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين» . وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (4/ 193): «هذا حديث صحيح» .
(5)
سقط من «ح» .
ونظير هذا ما في «الصحيح»
(1)
ولمَّا كان حمده والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة ـ التي هي عماد الإسلام، ورأس الطاعات ـ شُرع في أولها ووسطها وآخرها وجميع أركانها، ففي دعاء الاستفتاح يُحمد ويُثنى عليه ويمجَّد، وفي ركن القراءة يحمد ويُثنى عليه ويُمجد، وفي الركوع يُثنى عليه بالتسبيح والتعظيم، وبعد رفع الرأس منه يحمد ويُثنى عليه ويُمجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، ومِلْءَ مَا شِئْتَ [مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ]
(2)
، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»
(3)
. وفي السجود يُثني عليه بالتسبيح المتضمن لكماله المقدَّس والعلوِّ المتضمن لمباينته لخلقه، وفي التشهد يُثني عليه بأطيب الثناء من التحيات، ويختم ذلك بذكر حمده ومجده.
(1)
«صحيح مسلم» (395).
(2)
من «صحيح مسلم» .
(3)
أخرجه مسلم (471) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فصل
ومن محبته للثناء عليه شرعه للداعي قبل سؤاله ودعائه؛ ليكون وسيلة له بين يدي حاجته، كالمتقرب إلى المسؤول بما يحبه ويسأله بين يدي مطلوبه، كما في «السنن»
(1)
و «المسند»
(2)
من حديث فضالة بن عبيد قال: جاء رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَفَرَغْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ [ق 125 أ] بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ ادْعُهُ» . قال: ثم صَلَّى رجلٌ آخرُ بعد ذلك، فحَمِدَ اللَّه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ» .
وفي «السنن»
(3)
عن ابن مسعودٍ قال: كنت أصلي فلمَّا جلست بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ» .
وهكذا في أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح: لمَّا يأتوا
(4)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم، فقال: «فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ فَأَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ
(1)
أبو داود (1481) والترمذي (3476، 3477) والنسائي (1284) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
(2)
(24568). والحديث أخرجه ابن خزيمة (709) وابن حبان (1960) والحاكم (1/ 230) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
(3)
أخرجه الترمذي (593) وقال: «حديث حسن صحيح» .وقد تقدم (ص 561) تخريجه.
(4)
كذا! والمقصود: إذا أتوا.
تُشَفَّعْ»
(1)
. وفي لفظٍ
(2)
: «فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ» . فمن محبته سبحانه للثناء عليه ألهمَ رسوله منه في ذلك المقام ما يكون وسيلةً بين يدي شفاعته.
وفي «الصحيح»
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» .
وفي «الصحيحين»
(4)
عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ» . وقد تقدم ذلك من حديث ابن مسعودٍ. وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُشْرِقُ لَهُ وَجْهُكَ»
(5)
. وفي الأثر الآخر: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى»
(6)
. وفي
(1)
البخاري (7510) ومسلم (193) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (7440).
(3)
رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه.
(4)
البخاري (7416) ومسلم (1449).
(5)
لم نقف عليه بهذا اللفظ، ثم وجدت في «العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3638) قال عبد الله: قلت لأبي: ترى المسيب بن شريك كان يكذب؟ قال: معاذ الله، ولكنه كان يخطئ. قال أبي: سمعته يدعو دعاءً حسنًا، وكان في دعائه بعض ما ينكره الجهمية؛ سمعته يقول: نور أشرق له وجهك».
(6)
أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1725) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لأهل قباء، ونسبه السيوطي ـ كما في «كنز العمال» (5100) ـ للديلمي أيضًا، وقال:«وفيه نافع أبو هرمز متروك» . وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (11) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4266) عن الحسن البصري قوله.
الحديث الآخر: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ»
(1)
أي: تسبيحًا يبلغ رضا نفسه.
فصل
ومن محبته لحمده والثناء عليه أنه جعل حمده مفتاح كل كلامٍ ذي بالٍ وخاتمة كل أمرٍ، وافتتح كتابه بحمده وختم آخره بحمده، وافتتح خلقه بحمده، وجعل حمده خاتمة الفصل بينهم، فقال تعالى:{اِلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ} [فاطر: 1] وقال: {اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَجَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَاَلنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الزمر: 72] فافتتح خلقه وأمره بحمده، وختمهما بحمده.
وفي «المسند»
(2)
و «السُّنن»
(3)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
أخرجه مسلم (2726) عن أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها.
(2)
(8833).
(3)
أبو داود (4840) والنسائي في «السنن الكبرى» (10255) وابن ماجه (1894). والحديث أخرجه أبو عوانة في «المسند المستخرج» (1) وابن حبان (1، 2) والدارقطني في «السنن» (1/ 427) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 208) كلهم من طريق قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال أبو داود:«رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا» . وقال الدارقطني: «تفرد به قرة عن الزهري عن أبي سلمة، وأرسله غيره عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرة ليس بقوي في الحديث» . وقال: «والمرسل هو الصواب» . وكذا أعله الدارقطني في «العلل» (1391). والحديث صححه ابن الملقن في «خلاصة الإبريز» (2) ونقل عن ابن الصلاح تحسينه، وحسنه النووي في «الأذكار» (ص 159) وابن حجر في «نتائج الأفكار» (3/ 277). وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (7/ 528) و «الأجوبة المرضية» للسخاوي (48).
«كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ
(1)
». ولهذا كان سُنة المسلمين في صلاتهم وخطبهم كلها افتتاحها بالحمد حتى خطبة الحاجة
(2)
.
ولهذا كان أول من يُدعى إلى الجنة الحامدون
(3)
. والنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
(1)
قوله: «أجذم» معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له، وفسَّره أبوعبيد فقال: الأجذم المقطوع اليد. «معالم السنن» (4/ 116).
(2)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره
…
». أخرجه الإمام أحمد (3797، 3798، 4197، 4198) وأبو داود (2118) والترمذي (1105) والنسائي (1403) وابن ماجه (1892) والحاكم في «المستدرك» (2/ 182) وقال الترمذي: «حديث حسن» . وجمع الشيخ الألباني طرق هذا الحديث في جزء مفرد مطبوع.
(3)
كذا في «ح» ، ولعلها:«الحمَّادون» . فقد أخرج البزار (5028) والطبراني في «المعجم الصغير» (288) و «المعجم الأوسط» (3033) و «المعجم الكبير» (12/ 19) والحاكم في «المستدرك» (1/ 502) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (82) و «حلية الأولياء» (5/ 69) والبيهقي في «الدعوات الكبير» (1/ 206) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى إلى الجنة الحمَّادون الذين يحمدون الله في السراء والضراء» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 95): «رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه يحيى القطان وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه، وإسناده حسن» . وأخرجه أسد بن موسى في «الزهد» (78) والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ـ كما في «بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» (1122) ـ وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (6/ 62) عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا، قال ابن حجر في «المطالب العالية» (4557):«هذا موقوف، إسناده حسن» . وينظر: «الأمالي المطلقة» لابن حجر (ص 23 - 24) و «السلسلة الضعيفة» للألباني (632). وفي الباب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (2305) وعبد بن حميد في «المنتخب» (1581). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 399) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 9).
بيده لواء الحمد
(1)
،
وآدم ومن دونه تحت ذلك اللواء. فخصَّ اللواء بالحمد لأنه أحب شيءٍ إلى الله، واشتق لأحب خلقه إليه وأكرمهم
(2)
عليه من الحمد اسمين يتضمنان كثرة حمده وفضله، وهما محمد وأحمد، وسمَّى أمته الحامدين
(3)
، .........................................................
(1)
ورد من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد وعبد الله بن سلام وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم:
فأما حديث ابن عباس فأخرجه الإمام أحمد (2546) والترمذي (3616) وقال الترمذي: «هذا حديث غريب» .
وأما حديث أنس فأخرجه الإمام أحمد (12469) والترمذي (3610) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الترمذي (3148، 3615) وابن ماجه (4308) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
وأما حديث عبد الله بن سلام فأخرجه أبو يعلى (7493) وابن حبان (6478) والطبراني في «المعجم الكبير» (14/ 351) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (1456) والضياء في «المختارة» (9/ 455).
وأما حديث عبادة فأخرجه الحاكم (1/ 83) وقال الحاكم: «هذا حديث كبير في الصفات والرؤية صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» .
(2)
«ح» : «وألزمهم» . وهو تحريف.
(3)
«ح» : «الحامدون» . والأصوب: «الحمادين» . فقد أخرج الطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 89) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صفتي أحمد المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ السيئة، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وأمته الحمادون
…
». قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 271): «رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم» . وهذا إنما يُعرف من قول كعب الأحبار؛ أخرجه الدارمي في «مسنده» (5، 7، 8) وغيره.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الدعاء الحمد
(1)
.
فصل
ومن محبته للثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أنه أمر من ذكره بما لم يأمر به في غيره
(2)
، فقال تعالى:{وَاَذْكُرُوا اُللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] فعلَّق الفلاح بكثرة ذكره.
وقال: {اِلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] فعمَّ بذكره أحوال العباد كلها؛ لأن العبد إمَّا أن يكون قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، فأراد منه ذكره في هذه الأحوال كلها.
وأخبر أنه من ألهاه ماله وولده عن ذكره فهو خاسر؛ فقال: {* يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اِللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اُلْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
(1)
أخرجه الترمذي (3383) والنسائي في «السنن الكبرى» (10599) وابن ماجه (3800) وابن حبان (846) والحاكم (1/ 498) عن جابر رضي الله عنه. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 64): «هذا حديث حسن» .
(2)
«ح» : «غير» .
وأمر بذكره في أعظم المواطن التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه ـ وهي حاله عند ملاقاة عدوه ـ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاَثْبُتُوا وَاَذْكُرُوا اُللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 46]. وفي «الترمذي»
(1)
وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ
(2)
».
وجعل سبحانه ذِكْره سببًا لصلاته على عبده وذكره له؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اُللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَكَانَ
(1)
(3580) عن عُمارة بن زَعْكَرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد» . والحديث أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (9/ 436) وابن أبي عاصم في «الجهاد» (130) والدولابي في «الكنى» (1241) وابن عدي في «الكامل» (8/ 548) والبيهقي في «شعب الإيمان» (553) وفيه عفير بن معدان، وقال ابن عدي:«ولعفير بن معدان غير ما ذكرت من الحديث، وعامة رواياته غير محفوظة» . وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 494 (: «لم يصح إسناده». وله شاهدان مرسلان، الأول: أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (957) عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير بن نفير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2878) عن محمد بن زياد الألهاني عن أشياخه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حجر: «وهو حسن غريب، وقول الترمذي: ليس إسناده بقوي. يريد ضعف عفير، لكن وجدت له شاهدًا قويًّا مع إرساله أخرجه البغوي فلذلك حسنته، وقول الترمذي: غريب. أراد غرابته من جهة تفرد عفير بوصله، وإلا فقد وُجد من وجه آخر» . نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (2/ 310) وابن علان في «الفتوحات الربانية» (5/ 62 - 63) ..
(2)
قرنه بكسر القاف وسكون الراء: أي عدوه المقارن له المكافئ له في القتال. «فيض القدير» (2/ 310).
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43] وقال تعالى: {فَاَذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 151].
وجعل تِرْكان
(1)
ذكره والثناء عليه سببًا لنسيانه لعبده وإنسائه نفسه، فلا يلهمه مصالحه ولا يوفقه لإرادتها وطلبها؛ فقال تعالى:{نَسُوا اُللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ نَسُوا اُللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] فلمَّا نسوا ذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده نسيهم من رحمته وأنساهم مصالح نفوسهم، فلم يعرفوها ولم يطلبوها، بل تركوها مهملة معطلة مع نقصها وعيوبها.
فصل
ومن محبته للثناء عليه وتحميده وتمجيده أنه وعد عليه بما لم يعد به على غيره كما في «الصحيح» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ [ق 125 ب] مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(2)
. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذِّكر رياض الجنة، كما في «السنن»
(3)
و «المسند»
(4)
من حديث جابرٍ قال: خرج علينا
(1)
«ح» : «برهان» . والمثبت أقرب للرسم، يقال: تركه يتركه تركًا وتِركانًا بالكسر: أي خلاه. «تاج العروس» (27/ 91).
(2)
أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2692).
(3)
لم نقف عليه في «السنن» من حديث جابر، ووجدناه في الترمذي (3509) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرًا، وقال الترمذي:«هذا حديث غريب» . وعنده (3510) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» . وينظر «السلسلة الصحيحة» (2562).
(4)
لم نقف عليه في «المسند» من حديث جابر، ووجدناه عند عبد بن حميد في «المنتخب» (1105) ومسدد وأحمد بن منيع ـ كما في «إتحاف الخيرة» (6057) ـ وأبي يعلى (1865، 1866، 2138) والطبراني في «المعجم الأوسط» (2501) والحاكم (1/ 494). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد» . وتعقبه الذهبي في «تلخيص المستدرك» وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 23) قال ابن حجر: «مداره على عمر بن عبد الله مولى غفرة ـ بضم المعجمة وسكون الفاء ـ وهو ضعيف» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (16768): «رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في «الأوسط» ، وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد وثقه غير واحد وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح».
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِلَّهِ سَرَايَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحِلُّ وَتَقِفُ عَلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ، فَارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ» .
قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: «مَجَالِسُ الذِّكْرِ، فَاغْدُوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ، وَذَكِّرُوهُ أَنْفُسَكُمْ، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» .
وفي «الترمذي»
(1)
و «صحيح الحاكم»
(2)
عن عبد الله بن بُسْرٍ أن أعرابيًّا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأنبئني بشيءٍ أتشبث به. فقال:«لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» .
وفي «السنن»
(3)
و «صحيح الحاكم»
(4)
عن أبي هريرة قال: قال
(1)
«الجامع» (3375) وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(2)
«المستدرك» (1/ 495) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . والحديث أخرجه الإمام أحمد (17956) وابن ماجه (3793) وابن حبان (814) والضياء في «المختارة» (9/ 60).
(3)
أخرجه الترمذي (3596) باللفظ الذي سيذكره المصنف بعدُ، وسيأتي الكلام عليه.
(4)
«المستدرك» (1/ 673) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . والحديث أخرجه الإمام أحمد (8406) والبيهقي في «شعب الإيمان» (503). وأخرجه مسلم في «صحيحه» (2676) بنحوه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» . قالوا: يا رسول الله وما المُفرِّدون؟ قال: «الَّذِينَ يُهْتَرُونَ
(1)
فِي ذِكْرِ اللهِ». وفي لفظ
(2)
: «وَضَعَ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَوَرَدُوا الْقِيَامَةَ خِفَافًا» .
وفيهما
(3)
عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» .
(1)
أي: يُولعون به. يقال: أُهْتِرَ فلان بكذا واستُهْتِر فهو مُهْتَرٌ به ومُستَهْتَرٌ: أي مولَعٌ به لا يتحدث بغيره، ولا يفعل غيره. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 242).
(2)
أخرج هذا اللفظ: الترمذي (3596) وأبو عوانة في «المستخرج» (11773). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .
(3)
«المستدرك» (1/ 496) من طريق الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدراداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . والحديث ليس في شيء من الكتب الستة بهذا الإسناد، إنما علقه البخاري في «صحيحه» (9/ 153) ووصله الإمام أحمد (11124، 11131، 11132) والبخاري في «خلق أفعال العباد» (451) وابن ماجه (3792) وابن حبان (815) من طريق إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت الحسحاس أن أبا هريرة حدثهم في بيت أم الدرداء به. وهو المحفوظ، ومن رواه عن أبي الدرداء فقد وهم، «وسبب الاشتباه على من رواه عن إسماعيل عن أم الدرداء كون أبي هريرة حدَّث به كريمة وهو في بيت أم الدرداء، ويحتمل مع ذلك أن تكون أم الدرداء حدثت به إسماعيل أيضًا كما حدثت به كريمة؛ فلا يكون هناك وهمٌ، والأول أقعد بطريقة المحدثين، والله أعلم» قاله ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 363). وينظر «علل الدارقطني» (1635).
وفيهما
(1)
عنه أيضًا: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ
(2)
لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ!» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذِكْرُ اللهِ» . وقال معاذ بن جبل: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»
(3)
.
وفيهما
(4)
أيضًا من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
الترمذي (3377) وابن ماجه (3790) والحاكم (1/ 496). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . والحديث أخرجه الإمام أحمد (28172) والبيهقي في «شعب الإيمان» (515، 516) والبغوي في «شرح السنة» (1244). وقال البغوي: «حديث حسن» . وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 57): «وهذا يروى مسندًا من طرقٍ جيدةٍ عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم» . وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 395) والهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 73): «رواه أحمد بإسناد حسن» . وقال ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 98): «هذا حديث مختلف في رفعه ووقفه، وفي إرساله ووصله» .
(2)
«ح» : «وخيرا» .
(3)
قول معاذ رضي الله عنه أخرجه مالك في «الموطأ» (525) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 234 - 235) موقوفًا، وأخرجه الإمام أحمد (22504) والطبراني في «المعجم الكبير» (20/ 166) وفي «الدعاء» (1856) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 235) والبيهقي في «شعب الإيمان» (517، 518) وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 57) مرفوعًا، فاختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح كما قال الدارقطني في «العلل» (982). وينظر «نتائج الأفكار» (1/ 99).
(4)
ابن ماجه (3809) و «المستدرك» (1/ 500، 503). وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال في الموضع الثاني: «هذا حديث على شرط مسلم» . وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بأن فيه راويًا قال أبو حاتم عنه: منكر الحديث. والحديث أخرجه الإمام أحمد (18653، 18679) والبزار في «مسنده» (3236) والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (63) والطبراني في «الدعاء» (1693). وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد» .
«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللهِ التَّحْمِيدَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ، يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرُونَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَفَلَا
(1)
يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الرَّحْمَنِ شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ؟».
وفي «صحيح الحاكم»
(2)
من حديث عَمْرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يُدْرِكْهُ أَحَدٌ كَانَ بَعْدَهُ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ
(3)
».
(1)
«ح» : «أنه لا» .
(2)
«المستدرك» (1/ 500). وقال الحاكم: «سمعت الأستاذ أبا الوليد القرشي يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة، فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. قال الحاكم: لم أخرج من أول الكتاب إلى هذا الموضع حديثًا لعمرو بن شعيب، وقد ذكرت في أول كتاب الدعاء والتسبيح مذهب الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في المسامحة في أسانيد فضائل الأعمال» . والحديث أخرجه الإمام أحمد (6740) والنسائي في «السنن الكبرى» (10337) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (577) والطبراني في «الدعاء» (334). قال المنذري في «الترغيب» (2/ 295) والعراقي في «المغني» (ص 353): «إسناده جيد» .
(3)
«ح» : «عمل» .
وفيه
(1)
أيضًا عن [جابر]
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» .
وفي «الترمذي»
(3)
و «صحيح الحاكم»
(4)
أيضًا عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ إِلَّا كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» .
وفي «صحيح الحاكم»
(5)
أيضًا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ
(1)
«المستدرك» (1/ 501، 512). وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . والحديث أخرجه الترمذي (3464، 3465) وأبو يعلى في «مسنده» (2233) وابن حبان (826) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر» .
(2)
«ح» : «خالد» . وهو تحريف، إنما هو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، كما في «المستدرك» وغيره.
(3)
(3460) من طريق حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب، وروى شعبة هذا الحديث عن أبي بلج بهذا الإسناد، نحوه، ولم يرفعه» . والحديث أخرجه الإمام أحمد (6590، 7093) والبزار في «مسنده» (2448) والنسائي في «السنن الكبرى» (10589) من طريق حاتم مرفوعًا. وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا أبو يونس ـ يعني: حاتم بن أبي صغيرة ـ وهو ثقة» . وأخرجه الترمذي (3460) والبزار (2447) والحاكم (1/ 501) من طريق شعبة موقوفًا.
(4)
«المستدرك» (1/ 501). وقال الحاكم: «حديث حاتم بن أبي صغيرة صحيح على شرط مسلم؛ فإن الزيادة من مثله مقبولة» .
(5)
«المستدرك» (1/ 497) وقال الحاكم: «ذكر الظن مخرَّج في «الصحيح» وذكر الدعاء غريب صحيح». يعني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري (7405) ومسلم (2675).
اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي
(1)
، وَأَنَا مَعَكَ
(2)
إِذَا ذَكَرْتَنِي».
وفي صحيحي الحاكم
(3)
وابن حِبَّان
(4)
وفيهما
(5)
أيضًا عن بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلَّا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعَظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» .
فأخبر أن هذا هو الاسم الأعظم، لما تضمنه من الحمد والثناء والمجد والتوحيد، ولمحبة الربِّ تعالى لذلك أجاب من دعا به.
(1)
في «المستدرك» : «عبدي أنا عند ظنك بي» .
(2)
تكرر في «ح» : «وأنا معك» .
(3)
«المستدرك» (1/ 503) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
(4)
(893) وتقدم تخريجه (ص 560).
(5)
«المستدرك» (1/ 504) و «صحيح ابن حبان» (892) وتقدم (ص 561) تخريج الحديث.
وهذا باب يطول تتبُّعه جدًّا.
والمقصود أنه إذا كان لا معنى للمدح إلَّا الإخبار المتضمن فرح الممدوح، وليس أحدٌ أحب إليه المدح من الله وحمده والثناء عليه وذلك عنده بالمنزلة التي لا يمكن وصفها ولا يحيط بها البشر، كان المنكر لفرحه وما يستلزمه فرحه منكرًا لحقيقة حمده ومدحه والثناء عليه وتمجيده. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الحادي والعشرين: إن هؤلاء الجهمية يُقرُّون بظاهر من القول وينكرون حقيقته، ويصدون عن سبيل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل، وينفرون من أحب الأشياء إلى الله وأكرمها عليه وأعظمها عنده، وهو ذكره بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله، والثناء عليه ومدحه بها وحمده عليها. بل يُكفِّرون من يُثني عليه بها، وينسبونه إلى التشبيه والتجسيم، ويستحلون منه ما لا يستحله المحاربون من أعدائهم. وذلك [ق 126 أ] عين العداوة لله ولرسوله، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، أنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال:«ما عادى عبدٌ ربَّه أشد عليه من أن يكره ذكره وذكر من يذكره»
(1)
.
ومن المعلوم أن ذكره سبحانه وتعالى إنما يتم بإثبات حقائق أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله، لا بألفاظٍ مجردة لا حقيقة لها.
(1)
لم نقف عليه في مظانه من كتب الإمام أحمد أو تلامذته، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 72) والبيهقي في «شعب الإيمان» (715) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/ 442) من طريق الأوزاعي به.
فهؤلاء المعطلة النُّفاة أبعد شيءٍ عن حقيقة ذكر الله، كما هم أبعد شيءٍ عن محبته، كما أقروا بذلك على أنفسهم من أنه لا يحبُّه أحدٌ ولا يحبُّ أحدًا، فهم لا يحبونه ولا يذكرونه. وإن ذكروه فإنما يذكرونه بالسلب والعدم الذي هو أنقص النقص، وإن أحبوه فإنما يحبون ثوابه المنفصل لا ذاته ولا صفاته. ولا يثبتون ألذ ما في الجنة وأطيب ما فيها وأعظم نعيمها، وهو النظر إلى وجهه وسماع كلامه. فهم عمدوا إلى لُبِّ الدِّين وقلبه، فنبذوه
(1)
وأبطلوه ووقفوا في طريق الرسل وعارضوهم في دعوتهم: وبيانه:
بالوجه الثاني والعشرين: وهو أن دعوة الرسل تدور على ثلاثة أمور:
تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه، وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبِّه وكمال الذُّلِّ له.
الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجلُّه رضاه عنهم وتَجلِّيه لهم، ورؤيتهم وجهه الأعلى، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم، ومحاضرتهم في مجالسهم.
فيثبت الأصل الأول بذكر أوصاف الربِّ تعالى ونعوت جلاله على التفصيل، وإثبات حقائق أسمائه على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما يتضمن هذا الإثبات ويستلزمه، كالنسيان واللغوب والظلم والسِّنة والنوم والمثل والكفء
(2)
والند والصاحبة والولد والسَّمي. والجهمية عكسوا الأمر،
(1)
«ح» : «فانتبذوه» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الكفر» .
فسلبوا صفاته على التفصيل، وأثبتوا له ما يتضمن نفي ذاته وصفاته.
وأمَّا الأصل الثاني: فإن الرُّسل أمرت الأمم بإدامة ذكره وشكره وحُسن عبادته، فصدَّت النُّفاةُ القلوبَ والألسنةَ عن ذكره بإنكار صفاته، وهم في الحقيقة لا يشكرونه؛ لأن الشكر إنما يكون على الأفعال، وعندهم لا يقوم به فعلٌ؛ لأنه يستلزم حلول الحوادث به، فلا يُشكر على فعلٍ يقوم به. وإن شكروه فإنما يشكرونه على مفعولاته، وهي منفصلة عنه، فلم يُشكر على أمرٍ يقوم به عندهم.
وأيضًا فإن رأس الشكر الثناء والحمد، وقد اعترفوا بأنه لا حقيقة له إلَّا ما يقتضي فرح المحمود المثنى عليه، وذلك في حقِّه محالٌ عندهم، كما تقدم حكاية لفظهم
(1)
.
وكذلك هم منكرون لحقيقة عبادته، وإن قاموا بصورها وظواهرها، فإن حقيقة العبودية كمال محبته وكمال الذل له، وهم قد أقرُّوا بأنه لا يحبه أحدٌ، ولا يمكن أن يُحِبَّ، واحتجوا على ذلك بأن المحبة تستلزم المناسبة بين
(2)
المحبِّ والمحبوب، ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق. وهذا إنكار لحقيقة لا إله إلَّا الله، فإن الإله هو المألوه المستحق لغاية الحبِّ بغاية التعظيم، فنفوا
(3)
هذا المعنى بتسميته «مناسبةً» ، كما نفوا محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكرامته ورأفته ورحمته وضحكه وتعجُّبه بتسميتها «كيفيات محسوسة» ، ونفوا حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وعلمه بتسميتها
(1)
تقدم (ص 1023 - 1024، 1045 - 1046).
(2)
«ح» : «من» .
(3)
«ح» : «فنقول» . ولعل المثبت هو الصواب.
«أعراضًا» ، ونفوا أفعاله بتسميتها «حوادث» ، ونفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه والمعراج برسوله إليه بتسمية ذلك «تجسيمًا وتركيبًا» .
وأمَّا الأصل الثالث: وهو تعريف الأمم حالهم بعد الوصول إليه، فإنهم أنكروا أجلَّ ما فيه وأشرفه وأفضله، وهو رُؤية
(1)
وجهه وسماع كلامه، وإنما أثبتوا أمورًا منفصلةً يُتنعم بها من الأكل والشرب والنكاح ونحوها. وممَّا يوضح ذلك:
الوجه الثالث والعشرون: وهو ما ثبت في «صحيح مسلم»
(2)
من حديث أبي ذَرٍّ
(3)
قال: قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حمد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا كالرؤية الصالحة، كما في الصحيح
(4)
عن عبادة بن الصامت أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُمُ اُلْبُشْرى فِي
(1)
«ح» : «رواية» . وهو تحريف.
(2)
(2642).
(3)
«ح» : «ذكر» . وهو تحريف.
(4)
لعله يعني في الحديث الصحيح، فإن الحديث ليس في أي من الصحيحين، بل أخرجه الإمام أحمد (23127، 23128، 23182) والترمذي (2275) وابن ماجه (3898) والطبري في «تفسيره» (12/ 215 - 217) والحاكم (2/ 340، 4/ 391) والضياء (8/ 259 - 260، 276 - 277) من طرق. وقال الحاكم في الموضع الأول: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وقال في الموضع الثاني: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وله شواهد عن أبي الدرداء وابن مسعود وجابر بن عبد الله بن رئاب وأبي هريرة رضي الله عنهم، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» (2/ 132 - 135).
اِلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَفِي اِلْآخِرَةِ} [يونس: 64] قال: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» . فجعل حمد الناس له في اليقظة والرُّؤيا الصالحة في المنام بشارةً له في الدنيا. والبشارة نوع من الخبر، وهو [ق 126 ب] الخبر بما يَسُرُّ، فالحمد هو الخبر بما يَسُرُّ المحمود ويُفرحه، فإنكار فرحه ولوازم فرحه إنكار للحمد في الحقيقة.
وفي «الصحيحين»
(1)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بعثه ومعاذًا إلى اليمن قال لهما: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا» . وعند مسلم
(2)
: كان إذا بعث أحدًا من الصحابة قال: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» . وذلك أن الكلام نوعان إنشاءٌ وإخبارٌ، فأمرهم في الإخبار أن يبشروا ولا يُنفروا، وفي الإنشاء أن ييسروا ولا يُعسروا. فمن جعل المحمود والممدوح يُحمد ويُمدح بما لا يُحبُّه ولا يفرح به فقد عطل حقيقة حمده ومدحه التي تعطيلها تعطيل لحقيقة الدِّين. وممَّا يوضح ذلك:
الوجه
الرابع والعشرون: وهو أن الحُسن والقُبح سواء عُرف بالشرع أو بالعقل إنما يعود إلى الملائم والمنافي،
والملائم يعود إلى الفرح ولوازمه، والمنافي يعود إلى الغضب ولوازمه.
والمثبتون للحُسن والقُبح العقليين رأوا ما يعلمه العبد بضرورته وفطرته من حُسن بعض الأعمال وقُبح بعضها، وأن ذلك من لوازم الفطرة فأثبتوه، ولكن أخطؤوا في موضعين:
(1)
البخاري (3038) ومسلم (1733).
(2)
(1732).
أحدهما: قياس الخالق على المخلوق في ذلك، وأن ما حسُن وقبُح منهم حسُن وقبُح منه، [ولذلك]
(1)
كانوا مشبهة الأفعال معطلة الصفات.
الموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك من الفرح والرضا والمحبة، وتسميتهم ذلك لذةً وألمًا وكيفيات نفسانية.
وأمَّا النفاة
(2)
فأصابوا في الفرق بين الله وبين الخلق، وألَّا يُقاس بخلقه، ولا يلزم أن ما حسُن وقبُح منهم يقبُح ويحسُن منه، وأصابت أيضًا في ردِّ ذلك إلى الملاءمة والمنافرة، وأخطأت في موضعين:
أحدهما: سلب الأفعال صفاتها التي باعتبارها كانت حسنةً وقبيحةً، وجعلهم ذلك مجرد نسبٍ وإضافاتٍ عدميةٍ.
والموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك عن الربِّ تعالى من محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكراهته ومقته؛ بتسميتهم ذلك لذةً وألمًا.
والفريقان جميعًا لم يهتدوا في تحقيق المسألة إلى أن كل حُسنٍ وقُبحٍ ثبت بشرعٍ أو عقلٍ أو عرفٍ أو فطرةٍ فإنما يعود إلى الملاءمة والمنافرة، ولم يهتدوا أيضًا إلى ثبوت الحُسن في أفعال الله بمعنى محبته ورضاه وفرحه، وأنه لا يفعل إلَّا ما يُمدح على فعله ويُحمد عليه، وحمده ومدحه خبر بما يرضى به ويفرح به ويحبه، وأنه منزَّهٌ عن أن يفعل ما يُذمُّ عليه، والذمُّ هو الخبر المتضمن لما يؤذي المذموم ويؤلمه، وإن كان أعداؤه من المشركين يؤذونه ويشتمونه كما في الحديث الصحيح: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللهِ،
(1)
«ح» : «وكذلك» .
(2)
يعني النفاة للحُسن والقُبح العقليين.
يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وهو يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»
(1)
. وفي الصحيح
(2)
أيضًا: «يَقُولُ اللهُ: شَتَمَنِي عَبْدِي
(3)
ابْنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي اتَّخَذْتُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي. وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ». ومن ذلك قول أعدائه: إنه فقيرٌ، وإن يده مغلولةٌ، وإنه اتخذ صاحبةً وولدًا. تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الخامس والعشرين: إنه سبحانه كما يبغض هذا الإفك والباطل الذي قاله فيه أعداؤه ويشتد غضبه منه ويؤذيه ذلك أذًى لا ينقصه، كما أخبر به عن نفسه بقوله
(4)
(5)
، فهو سبحانه يفرح بثناء المُثْني عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أعظم فرحٍ ويرضى به ويحبه. وإذا كان يفرح بتوبة التائب أعظم فرحٍ يقدر، فكيف فرحه سبحانه بالثناء عليه وحمده ومدحه وتمجيده عمَّا
(6)
يصفه به أعداؤه ممَّا لا يليق بكماله؟ ممَّا يتضمن فرحه ومحبته ورضاه أعظم من ذلك؟! فإن محبته تغلب غضبه، وفضله أوسع من عدله.
وهو سبحانه كما أنه موصوفٌ بكل كمالٍ فهو منزَّهٌ عن كل نقصٍ
(1)
متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وتقدم (ص 1026) تخريجه.
(2)
«صحيح البخاري» (4974، 4975) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
كذا في «ح» ، ولعلها زائدة.
(4)
«ح» : «فقوله» .
(5)
متفق عليه، وقد تقدم (ص 1026) تخريجه.
(6)
«ح» : «بما» . ولعل المثبت هو الصواب.
وعيبٍ. فكما أنه موصوف في أفعاله بكل حمدٍ وحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، فهو منزَّهٌ فيها عن كل عيبٍ وظلمٍ وقبيحٍ. وبهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حالٍ، وأن يكون محمودًا على المكاره كما هو محمودٌ على المحابِّ، كما في «صحيح الحاكم»
(1)
وغيره من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسُرُّه قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ» . وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» .
واللفظ العام إذا ورد على سببٍ وجب دخول السبب فيه، فيوجب هذا الحمد أنه محمودٌ على هذا الأمر [ق 127 أ] المكروه؛ لأنه حسنٌ منه وحكمةٌ وصوابٌ، فيستحق أن يُحمد عليه. وممَّا يوضح ذلك:
الوجه
السادس والعشرون: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين محبة الربِّ سبحانه للمدح ومحبته للعذر،
كما في حديث المغيرة بن شعبة: «لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ»
(2)
.
وكذلك جمع بينهما في حديث ابن مسعودٍ
(3)
. فهو سبحانه شديد
(1)
«المستدرك» (1/ 499). والحديث أخرجه ابن ماجه (3803) والطبراني في «الدعاء» (1769) وفي «المعجم الأوسط» (6663) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (378) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4065) وفي «الدعوات الكبير» (376). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وجوَّد النووي إسناده في «الأذكار» (ص 320) وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1338) وابن حجر في «فتح الباري» (3/ 290).
(2)
أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499).
(3)
متفق عليه، وقد تقدم (ص 1046) تخريجه.
المحبة لأن يُحمد وأن يُعذَر، ومن محبته للعذر إرسال رسله وإنزال كتبه، ومن محبته للحمد ثناؤه على نفسه، فهو يحب أن يُعذَر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ولا يُلام على ذلك ولا يُذم عليه ولا يُنسب فيه إلى جورٍ ولا ظلمٍ، كما يحب أن يحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته، وحمده متضمنٌ هذا وهذا. فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه، كما قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الزمر: 72]، فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عَقِيب قضائه بالحق بين الخلائق وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره. وحذف فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه حتى لا يُسمع إلَّا حامد
(1)
له من أوليائه وأعدائه، كما قال الحسن البصري:«لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجةً ولا سبيلًا»
(2)
. وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده، وأقام عليهم الحجة.
وجمع صلى الله عليه وسلم في الحديث بين ما يحبه ويبغضه، فإنه قال فيه: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ
(3)
أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ»
(4)
. فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة
(5)
، فأخبر أنه لا أحد أغير منه. وأن من غيرته حرَّم
(1)
«ح» : «حامدا» .
(2)
ذكره المصنف في «حادي الأرواح» (2/ 790) وفي «الفوائد» (ص 237). ولم نقف عليه مسندًا.
(3)
«ح» : «و» .
(4)
متفق عليه، وقد تقدم (ص 1046) تخريجه.
(5)
«ح» : «والكرامة» . وهو تحريف.
الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه، والغيرة عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهة، فيستحيل وصفه عندهم بذلك. ومعلومٌ أن هذه الصِّفات من صفات الكمال المحمودة عقلًا وشرعًا وعُرفًا وفطرةً، وأضدادها مذمومةٌ عقلًا وشرعًا وعُرفًا وفطرة، فإن الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشة وتركها مذموم غاية الذم، مستحقٌّ للاسم
(1)
القبيح.
وهؤلاء المعطلة النُّفاة لحقيقة محبته ورضاه وغضبه عندهم الأمران سواء بالنسبة إليه، وأن ما وجد من ذلك فهو يحبه ويرضاه، وما لم يوجد من طاعاته وامتثال أوامره فهو يبغضه ويسخطه، بناءً على أصلهم الفاسد أن المحبة هي عين الإرادة والمشيئة، فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه. وإذا جاء هؤلاء إلى النصوص الدالة على أنه لا يرضى بها ولا يحبها ولا يريدها أولوها بمعنى أنه لا يشرعها ولا يأمر بها ولا يحبها ولا يرضاها دينًا، وهو التأويل الأول بتغيير العبارة. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه السابع والعشرين: إنه ـ سبحانه عمَّا يقول الجاهلون به ـ إذا كان لا يفرح ولا يرضى بمدحه وحمده والثناء عليه، ولا يغضب ولا يسخط ويبغض شتمه. وما قال فيه أعداؤه، بل نسبة الأمرين إلى ذاته وصفاته بنسبة واحدة؛ إذ لو حصل فيه سبحانه فرحٌ ورضًا ومحبةٌ من ذلك وغضبٌ وسخطٌ وكراهةٌ من هذا لَلَحِقَته الكيفيات النفسية = كان لا فرق عنده بين الحسن والقبيح والمدح والذمِّ، وهذا غاية النقص والعيب شرعًا وعقلًا وفطرةً وعادةً. ومن كلام الشافعي: «من استُرضي ولم يرض فهو جبَّارٌ، ومن
(1)
مشتبه في «ح» ، ولعله كما أثبته.
استُغضب ولم يغضب فهو حمارٌ»
(1)
. وهذا يدل على موت القلب وبطلان الحسِّ وفَقْدِ الحياة.
ولهذا كان أكمل الناس حياةً أشدهم حياءً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها
(2)
لكمال حياة قلبه. والله سبحانه الحي القيوم، وقد وصف نفسه بالحياء ووصفه رسوله، فهو الحيي الكريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا
(3)
»
(4)
.
وقالت أم سُلَيم: «يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من
(1)
أخرجه الآجري في «جزء فيه حكايات عن الشافعي» (27) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 143) والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 202) وفي «شعب الإيمان» (8734) وابن عساكر في «تاريخه» (51/ 414) وفيه: «شيطان» بدل «جبار» ، وذكره بلفظ المصنِّف الراغب في «محاضرات الأدباء» (1/ 278) والوطواط في «غرر الخصائص» (ص 495).
(2)
أخرجه البخاري (3562) ومسلم (2320) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أي: خاليتين. «فيض القدير» (2/ 229).
(4)
أخرجه الإمام أحمد (24212) وأبو داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) وابن حبان (876) والحاكم (1/ 497، 535) والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 211) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه مرفوعًا. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه» . وقال الحاكم في الموضع الثاني: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وجوَّد إسناده ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 143). والموقوف أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (24211) ووكيع في «الزهد» (504) وهناد في «الزهد» (1361) والحاكم في «المستدرك» (1/ 497) وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين» .
وللحديث شواهد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ينظر «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1/ 55 - 57). وقال الذهبي في «العرش» (2/ 66):«وهذا حديث صحيح، رواه جماعة من الصحابة، علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وأنس بن مالك، وغيرهم» .
الحق»
(1)
. وأقرَّها على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ»
(2)
.
