المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[11/أ] / {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ - العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير - جـ ٢

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

[11/أ] / {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: الآيتان 98، 99].

يقول الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} [الأنعام: آية 98].

هذه الآياتُ من سورةِ الأنعامِ بَيَّنَ اللَّهُ فيها براهينَ العقائدِ العقليةَ الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، ومن ذلك أنه خَلَقَ جميعَ الآدَمِيِّينَ من نفسٍ واحدةٍ، أَبُوهُمْ رجلٌ واحدٌ، وَأُمُّهُمْ امرأةٌ واحدةٌ، مع اختلافِ أشكالِهم، وألوانِهم وَأَلسنتِهم، وذلك دليلٌ على إبداعٍ عظيمٍ. وَاللَّهُ (جل وعلا) يُنَبِّهُنَا في القرآنِ العظيمِ في آياتٍ كثيرةٍ على ما أَوْدَعَ في أَنْفُسِنَا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه الدالةِ على أنه وحدَه هو الربُّ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا.

وقولُه هنا: {وَهُوَ} أي: اللَّهُ الذي أدعوكم إلى توحيدِه وطاعتِه، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أصلُ الإنشاءِ: الإبرازُ من العدمِ إلى الوجودِ

(1)

والمرادُ بهذه النفسِ الواحدةِ: أَبُونَا آدمُ، كما أَطْبَقَ عليه العلماءُ

(2)

.

(1)

انظر ابن جرير (11/ 562).

(2)

السابق.

ص: 5

وإنما قال: {وَاحِدَةٍ} بالتاءِ الفارقةِ بين الذكرِ والأنثى مع أن آدمَ ذَكَرٌ

(1)

لأنه أَطْلَقَ عليه اسمَ النفسِ، فهو تَأْنِيثٌ لفظيٌّ لَا حقيقيٌّ، كقولِ الشاعرِ

(2)

:

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى

وَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ

هذه النفسُ الواحدةُ هي: آدمُ. واللَّهُ (جل وعلا) أَرْشَدَنَا في هذه الآيةِ إلى أَنْ نتأملَ وَنَتَعَقَّلَ مِمَّ خُلِقْنَا، وما العنصرُ والأصلُ الذي خُلِقْنَا منه؛ لنعرفَ أقدارَنا، ونعرفَ عظمةَ ربنا، فأولُ مَنْشَئِنَا تُرابٌ بَلَّهُ اللَّهُ تبارك وتعالى بماءٍ، هذا الأصلُ الأولُ لنا، كما قال:{إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5]، أَخَذَ اللَّهُ تُرَابًا فَبَلَّه بماءٍ، فَلَمَّا بُلَّ وَعُجِنَ بالماءِ صارَ طينًا؛ وَلِذَا قال تارةً:{خَلَقَكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الروم: آية 20]، وتارةً:{مِّنْ طِينٍ} [الأنعام: آية 2]. ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) ذَكَرَ أحوالَ ذلك الطينِ، مرةً قَالَ:{مِّنْ طِينٍ لَاّزِبٍ} [الصافات: آية 11] يَلْزَقُ باليدِ إذا مَسَّهُ الإنسانُ، بَيَّنَ أنه:{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: آية 26]، ثم بَيَّنَ أن ذلك الطينَ يبسَ فصارَ صلصالاً كالفخارِ، تسمعُ له صلصلةً إذا قَرَعَهُ شيءٌ، ثم خَلَقَ من ذلك الطينِ -الذي أصلُه ماءٌ وترابٌ، خَلَقَ منه- بَشَرًا سَوِيًّا، ذا لحمٍ وعظامٍ وَدَمٍ، هو أَبُونَا (آدمُ) المرادُ بقولِه هنا:{أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: آية 98]، ثم خَلَقَ من آدمَ امرأتَه (حواءَ) أُمَّنَا، خَلَقَهَا من زوجِها آدَمَ، وقد نَصَّ على ذلك في آياتٍ كثيرةٍ

(3)

كقولِه في أولِ سورةِ النساءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ

(1)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

انظر: الأضواء (2/ 205).

ص: 6

وَاحِدَةٍ} هي آدمُ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: آية 1]، يعني حواءَ، وكقولِه في سورةِ الأعرافِ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: آية 189].

وقولِه في سورةِ الزمرِ: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: آية 6] وهذا مِنْ غرائبِ صنعِه وعجائبِه، حيث كان العنصرُ الأولُ: الماءَ والترابَ، وَخَلَقَ منه رَجُلاً جميلاً في غايةِ الحسنِ والجمالِ، ثم خَلَقَ من نفسِ الرجلِ امرأةً أُنْثَى. وهذا أحدُ القسمةِ الرباعيةِ، لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ نوعَ الإنسانِ على قسمةٍ رباعيةٍ: قِسْمٌ منه خَلَقَهُ من ذَكَرٍ دونَ أُنْثَى، وَقِسْمٌ منه خَلَقَهُ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ بلَا أُنْثَى ولا ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ من أُنْثَى وَذَكَرٍ.

أما الذي خُلِقَ من دونِ الأُنْثَى وَمِنْ دونِ الذكرِ: فهو أَبُونَا آدَمُ؛ لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ من ترابٍ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: آية 59].

والذي خُلِقَ من ذكرٍ دونَ أنثى: هو حواءُ، خلقَها اللَّهُ من آدمَ دونَ أُنْثَى.

والذي خُلِقَ من أُنْثَى دونَ ذَكَرٍ: هو نَبِيُّ اللَّهِ عيسى، أَوْجَدَهُ اللَّهُ من أُمِّهِ مريمَ بلا ذَكَرٍ.

والذي خُلِقَ من ذكرٍ وأنثى: هو سائرُ جنسِ الإنسانِ.

وهذه غرائبُ وعجائبُ تَدُلُّ على كمالِ قدرةِ خالقِ هذا الكونِ، إن شاءَ خَلَقَ دونَ أنثى ودونَ ذَكَرٍ، وإن شاء خلق من ذكرٍ دونَ أُنْثَى، وإن شاءَ خلقَ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وإن شاءَ خلقَ من أنثى وذكرٍ.

ثم إن اللَّهَ أشارَ إلى الطَّوْرِ الثاني من أطوارِ الإنسانِ؛ لأن الطورَ

ص: 7

الأولَ من أطوارِ الإنسانِ: الماءُ والترابُ، والطورَ الثاني: هو النُّطفةُ. أشار الله إلى بعضِ تلك الأطوارِ بقولِه: {أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ثم أَتْبَعَهُ بقولِه: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} على قراءةِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}

(1)

وبعضُهم قَرَأَ: {فَمُسْتَقِرٌّ} بكسرِ القافِ، أما:{وَمُسْتَوْدَعٌ} فجميعُ السبعةِ قرؤوها بفتحِ الدالِ، وأما:{مُسْتَقَرٌّ} ففيها قراءتانِ سبعيتانِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} {فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}

(2)

.

أما على قراءةِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}

(3)

فالأظهرُ أنهما اسْمَا مكانٍ. أي: مكانُ استقرارٍ، ومكانُ استيداعٍ. وقيل: هما مصدرانِ مِيمِيَّانِ. أي: فاستقرارٌ واستيداعٌ.

أما على قراءةِ: {فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} {فَمُسْتَقِرٌّ} : اسمُ فاعلٍ، و {وَمُسْتَوْدَعٌ} اسمُ مفعولٍ. كما يأتي شرحُه.

وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ العربيةِ: أن الفعلَ إذا زادَ ماضيه على ثلاثةِ أحرفٍ فإن اسمَ مكانهِ، واسمَ زمانِه، ومصدرَه الميميَّ كلها بصيغةِ وزنِ اسمِ المفعولِ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصَّرْفِ

(4)

.

وأكثرُ علماءِ التفسيرِ أن المرادَ بـ: (المُستَقَرّ): المُسْتَقَرُّ في

(1)

في هذا الموضع وقع وهم للشيخ رحمه الله استدركه بعده بأسطر، وقد حذفت الكلام الذي وقع فيه الوهم هنا وأثبت الكلام على وجهه بعد استدراك الشيخ رحمه الله.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 199.

(3)

في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات 262 - 263، ابن جرير (11/ 562 - 572)، القرطبي (7/ 46) البحر المحيط (4/ 188)، الدر المصون (5/ 66).

(4)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83، 84).

ص: 8

الأرحامِ، والمرادَ بـ (المُسْتَوْدَع): المُستَقَر في الأصلابِ. يعني أولَ نَشْأَتِكُمْ من نفسٍ واحدة، ثم صار بعد ذلك النُطف يُقِرُّهَا اللَّهُ في الأصلابِ، ثم ينقلها فتستقرُّ في الأرحامِ، فَيُخْرِج منها بشرًا سَوِيًّا، وهذا عليه أكثرُ المفسرين، أن (المُستَقَر): هو استقرارُ الجنينِ في الرحمِ، و (المُسْتَوْدَع): هو استيداعُ اللَّهِ للنطفةِ الذي خُلِقَ منها في أَبِيهِ

(1)

.

وكان بعضُ العلماءِ يختارُ: أن (المُسْتَقَر): الاستقرارُ على وجهِ الأرضِ أيامَ الحياةِ، وأن (المُسْتَوْدَعَ): الاستيداعُ في بَطْنِ الأرضِ في القبورِ

(2)

.

وبعضُ العلماءِ يقولُ: المُسْتَقَر في الأصلابِ، والمُسْتَوْدَعُ في الأرحامِ

(3)

. عكس ما ذَكَرْنَا.

والذي عليه أكثرُ المفسرين: أنها تُشِيرُ إلى بعضِ أطوارِ الإنسانِ؛ لأن اللَّهَ تبارك وتعالى نَبَّهَ الإنسانَ على أنه نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، وَجَعَلَ خلقَه طورًا بعد طورٍ كقولِه:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: الآيتان 13، 14]، أي: خلقكم على طَورٍ ثم نقلكم من ذلك الطورِ إلى طَورٍ آخَرَ. وقال جل وعلا: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6]، بعد أن كُنْتُمْ نُطَفًا تصيرونَ عَلَقًا، ثم مُضغًا، ثم عِظَامًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) هذه المراتبَ بيانًا شافيًا في آياتٍ كثيرةٍ مِنْ أَوْضَحِهَا آيةُ:

(1)

انظر: ابن جرير (11/ 563) القرطبي (7/ 46)، البحر المحيط (4/ 188).

(2)

انظر: ابن جرير (11/ 564)، البحر المحيط (4/ 188).

(3)

انظر: ابن جرير (11/ 565)، البحر المحيط (4/ 188).

ص: 9

{قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُوْنَ} لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فيها الأطوارَ التي مَرَّ بالإنسان عليها إلى حالتِه هذه؛ حيث قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: الآيات 12 - 16].

وعلى هذا: فالمُستقَر: هو القرارُ المكينُ الذي يَجْعَلُ اللَّهُ فيه الإنسانَ في رحمِ أُمِّهِ بعدَ أن خَلَقَ آدمَ من ترابٍ، كما قال في آيةِ (قد أفلح) هذه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)} يعني: رَحِمَ أُمِّهِ. وهذا نبهنا الله عليه، وَحَذَّرَنَا أن ننصرفَ عن هذا، وأن نغفلَ عنه؛ لأنكم كُلَّكُمْ تعلمونَ أن الواحدَ منا لم يدخل رحمَ أمه مُخَطَّطًا، وليس فيه يَدٌ ولا رِجْلٌ ولا رأس ولا عَيْنٌ، بل يدخل رحمَ أمه وهو نطفةٌ من مَنِيٍّ، ثم إن الخالقَ (جل وعلا) ينقلُ بقدرتِه تلك النطفةَ فيجعلُها دَمًا جَامِدًا، وهو الْمُعَبَّرُ عنه بـ (العلقةِ)، ثم يقلبُ ذلك الدمَ مضغةَ لَحْمٍ ليس فيها تخطيطٌ، ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ، ثم إنه يقلبُ تلك المضغةَ هيكلَ عظامٍ، ويرتبُ هذه العظامَ بعضَها ببعضٍ هذا الترتيبَ المُحْكَمَ المتقنَ الذي يجدُه الواحدُ منكم، فيرتبُ السُّلَامِيَّاتِ في السُّلامياتِ، والمفاصلَ بالمفاصلِ، وَفَقَارَى الظَّهْرِ بِفَقَارَى الظَّهْرِ، ويجعلُ هذه العظامَ على أُمِّ الدماغِ، فيجعلُ له دماغَه في هذا الغلافِ الذي هو أُمُّ الدماغِ، ويفتحُ في وجهِه العينين، ويصبغُ بعضَهما بصبغٍ أسودَ وبعضهما بصبغٍ أبيضَ، ويزينها بِشَعْرِ الحواجبِ والجفونِ، ويجعلُ فيهما حاسةَ البصرِ، ويفتحُ له الأنفَ، ويجعل فيه حاسةَ الشَّمِّ، ويفتحُ له الفمَ، ويجعلُ فيه

ص: 10

اللسانَ لِيَرُدَّ به شاردَ الطعامِ على أضراسِه عند المضغِ، وَيُبِينُ به الكلامَ، حتى يقضيَ حاجتَه من بَنِي الإِنْسَانِ، ثم إنه (جل وعلا) يضعُ الكبدَ في مَحَلِّهِ، وَالْكُلْيَتَيْنِ في محلهما، وكلُّ موضعٍ في محله، وَيُوَكِّلُهُ بوظيفتِه في تدبيرِ الجسمِ، ويفتحُ الشرايينَ ليدورَ الدمُ، ويفتحُ مجاريَ البولِ والغائطِ.

ولو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ من أعضاءِ الإنسانِ تَشْرِيحًا حَقِيقيًّا لَبَهَرَ العقولَ ما أَوْدَعَ اللَّهُ (جل وعلا) فيه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه، فليس في الواحدِ مِنَّا مَوْضِعُ رأسِ إبرةٍ إِلَاّ وفيه من غرائبِ صنعِ خالقِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ لو فَكَّرَ

(1)

.

وأنا أُؤَكِّدُ لكم أن هذه العملياتِ الهائلةَ التي تُفْعَلُ في الواحدِ منا، العليمُ القديرُ الذي فَعَلَهَا لم يَحْتَجْ إلى أن يَشُقَّ بطنَ أُمِّ الواحدِ مِنَّا، وَلَمْ يُبَنِّجْهَا، ولم يُنَوِّمْهَا في صحية، بل فعل فيها هذه الأعمالَ الهائلةَ العجيبةَ الغريبةَ من حيثُ لَا تشعرُ، وهي لاهيةٌ تَفْرَحُ وتمرحُ، لا تَدْرِي عَمَّا يُفْعَلُ في بطنِها من غرائبِ الصُّنعِ وعجائبِه، مع أن الجنينَ الذي يُفْعَلُ فيه هذا من الغرائبِ والعجائبِ هو مندرجٌ في ثلاثِ ظلماتٍ: ظلمةِ بطنِ أُمِّهِ، وظلمةِ رَحِمِهَا داخلَ البطنِ، وظلمةِ المشيمةِ التي على الولدِ؛ لأنه في داخلِ الرحمِ يكونُ عليه المشيمةُ، والسَّلَا يُغَطِّيهِ، فالله (جل وعلا) عِلْمُهُ نَافِذٌ، وبصرُه نافذٌ، لا يحتاجُ إلى كهرباء، ولا إلى نورٍ يكشفُ به تلك الظلماتِ، بل علمُه وقدرتُه نافذةٌ، فيفعل في الإِنْسَانِ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ويرتبُ بعضَه مع بعضٍ، ويخلقُه هذا الخلقَ العجيبَ.

(1)

للاستزادة في هذا الموضوع انظر مثلاً: مفتاح دار السعادة (1/ 187، 255) فما بعدها، أقسام القرآن 295 فما بعدها.

ص: 11

ونحن دائمًا نذكر هذا لأَنَّ الله يُنَبِّهُنَا عليه، وينكرُ علينا أن نغفلَ عنه؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ في السورةِ الكريمةِ- سورةِ الزمرِ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ثم قال: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: آية 6]، أينَ تُصْرَفُونَ وتروحُ عقولُكم عن فِعْلِ خالقِكم فيكم؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عَمَّا يفعلُ اللَّهُ (جل وعلا) فيكم؟ هذه غرائبُ صُنْعِ رَبِّنَا وعجائبُه، حتى إنه من شدةِ لطفهِ وحكمتِه: أن ما يحتاجُ الِإنسانُ إلى تقصيرِه دائمًا، كشعرِه وأظفارِه: نَزَعَ منه روحَ الحياةِ، إِذْ لو جعلَ الحياةَ في الشعرِ والظفرِ لَمْ يَحْلِقِ الإِنْسَانُ، ولم يُقَصِّرْ، ولم يُقَلِّمْ أظفارَه إلا وهو مُنَوَّمٌ في صحية بعمليةٍ. هذا من غرائبِ صُنعِه وعجائبِه (جل وعلا) ولطفِه بخلقِه؛ ولذا نَبَّهَنَا على هذا حيث قال:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} كما قال جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: الآيتان 20، 21] وقال هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} فلكم بعدَ إنشاءِ تلك النفسِ، وإنشاءِ زَوْجِهَا منها، لكم بعدَ ذلك {فَمُسْتَقَرٌّ} في الأرحامِ، تُنْقَلُونَ فيها من طَوْرِ النطفةِ إلى طَورِ العَلَقَةِ، وَمِنْ طَورِ العَلَقَةِ إلى طَوْرِ المُضْغَةِ إلى آخِرِ الأطوارِ.

{وَمُسْتَوْدَعٌ} : نُطَفًا في أصلابِ الآباءِ. هذا قولُ أكثرِ المفسرين.

وبعضُ العلماءِ عَكَسَ، قال: الاستيداعُ في بطنِ الأمهاتِ، والاستقرارُ في أصلابِ الرجالِ.

وبعضُ العلماءِ يقولُ: مُسْتَقَرٌّ على ظَهْرِ الأرضِ، ومُسْتَودَعٌ في

ص: 12

بطنِها في القبورِ وأنتم أمواتٌ، كما قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات: الآيتان 25، 26]، الكِفَاتُ هنا: مَحَلُّ الكَفْتِ. والكَفْتُ في اللغةِ: معناه الضَّمُّ

(1)

. أي: محلاًّ يضمُهم أحياء على ظَهْرِهَا، ويضمُهم أمواتًا في بطنِها. وهذا معنَى قولِه:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} وَلِذَا قال: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} التفصيلُ: البيانُ والإيضاحُ وإزالةُ الإجمالِ. والمرادُ بالآياتِ: آياتُ هذا القرآنِ العظيمِ مع ما تَضَمَّنَتْهُ من آياتِه الكونيةِ (جل وعلا)، الدالةِ على كمالِ قُدْرَتِهِ.

وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: قال في الآيةِ الأُولَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} [الأنعام: آية 97]، وهنا قال:{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} [الأنعام: آية 98]، فما الحكمةُ في تلوينِ الكلامِ، والتعبيرِ في الأولِ بـ (قوم يعلمون) وفي الثاني بـ (قوم يفقهون)

(2)

؟

قال بعضُ العلماءِ: إنما قال بعدَ ذِكْرِهِ الاهتداءَ بالنجومِ: {قَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأَنَّ ذلك أمرٌ يَعْلَمُهُ جُلُّ الناسِ. وقال هنا: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} لأَنَّ أسرارَ نقلِ الإنسانِ من هذه الأطوارِ وإيجادِه الأولِ لَا يُدْرِكُ حقائقَها وما انْطَوَتْ عليها من الغرائبِ والعجائبِ إلا الذين يفقهونَ. أي: لهم فِقْهٌ وَفَهْمٌ دقيقٌ في الأمورِ.

(1)

انظر المفردات: (مادة: كفت)713.

(2)

في الإجابة على هذا السؤال انظر: درة التنزيل وغرة التأويل ص68، البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني ص 65، مِلَاك التأويل (1/ 462)، البحر المحيط (4/ 188) الدر المصون (5/ 67).

ص: 13

وهذا معنَى قولِه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)} .

وهذه الآياتُ الكريمةُ قد بَيَّنَّا مِرَارًا أنها تشيرُ إلى براهينِ البعثِ الثلاثةِ الكثيرةِ في القرآنِ؛ لأَنَّ الله تبارك وتعالى أَجْرَى العادةَ بأنه يُكْثِرُ في القرآنِ العظيمِ من ثلاثةِ براهينَ على البعثِ، ذَكَرَهَا كُلَّهَا في هذه الآياتِ من سورةِ الأنعامِ. وهذه البراهينُ الثلاثُ:

منها: إِيجَادُنَا أولاً؛ لأن مَنْ خَلَقَنَا أولاً من ترابٍ، ثم من نفسٍ واحدةٍ، ثم خَلَقَ من تلك النفسِ زَوْجَهَا، ثم صَارَ يجعلُ نُطَفَنَا مستودعةً في أصلابِ آبائِنا، ثم ينقلُ منها ويجعلُ لنا قَرَارًا في أرحامِ أُمَّهَاتِنَا، وينقلُنا في تلك الأطوارِ إلى أن نكونَ بَشَرًا ننتشرُ في الأرضِ، مَنْ قَدَرَ على هذا الإيجادِ الأولِ فلا شَكَّ أنه قادرٌ على البعثِ مرةً أخرى بعدَ الموتِ؛ لأن عامةَ العقلاءِ مُتَّفِقُونَ على أن إعادةَ الفعلِ أسهلُ من ابتدائِه، وَاللَّهُ (جل وعلا) كُلُّ شَيْءٍ عندَه سَهْلٌ.

والآياتُ الدالةُ على أن الإيجادَ الأولَ برهانٌ عقليٌّ قاطعٌ على الإيجادِ الثاني - الذي هو البعثُ - كثيرةٌ جِدًّا في هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِه جل وعلا:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: آية 27]، وكقولِه:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: آية 104]، وكقولِه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62)} [الواقعة: آية 62]، وتتعظونَ بأن مَنْ أَنْشَأَ أولاً قادرٌ على أن يُنْشِئَ ثانيًا، وكقولِه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: آية 5]، إلى أن قال في آخِرِ آياتِ الحجِّ هذه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: الآيتان

ص: 14

6، 7]، بهذه الدلائلِ العظيمةِ؛ لأَنَّ البعثَ والإيجادَ بعدَ عدمٍ لَا يمكنُ أن يكونَ أعظمَ من الإيجادِ الأولِ من الترابِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5]، فَعَيْنُ المقدمةِ التي تُنْكِرُونَ: هي المقدمةُ التي أنتم موجودونَ بها، مُقِرُّونَ بها، وكقولِه:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الآيتان 78، 79]، وكقولِه جل وعلا:{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى}

(1)

وفي القراءةِ الأُخْرَى: {مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: الآيات 37 - 40] بَلَى وَاللَّهِ هو قادرٌ على ذلك. وهذا كثيرٌ في القرآنِ؟ ولأَجْلِ هذا قال الله جل وعلَا: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [الآيات 1 - 4]، ثم بَيَّنَ أن مرادَه بالقَسَمِ على أنه خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ ليقيمَ بذلك البرهانَ القاطعَ على البعثِ بعد الموتِ. وَلِذَا أَتْبَعَهُ بقولِه:{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} [التين: آية 7]، أَيُّ شيءٍ يَحْمِلُكَ على التكذيبِ بالبعثِ والجزاءِ، وقد علمتَ أني أَوْجَدْتُكَ أولاً، وليس الإيجادُ الأخيرُ بأصعبَ من الإيجادِ الأولِ؟ ولأجلِ هذا بَيَّنَ اللَّهُ تعالى أنه لا يُنْكِرُ الإيجادَ الثانيَ - الذي هو البعثُ بعدَ الموتِ - إلا مَنْ نَسِيَ الإيجادَ الأولَ حيث قال:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: آية 78]؛ إذ لو تَذَكَّر خَلْقَهُ الأولَ لَمَا أَمْكَنَهُ أن ينكرَ خلقَه الثانيَ. وكما قال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ

(1)

وهي قراءة أكثر السبعة: انظر: المبسوط لابن مهران 453 ..

ص: 15

لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: الآيات 66 - 68]، وهذا كثيرٌ. وهذا البرهانُ القطعيُّ على البعثِ أشارَ له بقولِه هنا:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98].

البرهانُ الثاني: خلقُه السماواتِ، وَتَزْيِينُهَا بالنجومِ، وخلقُه الأرضَ، وأشار له هنا بقولِه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: آية 97]، والنجومُ زُيِّنَتْ بها السماءُ. وَمَنْ خَلَقَ هذا العالمَ العلويَّ والسفليَّ فهو قادرٌ على بعثِ الإنسانِ الصغيرِ المسكينِ؛ لأَنَّ مَنْ خلقَ الأكبرَ الأعظمَ فهو قادرٌ على خلقِ الأصغرِ من بابِ أَوْلَى؛ ولأَجْلِ هذا كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ الاستدلالُ على البعثِ بإيجادِ السماواتِ والأرضِ المشارِ لها بإيجادِ النجومِ والاهتداءِ بها في العالَم العلويِّ، كقولِه تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: آية 57]، أي: وَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأكبرِ فهو قَادِرٌ على خلقِ الناسِ الذين هم أَصْغَرُ. وكقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف: آية 33]، وكقولِه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: آية 99]، وكقولِه جل وعلا:{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} [النازعات: الآيات 27 - 32]، والجوابُ: السماءُ أشدُّ خَلْقًا مِنَّا، أي: فَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأَشَدِّ فهو قادرٌ على خلقِ الأضعفِ الأصغرِ. والآياتُ في مثلِ هذا كثيرةٌ.

البرهانُ الثالثُ: إحياءُ الأرضِ بعدَ موتِها، المشارُ إليه بقولِه

ص: 16

هنا: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 99]، لأَنَّ مَنْ يُحْيِي الأرضَ، ويُخرجُ النباتَ بعد الانعدامِ قَادِرٌ - بِلَا شَكٍّ - على أن يُحْيِيَ الأنفسَ الإنسانيةَ بعدَ العدمِ؛ لأَنَّ الكلَّ من بابٍ واحدٍ، كُلُّهُ جرمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أولاً وانقرضَ وَانْمَحَى. وقد عَايَنَّا أنه يُعيدُ النباتاتِ، فتجدُ الأرضَ بِحُلِيِّهَا وَحُلَلِهَا من أنواعِ النباتِ، ثم يَيْبَسُ، وَتَذْرُوهُ الريحُ، ويصيرُ هَشِيمًا، ثم إن الله يُوجِدُ في الأرضِ شَيْئًا كثيرًا بعد فنائِه. فَمَنْ أَحْيَا الأرضَ وأنبتَ النباتَ بعدَ أَنِ انْعَدَمَ: فلا شَكَّ أنه قادرٌ على خلقِ الإنسانِ، وإنباتِ الآدميين بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ.

والآياتُ الدالةُ على هذا البرهانِ كثيرةٌ، كقولِه تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: آية 39]، وكقولِه جل وعلا:{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: آية 57]، أي: فَإِخْرَاجُنَا للنباتِ بعدَ الانعدامِ كذلك إِخْرَاجُنَا لِلْمَوْتَى بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ. وكقولِه جل وعلا: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: آية 50] وكقولِه تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم: الآيات 17 - 19]، أي: مِنْ قبورِكم أحياءً بعد الموتِ، وكقولِه تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ

ص: 17

بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: الآيات 9 - 11] أي: كخروجِ النباتِ الذي تُشَاهِدُونَ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي: خروجُكم من قبورِكم أحياءً بعدَ الموتِ.

والآياتُ الدالةُ على هذا كثيرةٌ جِدًّا كما قال جل وعلا: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: آية 57]، كذلك الإخراجُ نُخْرِجُ الْمَوْتَى؛ وَلِذَا قال (جل وعلا) هنا:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: آية 99]، الله (جل وعلا) يُنْزِلُ الماءَ من السماءِ؛ لأَنَّ إنزالَ الماءِ من السماءِ فيه غرائبُ وعجائبُ، يجبُ على الإنسانِ تَأَمُّلُهَا؛ لأَنَّ اللَّهَ قال:{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس: آية 24]، وقوله:{فَلْيَنظُرِ} صيغةُ أمرٍ تَدُلُّ على الوجوبِ، فإذا لم يَنْظُرِ الإنسانُ إلى طعامِه كان مُخَالِفًا للأمرِ السماويِّ من خالقِ السماواتِ والأرضِ. وما يُدْرِيهِ أن اللَّهَ يقولُ له كما قال لإبليسَ:{مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12]، ما مَنَعَكَ ألا تنظرَ إلى طعامِك إِذْ أَمَرْتُكَ؟

وهذا النظرُ المأمورُ به إلى الطعامِ كأن اللَّهَ يقولُ لكَ: انْظُرْ يا عَبْدِي لتعلمَ عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي، وتعرفَ قَدْرَكَ، وَضَعْفَكَ وَعَجْزَكَ، انْظُرْ إلى الخبزِ الذي تَأْكُلُهُ، وتُقِيمُ به أَوَدَكَ، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي نَبَتَ بِسَبِبِهِ؟ أيقدرُ أحدٌ غير اللَّهِ أن يخلقَ هذا الجرمَ اللطيفَ الذي يُحْيِي به اللَّهُ الأجسامَ، وينبتُ به النباتاتِ؟ لَا وَاللَّهِ لَا يَقْدِرُ على خَلْقِهِ إِلَاّ اللَّهُ.

هَبْ أَنَّ الماءَ خُلِقَ، فَمَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه، وَسَقْيِ الأرضِ به مع سعةِ رقعتِها؟ مَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه على هذا الأسلوبِ الغريبِ

ص: 18

العجيبِ الذي ينزلُ رَشَاشًا؟ فلو كَانَ مُنْزِلُهُ أخْرَقَ لأَنْزَلَهُ قطعةً واحدةً مُتَّصِلاً بعضُه ببعضٍ. ولو نَزَلَ المطرُ الغزيرُ قطعةً واحدةً لأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ سَقَطَ عليه، وَتَرَكَ الخلقَ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ كيفيةَ إنزالِه إياه، وما في ذلك مِنَ الغرائبِ والعجائبِ:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: آية 43]، الوَدْقُ: المطرُ يخرجُ من خلالِ السحابِ، أي: مِنْ فتوقِ الْمُزْنِ وثقوبِه التي جَعَلَهَا اللَّهُ فيه، وهو إنما يأتي به قَادِرٌ يُصَرِّفُهُ كيفَ شَاءَ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الفرقانِ - أنه يُنْزِلُ الماءَ هذا الإنزالَ الهائلَ الغريبَ العجيبَ، وأن كَثِيرًا من الناسِ يَأْبَى في هذه الغرائبِ والآياتِ إِلَاّ الْكُفْرَ - والعياذُ بالله -؛ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: الآيات 48 - 50]، يعني: صَرَّفْنَا الماءَ بينَ الناسِ، تارةً نُغْدِقُ المطرَ على قومٍ لِتُخْصِبَ أرضَهم، وَتُنْبِتَ زُرُوعَهُمْ، ويكثر خيرُ مواشيهم، اختبارًا لهم وابتلاءً هل يشكرونَ نِعَمَنَا؟ ونَصْرِفُهُ عن قومٍ كانوا في خِصْبٍ حتى يُجْدِِبوا؛ لنختبرهم بذلك الجدبِ والفقرِ وهلاكِ المواشي والزروعِ: أيتعظون، وَيُنِيبُونَ إلينا؟

وَلَمَّا قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50]، وَمِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إِلَاّ كُفُورًا: الكفرةُ وأذنابُ الكفرةِ الذين يزعمونَ أن السحابَ لَمْ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، وإنما هي طبائعُ، وأن الماءَ تَتَفَاوَتُ عليه درجاتُ الشمسِ، أو احتكاكُ الهواءِ حتى يتبخرَ وتتصاعدَ أبخرتُه، فتتجمعُ ثم تُلَاقِي هواءً حارًّا، ثم تُزَعْزِعُهَا الريحُ فَتُفَرِّقُهَا، وأن هذا ليس فعلَ فاعلٍ!! هؤلاء الذين يقولُ اللَّهُ فيهم:

ص: 19

{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُورًا} وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تلك السحابةِ - التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ ليلاً - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَسَمِعْتُمْ مَا قَالَ رَبُّكُمُ الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَهَذَا مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ»

(1)

.

ومثلُه الذي يقولُ: مُطِرْنَا ببخارِ كذا!! لأن السحابَ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، يخلق ماءَه أَوَّلاً. وَبين خلقَه قال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي: يَسُوقُهُ: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يَضُمُّ بعضَه إلى بعضٍ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} مُتَرَاكِبًا يَعْلُو بعضُه فوقَ بعضٍ {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: آية 43]، جَمْعُ خَلَلٍ، أي: مِنْ ثُقُوبِ الْمُزْنِ وفروجِه: ينزل منها؛ لأنه يجعلُ وعاءَه كالغرابيلِ؛ ينزلُ منها المطرُ، على قَدْرِ ما يشاءُ اللَّهُ جل وعلا:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُورًا (50)} [الفرقان: آية 50].

هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، وأن المطرَ أُنْزِلَ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يشقَّ الأرضَ وَيُخْرِجَ منها مسمارَ النباتِ؟

هَبْ أَنَّ مسمارَ النباتِ خَرَجَ، مَنْ هُوَ الذي يَقْدِرُ أن يشقَّه ويخرجَ منه السنبلةَ؟

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلَّمَ. حديث (846)، (2/ 333) وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(1038، 4147، 7503)، ومسلم، كتاب الإيمان؛ باب بيان كفر من قال مُطِرْنا بالنوء. حديث رقم:(71)، (1/ 83).

ص: 20

هَبْ أن السنبلةَ وُجِدَتْ، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يخرجَ حَبَّهَا وَيُنَمِّيَهُ، وينقلَه من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يصيرَ صَالِحًا مُدْرِكًا نافعًا للأَكْلِ؟

كما يُنَبِّهُنَا اللَّهُ على هذا في هذه الآيةِ التي نَحْنُ عندَها في قولِه: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: آية 99]، انْظُرُوا الثمرَ عندما يَبْدُو، وَانْظُرُوهُ عندما يُدْرِكُ نَاضِجًا صَالِحًا للأكلِ، تعلمونَ أن الذي نَقَلَهُ منذ تلك الحالِ الأُولَى إلى حالةِ الانتفاعِ هذه، أنه رَبٌّ قادرٌ عظيمٌ، هو الخالقُ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال جل وعلا:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 99]، الباءُ: سَبَبِيَّةٌ، واللَّهُ (جل وعلا) يُسَبِّبُ ما شاء على ما شاءَ من الأسبابِ، ولو شاءَ أن تنخرمَ الأسبابُ لَانْخَرَمَتْ، فهو (جل وعلا) يفعلُ كيفَ يشاءُ، ويسببُ ما شَاءَ مِنَ المُسَبَّباتِ، على ما شاء من الأسبابِ، ويبينُ لنا في كتابِه غرائبَ وعجائبَ وَعِبَرًا نعلمُ بها أنه لَا تأثيرَ إلا لِلَّهِ وحدَه، وأنه لو شاءَ أن لا تؤثرَ الأسبابُ لَمْ تُؤَثِّرْ، ومن ذلك ما قَصَّ علينا في سورةِ الأنبياءِ وغيرِها من سورِ القرآنِ أنه أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارِ نمرودَ وقومِه، أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارٍ تَضْطَرِمُ، تأكلُ الحطبَ حتى تتركَه رَمَادًا، أُلْقِيَ فيها إبراهيمُ والحطبُ، فَأَكَلَتِ الحطبُ بحرارتِها فَتَرَكَتْهُ رَمَادًا، وصارت بَرْدًا على إبراهيمَ. ولو لم يَقُلِ اللَّهُ:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} [الأنبياء: آية 69]، لو لم يَقُلْ:{وَسَلَامًا} لأَهَلْكَهُ بردُها، والنارُ لا عَقْلَ لها ولا إدراكَ تحرقُ به الحطبَ وتتركُ إبراهيمَ. وذلك يُبَيِّنُ أن الفاعلَ هو الخالقُ (جل وعلا)، وأنه يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ مِنَ الْمُسَبَّباتِ. ويوضحُ لنا هذا: أن السببَ تَارَةً يكونُ مُنَاقِضًا للمُسبَّبِ وينتجُ الشيء من نقيضِه، كما قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ في

ص: 21

قصةِ قتيلِ بَنِي إسرائيلَ

(1)

؛

لأنه لَمَّا أرادَ اللَّهُ أن يُحْيِيَهُ قال لهم: اذْبَحُوا بَقَرَةً، فَذُبِحَتِ البقرةُ، وصارت ميتةً، وَقُطِعَتْ منها وصلةٌ وهي ميتةٌ، قطعةٌ مِنْ بقرةٍ [11/ب] ميتةٍ، ليس فيها من الحياةِ شيءٌ، فضربوه بها فَحَيِيَ، / وأخبرَهم بقاتلِه!! لو ضَرَبُوهُ بالبقرةِ حيةً لربما قال جاهلٌ: قَدِ اسْتَفَادَ الحياةَ منها، وَسَرَتْ حياتُها فيه!! أما هو فقد أَمَرَهُمْ أن يُمِيتُوهَا وَيَذْبَحُوهَا ويضربوه بقطعةٍ منها فَحَيِيَ!! فَمِنْ أَيْنَ وُجِدَتْ هذه الحياةُ من هذا الضربِ بقطعةٍ من بقرةٍ ميتةٍ؟ وذلك برهانٌ قاطعٌ على أن اللَّهَ يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ من الأسبابِ؛ وَلأَجْلِ هذا قال:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بِسَبَبِهِ {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} .

قولُه: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: جميعَ أصنافِ النباتاتِ مِمَّا يأكلُه الناسُ والأنعامُ، كما قال جل وعلا:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: آية 54]، فَيُنْبِتُ للناسِ أنواعَ النباتِ مما هو قوتٌ كالقمحِ والشعيرِ ونحوِهما، وَمِمَّا هو فاكهةٌ، وينبتُ لهم المرعى لحيواناتهم؛ لأن الحيواناتِ إذا أَكَلَتِ المرعى المليءَ كَثُرَتْ ألبانُها وأزبادُها وأسمانُها ولحومُها وَكَثُرَتْ جُلُودُهَا وأصوافُها وأوبارُها وأشعارُها، إلى غيرِ ذلك من منافعِها بسببِ الماءِ؛ ولذا قال:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} .