والحياء عند هؤلاء من الكيفيات النفسانية، فلا يجوز عندهم وصف
(1)
أخرجه البخاري (130) ومسلم (313).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (22271، 22275، 22282، 22291) والنسائي في «السنن الكبرى» (8933 - 8946) وابن ماجه (1924) وابن الجارود في «المنتقى» (728) وابن حبان (4198، 4200) والطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 88 - 90) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 196 - 197) من طرق عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه. وصححه ابن حزم في «المحلى» (10/ 70)، وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 290):«رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد، أحدها جيد» . وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/ 201): «رواه الشافعي والبيهقي من رواية خزيمة بن ثابت بإسناد صحيح، وصححه الشافعي» . وقال ابن حجر في «فتح الباري» (8/ 191 (: «من الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت». وأخرجه الإمام أحمد (666، 24445) والترمذي (1164، 1166) وابن حبان (4199، 4201) عن علي بن طلق رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث علي بن طلق حديث حسن» . وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ينظر:«البدر المنير» (7/ 651 - 659) و «إرواء الغليل» (2005). وقال ابن المنذر في «الأوسط» (9/ 121): «ثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» . وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (14/ 128): «قلت: قد تيقنا بطرق لا محيد عنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أَدْبار النِّساء، وجزمنا بتحريمه، ولي في ذلك مصنَّفٌ كبيرٌ» .
القديم بها.
والمقصود أنه كلما [زادت]
(1)
صفات الكمال في الحيِّ كان فرحه ومحبته ورضاه وغضبه ومقته أكمل. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يقم لغضبه [ق 127 ب] شيءٌ
(2)
. وفي الأثر: «إن موسى كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته»
(3)
. وكان أشدَّ بني إسرائيل حياءً حتى إنه لا يغتسل إلَّا وحده من شدة حيائه
(4)
.
(1)
سقط من «ح» . والسياق يقتضيه.
(2)
هو قطعة من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الترمذي في «الشمائل» (215) والطبراني في «المعجم الكبير» (22/ 155) والآجري في «الشريعة» (1022) والبيهقي في «شعب الإيمان» (1362) والبغوي في «شرح السنة» (13/ 269) من طريق جميع بن عمر عن رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي عن الحسن بن علي به، وذكر الحديث بطوله، وفي إسناده جهالة، قال البخاري في «الضعفاء» (ص 118):«يتكلمون في إسناده» . ولبعض ألفاظه شواهد صحيحة، ويكثر وروده في كتب السير والشمائل حتى قال ابن عبد البر في «الاستيعاب» (4/ 1545 (:«وكان هند بن أبي هالة فصيحًا بليغًا وصَّافًا، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن وأتقن» .
(3)
أخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (339) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (61/ 161) عن زيد بن أسلم. ونقل ابن القاسم عن مالك أنه قال: «كان موسى إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته» . كما في «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 325).
(4)
أخرج البخاري (278) ومسلم (339) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث اغتسال موسى عليه السلام وحده، وفي لفظ للبخاري (3404):«إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيءٌ استحياء منه» .
وإذا كانت هذه صفات كمالٍ فلا يجوز سلبها عمَّن هو أحق بالكمال المطلق من كل أحدٍ بمجرد تسميتها كيفيات نفسية وأعراضًا وانفعالات ونحو ذلك، فإن هذا من اللبس والتلبيس وتسمية المعاني الصحيحة الثابتة بالأسماء القبيحة المنفِّرة، وتلك طريقة للنُّفاة مألوفة وسجية معروفة. وإذا عُرف هذا تبيَّن أن هؤلاء المعطلة النُّفاة أضاعوا حقَّ الله الذي يستحقه لنفسه، والذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، والذي هو أصل دينه ومنتهى عبادته؛ بما هم متناقضون فيه.
وقد سبق لك أنهم معترفون بما فطر الله عليه خلقه أن المدح يتضمن فرح الممدوح ولوازمه، ولهذا لزمهم القولُ بخلاف ما يُعلم بالضرورة من دين الرسل من أولهم إلى آخرهم: أن الله لا يفرح بمدحه وحمده وتمجيده والثناء عليه ولا يرضى نفسه بذلك ولا يكون محبوبًا له على الحقيقة. وهذا هم معترفون به، لا يتحاشون منه، ولا يستنكفون من إطلاقه. وإنما العجب تصريحهم بأنه لا يمدح بمدح
(1)
، والمدح هو أصل الثناء والحمد، وقد صرَّحوا باستحالة ذلك في حقِّه، كما قالوا: المدح هو الإخبار [عن]
(2)
كونه مستحقًّا لأن [يفعل]
(3)
به ما يفرح به ويلتذ به، والذم هو الإخبار عن كونه مستحقًّا لأن يفعل به ما يحزن به ويتألم به. قالوا: وإذا فسرنا المدح والذم بذلك استحال
(4)
تصورهما في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والغم عليه.
(1)
«ح» : «ممدح» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «هو» . والمثبت من «نهاية العقول» ، وقد تقدم على الصواب.
(3)
«ح» : «ينقل» . والمثبت من «نهاية العقول» ، وقد تقدم على الصواب.
(4)
«ح» : «استحالة» . والمثبت من «نهاية العقول» ، وقد تقدم على الصواب.
وقد أبطل فاضلهم
(1)
طُرق الناس، وعوَّل على هذه الطريقة، كما تقدم حكاية لفظه. وهذا اعترافٌ منه بأنه ليس للمدح والذم حاصلٌ إلَّا ما لا يتصور في حقِّ الله، فلا يتصور عنده أن يكون الله محمودًا ممدوحًا بحالٍ، ومعلومٌ أن فساد هذا في دين الرُّسل كلهم وجميع فِطَر بني آدم من أوضح الواضحات. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه الثامن والعشرين: قولكم: إن المدح يستحيل تصوره في حقِّ الله، من أوضح الكفر، وأقبح المعاداة لله، والمناقضة لكتبه ورسله. واستدلالكم على ذلك بأن الفرح يستحيل عليه أبطل وأبطل، بل قد عُلم بالاضطرار عقلًا وفطرةً وشرعًا أن المستحق لغاية المدح الكامل المطلق هو الربُّ سبحانه، فهذا أحقُّ الحقِّ. ولازمه حقٌّ، فإنه لا يلزم من الأحقِّ إلَّا حقٌّ، فإن كان الفرح لازمًا لهذا المدح فهو حقٌّ. وقد أثبته له سبحانه أعلم خلقه وأعرفهم به وبصفاته وما يجب له ويمتنع عليه، وقرَّب فرحه سبحانه إلى الأذهان بما هو من أعظم
(2)
أنواع الفرح، وهو فرحه بتوبة التائب إليه، فكيف بما هو أعظم من ذلك من حمد الحامدين له ومدحهم له وثنائهم عليه. فإذا كان المدح مستلزمًا للفرح، وقد عُلم أنه يستحق المدح أجمع، عُلم أنه يفرح بمدحه. وإثبات الملزوم ونفي لازمه محالٌ، ولهذا لمَّا تفطَّن هؤلاء لذلك وعلموا
(3)
أنه لا يمكن إثبات الملزوم ونفي لازمه، صرَّحوا بنفي اللازم والملزوم، وقالوا: يستحيل ثبوت المدح والفرح في حقِّه. فنقول في:
(1)
يعني الفخر الرازي في «نهاية العقول» (3/ 241 - 242)، وقد تقدم نقل كلامه في الوجه العشرين.
(2)
«ح» : «أعظم من» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «علموا» من غير واو.
الوجه التاسع والعشرين: إنه من المعلوم أن كونه سبحانه يستحق المدح، والمحامد أبين في الشرع والعقل والفطرة من كونه لا يفرح، والواجب أن يستدل بالمعلوم على المجهول، وبالواضح على الخفي. أمَّا أن يُستدل بانتفاء
(1)
الفرح على انتفاء كونه مستحقًّا للمدح فهذا من أبطل الباطل، وهو خروج عن مقتضى السمع والعقل، وهو من فعل أهل التلبيس والتدليس. وإذا تبيَّن ذلك عُرف أن هؤلاء الجهمية المعطلة الذين يذكرون ما وصف الله به نفسه من الرضا والفرح والمحبة يلزم لزومًا بيِّنًا
(2)
أن يجحدوا حمده سبحانه ومدحه والثناء عليه واستحقاقه لذلك، بموجب هذه القضية الكاذبة الباطلة التي قرَّروها. وهذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحقِّ، ويأبى الله إلَّا أن يُقيم لدينه من يذبُّ
(3)
عنه، والحمد لله رب العالمين.
الوجه
الثلاثون بعد المائتين: أن يقال: قولكم: إن المدح والذم لا معنى لهما إلَّا مجرد
(4)
الخبر عن استحقاق ما يفرح ويؤلم، ليس كذلك.
والتحقيق أن فيهما معنًى زائدًا على الخبر المجرد، سواء دلَّ اللفظ على ذلك المعنى الزائد [ق 128 أ] بالتضمن أو باللزوم، فإن الحامد المادح يقترن بحمده ومدحه محبة المحمود والرضا عنه وتعظيمه، وكذلك الذامُّ يقترن بذمِّه بُغض المذموم وتنقصه وقلاه. ولهذا فسَّر كثيرٌ من الناس الحمد بالرضا
(1)
«ح» : «بانتفاح» .
(2)
«ح» : «نفيا» .
(3)
«ح» : «عذت» . ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
«ح» : «بمجرد» .
واختاره الآمدي في «أبكاره»
(1)
وغيره، فالآمدي فسَّره بالرضا وهو من باب الإرادات، والرازي فسره بالخبر وهو من باب الاعتقادات.
والتحقيق أن الحمد والذمَّ يتضمن الأمرين جميعًا، فالمادح يعتقد أن في الممدوح والمحمود ما يحبه ويرضى به ويفرح به، ويكون مع هذا الاعتقاد والخبر في قلبه من محبته والرضا به والفرح ما استحق به أن يكون حامدًا له ومادحًا. وهذا أمر يجده الحامد المادح من نفسه إذا كان مادحًا بحقٍّ وصدقٍ، بخلاف المدح بالباطل فإنه كذبٌ لا يستلزم شيئًا من ذلك. فالمدح والحمد أصلهما الخبر، ويتبعه الحب والرضا. والذمُّ أصله الخبر ويتبعه البغض والسخط. والصلاة على من يُصلَّى عليه أصلها الطلب والإرادة ويتبعها الخبر. ولعنة من يُلعن أصلها طلب إهانته وإقصائه ويتبعها الخبر. وهذان النوعان من الخبر، وهما الإخبار عن الشيء بالخبر السيئ وطلب السوء له، والإخبار عنه بالخبر الحسن وطلب الخير له. الأول أصل اللعن، والثاني أصل الصلاة. وهو سبحانه يلعن أعداءه ومن يفعل ما يبغضه ويسخطه، ويُصلِّي على أوليائه وأهل طاعته وذكره.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم: «لَا يَكُونُ الطَّعَّانُونَ وَاللَّعَّانُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فإن الشهادة من باب الخبر والشفاعة من باب
(1)
«ح» : «وأبطاره» . وهو تحريف، وهذا نص كلام الآمدي في «أبكار الأفكار» (2/ 191):«أما الحمد فقد قيل: هو الشكر. ومنه يقال: الحمد لله شكرًا، فيجعل الشكر مصدر الحمد. وقيل: الحمد هو الرضا. ومنه يقال: الحمد لله حق حمده. أي حق رضاه» .
(2)
(2598) عن أبي الدرداء رضي الله عنه. دون لفظ: «الطعانون» .
الطلب، ومن يكون كثير الطعن على الناس ـ وهو الشهادة عليهم بالسوء ـ وكثير اللعن لهم ـ وهو طلب السوء لهم ـ لا يكون شهيدًا عليهم ولا شفيعًا لهم؛ لأن الشهادة مبناها على الصدق، وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم، ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه. والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير، وذلك لا يكون ممَّن يكثر اللعن لهم ويترك الصلاة عليهم. ومن أعظم أسباب سعادة العبد أن يكون موافقًا لربه سبحانه في صلاته على من صلَّى عليه ولعنته لمن لعنه، كما في «مسند الإمام أحمد»
(1)
و «صحيح الحاكم»
(2)
من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباحٍ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَإِلَيْكَ. اللَّهُمَّ فَمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ كُلِّهِ، مَا شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى
(1)
(22069).
(2)
«المستدرك» (1/ 516 - 517) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . فتعقبه الذهبي بقوله: «أبو بكر ـ يعني: ابن أبي مريم ـ ضعيف، فأين الصحة؟» . وأخرج الحديث ابن خزيمة في «التوحيد» (17) وابن المنذر في «الأوسط» (12/ 162) والطبراني في «الكبير» (5/ 119) والبيهقي في «الدعوات الكبير» (42، 43) من طريق أبي بكر بن أبي مريم. وقال ابن المنذر: «لا يصح» . وينظر «السلسلة الضعيفة» (6733).
لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ. اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ ـ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا- أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ. وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي كُلَّهَا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
فهذه ثلاثون وجهًا مضافة إلى المائتين، فصارت مائتين وثلاثين وجهًا تبطل معارضتهم للنصوص بالتوهمات والظنون الكاذبة التي يُسمونها عقليات.
الوجه
الحادي والثلاثون بعد المائتين: أن نقول: إذا عارضتم بين المعقول والمنقول فإمَّا أن تكذِّبوا المنقول وإمَّا أن تصدِّقوه.
فإن كذَّبتموه أُلحقتم بأعداء الرُّسل المكذِّبين لهم، وانسلختم من العقل والدِّين كانسلاخ الشعرة من العجين. وإن صدَّقتم المنقول فإمَّا أن تعتقدوا أن له معنًى، أو تقولوا: لا معنى له. ولا يمكنكم أن تقولوا بالثاني؛ إذ تستحيل المعارضة على هذا التقدير، وتبطل المسألة التي أصَّلتموها من أصلها.
وإن قلتم: بل للمنقول معانٍ [ق 128 ب] قصدها المتكلم وأراد من العباد اعتقادها والإقرار بها، فإما أن يدل اللفظ عليها أو لا يدل. فإن لم يدل اللفظ
عليها كان ذلك متضمنًا للمحال والعبث والقدح في الربِّ تعالى ورسله وكلامه من وجوهٍ متعددةٍ، فكيف يحسُن به وبرحمته وحكمته وعنايته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم أن يخاطبهم بكلامٍ يريد منهم أن يفهموا منه ما لا يدل عليه بوجهٍ ما؟! وهو سبحانه قد أكذب هذا الظن الكاذب الجائر بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 5] وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 43]. فخطابهم بذلك من جنس خطاب كل أمةٍ بِلُغةٍ لا تفهمها البتة، بل أبعد منه، لأنها يمكنها التوصل إلى معرفة المراد بهذا الخطاب بالترجمة كما يُترجم التَّرَاجِم بين الرُّسل والملوك. وأمَّا الخطاب بما لا يدل على المعنى المراد بوجهٍ في لغة من اللغات وإرادة اعتقاد ذلك المعنى منه فلا يفعله عاقلٌ، ويُصان عنه عقلاء البشر فضلًا عن أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين. وهذا لو كان المراد منه معاني لا يناقضها الكلام ولا يدل عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ، فكيف إذا كان الكلام المخاطب به له معانٍ تُناقض تلك المعاني التي أراد منهم فهمها ومخالفتها؟ فهذا أبلغ في الإحالة.
وإن قلتم: بل له معانٍ ظاهرةٌ مفهومةٌ أراد من العباد اعتقادها والإقرار بها، فإمَّا أن تقولوا: هي في نفسها حقٌّ مطابقٌ للواقع، أو تقولوا: ليس لها وجودٌ بل هي منتفيةٌ في نفس الأمر. فإن قلتم بالأول صدقتم، ورجعتم إلى موجب العقل والنقل. وإن قلتم بالثاني لزمكم أن يكون الله ورسوله أراد من العباد اعتقاد الباطل والضلال والتشبيه والتجسيم، وهذا غاية المُشاقَّة
(1)
والقدح في الحكمة والرحمة.
(1)
«ح» : «المشقة» . والمشاقة: الخلاف والعداوة. «الصحاح» (4/ 1503).
وإن قلتم: له معانٍ ظاهرةٌ مفهومةٌ أراد من العباد نفيها وإنكارها وعدم اعتقادها ـ وهذا هو حقيقة قولكم ـ لزمكم نسبة الله ورسوله إلى ما لا يليق بآحاد العقلاء، فضلًا عن ربِّ الأرض والسماء، وخاتم الرسل وسيد الأنبياء؛ فإنه يكون قد خاطبهم بإثبات ما أراد منهم نفيه، وتحقيق ما أراد منهم إبطاله، وعرضهم لأنواع الكفر والضلال والتشبيه؛ وكان بمنزلة من أراد أن يصف لعليل دواءً يستشفي به، فوصف له دواءً قاتلًا، وأخبره أن فيه الشفاء والعافية، وأراد منه أن يأخذ من ألفاظ ذلك الدواء ما لا يدل عليه بل على خلافه! فهل يكون هذا المداوي إلَّا من أجهل الناس وأعظمهم تلبيسًا وتدليسًا؟ فلا بد لكم من أحد هذه الأقسام المذكورة، فإن كان هاهنا قسمٌ آخر فبيِّنوه وبيِّنوا صحته. يوضحه:
الوجه الثاني والثلاثون بعد المائتين: وهو أن الأدلة العقلية التي زعمتم أنها تعارض النقل وتنفي موجبه هي بعينها تنفي المعاني التي تأولتم النقل عليها، وصرفتم معناه إليها، فإنكم لا يمكنكم تعطيل دلالة النصوص بالكلية وجعلها بمنزلة الكلام المهمل الذي لم يستعمله العقلاء، بل لا بد لكم من حملها على معانٍ أُخر غير حقائقها التي دلَّت عليها، وحينئذٍ فالأدلة العقلية التي نفيتم بها حقائق النصوص تنفي تلك المعاني التي تأولتموها عليها بعينها.
مثاله: أنكم تأولتم الرحمة والرأفة بالإرادة، وزعمتم أن الدليل العقلي يقتضي نفي الرحمة والرأفة حقيقة، وهو إمَّا دليل الأعراض، وإمَّا دليل التركيب، وإمَّا الدليل الذي ينفي التجسيم والتشبيه، وإمَّا دليل التوحيد الذي ينفي ثبوت شيءٍ من الصِّفات، وإمَّا دليل امتناع الكيفيات النفسانية عليه،
وإما دليل امتناع الاختصاص بغير مخصصٍ أو غير ذلك. فجميع هذه الشُّبه الباطلة تنفي كل معنًى حملتم عليه النصوص، ويلزمكم فيما أثبتموه نظير ما لزمكم فيما نفيتموه. وإذا كان الإلزام ثابتًا على التقديرين لم تستفيدوا بتأويل النصوص وحملها على خلاف حقائقها إلَّا تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بلا علم، والجناية على الكتاب والسُّنَّة. فلو أنكم تخلصتم بالتحريف ممَّا فررتم منه من التشبيه والتجسيم كنتم قد صنعتم شيئًا، ولكن أصابكم في ذلك ما أصاب القائل
(1)
:
وَأَفْقَرَنِي فِيمَنْ أُحِبُّ وَمَا اسْتَغْنَى
فهذان وجهان يَعُمَّانِ كل ما ينفون من الصِّفات الإلهية ويتأولونه على غير تأويله من النصوص النَّبوية ويعتمدون عليه من الأقيسة العقلية.
الوجه
الثالث والثلاثون بعد المائتين: أن لازم هذا القول بل حقيقته
(2)
أن أسماء الربِّ تعالى إنما تُطلق عليه مجازًا لا حقيقة،
فإنه إذا قام الدليل العقلي على انتفاء حقائقها صار إطلاقها بطريق المجاز والاستعارة لا بطريق [ق 129 أ] الحقيقة، فيكون إطلاقها على المخلوق بطريق الحقيقة، إذ لا يمكن أن يكون مجازًا في الشاهد والغائب، وقد نفيتم أن يكون حقيقةً في حقِّ الربِّ سبحانه، فتكون حقيقة في المخلوق مجازًا في الخالق، فيكون المخلوق أحسن حالًا فيها من الخالق، وتكون حُسنى في حقِّه دون حقِّ الربِّ
(1)
عجز بيت للشيخ تقي الدِّين عبد الله بن أحمد بن تمام الحنبلي (ت 718 هـ)، نسبه له الكتبي في «فوات الوفيات» (2/ 165). وصدر البيت:«لحا الله دهرًا راعني بفراقكم» .
(2)
«ح» : «حقيقة» .
تعالى؛ لأنها إنما كانت حُسنى باعتبار معانيها وحقائقها، لا بمجرد ألفاظها، فمن له حقائقها
(1)
فهي في حقه حُسنى، دون من انتفت عنه حقائقها. وكفى بهذا خروجًا عن العقل والسمع، وإلحادًا في أسمائه سبحانه! قال تعالى:{وَلِلَّهِ اِلْأَسْمَاءُ اُلْحُسْنى فَاَدْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا اُلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
فإن قلتم: حقائقها بالنسبة إليه ما يليق به، وهو ما تأولناها عليه، وحينئذٍ فتكون حُسنى بذلك الاعتبار، وتكون حقيقة لا مجازًا.
قيل: فهلَّا حملتموها على حقائقها المفهومة منها على وجهٍ يليق به ولا يماثله فيه خلقه، كما فعلتم بحملها على تلك المعاني التي صرفتموها إليها؟
فإن قلتم: حملها على ذلك يستلزم محذورًا من تلك المحاذير.
قيل: فكيف لم يستلزمه فيما أثبتموه من تلك المعاني، واستلزمه فيما نفيتموه؟ وإذا كنتم قد أثبتم تلك على وجهٍ يختص به ولا يماثل خلقه فيه فأثبتوا له حقائقها على هذا الوجه، وتكونون للعقل والنقل موافقين، وللكتاب والسُّنَّة مصدِّقين، ولسلف
(2)
الأُمَّة وأعلمها بالله وصفاته وأسمائه موافقين، وعن سبيل أهل الإلحاد والتعطيل عادلين.
الوجه
الرابع والثلاثون بعد المائتين: أن الناس في هذه الأسماء التي تقال على الربِّ وعلى العبد مختلفون على أقوال:
(1)
«ح» : «بحقائقها» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «لسلفاء» .
فقالت غُلاة المعطلة من الجهمية: إنها مجازٌ في حقِّ الخالق حقيقةٌ في حقِّ المخلوق، وإنها استعيرت له من أسمائهم، وهذا كما قيل: خرَّ عليهم السقف من تحتهم، لا عقل ولا قرآن! فكيف يُستعار للقديم الخالق سبحانه أسماء من المُحْدَث المخلوق، وكيف يُستقرض للغني الواجد من الفقير المُعْدَم؟! أترى لم يكن في الممكن أن يكون للربِّ سبحانه من الأسماء إلَّا ما استُعير له من أسماء خلقه؟
ولمَّا رأت
(1)
طائفة من العقلاء شناعة هذا المذهب وبطلانه قابلوا قائليه وقالوا: بل هي حقيقةٌ في الربِّ، مجازٌ في العبد. وهذا قول أبي العباس [الناشئ]
(2)
وقد وافقه عليه طائفةٌ، ويلزم أصحاب هذا القول صحة نفيها عن المخلوق كما يلزم أصحاب القول الأول صحة نفيها عن الخالق.
والقولان باطلان، مع أن أصحاب هذا القول وإن كانوا خيرًا من أولئك فهم متناقضون، فإنهم إن أثبتوا للربِّ تعالى حقائقها المفهومة منها فجعلُها مجازًا في المخلوق ممتنع، فإن المعنى الذي كانت به حقيقة في الغائب موجود في الشاهد وإن كان غير مماثل، بل للربِّ منه ما يختص به ولا يماثله فيه المخلوق، وللمخلوق منه ما يختص به ولا يماثله فيه الخالق. وهذا لا يوجب أن تكون مجازًا في حقِّ المخلوق كالوجود والشيء والذات. وإن
(1)
«ح» : «رأيت» .
(2)
«ح» : «الهاشمي» . وهو تحريف، والتصويب من «منهاج السنة» (2/ 583) و «مجموع الفتاوى» (9/ 146) و «بدائع الفوائد» (1/ 290). وأبو العباس الناشئ هو عبد اللَّه بن محمد بن شرشير المتكلم الشاعر من أهل الأنبار، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين. ترجمته في «تاريخ بغداد» (11/ 297).
أثبتوها على غير حقائقها المفهومة منها بل جعلوا معناها ما تأولوها عليه فقلبوا الحقائق وعكسوا اللغة وأفسدوها، وجعلوا المجاز حقيقةً والحقيقة مجازًا. هذا، وهم أعذر من أولئك وأقل خطأ، فإنهم جعلوها مجازًا في حقِّ من هو أولى بها من
(1)
خلقه وأولى من تثبت له على أتم الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا ووجوبًا وبراءةً عن كل ما ينافي ذلك، وجعلوها حقيقةً في حقِّ من استعيرت له على وجه الحدوث والضعف والنقص، فهؤلاء أعظم قلبًا للحقائق ومخالفة للمعقول من أولئك.
وقالت طائفةٌ ثالثة: بل هي حقيقة في الغائب والشاهد كالوجود والشيء والذات، وإن لم تماثل الحقيقة الحقيقة. ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفةٌ: هي مقولة عليهما بالاشتراك اللفظي؛ لتباين الحقيقتين من كل وجهٍ. وهذا من أفسد الأقوال؛ فإن كل عاقلٍ يفرق بين لفظي
(2)
العين ولفظ المشتري ولفظ العين ونحوها
(3)
، وبين لفظ السميع والبصير والحي والعليم والقدير، ويفهم المعنى من هذه الألفاظ عند إطلاقها دون تلك، فلو كانت مشتركة لم يُفهم منها شيءٌ عند الإطلاق.
وقالت طائفةٌ أخرى: بل يقال على القديم والحادث بطريق التواطؤ
(4)
،
(1)
«ح» : «ومن» .
(2)
كذا في «ح» .
(3)
كذا في «ح» ، ولعل في العبارة سقطًا أو تحريفًا.
(4)
المتواطئ: لفظٌ يدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، كدلالة اسم الإنسان على زيد وعمرو. ودلالة اسم الحيوان على الإنسان، والفرس، والطير. لأنها متشاركة في معنى الحيوانية. وفي «تعريفات الجرجاني»:«المتواطئ: هو الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية، كالإنسان، والشمس، فإن الإنسان له أفراد في الخارج، وصدقه عليها بالسوية، والشمس لها أفراد في الذهن وصدقها عليها أيضًا بالسوية» . «المعجم الفلسفي» (2/ 334).
وهي موضوعة للقدر المشترك، والخصائص لا تدخل في مسمَّى اللفظ، قالوا: ولهذا يصح تقسيم معانيها إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث. ومورد التقسيم مشتركٌ بين الأقسام.
وقالت طائفةٌ: بل يقال على الربِّ والعبد بطريق التشكيك
(1)
؛ لأنها [ق 129 ب] في الربِّ أولى وأولى وأتم وأكمل، ولا ريب أن المتواطئ
(2)
يعم ما تساوت أفراده فيه وما تفاوتت، فالمشكِّك نوع من المتواطئ.
وإذا عُرف هذا فمن نفى حقائقها عن الربِّ سبحانه جعلها مجازًا في حقِّه حقيقةً في المخلوق. يوضحه:
الوجه
الخامس والثلاثون بعد المائتين: أنه قد عُلم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار، وأن المعنى الذي دلَّ عليه اللفظ بطريق الحقيقة أكمل من المعنى الذي دلَّ عليه بطريق المجاز،
وإنما يستعار لتكميل معنى المجاز، مثل الأسد فإن شجاعته لمَّا كانت أكمل من شجاعة ابن آدم، والبحر لمَّا كان أوسع من ابن آدم، والشمس والقمر لمَّا
(1)
التشكيك عند القدماء: كون اللفظ موضوعًا لأمرٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد لا على السواء، بل على التفاوت، كالوجود بالنسبة إلى الواجب الوجود والممكن الوجود، وذلك اللفظ يُسمى مشكِّكًا. والتشكيك عند المحدثين: دلالة اللفظ أو العبارة على معانٍ متعددة، وكل معنى يمكن تفسيره أو تأويله بصور مختلفة، فهو معنى مشكك. فالمشكِّك إذن هو المبهم الذي لا يستطيع الذهن أن يتصور معناه تصورًا ثابتًا، ولا أن يرتبه في نوع محدود، أو جنس معين. «المعجم الفلسفي» (2/ 378 - 379).
(2)
«ح» : «التواطؤ» .
كانا
(1)
أبهى وأحسن، استُعيرت أسماؤها لما دونها.
فإذا قيل: إن هذه الأسماء مجازٌ في حقِّ الربِّ حقيقةٌ في حقِّ العبد، كانت في العبد أكمل وأتم منها في الربِّ، وكانت تسمية الربِّ سبحانه بها تقريبًا
(2)
وتمثيلًا لما هو حقيقة في العبد! وهل في الباطل والضلال والكفر والمحال فوق هذا؟!
والظاهر ـ والله أعلم ـ أن أكثر هؤلاء النُّفاة المعطلة جهالٌ لا يتصورون حقيقة أقوالهم ولوازمها، وإلَّا فمن آمن بالله وكان له في قلبه جلالةٌ وعظمةٌ ووقارٌ لا يرضى بذلك ولا يعتقده، وإن كان كثيرٌ من الناس لا يتحاشى من ذلك ولا يأنف منه لقلة وقار الله في قلبه وبُعده عن معرفته وإساءة ظنه بأهل الإثبات وإحسان ظنه بطائفته وأهل نِحْلته. وضلالُ بني آدم لا يحيط به إلَّا من هو بكل شيءٍ محيطٌ!
الوجه السادس والثلاثون بعد المائتين: أن أعقل الخلق على الإطلاق الرُّسل، وأتباعهم بعدهم أعقل الأمم، وأهل الكتب والشرائع الكبار أعقلهم، وأعقل هؤلاء المسلمون، وأعقل المسلمين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، وأهل السُّنَّة والحديث أعقل الأُمة بعدهم على الإطلاق. والبرهان القاطع على هذا أنه قد ظهر على أيدي الرُّسل من العلم النافع والعمل الصالح ومصالح الدنيا والآخرة ما لم يظهر مثله ولا قريب منه ولا ما له
(3)
البتة نسبة بوجهٍ من الوجوه على أيدي غيرهم من العقلاء.
(1)
«ح» : «كان» .
(2)
«ح» : «أنه بها تقريقا» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «مثاله» . ولعل المثبت هو الصواب.
ومن تدبَّر سيرتهم في أنفسهم وفي خاصتهم وفي العامة وصبرهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الله وما عنده، واشتمالهم من الأخلاق على أزكاها، ومن الشِّيم على أرضاها، وأنهم أصدق الخلق وأبرهم قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، وأعظمهم أمانةً، وأكرمهم عشرةً، وأعفهم ضمائر، وأطهرهم سريرةً = لم يشك أنهم أعقل خلق الله على الإطلاق. ولا ريب أن كل من كان إليهم أقرب كان حظُّه من العقل أوفر، والعلوم والأعمال والسِّيرة والدلائل على ذلك
(1)
.
وأمَّا أعداؤهم وخصومهم فقد ظهر من نقصان عقولهم ما كان الحيوان البهيم أحسن به حالًا منهم؛ فإنه لا يقدم على هلاكه، وخصماء الرُّسل وخصماء أتباعهم متهافتون في أسباب هلاكهم
(2)
تهافت الفراش في النار، وظهر نقصان هذه العقول في علومهم ومعارفهم، مثل ظهوره في أعمالهم أو أعظم، فإن كل من له نورٌ وبصيرةٌ إذا عرض على العقل الصحيح والفطرة السليمة ما جاءت به الرُّسل وما قالته النُّفاة المعطلة في الله جل جلاله؛ تبين له الذي بينهما من الفَرْق أعظم ممَّا بين القَدَم [والفَرْق]
(3)
.
ومن أعظم المحال أن يكون أعقل الخلق وأعقل الأُمم مطبقين على الانقياد لكتابٍ قد خالفه صريح العقل، ويكون ذلك الكتاب متضمنًا لخلاف
(4)
الصواب في أعظم مطالب الدعوة الإلهية، وظاهره ضلالٌ
(1)
كذا في «ح» ، ولعل في الكلام سقطًا.
(2)
«ح» : «هلا لزم» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
يعني: فَرْق الرأس، وفي «ح»:«الفرق» ، تحريف.
(4)
«ح» : «الخلاف» .
ومحالٌ؛ ويطبق عليه أعقل بني آدم ويتلقونه بالقبول، وتشهد عقولهم وفِطَرهم أنه الحق والصواب، وأن ما خالفه فهو الباطل والإفك والمحال، وتصح به قلوبهم، وتطمئن به، وتسكن إليه، وتزكو به النفوس أعظم زكاء! وهذا من المحال أن يحصل بما يخالف صريح العقل، ويكون الصواب في خلاف
(1)
ما دلَّ عليه؛ فإن القلوب الصحيحة والفِطَر السليمة والعقول المستقيمة لا تطمئن بباطلٍ أبدًا، بل يكون أهله كما قال الله سبحانه:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق: 5] وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8 - 9] وقال: {اِنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48].
ووصف سبحانه المصدِّقين به الذين لا يُقدِّمون عليه غيره بطمأنينتهم به، وجعل ذلك من أعظم آيات صدقه في أنه لو كان باطلًا مخالفًا [ق 130 أ] للعقول لم تطمئن به القلوب، بل كانت ترتاب به أعظم ريب، فإن الكذب في الأمور الجزئية ريبةٌ، فكيف بالكذب في باب أسماء الربِّ وصفاته وشأنه؟ والصدق في الأمور الجزئية طمأنينة، فكيف بالصدق في هذا الباب؟
قال تعالى: {الم ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرى مِن دُونِ اِللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ اِلْعَالَمِينَ} [يونس: 37]. وقال تعالى: {الم تَنزِيلُ اُلْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ اِلْعَالَمِينَ} [السجدة: 1]. فجعل سبحانه من أعظم أدلة صدقه نفي الريب عنه في مثل هذه المطالب التي هي أصل مطالب بني آدم، وأجلُّ معارفهم وعلومهم على
(1)
«ح» : «خلافه» .
الإطلاق. فلو كان فيه ما يخالف صريح العقل لكان فيه أعظم الريب، ولما اطمأنت به القلوب ولا ثلجت به الصدور. وقد قال تعالى:{اَلَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اُلْقُلُوبُ} [الرعد: 29] وذِكْرُه هاهنا هو كتابه
(1)
، وهو الذكر الحكيم.
فكيف يجوز على أعقل الأُمم وأفضلها أن تطمئن قلوبهم بما يخالف العقل الصريح؟ وهل هذا إلَّا قدحٌ في عقولهم، كما هو قدح في نبيهم، وفي كتابهم، ومن تكلَّم به وجعله هدًى وشفاءً ورحمةً وعصمةً ونورًا وروحًا! والله ورسوله وملائكته وأولو العلم يعلمون أن كلام هؤلاء المعطلة النُّفاة ـ المعارضين للوحي بعقولهم وآرائه ـ فيه أعظم الريب وأبعد شيءٍ عن طمأنينة القلوب به وسكونها إليه وأشد شيءٍ مخالفة للمعقول الصريح. وهذه سُنة الله في خلقه أن أنقص الناس عقولًا وأعظمهم سفهًا يرمون أعقل الخلق وأفضلهم بنقصان العقول. ولا تنس قول أعداء الرُّسل في الرُّسل أنهم مجانين لا عقول لهم، فهكذا ورثتهم يرمون ورثة الرُّسل بدائهم إلى يوم القيامة. يوضحه:
الوجه
السابع والثلاثون بعد المائتين: أنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفًا لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرجٍ منه وضيق.
وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقلٍ سليمٍ، فإنه كلما كان الرجل أتم عقلًا كان الحرج بالكتاب أبعد منه. قال تعالى لرسوله:{المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 1] والله تعالى رفع الحرج عن الصدور
(1)
«ح» : «كناية» . وهو تصحيف، وقد مر (ص 738) على الصواب في تفسير المصنف لهذه الآية في الوجه الحادي والمائة.
بكتابه وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلمَّا أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى:{فَمَن يُرِدِ اِللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 126].
ومن آمن به من وجهٍ دون وجهٍ ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه. فمن أقرَّ أنه منزلٌ من عند الله أنزله على رسوله ولم يُقرَّ بأنه كلامه الذي تكلَّم به بل جعله مخلوقًا من جملة مخلوقاته؛ كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك. ومن أقرَّ بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان
(1)
في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك. ومن [اعتقد]
(2)
أنه غير كافٍ في معرفة الحقِّ وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج. وأعظم حرجًا منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح ويشهد العقل بخلافه، وكذلك من زعم أن آياته لا يُستفاد منها علمٌ ولا يقينٌ ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم. ومن زعم أن الخطاب به خطابٌ جمهوريٌّ يُخيل للعامة ما ينتفعون به ممَّا ليس له حقيقة في نفس الأمر ففي صدره منه أعظم حرج. ومن زعم أن أجلَّ ما فيه وأشرفه وأفضله وهو قسم التوحيد المتضمن للأسماء والصفات مجازاتٌ واستعاراتٌ وتشبيهاتٌ لا حقائق ففي صدره منه أعظم حرجٍ، فكل هذه الطوائف في صدرهم منه حرجٌ وريبٌ، وليس في حقهم هدًى ولا شفاء
(1)
«ح» : «لكان» .
(2)
سقط من «ح» .
ولا رحمة، ولا هو كافٍ لهم بشهادتهم على أنفسهم، وشهادة الله وملائكته والشهداء من عباده عليهم، وبالله التوفيق.
وقد أقسم سبحانه بنفسه المقدسة أنهم لا يؤمنون حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم، ولا يكفي ذلك في حصول الإيمان حتى يزول الحرج من نفوسهم بما حكم به، ولا يكفي ذلك أيضًا حتى يحصل منهم الرضا والتسليم؛ فقال تعالى:{* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64] فأكَّد ذلك بضروبٍ من التأكيد:
أحدها: تصدير [ق 130 ب] الجملة المقسم عليها بحرف النفي المتضمن لتأكيد النفي
(1)
المقسم عليه، وهو في ذلك كتصدير الجملة المثبتة بإنَّ.
الثاني: القَسَم بنفسه سبحانه.
الثالث: أنه أتى بالمُقْسَم عليه بصيغة الفعل الدالة على الحدوث، أي: لا يقع منهم إيمانٌ ما حتى يحكموك.
الرابع: أنه [أتى]
(2)
في الغاية بـ «حتى» دون «إلَّا» ، المُشْعرة بأنه لا يُوجد الإيمان إلَّا بعد حصول التحكيم؛ لأن ما بعد «حتى» يدخل فيما قبلها.
الخامس: أنه أتى بالمحكم فيه بصيغة الموصول الدالة على العموم وهو قوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي في جميع ما تنازعوا فيه من [الأمور]
(3)
الدقيقة والجليلة.
(1)
لعل الصواب «نفي» .
(2)
سقط من «ح» .
(3)
زدته ليستقيم السياق.
السادس: أنه ضم إلى ذلك انتفاء الحرج وهو الضيق من حكمه.
السابع: أنه أتى به نكرةً في سياق النفي، أي: لا يجدون نوعًا من أنواع الحرج البتة.
الثامن: أنه أتى بذكر ما قضى به بصيغة العموم، فإنها إمَّا مصدرية أي: من قضائك. أو موصولة أي: من الذي قضيته. وهذا يتناول كل فردٍ من أفراد قضائه.
التاسع: أنه لم يكتف منهم بذلك حتى يضيفوا إليه التسليم، وهو قدر زائد على التحكيم وانتفاء الحرج، فما كل من حكَّم انتفى عنه الحرج، ولا كل من انتفى عنه الحرج يكون مسلمًا منقادًا، فإن التسليم يتضمن الرضا بحكمه والانقياد له.
العاشر: أنه أكَّد فعل التسليم بالمصدر المؤكد.
ونحن نناشد
(1)
هؤلاء الجهمية بالله الذي لا إله إلَّا هو، هل يجدون في أنفسهم هذا التسليم والانقياد والتحكيم للنصوص، وهل هم مع الرسول وما جاء به بهذه المنزلة؟ فوالله إن قلوبهم وألسنتهم وكتبهم لتشهد عليهم بضدِّ ذلك كما يشهد به عليهم المؤمنون والملائكة وأولو العلم والله سبحانه، وكفى بالله شهيدًا.
الوجه الثامن والثلاثون بعد المائتين: أن جماع ما يرد به المبطلون لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية الخبرية والأمور العملية الطلبية نوعان:
(1)
«ح» : «نشاهد» .
أحدهما: منع دلالة ما جاء به على تلك المسألة.