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي: من نباتِ كُلِّ شَيْءٍ.

{خَضِرًا} الخَضِرُ: هو صفةٌ مشبهةٌ من (خَضِرَ) فهو (خَضِرٌ وأَخضَرُ). والمرادُ بالخَضِرِ هنا: الذي يَنْبُتُ أخضرَ كالبقولِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة ..

ص: 22

ونحوِها

(1)

؛ لأن القمحَ والشعيرَ وما جَرَى مجراهما ينبتُ أولاً نبات البقولِ.

ثم قال: {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من ذلك الخَضِرِ النابتِ.

{حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} يَعْلُو بعضُه بَعْضًا كالسنبلِ، فإنكَ تجدُ السنبلةَ يتراكبُ فيها الْحَبُّ ويعلو بعضُه بعضًا

(2)

. وهذا معنى قولِه: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} .

وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} قراءةُ الجمهورِ

(3)

{النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ} بالنصبِ؛ لأَنَّ الكسرةَ علامةٌ هنا للنصبِ.

وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} النخلُ: من جنسِ المُنْبَتِ بهذا الماءِ، إلا أن اللَّهَ قَطَعَهُ، وجاء به في صيغةِ جُمْلَةٍ مُسْتَأنَفَةٍ من مبتدأٍ وخبرٍ تَنْوِيهًا بشأنِ النخلِ

(4)

لأن النخلَ كُلَّهُ مَنَافِعُ.

وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ: أنه إِذَا ذَكَرَ الإنعامَ بالتمرِ ذَكَرَهُ باسمِ شجرتِه التي هي النخلةُ، وإذا ذَكَرَ الإنعامَ باسمِ العنبِ ذَكَرَهُ باسمِ الثمرةِ التي هي العنبُ. هذه قاعدةٌ مطردةٌ في القرآنِ.

قال بعضُ العلماءِ: إنما ذَكَرَ شجرةَ التمرِ التي هي النخلةُ؛ لأن النخلةَ كُلَّهَا منافعُ، فتمرها

بعضُ منافِعها

(5)

. فلو عَبَّرَ بالتمرِ لأَهْمَلَ

(1)

انظر: ابن جرير (11/ 573)، القرطبي (7/ 47)، الدر المصون (5/ 69).

(2)

انظر: ابن جرير (11/ 573)، القرطبي (7/ 47)، البحر المحيط (4/ 189).

(3)

والقراءة الأخرى: برفع «جناتٌ» . انظر: المبسوط لابن مهران، ص199.

(4)

انظر: البحر المحيط (4/ 189).

(5)

انظر تفصيل ذلك في مفتاح دار السعادة (1/ 230).

ص: 23

منافعَ النخلِ الكثيرةِ؛ لأن النخلَ كُلَّهَا منافعُ؛ لأن خُوصَهَا تُصْنَعُ منه القفاصُ، وجريدَها تُصْنَعُ منه الحُصر، وتصنعُ منها الحبالُ، ولبَّها يؤكلُ، وجذعَها يُسقف به، وكُرْنَافَها يوقدُ به، فجميعُ ما فيها منافعُ.

أما شجرةُ العنبِ: فليس في نفسِ الشجرةِ من المنافعِ ما في النخلةِ

(1)

، فأعظمُ منافعِها في ثَمْرَتِهَا.

وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ} النخلُ: جمعُ نخلةٍ. وقيل: هو جنسٌ أو اسمُ جَمْعٍ

(2)

. وهو يُذَكَّرُ ويُؤنثُ؛ لأَنَّ اللَّهَ ذَكََّرَهُ في قولِه: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنْقَعِرٍ (20)} [القمر: آية 20]، ولم يَقُلْ: منقعرةٍ. وَأَنَّثَهُ في قولِه: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: آية 7]، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أَنَّ أسماءَ الأجناسِ تُذَكَّرُ وتُؤنَّثُ.

قال بعضُ العلماءِ: فإن قيلَ له: (نخيلٌ) لَمْ يَجُزْ تَأْنِيثُهُ.

وقولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} يُطْلَقُ (الطلعُ) على أولِ ما يخرجُ من النخلةِ؛ لأنه يخرجُ أَوَّلاً قبلَ أن يَنْفَتِحَ يسمى (كِمًّا)، ثم ينفتحُ على النَّوْرِ المسمَّى بـ (الإغْرِيض). وهذا هو المرادُ بقولِه:{مِنْ طَلْعِهَا} . وَرُبَّمَا يُطْلَقُ الطلعُ على ثَانِي الحالِ؛ لأنه يكونُ أَوَّلاً طَلْعًا

ص: 24

نَوْرًا أبيضَ، ثم يُنْقَلُ من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يكونَ بُسْرًا ورُطَبًا وَتَمْرًا يَابِسًا. وقولُه:{مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} المرادُ بالطلعِ هنا: حالُه الأخيرةُ، إلا أن ذلك يُوجَدُ من الطلعِ، وهو النَّوْرُ الذي ينفتحُ عنه الكِمُّ أَوَّلاً

(1)

.

وقولُه: {قِنْوَانٌ} القِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ، كالصِّنْوَانِ وَالصِّنْوِ.

وفيه قراءة: {قِنْوَانٌ} و {قُنْوَانٌ} أما قراءةُ {قَنْوَانٌ} بفتحِ القافِ فليست سَبْعِيَّةً

(2)

.

والقِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ. والقِنْوُ: هو عِذْقُ النخلةِ الذي فيه الثمرُ

(3)

.

وقولُه: {دَانِيَةٌ} أي: قريبةُ المُتَنَاوَلِ؛ لأن النخلَ إذا كان صِغَارًا قد يُثْمِرُ الثمرةَ الجيدةَ، مع أنها دانيةٌ قريبةٌ سهلةُ المُتَنَاوَلِ، لا يحتاجُ صاحبُها إلى طلوعٍ، ولَا إلى صعودٍ. ومعنَى قولِه:{دَانِيَةٌ} أي: قريبةُ الْمُجتَنَى، ينالُها الإنسانُ من غيرِ تَعَبٍ.

قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ دانيةَ الثمرِ ولم يَذْكُرِ السَّحُوقَ - التي

(1)

انظر: القرطبي (7/ 48، 50)، الدر المصون (5/ 75)، وقد ذكر مراتب ثمر النخلة، ونقل قول بعضهم:

إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ

أسماءَ ما تُثْمرهُ النخيلُ

فَاسْمَعْه موصوفًا على ما أذكرُ

طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر

وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ

ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ

فهذه أنواعُها يا صاح

مضبوطةً عن صاحب الصحاحِ

(2)

وكذلك القراءة بضم القاف (قُنوان) شاذة أيضًا. انظر المحتسب (1/ 223)، القرطبي (7/ 48).

(3)

انظر: ابن جرير (11/ 575)، القرطبي (7/ 48)، الدر المصون (5/ 73).

ص: 25

هي النخلةُ الطويلةُ - قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ الدانيةَ لأَنَّ النعمةَ بها أَتَمُّ؛ لأن ثمرَها يوجدُ بلا تعبٍ ولا كُلْفَةٍ. بخلافِ السَّحُوقِ فإنها لابد مِنْ أن يُصْعَدَ عليها

(1)

.

وقال بعضُ العلماءِ: هنا حَذَفَ الواوَ وما عَطَفَتْ عليه: وَمِنَ النخلِ مِنْ طَلْعِهَا قنوانٌ دانيةٌ وسَحُوق

(2)

. أي: نَخْلٌ طوَالٌ.

وقولُه: {قِنْوَانٌ} مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ والمجرورُ قَبْلَهُ

(3)

.

وقولُه: {مِنْ طَلْعِهَا} بدلٌ من قولِه: {وَمِنَ النَّخْلِ}

(4)

.

و {قِنْوَانٌ} في مَحَلِّ مبتدأٍ، و {دَانِيَةٌ} نعتٌ له.

والخبرُ قولُه: {وَمِنَ النَّخْلِ}

(5)

.

وقولُه: {مِنْ طَلْعِهَا} جارُّ ومجرورٌ مُبْدَلٌ من الجارِّ والمجرورِ قَبْلَهُ، وهذا معروفٌ.

وقولُه: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} جماهيرُ القراءِ قَرَؤُوا: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ}

(6)

هو معطوفٌ على قولِه: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ عَطْفِ الخاصِّ على العَامِّ

(7)

. أي: فَأَخْرَجْنَا به نباتَ كُلِّ شيءٍ، وَأَخْرَجْنَا به

(1)

انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 189).

(2)

السابق.

(3)

انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 189)، الدر المصون (5/ 69).

(4)

انظر: البحر المحيط (4/ 189، 190)، الدر المصون (5/ 69).

(5)

انظر: القرطبي (7/ 48)، البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 69).

(6)

تقدمت هذه القراءة قريبًا، وأشرت هناك إلى القراءة الأخرى، وهي برفع (جنات).

(7)

انظر: البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 75).

ص: 26

جناتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ. ولم يَقُلْ: وجناتٌ من أعنابٍ؛ لأن جناتِ الأعنابِ ليست من قِنْوَانِ النخيلِ. ولو رُفِعَ في قولِه: «وجناتٌ من أعنابٍ» لَصَارَ المعنَى: من النخلِ قِنْوَانٌ دانيةٌ، ومن النخل جناتٌ من أعنابٍ. وهذا لا يَصِحُّ. وعلى بعضِ القراءاتِ:{وَجَنَّاتٌ} بالرفعِ، قالوا: يُقَدَّرُ له محذوفٌ. أي: ولهم من نِعَمِهِ - جل وعلا - جَنَّاتٌ من أَعْنَابٍ

(1)

.

(الجنات) جمع الجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ: البستانُ

(2)

. ومنه قولُه تعالى: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا} [القلم: آية 17]، هو بستانٌ معروفٌ وَقَعَتْ فيه هذه القضيةُ. أصلُ الجنةِ: البستانُ. والعربُ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ (جنةً). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قَوْلُ زُهَيْرٍ

(3)

:

كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقتَّلَةٍ

مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا

يعني: بستان نخلٍ نخلُه طِوَالٌ؛ لأَنَّ السُّحُقَ: جمع سَحُوقٍ، وهو النخلةُ الطويلةُ. هذا أصلُ الجنة في لغةِ العربِ.

وهي في اصطلاحِ الشرعِ: دارُ الكرامةِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لعبادِه المؤمنين، فيها ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17].

(1)

انظر توجيه قراءة الرفع في: حجة القراءات ص 264، القرطبي (7/ 49)، البحر المحيط (4/ 190)، الدر المصون (5/ 76).

(2)

انظر: المفردات (مادة: جنَّ) ص 204.

(3)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

ص: 27

{وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} الأعنابُ: جمعُ العنبِ، وهو الثمرُ المعروفُ.

وفي العنبِ غرائبُ وعجائبُ؛ لأنها ثمرةٌ كأن جُلَّهَا يُمْسِكُهُ اللَّهُ جل وعلا

(1)

.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أما قولُه: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} فلم يَقْرَأْهُ أحدٌ كائنًا ما كان إلا بالنصبِ.

أما {وَجَنَّاتٍ} فقراءةُ الجمهورِ: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} وفي بعضِ القراءاتِ {وَجَنَّاتٌ} بالرفعِ.

أما {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} فَقَرَأَهُ عامةُ القراءِ بالنصبِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ.

الزيتونُ: هو الشجرُ المعروفُ، وهو الذي وَصَفَهُ اللَّهُ بالبركةِ في قولِه:{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: آية 35] لأن منافعَ الزيتونِ كثيرةٌ؛ لأنه وَقُودٌ وَدُهْنٌ وِإِدَامٌ، إلى غيرِ ذلك مِنْ مَنَافِعِهِ

(2)

. يذكرونَ أنه: أولُ شجرةٍ نَبَتَتْ في الأرضِ شجرةُ الزيتونِ، وأولُ شجرةٍ نبتت بعد الطوفانِ يزعمونَ أنها شجرةُ الزيتونِ، ويزعمونَ أن شجرةَ الزيتونِ هي أطولُ الشجرِ عُمْرًا، وأنها تَمْكُثُ في الأرضِ مَا لَا تَمْكُثُهُ شجرةٌ غيرُها.

{وَالرُّمَّانَ} مَعْرُوفٌ.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} كان بعضُ العلماءِ يقولُ: في الكلامِ حَذْفٌ دَلَّ المقامُ عليه، أي: والزيتونَ مشتَبِهًا وغيرَ

(1)

انظر: زاد المعاد (4/ 340).

(2)

انظر: زاد المعاد (4/ 316 - 317)، أقسام القرآن ص44.

ص: 28

متشابهٍ، والرمانَ مشتَبِهًا وغيرَ مُتَشَابِهٍ

(1)

. أنها راجعةٌ لِكِلَيْهِمَا. وَحُذِفَ أحدُهما لدلالةِ المقامِ عليه، ونظيرُ هذا التفسيرِ من كلامِ العربِ قولُ عمرِو بنِ أحمرَ الباهليِّ

(2)

:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي

بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

يَعْنِي كنتُ منه بَرِيئًا، وكان وَالِدِي بَرِيئًا.

ومنه قَوْلُ ضَابِئ بنِ الحارثِ الْبَرْجَمِيِّ

(3)

:

فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ

فَإِنِّي وقَيَّارًا بِهَا لَغَرِيبُ

وَهُوَ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ.

ومعنَى كونِ الزيتونِ مُشْتَبِهًا وغيرَ مُتَشابهٍ: أن شجرَه يتشابهُ ورقُه في القَدْرِ، ويتشابَه في نباتِه في جميعِ الغصنِ، وغيرُ متشابهٍ لأَنَّهُ أنواعٌ تختلفُ طُعُومُها. الذي يعرفُه يَجِدُ في اختلافِ طعمِه فُرُوقًا يستدلُّ بها على كمالِ قدرةِ مَنْ صَنَعَهُ، وأن صَانِعَهُ ليس بطبيعةٍ؛ لأَنَّ الطبيعةَ معنًى واحدٌ لَا يَنْقَسِمُ، وكذلك الرمانُ: تجدُه متشابهًا بالمنظرِ، أغصانُه وورقُه مُتَشَابِهٌ، وقد تجدُ طعمَه مُتَبَايِنًا أَيْضًا كما هو مَعْرُوفٌ

(4)

.

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 191)، الدر المصون (5/ 79).

(2)

البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75)، الدر المصون (2/ 608).

وقوله: «الطوي» أي: البئر. وقد كان بينه وبين رجل خصومة فيها.

(3)

البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75)، الخزانة (4/ 81، 323). وقيار: اسم فرسه.

(4)

انظر: ابن جرير (11/ 578)، القرطبي (7/ 49)، البحر المحيط (4/ 191)، الدر المصون (5/ 79).

ص: 29

كونُه يتشابهُ من جهةٍ، ويختلفُ من جهةٍ، هذا دليلٌ على كمالِ قدرةِ مَنْ خَلَقَهُ، وأن خالقَه ليس بطبيعةٍ؛ لأن الطبيعةَ عند مَنْ يَزْعُمُونَهَا معنًى واحدٌ، جوهرٌ لا يَتَقَسَّمُ، ولا يقبلُ الانقسامَ. يستحيلُ أن تؤثرَ الطبيعةُ في مطبوعين مختلفين. فالنارُ لَوْ فَرَضْنَا - كما يقولونَ - «إنها بطبيعتِها تَحْرِقُ» فلا يمكنُ أن يكونَ من طبيعتِها الإبرادُ، وكذلك السكينُ، وقلنا:«طبيعتُها القطعُ» فلَا يكونُ من طبيعتِها الوصلُ، وهكذا. فلا يمكن أن تكونَ الطبيعةُ الواحدةُ تنتجُ أشياءَ مختلفةً.

واختلافُ هذه الأشياءِ دليلٌ على أن فاعلَ ذلك صانعٌ مختارٌ يفعلُ ما يشاءُ، كما نَبَّهَنَا على ذلك في أولِ سورةِ الرعدِ؛ لأن الله (جل وعلا) في أولِ سورةِ الرعدِ لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، نَبَّهَ خلقَه أن ما يزعمُه الكفرةُ الفجرةُ الكلابُ أبناءُ الكلابِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ (جل وعلا) في هذا الكونِ من غرائبِه وعجائبِه، أنه فِعْلُ طَبِيعَةٍ، أَلْقَمَهُمُ الحجرَ في أولِ سورةِ الرعدِ، ذلك أن اللَّهَ لَمَّا قال:{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ثم نَوَّهَ بشأنِ هذا القرآنِ: {وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} ذَكَرَ صفاتِ خالقِ هذا الكونِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} ثم قال - هو مَحَلُّ الشاهدِ-: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ} وفي قراءةٍ أُخْرَى

(1)

: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} وفي

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص251.

ص: 30

القراءةِ الأُخْرَى

(1)

: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد: الآيات 1 - 4]، وفي القراءةِ الأُخْرَى:{فِي الأُكْلِ} (3)(4) يعني تجدُ هذا البستانَ أرضُه أرضٌ واحدةٌ، وقِطَعٌ يجاورُ بعضُها بعضًا، والماءُ الذي يُسْقَى به ماءٌ واحدٌ، والأرضُ بقعةٌ واحدةٌ لا اختلافَ في مَائِهَا، ولَا فِي أرضِها، ثم ترى ذلك البستانَ تَخْرُجُ منه ثِمَارٌ مختلفةٌ ألوانُها وأشكالُها ومقاديرُها وطعومُها ومنافعُها.

فهذا لا يمكنُ أن يكونَ من طبيعةٍ؛ إِذْ لو كانت طبيعةَ الماءِ لَمَا اختلفت إلى هذا الاختلافِ، ولو كانت طبيعةِ الأرضِ لَمَا اخْتَلَفَتْ إلى هذا الاختلافِ؛ لأَنَّ الماءَ واحدٌ، والبقعةَ واحدةٌ، فَدَلَّ اختلافُ هذه الثمارِ في أصنافِها وألوانِها وأشكالِها ومقاديرِها وطعومِها ومنافِعِها: على أن خالقَها هو القادرُ وحدَه، الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، الذي له السلطانُ على هذا الكونِ، وأَمْرُهُ (جل وعلا) هو الأمرُ، وَنَهْيُهُ هو النهيُ، وشرعُه هو الشرعُ، ودينُه هو الدِّينُ؛ ولذا قال (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ:{وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} .

ثم قال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} هذا إلفاتُ خالقِ الكونِ نظرَ خَلْقِهِ إلى غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه، انظر مثلاً إلى النخلةِ، إلى (الكُمّ) عندما يطلعُ كاللسانِ غير مفتوحٍ، ثم انْظُرْهُ عندما ينفتحُ عن ذلك النَّوْرِ الأبيضِ اللَّيِّنِ، ثم بعد ذلك، بعد أن يصيرَ تَمْرًا يابسًا مُدْرِكًا، انظر

(1)

المصدر السابق.

ص: 31

حالتَه الأُولَى عندما نَبَتَ، وحالتَه الثانيةَ عندما طَابَ وَأَدْرَكَ تَعْرِفْ أن الذي نقلَه من ذلك الطَّورِ إلى هذا الطَّورِ أنه مَلِكٌ قَادِرٌ، هو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ جل وعلا.

ولذا قال: {انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: آية 99]، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ} الذي يَلْفِتُ ربكم نظرَكم إليه {لآيَاتٍ} أي: دلالاتٍ واضحاتٍ {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} أي: يُصَدِّقُونَ، يعرفونَ بذلك من غرائبِ صنعِ رَبِّهِمْ وعجائبِه أنه هو الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه جل وعلا.

وإنما خَصَّ المؤمنين في قولِه: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} لأَنَّ الكفرةَ لَا يتعظونَ بالآياتِ، ولا يفهمونَ عَنِ اللَّهِ غرائبَه وعجائبَه؛ لأَنَّ اللَّهَ أَعْمَى بَصَائِرَهُمْ والعياذ بالله.

ومن عادةِ القرآنِ أنه غالبًا يخصُّ بالفعلِ الْمُنْتَفَعِ به، وإن كان الفعلُ في أصلِه عامًّا

(1)

، كقولِه:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: آية 45] وهو مُذَكَّرٌ به الأَسْوَدُ والأَحْمَرُ، وكقولِه:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: آية 11]، وهو مُنْذِرٌ الأَسْوَدَ والأَحْمَرَ، وكقولِه:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45]، {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر: آية 18] وأمثالُ ذلك، مع أنه منذرٌ للجميعِ، كما قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: آية 1].

هذه غرائبُ صنعِ اللَّهِ وعجائبُه يُبَيِّنُهَا لخلقِه (جل وعلا) ليعرفَهم بِرَبِّهِمْ (جل وعلا) بما يرونَ في هذا الكونِ من باهرِ صنعِه وعظيمِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

ص: 32

قدرتِه (جل وعلا)؛ ولذا قال: {إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} .

{ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} معناه: عندما يَبْدُو وَيَطْلُعُ.

والينعُ: تقول العربُ: «يَنَعَ الثمرُ، يَيْنَعُ، ويَينِعُ يَنْعًا، فهو يَانِعٌ» إذا نَضِجَ وأدركَ وصارَ صَالِحًا للأَكْلِ

(1)

. معناه: انْظُرُوهُ عندَ حالتِه الأُولَى، وانظروه عندَ يَنْعِهِ. أي: طِيبِهِ، وَنُضْجِهِ، وإدراكِه صَالِحًا للأكل، تعرفونَ بذلك أن الذي نقلَه من الطَّوْرِ الأولِ عندما يثمر إلى الحالةِ التي أَيْنَعَ فيها وصارَ صَالِحًا للأكل تعلمونَ أن ذلك فِعْلُ عَلِيمٍ قديرٍ عظيمٍ، هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال:{إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

[12/أ] / {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: الآيات 100 - 104].

يقول الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)} . [الأنعام: آية 100].

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ} بتخفيفِ الراءِ. وقرأه نافعٌ وحدَه: {وَخَرَّقُوا} بتشديدِ

(1)

انظر: ابن جرير (11/ 581)، القرطبي (7/ 50)، الدر المصون (5/ 82).

ص: 33

الراءِ

(1)

. أما على قراءةِ عبدِ اللَّهِ ابنِ مسعودٍ: (وحرَّفوا له بنين وبنات) فهذه قراءةٌ شاذةٌ

(2)

.

ومعنى هذه الآيةِ الكريمةِ: أن الله (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، كما في الآياتِ الماضيةِ، كقولِه:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95]، وكقولِه:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98]، وكقولِه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} [الأنعام: آية 97] وقولِه: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: آية 99] إلى آخرِ الآياتِ، بين الله فيها كمالَ قدرتِه وغرائبَ صنعِه وعجائبَه الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، فقال في هذه الآيةِ كأنه يقول: مع ما أَبْدَيْتُ لِخَلْقِي من آياتي الدالةِ على عَظَمَتِي وَجَلَالِي، وأني الربُّ المعبودُ،

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 200.

(2)

هذه القراءة إنما تُنسب لابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما. كما في البحر المحيط (4/ 194)، والدر المصون (5/ 87)، وفي المحتسب (1/ 224):(عمر، وابن عباس). وابن عمر يُشدّد الراء، وخففها ابن عباس.

أما القراءة المنسوبة لابن مسعود رضي الله عنه، فهي في قوله:(وخلقهم) حيث قرأها بإسكان اللام (وخَلْقَهم). والظاهر أنه معطوف على الجن. أي: وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصنامًا شركاء لله. انظر: المحتسب (1/ 224)، البحر المحيط (4/ 194)، الدر المصون (5/ 86)، وقد استشكل مؤلفه نسبة هذه القراءة لمصحف ابن مسعود، ومعلوم أن المصاحف آنذاك لم تكن مشكولة ولا منقوطة. فالله - تعالى - أعلم.

ص: 34

مع هذا أَشْرَكُوا بِيَ الْجِنَّ، وعبدوا معي المعبوداتِ التي لا تنفعُ ولا تَضُرُّ

(1)

.

وقولُه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في إعرابِ قوله: {الْجِنَّ} أَوْجُهٌ:

أشهرُها

(2)

: أنه أحدُ مَفْعُولَيْ {جَعَلُوا} . والمعنَى: جعلوا الجنَّ شركاءَ لله. فهو المفعولُ الأولُ، أُخِّرَ لأَمْنِ اللَّبْسِ.

و (جعل) هنا ذهب كثيرٌ من العلماءِ إلى أنها التي بمعنَى (صيَّر)

(3)

وهو غلطٌ. وإن قاله كثيرٌ من أَجِلَاّءِ العلماءِ.

والتحقيقُ: أن (جَعَلَ) هنا بمعنى (

)

(4)

.

(

) منافعها من ألبانٍ وأصوافٍ وأوبارٍ وأشعارٍ وأسمانٍ إلى غيرِ ذلك، وكذلك خَلَقَ السماءَ ورفعَها وأبعدَ سَمْكها وَزَيَّنَهَا بالنجومِ، وجعلَها سَقْفًا محفوظًا تَمُرُّ عليه آلافُ السنين لَا يتفطرُ، ولا يتصدعُ، ولا يتشققُ، ولا يحتاجُ إلى إصلاحٍ وترميمٍ:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 192 - 193).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 7)، القرطبي (7/ 52)، البحر المحيط (4/ 193)، الدر المصون (5/ 83).

(3)

انظر: الدر المصون (5/ 83). وما سيأتي عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

(4)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. والكلام على (جعل) ومعانيها تجده عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام، والآية (189) من سورة الأعراف. والكلام بعد الانقطاع يتعلق بالآية التي بعدها (101) وهي قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ

} الآية.

ص: 35

[الملك: الآيتان 3، 4]، أي: مِنْ عِظَمِ مَا رَأَى؛ ولذا قال هنا: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: آية 101]، أي خالقُ السماواتِ والأرضِ، ومخترعُهما وَمَنْ فِيهِمَا.

{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهذه الآيةِ يُفهم منها أن الْمُلْكَ والوَلَدِيةَ لا يمكنُ أن يَجْتَمِعَا؛ لأنهم لَمَّا ذَكَرُوا له الولدَ كان من رَدِّهِ عليهم: أنه مخترعُ الأرضِ والسماءِ. أي: وَمَنْ فِيهِمَا، وصانعُ الشيءِ هو مَالِكُهُ، والولدُ لا يكونُ مَمْلُوكًا أبدًا

(1)

.

وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ: بأن اللَّهَ يَرُدُّ على الكفرةِ في ادعاءِ الولدِ بأنه مَالِكُ كُلِّ شيءٍ، وأن الخلقَ عَبِيدُهُ، كما قال:{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)} لأن العبدَ لا يمكنُ أن يكونَ وَلَدًا.

ومن هذه الآياتِ القرآنيةِ أَخَذَ العلماءُ أن الإنسانَ إذا مَلَكَ ولدَه - بأن تزوجَ أمةً لغيرِه، وكان ولدُه رقيقًا وَاشْتَرَاهُ - أنه يَعْتِقُ عليه بنفسِ الْمِلْكِ، ولا يمكنُ أن يملكه؛ لأن الملكيةَ والولديةَ مُتَنَافِيَانِ

(2)

؛ ولذا قال هنا: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} .

{أَنَّى} هنا: هذا استفهامٌ للاستبعادِ والإنكارِ والنفيِ. لا يمكنُ أن يكونَ له وَلَدٌ؛ لأن كُلَّ ما في السماواتِ والأرضِ إنما هو خلقُه وَمِلْكُهُ، فكيفَ سيكونُ له وَلَدٌ من صُنْعِهِ ومُلْكِهِ الذي خَلَقَهُ وَأَبْرَزَهُ من العدمِ إلى الوجودِ.

{وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} أي: امرأةٌ. لأنه يَتَنَزَّهُ (جل وعلا) عن

(1)

انظر: القرطبي (2/ 85)، البحر المحيط (4/ 195)، التسهيل لابن جزي ص211 - 212، التحرير والتنوير (7/ 410).

(2)

انظر: القرطبي (11/ 159).

ص: 36

ذلك؛ وَلِذَا قال: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وجميعُ الكائناتِ خَلْقُهُ، فلا يمكنُ أن يكونَ شيءٌ مِنْ خَلْقِهِ ولدًا له بحالٍ؛ لأن الولدَ كالجزءِ من الوالدِ، والخلقُ صنعُ الوالدِ، والجزءُ والصنعةُ مُتَبَايِنَانِ لَا يمكنُ أن يجتمعا في شيءٍ؛ ولذا قال جل وعلا:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ} - جل وعلا - {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} لَا تَخْفَى عليه خافيةٌ، فهو (جل وعلا) يعلمُ كُلَّ شيءٍ، ويعلمُ غيرَ الشيءِ، لأَنَّ (الشيء) عندَ أهلِ السنةِ والجماعةِ لا يُطْلَقُ إلا على الموجودِ، واللَّهُ يعلمُ الموجودَ الذي هو شَيْءٌ، ويعلمُ المعدومَ الذي هو ليس بشيءٍ، فهو عَالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ والجائزاتِ والمستحيلاتِ حتى إنه من إحاطةِ عِلْمِهِ لَيَعْلَمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لَا يوجدُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ؟ كما قد بَيَّنَّا نَصَّهُ تعالى على ذلك في هذه السورةِ - سورةِ الأنعامِ - فَقَدْ بَيَّنَّاهُ مُفَسَّرًا في قولِه:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28](1) لأَنَّ الكفارَ إذا عَايَنُوا النارَ نَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ، وَتَمَنُّوا الردَّ للدنيا مرةً أخرى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ.

وَلِذَا قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] على إحدى القراءاتِ (2)، والله (جل وعلا) عَالِمٌ أن هذا الردَّ الذي تَمَنَّوْهُ عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ (جل وعلا) أنه عَالِمٌ أن لو كان كيفَ يكونُ؟ كما قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28]، والمتخلفونَ عن غزوةِ تبوك لا يَحْضُرُونَهَا أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها لإرادتِه لحكمةٍ يعلمها {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ

ص: 37

عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: آية 46]، وخروجُهم هذا الذي ثَبَّطَهُمْ عنه، وَسَبَقَ في علمِه أنه لا يكونُ، هو عَالِمٌ أَنْ لو كان كيفَ يكونُ، كما صَرَّحَ به في قولِه:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآية [التوبة: آية 47].

وكقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ. ولذا قال هنا: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: آية 101] فَمَنْ أحاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ فكيفَ يكونُ جنسًا له - كالولدِ - من لَا يعلمُ شيئًا إلا ما عَلَّمَهُ اللَّهُ؟ يعني: فالذي تَدَّعُونَ من الأولادِ لله لا يعلمونَ شيئًا إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، فكيفَ يكونونَ كالجزءِ والجنسِ لِمَنْ لَا يَخْفَى عليه شَيْءٌ؟

وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا

(1)

: أن العلمَ المحيطَ لِلَّهِ وحدَه، وأن المخلوقين يعلمونَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ فقط، وَبَيَّنَّا أمثلةً كثيرةً لذلك، منها:

أن أَعْلَمَ الخلائقِ - الملائكةُ والرسلُ - الملائكةُ قد قَدَّمْنَا في سورةِ البقرةِ أن اللَّهَ لَمَّا قال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: الآيتان 31، 32]، فقولُه:{لَا عِلْمَ لَنَا} النكرةُ إذا بُنِيَتْ على الفتحِ مع (لا) فـ (لا) التي مَعَهَا هي (لا) التي لِنَفْيِ الجنسِ

(2)

. والمعنَى: أنهم نَفَوْا جنسَ العلمِ من أصلِه عن أنفسِهم، إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه.

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.

(2)

انظر: ضياء السالك (1/ 351).

ص: 38

والرسلُ (صلواتُ الله وسلامُه عليهم) - مع ما أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من الفضلِ والمكانةِ والعلمِ - دَلَّتْ آياتٌ كثيرةٌ أنهم لا يعلمونَ إلا ما عَلَّمَهُمْ خالقُهم جل وعلا.

هذا سيدُ الخلقِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه)، الذي فَضَّلَهُ اللَّهُ في الأرضِ والسماءِ على جميعِ الخلقِ - نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ لأنكم تعرفونَ في قصةِ الإسراءِ والمعراجِ الثابتةِ بالأحاديثِ الصحيحةِ التي لا كلامَ فيها، أنه لَمَّا ارْتَفَعَ (صلواتُ الله وسلامُه [عليه])

(1)

إلى السماءِ، واخترقَ السبعَ الطباقَ، بَلَغَ مَبْلَغًا لم يَبْلُغْهُ رسولٌ من الأنبياءِ، فظهرت مكانتُه على الجميعِ في العالمِ العلويِّ. وَلَمَّا نَزَلَ إلى الأرضِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه) صَلَّى بهم، فكان هو الإمامَ الأعظمَ، بإشارةٍ من جبريلَ (صلواتُ اللَّهِ على الجميعِ) - قد رُمِيَتْ أَحَبُّ زوجاتِه إليه بأعظمِ فريةٍ، رَمَوْهَا بالفاحشةِ مع صفوانَ بنِ المعطلِ، وهو (صلواتُ الله وسلامُه عليه) يَغْدُو الْمَلَكُ ويروحُ عليه بالوحيِ، فَلَمَّا رَمَوْهَا كان (صلواتُ الله وسلامُه عليه) لا يَدْرِي أَحَقٌّ ما قالوا عنها أَمْ لَا؟؟ حتى هَجَوْهَا، وكان يقولُ:«كَيْفَ تِيْكُمْ؟» قالت: فقدتُ من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العطفَ الذي كنتُ أَجِدُهُ منه إذا مَرِضْتُ. وكان يقولُ لها: «يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ» . لا يدري عن الحقيقة حتى أخبرَه المحيطُ عِلْمُهُ بكلِّ شيءٍ - رَبُّ السماواتِ والأرضِ - وقال له: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} [النور: آية 26] وَصَرَّحَ بأن المقالةَ التي قِيلَتْ عليهم إفكٌ وَزُورٌ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ

(1)

زيادة يقتضيها الكلام.

ص: 39

عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: آية 11].

وَلَمَّا قالت لها أُمُّهَا - لَمَّا نَزَلَتْ براءتُها في بيتِ أبي بكرٍ -: قُومِي إليه فَاحْمَدَيْهِ. قالت رضي الله عنها: وَاللَّهِ لَا أحمدُه اليومَ، ولا أحمدُ اليومَ إِلَاّ اللَّهَ؛ لأنه هو الذي بَرَّأَنِي، فهو (صلواتُ الله وسلامُه عليه) لَمْ يُبَرِّئْنِي

(1)

.

وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ - وهو هو - مع ما أعطاه اللَّهُ من المكانةِ {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: آية 124]، وَشَهِدَ له اللَّهُ الشهاداتِ العظيمةَ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: آية 37]، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: آية 124] وَقِيلَ للنبيِّ - وهو هو - (صلواتُ الله وسلامُه عليه): {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: آية 123] ذَبَحَ عِجْلَهُ، وَتَعِبَ هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ، ولم يَدْرِ أن ضيفَه ملائكةٌ حتى قدَّم العجلَ المُنْضَجَ إلى الملائكةِ، وَلَمَّا رآهم لا يَمُدُّونَ إليه أيديَهم نَكِرَهمْ وَخَافَ منهم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: آية 70]، وصرَّح لهم في سورةِ الْحِجْرِ بأنه خائفٌ منهم {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)} [الحجر: آية 52] أي: خائفونَ منكم، ولم يَدْرِ حقيقةَ الأمرِ حتى سألهم:{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58)}

(2)

[الحجر: الآيتان 57، 58] (

)

(3)

.

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

(2)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل.

(3)

سيأتي نحو هذا البسط عند تفسير الآية (38) من سورة الأعراف، والآية (30) من سورة التوبة.

ص: 40

وهذا نَرَاهُ مُشَاهَدًا اليومَ، كُلُّ كُفْرٍ وإلحادٍ، وكل خساسةٍ في الخُلُقِ ارتكبوها، دخلوا معهم كُلَّ جُحْرٍ، حتى إنه وُجِدَ واحدٌ إفرنجيٌّ نَبَتَتْ قرحةٌ تحتَ أنفِه، فلم يَقْدِرْ على حلقِ شعراتِ الشاربِ، صاروا يتركون من ذلك شَيْئًا، دخولاً في ذلك الجحرِ، وَاتِّبَاعًا لتلك القرحةِ، فحلقوا لِحَاهُمْ، وتركوا دينَهم، ودخلوا مع الإفرنجِ في كُلِّ جُحْرٍ دَخَلُوهُ!! وهذا من غرائبِ معجزاتِه

(1)

(صلواتُ الله وسلامُه عليه)، حيث أَقْسَمَ على هذا، وَتَحَقَّقَ بعدَ عشراتِ القرونِ، والغيوبُ التي أخبر بها كثيرةٌ جِدًّا، كثيرٌ منها شَاهَدَهُ الناسُ، والباقي منها سيشاهدونه. وهذا معنى قولِه (جل وعلا):{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [الأنعام: آية 101].

ثم إن الله (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ وعجائبَ صنعِه وكمالَ قدرتِه، وَبَيَّنَ لنا هذا في آياتٍ كثيرةٍ:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95]، وَبَيَّنَ (جل وعلا) أنه الذي أَنْشَأَنَا وَخَلَقَنَا:{وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: آية 98] وَبَيَّنَ أنه خلق لنا أرزاقَنا على ذلك الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ {وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: آية 99] وَبَيَّنَ أنه الواحدُ الذي لَا مثيلَ له ولا نظيرَ، المتنزهُ عن الأولادِ والصاحباتِ، وأنه خالقُ كُلِّ شيءٍ، وأنه العليمُ بِكُلِّ شيءٍ، أشار لنا وقال:{ذَلِكُمُ} الذي سمعتُم صفاتِه وغرائبَ فعلِه وعجائبَه هو {اللَّهُ} خالقُ هذا الكونِ الذي يأمركم وينهاكم على لسانِ نَبِيِّهِ:

(1)

سيأتي عند تفسير الآية (89) من سورة الأعراف.

ص: 41

{لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: آية 102]، لَا معبودَ يُعْبَدُ بالحقِّ إلا هو وحدَه، وكلُّ معبودٍ من دونه - كالجنِّ الذي عَبَدَهَا أولئك الكفرةُ - هو وَعَابِدُوهُ في النارِ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: آية 98].

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 102](جل وعلا) لأنه (جل وعلا) خالقُ كُلِّ شيءٍ، فإذا نظرَ الإنسانُ في أصنافِ المخلوقاتِ بَهَرَ عقلَه قدرةُ اللَّهِ (جل وعلا)، فإذا نظرتُم إلينا معاشرَ الآدميين تجدونَ خالقَ السماواتِ والأرضِ أَوْدَعَ في الواحدِ مِنَّا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ وَيُفَتِّتُ الكُبودَ.

مِنْ أظهرِ ذلك: أنه صَبَّنَا صَبَّةً واحدةً، فجعل الأنفَ هنا، والعينينَ هنا، والفمَ هنا، ولم يَتَّفِقْ مِنَّا اثْنَانِ، لا يمكنُ أن يتفقَ اثنانِ، حتى لا يُعْرَفَ [فرقٌ]

(1)

بينهما، ولو جاءت الآلافُ والملايينُ، مَضْرُوبًا في الآلافِ والملايين: لم يَضِقُ العلمُ أن يجعلَ لكلِّ واحدٍ صورةً وهيئةً مخالفةً لصورةِ الآخَرِ وهيئتِه، حتى إن الأصواتَ وآثارَ الأقدامِ وبصماتِ الأصابعِ في الأوراقِ، كُلُّ هذا لم يَشْتَبِهْ منه شيءٌ. وهذا من غرائبِ صنعِ هذا الخالقِ وعجائبِه جل وعلا.

وَأَبْدَعَ في كُلِّ واحدٍ منا، لو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ تَشْرِيحًا صحيحًا لَبَهَرَ العقولَ ما أودع اللَّهُ فينا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه.

إذا نظرتَ في العينين تَجِدْ في العينين من غرائبِ صنعِ اللَّهِ

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 42

ما يُبْهِرُ العقولَ، كيف جعل هذا النورَ الذي يَشِعُّ لهذا الِإنسانِ يجتلب عليه جميعَ مصالحِه، ومن ذلك - من الظاهرِ الواضحِ - أنه جَعَلَ للعينِ شحمةً لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ والريحُ، وجعل ماءَ العينِ مِلحًا لئلَاّ تُنْتِنَ الشحمةُ، لأن الملحَ يزيلُ النتنَ، وَصَبَغَ له بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وفتحَ له فَمًا، وجعل له عينًا عذبةً من الريقِ يأكلُ بها الطعامَ، لو جَفَّ رِيقُهُ لَمَا قَدَرَ أن يبتلعَ الزبدَ الذائبَ، ومن كمالِ قدرةِ اللَّهِ أن الريقَ إذا كان يأكلُ به يبُل به الطعامَ ويبتلعُه ويجم له الريق، وإذا كان غيرَ وقتِ الحاجةِ ينقطعُ عنه الجَمُّ؛ لئلا يُتْعِبَهُ التفلُ. فلو جَعَلَ له عَيْنَيْهِ في قدميه لَمَا رَأَى بهما شيئًا، ولو جعلَه عمودًا واحدًا كالخشبةِ من غيرِ مفاصلَ لَتَعِبَ، رَتَّبَ بعضَ مفاصلِه ببعضٍ لِيَنْثَنِيَ، وَرَتَّبَ فقراتِ الظهرِ بعضَها ببعضٍ، وفرَّق له أصابعَ يديه، لو جَعَلَ يدَه ملتصقةً كيدِ البعيرِ لَمْ يَحُلَّ شيئًا ولم يَعْقِدْ شيئًا، وَشَدَّ له رؤوسَ أصابعِه بالأظفارِ، وأودعَ فيه من الغرائبِ والعجائبِ شيئًا يُبْهِرُ العقولَ.

ونحن نلفتُ أنظارَ إخوانِنا دائمًا لِمَا لفتَ اللَّهُ أنظارَنا إليه، بِأَنَّ كُلَّ هذه العملياتِ - أيها الِإخوانُ - عَمِلَهَا ربُّنا فينا من غيرِ أن يشقَّ بطنَ أمهاتِنا، ولا أن يخيطَها، كُلُّ هذه العملياتِ الهائلةِ والأُمُّ بطنُها لم يُشَقَّ، ولم يَحْتَجْ إلى أن تُبنج، ولا أن تنومَ في صحيّة، يعملُه خالقُ الكونِ وهي لا تدري:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: آية 6].

وهذا نُنَبِّهُ الناسَ إليه دائمًا؛ لأَنَّ اللَّهَ يُعجِّبُ خلقَه منهم كيفَ ينصرفونَ عن هذا؟!! حيث قال في السورةِ الكريمةِ سورةِ الزمرِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6].

ص: 43

أنتم كُلاّ تعلمونَ أن الواحدَ منكم يدخلُ رَحِمَ أُمِّهِ ليس مُخَطَّطًا مفصلاً، ليس فيه رأسٌ ولا يدٌ ولا رجلٌ ولا عظمٌ، نطفةُ ماءٍ من مَنِيٍّ، ثم الله (جل وعلا) يخلقُ هذا الْمَنِيَّ دَمًا، ثم يخلقُ الدمَ علقةً، ثم يخلقُ الدمَ مضغةً، ثم المضغةَ عظامًا، إلى آخِرِ ما ذَكَرَ. ويخططُكم هذا التخطيطَ، ويفصلكم هذا التفصيلَ، ويفتحُ لكم العيونَ، والأفواهَ والآنافَ والأسماعَ، ويجعلُ في العينِ حاسةَ البصرِ، وفي اللسانِ حاسةَ الذوقِ، وفي [الأُذُنِ] حاسةَ [السمعِ]

(1)

إلى غيرِ ذلك. ويُرَتِّبُ - أيها الإخوانُ - هذه العظامَ والسُّلامياتِ هذا الترتيبَ الغريبَ العجيبَ {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: آية 28] الأَسْرُ: معناه شَدُّ الشيءِ بالشيءِ وإلصاقُه به؛ إِذْ لو كان الذي ألصقَ هذه العظامَ والسُّلاميات بعضَها ببعضٍ، بل ولو لم يَجْعَلْهُ قَوِيًّا مشدودًا لقالوا: سَقَطَتْ يدُ فلانٍ البارحةَ، وَسَقَطَتْ رِجْلُهُ، وطاحَ فَخِذُهُ؛ لأنه لم يكن مَشْدُودًا!! لا، شَدَّهُ خالقُ السماواتِ والأرضِ، وألصقَ العظامَ بعضَها ببعضٍ، والغضارفَ بالعظامِ واللحمِ، وشدَّ هذا شَدًّا مُحْكَمًا:{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)} [الإنسان: آية 28].

الشاهدُ أن الله نَبّهَنَا على فِعْلِهِ فينا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: آية 21]، وَبَيَّنَ لنا أنَّا ندخلُ بطونَ أمهاتِنا نُطَفَ ماءٍ؛ وَلِذَا قال:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] ينقلكم من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: الآيتان 13، 14] وهذا كُلُّهُ والواحدُ في ظلماتٍ ثلاثٍ:

(1)

في الأصل: «وفي السمع حاسة الأذن» وهو سَبْقُ لسانٍ.

ص: 44

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: آية 6] ظلمةِ البطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظلمةِ المشيمةِ، لم يَحْتَجْ خالقُ السماواتِ إلى أن يشقَّ البطنَ، ويشقَّ الرحمَ، ويزيلَ المشيمةَ التي على الولدِ، حتى يتمكنَ بصرُه، لا، بَصَرُهُ (جل وعلا) وعلمُه نافذٌ، يفعلُ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ولم تَمْنَعْهُ من ذلك الظلماتُ الثلاثُ، ثم قال:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُو} ثم قال - وهو محلُّ الشاهدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: آية 6].

{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} أين تُصْرَفُ عقولُكم، وتذهبُ عن فعلِ خالقِكم جل وعلا فيكم؟! ولذا قال (جل وعلا):{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] وقد بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، أشارَ لِخَلْقِهِ للِإنسانِ كما كُنَّا نقولُ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] وهذا الخلقُ بعدَ الخلقِ، والطَّوْرُ بعدَ الطَّوْرِ، المذكورُ في قولِه:{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: آية 14]، بَيَّنَهُ (جل وعلا) في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) قال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: الآيات 12 - 14] هذه أفعالُ اللَّهِ جل وعلا فِينَا الدالةُ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)

(1)

؛ وَلِذَا قال: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} يعني: أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذه

(1)

مضى نحو هذا البسط عند تفسير الآيتين (98،92) من سورة الأنعام، وسيأتي نحوه عند تفسير الآيتين (11، 45) من سورة الأعراف، والآية (38) من سورة التوبة.

ص: 45

الأفعالَ، وكانت قدرتُه بهذه المثابةِ من العظمةِ هو المعبودُ وحدَه جل وعلا.

{وهُوَ} - جل وعلا - {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: الآية 102] أصلُ الوكيلِ: هو الذي تُفَوَّضُ إليه الأمورُ وتُسْنَدُ؛ ليجلبَ المصالحَ فيها، ويدفعَ المضارَّ، وهو (جل وعلا) هو الوكيلُ بكلِّ شيءٍ، الذي كُلُّ شيءٍ بيدِه، تُفَوَّضُ أمورُ كُلِّ شيءٍ إليه، يفعلُ فيها ما يشاءُ (جل وعلا). هذا الذي هذه صفاتُه هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَدَ جل وعلا.

[13/أ] /قال تعالى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: آية 103].

استدلَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ الكريمةِ على أن اللَّهَ لَا يُرى بالأبصارِ. واستدلالُهم بهذه الآية على ذلك بَاطِلٌ

(1)

.

وَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن التحقيقَ في رؤيةِ اللَّهِ بعينِ الرأسِ أنها يُنْظَرُ إليها بِنَظَرَيْنِ:

أحدُهما: النظرُ إليها بالحكمِ العقليِّ.

والثاني: النظرُ إليها بالحكمِ الشرعيِّ.

أما رؤيةُ اللَّهِ بالنظرِ إلى حكمِ العقلِ: فَهِيَ جائزةٌ في الدنيا، وجائزةٌ في الآخرةِ.

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 16 - 18، 20 - 22)، الشريعة للآجري 251 فما بعدها. اللالكائي (3/ 454) فما بعدها، ابن كثير (2/ 161)، شرح العقيدة الطحاوية 212. وللدارقطني في الرؤية كتاب مفرد وهو مطبوع.

ص: 46

فالدليلُ على جوازِها عَقْلاً في دارِ الدنيا: أن نَبِيَّ اللَّهِ موسى - وهو هو - قال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: آية 143] فلو كانت رؤيةُ اللَّهِ مستحيلةً عَقْلاً في الدنيا لَمَا خَفِيَ ذلك على نَبِيِّهِ موسى؛ لأنه لا يجهلُ المستحيلَ في حَقِّ اللَّهِ.

أما بالنظرِ إلى الحكمِ الشرعيِّ: فهي جائزةٌ وواقعةٌ في الآخرةِ قَطْعًا، ممتنعةٌ في الدنيا. وهذا هو التحقيقُ، فَعُلِمَ من هذا التحقيقِ: أن رؤيةَ اللَّهِ بالأبصارِ وعيونِ الرؤوسِ جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخرةِ، جائزةٌ وواقعةٌ شَرْعًا في الآخرةِ، ممتنعةٌ شَرْعًا في الدنيا

(1)

. فَاللَّهُ جل وعلا في دارِ الدنيا لَا يُرَى بالأبصارِ فِعْلاً، وإن كان ذلك يجوزُ عَقْلاً، ولكنه في الآخرةِ يراه المؤمنونَ (جل وعلا)، هذا هو التحقيقُ.

ومذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ الذي دَلَّتْ عليه آياتُ القرآنِ والأحاديثُ الصحيحةُ المتواترةُ أن رؤيةَ اللَّهِ واقعةٌ شَرْعًا، يراه المؤمنونَ يومَ القيامةِ بأبصارِهم، كَمَا جَاءَ عن حوالي عشرين صَحَابِيًّا في أحاديثَ متواترةٍ

(2)

: أن المؤمنين يرونَ رَبَّهُمْ يومَ القيامةِ. وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك في آياتٍ من كتابِه (3)، كقولِه:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23]، وكقولِه (جل وعلا) في الكفارِ:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15]

(1)

انظر: مختصر الصواعق، ص 179.

(2)

انظر: كتاب الرؤية للدارقطني، الشريعة للآجري 253 فما بعدها، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي (3/ 470) فما بعدها، شرح الطحاوية ص215، 217، وقد ساق ابن القيم رحمه الله أحاديث الرؤية عن سبعة وعشرين صحابيًّا. انظر: حادي الأرواح ص 205 فما بعدها.

ص: 47

يُفْهَمُ من مفهومِ مخالفتِه: أن المؤمنين غيرُ مَحْجُوبِينَ عن رَبِّهِمْ، بل يَرَوْنَهُ (4)، وهو كذلك. وثبتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فَسَّرَ قولَه:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» (5).

هذا هو التحقيقُ في رؤيةِ اللَّهِ، أنها جائزةٌ في حكمِ العقلِ في الدنيا والآخرةِ، ممتنعةٌ في حكمِ الشرعِ في دارِ الدنيا، واقعةٌ في الآخرةِ.

ولطالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: إذا كانت جائزةً عَقْلاً في الدنيا فَمَا وَجْهُ مَنْعِهَا وعدمِ إمكانِها شَرْعًا؟

أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن الناسَ في دارِ الدنيا رُكِّبُوا تَرْكِيبًا ضَعِيفًا مُعَرَّضًا للتغيرِ والفناءِ والزوالِ، وهذا التركيبُ الضعيفُ المُعَرَّضُ للفناءِ والتغيرِ والزوالِ لا يَقْدِرُ ولا يستطيعُ ولا يَقْوَى على رؤيةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والدليلُ على ذلك: أنه لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ صارَ الجبلُ دَكًّا لِعِظَمِ رُؤْيَةِ اللَّهِ (جل وعلا)، كما يأتي في الأعرافِ في قولِه:{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: آية 143] فما يَدُكُّ الجبالَ

ص: 48

لا يقدرُ عليه بَنُو آدمَ، ولا يَقْوَوْنَ عليه

(1)

. أما في الآخرةِ فإن اللَّهَ يُرَكِّبُهُمْ تَرْكِيبًا جَدِيدًا قَوِيًّا ليس قَابِلاً للتغيرِ ولا للفناءِ، فَيَقْوَوْنَ بتلك القوةِ على رؤيةِ اللَّهِ جل وعلا.

فَتَبَيَّنَ بهذا أنها جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا، إلا أن البشرَ يعجزون ولا يَقْوَوْنَ عليها، وأنها واقعةٌ شَرْعًا. لأنهم في ذلك الوقتِ يُطِيقُونَهَا لتركيبِهم الجديدِ الدائمِ.

هذا مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا في هذه الدروسِ

(2)

: أن الواجبَ على كُلِّ المسلمين في آياتِ الصفاتِ: أن يعتقدوا ثلاثةَ أُسُسٍ كُلُّهَا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، فَمَنِ اعتقدَ الأسسَ الثلاثةَ كُلَّهَا لَقِيَ رَبَّهُ سَالِمًا على محجةٍ بيضاءَ، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها وَقَعَ في مهواةٍ قد لَا يتخلصُ منها، هذه الأسسُ الثلاثُ:

أولُها: - وهو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ، وهو الحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ الصحيحةِ، والصلةِ بِاللَّهِ على أساسٍ صحيحٍ وَثِيقٍ. هذا الأصلُ العظيمُ الذي هو أساسُ التوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً وثيقةً -: هو اعتقادُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ غايةَ التنزيهِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا من صفاتِ خَلْقِهِ أو ذَوَاتِهِمْ أو أفعالِهم. فهو (جل وعلا) العظيمُ الأَعْلَى الذي لا يُشْبِهُ شيئًا من خَلْقِهِ، ومَنِ الْخَلْقُ حتى يُشْبِهُوا مَنْ خَلَقَهُمْ؟ أليسوا أَثَرًا من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ كيفَ تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟ لا.

(1)

انظر: شرح الطحاوية ص 220، مختصر الصواعق 180.

(2)

مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع أخرى متعددة.

ص: 49

وهذا الأساسُ العظيمُ، الذي هو أساسُ التوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً، الذي هو تَنْزِيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، بَيَّنَهُ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه، كقولِه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11]، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: آية 65] هذا أساسُ التوحيدِ الأكبرُ، فإذا نظَّفَ الِإنسانُ ضميرَه من نجاسةِ وتقذيرِ التشبيهِ كان سَهْلاً عليه أن يؤمنَ بما وَصَفَ اللَّهُ به نفسَه، وما وَصَفَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ؛ لأن كُلَّ البلايا مَنْشَؤُهَا من أقذارِ القلوبِ بنجاساتِ التشبيهِ، فَمَنْ طَهَّرَ قلبَه عن أقذارِ التشبيهِ ونجاساتِها، وَعَلِمَ أن صفاتِ اللَّهِ بالغةٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَها وبينَ صفاتِ المخلوقينَ: سَهُلَ عليه أن يؤمنَ بالصفاتِ؛ لأنه يعتقدُ في معانِيها التنزيهَ الكاملَ عن مشابهةِ الخلقِ.

وهذانِ الأصلانِ اللذانِ بَيَّنَّاهُمَا الآنَ - اللذان هما: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، والإيمانُ بِمَا وصفَ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وعدم مشابهةِ الخلقِ - لم نَقُلْهُ من تلقاءِ أَنْفُسِنَا، وإنما قُلْنَاهُ في ضوءِ تعليمِ خالقِ السماواتِ والأرضِ في ضوءِ الْمُحْكَمِ المنزلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَتْبَعَ ذلك بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11] فَإِتْيَانُهُ بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} بعدَ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه تعليمٌ أعظمُ، وَمَغْزًى أكبرُ، وسِرٌّ سماويٌّ لا يَخْفَى، لا يَبْقَى معه في الحقِّ لَبْسٌ؛ لأنه قال:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} مع أن السمعَ والبصرَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى -

ص: 50

من حيثُ هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ - ولله المثل الأعلى - فكأَنَّ اللَّهَ يقولُ: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي يا مسكينُ فتنفي عَنِّي صفةَ سَمْعِي وبصري، مُدَّعِيًا أن المخلوقاتِ تسمعُ وتبصرُ. وأنك إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وبصري كُنْتَ مُشَبِّهًا لي بالمخلوقاتِ التي تسمعُ وتبصرُ. لا، وكَلَاّ!! أَثْبِتْ لِي سمعي وبصري، مُرَاعِيًا في ذلك الإثباتِ: تَنْزِيهِي، وقولِي قبلَه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فجميعُ الصفاتِ من هذا البابِ الواحدِ. فأولُ الآيةِ - أعني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يدلُّ على التنزيهِ الكاملِ عن مشابهةِ المخلوقين من غيرِ تعطيلٍ، وقولُه:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} يَدُلُّ على الإيمانِ بالصفاتِ إيمانًا حَقًّا على أساسِ التنزيهِ، من غيرِ تشبيهٍ ولا تَمْثِيلٍ.

فالأساسُ الأولُ من هذه الأُسُسِ الثلاثةِ: هي تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين في صفاتِهم وذواتِهم وأفعالِهم.

الأساسُ الثاني: هو أن لَا تُكَذِّبَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسِه؛ لأنه لا يَصِفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولَا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بالله من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي قال في حَقِّهِ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4].

فَعَلَيْنَا أَوَّلاً أن نُطَهِّرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأن نُنَزِّهَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن أن تُشْبِهَ صفتُه صفةَ خلقِه، ثم إذا طَهَّرْنَا القلوبَ من أقذارِ التشبيهِ، ونَزَّهْنَا خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، سَهُلَ علينا الإيمانُ بصفاتِه - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ وعدمِ المماثلةِ، على غِرَارِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11].

الأساسُ الثالثُ من هذه الأسسِ: هو قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفياتِ؛ لأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ كيفيةَ الشيءِ فقد أَحَاطَ به، وَاللَّهُ يقولُ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110].

فهذه الأُسُسُ الثلاثةُ التي هي: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خلقِه، والإيمانُ بصفاتِه الثابتةِ في كتابِه وسنةِ رسولِه، إِيمَانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وقَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ. هذا معتقدُ السلفِ الذي كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤُه الراشدونَ. لَا يُفَسِّرُونَ صفاتِ اللَّهِ إلا بدليلٍ جليلٍ لائقٍ مُنَزَّهٍ عن الأقذارِ ومشابهةِ الخلقِ، ولَا يَنْفُونَ عن الله ما أَثْبَتَهُ لنفسِه، بل يثبتونَه له على أساسِ التنزيهِ، على غِرَارِ:

ص: 51

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11].

وأنا أُؤَكِّدُ لكم: أننا في هذه الدارِ - دارِ الدنيا - وسنرتحلُ جميعًا منها إلى القبورِ، ثم ننتقلُ من القبورِ إلى عَرَصَاتِ القيامةِ، إلى محلِّ المناقشةِ والسؤالِ عن الحقيرِ والجليلِ، فإذا جِئْتُمُ اللَّهَ وأنتم معتقدونَ هذه الأسسَ الثلاثةَ، أُؤَكِّدُ لكم أنه لا تأتيكم بَلِيَّةٌ ولَا وَيْلَةٌ ولا مشكلةٌ ولا لومٌ ولا توبيخٌ من واحدٍ من هذه الأسسِ التي بَيَّنْتُ لكم على ضوءِ القرآنِ العظيمِ. فلا يقولُ اللَّهُ لواحدٍ منكم: لِمَ تُنَزِّهْنِي عن مشابهةِ المخلوقاتِ؟ لا، وكَلَاّ. هذا التنزيهُ طريقُ سلامةٍ مُحَقَّقَةٍ. ولا يقولُ اللَّهُ لأحدٍ منكم: لِمَ أثْبتَّ لِي ما أثْبَتُّه لِنَفْسِي، أو أثبَتَهُ لِي رَسُولِي؟ ولِمَ تُصَدِّقْنِي فيما أثنيتُ به على نفسي؟ لا، وكَلَاّ. فتصديقُ اللَّهِ والإيمانُ بما قال على أساسِ التنزيهِ طريقُ سلامةٍ محققةٌ لا شَكَّ فيها. ولا يقولُ اللَّهُ لواحدٍ منكم: لِمَ لَا تَدَّعِي

ص: 52

أن عقلَك الضعيفَ المسكينَ محيطٌ بِكُلِّ صِفَاتِي وكيفياتِها؟ لا، وكَلَاّ.

فهذه الأسسُ الثلاثةُ في ضوءِ القرآنِ العظيمِ طريقُ سلامةٍ محققةٌ؛ ولذا ما ثَبَتَ من رؤيةِ اللَّهِ بالأبصارِ نُمِرُّهُ كما جاءَ، ونعتقدُ أنه حَقٌّ على الوجهِ اللائقِ بكمالِه وجلالِه، المنزهِ عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ من جميعِ النَّوَاحِي.

إذا عرفتُم هذا: فَاعْلَمْ أن العلماءَ أجابوا عن استدلالِ المعتزلةِ بهذه الآيةِ الكريمةِ على مذهبِهم الباطلِ بأجوبةٍ متعددةٍ:

منها: أن معنَى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] كما جَاءَ عن ابنِ عباسٍ وجماعةٍ من السلفِ: أن الإدراكَ المنفيَّ هنا هو الإحاطةُ

(1)

. والمعنى: لا تُحِيطُ بِهِ الأبصارُ.

والإدراكُ قد يُطْلَقُ على الإحاطةِ كثيرًا

(2)

، كقولِه:{أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: آية 90]، أي: أحاطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه. {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} [الشعراء: آية61]. أي: مُحَاطٌ بِنَا.

وعلى هذا فمعنَى: {لَاّ تُدْرِكُهُ} أي: لَا تُحِيطُ به الأبصارُ، وإن كانت تَرَاهُ في الجملةِ، فالإدراكُ المنفيُّ هو الإحاطةُ. والإحاطةُ لَا يستلزمُ نَفْيُهَا نفيَ مُطْلَقِ الرؤيةِ الثابتِ في الأحاديثِ المتواترةِ والآياتِ القرآنيةِ

(3)

.

الوجهُ الثاني: أن معنَى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 13).

(2)

السابق: (12/ 14).

(3)

انظر: أضواء البيان (2/ 206).

ص: 53

آية 103] أي: لَا تُدْرِكُهُ في دارِ الدنيا

(1)

، بدليلِ قولِه: في الآخرةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23]. فلما قَيَّدَ نظرَها إلى رَبِّهَا بقولِه: {يَوْمَئِذٍ} أي: يومَ القيامةِ، عَرَفْنَا أن ذلك النظرَ مقيدٌ بالقيامةِ، وأَنَّ:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أي: في دارِ الدنيا.

وقال بعضُ العلماءِ: لو سَلَّمْنَا ما يقولُه المعتزلةُ من أن الإدراكَ: الرؤيةُ، وأن الآيةَ عامةٌ:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فعمومُها تُخَصِّصُهُ آياتٌ أُخَرُ بيومِ القيامةِ

(2)

: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] وقولُه: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] أي: بخلافِ المؤمنين فليسوا بمحجوبينَ عن رَبِّهِمْ.

وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ أن المفهومَ يُخَصِّصُ العَامَّ

(3)

، سواءً كان مفهومَ موافقةٍ، أو مفهومَ مخالفةٍ. فمثالُ تخصيصِ العامِّ بمفهومِ الموافقةِ

(4)

:

قولُه صلى الله عليه وسلم «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»

(5)

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 18 - 19).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 19).

(3)

انظر: الفقيه والمتفقه (1/ 112)، روضة الناظر (2/ 167)، شرح مختصر الروضة (2/ 568)، شرح الكوكب المنير (3/ 366 - 368)، نهاية السول (2/ 174)، الفتاوى (31/ 105 - 110) أضواء البيان (5/ 560).

(4)

انظر: شرح الكوكب (3/ 366).

(5)

الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد (4/ 222، 388، 389)، وأبو داود في الأقضية، باب في الدَّين هل يُحبس به؟ حديث رقم:(3611)، (10/ 56)، والنسائي، كتاب البيوع، باب مطل الغني، حديث رقم:(4689، 4690)، (7/ 316) وابن ماجه، كتاب الصدقات؛ باب الحبس في الدّين، حديث رقم:(2427)، (2/ 811) والحاكم (4/ 102) وصححه ووافقه الذهبي. وانظر الإرواء رقم:(1434)، وصحيح ابن ماجه رقم:(1970)، صحيح النسائي رقم:(4372، 4373) صحيح أبي داود رقم: (3086)، المشكاة رقم:(2919). وهو من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه.

ص: 54

ومعنَى قولِه: «لَيُّ الْوَاجِدِ» يعني: ظلمُ الْغَنِيِّ يُحِلُّ عقوبتَه. يعني: بالحبسِ. وعِرْضَهُ: بأن يقولَ: ظَلَمَنِي، وَمَطَلَنِي. وظاهرُ هذا العمومِ يشملُ الوالدَ إذا مَطَلَ دَيْنَ وَلَدِهِ؛ لأَنَّ لَفْظَةَ «الواجدِ» يصدقُ بكل غريمٍ مُوسِرٍ، فيدخلُ فيه الأبُ، إلا أن مفهومَ الموافقةِ في قولِه:{فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: آية 23] يُفْهَمُ منه: أن حَبْسَهُ في دَيْنِهِ من بابِ أَوْلَى لَا يجوزُ. فَخُصِّصَ الحديثُ بمفهومِ الموافقةِ في الآيةِ.

ومثالُه في مفهومِ المخالفةِ: قولُه صلى الله عليه وسلم: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ»

(1)

.

ظاهرُ عمومِه: سواءً كانت سائمةً أو معلوفةً، فَلَمَّا قال في

(1)

هذه الجملة - بهذا اللفظ - وردت في عدة أحاديث وآثار، فمن ذلك:

1 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. عند ابن ماجه في الزكاة، باب صدقة الغنم. حديث رقم:(1805، 1807)، (1/ 578 - 579).

2 -

عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا. عند الطبراني في الأوسط (7/ 304) وقال: (لم يرو هذا الحديث عن داود بن أبي هند إلا سلام أبو المنذر، تفرد به حاتم بن عبيد الله. وانظر: مجمع الزوائد (3/ 73).

3 -

ما رواه قزعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (وشك قزعة في رفعه) عند أحمد (3/ 35) وقال في المجمع (3/ 73): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» 1. هـ.

4 -

الحسن البصري رحمه الله مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (3/ 132).

5 -

إبراهيم النخعي رحمه الله مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (3/ 132).

كما ورد في هذا المعنى عدة أحاديث وآثار بألفاظ متفاوتة عن أنس وابن عمر رضي الله عنهم وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات الذي يرويه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وكتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقات، وكذا كتاب عمر رضي الله عنه، وورد عن علي رضي الله عنه موقوفًا وغير ذلك وحديث أنس في الصحيح.

ص: 55

الحديثِ الآخَرِ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ»

(1)

خُصِّصَ عمومُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» بمفهومِ المخالفةِ في قولِه: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» . أي: فمفهومُه: أن غيرَ السائمةِ لا زكاةَ فيها. فيُخَصَّصُ بهذا المفهومِ عمومُ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَلِذَا يُخَصَّصُ عمومُ: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] بمفهومِ: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: آية 15] أي: بخلافِ المؤمنين فليسوا مَحْجُوبِينَ عَنْ رَبِّهِمْ. وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك في قولِه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: الآيتان 22، 23] وقولُه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: آية 26] ولَا شَكَّ أن القرآنَ تُخَصِّصُهُ السُّنَّةُ، وأن السُّنَّةَ تخصصُ القرآنَ. فلو قُلْنَا: إن عمومَ: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} عمومٌ عَامٌّ، بمعنَى: لا تَرَاهُ الأبصارُ. فإنه تُخَصِّصُهُ الأحاديثُ المتواترةُ عن النبيِّ أن المؤمنين يَرَوْنَهُ يومَ القيامةِ بأبصارِهم، وَدَلَّتْ عليه الآيةُ المذكورةُ كما هو مَعْرُوفٌ.

وتخصيصُ الكتابِ بالكتابِ والسنةِ مَعْرُوفٌ

(2)

.

فمثالُ تخصيصِ القرآنِ بالقرآنِ: تخصيصُ قولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ

(1)

قطعة من حديث أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم. حديث:(1454)(3/ 317).

(2)

انظر: الفقيه والمتفقه (1/ 112)، المستصفى (2/ 102) فما بعدها، البحر المحيط للزركشي (3/ 361) فما بعدها، شرح الكوكب المنير (3/ 359) فما بعدها، الروضة (2/ 161)، شرح مختصر الروضة (2/ 558)، نهاية السول (2/ 163).

ص: 56

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228]، في قولِه جل وعلا:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: آية 4]، فالمطلقةُ الحاملُ تُخَصَّصُ من القروءِ بوضعِ الحملِ، وكما خَصَّصَ منه المطلقةَ قبل الدخولِ بقولِه:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: آية 49] ومعلومٌ أَنَّ تخصيصَ الكتابِ بالسنةِ كثيرةٌ؛ وَلِذَا خُصِّصَ قولُه تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: آية 24] بقولِه: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا

» الحديثَ

(1)

. وخُصِّصَ قولُه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: آية 11] بأولادِ الأنبياءِ فلَا يَرِثُونَ، والولدِ الكافرِ فَلَا يَرِثُ، والولدِ الرقيقِ فلَا يَرِثُ. كُلُّ ذلك بالسُّنَّةِ، وهذا معروفٌ

(2)

.

فمعنَى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: آية 103] أو: لا تُحِيطُ بِهِ الأبصارُ، أو: لا تدركُه الأبصارُ في الدنيا، ولكنها تَرَاهُ فِي الآخرةِ.

واختارَ غيرُ واحدٍ: أن الإدراكَ هنا المنفيَّ معناه: الإحاطةُ. أي: لَا تُحِيطُ به الأبصارُ، ولا يُنَافِي أنها تَرَاهُ، ولكن لا تُحِيطُ به؛ لأنه لا يُحِيطُ به شيءٌ، وهو محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، وفي الحديثِ: «لَا

(1)

أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5109، 5110)، (9/ 160)، ومسلم، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. حديث: (1408)، (2/ 1028) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد أخرجه البخاري أيضًا في النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5108)، (9/ 160) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

انظر هذه الموانع وأدلتها في العذب الفائض (1/ 23 - 41).

ص: 57

أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»

(1)

فكما أن المؤمنين يعلمونَ صفاتِ رَبِّهِمْ - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - ولَا يُحِيطُونَ بكيفيةِ كُنْهِهَا فكذلكَ يرونَه يومَ القيامةِ بعيونِهم ولا تُحِيطُ به أبصارُهم.

والحاصلُ هو ما قَدَّمْنَاهُ: أن التحقيقَ في رؤيةِ اللَّهِ بعيونِ الرؤوسِ بالأبصارِ أنها جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخرةِ، ممتنعةٌ شَرْعًا في الدنيا، جائزةٌ [نَقْلاً وَعَقْلاً]

(2)

وواقعةٌ في الآخرةِ بالأحاديثِ المتواترةِ والآياتِ القرآنيةِ كَمَا بَيَّنَّا.

وقولُه: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} الأبصارُ: جمعُ بَصَرٍ، ولعلماءِ اللغةِ حدودٌ متقاربةٌ في معنَى البصرِ

(3)

:

قال بعضُهم: البصرُ: العينُ، إلا أنه مُذَكَّرٌ.

وقال بعضُهم: البصرُ: حاسةُ الرؤيةِ.

وقال بعضُهم: البصرُ: حِسُّ العينِ. أي: إحساسُها الذي تُدْرِكُ به المرئياتِ.

وقال بعضُهم: البصرُ: هو الجوهرُ اللطيفُ الذي رَكَّبَهُ اللَّهُ في حاسةِ الرؤيةِ تُرَى به المُبْصَراتُ. معناه: أن هذا البصرَ الذي في العينِ - المعنَى القائمَ فيها، الذي تُدْرِكُ به الْمُبْصَرَاتِ - لا يحيطُ بخالقِ السماواتِ والأرضِ وإن كانوا يرونَه، كما جاءَ في الآياتِ القرآنيةِ.

(1)

قطعة من حديث أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث (486)، (1/ 352).

(2)

في الأصل: «جائزة وواقعة عقلا في الآخرة» ، وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام.

(3)

انظر: المفردات (مادة: بصر) ص 127، المصباح المنير (مادة: بصر) ص 20، الكليات ص 247.

ص: 58

{وهُوَ} جل وعلا {يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: آية 103]، أي: يُحِيطُ بها عِلْمًا وَبَصَرًا.

وهذه الآيةُ تدلُّ على أن الخلقَ لَا يُحِيطُونَ بكيفيةِ البصرِ، ولا يعلمونَ كيفيةَ هذا النورِ، وحقيقةَ هذا النورِ الذي جَعَلَهُ اللَّهُ في العينِ تُبْصِرُ به المرئياتِ. لَا يُبْصِرُ الِإنسانُ بيدِه ولَا بأنفِه ولَا بِجَبْهَتِهِ ولَا بِرِجْلِهِ، وإنما يُبْصِرُ بخصوصِ عَيْنِهِ. فهذا المعنَى الذي أَوْدَعَهُ اللَّهُ في العينِ لَا تحيطُ الناسُ بكُنْهِ كيفيتِه ولَا حقيقتِه، واللَّهُ (جل وعلا) يُدْرِكُهُ، أي: يحيطُ به ويراه ويعلمُ حقيقتَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} .

{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} أصلُ (اللطيفِ): (فَعِيل) من اللُّطْفِ. واللُّطْفُ أصلُه في لغةِ العربِ: هو إيصالُ النفعِ والإكرامِ والبِرِّ بالطرقِ الخفيةِ

(1)

. فَكُلُّ ما يُوصِلُ إليكَ النفعَ والْبِرَّ والإحسانَ فإنه لطيفٌ بِكَ. والعربُ تقولُ: صَدِيقٌ مُلاطِفٌ. إذا كان يلاطفُك بالبرِّ والإحسانِ والإكرامِ.

وَسُئِلَ بعضُ علماءِ العربيةِ عن: (صديقِك المُلاطِفِ) ما معنَى كونِه مُلَاطِفًا لَكَ؟

أَجَابَ: بأن الصديقَ الْمُلَاطِفَ ينطبقُ عليه قولُ الراجزِ

(2)

:

إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ يَسْعَى مَعَكْ

وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ

(1)

انظر: المفردات (مادة: لطف) ص740، الكليات ص 797.

(2)

هذا الرجز في المستطرف للأبشيهي (1/ 136)، ويُنسب لعبد الملك بن مروان، ونسبه ابن خميس في الشوارد (2/ 76) إلى القرشي، وهو في جمهرة الأمثال للعسكري (1/ 58) بلا نسبة.

ص: 59

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ

شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ

فعلى كُلِّ حالٍ اللطفُ: إيصالُ البرِّ والإكرامِ والإحسانِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على إيصالِه بالطرقِ الخفيةِ التي لا يَعْلَمُهَا كُلُّ الناسِ.

وَاللَّهُ (جل وعلا) لطيفٌ بخلقِه، مُحْسِنٌ إليهم، يدركُ حقائقَهم، ولا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ، لطيفٌ إليهم، مُحْسِنٌ بَرٌّ بهم، يُوصِلُ لهم طرقَ الإكرامِ والبرِّ والإحسانِ من حيثُ لا يشعرونَ. وقولُه:{الْخَبِيرُ (1)} (فَعِيل) من الخُبرِ. و (الخبيرُ) في لغةِ العربِ لا يكادُ يُطْلَقُ إلا على العالِمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، فلا يُطْلَقُ (الخبير) على العالِم بالظاهرِ غَالِبًا، وإنما يُطْلَقُ (الخبير) على مَنْ عَلِمَ شَيْئًا من شأنِه أن يَخْفَى، ومنه قولُ العربِ:«عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ»

(1)

{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: آية 14]. فلو قُلْتَ مثلاً: «أَنَا خبيرٌ بهذا الأمرِ» . وهو أَمْرٌ معنويٌّ يَخْفَى، كان كَلَامًا عَرَبِيًّا. ولو قلتَ:«أنا خبيرٌ بأن الواحدَ نصفُ الاثنينِ» لم يكن هذا من لغةِ العربِ؛ لأن كونَ الواحدِ نصفَ الاثنين ليسَ من شأنِه أن يَخْفَى حتى يُعبَّرَ عنه بلفظِ (الخبيرِ). هذا هو معنَى قولِه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} . وكان بعضُ المتأخرينَ من العلماءِ يقولُ

(2)

: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} في استخراجِ الأشياءِ لقدرتِه عليها {الْخَبِيرُ (103)} بمكانِها، لا يَخْفَى عليه شيءٌ. والأولُ هو التفسيرُ المعروفُ، وهو المعروفُ في كلامِ العربِ. وهذا معنَى قولِه:{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} .