والثاني: معارضة الدلالة بما يمنع اتباعها.
فردهم نوعان: منع ومعارضة. فوضعوا لهذين النوعين قانونين. فوضعوا لمنع الدلالة قانون التحريف والتأويل الفاسد، ووضعوا للمعارضة قانون تعارض العقل والسمع وتقديم العقل. فيتضمن هذان القانونان ألَّا يُستفاد من القرآن والسُّنَّة في باب الأسماء والصفات علمٌ ولا يقينٌ.
وأمَّا الطلبيات فإمَّا أن يكون في المسألة إجماعٌ أو لا. فإن كان فيها إجماعٌ استُغني به عن النظر في الكتاب والسُّنَّة، وإن لم يكن
(1)
فيها إجماعٌ ففرضه التقليد لبعض الأئمة؛ لأن النصوص فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها ما قد تُرك العمل به، وفيها الخاص والعام وغير ذلك، وقد كفانا
(2)
الأئمة مُؤْنة النظر والاستدلال وكلفة الاجتهاد، فيتعين المصير إلى أقوالهم. وليس لنا أن نستدرك عليهم ولا نخالفهم، فهم قد كفونا مُؤنة الفروع، وشيوخنا المتكلمون قد كفونا مُؤنة الأصول، فلا يفيدنا النظر في الكتاب والسُّنَّة إلَّا التعب والعناء، وغايتنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه إن أصبنا، وإن خالفناهم كنا نحن المخطئين وهم المصيبون. فالأولى بنا أن نتلقى الأصول عن المتكلمين، والفروع عن مشايخنا الذين هذَّبوا لنا مذاهب الأئمة وضبطوا قواعدها وأصولها.
فيقال: هذا إخبارٌ منكم بحالكم وما يليق بكم وما أنتم أهله، وأمَّا من
(1)
«ح» : «يكون» .
(2)
«ح» : «كفينا» .
رُفع له عَلَم الكتاب والسُّنَّة فشمَّر إليه وآنس من مشكاتهما نور الهداية فطلبه وحرص عليه، وكان كتاب الله وسُنة رسوله أجلَّ في صدره وأعظم في نفسه وأوقر في قلبه من أن يجعل لهما عيارًا يعيِّرهما به، وميزانًا يزنهما به، وندًّا يحاكم إليه ويخاصم به دونهما، فهذا كتاب الله بين أظهرنا كما أنزل محضًا لم يُشَبْ، وهذه سُنة رسوله هل يسوغ لنا الإعراض عنهما إلى ما ذكرتم؟ وهل يُوجد فيهما دليلٌ واحدٌ على هذه الطريق التي سلكتم؟ وهل تجدون فيهما الحوالة على غيرهما بوجهٍ من الوجوه؟ وهل تجدون فيهما ما يتضمن ذلك أو يدلُّ عليه أو يُشير إليه أو يسوِّغه؟
وكأنكم تتمسكون
(1)
بقوله: {اَتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 2].
وبقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 64].
وبقوله
(2)
: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8].
وبقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاَتَّبِعُوهُ وَاَتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 156].
(1)
كذا في «ح» : «وكأنكم تتمسكون» وهو يخالف ما بعده، فالسياق فيه سقط أو تحريف.
(2)
«ح» : «وبقول» .
وبقوله [ق 131 أ]: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ اَلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اِللَّهُ} [الشورى: 19].
وبقوله
(1)
وبقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَإِلَى اَلرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 106].
وبقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اِللَّهُ اُلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اِللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] أي وليجة [أعظم]
(2)
ممَّن اتخذ رجلًا بعينه عيارًا على كلام الله ورسوله وكلام سائر علماء الأُمة، يزن القرآن والسُّنَّة وكلام سائر العلماء على قوله، فما خالفه ردَّه، وما وافقه قبله.
وبقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ
(3)
اِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 16] والقول هاهنا ما قاله الله ورسوله، واتباع أحسنه هو الاقتداء به، فهذا أحسن من قول كل قائلٍ عداه.
(1)
«ح» : «وبقول» .
(2)
سقط من «ح» ، وأثبته من «أعلام الموقعين» .
(3)
«ح» : «عبادي» . وهي قراءة سبعية، ينظر «الحجة للقراء السبعة» لأبي علي الفارسي (6/ 93).
وبقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاَتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اُللَّهُ} [آل عمران: 31].
وبقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاَتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اُلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 154].
وبقوله: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقى (121) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 121 - 122]. وذكره هو كتابه الذي أنزله، فمن أعرض عنه مكتفيًا بقول واحدٍ من بني آدم عنه؛ فقد أتى بحقيقة الإعراض.
وبقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاَعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اَللَّهِ} [القصص: 50]. فقسم الناس إلى مستجيبين للرسول ومتبعٍ هواه. فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سُنته وعدل عنها إلى
(1)
خلافها فقد اتَّبع هواه.
وهذا أكثر من أن يُذكر، والمقصود أن الواجب على الخلق بعد وفاته هو الواجب عليهم في حياته سواء، ففرضُ من سمع كلامه أن يأخذ به. ومن خفي عليه قوله سأل من
(2)
يعرفه، فإذا سمعه ففرضٌ عليه أن يأخذ به، فإن خفي عليه فغاية قول غيره أن يسوغ له الأخذ به، فيكون سائغ الاتباع بعد خفاء السُّنَّة، لا واجب الاتباع، ولا سيما مع ظهور السُّنَّة، وبالله التوفيق.
الوجه التاسع والثلاثون بعد المائتين: أن كل واحدٍ من هذين الأمرين -أعني: المنع والمعارضة ـ ينقسم إلى درجات متعددة. فأمَّا المنع فهو على ثلاث درجاتٍ:
(1)
«ح» : «لك» .
(2)
«ح» : «ممن» .
أحدها: منع كون الرسول جاء بذلك أو قاله.
الدرجة
(1)
الثانية: منع دلالته على ذلك المعنى، وهذه الدرجة بعد التنزل إلى الاعتراف بكونه قاله.
الدرجة الثالثة: منع كون قوله حجةً في هذه المسائل.
والدرجات الثلاث قد استعملها المعطلة النُّفاة:
فأمَّا الأولى: فاستعملوها في الأحاديث المخالفة لأقوالهم وقواعدهم، ونسبوا رواتها إلى الكذب والغلط والخطأ في السمع، واعتقاد أن كثيرًا منها من كلام الكفار والمشركين كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عنهم، فربما أدركه الواحد في أثناء كلامه بعد تصديره بالحكاية فيسمع المحكي فيعتقده
(2)
قائلًا له، لا حاكيًا، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قاله بعضهم
(3)
في حديث قتادة بن النعمان في الاستلقاء
(4)
.
قال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حدَّث به عن بعض
(1)
«ح» : «بالدرجة» .
(2)
«ح» : «فيعقده» .
(3)
كأن المصنِّف عنى به البيهقي، فإنه في كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 199 - 200) أعلَّ الحديث بكل ما ذُكر هنا، ونقله مختصرًا ابن الجوزي في «دفع شبه التشبيه» (ص 36 - 37).
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (568) وأبو بكر الخلال ـ ومن طريقه أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (179) ـ والطبراني في «الكبير» (19/ 13) وأبو يعلى في «إبطال التأويلات» (182) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 198) من طريق محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد بن حنين، عن قتادة بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى
…
» الحديث، قال أبو محمد الحسن بن محمد الخلال:«هذا حديث إسناده كلهم ثقات، وهم مع ثقتهم شرط الصحيحين مسلم والبخاري» . نقله أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (1/ 189)، وصححه عبدالمغيث الحربي كما في «سير أعلام النبلاء» (21/ 160). واستنكره البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 198) والذهبي في «السير» (21/ 160) وضعفه ابن كثير في «جامع المسانيد» (7/ 91). وقال ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 407):«لا أصل لرفعه، وإنما هو متلقًى عن اليهود، ومن قال إنه على شرط الشيخين فقد أخطأ. قال: وعبيد بن حنين قيل إنه لم يسمع من قتادة بن النعمان، قاله البيهقي .. وفليح وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر من أحاديثه، وقال أبو زرعة ـ فيما رواه عنه سعيد البرذعي ـ: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث» . وقد اختلف حكم المصنِّف على هذا الحديث، فقال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 127):«روى الخلَّال في كتاب «السنة» بإسنادٍ صحيحٍ على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه» . فلم يذكر اللفظ المنكر منه، ولما ذكر الحديث تامًّا في «تهذيب سنن أبي داود» (7/ 209) قال:«هذا الحديث له علتان: إحداهما: انفراد فليح بن سليمان به، وقد قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يُحتج بحديثه. وقال في رواية عثمان الدارمي: فليح بن سليمان ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. والعلة الثانية: أنه حديث منقطع؛ فإن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر وصلى عليه عمر، وعبيد بن حنين مات سنة خمسٍ ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي وابن بكير. فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة. والله أعلم» .
أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم، فلم يفهم عنه قتادة بن النعمان إنكاره
(1)
، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
من العجيب نسبتهم سوء الفهم إلى الصحابي الكريم رضي الله عنه، مع كون الإسناد إليه ضعيفًا، وهذا سيستنكره المصنِّف جدًّا، ولو نُسب ذلك للرواة الضعفاء لكان حسنًا. قال ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 409):«فأمَّا هذه الطامة فلا تُحتمل أصلًا، وقد قيل: إن هذه ممَّا اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعًا فرفعه» . فجعل الغلط من الرواة ليس من الصحابي رضي الله عنه.
وعضد هذا الاحتمال بما رواه من حديث ابن أبي أُويس، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، أن الزبير بن العوَّام سمع رجلًا يُحدِّث حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع الزبير له حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الرجل: نعم. قال هذا وأشباهه
(1)
ممَّا يمنعنا أن نتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قد لعمري سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذٍ حاضرٌ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدَّثنا به عن رجلٍ من أهل الكتاب حدَّثه إيَّاه، فجئتَ أنتَ يومئذٍ بعد أن قضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قالوا: فلهذا الاحتمال تركنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله عز وجل
(3)
.
فتأمَّل ما في هذا الوجه من الأمر العظيم أن يشتبه على أعلم الناس بالله
(1)
«ح» : «وأشباهم» . والمثبت من «الأسماء والصفات» .
(2)
أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (764) وفي «المدخل» (702). وعزاه ابن رجب في «فتح الباري» (3/ 409) إلى مسلم في كتاب «التفصيل» . ولم يُذكر في هذه المصادر اللفظ الذي نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن الجوزي في «دفع شبه التشبيه» (ص 37):«وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة» .
(3)
قال البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 201): «ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله» .
وصفاته وكلامه وكلام رسوله كلام الرسول الحق الذي قاله مدحًا وثناءً على الله بكلام الكفار المشركين الذي هو تنقصٌ وعيبٌ، فلا يُميِّز بين هذا وهذا ويقول:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» لما يكون من كلام ذلك المشرك الكافر. فأي نسبة جهلٍ واستجهالٍ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ق 131 ب] فوق هذا أنه لا يميز أحدهم بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الكفار والمشركين، ويميز بينهما أفراخ الجهمية والمعطلة؟ وكيف يستجيز من للصحابة في قلبه وقارٌ وحرمةٌ أن ينسب إليهم مثل ذلك؟! ويا لله العجب! هل بلغ بهم الجهل المفرط إلى ألَّا يُفرِّقوا بين الكلام الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن المشركين والكفار، والذي يقوله حاكيًا له عن جبريل عن رب العالمين، ولا بين الوصف بما هو مدح وثناء وتمجيد لله ووصفه بما هو ضد ذلك؟ فتأمَّل جناية هذه المعرفة على النصوص!
ومن تأمَّل أحاديث الصِّفات وطُرقها وتعدد مخارجها ومن رواها من الصحابة علم بالضرورة بطلان هذا الاحتمال، وأنه من أبين الكذب والمحال. فوالله، لو قاله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه لكان أولى بقبوله واعتقاده من قول الجهمي المعطل النافي، فكيف إذا نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
والمقصود أن هذه الدرجات الثلاث قد وضعت الجهمية أرجلهم فيها. فهذه درجة منع كون الرسول قاله. وأكدوا
(1)
أمر هذه الدرجة بأن أخبار الآحاد يتطرق إليها الكذب والخطأ والغلط، فلا يجوز أن يُحتج بها في باب معرفة الله وما يجب له ويمتنع عليه. وسيمر بك إن شاء الله تعالى ما يقلع هذه الدرجة من أصلها
(2)
.
(1)
«ح» : «وألحدوا» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
للأسف هذا في الجزء المفقود من الكتاب، وينظر «مختصر الصواعق» (4/ 1465 - 1645).
الدرجة الثانية: منع الدلالة، وهذه الدرجة المسمَّاة بأن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين، وقد تقدم فسادها من خمسة وسبعين وجهًا فيما مضى
(1)
، وبيَّنا أن هذا القول لا يجامع دين الإسلام، بل مناقضته للدين معلومةٌ بالضرورة بعد التأمل لحقيقته ولازمه.
الدرجة الثالثة: تسليم دلالته على ذلك ولكن يمنع كون قول الرسول حجة في ذلك. وهذه الدرجة ينزلها طائفتان: إحداهما من يجوز على الرسول أن يخاطب الأمة بخلاف ما هو في نفس الأمر لمصلحتهم. الطائفة الثانية من يعتقد أن لكلامه باطنًا يخالف ظاهره، وتأويلًا يخالف حقيقته.
فالطريقة الأولى للمتفلسفة ومن تتلمذ
(2)
لهم، والطريقة الثانية للجهمية ومن اقتفى آثارهم. وكثيرٌ من المتأخرين يجمع بين الطريقتين، فيتفلسف تارةً، ويتجهم تارةً، ويجمع بين الإدامين تارةً! فهذه درجات المنع.
وأمَّا درجات المعارضة فثلاثة أيضًا:
إحداها: أن يعارض المنقول بمثله ويسقط دلالتهما، أو يرجح دلالة المعارض كما عارض الجهمي قوله:{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] بقوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وزعم أنه لو كان على العرش لم يكن أحدًا، وعارضه بقوله:{وَهْوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وزعم أنه لو كان على عرشه لم يكن معنا، وعارضه بقوله:{اِلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 6]. وهذه معارضة
(1)
في الرد على الطاغوت الأول (ص 342 - 470). وذكر فساده من ثلاثة وسبعين وجهًا.
(2)
«ح» : «يتلمذ» .
الزمخشري في «كشافه»
(1)
[فلو أنَّ]
(2)
المجسم بزعمك جسَّم حقيقةً لما رضي لنفسه ولمن يخاطبه بمثل هذا الكلام الذي هو من أقبح الكلام وأبطله، ولشحَّ على زمانه وأوراقه أن يضيعه بمثله، ولمنعه وقار القرآن وعظمته في صدره أن يفسِّره بمثل هذا الكلام الذي هو كما قيل:«مثل حجارة الكنيف ترجع وتنجس» . فقد صرَّح قائله بأن إيمان محمد بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وجميع الأنبياء والمرسلين إنما هو عن نظر واستدلال، وهم بسعادتهم قد سدوا جميع طرق الإيمان والمعرفة إلَّا طريق الجواهر والأعراض والاجتماع والافتراق وإبطال حوادث لا أول لها، وزعموا أن من لم يعرف ربَّه من تلك الطريق مات ولم يعرف له ربًّا ولم يُقرَّ بأن له إلهًا وخالقًا. وزادوا في الافتراء والكذب والبهت، فزعموا أن إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين وجميع المرسلين مبنيٌّ على هذه الطريقة، وأن إيمانهم كلهم سواء، وأنهم لا طريق لهم إلى معرفته إلَّا هذا النظر والاستدلال الذي وضعه لهم شيوخ الجهمية ومبتدعة المتكلمين وضُلال أهل الاعتزال. فهاهنا يسجد
(1)
(4/ 152).
(2)
«ح» : «فيكون» . والمثبت لتستقيم العبارة.
المجسم ـ بزعمكم ـ شكرًا لله؛ إذ عافاه الله من مثل هذا البلاء العظيم، وهذا القول أقل وأحقر من أن يتكلف للوجوه التي تدل على بطلانه بأكثر من حكايته
(1)
.
ومن هذا معارضة [ق 132 أ] غيره لنصوص الاستواء والعلو بقوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
(2)
. قال قائل
(3)
: هذا دليلٌ على أن الله ليس فوق العالم ولا مستويًا على العرش. قال: لأن يونس نزل إلى قرار البحر، ومحمد صلى الله عليه وسلم رُفع إلى فوق السماوات، فكانا في القرب من الله على حدٍّ سواء لا يفضل أحدهما على الآخر في القرب منه سبحانه. فلو أن المجسم نزل إلى الأرض السابعة لم يرض لنفسه ولمعرفته ولفهمه عن نبيه بمثل هذا.
ومن هذا معارضة نصوص الاستواء والعلو بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9] فلبسوا على الجهال بإيهامهم أن من أثبت كونه سبحانه فوق سماواته على عرشه فقد جعل له مثلًا.
ومن هذا معارضة بعضهم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تكلم فيها
(4)
النبي صلى الله عليه وسلم بأين الله؟ وسمع السؤال بأين الله؟ وأقرَّ السائل عليه ولم ينكره. كما كفره هؤلاء، فعارضوها كلها بحديثٍ مكذوبٍ موضوعٍ في إسناده
(1)
من العجيب أن الفخر الرازي أُعجب بقول الزمخشري المردود عليه غاية الإعجاب، فقال في «مفاتيح الغيب» (27/ 488):«رحم الله صاحب «الكشاف» فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرًا وشرفًا».
(2)
تقدم (ص 124) تخريجه.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
بعده في «ح» : «إلى» . وهو لفظ زائد.
من لا يُدرى من أي الدوابِّ هو، كشيحة
(1)
الذي لا ذكر له في شيءٍ من كتب الحديث، ولعل بعض الوضاعين نسبه إلى واحد الشِّيح
(2)
. والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد سُئل أين الله؟ فقال: «لَا يُقَالُ أَيْنَ لِمَنْ أَيَّنَ الْأَيْنَ»
(3)
.
فعارض هذا الأحاديث الصحيحة المستفيضة التي نطق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأين، وأقرَّ على إطلاقها بهذا الحديث [الركيك]
(4)
الذي يستحيي من التكلُّم به آحاد الناس، فضلًا عن سيِّد ولد آدم.
وأقبح من هذا معارضة الأحاديث المتواترة ـ التي تزيد على مائتي
(1)
«ح» : «كشيخه» . بالخاء المعجمة.
(2)
«ح» : «الشيخ» . بالخاء المعجمة.
(3)
قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (5/ 225): «رواه ابن عساكر فيما أملاه في «نفي الجهة» عن شيحة ـ تصحف في المطبوع إلى: شيخه ـ بن عبد الله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذي أيَّن الأين فلا يقال له أين» . وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه:«يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك» وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قال فيه: إنه غريب». وقال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 258): «وهذا الحديث ممَّا يعلم صبيان أهل الحديث أنه كذبٌ مختلقٌ، وأنه مفترًى، وأنه لم يروه قط عالمٌ من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث، ولا دونوه في شيءٍ من دواوين الإسلام، ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب» . وقال الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 261): «شيحة العوسجي جاء في خبرٍ موضوعٍ في مجلس لابن عساكر الحافظ» . وذكره الإسفراييني في «التبصير» (ص 161) عن عليٍّ موقوفًا. قال ابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» (6/ 630): «وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم، لا إسناد له» .
(4)
«ح» : «الوكيل» . ولعل المثبت هو الصواب.
طريق، وأصلها نحو الثلاثين ـ في رؤية الربِّ تعالى في الآخرة بقوله تعالى:{لَّا تُدْرِكُهُ اُلْأَبْصَارُ} [الأنعام: 104]. فيا للعقول! نحن إنما تلقينا هذه الأحاديث عمَّن أُنزلت عليه الآية، فهو الذي جاء بهذا وهذا، فكيف يستجيز مسلمٌ أن يُعارض كلامه بما فهمه من ظاهر القرآن فهمًا فاسدًا؟ ولو فهمه كما ينبغي لعلم أن القرآن موافق للسُّنة لا مناقض لها، كما تقدم تقريره.
فصل
الدرجة الثانية من المعارضة: معارضة النصِّ بالرأي، وهذه المعارضة في الأصل هي من فعل المشركين أعداء الرسل، وتلقاها ورثتهم من بعدهم كما تقدم بيانه
(1)
.
الدرجة الثالثة: المعارضة بالتقليد واتباع الآباء والمشايخ والمعظَّمين في النفوس، وإذا تأمَّلت الغالب على بني آدم وجدته من هذا النوع. واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم
(2)
في الإسلام حتى يبرأ من هذه الممانعة والمعارضة، فحينئذٍ يدخل في دائرة الإسلام، ولا يمكن تحكيم الرسول وانتفاء الحرج ووقوع التسليم حتى تنتفي هذه الممانعة والمعارضة من كل وجهٍ، وبالله التوفيق. يوضحه:
الوجه
الأربعون بعد المائتين: وهو أنه مع التصديق الجازم يمتنع وقوع المعارضة والممانعة، وحيث وُجد ذلك فهو ملزومٌ لانتفاء التصديق،
ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ. فهاهنا أمران: تصديقٌ جازمٌ يلزمه انتفاء
(1)
تقدم (ص 551).
(2)
«ح» : «فدتم» . والمثبت هو الصواب.
المنع والمعارضة، ومنع ومعارضة يلزمه انتفاء التصديق الجازم، فيُستدل بوجود الملزوم منهما على وجود لازمه، وبانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه. وهذا أمرٌ قطعيٌّ، لكنه موقوف على صحة اللزوم. فنقول: متى حصل الإقرار بأن المتكلم عالمٌ بما أخبر به، صادقٌ في خبره يستحيل عليه الجهل والكذب عمدًا أو خطأ؛ امتنع ـ والحالة هذه ـ أن يقوم بقلب من اعتقد ذلك منعٌ لخبره أو معارضةٌ له، ووجود المنع والمعارضة وهذا الإقرار والتصديق لا يجتمعان. وإذا ثبت اللزوم المذكور لزم من وجود الملزوم وجود لازمه، ومن انتفاء اللازم انتفاء ملزومه.
والعجب أن هؤلاء مع
(1)
شدة تمسكهم بالعقليات واعتنائهم بها حين عارضوا بينها وبين الوحي يجمعون بين النقيضين، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون اللازم ويثبتون ملزومه، وذلك مخالفةٌ لصريح العقل؛ فإنهم يدَّعون الإيمان بما جاء به الرسول وينفون لازمه، وإذا نفوا اللازم انتفى الملزوم، ولكن من حكمة أحكم الحاكمين أن سلب
(2)
هؤلاء خاصة عقولهم، وحال بينهم وبينها، وكشف لأهل العقل والسمع أنهم من أبعد الناس عن العقل والسمع. وهذا كما ظهر لأتباع الرُّسل في الدنيا فإنه سيظهر لأولئك حين يقول المعارضون للرُّسل بعقولهم:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11].
الوجه الحادي والأربعون بعد المائتين: أن الله سبحانه أنزل على عبده ورسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في أفضل الأيام وأفضل الشهور وأفضل
(1)
«ح» : «من» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «يسلب» .
الأماكن ومعه أفضل الخلق {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4]. وقد ثبت في «صحيح البخاري»
(1)
وغيره من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا [ق 132 ب] معشر اليهود نزلت فعُلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيدًا. فقال عمر: أية آية هي؟ قال: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4] فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه. أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية الجمعة ونحن معه بعرفة.
وفي «مسند علي»
(2)
للحافظ مُطيَّن: حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا قيسٌ، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنفية، عن عليٍّ قال: «نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف عشية عرفة {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
(1)
أخرجه البخاري (45) ومسلم (3017).
(2)
لا يزال مفقودًا فيما نعلم، والحديث أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (8) من طريق مطيَّن به. وأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2501) من طريق يحيى الحماني به. وقال ابن ناصر الدِّين في «جامع الآثار» (6/ 85 - 86):«خرجه يعقوب بن شيبة في «مسنده» عن الحماني وقال: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. وقد رُوي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ صحاحٍ عن عمر بن الخطاب وغيره، وإنما ذكرنا هذا الحديث على وهاه وضعفه، ليُعرف مخرجه وطريقه، كان يحيى بن معين يتكلم في إسماعيل بن سلمان هذا، قال: يقال له الأزرق، يروي عن أبي عمر البزار، غير معروف، وضعفه جدًّا. قال يعقوب: وقيس بن الربيع سيئ الحفظ، مختلط الحديث، وهو صدوق، قد حمل الناس عنه».
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا}».
وقال عبدُ بن حُميدٍ
(1)
: أخبرنا يزيد بن هارون، ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وعنده يهودي فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عباس: نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة.
قال
(2)
: وحدثنا أبو نُعيم، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عامرٍ قال: «نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم [وهو بعرفة، وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة]
(3)
».
[الوجه الثاني والأربعون بعد المائتين
(4)
: أن هذه المعارضة بين العقل والنقل هي أصل كل فسادٍ في العالم، وهي ضدُّ دعوة الرُّسل من كل وجهٍ، فإنهم دعوا إلى تقديم الوحي على الآراء والعقول، وصار خصومهم إلى ضدِّ ذلك، فأتباع الرُّسل قدَّموا الوحي على الرأي والمعقول، وأتباع إبليس أو
(1)
«تفسير عبد بن حُميد» لا يزال مفقودًا، وعزاه إليه السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 18)، وقد أخرجه الترمذي (3044) عن عبد بن حميد به. وقال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب» . وأخرجه الطبري في «التفسير» (8/ 87).
(2)
أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (12) من طريق عبد بن حميد به. وأخرج ابن سعد في «الطبقات الكبير» (2/ 169) وسعيد بن منصور في «التفسير» (713) والطبري في «التفسير» (2/ 526، 8/ 88) عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي نحوه.
(3)
سقط من «ح» ، وأثبته من «ذم الكلام» . وقد وقع في «ح» هنا سقط كبير، وكتب على حاشيتها:«كذا في الأصل» . وقد استدركت من «م» جزءًا كبيرًا منه سأنبه عليه عند انتهائه.
(4)
«م» : «الثاني والخمسون» . لأنها مختصرة من الكتاب، وأثبت مقتضى ترتيب الكتاب.
نائبٍ من نوابه قدَّموا العقل على النقل.
قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»
(1)
: «اعلم أن أول شُبهةٍ وقعت في الخلق شُبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النصِّ، واختياره الهوى في معارضة الأمر
(2)
، واستكباره بالمادة التي خُلق منها، وهي النار على مادة آدم، وهي الطين. وتشعبت عن هذه الشُّبهة سبع شبهاتٍ، حتى صارت مذاهب بدعةٍ وضلالةٍ. وتلك الشُّبهات مسطورةٌ في شرح الأناجيل الأربعة، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرةٍ
(3)
بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه.
قال كما نُقل عنه: إني سلَّمت أن الباري إلهي وإله الخلق عالمٌ قادرٌ ولا تسأل
(4)
عن قدرته ومشيئته، وأنه إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون. وهو حكيمٌ، إلَّا أنه تتوجه على مساق حكمته أسولة سبعة:
أولها: قد علم قبل خلقي أي شيءٍ يصدُر عنِّي ويحصل، فلم خلقني أولًا؟ وما الحكمة في خلقه إيَّاي؟
الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فَلِمَ كلفني بمعرفته
(5)
وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف بعد ألَّا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصة؟
والثالث: إذ خلقني وكلَّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت
(1)
(1/ 23 - 28) باختلاف يسير.
(2)
«م» : «الرأي» . والمثبت من «الملل والنحل» .
(3)
«الملل والنحل» : «مناظرات» .
(4)
«الملل والنحل» : «يُسأل» .
(5)
«م» : «لمعرفته» . والمثبت من «الملل والنحل» .
وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد ألَّا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي؟
والرابع: إذ خلقني وكلفني على الإطلاق وكلفني هذا التكليف على الخصوص، فإذْ لم أسجد فلم
(1)
لعنني وأخرجني من الجنة، ما الحكمة في ذلك بعد أن
(2)
لم أرتكب قبيحًا إلَّا قولي: لا أسجد إلَّا لك؟
والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقًا وخصوصًا ولم أطع فلعنني وطردني]
(3)
فَلِمَ طرَّقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيًا وغررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح
(4)
مني آدم وبقي خالدًا في الجنة؟
والسادس: إذ خلقني
(5)
وكلفني عمومًا وخصوصًا ولعنني ثم طرَّقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم؛ فلم سلَّطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يروني وتؤثر فيهم وسوستي، ولا يُؤثر فيَّ حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى وأليق بالحكمة؟
والسابع: سلَّمت هذا كله: خلقني، وكلفني مطلقًا ومقيدًا، وحيث لم
(1)
كتبه على حاشية «م» ، وعليه:«ظ» . يريد أن الظاهر إثباته، وهو ثابت في «الملل والنحل» .
(2)
«م» : «إذ» . وعلى حاشية «م» : «ان» . وعليه: «ظ» . وكذا هو في «الملل والنحل» .
(3)
آخر السقط الكبير من «ح» ، وأثبته من «م» .
(4)
«الملل والنحل» : «لاستراح» .
(5)
«ح» : «أدخلني» . والمثبت من «م» و «الملل والنحل» .
أطع لعنني وطردني، ومكَّنني من دخول الجنة وطرَّقني، وإذ عملت عملي أخرجني، ثم سلَّطني على بني آدم؛ فلِمَ إذ استمهلته أمهلني فقلت:{أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 78] فقال: {إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنظَرِينَ (79) إِلَى يَوْمِ اِلْوَقْتِ اِلْمَعْلُومِ} [ص: 79 - 80]؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال
(1)
استراح الخلق مني، وما بقي شرٌّ في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرًا من امتزاجه بالشر؟! قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في
(2)
كل مسألة.
قال شارح الإنجيل: فأوحى الله إلى الملائكة: قولوا له: فإنك في مسألتك الأولى أني إلهك وإله الخلق غير صادقٍ ولا مخلصٍ، إذ لو صدَّقت أني ربُّ العالمين ما احتكمت عليَّ بلِمَ، فأنا الله الذي لا إله إلَّا أنا، لا أُسأل عمَّا أفعل والخلق مسؤولون.
قال: هذا مذكورٌ في التوراة ومسطورٌ في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته. وكنت برهةً من الزمان أتفكر وأقول: من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهةٍ وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان ووساوسه، ونشأت من شُبهاته. وإذا كانت الشُّبهات محصورةً في سبعٍ، عادت كبار البدع والضلال إلى سبعٍ، ولا يجوز أن تعدو
(3)
شبهات فرق أهل الزيغ والكفر هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات وتباينت الطُّرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذر، يرجع جملتها
(4)
إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحقِّ،
(1)
«ح» : «الحالة» . والمثبت من «م» و «الملل والنحل» .
(2)
«في» من «م» و «الملل والنحل» .
(3)
في «ح» ، «م»:«يعدوها» . والمثبت من «الملل والنحل» .
(4)
«ح» : «كالبدو يرجع حملها» . وفي «الملل والنحل» : «كالبذور ويرجع جملتها» . والمثبت من «م» .
وإلى الجنوح إلى الهوى والرأي في مقابلة النصِّ. والذين جادلوا نوحًا وهودًا وصالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وموسى وعيسى ومحمدًا ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته.
وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم وجحد أصحاب التكاليف والشرائع بأسرهم، إذ
(1)
لا فرق بين قولهم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وبين قوله: {آاسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]. وعن هذا صار مفصل الخلاف ومحزُّ
(2)
الإشكال والافتراق ما هو في قوله: {وَمَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذ جَّاءَهُمُ اُلْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اَللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] فبيَّن أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى، كما قال للمتقدم الأول: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا
(3)
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 11].
وقال المتأخر من ذريته كما قال المتقدم: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ (51) وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52]. وكذلك لو تعقبنا أقوال
(4)
المتأخرين
(5)
منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتقدمين
(6)
{كَذَلِكَ قَالَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 117]{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74].
(1)
«ح» : «أن» . والمثبت من «الملل والنحل» .
(2)
«ح» : «مجرد» . والمثبت من «الملل والنحل» .
(3)
«ح» ، «م»:«أن» .
(4)
«ح» : «أحوال» . والمثبت من «م» و «الملل والنحل» .
(5)
«الملل والنحل» : «المتقدمين» .
(6)
«ح» و «الملل والنحل» : «المتأخرين» . والمثبت من «م» .
فاللعين الأول لمَّا حكَّم العقل على من لا يحتكم عليه العقل أجرى حكم الخالق في الخلق وحكم الخلق في الخالق، والأول غلوٌّ والثاني تقصيرٌ. فثار من الشُّبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخية والمُشبِّهة والغلاة من الرافضة حيث غلوا في حقِّ شخصٍ من الأشخاص حتى وصفوه [ق 133 أ] بأوصاف الجلال.
وثار من الشُّبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمُجسِّمة حيث قصروا من وصفه تعالى بصفات المخلوقين، والمعتزلة مشبِّهة الأفعال والمشبهة حلولية
(1)
الصِّفات، وكل منهما أعور. فإن من قال: يحسن منه ما يحسن منَّا، ويقبح منه ما يقبح منَّا؛ فقد شبَّه الخالق بالخلق. ومن قال: يُوصف الباري بما يُوصف به الخلق، أو يُوصف الخلق بما يُوصف به الخالق؛ فقد اعتزل عن الحقِّ. وسِنْخ
(2)
القدرية طلب العلة في كل شيءٍ، وذلك من سِنْخ اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولًا، والحكمة في التكليف ثانيًا، والفائدة
(3)
في تكليف السجود لآدم ثالثًا».
ثم ذكر الخوارج والمعتزلة والروافض، وقال: «رأيت بدء شبهاتهم كلها نشأت من شبهات اللعين الأول، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الآخرة مظهرها. وإليه أشار التنزيل بقوله:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطْوَاتِ اِلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 167]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لَتَسْلُكُنَّ سُبُلَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ حَذْوَ
(1)
«ح» : «مشبهة» . والمثبت من «الملل والنحل» .
(2)
«ح» ، «م»:«شيخ» . هنا وفي الموضع التالي، وهو تصحيف، والمثبت من «الملل والنحل». والسِّنْخ: الأصل.
(3)
«ح» ، «م»:«المعاندة» . والمثبت من «الملل والنحل» .
الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ
(1)
وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»
(2)
.
فهذه
(3)
القصة والمناظرة هي من نقل أهل الكتاب، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها؛ وكأنها ـ والله أعلم ـ مناظرة وُضعت على لسان إبليس. وعلى كل حالٍ فلا بد من الجواب عنها، سواء صدرت منه أو قيلت على لسانه، فلا ريب أنها من كيده، وقد أخبر الله سبحانه {إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 75]. فهذه الأسولة والشُّبهات من أضعف الأسولة عند أهل العلم والإيمان، وإن صعب موقعها عند من أصَّل أصولًا فاسدةً كانت سدًّا بينه وبين ردِّها. وأمَّا من لم يُؤصِّل غير كتاب الله وسُنة رسوله فهذه الأسولة عنده من جنس أسولة تلامذته وأصحابه التي يوردونها على الرُّسل وما جاؤوا به. وهي أسولةٌ فاسدةٌ مبنيةٌ على أصولٍ فاسدةٍ، وقد افترقت طُرق الناس في الأجوبة عنها أشد افتراق، وسلكوا في إبطالها كل طريقٍ يخطر بالبال. ونحن نذكر طرقهم.
فقال
(4)
المنجمون وزنادقة الطبيعيين والفلاسفة: لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيءٍ من ذلك، بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلًا بعد نسلٍ وأُمةً بعد أُمةٍ، وإنما ذلك أمثال مضروبة لانفعالِ القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر، وهذه القوى هي المسمَّاة في الشرائع بالملائكة،
(1)
يُضرب مثلًا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. كما تقدم (ص 52).
(2)
أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه. وبانتهاء هذا الحديث انتهى النقل عن الشهرستاني.
(3)
«ح» : «بهذه» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «فقالت» . والمثبت من «م» .
واستعصاءِ القوى
(1)
الغضبية والشهوانية عليه وهي المسمَّاة بالشياطين، فعبَّر عن خضوع القوى الفاضلة بالسجود، وعبر عن إباء القوى الشريرة الفاسدة بالإباء والاستكبار وترك السجود.
قالوا: والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على هذا الوجه وإسكان هذه القوى فيه، وانقياد بعضها له وإباء بعضها، فهذا شأن الإنسان، ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانًا.
قالوا: وبهذا تندفع الأسولة كلها، ويظهر بطلانها، وأنها بمنزلة أن يقال: لِمَ أحوج الإنسان إلى الأكل والشرب واللباس؟ ولمَّا أحوجه إليه فلِمَ جعله يبول ويتغوط ويتمخط؟ ولم جعله يمرض ويهرم ويموت؟ فإن هذه الأمور من لوازم النشأة الإنسانية التي لو قدر ارتفاعها لارتفعت هذه النشأة.
فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها، وأبطلت آدم وإبليس والملائكة، وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية.
وقالت الجبرية ومنكرو الحِكَم والتعليل: هذه الأسولة إنما ترد على من يفعل لعلةٍ أو لغرضٍ أو لغايةٍ. فأمَّا من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض بل يفعل ما يفعله بلا سببٍ ولا غايةٍ، وإنما مصدر مفعولاته
(2)
محض مشيئته، وغايتها مطابقتها لعلمه وإرادته، فيجيء فعله على وفق إرادته وعلمه. وعلى هذا فهذه الأسولة فاسدةٌ كلها؛ إذ مبناها على أصلٍ واحدٍ، وهو تعليل أفعال من لا تُعلل أفعاله ولا يُوصف بحُسنٍ ولا قُبحٍ عقليين، بل الحسن ما فعله، وما فعله فكله حسنٌ، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون.
(1)
«ح» : «واستقصا بالقوى» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «مفعولات» . والمثبت من «م» .
قالوا: والقبح والظلم هو تصرف الإنسان في ملك غيره بغير إذنه، فأمَّا تصرف المالك الحقِّ في ملكه من غير أن يكون تحت حجر حاجرٍ أو أمر آمرٍ أو نهي ناهٍ فإنه لا يكون ظلمًا ولا قبيحًا. فرفع هؤلاء الأسولة من أصلها، وسدوا على أنفسهم طريق استماعها والجواب عنها. والتزموا لوازم هذا الأصل من إبطال الحِكَم والتعليل والأسباب والتحسين والتقبيح ووجوب شكر المنعم عقلًا، ومنعت لأجله أن يجب على الله شيءٌ أو يحرم عليه شيءٌ أو يقبح منه ممكنٌ، بل كل ممكنٍ فهو جائزٌ عليه لا يقبح منه.
وقالت القدرية: هذا لا يرد على أصولنا، وإنما يرد على أصول الجبرية القائلين بأن الله خالق أفعال العباد [ق 133 ب] طاعاتهم ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم، وأنه قدَّر ذلك عليهم قبل أن يخلقهم وعلمه منهم وخلقهم له، فخلق أهل الكفر للكفر، وأهل الفسوق للفسوق، وقدَّر ذلك عليهم وشاءه منهم وخلقه فيهم. فهذه الأسولة واردة عليهم، وأمَّا نحن فعندنا أن الله سبحانه عرضهم للطاعة والإيمان وأقدرهم عليه ومكَّنهم منه ورضيه لهم وأحبه، ولكن هم اختاروا لأنفسهم الكفر والعصيان، وآثروه على الإيمان والطاعة. والله سبحانه لم يُكْرِههم على ذلك، ولم يُلْجِئهم إليه، ولا شاءه منهم، ولا كتبه عليهم ولا قدَّره ولا خلقهم له ولا خلقه فيهم، ولكنها أعمالٌ هم لها عاملون، وشرورٌ هم لها فاعلون، فإنما خلق إبليس لطاعته وعبادته، ولم يخلقه لمعصيته والكفر به.