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا

(1)

انظر: الأمثال لأبي عبيد 206.

(2)

وهو قول أبي العالية. انظر ابن جرير (12/ 23).

ص: 60

عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: آية 104]. {قَدْ} : هُنَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و {جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} إنما ذَكَّرَ الفاعلَ ولم يَقُلْ: «جاءتكم بصائرُ» ؛ لأن الجمعَ المُكَسَّرَ يَجْرِي مَجْرَى الواحدةِ المؤنثةِ المجازيةِ التأنيثِ

(1)

، فيجوزُ التجريدُ من التاءِ. وَحَسَّنَهُ هنا الفصلُ بالمفعولِ - أعني:{جَاءَكُمْ} - فإن الفصلَ يُبِيحُ وَيَجُوزُ به تركُ التاءِ في المؤنثةِ الحقيقيةِ، أحرى غيرُها

(2)

.

وقولُه: {بَصَائِرُ} البصائرُ: جمعُ البصيرةِ (فَعِيْلَة) مجموعةٌ على (فَعَائِل) على القياسِ. والبصيرةُ أشهرُ معانِيها في لغةِ العربِ أنها تُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ يرجعُ إليهما غالبُ استعمالِ البصيرةِ في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ

(3)

:

أحدُهما: أن البصيرةَ هي الحُجَّةُ والدليلُ القاطعُ. ومعنَى (البصائرِ): الْحُجَجُ والأدلةُ القاطعةُ، وإنما قيل للدليلِ القاطعِ والحجةِ والبرهانِ:(بصيرةٌ) لأنه يُنَوِّرُ البصيرةَ التي هي نورُ العقلِ، يُنَوِّرُهَا حتى ترى الحقَّ حقًّا، والباطلَ باطلاً، والنافعَ نافعًا، والضارَّ ضارًّا، والحَسَنَ حَسَنًا، والقبيحَ قَبِيحًا. وعلى هذا فمعنَى:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} أي: قد جَاءَتْكُمْ حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ في هذا القرآنِ العظيمِ، بَيَّنَ اللَّهُ لكم بها توحيدَه، وأدلةَ براهينِه القاطعةَ، كقولِه:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: آية 95] إلى آخِرِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (34) من سورة الأنعام. وانظر: الدر المصون (5/ 91).

(2)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة. وانظر: الدر المصون (5/ 91).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 24)، البحر المحيط (4/ 196)، الدر المصون (5/ 91)، بصائر ذوي التمييز (2/ 223).

ص: 61

ما تُقَدِّمُ من آياتِ البراهينِ، والحججِ القاطعةِ في هذه السورةِ الكريمةِ.

ومن إطلاقِ البصيرةِ على الدليلِ القاطعِ: قولُه جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: آية 108]، أي: على عِلْمٍ ودليلٍ واضحٍ وبرهانٍ قاطعٍ لَا يَتْرُكُ فِي الحقِّ لَبْسًا. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة: الآيتان 14، 15] معناه: أن الإنسانَ حجةٌ على نفسِه. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} قولُه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ

(1)

:

أحدُهما: أنه لو اعْتَذَرَ كُلَّ الأعذارِ، كما قالوا:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه حجةٌ عليه؛ لأن جِلْدَهُ وجوارحَه تَنْطِقُ بما فَعَلَ، كما يأتي في قولِه:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: آية 22] وكقولِه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: آية65] فكلامُ أيدِيهم وشهادةُ أَرْجُلِهِمْ هو كونُ الإنسانِ بصيرةً وحجةً على نفسِه، حيث يشهدُ عليه جِلْدُه وأعضاؤُه {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: آية 21] فعلى هذا: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} لو أتى بالأعذارِ الكاذبةِ كقولِهم: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: آية 22]{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: آية 28]{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه منها حجةٌ قاطعةٌ

(1)

انظر: ابن جرير (29/ 184 - 186)، ابن كثير (4/ 449)، اللسان (مادة: بصر) (1/ 219 - 220).

ص: 62

عليه، وهي شهادةُ أعضائِه وجلدِه على أنه فَعَلَ كذا يومَ كذا، في وقتِ كذا، في مكانِ كذا.

الوجهُ الثاني: أن (المِعْذَار) يُطْلَقُ في لغةِ بعضِ العربِ من اليمانيين وغيرِهم على (السِّترِ)، فيقولونَ:«أَرْخَى مِعْذَارَهُ» أي: سِتْرَهُ. والمعنَى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} تقومُ حجةٌ منه بما فَعَلَ على نفسِه بشهادةِ جوارحِه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} أي: ولو أَرْخَى سُتُورَهُ وقتَ الذنبِ بحيثُ لَا يطلعُ عليه أحدٌ، فجوارحُه تُخْبِرُ بما فَعَلَ. هذا هو معنَى البصيرةِ، ومعانيها راجعةٌ إلى هذا.

والظاهرُ أن تسميةَ العربِ الدمَ الذي يخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - فقطعةُ الدمِ التي تخرجُ من البكرِ عندَ افتضاضِها - تسميها العربُ: (بصيرةً) لأنها حجةٌ على أن الزوجَ وَجَدَهَا بِكْرًا غيرَ ثَيِّبٍ (1). ومن هنا قيل لدمِ القتيلِ الذي يكونُ عندَ أولادِه - يأخذونَ دَمَهُ - تقولُ العربُ لِدَمِهِ: (بصيرةٌ)؛ لأنه حجَّةٌ على القاتلِ بأنه قَتَلَهُ. وهو معنًى معروفٌ، (2) ومنه قولُ الأشعرِ الجعفيِّ (3):

رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ

وبَصِيرَتِي يَعْدو بِهَا عَتَدٌ وَأَى

فمعنى قولِه: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ} أي: قد جاءتكم في هذه السورةِ الكريمةِ حُجَجٌ وبراهينُ قاطعاتٌ على كمالِ قدرتِه (جل وعلا)

ص: 63

وآياتهِ الباهرةِ الدالةِ على أنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وَحْدَهُ.

{فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: بعينِ قَلْبِهِ؛ لأَنَّ الإِبْصَارَ إنما هو بالبصيرةِ، وهو المعنَى الثاني للبصيرةِ، وهو الاستبصارُ والعلمُ بالقلبِ بحقائقِ الأشياءِ {فَمَنْ أَبْصَرَ} يعني: ببصيرةِ قَلْبِهِ، لأَنَّ الإبصارَ النافعَ هو الإبصارُ ببصيرةِ القلبِ كما يأتي في قولِه:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: آية 46].

وَمَنْ أَرَادَ أن يقرب عنده معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ في وسطِ الشارعِ، أحدُهما صحيحُ العينين، تَامُّ البصرِ جِدًّا، إلا أنه مفقودُ العقلِ بَتَاتًا. والثاني أَعْمَى، مكفوفٌ لَا يُبْصِرُ شيئًا، إلا أنه كاملُ العقلِ تَامُّهُ. فتجدُ صحيحَ العينين قويُّ النظرِ حديدُه، الذي يَفْقِدُ العقلَ يضربُ رأسَه في الجدارِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ في النارِ، ويسقطُ على الْحَيَّةِ، فهو لا يَرَى شيئًا، وبصرُه الحديدُ لا ينتفعُ به، وتجدُ ذلك الأَعْمَى وعصاه أمامَه، يروغُ من هنا ومن هنا، كأنه يرى كُلَّ ما يَضُرُّهُ وما ينفعُه، بهذا تَعْلَمُوا مَدَى قولِه:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}

(1)

.

إِذَا أَبْصَرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى

فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ

(2)

ومعنَى قولِه: {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: ببصيرةِ قلبِه وَأَدْرَكَ عظمةَ اللَّهِ، وَفَهِمَ عن اللَّهِ آياتِه التي جاءت بها رسلُه فَآمَنَ بِاللَّهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وامتثلَ أمرَ اللَّهِ، وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 64

{فَلِنَفْسِهِ} أي: فَقَدْ أَبْصَرَ لنفسِه؛ لأن فائدةَ ذلك الإبصارِ راجعةٌ عليه في الدنيا والآخرةِ {وَمَنْ عَمِيَ} أي: عَمِيَ قَلْبُهُ، ولم يَفْهَمْ عن الله - والعياذُ بالله - فلم يَفْهَمْ عَنِ اللَّهِ آياتِه، ولم يَفْهَمْ هذه البصائرَ والحُججَ والأدلةَ القاطعةَ، لَمْ يَفْهَمْهَا ولكن عَمِيَ قلبُه عنها - والعياذُ بالله - فَعَلَى نفسِه، فَعَمَاهُ على نفسِه، نفسه عَمِيَ عَلَيْهَا، وَإياها أَضَرُّ.

وهذه الآياتُ تدلُّ الإنسانَ على أنه إن أَبْصَرَ عن اللَّهِ فإنما ينفعُ نفسَه، وإن عَمِيَ عن الحقِّ فإنما يضرُّ نفسَه - والعياذُ بالله - فعلى المسلمِ أن يجتهدَ فيما يبصرُ به من إخلاصِ النيةِ وطاعةِ اللَّهِ (جل وعلا).

وهذا معنَى قولِه: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} وهذا الكلامُ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يقولَه، ولذا قال في آخرِه:{وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} الحفيظُ: (فَعِيْل) بمعنَى (فَاعِل) أي: بحافظٍ عليكم أعمالَكم

(1)

، أُوَفِّقُكُمْ إلى خيرٍ، وأوفقكم لتركِ الشرِّ، وإلى فعلِ الخيرِ، وأحسبُ أعمالَكم، وأضبطُها عليكم، لا، وكَلَاّ، ليس مِنْ شَأْنِي حفظُ أعمالِكم وتوفيقِكم، ولا إحصاءُ أعمالِكم عليكم، ولا مجازاتكم عليها، إنما أنا رسولٌ مُبلِّغٌ، إنما عليَّ البلاغُ، وقد بلَّغْتُ، وحِفْظُ أعمالِكم وتوفيقكم إلى الخيرِ والشرِّ ومجازاتُكم على ذلك كُلِّهِ بيدِ اللَّهِ وحدَه، كما قال جل وعلا:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: آية 40]{فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي: وهو التبليغُ {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: آية 54] أي: وهو الطاعةُ.

(1)

انظر ابن جرير (8/ 562).

ص: 65

وهذا معنَى قولِه: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: آية 104]{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} [الأنعام: آية 105].

في هذه الآيةِ الكريمةِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ

(1)

: قَرَأَه من السبعةِ نافعٌ وعاصمُ وحمزةُ والكسائيُّ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} على وزنِ (فَعَلْتَ)(الدالُ) غيرُ ممدودةٍ بألفٍ، و (التاءُ) مفتوحةٌ - تاءُ المخاطَبِ - {دَرَسْتَ} بعدمِ مدِّ الدالِ، وفتحِ التاءِ. هذه قراءةُ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ.

وقرأه مِنَ السبعةِ أبو عمرو وابنُ كثيرٍ: {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} على وزنِ (فَاعَلْتَ) بتاءِ المُخاطَبِ المفتوحةِ.

وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه من السبعةِ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} على وزنِ (فَعَلَتْ) بتاءِ التأنيثِ الساكنةِ.

اعْلَمْ أولاً أن معنَى الآيةِ: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} أي: وكذلك التصريفُ الواضحُ الذي تُصَرِّفُ عليه الآياتِ على أنحاءَ مختلفةٍ من إقامةِ البراهينِ العقليةِ، وإفحامِ الخصومِ والوعدِ والوعيدِ، وبيانِ المَحَجَّةِ، كذلك التصريفُ الذي نُصَرِّفُ به الآياتِ في هذه السورةِ: نصرِّفها بغيرِها من جميعِ القرآنِ مما يحتاجُ له البشرُ على أنحاءَ مختلفةٍ من العقائدِ والحلالِ والحرامِ والآدابِ والمكارمِ والأمثالِ والوعدِ والوعيدِ، كذلك التصريفُ الواضحُ على الأنحاءِ المختلفةِ، نُصَرِّفُ الآياتِ. وتصريفُ القرآنِ بهذه

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 200، أضواء البيان (2/ 206).

ص: 66

الأساليبِ العظيمةِ لحكمةٍ مفترقةٍ إلى شيئين: أي: لِيُؤْمِنَ بِهِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ، وليُكذب به مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فيقول: دَرَسْتَ هذا القرآنَ على غَيْرِكَ، وأخذتَه من غيرك

(1)

،

كما قالوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)} [الفرقان: آية 5]{إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: آية 4] والمعنَى: نُصرِّفُ آياتِ القرآنِ على أنحاءَ مختلفةٍ، في أكملِ بيانٍ وأوضحِه؛ لنخذلَ قومًا، ونوفقَ آخرين؛ لأن اللَّهَ أنزلَ هذا القرآنَ، وَصَدَقَ في عِلْمِهِ أنه يؤمنُ به قومٌ فيُدخلهم الجنةَ، ويكفرُ به آخرونَ فيدخلُهم النارَ؛ لأن هذا القرآنَ مُنْذُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ لا يدخلُ أحدٌ الجنةَ إلا عن طريقِ العملِ به، ولا النارَ إلا عن طريقِ الإعراضِ عنه، فالعملُ به مفتاحُ الجنةِ، والإعراضُ عنه مفتاحُ النارِ:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} [هود: آية 17] وَاللَّهُ (جل وعلا) يَبْتَلِي بابتلاءاتِه فَيُضِل قومًا ويهدي آخَرِينَ، وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ؟ ولأَجْلِ هذا جَعَلَ القرآنَ هدًى لقومٍ وَفَّقَهُمْ للعملِ به، وجعلَه هلاكًا على آخَرِينَ، وحجةً عليهم، خَذَلَهُمْ فأعرضوا عنه، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَارًا (82)} [الإسراء: آية 82]{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] والعياذُ بالله {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: الآيتان 124، 125] هذا معنَى قولِه:

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 207).

ص: 67

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} ولأجلِ أن ينقسموا إلى أشقياءَ وسعداءَ: صَرَّفْنَا هذا القرآنَ على هذا التصريفِ.

{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي: وليقولَ الكفارُ الذين خَذَلَهُمُ اللَّهُ ولم يُوَفِّقْهُمْ للعملِ به: {دَرَسْتَ} يَعْنُونَ درستَ هذا القرآنَ على غَيْرِكَ، وأخذتَه عن بعضِ البشرِ

(1)

، كما يأتي في قولِه:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: آية 103] وقولِه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ} إلى أن قال: {إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: يَرْوِيهِ محمدٌ عن غيرِه {إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: الآيات 18 - 26]، وكقولِه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: آية 4] وكقولِهم: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: آية 5] أي: ليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ: دَرَسْتَ هذا القرآنَ، وأَخَذْتَهُ عن غيرِك مِنَ الْبَشَرِ، وتعلمتَه منه، كما قالوا:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: آية 103] أي: لأَجْلِ أن يخذلَ اللَّهُ مَنْ خَذَلَهُمْ فيكذبوا بكتابِ اللَّهِ، وينكروا أنه منزلٌ من الله، ويزعموا أنه درسَه على غيره، وَأَخَذَهُ من بَشَرٍ.

هذا على قراءةِ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ

(2)

.

أما على قراءةِ ابنِ كثيرٍ وَأَبِي عمرٍو: {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ} فمعناه رَاجِعٌ إلى الأولِ، والمعنَى: دَارَسْتَ غيرَك من البشرِ، دَارَسْتَهُمْ فَدَارَسُوكَ، وقرأتَ عليهم وقرؤوا عليكَ، فَاسْتَعَنْتَ بهم حتى

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 206).

(2)

في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات 264، ابن جرير (12/ 26)، القرطبي (7/ 58)، البحر المحيط (4/ 197)، الدر المصون (5/ 96)، أضواء البيان (2/ 206 - 207).

ص: 68

حَصَّلْتَ هذا الكلامَ الذي جئتَ به مِنْ عِنْدِهِمْ.

أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ} فأصلُها قراءةٌ معناها مُشْكِلٌ، وأظهرُ أقوالِ العلماءِ فيها وَجْهَانِ

(1)

:

أحدُهما: وليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وأشقاه ولم يُوَفِّقْهُ للقرآنِ: دَرَسَتْ هذه الآياتِ التي تأتي بها؛ لأنها متقادمٌ عَهْدُهَا؛ لأنها من أساطيرِ الأولينَ أخذتَها عنهم؛ فهو ليس بشيءٍ جديدٍ أُنْزِلَ عليكَ، وإنما هي دارسةٌ قديمةٌ، كانت عندَ الأولين من أساطيرِهم، أخذتَها عنهم، وعلى هذا فالمعنَى يرجعُ إلى قولِه:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: آية 5]{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النحل: آية 24] لأَنَّ أساطيرَ الأولينَ أساطيرُ قديمةٌ دارسةٌ أخذتَها عنهم، ليست بأمرٍ جديدٍ مُنَزَّلٍ عليك. وهذا مِنْ أَبْيَنِ الوجوهِ في قراءةِ ابنِ عامرٍ:{وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ} .

الوجهُ الثاني: أي: وليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وأشقاه ولم يُوَفِّقْهُ للعملِ بالقرآنِ: دَرَسَتْ هذه [13/ب] الآياتُ، طالَ علينا العهدُ بها وَانْمَحَتْ، فينبغي لكَ أن تأتيَ بغيرِها / وَتُبَدِّلَهَا بجديدٍ، فإن هذه الأُولَى دَرَسَتْ ولم تَنْفَعْ، كما قال:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: آية 15]. والأَوَّلُ أظهرُ.

{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} [الأنعام: آية 105] هذه الحكمَةُ، أي: ليقولَ مَنْ خَذَلَهُمُ اللَّهُ وَأَشْقَاهُمْ: دَرَسْتَ هذا القرآنَ وأخذتَهُ عن بَشَرٍ، فهو أساطيرُ الأولين وليس بكلامِ اللَّهِ؛ ولأَجْلِ أَنْ نُبَيِّنَهُ لِمَنْ وَفَّقْنَاهُمْ، فيكون عمًى على هؤلاء وهدًى لهؤلاء، كما قال:

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 207).

ص: 69

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: آية 44] فقوله: {هُدًى وَشِفَاءٌ} كقولِه: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، وقوله:{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: آية 105] كقولِه: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] وكقولِه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: آية 82] أي: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} لهم عقولٌ وَعِلْمٌ يُظْهِرُ لهم ما ضَمَّنَّا في هذا القرآنِ من تَصْرِيفِنَا الآياتِ من غرائبِنا وعجائبِنا وبصائرِنا، أي: أَدِلَّتِنَا القاطعةِ الواضحةِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معنَى قولِه: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} .

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: الآيتان 106، 107].

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه أنزلَ علينا على لسانِ نَبِيِّنَا بصائرَ حيث قال: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} والمعنَى: جاءتكم مِنْ قِبَلِنَا على لسانِ نبينا بصائرُ، أي: حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلةٌ واضحاتٌ، لا تتركُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا. فهذه البصائرُ التي جَاءَتْكُمْ يلزمُكم اتِّبَاعُهَا، وعدمُ الْمَيْلِ والحَيْدةِ عنها؛ ولذا أَتَّبِعُ قولَه:{قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ} [الأنعام: آية 104] بقولِه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهو تلكَ البصائرُ والبيناتُ والحُجَجُ القاطعاتُ التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عليكَ، وهذه البصائرُ: هي هذا القرآنُ العظيمُ، وهو المأمورُ بِاتِّبَاعِهِ في قولِه:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهذا القرآنُ العظيمُ يجبُ علينا جَمِيعًا أن نَتَّبِعَهُ، ونتأدبَ بآدابِه، ونتخلقَ بما فيه من مكارمِ الأخلاقِ، وَنُحِلَّ حلالَه،

ص: 70

ونُحَرِّمَ حرامَه، ونعتقدَ عقائدَه، وَنَنْزَجِرَ [بوعيده]، وننبسطَ [لِوَعْدِهِ]

(1)

، وَنَتَأَسَّى بأمثالِه، إلى غيرِ ذلك من العملِ به.

وَاعْلَمُوا أن هذا القرآنَ العظيمَ هو أعظمُ نعمةٍ أَعْطَاهَا اللَّهُ لهذا الخلقِ الذي أَنْزَلَهُ عليه، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن إيراثَ هذا القرآنِ العظيم هو العلامةُ الوحيدةُ في الاصطفاءِ، فَاللَّهُ لا يُورِثُ هذا الكتابَ إلا مَنْ اصْطَفَاهُ من خَلْقِهِ، حيث قال تعالى بعد أن نوَّه بالقرآنِ والعملِ به:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا} إلى أن قال: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ (29)} ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ علامةٌ للاصطفاءِ؛ ولذا قال: {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} والجمهورُ من العلماءِ على أن الذينَ أُورِثُوا الكتابَ الذين اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ بإيراثِ هذا الكتابِ لَا يَخْتَصُّونَ بحَمَلَةِ القرآنِ الذين يَحْفَظُونَهُ، بل يشملُ جميعَ الأمةِ الذين يعملونَ به، فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، ويعتقدونَ عقائدَه إلى غيرِ ذلك، وإن لم يكونوا يَحْفَظُونَهُ

(2)

، وسواء وَقَعَ منهم تقصيرٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ إيراثَه للكتابِ، وأن إيراثَه الكتابَ علامةُ الاصطفاءِ، قَسَّمَ هذه الأمةَ التي أَوْرَثَهَا هذا الكتابَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، قال:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} ثم نَوَّهَ بالقرآنِ العظيمِ فقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} أي: {ذَلِكَ} إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} مِنَ اللَّهِ عليهم.

فَصَرَّحَتِ الآيةُ بِأَنَّ إنزالَ القرآنِ وإيراثَنا إياه أعظمُ فضلٍ وأكبرُه علينا؛ وَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذه النعمةِ الكبرى

(1)

في الأصل: «وننزجر بوعده، وننبسط لوعيده» . وهو سبق لسان.

(2)

انظر: ابن جرير (22/ 133)، ابن كثير (3/ 554).

ص: 71

والفضلِ الأعظمِ، حيث قال في أولِ سورةِ الكهفِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: آية 1] يعنِي لَمْ يجعل فيه اعوجاجًا من جهةِ الألفاظِ ولا المعانِي، فألفاظُه بليغةٌ مستقيمةٌ، [ومعانيه]

(1)

كريمةٌ جليلةٌ، أخبارُه صدقٌ، وأحكامُه عدلٌ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] يعنِي: صِدْقًا في الأخبارِ، وَعَدْلاً في الأحكامِ. ثم قال (جل وعلا) وهو محلُّ الشاهدِ:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعني جميعَ الذين أُورِثُوا الكتابَ، هذا القرآنَ العظيمَ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه؛ لأنه أولُ مَنْ ذُكِرَ، حيث قال:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} ثم قال عن الجميعِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} وَلَمْ يبقَ غير الذين أُورثوا الكتابَ بظالِمهم ومقتصدِهم وسابقِهم إلا الكفرةَ الفجرةَ؛ ولذا قال بعدها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: الآيات 29 - 36] وكان بعضُ العلماءِ يقول: حُقَّ لهذه (الواو) أن تُكْتَبَ بماءِ الْعَيْنَيْنِ

(2)

. يعني واوَ {يَدْخُلُونَهَا} لأنها حَكَمَتْ بدخولِ الجميعِ في الجنةِ، وعلى رأسهم الظالمُ لنفسه.

وأصحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ)

(3)

:

(1)

في الأصل: ومعناه.

(2)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

(3)

انظر: ابن جرير (22/ 133)، ابن كثير (3/ 554).

ص: 72

أن الظَّالِمَ: هو الذي يطيعُ مرةً ويعصي أُخْرَى، من الذين قال اللَّهُ فيهم:{خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 102].

والمقتصدُ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، ويتركُ المحرماتِ، ولا يتقربُ بالنوافلِ.

والسابقُ بالخيراتِ: هو الذي يأتِي بالواجباتِ، وَيَتَّقِي الْمُحَرَّمَاتِ، ويتقربُ إلى اللَّهِ بالنوافلِ، تَقَرُّبًا إليه بغيرِ الواجباتِ.

وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: ما الحكمةُ في تقديمِ الظالمِ في آيةِ (فاطر) هذه، والظالمُ إذا كان في هذا الوعدِ الكريمِ بدخولِ الجنةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أين له أن يُقَدَّمَ فيقدمه اللَّهُ بالذكرِ على المقتصدِ والسابقِ؟

للعلماءِ عن هذا أجوبةٌ معروفةٌ

(1)

:

منها: أن بعضَهم قال: هذا المقامُ أظهرَ اللَّهُ فيه كرمَه وتعظيمَ هذا القرآنِ العظيمِ، وقوَّةَ آثارِه على مَنْ أَوْرَثَهُمْ إياه بدخولِ الجنةِ؛ ولذا بدأ بالظالمِ لئلا يقنطَ، وأخَّر السابقَ بالخيراتِ لئلا يعجبَ بعملِه فيحبط.

وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمونَ لأَنْفُسِهِمْ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: آية 24] وَلَمَّا كان أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمين لأنفسهم بدأَ بهم لشأنِ الكثرةِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

ص: 73

كذا قالوا واللَّهُ - تعالى - أعلمُ؛ ولذا لِمَا نَوَّهَ بهذه البصائرِ التي هي النعمةُ العظيمةُ: {قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} [الأنعام: آية 104] أَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106] وهذا الذي أُوحِيَ إليك من ربكَ هو تلك البصائرُ، أي: الْحُجَجُ القاطعاتُ، والأدلةُ الساطعاتُ الواضحاتُ، التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا، التي صَرَّفَهَا اللَّهُ في هذا القرآنِ العظيمِ {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: آية 105] كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: آية 89] وهذا معنَى قولِه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [الأنعام: آية 106].

وهذه الآيةُ نَصَّ بأن الذي يجبُ اتِّبَاعُهُ هو الوحيُ، وهو القرآنُ العظيمُ، فلا يجوزُ اتباعُ غيرِه، فَمَنِ اتبعَ تَشْرِيعًا غيرَه فَرَبُّهُ من اتبع تشريعَه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا

(1)

، وكما سيأتِي إيضاحُه مِرَارًا في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ الأنعامِ

(2)

؛ لأن التشريعَ إنما هو لخالقِ السماواتِ والأرضِ، كما أنه لَا شريكَ له في عبادتِه: كذلك لا شريكَ له في حُكْمِهِ؛ ولذا قال تعالى في العبادةِ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: آية 110] وقال في حُكْمِهِ: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: آية 26] وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ: {وَلَا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}

(3)

فالحكمُ لِلَّهِ وحدَه، كما أن العبادةَ له وحدَه، فهو المعبودُ وحدَه (جل وعلا)،

(1)

ما سبق عند تفسير الآية (57) ، والآية (94) من سورة الأنعام.

(2)

انظر ما سيأتي عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام، والآية (158) من سورة الأعراف، والآيتين (28، 31) من سورة التوبة.

(3)

انظر: المبسوط لابن مهران، ص277 ..

ص: 74

فيجبُ توحيدُه في العبادةِ، وهو الحاكمُ وحدَه (جل وعلا)، فالحكمُ له وحدَه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57] لأَنَّ الحكمَ لَا يكونُ إلا لِمَنْ هو أَعْلَى مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كُلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كل شيء، كما قال تعالى:{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12] لأن العليَّ الكبيرَ الذي هو متصفٌ بغايةِ العلوِّ والكبرِ والعظمِ هو الذي له أن يأمرَ وينهى، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وليس لأحدٍ ألبتةَ تشريعٌ مع اللَّهِ، فكلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا وَضْعِيًّا سواء سَمَّاهُ نِظَامًا أو قانونًا أو دستورًا من التشاريعِ الوضعيةِ التي وَضَعَهَا إبليسُ على ألسنةِ أوليائِه من الكفرةِ: فَرَبُّهُ ذلك الذي اتَّبَعَ تشريعَه، وهو كافرٌ بالله كُفْرًا بواحًا مُخْرِجًا عن الملةِ. وَاللَّهُ بَيَّنَ هذا في آياتٍ كثيرةٍ؛ لأَنَّ التشريعَ لا يمكنُ إلا أن يكونَ للسلطةِ العليا الحاكمةِ، التي لا يمكنُ أن تكونَ فوقَها سلطةٌ، وهي سلطةُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، فهو الآمِرُ الناهي، فالأمرُ أمرُه، والنهيُ نَهْيُهُ، والدينُ ما شَرَعَ، والحلالُ ما أَحَلَّ، والحرامُ ما حَرَّمَ، وَمَنْ أَرَادَ أن يتبعَ تَحْلِيلاً وَتَشْرِيعًا لغيرِه فقد اتَّخَذَ غيرَه رَبًّا، وهو مشركٌ بخالقِ السماواتِ والأرضِ؛ لأَنَّ الشركَ به في حكمِه كالشركِ به في عبادتِه؛ ولذا سيأتيكم في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - براهينَ قاطعةً من هذه البصائرِ التي قال اللَّهُ:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: آية 104] مُوَضِّحًا أن مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ الشيطانِ فقد اتَّخَذَ الشيطانَ رَبًّا، وهو مشركٌ بالله شِرْكًا أكبرَ مُخْرِجًا عن دينِ الإسلامِ

(1)

؛

ذلك أن إبليسَ اللعينَ لَمَّا قال لتلامذتِه

(1)

انظر الإحالات السابقة ..

ص: 75

من كفارِ مكةَ: سَلُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الشاةِ تصبحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ قال لهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. قالوا: إذًا هي ذبيحةُ اللَّهِ، وأنتم تقولونَ: هي ميتةٌ نجسةٌ، فما ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم - يَعْنُونَ الْمُذَكَّى - تقولون: حلالٌ طيبٌ مستلذٌّ!! وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ تقولونَ: حرامٌ ميتةٌ نجسٌ، فأنتم إذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ!! فأنزلَ اللَّهُ - بإطباقِ العلماءِ

(1)

- فيهم قولُه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعني: الميتةَ. أي: وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ، ثم قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} {وَإِنَّهُ} يعني: الأكلَ من الميتةِ {لَفِسْقٌ} وخروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ. ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: وإن أطعتموهم في أن الميتةَ حلالٌ في تشريعِ الشيطانِ؛ لأن الصحابةَ والكفارَ اختلفوا في لحمِ الميتةِ، فقال الصحابةُ: حرامٌ بتشريعِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173] وقال أتباعُ الشيطانِ في تشريعِ الشيطانِ: الميتةُ حلالٌ، لأنها ذبيحةُ اللَّهِ، فما ذَبَحَهُ اللَّهُ أحسنُ مما ذَبَحَهُ البشرُ.

فهي قطعةُ لحمٍ اختلف فيها شرعُ اللَّهِ مع قانونِ الشيطانِ، فقال اللَّهُ:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] يعني: إن أَطَعْتُمُ الكفارَ، بأكلِ الميتةِ الذي أباحَه قانونُ إبليسَ، ونظامُ الشيطانِ:{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} بالله حيثُ أشركتُم به في حكمِه، وهو يقولُ:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: آية 26].

وهذا الشركُ الذي حَكَمَ اللَّهُ به في سورةِ الأنعامِ على مَنِ اتَّبَعَ قانونَ الشيطانِ، ونظامَ إبليسَ، هو الذي يُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبِيهِ يومَ القيامةِ

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 78).

ص: 76

- في سورةِ (يس) - على رؤوسِ الأشهادِ، ويبينُ مصيرَهم النهائيَّ، وذلك في قولِه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: آية 60] وَقَدْ أَجْمَعَ العلماءُ أن عبادتَهم للشيطانِ التي نَهَاهُمْ عنها وَعَهِدَ إليهم ألا يفعلوها إنما هي اتباعُ نِظَامِهِ وتشريعِه وقانونِه في سَنِّ المعاصي والكفرياتِ والمنكراتِ.

ثم قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} حيث عَبَدُوهُ واتخذوا تشريعَه: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} ثُمَّ بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لعَبَدةِ الشيطانِ، وَمُتَّبِعِي نظامِ إبليسَ:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60 - 65] ولأَجْلِ هذا سَمَّى اللَّهُ تعالى الذين يُطَاعُونَ في المعصيةِ: (شركاءَ) حيث قال: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: آية 137].

وَلَمَّا سألَ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ قال: أَلَمْ يحلوا لهم ما حَرَّمَ اللَّهُ؟ ويحرموا عليهم ما أَحَلَّ اللَّهُ فاتبعوهم؟ قال: بَلَى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا

(1)

.

فَكُلُّ مَنْ يتبعُ نظامَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ فهو مشركٌ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ، وَاللَّهُ يقولُ:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف:

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 77

آية 26] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57]{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: آية 10]{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: آية 12]، الحكمُ للعليِّ الكبيرِ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: آية 106] يعني: لا معبودَ بالحقِّ يُعْبَدُ إلَاّ هُوَ، فلا يجوزُ أن يُشْرَكَ بعبادتِه أحدٌ، ولا أَنْ يُشرك في حكمِه أحدٌ، سبحانَه (جل وعلا) أن يكونَ له شَرِيكٌ في عبادتِه، أو شريكٌ في حكمِه، سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.

وقولُه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106] بعضُ العلماءِ يقولُ: هذا الإعراضُ المأمورُ به عن المشركين في سورةِ الأنعامِ في مكةَ قبلَ الهجرةِ منسوخٌ بآيةِ السيفِ

(1)

. لأَنَّ الإعراضَ زمنَ مكةَ، وَلَمَّا جَاءَ إلى المدينةِ أُذِنَ له في القتالِ أَوَّلاً بقولِه:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: آية 39] ثم أُمِرَ بقتالِ مَنْ قاتلهم دونَ مَنْ لَمْ يقاتلهم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: آية 190] ثُمَّ أُمِرُوا بالقتالِ العامِّ في قولِه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: آية 5].

وبعضُ العلماءِ يقولُ: هذه الآيةُ ليست منسوخةً

(2)

؛ لأن المرادَ بالإعراضِ عن المشركينَ عدمُ الكلامِ مَعَهُمْ، وعدمُ سِبَابِهِمْ، وهذا أمرٌ قد يكونُ غيرَ منسوخٍ. وهذا معنَى قولِه:{لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106].

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 32)، الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 355)، الإيضاح لمكي ص 286.

(2)

انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 355)، الإيضاح لمكي ص 286.

ص: 78

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: الآيات 107 - 110].

يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: آية 107] لَمَّا قال اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام: آية 106] لَمَّا أمرَه بالإعراضِ عن المشركين بَيَّنَ أَنَّ إشراكَهم بِاللَّهِ واقعٌ بمشيئةِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَأَتْبَعَهُ بقولِه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} قد تقررَ في فَنِّ الْمَعَانِي: أن فعلَ المشيئةِ إذا رُبِطَ بأداةِ شرطِ يُحْذَفُ مفعولُه دائمًا

(1)

، فمفعولُ المشيئةِ هنا مَحْذُوفٌ

(2)

، وتقديرُه: ولو شاءَ اللَّهُ عَدَمَ إشراكِهم ما أَشْرَكُوا.

وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ أنه لا يقعُ شيءٌ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، وأنه لو شَاءَ عدمَ إشراكِ الكفارِ لم يُشْرِكُوا. وقد دَلَّتْ على هذا آيَاتٌ كثيرةٌ كقولِه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: آية 35]{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: آية 13] وهذه الآياتُ تَرُدُّ على الْقَدَرِيَّةِ الزاعمينِ أن الكفرَ والمعاصِيَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، فمذهبُهم باطلٌ، فَرُّوا مِنْ شَيْءٌ فَوَقَعُوا فيما هو أشنعُ وأكبرُ منه،

(1)

مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 99).

ص: 79

فهم يريدونَ التقربَ لِلَّهِ، بِأَنْ يَزْعُمُوا أن الخسائسَ كالسرقةِ والزنا والشركِ أنها بمشيئةِ العبادِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، زاعمينَ أن الله أنزهُ وأعظمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الرذائلُ بمشيئتِه.

وهذه الشبهةُ - التي هي شبهةُ الجبرِ والقدرِ - هي أعظمُ الشُّبَهِ التي في دِينِ الإسلامِ، وَكَثِيرٌ من ضعفاءِ العلمِ يصعبُ عليهم أن يَنْفَكُّوا عنها وَيَتَخَلَّصُوا منها، ونحنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ

(1)

، وخلوصُ مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ بَيْنَ مذهبِ القدريةِ والجبريةِ كخلوصِ اللبنِ مِنْ بَيْنِ الفرثِ والدمِ سَائِغًا خَالِصًا لِلشَّارِبِينَ.

ونقولُ مثلاً: لو أَرَادَ سُنِّيٌّ أن يُنَاظِرَ جَبْرِيًّا وقدريًّا متمسِّكينَ بمذهبِ القدريةِ والجبريةِ القدريِ [يزعم]

(2)

أن أفعالَ العبدِ القبيحةَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللَّهِ، ويزعمُ الجبريُّ أن الأفعالَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، فليسَ للعبدِ فِعْلٌ. فلو قَالَ جَبْرِيٌّ مثلاً: هذه الأفعالُ الصادرةُ من الإنسانِ؛ كالإشراكِ والزنا والسرقةِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الرذائلِ، هي مكتوبةٌ عليه قبلَ أن يولدَ، قَدَّرَهَا اللَّهُ وَكَتَبَهَا في الأزلِ، وما قَدَّرَهُ اللَّهُ وكتبَه لا يمكنُ أن يتغيرَ!! يقولُ الْجَبْرِيُّ مثلاً: ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ من أن المشركَ يشركُ، وأن الزانيَ يَزْنِي، وأن السارقَ يسرقُ سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فلا يمكنُ أن يتغيرَ؛ لأن ما سَبَقَ في علمِ اللَّهِ لا يمكنُ أن يتغيرَ!! فَإِذَنْ يقولُ هذا الجاهلُ: إنه مجبورٌ ما دامَ الفعلُ كُتِبَ عليه قبلَ أن يولدَ، وَجَفَّتِ الأقلامُ وَطُوِيَتِ الصحفُ، فالواقعُ واقعٌ لَا محالةَ، فيقولُ: هو مجبورٌ!!