وصرَّح قدماء هذه الفرقة بأنه سبحانه لم يكن يعلم من إبليس حين خلقه أن يصدر منه ما صدر، ولو علم ذلك منه لم يخلقه، وأبى متأخروهم ذلك، وقالوا: بل كان سبحانه عالمًا به وبشأنه، وخلقه امتحانًا لعباده ليظهر المطيع
له من العاصي، والمؤمن من الكافر، وليُثيب
(1)
عباده على معاداته ومحاربته ومعصيته أفضل الثواب. قالوا: وهذه الحكمة اقتضت بقاءه حتى تنقضي الدنيا وأهلها. قالوا: وأمره بالسجود ليطيع فيثيبه ويقربه ويكرمه، فاختار لنفسه المعصية والكفر من غير إكراه للربِّ تعالى، ولا ألجأه إلى ذلك ولا حال بينه وبين السجود ولا منعه، ولا سلَّطه على آدم وذريته قهرًا وإكراهًا لهم. وقد اعترف عدو الله بذلك حيث يقول:{وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 25] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} [سبأ: 21]. قالوا: فاندفعت تلك الأسولة وبطلت، وظهر أنها ترد على أصول الجبرية لا على أصولنا.
وقالت الفرقة الناجية ـ حزب الرسول وأنصاره، وبُنْك
(2)
الإسلام وعصابة الإيمان، الذين لم يتحيزوا إلى فئةٍ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذهبوا إلى مقالةٍ غير ما دلَّت عليه سُنته، ولم ينتسبوا إلى غيره بوجهٍ من الوجوه ـ: كيف يطمع في الردِّ على عدو الله وإبطال قوله من قد شاركه في أصله أو في بعض شُعبه، فإن عدو الله أصَّل معارضة النص بالرأي، فترتب على تأصيله هذه الأسولة وأمثالها، فمن عارض العقل بالنقل في أمرٍ من الأمور فهو شريكه من هذا الوجه، فلا يتمكن من الردِّ التام عليه.
ولهذا لمَّا شاركه زنادقة الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين في هذا الأصل أنكروا وجوده ووجود آدم والملائكة، فضلًا عن قصة أمره بالسجود وإبائه وما ترتب عليها.
(1)
«ح» : «ليثبت» . والمثبت من «م» .
(2)
البُنْك: الأصل، وهو مُعرَّب. «الصحاح» (4/ 1576).
ولمَّا أنكرت الجبرية الحكمة والتعليل والأسباب وأبطلت هذا الأصل بعقولها وآرائها عجزوا عن جواب أسولته، وسدُّوا على نفوسهم باب استماعها والجواب عنها، وفتحوا باب مكابرة العقول الصريحة وإنكار تحسين العقل
(1)
وتقبيحه وإنكار الأسباب والقوى والطبائع والحِكَم والغايات المحمودة التي لأجلها يفعل الربُّ ما يفعله ويأمر بما يأمر
(2)
به، وجوَّزوا عليه أن يفعل كل شيءٍ، وأن يأمر بجميع ما نهى عنه، وينهى عن كل ما أمر به؛ ولا فرق عنده البتة بين المأمور والمحظور، والكل سواء في نفس الأمر، ولكن هذا صار حسنًا بأمره، لا أنه في نفسه وذاته حسنٌ، وهذا صار قبيحًا بنهيه، لا أنه في نفسه وذاته قبيحٌ.
ولمَّا أصَّلت القدرية إنكار عموم قدرة الله سبحانه ومشيئته لجميع الكائنات، وأخرجت أفعال عباده خيرها وشرها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وأثبتت لله سبحانه شريعة بعقولهم = حكمت عليه بها، واستحسنت منه ما استحسنته من أنفسها، واستقبحت منه ما استقبحته
(3)
من نفوسها، وعارضت بين الأدلة السمعية الدالة على خلاف ما أصَّلوه وبين العقل، ثم راموا الردَّ على عدو الله، فعجزوا
(4)
عن الردِّ التامِّ عليه، وأجادت
(5)
كل فرقة من هذه الفرق من الرد عليه بحسب ما وافقت فيه السمع والعقل.
(1)
«ح» : «الفعل» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «وبأمرهما بأمر» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
«ح» : «استقبحه» . والمثبت من «م» .
(4)
«ح» : «فورا» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «أجابت» . والمثبت هو الصواب.
وإنما يتمكن من الردِّ عليه كل الردِّ من تلقى أصوله عن مشكاة الوحي ونور النبوة، ولم يؤصِّل أصلًا برأيه وعقله وآراء الرجال وعقولهم، ولم يخرج من مشكاة الوحي ولم يظهر من معدنه، بل تلقى أصوله كلها عن قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحيٌ يُوحى.
فأول ذلك أنه علم أن هذه الأسولة ليست من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى مخبرًا بها عن عدوه، كما أخبر عنه في القرآن بكثيرٍ من أقواله وأفعاله. وإدخالُ بعض أهل الكتاب لها في تفسير التوراة والإنجيل هو كما تجد في المسلمين ـ وما بالعهد من قِدَم ـ من يدخل في تفسير [ق 134 أ] القرآن كثيرًا من الأحاديث والأخبار التي لا أصل لها، والقصص المعلوم كذبها، وإذا كان هذا في هذه الأُمة التي هي أكمل الأُمم علومًا ومعارف وعقولًا، فما الظن بأهل الكتاب؟!
فصل
الوجه الثاني: أن نقول لعدو الله: قد ناقضت في أسولتك ما اعترفت به وسلَّمته غاية المناقضة، وجعلت ما أسلفته من التسليم والاعتراف مبطلًا لجميع أسولتك، متضمنًا للجواب عنها قبل ذكرها. وذلك أنك قلت:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] وقلت: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] وقلت: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (81) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ اُلْمُخْلِصِينَ} [ص: 81 - 82].
فاعترفت بأنه ربك وخالقك ومالكك، وأنك مخلوقٌ له مربوبٌ تحت أوامره ونواهيه، إنما شأنك أن تتصرف في نفسك تصرف العبد المأمور المنهي، المستعد لأوامر سيده ونواهيه، وهذه هي الغاية التي خُلقت لها،
وهي غاية الخلق وكمال سعادتهم وصلاحهم. وهذا الاعتراف منك بربوبيته وقدرته وعزته يتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه، وأنه في كل ما أمر به عليمٌ حكيمٌ، لم يأمر عبده لحاجةٍ منه إلى أمره به، ولم ينهه بخلًا عليه بما نهاه عنه، بل أمره رحمةً منه به وإحسانًا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده، وما لا صلاح له إلَّا به، ونهاه عمَّا في ارتكابه فساده في معاشه ومعاده. فكانت نعمته عليه بأمره ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما، كما قال سبحانه في آخر قصتك مع الأبوين:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ اُلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اِللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 25]. فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خيرٌ من المال والرِّياش
(1)
والجمال الظاهر، فالله سبحانه خلق عباده وجمَّل ظواهرهم بأحسن تقويم، وجمَّل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم. ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك وإيثارك معاداته على طاعته وموالاته من أحسن الصور، وأنت مع الملائكة الأكرمين. فلمَّا وقع ما وقع جعل قُبح صورتك وبشاعة منظرك مثلًا يُضرب لكل قبيحٍ؛ كما قال تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ اُلشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. فهذه أول نقدة تعجلتها من معصيته.
ولا ريب أنك تعلم أنه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، وأغنى الأغنياء، وأرحم الراحمين، وأنه لم يأمر العباد إلَّا بما فعلُه خيرٌ لهم وأصلح وأنفع وأحسن تأويلًا، وأعظم عائدةً من تركه، كما أنه لم يرزقهم إلَّا ما تناولُه أنفع لهم من تركه، فأمرُه لهم بما أمرهم به كرزقه لهم ما رزقهم إيَّاه.
(1)
الريش والرياش بمعنًى، وهو اللباس الفاخر. «الصحاح» (3/ 1008).
فالسُّعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم وكمالها وصلاحها، بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها، وتيقنوا أنه كما لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلَّا بتناول غذائه الذي جُعل له، فكذلك لا صلاح للقلب والروح ولا فلاح ولا نعيم إلَّا بتناول غذائه الذي جُعل له.
هذا، وإن ألقيت إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة للمكلفين فيما أُمروا به ونُهوا عنه، ولا منفعة لهم فيه ولا خير، ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا، ولكن أُمروا ونُهوا لمجرد الامتحان والاختبار؛ ولا فرق في نفس الأمر بين ما أُمروا به ونُهوا عنه فلم يُؤمروا بحسنٍ ولم يُنهوا عن قبيحٍ، بل ليس في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح. ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به عليك وجعلوه عصمتهم في جواب أسولتك، فدفعوها كلها، وقالوا: إنما تتوجه هذه الأسولة في حق من يفعل لغرضٍ
(1)
أو لعلةٍ. وأمَّا من فعله بريئًا من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد من هذه الأسولة. فإن كانت هذه القاعدة حقًّا فقد اندفعت أسولتك كلها، وإن كانت باطلًا والحقُّ في خلافها فقد بطلت أسولتك أيضًا لما تقدم. فقد بطلت أسولتك على التقديرين. يوضحه:
الوجه الثالث: أن نقول لعدو الله: إمَّا أن تُسلِّم حكمة الله في خلقه وأمره وإمَّا أن تجحدها وتنكرها. فإن سلمتها وأنه سبحانه حكيمٌ في خلقك حكيمٌ في أمرك بالسجود بطلت الأسولة، وكنت معترفًا بأنك أوردتها على من تبهر
(2)
حكمته العقول، ولم تجعل أحدًا من خلقه شريكًا له في ما فعل
(1)
«ح» : «العلة» . والمثبت من «م» .
(2)
«ح» : «يميز» . والمثبت من «م» .
بحكمته
(1)
، فإنه لا يشرك في حكمه أحدًا كما لم يشركهم في علمه وقدرته وملكه وربوبيته. وحينئذٍ فتسليمك هذه الحكمة ـ التي لا سبيل للمخلوقين إلى مشاركة
(2)
الخالق فيها البتة ـ قد عادت على
(3)
أسولتك الفاسدة [ق 134 ب] بالنقض والإبطال.
وإن رجعت عن الإقرار له سبحانه بالحكمة وقلت: إنه لا يفعل لحكمة البتة، بل لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون؛ فما وجه إيراد هذه الأسولة على من لم يفعل بحكمةٍ ولا يُسأل عمَّا يفعل؟ فقد أوردت الأسولة على من لا يُسأل عمَّا يفعل، وطعنت في حكمة مَنْ كلُّ أفعاله حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ وخيرٌ بمعقولك الفاسد وعقلك الصغير الذي آثرت به داعي الكبر والكفر على داعي العبودية والإيمان. يوضحه:
الوجه الرابع: وهو أنك قد كشفت للخلائق عن محصول علمك ومعرفتك، وقدر عقلك الذي صرت به ضُحْكةً لهم، وسخرية على ألسنتهم، فإنك انتصرت لنفسك ورياستك، ودلك عقلك على أن عزَّك في معصيتك، ورياستك في إبائك من السجود، وكان هذا أعظم أسباب ذُلِّك وخيبتك، ويأسك من روح الله، وبُعدك من رحمته، وطردك من جنته، ومباءتك بلعنته، فأضعت عزَّك، وأخملت شرفك، ووضعت قدرك من حيث زعمت أنك تحفظه، فكنت كآكل السم الذي فيه تلافه ليحفظ به قوته وصحته، ثم رضيت
(1)
«ح» : «جعل حكمته» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «لما يشاركه» . والمثبت هو الصواب، بدليل أنه في «م»:«إلى المشاركة» دون لفظ «الخالق» .
(3)
«ح» : «عليه» . والمثبت من «م» .
لنفسك أن صرت خادمًا وقوادًا لكل فاسقٍ وفاجرٍ وخبيثٍ. فمَن هذا قدر عقله ونهاية معرفته وعلمه، ألا يستحيي من إيراد هذه الأسولة اللائقة به على من ملأت حكمته الوجود وبهرت العقول حتى صارت للبصائر أظهر من نور الشمس للأبصار؟ يوضحه:
الوجه الخامس: أن غاية معقولك وحاصل عقلك هو القياس الذي عارضت به النصَّ وقدَّمته عليه، وقد بان فساده للعقلاء من أكثر من ثلاثين وجهًا قد تقدم ذكرها
(1)
، فلا حاجة إلى إعادتها. فإذا كان هذا شأن أقوى أسولتك التي أوردتها على ربِّك، وسائر أسولتك مبنية عليه ومردودة إليه، فما الظن بفروعٍ هذا أصلها؟
فمن نادى على مقدار عقله ومحصول معرفته على رؤوس الملأ من الملائكة بقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] واستجاز معارضة الأمر المتضمن لغاية الحكمة والمصلحة بهذا الرأي الفاسد والسفه البارد، كيف يتوجه له سؤال على الحكيم العليم؟
الوجه السادس: أن هذه الأسولة يرجع حاصلها كلها إلى القدح والطعن في علم الربِّ سبحانه أو حكمته أو قدرته أو اثنين منها أو كلها؛ إذ حاصلها أنه سبحانه إمَّا أن يكون عالمًا بما يحصل مني وما يكون من أمري أو لا يكون عالمًا، فإن لم يكن عالمًا لزم القدح في علمه. وإن كان عالمًا فإمَّا أن يكون قادرًا على منعي
(2)
من هذا الفساد والضرر الواقع ببني آدم مني أو لا يكون قادرًا. فإن لم يكن قادرًا لزم القدح في قدرته. وإن كان قادرًا ولم
(1)
تقدم (ص 636 - 641).
(2)
«ح» : «منع» .
يمنعني بل مكنني
(1)
وأبقاني وسلَّطني لزم القدح في حكمته. فهذا غاية ما عند تلامذة عدو الله وأصحابه، وهو الذي أوحاه إليهم، وألقاه على ألسنتهم، وجعله دائرًا بينهم.
وحينئذ فيقال له: هذا إنكارٌ منك لما عُلم بالضرورة التي هي فوق كل ضرورة، من وجود ربِّ العالمين وإله من في السماء والأرض الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وهو أحكم الحاكمين، فإنكارُ علمه وحكمته وقدرته جحدٌ وإنكارٌ
(2)
له ونفيٌ أن يكون لك
(3)
أو للعالمين ربٌّ عليمٌ مدبِّرٌ حكيمٌ، فإن الجاهل العاجز السفيه لا يكون ربًّا ولا إلهًا، فلا تتم لك هذه الأسولة إلَّا بقول أخيك وشقيقك فرعون:{وَمَا رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الشعراء: 22] وقوله: {يَاأَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] فإن عدو الله علم أنه إن أقرَّ بوجود فاطر السماوات والأرض وبصفاته وعلوه فوق العالم وتكليمه لموسى أوجب عليه هذا الإقرارُ الانقيادَ والعبوديةَ والإيمانَ بموسى، فلم يجد بُدًّا من إنكار الربِّ وعدم الإقرار به. وهكذا هذه الأسولة لا تتوجه
(4)
إلَّا مع إنكاره سبحانه وجحوده، وإلا فمع الإقرار بأنه بكل شيءٍ عليمٌ وعلى كل شيءٍ قديرٌ وأنه أحكم الحاكمين فلا تتوجه البتة، وهذا حقيقة الربِّ. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه السابع: أن مثل هذا النمط من الاعتراضات والأسولة فاسدٌ عند
(1)
«ح» : «ملتني» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «جحدوا إنكارا» .
(3)
«ح» : «ذلك» .
(4)
«ح» : «تتواجا» .
جميع أهل الأرض، فإنه يتضمن اعتراض الجاهل على أحذق الناس بصناعة قد أحكم آلاتها وأسبابها وقدَّرها على أكمل الوجوه وأحسنها، وأوفقها لما يقصد منها، فجاء رجلٌ جاهلٌ لا مناسبة بينه وبين ذلك الحاذق بوجهٍ ما، فأخذ يعترض عليه في أجزاء تلك الصناعة وآلاتها وأشكالها ومقاديرها، ويقول:[ق 135 أ] هلَّا كان هذا أكبر ممَّا هو أو
(1)
أصغر أو على شكل آخر، أو كان كذا في موضع كذا، أو عمل هذا في وقت كذا، ونحو هذا ممَّا يسخر منه العقلاء، ويعدون صاحبه في زمرة السفهاء! مع أنه يمكن المعترض مشاركة ذلك الأستاذ الحاذق في صناعته ومساواته فيها وتقدمه عليه فيها، فإذا كان اعتراضه عليه مدفوعًا عند كل عاقلٍ فما الظن بالاعتراض على من لا شريك له في حكمته ولا شبيه له فيها، والتفاوت الذي بينه وبين المعترض في حكمته كالتفاوت الذي بينه وبينه في العلم والقدرة والغنى وسائر الصِّفات؟! أفلا يستحي من يرى الاعتراض على مخلوقٍ مثله قد فاقه في صناعةٍ وعلمٍ قبيحًا لا يجد عليه إلَّا تعريضه نفسه للذمِّ ومبادلته عليها بالجهل من إيراد مثل هذه الأسولة على الحكيم العليم؟!
الوجه الثامن: أن يقال لعدو الله: إيرادك هذه الأسولة إمَّا أن تكون على وجه الظنِّ في الربِّ تعالى، وأنه فعل ما لا ينبغي له فعله، أو على وجه الاسترشاد وطلب الهداية. فإن كان على وجه الطعن والقدح، فكيف تجامع اعترافك بربوبيته وملكه وخلقه، وإقرارك بعزته وحكمته، ثم تقدح فيه، وإن كان على وجه الاسترشاد وطلب الحكمة، فذلك فرعٌ عن
(2)
التسليم لأمره
(1)
«ح» : «و» .
(2)
«ح» : «على» .
والإذعان لعبوديته والانقياد لحكمته، فلا يجتمع مع تصريحك بالعداوة والكفر والاستكبار عن طاعته؛ فإن معصيتك له وقد أمرك منه إليك بلا واسطة أعظم من استكبار من استكبر عن طاعته التي أمر بها على ألسنة رسله. فإذا آثرت الكفر والاستكبار والعداوة، فكيف سألت
(1)
مسائل المسترشد المهتدي؟! فالسؤال نوعان: إمَّا سؤال جاهلٍ بالحكمة في
طلب معرفتها، وإمَّا سؤال قادحٍ في الحكمة بما يبطلها وينقضها. وحينئذٍ فنقول في:
الوجه التاسع: لا تتوجه هذه الأسولة على واحدة من
(2)
الطريقتين. أمَّا على الطريقة الأولى فلأن الاستعداد والقبول لمعرفة تفاصيل الحكمة يكون شرطًا في قبول الأسولة والجواب عنها، والقوى البشرية ليست مستعدةً للعلم بتفاصيل حكمة الله في خلقه وأمره. وحينئذٍ فيكون بيان تفاصيل الحِكَم عبثًا ضائعًا وهو منافٍ للحكمة، وأمَّا على الطريقة الثانية، فلأن أسولته تتضمن قدح العبد في الربِّ، والمخلوق في الخالق، والجاهل في العالم، والسفيه في الحكيم؛ [فهي]
(3)
من أبطل الأسولة، ولا يحتاج في بيان بطلانها إلى أكثر من ذلك. يوضحه:
الوجه العاشر: أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسولة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أُمة نبيٍّ صدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن
(1)
«ح» : «سأل» .
(2)
«ح» : «بين» .
(3)
«فهي» ليس في «ح» .
تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت
(1)
ذلك لما كانت مؤمنةً بنبيها؛ بل انقادت وسلَّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت
(2)
طلبه من شأنها. وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل:«يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا، ولكن قولوا بِمَ أمر ربنا» .
ولهذا كانت هذه الأُمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولًا ومعارف وعلومًا ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؛ لعلمهم أن ذلك مضادٌّ للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلَّا على درجة التسليم. وذلك يوجب تعظيم الربِّ تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلَّا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلَّا بتعظيم أمره ونهيه؛ فعلى قدر تعظيم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه. وتعظيم الأمر دليلٌ على تعظيم الآمر، وأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع
(3)
، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورًا به، بحيث [لا]
(4)
يتوقف الإنسان على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله
(1)
«ح» : «بلغت» .
(2)
«ح» : «فعلت» .
(3)
أخرج مسلم (118) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم
…
».
(4)
سقط من «ح» ، وأثبته ليستقيم السياق.
وإلَّا عطله، فهذا من عدم عظمته في صدره. بل يُسلِّم
(1)
لأمر الله وحكمته ممتثلًا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر. فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر أو فقهها العقل كانت زيادةً في البصيرة والرغبة
(2)
في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يُوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله. فالمُعظِّم لأمر الله يُجري [ق 135 ب] الأوامر والنواهي على [ما]
(3)
جاءت، لا يُعللها بعللٍ توهنها وتخدش في وجه حسنها، فضلًا عن أن يُعارضها بعللٍ تقتضي خلافها، فهذا حال ورثة إبليس، والتسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء.
الوجه الحادي عشر: أن المعترضين على الربِّ سبحانه قسمان: قسمٌ اعترضوا عليه في أمره ونهيه، وقسمٌ اعترضوا عليه في قضائه وقدره. وربما اجتمع النوعان في حقِّ المعترض، وقد ينفرد أحدهما. وإبليس ممَّن جمع النوعين، فاعترض أولًا عليه في أمره له بالسجود لآدم، وزعم أنه مخالفٌ للحكمة، وأن الحكمة إنما تقتضي خضوع المفضول للفاضل لا ضد ذلك، وزعم أنه أفضل وخير من آدم، ثم اعترض بعد ذلك على القضاء والقدر بهذه الأسولة، فجمع بين الاعتراض على أمره وقدره. وبثَّ هذين النوعين في أصحابه وتلامذته، وأخرجها لهم في كل قالبٍ وصورة يقبلونهما فيها، وآخر ذلك أوحى إليهم أن يعترضوا على خبره
(4)
عن نفسه وخبر رسله عنه بالعقل.
(1)
«ح» : «مسلم» . والمثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «الدعية» . ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
سقط من «ح» .
(4)
«ح» : «جزو» . ولعل المثبت هو الصواب.
فعارض عدو الله أمره بأنه خلاف الحكمة، وقدره بأنه خلاف العدل، وخبره بأنه خلاف العقل. وسرت هذه المعارضات الثلاث في أتباعه، فهم خلفاؤه ونوابه، وهم
(1)
على قدر أنصبائهم
(2)
منها. ومعلومٌ أن هذه الأنواع الثلاثة مضادة له ومجاهرة بالعداوة، ومن التلبيس إخراج المعترض لها في صورة العلم والحب والمعرفة بألفاظ مزخرفة تغرُّ السامع، وتصغى إليها أفئدة أشباه الأنعام، وتنفعل عنها قلوبهم بالرضا بها، وألسنتهم بالتكلم بها، وجوارحهم بالعمل بمقتضاها.
الوجه الثاني عشر: أن أعداءه المشركين اعترضوا على أمره وشرعه بقضائه وقدره، فجعلهم سبحانه بذلك كاذبين جاهلين مشركين. وهذه الأسولة الإبليسية تتضمن الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته، وأن الحكمة تعارض ما قضاه وقدره، كما أن اعتراض المشركين يتضمن أن القضاء والقدر يعارض ما شرعه وأمر به. وهذه المعارضات كلها من مشكاةٍ واحدةٍ، فإذا كان الاعتراض على دينه وشرعه بقضائه وقدره باطلًا، فكذلك الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته. يوضحه:
الوجه الثالث عشر: أن الأمر والقدر تفصيل للحكمة ومظهرها، فإنها خفية فلا بد لظهورها من شرع يأمر به وقدر يقضيه ويكونه
(3)
، فتظهر حكمته سبحانه في هذا وهذا، فكيف يكون تفصيل الشيء وما يظهره مناقضًا له منافيًا؟ بل يمتنع أن يكون إلَّا مصدقًا موافقًا، فإن التفصيل متى ناقض
(1)
«ح» : «فهما» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «أنصابهم» . والأنصباء جمع نصيب، وهو الحظ.
(3)
«ح» : «وتكوينه» .
الأصل وضاده كان دليلًا على بطلانه. يوضحه:
الوجه الرابع عشر: وهو أن الربَّ سبحانه له الأسماء الحسنى، وأسماؤه متضمنة لصفات كماله، وأفعاله ناشئة عن صفاته؛ فإنه سبحانه لم يستفد كمالًا بأفعاله، بل له الكمال التام المطلق، وفعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله؛ فإنه فعل فكمُل بفعله.
وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجِب لموجَبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزَّاق المقتضي لوجود الرِّزق والمرزوق، وكذلك الغفَّار والتوَّاب والحكيم والعفوُّ، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحَكَم العدل إلى سائر الأسماء. ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلَا لَهُ اُلْخَلْقُ وَاَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الأعراف: 53].
فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره. فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين. ولهذا يقرن
(1)
سبحانه بينهما [عند]
(2)
ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر. ولمَّا كان سبحانه كاملًا في جميع أوصافه، ومن أجلِّها حكمته
(3)
كانت عامة التعلق بكل مقدورٍ، كما أن علمه عام التعلق بكل معلومٍ، ومشيئته عامة التعلق بكل موجودٍ، وسمعه وبصره عام
(1)
«ح» : «يفرق» .
(2)
سقط من «ح» .
(3)
«ح» : «كلمته» . ولعل المثبت هو الصواب.
التعلق بكل مسموعٍ ومرئيٍّ. فهذا من لوازم صفاته، فلا بد أن تكون حكمته عامة التعلق بكل ما خلقه وقدره وأمر به ونهى عنه. وهذا أمرٌ ذاتي للصفة يمتنع تخلفه وانفكاكه عنها. كما يمتنع تخلف الصفة نفسها وانفكاكها عنه.
وهذا وحده برهانٌ كافٍ شافٍ في إبطال تلك الأسولة كلها، وأنها تكفي في إبطالها إثباتُ عموم [ق 136 أ] تعلق صفاته، وذلك يستلزم إثبات الصِّفات، وهي تستلزم إثبات الذات. فإثبات ذات الربِّ تعالى كافٍ في بطلان الأسولة الإبليسية.
نعم، الجهمي المعطل وأصحابه يعجزون عن الجواب عنها على هذه الطريق، وإن أجابوا عنها على غيرها لم يشفوا عليلًا ولم يرووا غليلًا؛ إذ هي أجوبةٌ مبنيةٌ على أصولٍ باطلةٍ، والمبنية على الباطل لا تكون صحيحة من كل وجهٍ. وقد قدَّمنا مجامع طُرق الناس في الأجوبة، وبان أن الأصول الفاسدة خذلتهم عن الجواب الصحيح الشافي.
الوجه الخامس عشر: أن الله سبحانه فطر عباده حتى الحيوان البهيم على استحسان وضع الشيء في موضعه، والإتيان به في وقته، وحصوله على الوجه المطلوب منه، وعلى استقباح ضدِّ ذلك وخلافه، وأن الأول دالٌّ على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته، وضدُّه دالٌّ على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته. وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها، ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك وجعله فيهم أولى به منهم. فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها، ويخصها من الصِّفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أنسب
(1)
بها من غيره، ويبرزها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها.
(1)
«ح» : «فسر» . والمثبت من «م» .
ومن له نظرٌ صحيحٌ وفكرٌ مستقيمٌ وأعطى التأمُّل حقَّه شهد بذلك فيما رآه وعلمه، واستدل بما شاهده على ما خفي عنه؛ فإن الكل صُنْع الحكيم العليم. ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه واشتماله
(1)
على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال. وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك، فقال:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إلى آخرها.
وكذلك جميع ما يشاهد من مخلوقاته عاليها وسافلها وما بين ذلك إذا تأمَّلها صحيحُ التأمل والنظر وجدها مؤسسة على غاية الحكمة مغشاة بالحكمة، فيقرأ
(2)
سطور الحكمة على صفحاتها، وينادي عليها: هذا صنع العليم الحكيم، وتقدير العزيز العليم
(3)
. فإن وجدت العقول أوفق من هذا فلتقترحه، أو رأت أحسن منه فلتُبده ولتوضحه! ذلك صنع {اُلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرى فِي خَلْقِ اِلرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَاَرْجِعِ اِلْبَصَرَ هَل تَّرى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ اَرْجِعِ اِلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهْوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4].
ومن نظر في هذا العالم وتأمَّل أمره حقَّ التأمُّل علم قطعًا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام، فإنه إذا تأمَّله
(4)
وجده كالبيت المبني المُعَدِّ
(1)
«ح» : «واستعماله» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«ح» : «فقرأ» .
(3)
قد ذكر المصنِّف رحمه الله في كتابه «مفتاح دار السعادة» تأملات كثيرة في خلق الله تعالى قد لا تجدها مجموعة في كتابًا آخر.
(4)
«ح» : «تأمل» .
فيه جميع عتاده. فالسماء مرفوعةٌ كالسقف، والأرض ممدودةٌ كالبساط، والنجوم منضودةٌ كالمصابيح، والمنافع مخزونةٌ كالذخائر، كل شيءٍ منها لأمرٍ يصلح له، والإنسان كالمالك المخول فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه. فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل، وجعل أجوافها خزائن لما هو شرابٌ وغذاءٌ، ودواءٌ وشفاءٌ، ففيها عبرةٌ للناظرين، وآيات للمتوسمين. وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها، وألوانها ومقاديرها، ومنافعها وأصواتها، صافات وقابضات، وغاديات ورائحات، ومقيمات وظاعنات: أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم
(1)
.
وكل ما أوجده الناس وأولوه
(2)
بالًا بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكَّر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة، مستنبطة من الصنع الإلهي. مثال ذلك أن القَبَّان
(3)
مستنبطٌ من خلقة البعير، كأنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء
(4)
به يمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك. وجعلوا طول حديدته في مقابلة طول العنق، ورمانة القبان في مقابلة رأس البعير، فتم لهم ما استنبطوه.
(1)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 586 - 587).
(2)
«ح» : «وأدلة» .
(3)
القبان: الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقسامًا ينقل عليها جسم ثقيل يُسمى الرمانة لتعين وزن ما يُوزن. «المعجم الوسيط» (2/ 713).
(4)
«ح» : «وبينوا» . والمثبت من «م» .
وكذلك استنبطوا بناء الأقباء
(1)
من ظهره، فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمله غيره، فتأملوا ظهره فإذا هو كالقبو، فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمله السطح
(2)
.
وكذلك ما استنبطه الحذاق لمن
(3)
كَلَّ [ق 136 ب] بصره أن يُديم النظر إلى إجَّانة
(4)
خضراء مملوءة
(5)
ماءً استنباطًا من حكمة الخلاق العليم في لون السماء، فإن لونها أشد الألوان موافقةً للبصر وتقويته، فجعل أديمها
(6)
بهذا اللون لتمسك الأبصار ولا تنكأ فيها
(7)
بطول مباشرتها لها، ومن هذا استنبط الأطباء لمن أصابه سوءٌ في بصره إدمان النظر إلى الخُضرة
(8)
.
وإذا فكرت في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعها لبطل أمر هذا العالم، فكم في طلوعها من الحِكَم والمصالح، وكيف كان حال الحيوان لو أُمسكت عنهم، وجُعل الليل عليهم سرمدًا والدنيا مظلمة عليهم، فبأي نور كانوا يتصرفون وينقلبون؟ وكيف كانت تنضج ثمارهم وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم وأبدانهم؛ فالحِكَم في
(1)
الأقباء: جمع القبو، وهو الطاق المعقود بعضه إلى بعض في شكل قوس. «المعجم الوسيط» (2/ 713).
(2)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 674 - 675).
(3)
«م» : «لكل من» .
(4)
الإجَّانة بالتشديد: إناء يُغسل فيه الثياب. «المصباح المنير» (1/ 6).
(5)
«ح» : «مملوءة خضر» . والمثبت من «م» .
(6)
أديم السماء: ما ظهر منها. «لسان العرب» (12/ 11).
(7)
أي: لا تؤذيها.
(8)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 589).
طلوعها أعظم من أن تخفى أو تحصى.
ولكن تأمَّل الحكمة في غروبها فلولا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار، مع شدة حاجتهم إلى الهدوء والراحة لأبدانهم
(1)
وإجمام حواسهم. وأيضًا لو دامت على الأرض لاشتد حَمْوُها
(2)
بدوام طلوعها عليها فأحرق كل ما عليها من حيوان ونبات. فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم أن جعلها تطلع عليهم في وقتٍ وتغيب في وقتٍ بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليًّا ليقضوا مآربهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤوا، وصار ضياء النهار وحرارته وظلام الليل وبرده على تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ومنافع أهله
(3)
.
ثم اقتضت حكمته أن جعل للشمس ارتفاعًا وانحطاطًا لإقامة هذه الفصول
(4)
الأربعة من السنة، وما فيها من قيام الحيوان والنبات، ففي زمن الشتاء تَغُورالحرارة في الشجر والنبات، فيتولد فيها مواد الثمار
(5)
، ويغلظ الهواء بسبب البرد، فيصير مادة للسحاب، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فتثيره قَزَعًا
(6)
، ثم يُرسل عليه الريح المؤلِّفة، فتؤلِّف بينه حتى يصير طبقًا واحدًا. ثم يُرسل عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء، فتلقحه كما
(1)
«ح» : «الراحة أبدانهم» . وفي «م» : «والراحة» . ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
«م» : «حرها» .
(3)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 590 - 592).
(4)
«ح» : «الأزمنة» . والمثبت من «م» .
(5)
«م» : «النار» .
(6)
«ح» : «فيثيره فزعًا» . والمثبت من «م» . والقَزَع: قطع من السحاب رقيقة، الواحدة قزعة. «الصحاح» (3/ 1265).
يلقح الذكر الأنثى، فيحمل الماء من وقته. فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارية، فتذروه وتفرِّقه في الهواء لئلا يقع صبةً واحدةً، فيُهلك
(1)
ما أصابه ويقل الانتفاع به. فإذا سقى ما أُمر بسقيه وفرغت حاجتهم منها أرسل عليه الرياح السائقة فتسوقه وتزجيه إلى قومٍ آخرين وأرضٍ أخرى محتاجة إليه. فإذا جاء الربيع تحركت الطبائع، وظهرت المواد الكامنة في الشتاء، فخرج النبات، وأخذت الأرض زخرفها، وازَّيَّنت وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ.
فإذا جاء الصيف سخن الهواء، فنضجت الثمار، ويبست الحبوب فصلحت للحفظ والخزن وتحللت فضلات الأبدان.
فإذا جاء الخريف كسر ذلك السَّموم والحرور، وصفا
(2)
الهواء واعتدل، وأخذت الأرض والشجر في الراحة والجموم والاستعداد
(3)
للحمل الآخر
(4)
.
واقتضت حكمته سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في البروج، وقدَّر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين والحساب من الشهور والأعوام، فتتم
(5)
بذلك مصالحهم، وتُعلم آجال معاملاتهم ومواقيت حجهم وعباداتهم، ومُدد أعمارهم وغير ذلك من مصالح حسابهم. فالزمان مقدار الحركة، ألا ترى أن
(1)
بعده في «م» : «ما على الأرض و» .
(2)
«مح» : «وبرد» .
(3)
«ح» : «والاستداد» . والمثبت من «م» .
(4)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 592 - 594).
(5)
«ح» : «قسم» . والمثبت من «م» .
السنة الشمسية مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل، واليوم مقدار مسيرها من الشرق إلى الغرب، وبحركة الشمس والقمر يُكال الزمان من حين خُلقا إلى أن يجمع الله بينهما ويعزلهما عن سلطانهما، ويُرِيَ عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه، وأن سلطان معبودهم قد بطل واضمحل، وأن سلطان الحقِّ والملك الحق لله الواحد القهار.
قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيَاءً وَاَلْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَاَلْحِسَابَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اُلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اَلَّيْلَ وَاَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَلَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَاَلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]. ففي القمر وتقدير منازله آيات وحكم لا تخفى على الناظرين
(1)
.
واقتضت حكمته سبحانه في تدبيره أن فاوت بين مقادير الليل والنهار، فلم يجعلهما دائمًا على حدٍّ سواء، ولا أطول [ق 137 أ] ممَّا هما عليه ولا أقصر، بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق الحكمة، حتى إن المكان الذي يقصر أحدهما فيه جدًّا لا يكون فيه حيوان ونبات كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس أو
(2)
لا تغرب عنه. فلو كان النهار مقدار مائة ساعة أو أكثر أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار من الليل والنهار
(3)
.
(1)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 594 - 595).
(2)
«ح» : «و» . والمثبت من «م» .
(3)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 595 - 597).
ثم تأمَّل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمةً واحدةً داجيةً
(1)
لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيءٌ من العمل، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار أو
(2)
لإفراط الحر فيه، فاحتاجوا إلى العمل في الليل في نور القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك، فجعل ضوء القمر في الليل معونة للناس على هذه الأعمال. وجعل في الكواكب جزءًا يسيرًا من النور لتسد مسدَّ القمر إذا لم يكن. وجُعلت زينة السماء ومعالم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ودلالات واضحات على الخلاق العليم، وغير ذلك من الحِكَم التي بها انتظام هذا العالم. وجُعلت الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكمة المقصودة منها. وجُعل القمر على حال تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكمة المقصودة من جعله كذلك، وكان في نوره من التبريد والتصليب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل، فتنتظم المصلحة وتتم الحكمة من هذا التسخين والتبريد
(3)
.
وتأمَّل اللطف
(4)
والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارة ومنازلها تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها؛ لأنها لو ظهرت دائمًا أو احتجبت دائمًا لفاتت
(5)
الحكمة المطلوبة منها، كما
(6)
اقتضت الحكمة أن يظهر
(1)
«ح» : «راجية» . والمثبت من «م» . والداجية: المظلمة. «الصحاح» (6/ 2334).
(2)
«ح» : «و» . والمثبت من «م» .
(3)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 597 - 598).
(4)
«ح» : «اللفظ» . والمثبت من «م» .
(5)
«ح» : «لذابت» . والمثبت من «م» .
(6)
«ح» : «وكما» . والمثبت من «م» .
بعضها ويحتجب بعضها فلا تظهر كلها دفعةً واحدةً، ولا تحتجب دفعة واحدة، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة، وجعل بعضها ظاهرًا لا يحتجب أصلًا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاؤوا، فجاء الأمران على وفق الحكمة
(1)
.
ثم تأمَّل حال النجوم واختلاف مسيرها، ففرقة منها لا تريم
(2)
مراكزها من الفلك ولا تسير إلَّا مجتمعة كالجيش الواحد، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها، فكل واحدٍ منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عام مع الفلك نحو الغرب، والآخر خاص لنفسه نحو الشرق، فله حركتان مختلفتان على وفق الحكمة. وذلك من أعظم الدلالة على الفاعل المختار العليم الحكيم، وعلى كمال علمه وقدرته وحكمته
(3)
.
وتأمَّل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقديرٍ محكمٍ لا يزيد ولا ينقص، ولا يختل عن نظامه، بل هو تقدير العزيز العليم
(4)
كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه، فقال تعالى:{وَاَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [يس: 37]. وقال تعالى: {قُلْ أَائنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
…
} إلى قوله:
(1)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 598 - 599).
(2)
أي: لا تبرح. «الصحاح» (5/ 1939).
(3)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 600).
(4)
بعده في «ح» : «وقال تعالى» . وهي زائدة.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [فصلت: 8 - 11]. وقال تعالى: {فَالِقُ اُلْإِصْبَاحِ وَجَاعِلُ اُلَّيْلِ سَكَنًا وَاَلشَّمْسَ وَاَلْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اُلْعَزِيزِ اِلْعَلِيمِ} [الأنعام: 97].
فذكر سبحانه أن هذا التقدير لمسير الشمس والقمر والليل والنهار وحركات النجوم في مطالعها ومغاربها تقديرٌ ناشئٌ عن عزته وعلمه، وذلك متضمن وقوعه على وجه الحكمة الطائفة
(1)
، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وتذليلها لعزته، وجارٍ
(2)
على وفق حكمته، فجاءت على وفق ما قدرها له. فهل يخفى على ذي لُبٍّ أن ذلك تقدير مقدرٍ قادرٍ عزيزٍ حكيمٍ
(3)
؟! وحسبنا الله ونعم الوكيل
(4)
.
* * * * *
(1)
كذا في «ح» ، ولعل الصواب «البالغة» أو «التامة» .
(2)
«ح» : «وخاب» . والمثبت هو الصواب.
(3)
ينظر «مفتاح دار السعادة» للمصنف (2/ 602).
(4)
هذا آخر ما وجدناه من هذا الكتاب الجليل، وكتب الناسخ بعده:«أنهاه كاتبه يوم 17 من ذي القعدة سنة 1110 على ما وجدناه في الأصل، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان» .