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

(2)

في الأصل: «فيقول القدري مثلا الزاعم

». فالكلام غير متلائم مع ما بعده.

ص: 80

فيجيبُ السُّنِّيُّ مثلاً فيقولُ: كُلُّ الأسبابِ التي هَدَى اللَّهُ بها المهتدين أَعْطَاكَهَا، فالأبصارُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ الله أَعْطَاكَ بَصَرًا مثلَها، والأسماعُ التي سَمِعُوا بِهَا آياتِ اللَّهِ فاهتدوا أَعْطَاكَ سَمْعًا مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عِظَمَ اللَّهِ وأدلتَه وبراهينَه فَاهْتَدَوْا أَعْطَاكَ عَقْلاً مثلَها، والرسلُ التي نَصَحَتْهُمْ وَبَيَّنَتْ لهم، وَاهْتَدَوْا بهديها أَرْسَلَهَا إليكَ كما أَرْسَلَهَا لهم، فجميعُ الأسبابِ التي اهْتَدَى بها المهتدونَ أَعْطَاكَهَا، ولم يَبْقَ فرقٌ بَيْنَكَ أيها الضالُّ وبينَ الْمُهْتَدِي إلا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عليه بتوفيقِه، ولم يَتَفَضَّلْ عليكَ بتوفيقِه،

وَيُوَضِّحُ هذا المقامَ: مناظرةُ أَبِي إسحاقَ الإسفرائينيِّ وعبدِ الجبارِ الْمُعْتَزِلِيِّ

(1)

. وذلك أن عبدَ الجبارِ جاءَ إلى أبي إسحاقَ مُتَقَرِّبًا بمذهبِ القدريةِ فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاءِ!! يعنِي أن السرقةَ والزنا والإشراكَ لَيْسَتْ بمشيئتِه، وأنه يتنزهُ عن أن يشاءَ هذا.

فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها بَاطِلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لَا يَقَعُ في مُلْكِهِ إِلَاّ ما يَشَاءُ.

فقال عبدُ الجبارِ: أَتُرَاهُ يشاؤُه وَيُعَاقِبُنِي عليه؟

فقال أبو إسحاقَ: أَتُرَاكَ تشاؤُه جَبْرًا عليه، أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟

فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى وَسَدِّ البابِ دُونِي، دَعَانِي ولم يُسَهِّلْ لِي طريقَ الخروجِ، تراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

ص: 81

فقال أبو إسحاقَ: إن كان هذا الذي مَنَعَكَ حَقًّا وَاجِبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ - سبحانَه عن ذلك - وإن كان مُلْكُهُ الْمَحْضُ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ.

فَبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ.

وهذا مفهومٌ من قولِه في هذه السورةِ الكريمةِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: آية 149] مُلْكُهُ التوفيقُ يتفضلُ به على مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهُ مِمَّنْ يشاءُ. هو حجتُه البالغةُ على خَلْقِهِ؛ لأَنَّ المالكَ إذا تَفَضَّلَ فَأَعْطَى فَفَضْلٌ منه، وإذا مَنَعَ فَعَدْلٌ منه؛ وَلِذَا قال:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} .

وَذَكَرُوا عن عمرِو بنِ عبيدٍ، كبيرِ المعتزلةِ مع قوتِه وذكائِه ومعرفتِه أنه جَاءَهُ بَدَوِيٌّ وقال له: كُنْتُ أعملُ على دَابَّتِي فسرقها اللصوصُ، فَادْعُ اللَّهَ أن يَرُدَّهَا عَلَيَّ. فقام عمرُو بنُ عبيدٍ يتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنكَ أكرمُ وأجلُّ وأنزهُ من أن تريدَ السرقةَ. فقال له ذلك البدويُّ: نَاشَدْتُك اللَّهَ يَا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائِك الخبيثِ. إن كانت قد سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ

(1)

.

فالحاصلُ أنه لا يقعُ في الكونِ شَيْءٌ كائنًا ما كانَ إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وأنه لا جَبْرَ ولا قَدَرَ. وأن اللَّهَ تبارك وتعالى قَدَّرَ في سابقِ أَزَلِهِ أن يخلقَ قَوْمًا مَجْبُولِينَ على الخيرِ والفضلِ، ويوفقهم إلى ما يُرْضِيهِ؛ لتظهرَ فيهم أسرارُ أسمائِه

(1)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع متعددة في هذا التفسير.

ص: 82

وصفاتِه، مَنِ اسْمُهُ الكريمُ واللطيفُ وغيرُ ذلك من أسماءِ الكرمِ والجودِ، وقَدَّرَ في أَزَلِهِ أن يخلقَ آخَرِينَ مَطْبُوعِينَ على القذارةِ والنجاسةِ؛ ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه كالقهارِ، يظهرُ فيهم قَهْرُهُ وجبروتُه وعظمتُه وشدةُ عقابِه؛ ليجتمعَ للناسِ الخوفُ والطمعُ؛ لأنه لو كان خَوْفٌ لا طَمَعَ معه فقد يكونُ هنالك بُغْضٌ، وإن كان طَمَعٌ لا خوفَ معه فقد يكونُ هنالك أَمْنٌ يحملُ على الدَّلَالِ وسوءِ الأدبِ، فَخَلَقَ بعضَ الخلقِ وقَدَّرَ لهم الشقاءَ الأَزَلِيَّ، لِمَا جَبَلَهُمْ عليه من الْخُبْثِ، ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه مِنْ قَهْرِهِ وَمُلْكِهِ وقوةِ بطشِه وإنصافِه، وقَدَّر لقومٍ آخَرِينَ الْهُدَى لِيُظْهِرَ فيهم بعضَ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه من رحمتِه وفضلِه ولطفِه وكرمِه. ولكنَّ قدرةَ الله وإرادتَه صَرَفَتْ قُدرَ الخلقِ وإراداتِهم إلى ما شاءَه اللَّهُ وقَدَّره في أَزَلِهِ، فَأَتَوْهُ طَائِعِينَ. فَاللَّهُ (جل وعلا) بقدرتِه وإرادتِه يصرفُ قدرةَ العبدِ وإرادتَه إلى ما سَبَقَ به الكتابُ في علمِه الأَزَلِيِّ، فَيَأْتِيهِ طَائِعًا:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: آية 30].

هذا هو أصلُ هذه المسألةِ. فَاللَّهُ يشاءُ وَيُقَدِّرُ ويصرفُ قُدَرَ العبادِ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأزليُّ، فيأتوه طَائِعِينَ. وله المثلُ الأَعْلَى، والحكمةُ البالغةُ في كُلِّ مَا يُقَدِّرُ.

ولَا يَخْفَى أن الْجَبْرِيِّينَ الذين يقولونَ: إن العبدَ لا فِعْلَ له، وإنما هذا فعلُ اللَّهِ!! لو جئتَ إلى جَبْرِيٍّ وَفَقَأْتَ عينَه، أو قَتَلَتْ وَلَدَهُ، أو أتلفتَ مالَه، وقلتَ له: أنا مسكينٌ لَا فِعْلَ لِي؛ لأَنَّ هذا فعلُ اللَّهِ!! لا يقبلُ مِنْكَ هذا العذرَ، ويقولُ: أنتَ الذي فعلتَ وفعلتَ. وينتقمُ منكَ غايةَ الانتقامِ، وَلَكِنَّهُ بالنسبةِ إلى التكاليفِ يتعللُ هذا التعللَ الباطلَ. فَكُلُّ شيءٍ في الكونِ لَا يقعُ في العالمِ تَحْرِيكُهُ

ص: 83

ولَا تسكينُه من خيرٍ أو شَرٍّ إلا بمشيئةِ خالقِ السماواتِ والأرضِ. وهو يُوَجِّهُ قُدَرَ الخلقِ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فيأتوه طَائِعِينَ، فَرِيقٌ في الجنةِ وَفَرِيقٌ في السعيرِ؛ لِيُظْهِرَ فيهم أسرارَ أسمائِه وصفاتِه.

وبهذا يتضحُ أن القائلين بالجبرِ مُفْتَرُونَ، وأن النافينَ للقدرِ أنهم كذلك مَجُوسُ هذه الأمةِ. فَاللَّهُ يُقَدِّرُ الأشياءَ في أَزَلِهِ، ويكتبُ كُلَّ شيءٍ، ثم يصرفُ بقدرتِه وإرادتِه إراداتِ الْخَلْقِ وقُدَرَهُمْ، فيأتونَ ما سَبَقَ به الْعِلْمُ الأَزَلِيُّ طَائِعِينَ.

وهذه المسألةُ قد سَأَلَ أصحابُ النبيِّ عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسألوه: هل هذا الذي نعملُ له شيءٌ مُؤتَنَفٌ، أو أَمْرٌ قد قُضِيَ في السابقِ وانتهى وَفُرِغَ منه؟ فَبَيَّنَ لهم صلى الله عليه وسلم أنه أَمْرٌ قُضِيَ وَفُرِغَ منه. فقالوا له: لِمَ لَا نتركُ العملَ وَنَتَّكِلُ على ما سَبَقَ به الكتابُ في العلمِ الأَزَلِيِّ؟ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أجابَهم فقال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

(1)

. فمعنى هذا الحديثِ: أن اللَّهَ يخلقُ الخلقَ ويجبلُهم على ما شَاءَ مِنْ خُبْثٍ وَمِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ ثم يُسَهِّلُ كُلَّ واحدٍ منهم وَيُيَسِّرُ له ما خُلِقَ له، فييسرُ للسعيدِ عملَ الخيرِ، وللشقيِّ عملَ الشرِّ، يصرفُ قُدَرَهُمْ وإراداتِهم بقدرتِه وإرادتِه، فيأتوه طَائِعِينَ؛ وَلِذَا قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: آية 107] أي: لَوْ شَاءَ عَدَمَ إشراكِهم بِاللَّهِ ما أَشْرَكُوا.

وقولُه: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عليه من الرأفةِ والرحمةِ يُحْزِنُهُ عدمُ إيمانِهم، فاللَّهُ يقولُ له: أنا

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 84

مَا جعلتُك حفيظًا عليهم، حافظًا تَحْفَظُهُمْ من الوقوعِ في الشرِّ، وَتُيَسِّرُهُمْ إلى الخيرِ، ولا جَعَلْتُكَ وكيلاً عليهم تحاسبُهم بأعمالِهم وَتُجَازِيهِمْ، بل أنا الذي أُوَفِّقُ مَنْ شئتُ، وَأُضِلُّ مَنْ شِئْتُ، وَأُحْصِي عليهم أعمالَهم فَأُجَازِيهِمْ عليها، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: الآيتان 21، 22] وكقولِه:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: آية 40]. والمعنَى: كأنه يقولُ له: لستَ مُوَكَّلاً بأعمالِهم، ولا حَافِظًا لهم تُوَفِّقُهُمْ، حِفْظُهُمْ وَمُحَاسَبَتُهُمْ على اللَّهِ، وإنما أنتَ نذيرٌ، وقد قمتَ بوظيفتِك، وَبَلَّغْتَ، فَأَرِحْ نفسَك ولَا تَحْزَنْ، كما قال له:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل: آية 127].

وقد تَقَدَّمَ في هذه السورةِ الكريمةِ قولُه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إلى أن قال: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} أي: فتقهرهم بها على الإيمانِ فَافْعَلْ. ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: الآيات 33 - 35]. وقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: آية 3]{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: آية 6] ومعنَى {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: مُهْلِكُهَا من الحزنِ عليهم؛ ولذا قال له هنا: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [الأنعام: آية 107].

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: آية 108].

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} لَمَّا

ص: 85

أنزلَ اللَّهُ قولَه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: آية 98] اجتمعَ رؤساءُ قريشٍ من كفارِ مكةَ إلى أَبِي طالبٍ في آخِرِ أيامِ حياتِه وقالوا له: إن ابنَ أخيكَ يعيبُ آلهتَنا ويذمها. والله لَتَنْهَيَنَّ ابنَ أخيكَ عن سبِّ آلهتِنا أو لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَهُ الذي أَمَرَهُ بهذا. فأنزلَ اللَّهُ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(1)

.

وَقَالَ بعضُ العلماءِ: كانَ المؤمنونَ يَسُبُّون الأصنامَ بأنها أجرامٌ لَا تنفعُ ولَا تَضُرُّ ولَا تسمعُ ولا تُبْصِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نهيَهم عن ذلك لئلَاّ يتذرعَ به المشركونَ فينتقمونَ منهم فَيَسُبُّونَ رَبَّهُمْ؛ وَلِذَا قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} السبُّ معناه: الذمُّ والثَّلبُ بذكرِ المساوئِ التي لا تَلِيقُ. والعربُ تقولُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ، وَتَسَابَّا

(1)

المعروف أنه لمَّانزلت آية الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ

} الآية قال المشركون: فإن عيسى وعزيرًا والشمس والقمر يعبدان!! فنزل قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} وقوله في سورة الزخرف {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} .

انظر أسباب النزول للواحدي ص 305، تفسير ابن كثير (3/ 197)، أسباب النزول للسيوطي ص 184، الدر المنثور (4/ 339).

أما آية الأنعام فإن سبب نزولها ما سيذكره الشيخ من أن المؤمنين كانوا يسبون آلهة المشركين، وفي بعض الروايات: القصة المشار إليها في ذهابهم إلى أبي طالب، لكن لا تعلق لذلك كله بآية الأنبياء، اللهم إلا ما ذكره أبو حيان في البحر (4/ 199) بقوله: «وقيل: قالوا ذلك عند نزول قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ

}» ا. هـ. هكذا ذكره من غير سند، ولم يعزه لقائل معين. والله أعلم. انظر: ابن جرير (12/ 33 - 35)، الواحدي في أسباب النزول ص 221 - 222، تفسير ابن كثير (2/ 164)، أسباب النزول للسيوطي ص120، الدر المنثور (3/ 38).

ص: 86

سِبَابًا. إذا هَجَا كُلُّ واحدٍ منهما الآخَرَ وقال فيه قولاً قَبِيحًا. والسِّبابُ: المهاجاةُ والمشاتمةُ. وسِبُّ الرجلِ هو الذي يُكَافِئُهُ فيردُّ عليه إذا سَبَّهُ

(1)

. ومنه قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه

(2)

:

لَا تَسُبَّنِّني فَلَسْتَ بِسِبِّي

إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجَالِ الكريمُ

والمعنَى: لَا تَهْجُوا أصنامَهم وتقولوا ما هي متصفةٌ به من الخساسةِ، فيتسببُ عن ذلك أن يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وإذا سَبُّوا اللَّهَ معناه: أنهم قالوا فيه ما ليسَ بواقعٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ ليس مُتَّصِفًا إلا بالكمالِ والجلالِ، فليس فيه نَقْصٌ حتى يكونَ مَوْضِعًا للسبِّ. ولكن الكفرةَ الفجرةَ يكذبونَ.

فمعنَى: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} يتكلمونَ فيه بما لَا يليقُ بكمالِه وجلالِه (جل وعلا).

وقولُه: {عَدْوًا} العَدْوُ معناه: الظلمُ والعدوانُ. أي: فَيَسُبُّوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وهو خالقُهم ورازقُهم المحسنُ إليهم

(3)

.

وإعرابُ قولِه: {عَدْوًا} فيه أَوْجُهٌ من الإعرابِ معروفةٌ

(4)

:

أحدُها: أنه مَصْدَرٌ منكَّرٌ بمعنَى الحالِ، أي: فيسبوه في حالِ كونِهم مُعْتَدِينَ ظَالِمِينَ.

(1)

انظر: المفردات (مادة: سبب) 391، القرطبي (2/ 181)، بصائر ذوي التمييز (3/ 169)، اللسان (مادة: سبب) (2/ 77).

(2)

البيت في اللسان (2/ 78)، وقد عزاه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وانظر: القرطبي (2/ 181).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 35)، القرطبي (7/ 61)، البحر المحيط (4/ 200)، المفردات (مادة: عدا) ص553.

(4)

انظر: البحر المحيط (4/ 200)، الدر المصون (5/ 100).

ص: 87

الثاني: أنه ما نَابَ عن المطلقِ من «يسبوا» ؛ لأن سَبَّ اللَّهِ عُدْوَانٌ {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} معناه: يَعْتَدُوا بِسَبِّ اللَّهِ {عَدْوًا} ، أي: عُدْوَانًا. وعليه فهو ما نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ.

والإعرابُ الثالثُ فيه: أنه مَفْعُولٌ من أَجْلِهِ، أي: فَيَسُبُّوا اللَّهَ لأجلِ عُدْوَانِهِمْ وطغيانِهم وظلمِهم.

وقولُه: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} الظاهرُ أن الجارَّ والمجرورَ في محلِّ حَالٍ ثَانِيَةٍ

(1)

، أي: حالَ كونِهم معتدينَ جاهلينَ، لَا علمَ لهم بما يَنْبَغِي أن يقالَ في اللَّهِ، حيث يَسُبُّوا اللَّهَ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه:{عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

وهذه الآيةُ الكريمةُ - من آياتِ الأحكامِ - أَخَذَ العلماءُ منها أصلَ (سَدِّ الذرائعِ)

(2)

؛ لأَنَّ سَبَّ الأصنامِ بالنسبةِ إلى ذاتِه جَائِزٌ مطلوبٌ، ولكن لَمَّا كان هذا الأمرُ المحمودُ الطيبُ - وهو سَبُّ الأصنامِ وتقبيحُها - قد يُؤَدِّي إلى أمرٍ آخرَ لا يجوزُ، وهو سَبُّ اللَّهِ، مُنِعَ هذا الشيءُ الطيبُ سدًّا للذريعةِ التي

[14/أ]

وذريعةُ الشيءِ /أَصْلُهَا طريقُه الموصلةُ إليه

(3)

.

ومعروفٌ عِنْدَ علماءِ الأصولِ أن الذرائعَ ثلاثةُ أقسامٍ

(4)

:

قِسْمٌ منها يَجْبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 101).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 61)، البحر المحيط لأبي حيان (4/ 199).

(3)

انظر: المصباح المنير (مادة: ذرع) ص79، اللسان (مادة: ذرع)، (1/ 1064 - 1065)، المعجم الوسيط (مادة: ذرع) (1/ 311).

(4)

في مسألة الذرائع وأدلتها انظر: الفروق للقرافي (2/ 32)، (3/ 266)، شرح تنقيح الفصول ص448، القواعد للمقري (2/ 471 - 474)، إحكام الفصول ص567 - 571، تفسير القرطبي (2/ 57 - 60)، الفتاوى (23/ 186 - 187)، إعلام الموقعين (3/ 135 - 159)، إغاثة اللهفان (1/ 361 - 367)، تهذيب سنن أبي داود (5/ 102)، الموافقات (4/ 198 - 200)، البحر المحيط للزركشي (6/ 82 - 86)، فتح الباري (10/ 404)، إرشاد الفحول ص246، نثر الورود (2/ 575).

ص: 88

من سورةِ الأنعامِ، وَدَلَّ الحديثُ الصحيحُ المتفقُ عليه

(1)

. وهذا القسمُ هو أن يكونَ هذا الأمرُ جائزًا أو مطلوبًا، وليس في نفسِه فسادٌ في ذاتِه، أو فيه خَيْرٌ، إلا أنه يُؤَدِّي إلى شَرٍّ عظيمٍ، كَسَبِّ الأصنامِ، فإنه في ذاتِه طَيِّبٌ مَطْلُوبٌ، إلا أنه لَمَّا كانَ يكونُ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ كان مُحَرَّمًا.

ومن هذا النوعِ، وهي الذريعةُ التي يجبُ سَدُّهَا إجماعًا: حفرُ الآبارِ في طُرُقِ المسلمينَ، فلو جاءَ رجلٌ إلى طريقِ المسلمين وَحَفَرَ فيها بِئْرًا لَيْلاً، وَغَطَّى فَمَ البئرِ بشيءٍ خفيفٍ، فَمَنْ جاء مع الطريقِ وَتَرَدَّى في البئرِ فَفِعْلُهُ وحفرُه البئرَ ليس نفسَ إهلاكٍ لنفسٍ ولا مَالٍ، ولكنه ذريعةٌ لذلك يجبُ سَدُّهَا وَمَنْعُهَا بالإجماعِ.

ومن هذا النوعِ: إلقاءُ السُّمِّ في مياهِ المسلمين وأطعمتِهم. فإلقاءُ السمِّ في مياهِ المسلمينَ التي يشربونَ، وإلقاؤُه في أطعمتِهم ذريعةٌ للفسادِ يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين.

هذا إحدى أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ؛ لأَنَّ نَوْعًا منها يجبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين كما مَثَّلْنَا له وَدَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وفي الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إِنَّ مِنَ

(1)

سيأتي قريبًا.

ص: 89

الْعُقُوقِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وهل يشتمُ الرجلُ وَالِدَيْهِ؟ قال: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»

(1)

، هذا الحديثُ الصحيحُ سَمَّى [به] النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(2)

ذريعةَ السبِّ: (سَبًّا) وهو كالآيةِ يدلُّ على أن ذريعةَ الحرامِ حَرَامٌ.

النوعُ الثاني من أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ: نوعٌ لَا يَجِبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين، فهو ذريعةٌ يَجِبُ إهدارُها وإلغاؤُها، ولا يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين. وهذا النوعُ من الذرائعِ نَوْعَانِ:

أحدُهما: أن يكونَ الفسادُ بَعِيدًا فيه، والمصلحةُ أرجحَ من الفسادِ فيه. ومثالُ هذا النوعِ: غَرْسُ شجرِ العنبِ. فَإِنَّ غرسَ شجرِ العنبِ ذريعةٌ إلى عصرِ الخمرِ التي هي أُمُّ الخبائثِ، قَبَّحَهَا اللَّهُ، وَقَبَّحَ شَارِبَهَا، إلا أن الذين يعصرونَ الخمرَ من المجتمعِ ويشربونَه قِلَّةٌ في أقطارِ الدنيا، فمنفعةُ انتشارِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا مصلحةٌ عُظْمَى أُلْغِيَ من أجلِ هذه المصلحةِ المفسدةُ التي قد تكونُ من شجرِ العنبِ بعصرِ الخمرِ منه؛ لأَنَّ الذي يَعْصِرُهَا أفرادٌ قليلونَ ويشربونها، ولو ضَاعَتْ عقولُهم بسببِ شُرْبِهَا فمصلحةُ العالمِ الْعَامَّةُ بوجودِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا أعظمُ من هذه المفسدةِ الجزئيةِ، فأُلْغِيَتْ هذه الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ.

(1)

البخاري، كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، حديث رقم (5973)، (10/ 403)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها. حديث رقم (90)، (1/ 92)، وصدر الحديث عند البخاري:«إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ» . وعند مسلم: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» .

(2)

في الأصل: «سمى النبي صلى الله عليه - به - وسلم سمى

». وهو سبق لسان.

ص: 90

ومن هذا النوعِ: إجماعُ العلماءِ من زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى اليومِ في أقطارِ الدنيا أنه يجوزُ في البلدِ الواحدِ أن يكونَ - يَسْكُنُ - فيه الرجالُ والنساءُ. في هذا البيتِ رجالٌ ونساء، وفي هذا رجالٌ ونساءٌ، مع هذا بناتُه وأزواجُه وأخواتُه وهكذا، مع أن اجتماعَ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ قد يكونُ ذريعةً للزنى - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منه - من بعضِ الأفرادِ؛ لأنه قد يشيرُ إليها من غرفةٍ أو سَطْحٍ كما هو معروفٌ، وكما قال نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ

(1)

:

لَيْتَنِي فِي الْمُؤَذِّنِينَ نَهَارًا

إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِ

فَيُشِيرُونَ أَوْ يُشَارُ إِلَيْهِمُ

حَبَّذَا كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيْحِ

أو تُلْقِيَ إليه ورقةً، أو يلقيها إليها في موعدٍ يجتمعانِ فيه على القبيحِ الخسيسِ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَفْعَلُهُ، فاجتماعُ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ لا شَكَّ أنه ذريعةٌ لِفِعْلِ بعضِ الفواحشِ، ولم يَقُلْ أحدٌ من المسلمين بِسَدِّ هذه الذريعةِ، فَلَمْ يَقُلْ أحدٌ من العلماءِ: إنه يجبُ أن يُجْعَلَ جميعُ النساءِ في البلدِ على حِدَةٍ، ويُجعل عليهن حِصْنٌ من حديدٍ قَوِيٍّ، وأن يكونَ البابُ قَوِيًّا من حديدٍ، والمفتاحُ عِنْدَ رَجُلٍ تَقِيٍّ وَرِعٍ مأمونٍ ذي شيبةٍ وذي أزواجٍ، لم يقل أحدٌ هذا من الناسِ!! لأن وقوعَ الفاحشةِ ولو وَقَعَتْ من بعضِ الأخساءِ أمرٌ نادرٌ بالنسبةِ إلى مصالحِ المجتمعِ، ومعاونةُ الرجالِ والنساءِ على المجتمعِ الإنسانيِّ في مَصَالِحِهِ الدنيويةِ والأخرويةِ، فهذه الذريعةُ أُلْغِيَتْ لِعِظَمِ هذه المفسدةِ.

(1)

هذان البيتان يُنسبان للسري بن عبد الرحمن الأنصاري. كما في الأغاني (20/ 164).

ص: 91

والحاصلُ أن المفسدةَ إذا عَارَضَتْهَا مصلحةٌ فلذلك ثلاثُ حالاتٍ:

إما أن تكونَ المصلحةُ أعظمَ وأرجحَ، والمفسدةُ أَقَلَّ وهي مَرْجُوحَةٌ.

وإما أن تكونَ المفسدةُ أعظمَ.

وإما أَنْ يَسْتَوِيَا.

فإن كانت المصلحةُ أعظمَ - كما مَثَّلْنَا - أُلْغِيَتِ الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ.

وإن كانت المفسدةُ أعظمَ أَوِ اسْتَوَيَا فإنه يجبُ سَدُّ الذريعةِ فيهما.

ومثالُهما معًا: ما لو كان من المسلمين أُسَارَى عند الكفارِ في الجهادِ مع الكفارِ، فَأَسَرَ الْعَدُوُّ من الكفارِ أَسْرَى من المسلمين، وَطَلَبَ إمامُ المسلمين فداءَ الأَسْرَى المسلمين من أيدِي الكفارِ، فقال الكفارُ: لا نَقْبَلُ فداءَهم إلا بسلاحٍ، وكان هذا السلاحُ يُقْدِرُهُمْ على الفتكِ بالمسلمين، فإن كان بقدرِ الظنِّ والتخمينِ أنهم يقتلونَ من المسلمين بذلك السلاحِ قدرَ الأُسَارَى أو أكثرَ منهم، فمصلحةُ فداءِ الأُسَارَى تُعَارِضُهَا مفسدةُ قتلِ عددِهم من المسلمين أو أكثرَ، فيجبُ سَدُّ هذه الذريعةِ، ولَا يُفْدَى أولئك الأُسَارَى.

أما إذا كان السلاحُ لا يَقْدِرُ به الكفارُ على أن يقتلوا المسلمين، فإن هذه المفسدةَ تكونُ مرجوحةً، ويجوزُ فداؤُهم. هذانِ نوعانِ من أنواعِ سَدِّ الذرائعِ، الأولُ مُجْمَعٌ على سَدِّهِ، والثاني مُجْمَعٌ على

ص: 92

[عدمِ]

(1)

سَدِّهِ، وَهُمَا طَرَفَانِ وواسطةٌ، طرفٌ من الذرائعِ يجبُ سَدُّهُ إِجْمَاعًا، مَثَّلْنَا له بِسَبِّ الأصنامِ إن كان عَبَدَتُهَا يَسُبُّونَ اللَّهَ، وكحفرِ الآبارِ في طرقِ المسلمينَ، وإلقاءِ السمِّ في مشاربِهم وَمَآكِلِهِمْ. هذا النوعُ يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، ونوعٌ لا يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما مَثَّلْنَا له بغرسِ شجرِ العنبِ، وَمُسَاكَنَةِ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ. وواسطة هي مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

ومثالُ هذه الواسطةِ التي هي مَحَلُّ الخلافِ بينَ العلماءِ: البيوعُ المعروفةُ بالفقهِ المالكيِّ ببيوعِ الآجالِ التي يُسَمِّيهَا الحنابلةُ والشافعيةُ: بيوعِ الْعِينَةِ، فهذه ذريعةٌ لِمُحَرَّمٍ، والعلماءُ مُخْتَلِفُونَ فيها، كما لو بَاعَ إِنْسَانٌ سلعةً إلى أَجَلٍ معينٍ بعشرةِ دراهمَ مثلاً، ثم اشْتَرَاهَا بثمنٍ أكثرَ لأبعدَ من الأولِ، أو بثمنٍ أقلَّ من الثمنِ الأولِ بدونِ الأَجَلِ، فإن ظاهرَ هاتين الْبَيْعَتَيْنِ أن كلاًّ منهما بيعةٌ لسلعةٍ بثمنٍ إلى أَجَلٍ، وهي في ظاهرِها جائزةٌ، إلا أنها يمكنُ أن تكونَ ذريعةً إلى رِبًا مُحَرَّمٍ؛ لأن السلعةَ الخارجةَ من اليدِ، العائدةَ إليها مُلْغَاةٌ، فَيَؤُولُ الأمرُ إلى أنه أخذَ أولاً خمسةَ دراهمَ، ثم أَخَذَ عنها في الأجلِ الثاني عشرةَ دراهمَ، وأَخْذُ عشرةٍ مؤجلةٍ بدلَ خمسةٍ هُوَ رِبَا الجاهليةِ بِعَيْنِهِ.

فهذه الذريعةُ الْوُسْطَى ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى وجوبِ سَدِّهَا، وهو مذهبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 93

وَخَالَفَ في هذا النوعِ من الذرائعِ الإمامُ الشافعيُّ، وزيدُ بنُ أرقمَ رضي الله عنه

(1)

.

قال الإمامُ الشافعيُّ: هما بَيْعَتَانِ، كُلُّ واحدةٍ منهما بيعُ سلعةٍ بثمنٍ معلومٍ، إلى أَجَلٍ معلومٍ، وهذا لا شيءَ فيه.

وقد قالت أُمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها لامرأةِ زيدِ بنِ أرقمَ: قُولِي لزيدٍ: إِنْ لَمْ يَرْجِعْ عن هذا فإنه يَبْطُلُ جهادُه مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ومرادُ عائشةَ رضي الله عنها: أن هذا النوعَ من الذريعةِ ذريعةٌ لِلرِّبَا؛ لأن السلعةَ الخارجةَ من اليدِ العائدةَ إليها مُلْغَاةٌ، فَيَؤُلُ الأمرُ إلى أنه عندَ الأجلِ الأولِ دَفَعَ خمسةَ دراهمَ مثلاً، وأخَذَ عِنْدَ الأجلِ الثاني عشرةَ دراهمَ، وهذا رِبَا الجاهليةِ، وإنما قالت عائشةُ لامرأةِ زَيْدٍ: إنه إن لَمْ يرجع عن هذا أَبْطَلَ جِهَادَهُ؛ لأن هذا

(1)

للوقوف على مذاهب العلماء في هذه المسألة انظر: الأم للشافعي (3/ 78)، الاستذكار لابن عبد البر (19/ 247)، المحلى (9/ 47)، الشرح الكبير (مطبوع مع المغني)(4/ 45)، إعلام الموقعين (3/ 165 - 169)، تهذيب سنن أبي داود (5/ 99 - 108)، نيل الأوطار (5/ 206).

(2)

أخرجه عبد الرازق (8/ 184 - 185)، وابن الجعد في مسنده (1/ 377) وأحمد وسعيد بن منصور (كما في نصب الراية (4/ 15)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 - 331).

وقد أعله الدارقطني (3/ 52)، وابن حزم في المحلى (9/ 49)، والشوكاني في النيل (5/ 206)، وهو ظاهر كلام الشافعي في الأم (3/ 78).

وقد جَوَّده ابن القيم كما في تهذيب السنن (5/ 100)، وقال في إعلام الموقعين (3/ 167):«رواه الإمام أحمد وعمل به. وهذا حديث فيه شعبة - يعني ابن الحجاج - وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه» ا. هـ.

ص: 94

رِبًا، وَآكِلُ الرِّبَا محاربُ اللَّهِ؛ لأَنَّ أكلَ الربا هو محاربةُ اللَّهِ، ومن أعظمِ الدَّوَاعِي للغَلَبَةِ في الجهادِ أَكْلُ الرِّبَا؛ لأَنَّ آكِلَ الربا محاربُ اللَّهِ، ومحاربُ اللَّهِ لا يُفْلِحُ ولا ينجحُ، وَاللَّهُ يقولُ في مُحْكَمِ كتابِه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: الآيتانِ 278 - 279] فلما كان آكِلُ الرِّبَا حَرْبًا لِلَّهِ ولرسولِه، لا يمكنُ أن يكونَ مُجَاهِدًا من حزبِ اللَّهِ ورسولِه؛ لأن الضِّدَّيْنِ لَا يجتمعانِ. وهذا هو مرادُ عائشةَ رضي الله عنها؛ لأنه إن لم يَرْجِعْ عن هذا أَبْطَلَ جِهَادَهُ.

وهذا معنَى قولِه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108] في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو أن لفظَ {الَّذِينَ} ولفظَ {يَدْعُونَ} مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ، ومعبوداتُهُمْ أصنامٌ وحجارةٌ لَا تعقلُ، فكيف يُعَبَّرُ عنها بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} التي هي صفةُ العقلاءِ الذكورِ؟

والجوابُ عن هذا: أن القاعدةَ المقررةَ في علمِ العربيةِ أَنَّ كُلَّ شيءٍ غيرِ عاقلٍ إذا نَزَّلَهُ بعضُ الناسِ منزلةَ العاقلِ، أو وَصَفَهُ ببعضِ صفاتِ العاقلِ أنه يُجْرَى مَجْرَى العاقلِ

(1)

؛ ولذا قال تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} [يوسف: آية 4]، فجاءَ بـ {سَاجِدِينَ} الذي هو جمعُ مذكرٍ سالمٍ يختصُّ بالعقلاءِ، للكواكبِ والشمسِ والقمرِ؛ لأنه وَصَفَهُمْ بالسجودِ، والسجودُ مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ؛ ولهذا المعنَى قال تعالى عن السماواتِ والأرضِ:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: آية 11] لأَنَّ السماواتِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة.

ص: 95

سَبْعٌ والأرضين سَبْعٌ، فصارت أربعةَ عشرةَ جُزْءًا؛ وَلِذَا قال:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} لأنه لَمَّا أَمَرَهَا وَخَاطَبَتْهُ صَارَتْ متصفةً بصفاتِ العقلاءِ. وهذا أَمْرٌ عَامٌّ معروفٌ، ومن شواهدِه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ في هذا المقامِ

(1)

:

إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا

وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا

تَرَى مِنَّا الأُيُورَ إِذَا رَأَوْهَا

قِيَامًا رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَا

(2)

فَوَصْفُ «سَاجِدِينَ» و «رَاكِعِينَ» وصَفَ بها ذلك الجزءَ من الإنسانِ الذي لا يعقلُ لَمَّا وصفَه بصفةِ العاقلِ، وهذا أسلوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، والكفارُ وَصَفُوا الأصنامَ بصفاتِ العاقلِ حيث قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: آية 3]{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: آية 18] فلما وَصَفُوهُمْ هذه الصفاتِ أُجْرِيَ عليهم ذلك اللفظُ وإن كانوا في الحقيقةِ أخسَّ شيءٍ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108].

ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: آية 108] كما زَيَّنَّا لهؤلاءِ الكفرةِ الكفرَ. وهذا التزيينُ معناه - والعياذُ بالله -: صَرْفُ قُدَرِهِمْ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ عليهم به الكتابُ الأَزَلِيُّ - كما كنَّا نُبَيِّنُ - لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأممِ عملَهم؛ إِنْ خَيْرًا فخيرٌ وإن شَرًّا فَشَرٌّ.

(1)

البيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (2/ 432)، تأويل مشكل القرآن ص 213 أوضح المسالك (2/ 58).

(2)

هذا البيت ليس من القصيدة، وإنما هو لبعض المُجَّان. والبيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (2/ 432)، مشكل غريب القرآن لابن قتيبة ص 213، الدر المصون (3/ 188)، النهاية في غريب الحديث (2/ 237).

ص: 96

ولفظُ (الأمةِ) في قولِه هنا: {لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ، كُلُّهَا لغةٌ صحيحةٌ جَاءَ بِهَا القرآنِ

(1)

:

أُطْلِقَتِ الأَمَةُ على الطائفةِ من الناسِ المتفقةِ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. وهذا أغلبُ استعمالاتِها، ومنه قولُه هنا:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} أَيْ: لِكُلِّ طائفةٍ من الناسِ متفقةٍ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. ومنه بهذا المعنى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: آية 47]{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: آية 213].

الإطلاقُ الثاني في القرآنِ للأُمَّةِ: إطلاقُ الأمةِ على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: آية 120] أي: إِمَامًا مُقْتَدًى به، كما قال اللَّهُ له:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقر ة: آية 124].

المعنى الثالثُ: هو إطلاقُ الأُمَّةِ على الْبُرْهَةِ من الزمنِ، القطعةُ من الدهرِ، والبرهةُ من الزمنِ تُسَمَّى: أمةً، ومنه في القرآنِ:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تَذَكَّرَ بَعْدَ بُرْهَةٍ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنَى قولُه في أولِ هُودٍ:{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: آية 8] أَيْ: إلى قطعةٍ من الزمنِ مُعَيَّنَةٍ.

الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأُمَّةِ على الشريعةِ والدينِ؛ لأَنَّ العربَ تُسَمِّي الأمةَ شريعةً وَدِينًا

(2)

، ومنه بهذا المعنَى قولُه:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 22] أي: على شريعةٍ وملةٍ وَدِينٍ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة.

(2)

لعله سبق لسان؛ إذ الأولى أن يقال: لأن العرب تُسمي الشريعة والدين (أمة). أو يقال: «لأن العرب تُطلق الأمة على الشريعة والدين» . والله أعلم.

ص: 97

ومنه بهذا المعنَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: آية 92] أي: شريعتُكم وطريقتُكم شريعةً واحدةً. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ نابغةِ ذُبْيَانَ

(1)

:

حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً

وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ

يَعْنِي: أن مَنْ كان له دِينٌ لا يُخَالِفُ دينَه، فَيَأْثَمُ وهو طَائِعٌ، هذا لا يمكن.

هذه معانِي (الأُمَّةِ) في القرآنِ؛ وَلِذَا قال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: آية 108] والعملُ هو ما يفعلُه الإنسانُ يُجَازَى عليه بالخيرِ والشرِّ.

وقد دَلَّ استقراءُ الكتابِ والسنةِ على أن العملَ الذي يُجازَى عليه الإنسانُ بالخيرِ والشرِّ أربعةُ أنواعٍ لَا خامسَ لها

(2)

:

الأولُ منها: هو الفعلُ الصريحُ، كالسرقةِ والزِّنَى، والعياذُ بالله.

الثاني منها: القولُ؛ لأَنَّ القولَ فعلُ اللسانِ، وقد سَمَّى اللَّهُ في هذه السورةَ الكريمةَ - سورةَ الأنعامِ - سَمَّى فيها القولَ (فِعْلاً)؛ لأنه فعلُ اللسانِ، وذلك في قولِه:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: آية 112] فَأَطْلَقَ على قولِ اللسانِ (الفعلَ)؛ لأنه فعلُ اللسانِ. هذانِ اثنانِ: القولُ والفعلُ.

الثالثُ من هذه الأشياءِ: إنما هو العزمُ المُصمِّمُ؛ لأن العزمَ المُصَمِّمَ على الشيءِ فِعْلٌ له، يدخلُ صاحبُه به النارِ، وقد ثَبَتَ في

(1)

مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (54) من هذه السورة.

ص: 98

الصحيحين من حديثِ أبي بَكْرَةَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . قالوا: يَا رسولَ اللَّهِ قد عَرَفْنَا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ يعنِي: بأي ذَنْبٍ دخلَ المقتولُ النارَ، وهو لم يَقْتُلْ أحدًا. فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن العملَ الذي دخلَ به النارَ هو عزمُه المُصَمِّمُ على قتلِ أَخِيهِ؛ ولذا قال مُجِيبًا لقولِهم: فما بالُ المقتولِ؟ قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ»

(1)

.

فهذا الحديثُ المتفقُ عليه يُبَيِّنُ أن العزمَ المُصَمِّمَ الذي لم يَمْنَعْ صَاحِبَهُ منه إلا العجزُ عنه أنه فِعْلُ قلبٍ يُؤْخَذُ به صاحبُه، ويدخلُ به النارَ.

ومن هذا النوعِ هَمُّ امرأةِ العزيزِ، أما هَمُّ يوسفَ على القولِ به فهو مَيْلٌ طبيعيٌّ مَزْمُومٌ بالتقوى، فَبَيْنَ هَمِّهِ وهمِّهَا الفرقُ

(2)

.

ومن هذا الهَمِّ الذي لا يُؤَاخَذُ به: ما ثَبَتَ في الحديثِ الصحيحِ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ»

(3)

؛ لأنها خطراتٌ تخطرُ في القلبِ يَزُمُّهَا التقوى.

ومن ذلك النوعِ قولُه تعالى في بَنِي سلمةَ

(1)

تقدم تخريجه عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

(2)

في الفرق بين هَمّ يوسف عليه السلام وهَمّ امرأة العزيز كلام كثير للمفسرين، وأحسنه ما قاله الإمام أحمد رحمه الله:«الهمُّ هَمَّان: همُّ خطرات، وهمُّ إصرار. فيوسف عليه السلام هَمّ همًّا تركه لله فأثيب عليه. وتلك همت همَّ إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب» ا. هـ مجموع الفتاوى (6/ 574 - 575)، وانظر:(10/ 739 - 740)، (15/ 150)، قواعد التفسير (1/ 206 - 207).

(3)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

ص: 99

وبني حارثةَ

(1)

يومَ أُحُدٍ: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} لأن قولَه بعدَه: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: آية 122] يدل على أن ذلك الهَمَّ خَطْرَةُ قلبٍ

(2)

مزمومةٌ بالتقوى لَا تُعَدُّ من الذنوبِ. وكان جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما من بني سلمةَ، - وبنو سلمةَ وبنو حارثةَ هما الطائفتانِ اللتانِ نَزَلَ فيهما قولُه:{إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} - كان جابرٌ يقول: وَاللَّهِ لا أكرهُ أن اللَّهَ قال فِينَا: {هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} لأنه قال بعدَها: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فهذه الأخيرةُ تُدَاوِي الأُولَى

(3)

.

الرابعُ من الأعمالِ: هو التركُ؛ لأن التركَ هو في الحقيقةِ عملٌ يدخلُ صاحبُه به النارَ، ويدخلُ به الجنةَ؛ لأن التركَ فِعْلٌ للنفسِ وَكَفُّهَا وَزَجْرُهَا؛ ولذا الذي تركَ الصلاةَ يُقْتَلُ ويدخلُ النارَ، وهو لم يَفْعَلْ شيئًا إلا أنه تَرَكَ الصلاةَ.

وقد قَدَّمْنَا في سورةِ المائدةِ كلامَ العلماءِ في التركِ هَلْ يُسَمَّى فِعْلاً، أو لَا يُسَمَّى فِعْلاً؟ وَبَيَّنَّا أن التحقيقَ عندَ العلماءِ الذي دَلَّ عليه القرآنُ ولغةُ العربِ: أن التركَ من الأفعالِ، وأنه عملٌ من الأعمالِ يدخلُ صاحبُه به الجنةَ والنارَ

(4)

، وكان ابنُ السُّبْكِيُّ

(5)

يقولُ في بعضِ

(1)

انظر: ابن جرير (7/ 165).

(2)

انظر: فتح الباري (7/ 357).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب:{إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} حديث رقم: (4051)، (7/ 357)، وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم:(4558)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأنصار (رضي الله تعالى عنهم). حديث رقم: (2505)، (4/ 1948).

(4)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

(5)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

ص: 100

كُتُبِهِ في الأصولِ قال: «طالعتُ كتابَ اللَّهِ (جل وعلا) من أولِه إلى آخرِه هَلْ نجدُ فيه آيةً يُفْهَمُ منها أن التركَ فِعْلٌ؟ وقال: مَا وجدتُ آيةً يُفهم منها ذلك إلا آيةً من سورةِ الفرقانِ، وهي قولُه تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: آية 30] لأَنَّ الاتخاذَ معناه: التناولُ. أي: أَخَذُوهُ في حالِ كونِه مَهْجُورًا. قال: يُؤْخَذُ من هذا: أن التركَ فِعْلٌ» ، ونحن نقولُ: إنَّا طَالَعْنَا في كتابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَا في كتابِ اللَّهِ آياتٍ صريحةً - وإن لم يَطَّلِعْ عليها ابنُ السبكي، هي صريحةٌ - في أن التركَ فِعْلٌ، وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك مَرَّتَيْنِ في سورةِ المائدةِ وحدَها، كما بَيَّنَّاهُ في هذه الدروسِ، أحدُ الموضعين من سورةِ المائدةِ الذي دَلَّ القرآنُ الصريحُ فيه على أن التركَ فعلٌ من الأفعالِ، وَعَمَلٌ من الأعمالِ، وَصُنْعٌ من الصنائعِ: هو قولُه تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: آية 63] فَسَمَّى عدمَ أمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكرِ سَمَّاهُ (صُنْعًا). والصُّنْعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ؛ لأنه لا يُطْلَقُ الصُّنعُ إلا على الفعلِ الذي يَتَكَرَّرُ من صانعِه مِرَارًا.

الموضعُ الثاني من الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَ اللَّهُ فيهما أن التركَ فعلٌ: هو قولُه في المائدةِ أيضًا: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: آية 79] فهذا الذي كانوا يفعلونَه، الذي قال اللَّهُ فيه:«بِئْسَ» هو عدمُ تَنَاهِيهِمْ فيما بينَهم عن المنكرِ، فهو صريحٌ في أن عدمَ النهيِ عن المنكرِ فعلٌ مذمومٌ، فهاتانِ الآيتانِ صريحتانِ في أن التركَ فِعْلٌ، وهو كذلك في لغةِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ لَمَّا كانَ الصحابةُ يَبْنُونَ هذا المسجدَ

ص: 101

الكريمَ، عندما جاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَنَى هذا المسجدَ، كان بعضُ الصحابةِ جَالِسًا، والنبيُّ يعملُ معَهم في المسجدِ، فقال ذلك

(1)

:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُ يَعْمَلُ

لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ الْمُضَلَّلُ

فَسَمَّى قعودَهم وتركَهم العملَ سَمَّاهُ: عَمَلاً مُضَلَّلاً. ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»

(2)

فسمَّى تركَ الأذيةِ (إسلامًا)، وذلك يدلُّ على أن تركَ الأذيةِ فِعْلٌ؛ لأن الإسلامَ أَعْمَالٌ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

(2)

وردت هذه الجملة في عدة أحاديث رواها عدد من الصحابة رضي الله عنهم وهم كالآتي:

الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم (2627)، (5/ 17)، والنسائي في الإيمان، باب: صفة المؤمن. حديث رقم (4995)، (8/ 104 - 105).

الثاني: حديث أنس رضي الله عنه عند ابن حبان (الإحسان1/ 364).

الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عند البخاري في الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. حديث رقم (10)، (1/ 53)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (40)، (1/ 65).

الرابع: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (41)، (1/ 65).

الخامس: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عند البخاري في الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل، حديث رقم (11)، (1/ 54)، ومسلم في الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (42)، (1/ 66).

ص: 102

هذه الأشياءُ الأربعةُ هي أنواعُ العملِ، وهي: القولُ والفعلُ والعزمُ المُصَمِّمُ والتركُ، وجميعُها يدخلُ في قولِه:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} .

{مَّرْجِعُهُمْ} هنا: مصدرٌ مِيمِيٌّ، ومعناه: رجوعُهم. والمقررُ في فَنِّ التصريفِ: أن المصدرَ الميميَّ أصلُه (مفْعَل) بفتحِ العينِ، إلا إذا كان من مِثَالٍ. أعني: واويَّ الفاءِ، غيرَ مُعْتَلِّ اللامِ، فالقياسُ أن يقالَ في (المَرْجِعِ) - بمعنَى الرجوعِ - أن يقالَ فيه:(مَرْجَع) لأَنَّ المصدرَ الميميَّ في مثلِ هذا قياسُه: (مَفْعَل) بِفَتْحِ العينِ، إلا إنه كُسِرَ المرجعُ هنا وقيل فيه:(مَفْعِل) سَمَاعًا لا قِيَاسًا، فهو سماعٌ يُحْفَظُ ولَا يُقَاسُ عليه

(1)

، وهو مصدرٌ ميميٌّ بمعنَى (الرجوعِ).

وَقَدَّمَ الجارَّ والمجرورَ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميُّ إِيذَانًا بالحصرِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} لأنه قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعنِي مفهومَ المخالفةِ - أن مِنْ صِيَغِ الحصرِ: تقديمَ المعمولِ على عَامِلِهِ

(2)

؛ فَقَدَّمَ المعمولَ الذي هو الجارُّ والمجرورُ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميّ إيذانًا بالحصرِ.

والمعنَى: رجوعُهم يومَ القيامةِ إلى اللَّهِ وحدَه، فليس هنالكَ معه مَلِكٌ آخَرُ يَرْجِعُ إليه بعضُهم، بل يرجعونَ إليه وحدَه (جل وعلا).

وقولُه: {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} {يُنَبِّئُهُم} مضارعُ

(1)

انظر: ضياء السالك (3/ 46).

(2)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

ص: 103

(فعَّل، ويُفَعِّل) من النبأِ، والنبأُ في لغةِ العربِ: أَخَصُّ من الخبرِ؛ لأَنَّ النبأَ لَا يُطْلَقُ إلا على الإخبارِ بشيءٍ له شأنٌ وَخَطْبٌ، تقول: جَاءَنَا نبأُ الأميرِ، ونُبِّئْنَا بخبرِ الأميرِ والجيشِ، ولا تقولُ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ؛ لأنَّ هذا لا أهميةَ فيه، فتقولُ فيه:(خبرٌ) ولا تقول: (نَبَأٌ)

(1)

.

فمعنَى {يُنَبِّئُهُم} أي: يُخْبِرُهُمْ خَبَرًا عَظِيمًا عندَهم لَهُ خَطْبٌ وشأنٌ عظيمٌ.

{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} (ما) موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، والمعنَى: بالذي كانوا يعملونَه في دارِ الدنيا. وليس المرادُ بهذه التنبئةِ والإخبارِ مجردَ التنبئةِ فقط، لا وَكَلَاّ، بل المرادُ به: الجزاءُ؛ لأَنَّ كُلَّ إنسانٍ يومَ القيامةِ يُخْبِرُ بجميعِ ما عَمِلَ من جهاتٍ متعددةٍ:

أولاً: تشهدُ على الكافرِ جوارحُه، تشهدُ عليه يدُه ورجلُه وجلدُه، كما يأتي في قولِه:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: آية 65] وكقولِه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: آية 22] وكقولِه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: آية 21] وَيُنَبِّئُهُ ويشهدُ عليه المكانُ؛ لأن البقعةَ من الأرضِ الذي عَمِلَ الإنسانُ عليها المعصيةَ تأتي يومَ القيامةِ وتشهدُ عليه عندَ رَبِّهَا، وتقولُ البقعةُ: إن فلانَ بنَ فلانٍ فَعَلَ عَلَيَّ كذا وكذا في ساعةِ كذا، في يومِ كذا، في شهرِ كذا، في سنةِ كذا، كما يَأْتِي في قولِه:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ}

(1)

مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

ص: 104

يعنِي الأرض {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} بِمَا فُعِلَ عليها {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: الآيات 1 - 5] أَمَرَهَا بذلك أن تَشْهَدَ، ومن ذلك وهو الشيءُ العظيمُ: أن كُلَّ إنسانٍ يجدُ جميعَ ما قَدَّمَ من خيرٍ وشرٍّ مكتوبًا في كتابٍ: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: آية 49] ويُقال لِكُلِّ إنسانٍ في ذلك الوقتِ: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: آية 14] وتلك الكتبُ تُعْطَى للناسِ، آخِذٌ كتابَه بِيَمِينِهِ، أو آخذٌ بشمالِه، أو من وراءِ ظهرِه، والعياذُ بالله.

وهذه الآياتُ معناها: اعْلَمْ أيها الإنسانُ أن كُلَّ ما عَمِلْتَ من خيرٍ وَشَرٍّ هو محفوظٌ لكَ مدَّخرٌ عليكَ، إن كان خيرًا فإنما تَنْفَعُ به نفسَك، وإن كان شَرًّا فإنما تَضُرُّ به نَفْسَكَ، فعليكَ أن تجتهدَ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ، ولا تضيعَ الوقتَ؛ لأنه إذا ضاعَ الوقتُ نَدِمَ الإنسانُ حيث لَا ينفعُ الندمُ، فعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن رَبَّنَا يُخْبِرُنَا أن جميعَ ما عَمِلْنَا سنجدُه مَحْفُوظًا لنا أمامَنا على رؤوسِ الأشهادِ، ونُخبر به، وَنُجَازَى به، إِنْ خَيْرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فَشَرٌّ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فلَا يَلُومَنَّ إِلَاّ نَفْسَهُ. فيجبُ على العبدِ المسلمِ في دارِ الدنيا أن يلاحظَ هذا، وأن يخافَ اللَّهَ، ويخشى من أن يَجْعَلَ في صحيفتِه الفضائحَ التي يفتضحُ بها على رؤوسِ الأشهادِ؛ لأن فضيحةَ يومِ القيامةِ ليست كفضيحةِ الدنيا؛ لأَنَّ مَنِ افْتُضِحَ في الدنيا ضَاعَ عِرْضُهُ أمامَ المجتمعِ، وهو صحيحٌ يأكلُ ويشربُ وينامُ وينكحُ ويركبُ!! ولكن مَنْ افْتُضِحَ في الآخرةِ سيُجَرُّ إلى دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - ففضيحةُ الآخرةِ على رؤوسِ الأشهادِ أعظمُ.

وعلى المسلمِ أن يُحاسِبَ في دارِ

ص: 105

الدنيا وينظرَ فيما يقولُ وفيما يعملُ، ولَا يُقَدِّمَ لصحيفتِه إِلَاّ شيئًا يعلمُ أنه يَسُرُّهُ يومَ القيامةِ إذا رَآهُ. هذا على العاقلِ أن يعملَ به ويجتهدَ فيه، مَا دَامَتِ الفرصةُ مُمْكِنَةً، وعلى كُلِّ إنسانٍ أَنْ يعلمَ أنه ليسَ مَتْرُوكًا سُدًى، فَكُلُّ إنسانٍ حركاتُه وسكناتُه في الدنيا بجميعِ جوارحِه وقلبِه، كُلُّ هذه الحركاتِ والسكناتِ مُحْصَاةٌ عليه، وَكُلُّهَا بناءُ مسكنِه الذي إليه مصيرُه النهائيُّ، فَإِنْ كانت حركاتُه وسكناتُه فيما يُرْضِي اللَّهَ وَجَدَ تلك الحركاتِ والسكناتِ، بَنَى بها قُصُورًا في غرفِ الجنةِ مع الحورِ والِولدانِ، ومجاورةِ رَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، في نعيمٍ لا ينفدُ، وَمُلْكٍ لَا يَنْفَدُ:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: آية 20].

وإذا كانت حركاتُه على غيرِ الصراطِ المستقيمِ، فإن تلك الحركاتِ والسكناتِ التي يَسْتَعْمِلُهَا في معصيةِ اللَّهِ، هو يَبْنِي بها مصيرَه النهائيَّ، وهو سجنٌ من سجونِ جهنمَ - والعياذُ بالله -، وقد قَالَ بعضُ العلماءِ: إن الكفرةَ يَدْخُلُونَ منازلَهم في جهنمَ لِضِيقِهَا كما يُدْخَلُ الوتدُ في الحائطِ بالقوةِ

(1)

. وكما سَيَأْتِي في قولِه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: آية 13] فقولُه: {ضَيِّقًا} أي: شديدَ الضيقِ، وكما هو أحدُ التفسيرين في قولِه:{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة الآيتان 8، 9] لأَنَّ بعضَ العلماءِ يقولونَ: «يدخلونَ في أماكنَ منها ضيقةً كما يُدْخَلُ الإنسانُ في العمودِ المنقورِ، فيُدخل في وسطِه والعياذُ بالله

(2)

وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: آية 108].

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (3/ 311).

(2)

انظر: ابن جرير (30/ 295 - 296)، ابن كثير (4/ 548).

ص: 106

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: آية 109] سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ

(1)

: أن كفارَ مكةَ اقْتَرَحُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم اقتراحاتٍ كثيرةً، قَصْدُهُمْ بها التعنتُ، لا طلبَ الحقِّ، قالوا له: أنتَ تزعمُ لنا أن عيسى بنَ مريمَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وأن سليمانَ كان يركبُ الريحَ، وأن صَالِحًا خَرَجَتْ له ناقةٌ عُشَرَاءُ جَوْفَاءُ وبْرَاءُ من صخرةٍ، فأَحْيِ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ ونسألَه عنك، وَائْتِنَا بالملائكةِ لنسألهم: هل أَنْتَ على حَقٍّ؟ واجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وباعِدْ عنا جبالَ مكةَ لِنَزْرَعَ بينها، في تعنتاتٍ كثيرةٍ سيأتي كثيرٌ منها في قولِه

(2)

: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ} يَعْنُونَ: مِنْ ذَهَبٍ: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إَلَاّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: الآيات 90 - 93] هذا من تَعَنُّتَاتِهِمْ، ومنها أنهم قالوا:«اسْأَلْ رَبَّكَ ينزل علينا الملائكةَ»

(3)

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: آية 21].

وَقَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ

(4)

تفسيرَ قولِه: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

(1)

ما سيذكره الشيخ رحمه الله من سبب النزول ورد نحوه عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً كما في ابن جرير (12/ 38 - 39)، أسباب النزول للواحدي ص 222، لباب النقول للسيوطي ص120.

(2)

انظر: أسباب النزول للواحدي ص292، لباب النقول ص 173.

(3)

انظر: ابن جرير (19/ 1) ..

(4)

انظر: أضواء البيان (2/ 184).

ص: 107

مَلَكٌ} [الأنعام: آية 8] وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الاقتراحاتِ، فقالوا له: أَحْيِ لنا قُصيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وَائْتِنَا بالملائكةِ، كما يأتي في قولِه:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كَقُصَيِّ بنِ كلابٍ الذي اقترحوا إحياءَه لِيُكَلِّمُوهُ {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي: ولو جِئْنَاهُمْ بالملائكةِ وجميعِ المخلوقاتِ جماعاتٍ جماعاتٍ ويشهدونَ لكَ {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 111] وَلَمَّا قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وَاللَّهِ لئن جعلَه اللَّهُ لنا ذَهَبًا لَنَتَّبِعَنَّكَ ولنؤمنن بما جئتَ به، فَطَمِعَ قومٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في إيمانِهم، فقالوا له: يا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا لأَجْلِ أن يؤمنوا، فَهَمَّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ اللَّهَ ليجعلَ الصفا ذهبًا، فجاءَه جبريلُ عليه السلام وخيَّره قال: إن شئتَ جعلَه اللَّهُ لهم ذَهَبًا، ولكن إن كفروا بعدَ تلك الآيةِ التي اقترحوها أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ ولم يُنْظِرْهُمْ، وإن شئتَ تركَ عنهم الآياتِ المقترحةَ، وَأَمْهَلَهُمْ ليتوبَ تائبُهم. فاختارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأخيرةَ

(1)

؛

لأن قومًا إذا اقترحوا آيةً عُظْمَى وجاءتهم ولم يؤمنوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، كما يأتي في قولِه:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: آية 19] يعني: فَأَهْلَكُهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ فأنزلَ اللَّهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: آية 109] الإقسامُ معناه: الْحَلِفُ

(2)

. تقول العربُ: «أَقْسَمَ فلانٌ» . إذا حَلَفَ. وأصلُ (القسمِ) الذي هو اليمينُ من (الانقسامِ)؛ لأنه لا يكونُ إلا في طَائِفَتَيْنِ مُنْقَسِمَتَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تُكَذِّبُ الأخرى،

(1)

مضى تخريجه قريبًا ..

(2)

انظر: المفردات للراغب (مادة: قسم) ص 670)، البحر المحيط (4/ 201).

ص: 108

فَيُقْسِمُ أحدُ الطرفين ليقويَ خبرَه ويؤكدَه.

ومعنَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حَلَفُوا بِاللَّهِ قائلين: وَاللَّهِ لئن جَعَلْتَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا لَنُؤْمِنَنَّ بِكَ وَلَنَتَّبِعَنَّكَ.

وقولُه: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} معناه: أقسموا جهدَ أيمانهم، أي: غايةَ ما يمكنُهم من تغليظِ اليمينِ وتوكيدِها، و (جَهْدُ اليمينِ) معناه: بُلُوغُ غايةِ ما يمكنُ من تغليظِها وتوكيدِها

(1)

.

وفي إعرابِ قولِه: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَوْجُهٌ من الإعرابِ

(2)

:

أعربها بعضُ العلماءِ مفعولاً مُطْلَقًا بالمعنَى من: {وَأَقْسَمُوا} أي: فَهِيَ ما نابَ عن المطلقِ، كما تقولُ: ضربَه أشدَّ الضربِ، وسارَ أشدَّ السيرِ، وأقسمَ أشدَّ الإقسامِ.

فمعنَى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَوْكَدُ أقسامِهم وأغلظُها. وعلى هذا فهو مفعولٌ مطلقٌ بالمعنَى، ما نابَ عن المطلقِ من:{وَأَقْسَمُوا} لأَنَّ معنَى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَشَدُّ إقساماتِهم وأغلظُها وَأَوْكَدُهَا.

الوجهُ الثاني مِنْ أَوْجُهِ الإعرابِ: أنه حالٌ. أي: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ في حالِ كونِهم جَاهِدِينَ في تغليظِ أيمانِهم وتوكيدِها. ولَا يُنَافِي هذا أن الحالَ تكونُ نكرةً، وأن المصدرَ المؤولَ بالحالِ هنا مضافٌ إلى معرفةٍ؛ لأَنَّ الحالَ إِنْ عُرِّفَتْ لَفْظًا فهي مُنَكَّرةٌ معنًى، كما قال في الخلاصةِ

(3)

:

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 37)، البحر المحيط (4/ 201)، القرطبي (7/ 62).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 62)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (4/ 305).

(3)

الخلاصة ص 32، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (1/ 469).

ص: 109

والأَيْمَانُ: جمعُ اليمينِ، وَأَوْكَدُ الأيمانِ وأغلظُها هو ما كان بِاللَّهِ، وهم كانوا يحلفونَ بِآلِهَتِهِمْ وأصنامِهم، وإذا أَرَادُوا جهدَ اليمينِ وتوكيدَها وإغلاظَها حَلَفُوا بِاللَّهِ

(1)

.

وقولُه جل وعلا: {لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ} أَيْ: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، أما الآياتُ التي لم يَقْتَرِحُوهَا فقد جاءتهم بكثرةٍ، وأعظمُ الآياتِ: هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه آيةٌ عُظْمَى ومعجزةٌ كُبْرَى باقيةٌ تترددُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولأَجْلِ أنه أعظمُ الآياتِ، وأكبرُ المعجزاتِ، أَنْكَرَ اللَّهُ في سورةِ العنكبوتِ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ به، وطلبَ آيةً غيرَه، حيث قال:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)} ثم قال مُنْكِرًا عليهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: الآيتان 50، 51] فإنكارُه على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بأكبرِ الآياتِ وأعظمِها، وهو هذا القرآنُ العظيمُ دليلٌ على أنه أعظمُ آيةٍ.

والآياتُ التي سَأَلُوهَا وَاقْتَرَحُوهَا، إنما اقْتَرَحُوهَا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا، لَا طَلَبًا للحقِّ؛ ولذا قال جل وعلا:{لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ} هذه صورةُ إقسامِهم حَكَاهَا اللَّهُ من غيرِ حكايةِ لفظِهم؛ لأنه لو حَكَى لفظَهم لقالَ: «لَئِنْ جَاءَتْنَا آيةٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهَا» فَحَكَى القصةَ بالمعنَى لَا باللفظِ. أَقْسَمُوا جَاهِدِينَ قائلين: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، كَأَنْ يجعلَ اللَّهُ لهم الصَّفَا ذَهَبًا، أو يبعثَ لهم قُصَيًّا لِيُكَلِّمَهُمْ، أو يأتيَهم بالملائكةِ، أو يشقَّ عنهم جبالَ مكةَ ويباعدَها ليزرعوا في

(1)

انظر: القرطبي (7/ 62).

ص: 110

متسعٍ من الأرضِ؛ لأنهم يَزْعُمُونَ أن الجبالَ لَا تُمَكِّنُهُمْ من الزراعةِ، كما يأتي في قولِه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: آية 31].

[14/ب] / على حَدِّ قولِه

(1)

:

لَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا

لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ

وَقَالَ بعضُ العلماءِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} لَكَفَرُوا بالرحمنِ؛ لأنهم ما اقترحوا الآياتِ طَلَبًا للحقِّ، وَلَكِنِ اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا؛ ولذا قال هنا:{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} أصلُ الآيةِ في لغةِ العربِ - قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(2)

- أن أصلَ الآيةِ بالميزانِ الصرفيِّ أَنَّ وَزْنَهَا: (فَعَلَة) وأن أصلَها (أَيَيَة) فَاؤُهَا همزةٌ، وعينُها ياءٌ، ولامُها ياءٌ، على وزنِ (فَعَلَة) فكانَ فيها موجبُ الإعلالِ في الْحَرْفَيْنِ، أعنِي: الياءين، والقاعدةُ في التصريفِ: أن الأغلبَ أن يكونَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ، فلو كانت على الأغلبِ لَقِيلَ:(أَيَاه) وكان المبدلُ (أَلِفًا): (الياء) الأخرى، ولكنه هنا وقعَ الإعلالُ في الياءِ الأُولَى، فأُبْدِلَتْ (ألفًا)، وهذا يوجدُ في كلامِ العربِ، وجاء به القرآنُ، هذا أصلُها في الميزانِ الصرفيِّ.

وهي في لغةِ العربِ

(3)

: الآيةُ تُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ، وفي القرآنِ العظيمِ تُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ، أما أشهرُ معانِي الآيةِ في لغةِ العربِ: فهو

(1)

البيت في ديوان الحماسة (1/ 215).

(2)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 111

العلامةُ، العربُ يقولون:«آيةُ كذا» . معناه: علامةُ كذا، ومنه قولُه تعالى:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ مُلْكِهِ، وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ جاهليٌّ - جاء فيه تفسيرُ الآيةِ بالعلامةِ، حيث قال

(1)

:

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا

لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مرادَه بالآياتِ: علاماتُ الدارِ، وآثارُ رسومِها حيث قال مُفَسِّرًا للآياتِ

(2)

:

رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ

وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلمُ خَاشِعُ

فَأَشْهَرُ مَعْنَيَيِ الآيةِ في اللغةِ: العلامةُ، وقد تُطْلَقُ الآيةُ في لغةِ العربِ على الجماعةِ، يقولونَ:«جَاءَ القومُ بِآيَتِهِمْ» أي: بِجَمَاعَتِهِمْ، ومنه بهذا المعنَى قَوْلُ بُرج بن مُسْهِرٍ

(3)

:

خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلَنَا

بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا

أي: بِجَمَاعَتِنَا.

هذانِ المعنيانِ للآيةِ في لغةِ العربِ: الآيةُ بمعنَى (العلامةِ)، الآية بمعنى (الجماعةِ).

والآيةُ تُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ إطلاقين

(4)

: تطلقُ مُرَادًا بها الآيةُ الكونيةُ القدريةُ. والكونيةُ القدريةُ من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) لغةً قولاً

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

(4)

السابق.

ص: 112

واحدًا، كقولِه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: آية 190] أي: لعلاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن خالقَ هذا الكونِ قادرٌ على كُلِّ شَيْءٍ، وأنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، فهذه الآيةُ الكونيةُ القدريةُ في القرآنِ من معنَى الآيةِ بمعنَى العلامةِ في لغةِ العربِ.

الإطلاقُ الثاني للآيةِ في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كقولِه:{رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] وهذه هي الآياتُ الشرعيةُ الدينيةُ كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ. وهذه من الآيةِ أيضًا بمعنَى العلامةِ؛ لأَنَّهَا علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بِهَا؛ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الإعجازِ، أو بأن لها علاماتٍ تُعْرَفُ بها مبادئُها ومقاطعُها.

وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إن الآيةَ بالمعنَى الشرعيِّ الدينيِّ بمعنَى الجماعةِ؛ لأنها جماعةٌ من كلامِ القرآنِ وحروفِه اشْتَمَلَتْ على بعضٍ مِمَّا تَضَمَّنَهُ القرآنُ

(1)

.

إذا عَرَفْتُمْ هذا فالآيةُ في الآيةِ التي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} هي الآيةُ الكونيةُ القدريةُ، الدالةُ على صدقِ مَنْ جاء بها. أي: علامةٌ خارقةٌ للعادةِ أنكَ رسولٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ (جل وعلا)، كأن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا، وكأن يُحْيِيَ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وما جرى مَجْرَى ذلك.

وهذا معنَى قولِه: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} اللامُ الأُولَى

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

ص: 113

موطئةٌ للقسمِ، واللامُ في قولِه:{لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} جوابٌ للقسمِ؛ لأَنَّ القسمَ قبلَ الشرطِ، والقاعدةُ المقررةُ في علمِ العربيةِ: أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ فالجزاءُ للسابقِ منهما

(1)

. والسابقُ هنا: القَسَمُ. يعنِي: لئن جَاءَتْهُمْ آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا عليكَ ليؤمنن بها، ويصدقونَ بأنها مِنَ اللَّهِ، وأنها معجزةٌ دالةٌ على أنكَ نَبِيٌّ حَقًّا. فَأَمرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَمْرَيْنِ:

أحدُهما: أن يقولَ لهم: إن الآياتِ عند الله، هو الذي يأتِي بها إن شاء، كما قال جل وعلا:{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: آية 4].

الأَمْرُ الثاني: أنه يقولُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} فمعنَى قولِه: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: الآيات التي اقْتَرَحْتُمُوهَا عندَ اللَّهِ وبيدِه، إن شاءَ أَنْزَلَهَا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا، إنما أنا نذيرٌ، وقد جِئْتُكُمْ به من المعجزاتِ ما يُوَضِّحُ الحقَّ، وَيَقْطَعُ الشُّبَهَ، ويثبت لكم ثبوتًا ضروريًّا أني نَبِيٌّ كَرِيمٌ. أما التعنتاتُ والآياتُ المقترحاتُ فهي عندَ اللَّهِ، إن شاءَ أَنْزَلَهَا عليكم فَأَهْلَكَكُمْ إن لم تؤمنوا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا عليكم.

وقولُه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} الإشعارُ في لغةِ العربِ: الإعلامُ

(2)

، أي: ما يُعْلِمُكُمْ وَمَا يُدْرِيكُمْ.

وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا البصريَّ أبا عمرٍو: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} بِضَمِّ الراءِ، وَمَنْ يُرَقِّقُ - كَوَرْشٍ - يُرَقِّقُ، ومن يُفَخِّمُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: القرطبي (7/ 64)، القاموس (مادة: شعر) ص533.

ص: 114

يُفَخِّمُ. وقرأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو في روايةِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ: {وَمَا يُشْعِرْكُمْ} بسكونِ الراءِ وَرَوَى عنه الدُّورِيُّ: ضَمَّ الراءِ مُخْتَلَسَةً. هذه قراءةُ أَبِي عمرٍو

(1)

، أما الاختلاسُ فهو للتخفيفِ قَوْلاً وَاحِدًا، وأما إسكانُ الراءِ في قراءةِ أبي عمرٍو هذه {وَمَا يُشْعِرْكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} فهو على إسكانِه الراءَ. فالراءُ مُرَقَّقَةٌ؛ لأَنَّ الراءَ الساكنةَ بعد كسرةٍ مُرَقَّقَةٍ بإجماعِ القراءِ وإجماعِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، إلا إذا جاء بعدَها حرفُ استعلاءٍ كما هو مَعْرُوفٌ.

لطالبِ العلمِ أن يقولَ: ما وجهُ قراءةِ أبِي عمرٍو هذه وجَزْمُ مضارعٍ من غيرِ جازمٍ، وأصلُ المضارعِ إذا لم يَدْخُلْ عليه جازمٌ أو ناصبٌ فحكمةُ الرفعِ كما هو معروفٌ؟

والجوابُ عن هذا: أن إسكانَ بعضِ الحروفِ المحركةِ للتخفيفِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، جاء ذلك في القرآنِ وفي لغةِ العربِ في حرفِ الإعرابِ، وفي غيرِ حرفِ الإعرابِ

(2)

، ومثالُه في حرفِ الإعرابِ قولُه هنا:{وما يشعرْكم} الأصلُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} كقراءةِ الجمهورِ، إلا أن الراءَ سُكِّنَتْ للتخفيفِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ امْرِئِ القيسِ

(3)

:

فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبْ

إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ

(1)

انظر: السبعة لابن مجاهد ص265، الكشف المكي (1/ 240 - 242)، إتحاف فضلاء البشر (2/ 26)، البحر المحيط (4/ 201).

(2)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 115

فَسُكِّنَ المضارعُ تَخْفِيفًا، وكذلك قد تُسَكِّنُ العربُ حَرْفًا مُتَحَرِّكًا غيرَ حرفِ الإعرابِ تَخْفِيفًا، وعليه قراءةُ حمزةَ

(1)

: {أَرْنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: آية 128] وقراءةُ حفصٍ

(2)

: {ويخشى الله وَيَتَّقْه فأولئك هم الفائزون} [النور: آية 52] لأن، «أَرْنَا» أصلُه (أَرِنَا) سُكِّنَ في قراءةِ حمزةَ تَخْفِيفًا، وكذلك في لسانِ العربِ، كقولِ الشاعرِ

(3)

:

أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا

مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا

وكذلك قراءةُ حفصٍ عَنْ عَاصِمٍ: {ويخشى الله ويَتَّقْه} بِسُكُونِ القافِ؛ لأن أصلَها (ويتَّقِه) والقافُ متحركةٌ، سُكِّنَتْ للتخفيفِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعْهُ

وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِ

وقولُ الراجزِ

(5)

:

قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا

وَهَاتِ خُبْزَ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقَا

هذا توجيهُ قراءةِ أَبِي عمرٍو: {وما يُشْعِرْكُم} .

وفي قولِه: {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} قراءتانِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. ونِسْبَة هذه القراءة لحمزة وَهْم، وإنما قرأ بها ابن كثير من السبعة، وأما حمزة فقرأها بالكسر. انظر: السبعة لابن مجاهد ص170، المبسوط لابن مهران ص136.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

(5)

السابق.

ص: 116

سبعيتانِ

(1)

: قَرَأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ في روايةِ: {وما يشعركم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسرِ {إِنَّها} وياءِ الغيبةِ فِي {يؤمنون} : {وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} قراءة أَبِي عمرٍو: {وما يُشعِرْكم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: {وما يُشعِرُكُم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} فاتفقَ ابنُ كثيرٍ وَأَبُو عمرٍو وشعبةُ عن عاصمٍ - في روايةٍ - على كسرِ {إِنَّها} وياءِ الغَيبةِ في قولِه: {يؤمنون} .

وقراءةُ أَبِي عمرٍو هذه وابنِ كثيرٍ وروايةِ شعبةَ هي أوضحُ القراءاتِ

(2)

، واضحةٌ لَا إشكالَ في الآيةِ عليها، فمتعلقُ الإشعارِ محذوفٌ

(3)

، والمعنَى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ما يُدْرِيكُمْ ماذَا يكونُ.

ثُمَّ بَيَّنَ بخبرٍ مؤكدٍ: {إِنَّها إذا جاءت} {إنَّها} أي: الآيةُ المقترحةُ إذا جاءتهم لا يؤمنون. كما قال: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَاّ يُؤْمِنُوا بِهَا} وكما قال جل وعلا: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)} [الحجر: آية 15] وكقولِه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 111] ونحو ذلك من الآياتِ فقراءةُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو وَشُعْبَةَ - في روايةٍ - لا إشكال في الآيةِ عليها، قراءة أبي عمرٍو: {وَمَا يُشْعِرْكُمْ

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص200، النشر (2/ 261).

(2)

في توجيه هذه القراءات انظر: الموضح لابن أبي مريم (1/ 492)، حجة القراءات ص265، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 101).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 201).

ص: 117

إِنها إذا جاءت لا يؤمنون} وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ - في روايةٍ - {وَمَا يُشْعِرُكم إنها إذا جاءت لا يؤمنون} وهذه أوضحُ القراءاتِ وأظهرُها معنًى. والمعنَى: ما يشعركم، وما يدريكم عن حقيقةِ الأمرِ الذي سيكونُ لو جاءت الآيةُ المقترحةُ؟ ثم بَيَّنَ بخبرٍ بَاتٍّ أنها إذا جاءت لَنْ يؤمنوا؛ ولذا قال:{إنَّها إذا جاءت} أي: الآيةُ المقترحةُ: {لَا يُؤْمِنُونَ} لأنهم مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ كَفَرَةٌ.

وقرأ هذا الحرفَ نافعٌ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ، وشعبةُ عن عاصمٍ - في الروايةِ الأُخْرَى - {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} بفتحِ همزةِ:{أَنَّهَا} وياء الغيبةِ في قولِه: {لَا يُؤْمِنُونَ} .

وقرأ هذا الحرفَ ابنُ عامرٍ وحمزةُ: {وَمَا يُشْعِرُكم أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون} بفتحِ همزةِ: {أَنَّهَا} وتاءِ الخطابِ في قولِه: {تؤمنون} فهي ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات، وما عَدَاهَا شَاذٌّ:{إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} {أَنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} {أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون} .

أما كسرُ الهمزةِ مع تاءِ الخطابِ في {تؤمنون} فَلَمْ يأتِ في قراءةٍ سبعيةٍ وإن ذَكَرَهُ بعضُ القراءِ عن شعبةَ - أبي بكر - من روايةِ الأعشى

(1)

، فهو لم يَثْبُتْ عن عاصمٍ في طريقِ شعبةَ.

أما على القراءةِ التي قَدَّمْنَا فمعنَى الآيةِ واضحٌ لا إشكالَ فيه كَمَا بَيَّنَّا.

(1)

انظر: المحتسب (1/ 227)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 109).

ص: 118

وأما على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} ففي الآيةِ إشكالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المتبادرُ إلى الأذهانِ أن المعنَى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنونَ حتى ترغبوا في إيمانِهم، وتسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فـ (لا) في هذا المقامِ كأن المتبادرَ منها أن (لا) النافيةَ هنا تَقْلِبُ المعنَى، وأن الأصلَ: وما يدريكم أنها إذا جاءتهم يؤمنونَ، حتى تطلبوا النبيَّ أن يسألَها.

والجوابُ عن هذا الإشكالِ من أَوْجُهٍ متعددةٍ معروفةٍ عندَ العلماءِ

(1)

:

أحدُها: أن الآيةَ لَا إشكالَ فيها، والمعنَى: اللَّهُ (جل وعلا) عَلِمَ في سابقِ أَزَلِهِ أنهم لو جَاءَتْهُمُ الآياتُ لا يؤمنون، كما دَلَّتْ عليه قراءةُ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ التي بَيَّنَّاهَا الآنَ {إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون} يعني: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ لو جَاءَتْهُمْ؛ لأنه يعلمُ عواقبَ الأمورِ وما تَؤُولُ إليه، وأنتم حيث إنكم بشرٌ لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ. والمعنَى: ما يدريكم، ما يشعركم أنها إذا جاءت لَا يؤمنون؟ يعني: أنا الذي أعلمُ أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ، ولذلك طَمِعْتُمْ في إيمانِهم، فَسَأَلْتُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ اللَّهَ أن يأتيَهم بالآيةِ المقترحةِ!! وهذا الوجهُ من التفسيرِ واضحٌ لَا إشكالَ فيه، واختارَه أبو حيانَ في البحرِ

(2)

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 39 - 43)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 102).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 201).

ص: 119

والزمخشريُّ في كَشَّافِهِ

(1)

، وهو أيضًا واضحٌ لَا إشكالَ فيه، وعليه فالمعنَى: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ، وأنتم أيها البشرُ ما يدريكم بما عَلِمَ اللَّهُ به من غَيْبِهِ قبلَ أن يقعَ. والمعنَى: لا تعلمونَ أنهم لَا يؤمنونَ، ولو كُنْتُمْ تعلمونَ أنهم لا يؤمنونَ لَمَا قلتُم للنبيِّ: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصفا ذَهَبًا، طَمَعًا في إيمانِهم. هذا وجهٌ أيضًا لا إشكالَ فيه على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ، وشعبةَ عنه في روايةٍ.

وكان بعضُ العلماءِ يقول

(2)

: (لا) هُنَا صِلَةٌ.

ومعنَى قولِهم «صِلَةً» أن يَتَأَدَّبُوا عن لفظِ (زائدة)

(3)

وَذَكَرَ كثيرٌ من علماءِ العربيةِ أن لفظةَ «لا» قد تُزَادُ في الكلامِ مقصودًا بها توكيدُ الإيجابِ

(4)

، وهي من الأمورِ العكسيةِ؛ لأَنَّ أصلَها النفيُ، وهي ربما أُكِّدَ بها الإيجابُ، كما في قولِه:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: آية 1] فـ (لا) هنا ليست نافيةً؛ لأن اللَّهَ أَقْسَمَ بذلك البلدِ في قولِه: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: آية 3] وقالوا: إن (لا) قد تَأْتِي في الكلامِ صِلَةً مُؤَكِّدةً للثبوتِ، وأن هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُه:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء:

(1)

انظر: الكشاف (2/ 34).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 41)، الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 65)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 104).

(3)

انظر: البرهان للزركشي (1/ 305)، (3/ 70)، قواعد التفسير (1/ 350).

(4)

انظر: البحر المحيط (8/ 213)، البرهان للزركشي (3/ 78 - 82)، فتح القدير (5/ 159)، الدر المصون (10/ 220)، رصف المباني ص 273، دفع إيهام الاضطراب ص 321.

ص: 120

آية 95] على أحدِ الوجهين

(1)

، ومنه قولُه عندَهم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] أي: والسيئةُ، ومنه قولُه عندَهم:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] قالوا: الأصلُ: فَوَرَبِّكَ لَا يؤمنونَ حتى يحكموكَ فيما شَجَرَ بينهم. قالوا: ومنه قولُه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: آية 12] قالوا: (لا) هنا صِلَةٌ، بدليل قولِه في (ص):{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75] بحذفِ (لا).

وكان الفراءُ يقولُ

(2)

: إن حذفَ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ - أي النفي - هو معروفٌ مطردٌ في كلامِ العربِ، وأن حذفَها في الكلامِ الذي ليس فيه معنَى الجحدِ ليس مَعْرُوفًا مشهورًا في كلامِ العربِ.

والحاصلُ أن زيادةَ لفظِ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، - أي: النفي - فهذا مِمَّا لَا خلافَ فيه، كقولِه:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] لأن المنعَ مُشَمٌّ معنَى رائحةِ النفيِ، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أَبِي النَّجْمِ

(3)

:

(1)

انظر: الدر المصون (8/ 198).

(2)

عبارة الفراء: «المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و (أن) في هذا الموضع تصحبها (لا)، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان في أوله جحد .. » ا. هـ معاني القرآن (1/ 374).

(3)

البيت في المحتسب (1/ 181)، الخصائص (2/ 283)، القرطبي (2/ 182)، البحر المحيط (1/ 29)، الدر المصون (1/ 73)، والشمط: الشيب، والقفندر: القبيح.

ص: 121

وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَاّ تَسْخَراَ

لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا

ومنه قولُ الآخَرِ

(1)

:

مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمْ

وَالأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ

الأصلُ: أبو بكر وعمرُ. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، والتحقيقُ: أن زيادةَ (لا) لتوكيدِ الكلامِ المُثْبَتِ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مسموعٌ كثيرًا في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، وربما جاء في الكلامِ المُثْبَتِ الذي ليسَ فيه معنَى الجحدِ، ومن شواهدِه فيه قولُ ساعدةَ بنِ جؤيةَ الهذليِّ

(2)

:

أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ

غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرامٌ مُثْقَبُ

الأصلُ: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ. و (لا) زائدةٌ، والكلامُ مُثْبَتٌ لا نفيَ فيه، ومنه قولُ الآخَرِ، (قالوا عن ابنِ عباسٍ إنه أنشده)

(3)

:

تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ

وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ

قالوا معناه: كادَ يتقطعُ. هذانِ وجهانِ في الآيةِ.

الوجهُ الثالثُ: وقالَ به سيبويه

(4)

، واختارَه المفسرُ الكبيرُ

(1)

البيت في البحر المحيط (1/ 29)، الدر المصون (1/ 73)، رصف المباني ص 273، وفي جميع هذه المصادر:«فعلهم» بدل «دينهم» و «الطيبان» بدل «الأطيبان» .

(2)

البيت في البحر المحيط (4/ 273)، الدر المصون (5/ 262)، والغاب: نوع من الشجر، والضرام: النار في الحطب.

(3)

البيت في رصف المباني ص274.

(4)

انظر: الكتاب (3/ 123).

ص: 122

ابنُ جريرٍ

(1)

: أن (أن) هنا في هذه الآيةِ معناها (لَعَلَّ) ومعروفٌ في كلامِ العربِ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ: أن (لعل) يقال فيها: (لأَنَّ) ويقال فيها: (أنَّ) كما هو معروفٌ، ففي (لعل) لغاتٍ عديدةٍ، منها:(لأن) ومنها: (أن) كما هو معروفٌ، وسُمِعَ بالإطباقِ عن العربِ:«اذْهَبْ إلى السوقِ أَنَّكَ تشتري لنا شيئًا» . معناه: لَعَلَّكَ تشتري لنا شيئًا. وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُ امرِئِ القيسِ

(2)

:

عُوْجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا

نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خَذَامِ

وقولُه: «لأننا» : لَعَلَّنَا.

قال ابنُ جريرٍ: ومنه قولُ عَدِيِّ بْنِ زيدٍ حيث قال

(3)

:

أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي

إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ

يعني: ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ مَنِيَّتِي. ومنه قولُ الآخَرِ

(4)

:

أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلاً لأَنَّنِي

أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ فَقِيرًا مُخَلَّدَا

(1)

انظر: تفسير ابن جرير (12/ 43)، وانظر: الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 102).

(2)

ديوان امرئ القيس ص156، الكشاف (2/ 34)، البحر المحيط (4/ 202)، مشاهد الإنصاف ص113، (ملحق بالكشاف ج4)، والعَوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمُحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجِدَّة إلى صفة البِلَى، وابن خذام يقال إنه أول من بكى الديار من شعراء العرب.

ويقال له: ابن خدام، وابن خذام، وابن حذام.

(3)

البيت في ابن جرير (12/ 41)، القرطبي (7/ 64).

(4)

البيت في ابن جرير (12/ 42)، القرطبي (7/ 64)، وفيهما: أو بخيلاً. وانظر: تعليق محمود شاكر على ابن جرير (3/ 78)، (12/ 42).

ص: 123

يعني: لَعَلَّنِي. ومنه قولُ أَبِي النجمِ

(1)

:

قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ نَعْمَائِهِ

أَنَّ تُغَذِّي الْقَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ

(أَنَّّ) يعني: لَعَلَّ.

وعلى هذا القولِ فالمعنَى: وما يشعرُكم، وما يدريكم لَعَلَّهَا إذا جاءت لَا يؤمنونَ. قالوا: و (لعل) تأتِي بعدَ (ما يدريك) و (ما يشعرك) وَمِنْ إِتْيَانِهَا بعدَ (ما يدريك){وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: آية 17]{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: آية 63]{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} [عبس: آية 3] فعلَى هذا الوجهِ الذي اختارَه ابنُ كثيرٍ

(2)

وقال به سيبويه

(3)

أن معنَى (أَنَّ) هُنَا: (لَعَلَّ). والمعنَى: وما يشعرُكم ماذا يكونُ، لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ. قالوا: ويؤيدُ هذا المعنَى: ما في مصحفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لأن في مصحفِ أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ»

(4)

ومثلُ هذا كالتفسيرِ؛ لأنه ليس بِقُرْآنٍ.

هذه الأوجهُ الثلاثةُ في قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: آية 109].

(1)

البيت في الكتاب (3/ 116)، ابن جرير (12/ 43)، القرطبي (7/ 64) الدر المصون (5/ 103). وفيها «ادن من لقائه» .

(2)

لعل قوله «ابن كثير» سبق لسان. والمراد: (ابن جرير) كما سبق. ويدل عليه أن ابن كثير لم يرجح هذا القول.

(3)

كما في الكتاب (3/ 123).

(4)

انظر: الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 65)، البحر المحيط (4/ 202)، الدر المصون (5/ 103).

ص: 124

وعلى هذا القولِ فالخطابُ بقولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين

(1)

.

أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ وحمزةَ: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا تؤمنون (109)} فَالأَوْجُهُ في (لا) في هذه القراءةِ كُلُّهَا هي عينُ الأوجهِ التي في قولِه: {لَا يُؤْمِنُونَ} إلا أن الخطابَ في القراءةِ الأُولَى {وما يشعركم} هو للمسلمينَ، أي: ما يدريكم أيها المسلمونَ أن الكفارَ إذا جاءتهم الآياتُ يؤمنونَ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ.

أما على قراءةِ ابنِ عامرٍ وحمزةَ فالخطابُ للكفارِ

(2)

{وما يشعركم} أيها الكفرةُ الْمُقْتَرِحُونَ للآياتِ الزاعمونَ الْمُقْسِمُونَ جهدَ أيمانِكم أنها إن جَاءَتْكُمْ آمَنْتُمْ، ماذا يدريكم أنها إذا جاءتكم كَفَرْتُمْ ولم تؤمنوا؟ كقولِه جل وعلا:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)} [الأنعام: آية 7].

فعلى قراءةِ: {تؤمنون} فالخطابُ بـ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للكفارِ. وعلى قراءةِ {يؤمنون} فالخطابُ بـ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} للمؤمنين.

وبهذا يزولُ النطاحُ والخصامُ المعروفُ بين علماءِ التفسيرِ في الخطابِ في قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} طائفةٌ تقولُ: هو للمؤمنينَ، وطائفةٌ تقولُ: هو للكافرينَ. والفصلُ في هذا: أنه على قراءةِ {تؤمنون} فالخطابُ للكفارِ. وعلى قراءةِ {يؤمنون} فالخطابُ

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 39)، الكشاف (2/ 34)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 108).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 39)، القرطبي (7/ 64)، البحر المحيط (4/ 201)، الدر المصون (5/ 107).

ص: 125

للمسلمينَ. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 109].

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: آية110].

في هذه الآيةِ الكريمةِ كلامٌ كثيرٌ لعلماءِ التفسيرِ، وأقوالٌ كثيرةٌ

(1)

، أظهرُها وَأَوْلَاهَا بالصوابِ، وهو الحقُّ - إن شاء الله - الذي دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ من كتابِ اللَّهِ، وخيرُ ما يُفسَّرُ به القرآنُ القرآنُ: أن الكفارَ لَمَّا أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهدَ أيمانِهم لئن جاءهم بعضُ الآياتِ المقترحاتِ ليؤمنن بها، وَبَيَّنَ اللَّهُ أنهم لا يؤمنونَ، كما هو واضحٌ في قراءةِ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ وشعبةَ في روايةٍ:{إنها إذا جاءت} بِخَبَرٍ مؤكدٍ بـ (إن) بَاتٍّ أنهم لا يؤمنونَ، بَيَّنَ سببَ عدمِ هذا الإيمانِ، كأنه قال: إني قلتُ: إنهم لا يؤمنونَ، والسببُ في ذلك: أنهم أولُ مرةٍ قابلوا رُسُلِي بالكفرِ والعنادِ والتعنتِ فَطَمَسْتُ على قلوبِهم وخذلتُهم وطبعتُ عليها.

وهذا معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} فلَا تَعْقِلُ حقًّا {وَأَبْصَارَهُمْ} فلا تبصرُ حَقًّا.

فقولُه: {كَمَا} هنا تعليليةٌ

(2)

: أي: لأنهم لم يؤمنوا بالقرآنِ أولَ مرةٍ؛ فَلأَجْلِ ما سبقَ منهم من العنادِ والتعنتِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، وَقَلَّبْنَا أبصارَهم وقلوبَهم، وَاللَّهُ (جل وعلا) مقلبُ القلوبِ،

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 44)، ابن كثير (2/ 165)، شفاء العليل ص99 - 100، بدائع الفوائد (3/ 180).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 203)، شفاء العليل ص99.

ص: 126

وَكُلُّ قَلْبٍ بينَ أصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُهَا ويصرفُها كيف شَاءَ، وفي الحديثِ:«يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»

(1)

.

وعلى

(1)

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ جماعة من الصحابة وهم:

1 -

أنس بن مالك رضي الله عنه عند أحمد (3/ 112)، (257)، والترمذي في القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أُصبعي الرحمن، حديث رقم (2140)، (4/ 448)، وقال:«حسن» ا. هـ. وابن ماجه في الدعاء، باب: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث رقم (3834)، (2/ 1260)، والحاكم (2/ 288)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (225)، والآجري في الشريعة ص 317.

وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة، حديث رقم (225)، وصحيح الترمذي، حديث رقم (1739)، وصحيح ابن ماجه، حديث رقم (3092).

2 -

عاصم بن كليب عن أبيه عن جده. عند الترمذي في الدعوات باب: (125)، حديث رقم (3587)، (5/ 573)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

3 -

النواس بن سمعان رضي الله عنه عند أحمد (4/ 182)، وابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم (199)(1/ 72)، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (219)، (230)، (552)، والحاكم (2/ 289)، (4/ 321)، وابن حبان (الإحسان (2/ 146 - 147) والآجري في الشريعة ص 317.

وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 98)، (103 - 104)، وصحيح ابن ماجه حديث رقم (165)، والسلسلة الصحيحة، رقم (2091).

4 -

أم سلمة رضي الله عنها عند أحمد (6/ 91، 294 - 302، 315)، والترمذي في الدعوات، باب:(90)، حديث رقم (3522)، (5/ 538)، وابن أبي عاصم في السنة، رقم (223، 232)، والآجري في الشريعة ص316، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 100، 104).

5 -

عائشة رضي الله عنها عند أحمد (6/ 91، 251)، والآجري في الشريعة ص317، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (224)، (233)، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 101، 104).

وقد أخرجه مسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ مقارب، انظر: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، حديث رقم (2654)، (4/ 2045)، وقد رواه غير هؤلاء من الصحابة كبلال، وجابر رضي الله عنهم أجمعين).

ص: 127

هذا فالمعنَى المانعُ الذي يَمْنَعُهُمْ من الإيمانِ لو جاءتهم الآياتُ المقترحاتُ: أنهم بَادَرُوا بتكذيبِ الرسلِ أولَ مرةٍ عندما جاءهم عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وبسببِ ذلك الكفرِ والعنادِ قَلَّبْنَا أبصارَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ، وَقَلَّبْنَا أفئدتَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ. والدليلُ على هذا: أن المبادرةَ بالعملِ السيءِ سببٌ لطمسِ البصيرةِ والطبعِ والرانِ على القلوبِ، كما بَيَّنَهُ اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه:{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: آية 10] وكقوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] وكقولِه جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] فقولُه: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي مكانِ {زَاغُوا} في هذه الآيةِ، وقولُه:{أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} في مكانِ قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} لأن المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - من سببِ طمسِ القلوبِ، وذلك يقعُ في المؤمنِ، الإنسانُ المؤمنُ إذا أَذْنَبَ - والعياذُ بالله - ذَنْبًا. نُكِتَ في قلبِه نكتةٌ سوداءُ، فإذا كان عَاقِلاً ذَكِيًّا من الذين قال اللَّهُ فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: آية 201] وأنابَ إلى اللَّهِ وتابَ إليه زالَ ذلك السوادُ، وصارَ قلبُه صَقِيلاً؛ لأن القلبَ كالزجاجةِ، ونورُ الإيمانِ الذي يُبْصَرُ

ص: 128

به الحقُّ والباطلُ في داخلِه كأنه النورُ وسطَ الزجاجةِ، والزجاجةُ إذا تَلَطَّختْ بالأوساخِ انْكَسَفَ النورُ دَاخِلَهَا، وإذا كانت صقيلةً نظيفةً شَعَّ النورُ.

أَمَا تَرَى الذُّبَالَ فِي الْمِصْبَاحِ

إِذَا صَفَا يُرْضِيكَ فِي اسْتِصْبَاحِ

وَإِنْ يَكُنْ بِوَسَخٍ مُلَطَّخًا

كُسِفَ نُورُهُ لِذَلِكَ الطَّخَا

(1)

فإذا أَذْنَبَ العبدُ ذَنْبًا صارت وساخةٌ سوداءُ على قَلْبِهِ، فإذا بَادَرَ إلى الإنابةِ والتوبةِ غَسَلَهَا، فَبَقِيَ القلبُ صَقِيلاً نَظِيفًا، فَشَعَّ نورُ الإيمانِ فيه، كالنورِ في الزجاجةِ الصقيلةِ، فإذا كان المسكينُ مُغَفَّلاً جَاهِلاً، وزادَ في الذنوبِ لم يَزَلْ يزيدُ في الذنوبِ، والسوادُ يَزْدَادُ حتى يعلوَ جميعَ القلبِ، فيسودُّ جميعُه، فيبقَى النورُ لَا أثرَ له، وعلامةُ هذا من طمسِ البصائرِ - والعياذُ بالله - أن تَرَى مَنْ وَقَعَ به هذا الاسودادُ القلبيُّ، والرانُ المستولِي على قلبِه تراه يرتكبُ فظائعَ الذنوبِ وهو يضحكُ فِي فرحٍ وَلَهْوٍ؛ لأَنَّ البصيرةَ والنورَ الذي يرى به شدةَ ضررِ هذا انْطَمَسَ، فَلَا يَرَى ضَرَرًا، وتراه تفوتُه الصلواتُ والرغائبُ العظامُ في الدِّينِ وهو فَرِحٌ مَسْرُورٌ!! لَا يرى هذا الحقَّ حَقًّا، ولا هذا الباطلَ بَاطِلاً؛ لأن البصيرةَ التي يرى بها الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً، والنافعَ نافعًا والضارَّ ضارًّا، إذا اسودت القلوبُ انطمسَ نورُها، فلا يُبْصِرُ بها شَيْئًا، فكما أن الكفار بَادَرُوا إلى تكذيبِ الأنبياءِ، وكانوا قبلَ ذلك قد يكونونَ على فطرةٍ، وقد يكونونَ معذورين اسْوَدَّتْ قلوبُهم فَطَبَعَ اللَّهُ عليها، وختمَ عليها، وَقَلَبَهَا عن الحقِّ - والعياذُ باللَّهِ -،كما قال جل وعلا: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى

(1)

البيت من قصيدة للهلالي تُعرف بـ (وصية الهلالي) كما أفاد بذلك الشيخ (بُدَّاه) مفتي موريتانيا حفظه الله.

ص: 129

سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: آية 7] وكما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}

[الكهف: آية 57] وقال هنا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: آية 110] وذلك جزاء وفاق وعدل؛ لأَنَّ المعاصيَ ترينُ على القلوبِ وتطمسُها حتى لا تبصرَ حَقًّا.

وهذا هو الأظهرُ في معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} حتى تزيغَ عن إدراكِ الحقِّ، ونقلبُ {أَبْصَارَهُمْ} حتى تزيغَ عن إداركِ الحقِّ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} لأَجْلِ أنهم لم يُؤْمِنُوا بهذا القرآنِ {أَوَّلَ مَرَّةٍ} جاءهم به الرسولُ، فكان كفرُهم وزيغُهم الأولُ سَبَبًا للطبعِ على قلوبِهم، وتقليبُ قلوبِهم وأبصارهم عن الحقِّ. كقولِه:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5]{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] فالباءُ سَبَبِيَّةٌ. وكقولِه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: آية 125]{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: آية 14] وهذا معنَى قولِه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: آية 110] فـ {كَمَا} من حروفِ التعليلِ، ومعنَى نُقَلِّبُهَا: لأَجْلِ أنهم لم يؤمنوا به أولَ مرةٍ، فذلك الكفرُ يَجُرُّ إلى الخذلانِ وَطَمْسِ البصيرةِ، وتقليبِ القلوبِ والأبصارِ وَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ اللَّهُ قلوبَهم.

وقولُه: {وَنَذَرُهُمْ} معناه: نَتْرُكُهُمْ.

وقولُه: {فِي طُغْيَانِهِمْ} : الطغيانُ في لغةِ العربِ: مجاوزةُ الْحَدِّ

(1)

، ومنه قولُه:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: آية 11] أي:

(1)

انظر: المفردات (مادة: طغى) ص520.

ص: 130

جاوزَ الحدودَ التي يبلغُها الماءُ العادي. وطغيانُ الإنسانِ: مجاوزتُه الحدودَ. ومجاوزتُهم الحدودَ ككفرِهم بِرَبِّهِمْ، وَجَعْلِهِمْ له الشركاءَ والأولادَ.

وقولُه: {يَعْمَهُونَ (4)} المضارعُ جُمْلَتُهُ حاليةٌ

(1)

، ومعلومٌ أن جملةَ المضارعِ لا تقترنُ بالواوِ، وأن الرابطَ فيها ضميرٌ، هذا معروفٌ

(2)

.

والْعَمَهُ في لغةِ العربِ

(3)

: هو عَمَى القلبِ خاصةً، الْعَمَى: - مقصورٌ بالأَلِفِ - يُطْلَقُ على عَمَى البصرِ، وعلى عَمَى البصيرةِ، كما يأتي في قولِه:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: آية 46] أما العَمَهُ - بالهاءِ - فلا يُطْلَقُ إلا على عَمَى البصيرةِ خاصةً، وَمَنْ عَمِيَتْ بصيرتُه لم يَرَ حَقًّا من باطلٍ، ولم يُمَيِّزْ حَسَنًا من قبيحٍ، ولا نَافِعًا من ضَارٍّ والعياذُ بالله جل وعلا.

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: آية 111] قد اقْتَرَحُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُنْزِلَ عليهم الملائكةَ، كما بَيَّنَهُ تعالى في قولِه:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: آية 21] وكقولِه عنهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)} [الإسراء: آية 92]{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: آية 8] هذه الآياتُ الدالةُ على اقتراحِهم إتيانَه بالملائكةِ، وقد اقترحوا عليه أن يُحْيِيَ لهم آباءَهم الذين مَاتُوا [لِيَسْأَلُوهُمْ

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 112).

(2)

انظر: التوضيح والتكميل (1/ 488).

(3)

انظر: القاموس (مادة: العمه) ص 1613، الكليات ص652.

ص: 131

عنه]

(1)

، كما بَيَّنَهُ تعالى في الجاثيةِ، وأوضحَ كثرةَ قولهم له:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: آية 25] أَحْيُوا لنا آباءَنا وأسلافَنا الذين مَاتُوا لنسألَهم عنكم أَنْتُمْ على حَقٍّ أَمْ لَا، كذلك قالوا له:{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: آية 92] قال الله هنا: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} كما اقترحوا أو {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما اقْتَرَحُوا اقتراحَهم لنزولِ الملائكةِ {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: آية 21]{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ} [الإسراء: آية 92]{لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)} [الفرقان: آية 7] واقتراحُهم لتكليمِ آبائِهم: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)} [الدخان: آية 36]{مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: آية 25] يعني: لو أَتَيْنَاهُمْ بما اقْتَرَحُوا فَنَزَّلْنَا عليهم الملائكةَ، والملائكةُ لو نَزَلَتْ عليهم لَجَاءَهُمُ العذابُ؛ لأن اللَّهَ لا يُمْهِلُهُمْ بعدَ نزولِ العذابِ، كما يأتِي في قولِه:{مَا تَنَزَّلُ الملائكة إلا بالحق} وفي القراءةِ الأخرى

(2)

:

{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَاّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ (8)} [الحجر: آية 8] أي: لو نزل الملائكة لَا يُنظرون بعدَ ذلك، وكقولِه:{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22)} [الفرقان: آية 22] أي: حَرَامًا مُحَرَّمًا عليكم أن تُؤْذُونَا كما سيأتي؛ وَلِذَا قال هنا: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} كما اقْتَرَحُوا، وَأَخْبَرَتْهُمْ بأنكَ نَبِيُّ اللَّهِ:{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كأن أَحْيَيْنَا لهم قُصَيًّا فسألوه، وأخبرَهم بأنكَ نَبِيُّ اللَّهِ:{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً}

(1)

في الأصل: «ليسألوه عنهم» وهو سبق لسان ..

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص259 ..

ص: 132

قَرَأَهُ الجمهورُ {قُبُلاً} . وقرأَه اثنانِ من السبعةِ {قِبَلاً}

(1)

. أما على قراءةِ: {قِبَلاً} فهو مِنَ الْمُعَايَنَةِ. معنَى: {وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلاً} أي: معاينةً وجهًا لِوَجْهٍ من غيرِ مواراةٍ بِشَيْءٍ

(2)

. وعلى قراءةِ {قُبُلاً} ففيهِ وَجْهَانِ

(3)

: أحدُهما: أن القُبُلَ جمعُ قبيل، أي: جماعات جماعات. كَأَنْ تَأْتِيَهُمُ الملائكةُ جماعاتٍ.

وقال بعضُ العلماءِ

(4)

: ظاهرُ قولِه {كُلَّ شَيْءٍ} أن تأتيَهم الملائكةُ قبيلاً، وكلُّ نوعٍ من أنواعِ الحيواناتِ قبيلاً قبيلاً، فأنطقَها اللَّهُ على خرقِ العادةِ، وكَلَّمَتْهُمْ، كُلُّ هذا لو وَقَعَ لَمْ يؤمنوا.

وكان بعضُ العلماءِ يقولُ

(5)

: {قُبُلاً} و {قِبَلاً} معناهما واحدٌ؛ لأن القُبلَ: هو ما تستقبله بوجهِكَ وتعاينُه. ومنه قيل لِمَا يستقبلُه الرجلُ من وجهِه: «قُبُل» وَلِمَا خَلْفَهُ «دُبُر» وعلى هذا القولِ فـ {قِبَلاً} و {قُبُلاً} معناهما واحدٌ، وعلى القولِ الثاني: أن (القُبُلَ) جمع قَبِيلٍ، والمعروفُ في فَنِّ التصريفِ أن (الفعيل) إذا كان اسْمًا يُجْمَعُ غالبًا على (فُعُل) كَقَذَال وقُذُل، وسرير وسُرُر وما جرى مَجْرَى ذلك

(6)

.

والمعنَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: جَمَعْنَا عليهم {كُلَّ شَيْءٍ} من جميعِ الأشياءِ قبيلاً

(1)

وهما: نافع وابن عامر. المصدر السابق ص201.

(2)

انظر: حجة القراءات ص 267، ابن جرير (12/ 48 - 49).

(3)

السابق.

(4)

انظر: القرطبي (7/ 66).

(5)

انظر: المصدر السابق.

(6)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 396).

ص: 133

قبيلاً، أي: فَوْجًا فَوْجًا، وجماعةً جماعةً، أو:(قِبَلاً) معاينةً، لو فَعَلْنَا لهم كُلَّ هذا {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} هذه اللامُ هي التي تُسَمَّى (لامَ الجحودِ) والفعلُ المضارعُ منصوبٌ بـ (أن) بعدَها

(1)

والمعنَى: ما كانوا مُرِيدِينَ لأَنْ يؤمنوا، أو: ما كانوا مُسْتَعِدِّينَ لأَنْ يؤمنوا {إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} التحقيقُ: أن الاستثناءَ متصلٌ، خلافًا لِمَنْ زَعَمَ أنه منفصلٌ

(2)

.

والمعنَى: ما كانوا ليؤمنوا في حالةٍ من الأحوالِ إلا في حالةِ أن يشاءَ اللَّهُ ذلك؛ لأنهم مُتَعَنِّتُونَ.

وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو (أنَّ) المفتوحةَ إنما تكونُ لِسَدِّ مصدرٍ، فهي بمعنَى اسمٍ بالتأويلِ، و (لو) حرفُ شرطٍ لا يدخلُ إلا على الجملةِ الفعليةِ، فكيف دخل هنا على الاسمِ الذي هو المصدرُ المنسبكُ من (أنَّ) وصلتِها

(3)

؟

وهذا السؤالُ جوابُه معروفٌ، لأن إتيانَ (أنَّ) بعدَ (لو) كثيرٌ جِدًّا في القرآنِ العظيمِ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: آية 27] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: آية 64] فهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، ومنه في كلامِ العربِ قولُ لَبِيدٍ

(4)

:

(1)

انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 7)، الدر المصون (5/ 114) الكليات ص 871، معجم الإعراب والإملاء ص 354.

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 206)، الدر المصون (5/ 114).

(3)

انظر: ضياء السالك (1/ 152)، (4/ 60 - 61)، مغني اللبيب (1/ 213)، المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (3/ 1137).

(4)

البيت في اللسان (مادة: لعب)(3/ 372)، مغني اللبيب (1/ 214)، وشطره الثاني:(أدركه ملاعب الرماح).

ص: 134

لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الفَلَاحِ

لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ

والجوابُ عندَ علماءِ العربيةِ: أن المصدرَ الْمُنْسَبِكَ من (أن) وصلتِها في محلِّ رفعٍ فاعلُ فعلٍ محذوفٍ، قالوا: تقديرُه «ولو ثَبَتَ أننا نَزَّلْنَا إليهم الملائكةَ» أي: لو ثَبَتَ ووقعَ تنزيلُنا الملائكةَ عليهم {مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إيمانَهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرَ الكفارِ.

قال بعضُ العلماءِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرَ الكفارِ.

وقال بعضُ العلماءِ: {أَكْثَرَهُمْ} أي: أكثرُ الجميعِ مِنَ الكفارِ والمسلمين {يَجْهَلُونَ} أنهم لو أُنْزِلَتْ عليهم الآياتُ التي اقْتَرَحُوا لم يؤمنوا.

والقولُ الأولُ أظهرُ؛ لأن التعبيرَ بالمضارعِ فِي: {يَجْهَلُونَ (11)} يدلُّ على أنهم من عادتِهم وشأنِهم الجهلُ وعدمُ المعرفةِ بِاللَّهِ. وهذا أَلْيَقُ بالكفارِ.

[15/أ] / {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: آية 112].

لَمَّا كان كفارُ مكةَ، أعداءً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عَادَوْهُ شدةَ المعاداةِ، حتى اضطر إلى أن يخرجَ مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، عن مسقطِ رأسِه الذي وُلِدَ به؛ لِمَا لَقِيَ مِنْ أَذَاهُمْ وَهَمِّهِمْ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ كما يأتِي في سورةِ الأنفالِ في قولِه:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: آية 30].

ص: 135

أراد اللَّهُ أن يُسَلِّيَ نَبِيَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ

(1)

، أن هذا الذي جَرَى عليه جرى على إخوانِه وآبائِه من الرسلِ الكرامِ، كإبراهيمَ وإسماعيلَ، يعنِي:{وَكَذَلِكَ} أي: كما جَعَلْنَا لك أعداءً كفرةً من قومِك يُعَادُونَكَ ويهمُّون بِقَتْلِكَ وإخراجِك وحبِسك كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} من الأنبياءِ {عَدُوًّا} أي: أعداء، يعني لم يَبْقَ نَبِيٌّ إلا جَعَلَ اللَّهُ له أعداءً؛ لأَنَّ الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا كان خصومُ الحقِّ أعداءً له؛ ولذا تعرفونَ في حديثِ البخاريِّ المشهورِ: أن خديجةَ بنتَ خويلدَ رضي الله عنها لَمَّا ذَكَرَتْ أمرَ النبيِّ لورقةَ بنِ نوفلٍ، وقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:(ليتني جَذَع إِذْ يخرجُك قومُك أكون معكَ، فَأَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) لما قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ المشهورِ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» أجابَه ورقةُ بقولِه: «لَمْ يأت بهذا الدين أحدٌ إلا عُودِيَ»

(2)

. لأن الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا عَادَاهُ خصومُ الحقِّ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، فهم أعداءٌ للحقِّ، وأعداءٌ لمن قَامَ بالحقِّ، كما قال جل وعلا.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (34) من سورة الأنعام.

(2)

البخاري، كتاب بدء الوحي، الباب:(3)، حديث رقم (3)، (1/ 23)، وأخرجه في مواضع أُخَرَ، انظر الأحاديث:(3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (160)، (1/ 139).

ص: 136

آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: الآيات 112 - 115].

يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: آية 112].

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - ما لَاقَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أذَى المشركين ومن عداوتِهم وعدمِ انقيادِهم إليه - كما قَدَّمْنَا في قولِه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إلى قولِه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: الآيات 33 - 35] أي: إن استعطتَ ذلك فَافْعَلْ - بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ الكريمةِ أنه ما أرسلَ نَبِيًّا من الأنبياءِ إلا جَعَلَ له أعداءً كفرةً فجرةً من شياطينِ الإنسِ والجنِّ، والقصدُ من هذا تسليةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما لُوقِيَ به من العداوةِ إذا كان قد لَاقَاهُ إخوانُه الكرامُ من الرسلِ الكرامِ هوَّن ذلك الأمر عليه، كما قال له:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43]{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: آية 34]{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: آية 35] ونحو ذلك من الآياتِ.

ومعنى الآيةِ الكريمةِ {وَكَذَلِكَ} أي: كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً كفرةً من كفارِ قريشٍ يُعَادُونَكَ ويناصبونَك العداوةَ، كذلك الجعل {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} من الأنبياءِ قَبْلَكَ {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} جعلناهم عَدُوًّا للأنبياءِ، وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا في الفرقانِ حيث قال:

ص: 137

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: آية 31]، فَبَيَّنَ أن أعداءَ الأنبياءِ هم المجرمونَ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ.

وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عَدَا نَافِعًا وحدَه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} بالإدغامِ. وقرأه نافعٌ وحدَه بروايةِ ورشٍ وقالونَ: {جعلنا لكل نبيءٍ عدوًّا} ونافعٌ يقرأُ جميعَ ما في القرآنِ من النبيءِ والأنبئاءِ كُلَّهُ بالهمزةِ في روايةِ ورشٍ، وكله بالهمزةِ في روايةِ قالونَ عن نافعٍ، إلا حَرْفَيْنِ في سورةِ الأحزابِ

(1)

(2)

.

أما على قراءةِ نافعٍ: {جعلنا لكل نبيءٍ} فالنبيءُ مشتقٌّ من (النبأ)

(3)

، والنبأُ: الخبرُ الذي له خَطْبٌ وشأنٌ، وإنما قيل للنبيءِ (نبيءٌ) لأنه يُوحَى إليه، والوحيُ: خبرٌ له خَطْبٌ وشأنٌ، فكل نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأن العربَ لا تُطْلِقُ النبأَ إلا على الخبرِ الذي له شأنٌ وَخَطْبٌ، أما الخبرُ فتطلقُه على الحقيرِ والجليلِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأُ الأميرِ، وجاءنا نبأٌ عن الجنودِ، وعن الأمورِ العظامِ. كان هذا من كلامِ العربِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ. لم يكن هذا من كلامِ العربِ؛ لأن قصةَ حمارِ الحجامِ لا خَطْبَ لها ولا شأنَ، فلا يُعبَّرُ عنها بالنبأِ، وإنما يُعَبَّرُ عنها بالخبرِ

(4)

.

(1)

وهما الآيتان (50، 53).

(2)

انظر: الكشف لمكي (1/ 243 - 244)، الإقناع لابن الباذش (1/ 403)، النشر (1/ 406)، إتحاف فضلاء البشر (1/ 395) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: الكشف لمكي (1/ 244) إتحاف فضلاء البشر (1/ 395).

(4)

مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

ص: 138

أما على قراءةِ الجمهورِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} بالإدغامِ ففيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ:

أحدُهما: أن أصلَه من (النبأِ)، إلا أن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، وَأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ. وعليه فالقراءةُ بالنبيءِ والنبيِّ كالقراءتين السبعيتين:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37]{إنما النسيّ زيادة في الكفر}

(1)

وعلى هذا التأويلِ فمعنَى قراءةُ الجمهورِ كمعنَى قراءةِ نافعٍ.

الوجهُ الثاني: أن النبيَّ على قراءةِ الجمهورِ ليس اشتقاقُه من (النبأ) بمعنَى الخبرِ، وإنما هو من (النَّبْوَةِ) بمعنَى الارتفاعِ

(2)

لارتفاعِ شأنِ النبيِّ، وعلى هذا التفسيرِ فأصلُ النبيِّ على قراءةِ الجمهورِ ليس بمهموزٍ، والأظهرُ أن أصلَه مهموزٌ، وأن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، بدليلِ قراءةِ نافعٍ بالهمزةِ.

وقولُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا} اختلفَ العلماءُ في إعرابِ قولِه: {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن {عَدُوًّا} و {شَيَاطِينَ} هُمَا المفعولانِ لـ {جَعَلْنَا} . أي: جَعَلْنَا {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} أعداءً، أي: صَيَّرْنَاهُمْ أعداءً لكل نبيٍّ. وعلى هذا فتكونُ {شَيَاطِينَ الإِنْسِ} هو المفعولُ الأولُ، وقولُه:{عَدُوًّا} هو المفعولُ الثاني. و (جعل) هنا هي التي بمعنَى: (صيَّر).

(1)

انظر: الكشف لمكي (1/ 502)، الإقناع لابن الباذش (1/ 404)، النشر (1/ 405)، إتحاف فضلاء البشر (9112).

(2)

انظر: الكشف لمكي (1/ 245)، زاد المسير (1/ 90).

ص: 139

الوجهُ الثاني من الإعرابِ: أن أحدَ المفعولين هو الجارُّ والمجرورُ في قولِه: {لِكُلِّ نِبِيٍّ} والمفعولُ الثاني هو قولُه: {عَدُوًّا} وعليه فيكونُ إعرابُ {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} أنه بدلٌ من {عَدُوًّا} هذانِ الإعرابانِ في الآيةِ

(1)

و (جعل) هنا بمعنَى (صَيَّرَ) أي: صَيَّرْنَا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداءً لكلِّ نبيٍّ من الأنبياءِ.

و (جعل) تأتِي في كلامِ العربِ على أربعةِ أنحاءَ

(2)

، ثلاثةٌ منها في القرآنِ، والرابعُ موجودٌ في لغةِ العربِ وليسَ في القرآنِ:

الأولُ من الأقسامِ الأربعةِ: (جعل) التي بمعنَى (اعتقد) وهي تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مَفْعُولَيْنِ، وهي بمعنَى (اعتقدَ) ومنه قولُه:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: آية 19] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {الذينَ هم عند الرحمنِ إِنَاثًا}

(3)

المعنىَ: اعتقدوا الملائكةَ إناثًا. فـ (جعل) هذه بمعنَى (اعتقد) وهي تنصبُ مَفْعُولَيْنِ أصلُهما مبتدأٌ وخبرٌ.

الثاني: (جعل) بمعنَى (صيَّر) كهذه التي عندنا: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ} [الأنعام: آية 112] أي: صَيَّرْنَا شياطينَ الإنسِ عدوًّا لكلِّ نَبِيٍّ. وهي أيضًا تنصبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين.

(1)

انظر: القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 207)، الدر المصون (5/ 115)، أضواء البيان (2/ 208).

(2)

انظر: نزهة الأعين النواظر ص 228، بصائر ذوي التمييز (2/ 383)، إصلاح الوجوه والنظائر ص 106، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (100) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 398.

ص: 140

الثالث: (جعل) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تنصبُ مفعولاً واحدًا، وهي التي تَقَدَّمَتْ في أولِ هذه السورةِ الكريمةِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: آية 1] أي: خلقَ الظلماتِ والنورَ.

هذه الأقسامُ الثلاثةُ من معانِي (جعل) أعنِي كونَها بمعنَى (اعتقد)، وكونَها بمعنى (صيَّر)، وكونَها بمعنَى (خلق)، كُلُّهَا في القرآنِ العظيمِ.

أما معناها الرابعُ فهو في اللغةِ، وليس في القرآنِ، وهو إتيانُ (جعل) بمعنَى شَرَعَ في الأمرِ، كقولِهم: جَعَلَ فلانٌ يفعلُ كذا. أي: شَرَعَ يفعلُه. ومنه بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ

(1)

:

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي

ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ

وهذا معنَى قولِه أي: وكذلك الجعلُ الذي جَعَلْنَا لكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ أعداءً من كفارِ قريشٍ في مكةَ {وَكَذَلِكَ} الجعلُ {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} قبلكَ من الأنبياءِ {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} .

في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقالَ: إن المرادَ: أعداءٌ؛ لأنهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، وهم جماعةٌ، وأعداءُ الرسلِ جماعاتٌ لَا مفردٌ، وهنا قال:{عَدُوًّا} بصيغةِ المفردِ، ولم يَقُلْ:«وكذلك جعلنا لكل نبي أعداءً» بل قال: {عَدُوًّا} وجاءَ في القرآنِ إطلاقُ العدوِّ مُرَادًا به الجمعُ في آياتٍ متعددةٍ كقولِه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} أي: أعداءٌ لكم.

(1)

البيت لعمرو بن أحمر، أو أبي حية، أو الحكم بن عبدل. وهو في الخزانة (4/ 94).

ص: 141

وكقولِه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أي: هم الأعداءُ فَاحْذَرْهُمْ. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن المقررَ في علومِ العربيةِ: أن المفردَ إذا كان اسمَ جنسٍ جازَ إطلاقُه مفردَ اللفظِ مُرَادًا به الجمعُ إذا دَلَّتْ على ذلك قَرَائِنُ

(1)

. وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ في الحالاتِ الثلاثِ، أعنِي بقولِي «في الحالاتِ الثلاثِ»: أن يكونَ مُنَكَّرًا، وأن يكونَ معرَّفًا بالألفِ واللامِ، وأن يكونَ مُضَافًا. فمثالُ إطلاقِ الجنسِ مُفْرَدًا مرادًا به الجمعُ مُنَكَّرًا في القرآنِ قولُه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر: آية 54] يعني: وَأَنْهَارٍ، بدليلِ قولِه:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: آية 15] وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5] يعني أطفالاً. وقولُه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: آية 74] أي: أئمةً. وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} {النساء: آية 4] أي: أَنْفُسًا. وقولُه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: آية 6] أي: وإن كنتم جنبين أو أجنابًا فَاطَّهَّروا. وقولُه جل وعلا: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون: آية 67] أي: سَامِرِينَ. وهو كثيرٌ في القرآنِ.

ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ معرَّفٌ بالألفِ واللامِ قولُه جل وعلا: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] يعني: الغُرفَ. بدليلِ قولِه: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20]{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: آية 37] وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: آية 31] يعني: الأطفال {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: آية 45] أي: الأَدْبَارَ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

ص: 142

وقولُه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: آية 22] أي: والملائكةُ؛ لأن الملكَ الواحدَ لَا يكونُ صَفًّا صَفًّا، وكما دَلَّ عليه قولُه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: آية 210] وهذا كثيرٌ في القرآنِ. ومن أمثلتِه واللفظُ مضافٌ: قولُه جل وعلا: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: آية 68]، أي: أَضْيَافِي، وقولُه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أَوَامِرِهِ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ، وأنشدَ الشيخُ سيبويه في كتابِه لإطلاقِ اسمِ الجنسِ مُفْرَدًا مُرَادًا به الجمعُ، أنشدَ له بيتين، أحدُهما قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ

(1)

:

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا

فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

يعني: وأما جلودُها فصليبةٌ. وقولُ الآخَرِ

(2)

:

كلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا

فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

يعني: في بعضِ بُطُونِكُمْ. هذانِ البيتانِ أنشدهما سيبويه لهذا المعنَى في كتابِه، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ.

ومنه واللفظُ مُنكَّر في كلامِ العربِ: قولُ عَقِيلِ بْنِ عُلَّفَةَ الْمُرِّيِّ

(3)

:

وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍ

وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا

يعني: شَرَّ أَعْمَامٍ.

ومنه واللفظُ مضافٌ: قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلميِّ

(4)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

ص: 143

فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ

وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ

أي: إِنَّا إِخْوَانُكُمْ. وقولُ جَرِيرٍ

(1)

:

إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا

أَبَانَ الْمُقرِفَات مِنَ الْعِرَابِ

وهو كثيرٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، ومنه قولُه هنا:{عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} والعدوُّ: هو الذي يُعَادِيكَ، ويتربصُ بكَ الدوائرَ، وَكُلَّمَا وجدَ فرصةً لِضَرَرِكَ ضرَّكَ [وشياطين الإنس والجن يُعَادُونَ الأنبياءَ والرسلَ (عليهم الصلاةُ والسلامُ)]

(2)

وهم أعداءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقولُه: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} الشياطينُ: جمعُ الشيطانِ، والشيطانُ في لغةِ العربِ: هو كُلُّ عَاتٍ متمردٍ في الطغيانِ. فَكُلُّ مَا زَادَ وَبَرَزَ في جِنْسِهِ بِأَنْ زَادَ طغيانُه وعصيانُه وعُتُوُّه تُسَمِّيهِ العربُ: (شيطانًا)، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. فَكُلُّ عَاتٍ متمردٍ فهو شيطانٌ

(3)

، سواء كان من الإنسِ كقولِه هنا:{شَيَاطِينَ الإِنْسِ} وقولِه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: آية 14] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ من الإنسِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ جريرٍ

(4)

:

أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ

وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا

أَيْ: مُتَمَرِّدًا عاتيًا. هذا أصلُ الشيطانِ في لغةِ العربِ، ومن

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(2)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [

] زيادة ليتسنى ربط أطراف الكلام وأجزائه بعضها مع بعض.

(3)

مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام مما سبق.

(4)

مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام.

ص: 144

إطلاقِ الشيطانِ على المتمردِ العاتِي من غيرِ الإنسِ والجنِّ: حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»

(1)

.

وقد قَدَّمْنَا في تفسيرِ الاستعاذةِ: أن علماءَ العربيةِ اختلفوا في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ

(2)

، فَذَهَبَ جماعةٌ - وهو أظهرُ القولين اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا سيبويه، كُلٌّ منها في موضعٍ مِنْ كتابِه - أن أصلَ المادةِ التي منها الشيطانُ: هي (الشين والطاء والنون)، فَحُرُوفُهُ الأصليةُ (شطن) والياءُ والألفُ زَائِدَتَانِ، وعليه فَوَزْنُهُ بالميزانِ الصرفيِّ:(فَيْعَال) فاءُ مادتِه: شينٌ، وَعَيْنُهَا: طاءٌ، ولامُها: نونٌ، أصلُها من (شطن)، ومادةُ (شطن) تستعملُها العربُ في البُعدِ، فَكُلُّ شيءٍ بعيدٍ تُطْلِقُ عليه هذا الاسمَ، تقولُ العربُ:«نوًى شطون» . أي: بعيدةٌ. و (بئر شطون). أي: بعيدةُ القعرِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ

فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا حَزِينُ

وعلى هذا القولِ فوزنُ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ (فَيْعَال) واشتقاقُ مادتِه من: (شطن) بمعنَى: (بَعُدَ) ووجهُ المناسبةِ: هو بُعْدُهُ عن رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا) لِمَا سَبَقَ له من الشقاءِ الأزليِّ. مما يؤيدُ هذا - أن الشيطانَ من مادةِ (شطن)، وأن وزنَه (فَيْعَال) - هو ما جاء في شعرِ أُميةَ بنِ أبِي الصلتِ الثقفيِّ

(4)

، وهو عَرَبِيٌّ جاهليٌّ قُحٌّ:

أَيُّمَا شَاطِنٍ عَتَاهُ عَكَاهُ

ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة.

(4)

السابق.

ص: 145

فَأَطْلَقَ على الشيطانِ: شاطن. والشاطنُ: اسمُ فاعلِ (شطن) بلَا خِلَافٍ.

الوجهُ الثاني في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ - وقد أشارَ له أيضًا سيبويه في كتابِه -: أن أصلَه من (شاط، يشيط). وعلى هذا: فأصلُ مادتِه (شَيَط) فاءُ المادةِ: شينٌ، وَعَيْنُهَا: ياءٌ، ولامُها: طاءٌ. وعلى هذا فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلان) لا (فَيْعَال)، والعربُ تقولُ:«شاطَ يَشِيطُ» إذا هَلَكَ. ومنه قولُ الأَعْشَى - ميمونِ بنِ قَيْسٍ

(1)

:

قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ

وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ

وعلى هذا القولِ الأخيرِ، أن وزنَه (فَعْلَان) وأنه مِنْ (شَاطَ يشيط) فمعناهُ: أنه هالكٌ لا محالةَ؛ لِمَا سَبَقَ له من الشقاءِ والعذابِ، وعلى هذا فمعنَى:{شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} أي: عتاتهم المتمردين في الطغيانِ، الفائقين جنسَهم وأمثالَهم في الكفرِ والمعصيةِ.

وقولُه: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ

(2)

:

أحدُهما: وهو الأظهرُ الصحيحُ، وقد جاءَ في حديثٍ مرفوعٍ عن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:«يَا أَبَا ذَرٍّ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ» فقال أبو ذر: أَوَللإِنْسِ شياطينُ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» . وفي بعضِ رواياتِه: «أَنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ»

(3)

.

(1)

البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1371 - 1372) ابن جرير (12/ 51).

(3)

مضى عند تفسير الآية (43) من سورة الأنعام.

ص: 146

وحديثُ أبي ذَرٍّ هذا جاءَ من طُرُقٍ متعددةٍ، لا يَخْلُو بعضُها من مقالٍ، إلا أن مجموعَها يُقَوِّي بعضُها بعضًا، ويدلُّ على أن الحديثَ له قوةٌ وأصلٌ. وعلى هذا القولِ فأعداءُ الرسلِ شياطينُ على نَوْعَيْنِ: شياطينُ من العتاةِ الكفرةِ من الإنسِ، وشياطينُ عتاةٌ كفرةٌ من الجنِّ، كلهم أعداءُ الرسلِ. وهذا القولُ الصحيحُ.

وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ به أن أعداءَ الرسلِ شياطينُ، إلا أن هؤلاء الشياطينَ منهم شياطينُ يضللونَ الإنسَ، ومنهم شياطينُ يُضَلِّلُونَ الجنَّ. وَرُوِيَ هذا عن جماعةٍ من العلماءِ، وجاء فيه حديثٌ ضعيفٌ.

قال بعضُ العلماءِ: إن إبليسَ يُفَرِّقُ الشياطينَ يُضَلِّلُونَ الجنَّ، ويضللونَ الإنسَ، فللإنسِ شياطينُ يضللونهم، وللجنِّ شياطينُ يضللونهم. قالوا: فيجتمعونَ، فيقولُ بعضٌ لبعضٍ: أنا أَضْلَلْتُ صَاحِبي بكذا وكذا فَضَلَّ، فاسْتَعْمِلْ هذا الذي أضللتُ به صاحبي لِتُضِلَّ به صاحبَك.

هذا وجهٌ في الآيةِ. والقولُ الأولُ أظهرُ للحديثِ المذكورِ.

وقولُه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} {يُوحِي} مضارعُ (أَوْحَى، يُوحي، إيحاءً)، والوحيُ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على كل شيء يُلْقَى في سرعةٍ وخفاءٍ

(1)

. فَكُلُّ ما ألقيتَه في سرعةٍ وخفاءٍ فقد أوحيتَ به. ومن هنا كان الوحيُ يُطْلَقُ على الإشارةِ، وَيُطْلَقُ على الكتابةِ، وُيطلق على الإلهامِ، ويطلقُ على ما يُلْقِيهِ الإنسانُ لصاحبِه

(1)

انظر: المفردات (مادة: وحى) ص 858، المصباح المنير (مادة: الوحي) ص 249.

ص: 147

سِرًّا في خفية. كل هذا يُسَمَّى وحيًا. ومن إطلاقِ الوحيِ على الإشارةِ قولُه في قصةِ زكريا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} [مريم: آية 11] أي: أشارَ إليهم على أظهرِ التَّفْسِيرَيْنِ. ويؤيدُه قولُه: {أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزًا} [آل عمران: آية 41] لأَنَّ الرمز: الإشارةُ. فدلَّ على أن الوحيَ في حَقِّهِ: الإشارةُ. وَيُطْلَقُ الوحيُ على الكتابةِ، وإطلاقُ الوحيِ على الكتابةِ كثيرٌ في كلامِ العربِ جِدًّا، ومنه قولُ لبيدٍ في معلقتِه

(1)

:

فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا

خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلَامُهَا

فـ (الوُحِيَّ): جَمْعُ (وَحْي)، وهو الكتابةُ في الحجارةِ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ عنترةَ

(2)

:

كَوَحْي الصَّحَائفِ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى

فَأَهْدَاهَا لأَعْجَمَ طِمْطِمِي

ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ

(3)

:

سِوَى الأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا

بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ

أي: كتابة. وكذلك منه قولُ جريرٍ

(4)

:

كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحْيًا

بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلَامِ

أي: خَطًّا.

(1)

البيت في شرح القصائد المشهورات (1/ 130)، اللسان (مادة: وحى) (3/ 892).

(2)

البيت في فتح القدير (3/ 324).

(3)

السابق.

(4)

البيت في ديوانه ص 375، وشطره الأول: (كأن أخا اليهود

).

ص: 148

وفي إطلاقِه على الإلهامِ: قولُه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: آية 68] أي: أَلْهَمَهَا.

فمعنَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يُلْقِيهِ إليه في خفاءٍ وسرعةٍ. ولذلك لَمَّا جاء عن المختارِ بنِ أبي عبيدٍ أنه ادَّعَى النبوةَ، وأنه يُوحَى إليه، وكانت أختُه صفيةُ بنتُ أَبِي عبيدٍ رضي الله عنها زوجةَ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما. فقيلَ لعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ: إن المختارَ ادَّعَى أنه يُوحَى إليه. قال: صَدَقَ!! قال اللَّهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ}

(1)

[الأنعام: آية 121] فذلك وحيُ الشيطانِ، وهو ما يُلْقِيهِ الشيطانُ إلى قَرِينِهِ من الوساوسِ والزخارفِ لِيُضِلَّ بها الناسَ. ذلك هو وحيُ الشياطينِ. وهذا معنَى قولِه:{يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] ذلك صادقٌ بأن شياطينَ الجنِّ يُوحُونَ إلى شياطينِ الإنسِ، كما يأتي في قولِه جل وعلا:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ} أي: يُلْقُونَ إليهم الوساوسَ والأمورَ. وكذلك يُوحِي بعضُ شياطينِ الإنسِ إلى بعضِ شياطينِ الجنِّ. وهو على ثلاثةِ أنحاءَ؛ لأن شياطينَ الجنِّ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ، ويوحونَ إلى شياطينِ الجنِّ، كما أن شياطينَ الإنسِ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ. فهذا وحيُ الشياطينِ بعضِهم لبعضٍ.

وعن مالكِ بنِ دينارٍ رحمه الله أنه قال: إن شيطانَ الإنسِ أشدُّ عَلَيَّ مِنْ شيطانِ الجنِّ؛ لأن شيطانَ الجنِّ أَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ منه فيذهبُ عَنِّي،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1379) وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 170)، نقلاً عن ابن أبي حاتم، كما أخرج ابن أبي حاتم (4/ 1379) نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وَأَثَرُ ابنِ عباسٍ هذا أخرجه - أيضا - ابن جرير (12/ 86).

ص: 149

وشيطانُ الإنسِ يجيئني فَيَجُرُّنِي إلى المعصيةِ عيانًا

(1)

.

وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ (جل وعلا) قَدْ بَيَّنَ علاجَ ما يريدُ أن يضرَّك من شياطينِ الإنسِ والجنِّ في ثلاثِ آياتٍ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذينَ يحاولونَ ضُرَّكَ وعداوتَك من شياطينِ الإنسِ لهم علاجٌ سَمَاوِيٌّ، وأن أمثالَهم من شياطينِ الجنِّ لهم علاجٌ سماويٌّ، وبينَ علاجِ هذا وهذا في ثلاثةِ مواضعَ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذي يريدُ أن يَضُرَّكَ من الإنسِ، ويجرُك إلى ما يضرُّك كعملِ الشياطين، يعاديكَ ويترقبُ لكَ الضررَ أَنَّ دواءَه الوحيدَ الذي يُنْجِيكَ منه هو أن لا تَتَّبِعَهُ في شَرٍّ، وأن تعاملَه مكانَ السيئةِ بالحسنةِ، فإذا أساءَ إليكَ سَتَرْتَ إساءَته وقابلتَها بالإحسانِ فيندحرُ وينكسرُ، ويكونُ صَدِيقًا بعدَ أن كان عَدُوًّا، وأما شيطانُ الجنِّ فإنه لا علاجَ له ألبتةَ إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) منه؛ لأن المُلاينةَ لا تزيدُه إلا طغيانًا، وأنتَ لا تَرَاهُ لتنتصفَ منه، فلَا دواءَ له إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) من شَرِّهِ.

الموضعُ الأولُ من هذه المواضعِ الثلاثةِ: قولُه تعالى في أخرياتِ سورةِ الأعرافِ: في شياطينِ الإنسِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: آية 199] أَيْ: عَامِلْهُمْ بالعفوِ واللينِ والإعراضِ عن سيئاتِهم. ثم قال في شيطانِ الجنِّ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: آية 200].

الموضعُ الثاني في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) وهو قولُه في الإنسيِّ الْمُعَادِي: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي: ادْفَعْ سيئةَ

(1)

ذكره القرطبي في التفسير (7/ 68)، وأبو حيان في البحر (4/ 207).

ص: 150

الإنسيِّ بِالْحُسْنَى {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} ثم قال في نظيرِه من شياطينِ الجنِّ: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: الآيات 96 - 98].

الموضعُ الثالثُ: في سورةِ (حم السجدةِ) - سورة فصلت -: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ فيها أن هذا العلاجَ السماويَّ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لكلِّ أحدٍ، بل لا يُعْطِيهِ إلا لِمَنْ جَعَلَ له البختَ الأعظمَ والنصيبَ الأوفرَ عنده؛ ولذا قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني: ادْفَعْ عداوةَ شيطانِ الإنسِ بالتي هي أحسنُ، ثم قال:{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} أي: صديقٌ في غايةِ الصداقةِ، ثم بَيَّنَ أن هذا لَا يُعْطَى لكلِّ الناسِ، قال:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} ثم قال في شيطانِ الجنِّ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: آية 36].

فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نقدرَ هذا العلاجَ السماويَّ، ونعاملَ مَنْ عَادَانَا وأرادَ ضُرَّنَا من إخوانِنا المؤمنين بالصفحِ والإحسانِ، ومقابلةِ السَّيِّئِ بالجميلِ، حتى تنكسرَ شوكةُ شُؤْمِهِ، فيرجع خَجِلاً صديقًا حميمًا، ونستعيذُ من الشيطانِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ لِيَكْفِيَنَا شَرَّهُ.

وهذا الذي نقوله فيمن يُعَادِيكَ من إخوانك المسلمين، وأمثالِهم ممن لهم حرمةٌ، كالكتابيِّ الذي تحتَ ذمةِ الإسلامِ، الذي له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. أما الكفرةُ الْحَرْبِيُّونَ فلا مُلَايَنَةَ معهم، وإنما معهم الشدةُ والغلظةُ، كما قال اللَّهُ لِنَبِيِّهِ:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73] ومَدَحَ المؤمنينَ

ص: 151

والنبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنهم في غايةِ اللينِ والرحمةِ للمؤمنين، وفي غايةِ الشدةِ والقسوةِ على الكفرةِ:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: آية 29] وقال جل وعلا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: آية 29] لأن الشدةَ في محلِّ اللينِ هي مِنَ الحُمْقِ والخَرَقِ، واللينُ في محلِّ الشدةِ هو من الضعفِ والْخَوَرِ، والسدادُ والحكمةُ أن تكونَ الشدةُ في محلِّ الشدةِ، واللينُ في محلِّ اللينِ.

ومعنَى قولِه جل وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] الزُّخْرُفُ: هو كُلُّ شيءٍ زَيَّنْتَهُ وَزَخْرَفْتَهُ وَمَوَّهْتَهُ فهو زُخْرُفٌ

(1)

. وإنما سَمَّاهُ {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ؛ لأنهم يُزَيِّنُونَ لهم المعاصيَ، ويحببونَ إليهم الشهواتِ، ويرغبونهم في لذاتِ الدنيا، وتقديمِ [العاجلِ على الآجلِ]

(2)

، يزخرفونَ لهم هذا، ويزينونَه لهم، أما شياطينُ الجنِّ فَهُمْ يزينونَه بالوساوسِ. وأما شياطينُ الإنسِ فقد يُزَيِّنُونَهُ بالكلامِ الصريحِ فَيُزَخْرِفُونَهُ، حتى يوقعوا أصحابَهم فيه والعياذُ بالله.

وقولُه: {غُرُورًا} الغرورُ: مصدرُ (غَرَّه، يَغُرُّه، غرورًا) إذا خَدَعَهُ.

أي: خديعةٌ - والعياذُ بالله

(3)

-. والخديعةُ: هي أن يُوقِعَ الشخصُ الإنسانَ في الضررِ من حيث يُرِيهِ أنه ينفعُه.

وإعرابُ قولِه: {غُرُورًا} فيه ثلاثُ أَوْجُهٍ من الإعرابِ

(4)

:

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 55)، القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 205)، الدر المصون (5/ 116).

(2)

في الأصل: «الآجل على العاجل» وهو سبق لسان.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 56).

(4)

انظر: القرطبي (7/ 67)، البحر المحيط (4/ 207)، الدر المصون (5/ 116).

ص: 152

أجودُها وأظهرُها: أنه مفعولٌ لأجلِه، والقرينةُ على ذلك أنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ في قولِه:{وَلِتَصْغَى} [الأنعام: آية 113] أي: زخرفَ القولِ لأَجْلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ؛ ولأجلِ أن يُرْضُوهُ؛ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هم مقترفون. فهذا أظهرُ الأعاريبِ.

وبعضُ العلماءِ يقولُ: {غُرُورًا} مصدرٌ منَكَّرٌ وهو حالٌ. أي: يزينون لهم زخرفَ القولِ في حالِ كونِهم غَارِّينَ إياهم.

وبعضُهم يقولُ: هو ما نَابَ عن المطلقِ من قولِه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} لأَنَّ ذلك الإيحاءَ غُرُورٌ. فـ (يوحي) كأنه مُضَمَّنٌ معنَى: يغرونهم غرورًا.

وأجودُها: أنه مفعولٌ من أجلِه؛ لأنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ، حيث لم تَتَوَفَّرْ شروطُ النصبِ فيما بعدَه لاختلافِ الفاعلِ؛ لأن المفعولَ مِنْ أَجْلِهِ لابدَّ أن يكونَ فاعلُه وفاعلُ عاملِه واحدًا، كما هو معروفٌ في فَنِّ العربيةِ

(1)

.

وفي هذه الآيةِ ترتيبٌ غريبٌ عجيبٌ، بالغٌ في الْحُسْنِ؛ لأن السببَ الأولَ: هو الغرورُ والخديعةُ، فَتَسَبَّبَ عن الغرورِ والخديعةِ: أن صَغَتْ إليه قلوبُهم وَمَالَتْ، ثم تسببَ عن صوغِ القلوبِ وَمَيْلِهَا: أنهم أَحَبُّوهُ ورضوه، ثم تَسَبَّبَ عن كونِهم أَحَبُّوهُ ورضوه: أن اقترفوه؛ ولذا رَتَّبَهَا على هذا الترتيبِ، قال أولاً:{غُرُورًا} أي: لأجلِ أن يَغُرُّوهُمْ. ثم نتجَ من الغرورِ: صوغُ أفئدتِهم إليه. قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ثم تسببَ عن كونِها صَغَتْ إليه: أنها رَضِيَتْهُ

(1)

انظر: التوضيح والتكميل (1/ 420).

ص: 153

وَأَحَبَّتْهُ؛ ولذا قال: {وَلِيَرْضَوْهُ} ثم تسببَ عن رِضَاهُمْ ومحبتِهم له أنهم فَعَلُوهُ واقترفوه؛ ولذا جاءَ بعدَها بقولِه: {وَلِيَقْتَرِفُوا} .

وقوله: {وَلِتَصْغَى} هو معطوفٌ على {غُرُورًا} والمعنَى: يُوحِي بعضُهم إلى بعضِ زخرفِ القولِ لأجلِ الغرورِ. أي: لأجلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى. و (تصغى) معناه: تَمِيلُ. تقولُ العربُ: «صَغَى يَصْغُو» ، و «صَغَى يَصْغَى» ، و «صَغِيَ يَصْغَى» كلها بمعنَى: مَالَ إليه، و «أَصْغَى يُصْغِي إصغاءً» أيضًا إذا مَالَ

(1)

. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وفي القرآنِ العظيمِ:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: آية 4] أي: مَالَتْ إلى أَمْرٍ تَعْلَمَانِ أن النبيَّ لَا يحبه.

وقولُه هنا: {وَلِتَصْغَى} أي: تميلُ إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ، ومادةُ (صَغَى) تُسْتَعْمَلُ واويةَ اللامِ ويائيةَ اللامِ. تقولُ العربُ:«صَغَى يَصْغَى» ، و «صَغَى يَصْغو» ، و «صَغِيَ يَصْغَى» ، كلها بمعنَى: مَالَ. وأصغَى الإناءَ: إذا أَمَالَهُ، ومنه: رَجُلٌ مُصْغَى الإناءِ. إذا كان منقوصَ الحظِّ. تقول: «بنو فلانٍ يُصغون إناءَ فلانٍ» . إذا كانوا ينقصونه من حَقِّهِ؛ لأن الإناءَ المائلَ لا يحملُ من الملءِ قدرَ ما يحملُه الإناءُ المعتدلُ، فالناسُ إذا وَضَعَتْ أوانيَها لِتُمْلأَ لها فالإناءُ الْمُصْغَى- أعني المائلَ- لا يحملُ كثيرًا، بخلافِ الإناءِ المعتدلِ فإنه يمتلئُ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ

(2)

، ومنه قولُ غسانَ بنِ وعلةَ، ويُروى للنمرِ بنِ

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 58)، القرطبي (7/ 69)، البحر المحيط (4/ 205)، الدر المصون (5/ 119).

(2)

انظر: المفردات (مادة: صغا) ص485.

ص: 154

تولب العكليِّ قال

(1)

:

إِذَا كُنْتَ فِي سَعْدٍ وَأُمُّكَ مِنْهُمُ

فَقِيرًا فَلَا يَغْرُرْكَ خَالُكَ مِنْ سَعْدِ

فَإِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مُصْغًى إِنَاؤُهُ

إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ

معنى «مُصْغًى إناؤُه» أي: مُمَالٌ إِنَاؤُهُ؛ لأن الإناءَ المُمَالَ لا يمتلئُ كما ينبغي، فَحَقُّهُ منقوصٌ. هذا معنَى المادةِ في لغةِ العربِ، والعربُ تقولُ:«أَصْغَى إليه» إذا أمالَ إليه أُذُنَهُ. ومنه قولُهم: «أَصْغَتِ الناقةُ إلى مَنْ يشد الرحلَ عليها» . إذا صَارَتْ تميلُ إلى من يشدُّ الرحلَ عليها، كالذي يستمعُ. ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ

(2)

:

تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَةً

حَتَّى إِذَا مَا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَا تَثِبُ

والعربُ تستعملُه رُبَاعِيًّا، (أصغى إليه إصغاءً) إذا مَالَ إليه، ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

إِنَّ السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ

زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ

أي: مَيْلٌ. والمرادُ بالتشبيهِ هنا: التخليطُ.

ومعنَى قولِه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أي: لتميلَ إليه، أي: ذلك القولُ المزخرفُ المزينُ الباطلُ، الذي تُوحِيهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ، تميلُ إليه {أَفْئِدَةُ} أي: قلوبُ. الأفئدةُ: جمعُ الفؤادِ، والفؤادُ: القلبُ.

(1)

وقيل: حسان بن وعلة، وقيل: ضمرة بن ضمرة، وهما في بهجة المجالس لابن عبد البر (1/ 225) الكامل ص712، والبيت الأول في اللسان (مادة: كيس) (3/ 321) وأول شطره الثاني في هذين المصدرين: «غريبًا» .

(2)

البيت في القرطبي (7/ 69)، الدر المصون (5/ 120).

(3)

في المصادر التي وقفت عليها: «ترى السفيه» . انظر ابن جرير (12/ 58)، القرطبي (7/ 69)، البحر (4/ 205)، الدر المصون (5/ 120).

ص: 155

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، والمعنَى: لو شَاءَ رَبُّكَ عدمَ فعلِهم إياه ما فعلوه، فالضميرُ في:{مَا فَعَلُوهُ} يرجعُ في أظهرِ الأقوالِ إلى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الذي يُوحُونَهُ إليهم، فزخرفُ القولِ الذي يوحونَه إليهم لو شاء رَبُّكَ ما فعلوه. والمعنَى: لو شَاءَ اللَّهُ لَكَفَّ شياطينَ الإنسِ والجنِّ عن غرورِ الناسِ وزخرفةِ الأقوالِ لها ليغروها، ولكن له (جل وعلا) في ذلك حكمتُه البالغةُ، يفتنُ خلقَه ليظهرَ المطيعُ من العاصي.

وقولُه: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ذَرْهُمْ: مَعْنَاهُ اتْرُكْهُمْ. وهذا الفعلُ لا يوجدُ منه في اللغةِ العربيةِ إلا الأمرُ والمضارعُ. تقولُ العربُ: «ذَرْ» ، وتقول:«يذر» . بالمضارعِ والأمرِ. ولَا يوجدُ من مادتِه فعلٌ ماضٍ ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ ولا اسمُ مفعولٍ، فَمَاضِي (ذَرْ) هو قولك:«تَرَكَ» . واسمُ فاعلِه: تَارِك، واسمُ مفعولِه: متروكٌ. ومصدرُه: التركُ. ولَا يُسْتَعْمَلُ منه إلا الأمرُ والمضارعُ

(1)

. ومعنَى: {ذَرْهُمْ} : اتْرُكْهُمْ.

{وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} (ما) منصوبةٌ لأنها مفعولٌ معه. ويحتملُ أن تكونَ مصدريةً

(2)

والمعنَى: ذَرْهُمْ وافتراءَهم. وعلى أنها موصولةٌ فالمعنَى: اتْرُكْهُمْ والذي يفترونَه على اللَّهِ. وصيغةُ الأمرِ هنا إنما هي للتهديدِ، والمعنَى: خَلِّهِمْ وافتراءَهم فسيجدونَ غِبَّ ذلك، ويعلمونَ عاقبتَه الوخيمةَ. وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مباحثِ

(1)

انظر: المفردات (مادة: وذر) ص862، القرطبي (7/ 69)، الدر المصون (2/ 637).

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 177).

ص: 156

الأمرِ

(1)

، وفي فَنِّ المعاني في مباحثِ الإنشاءِ

(2)

: أن مِنَ المعانِي التي تأتي لها صيغةُ (افْعَلْ) منها: قصدُ التهديدِ والتخويفِ، كقولِه:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} [الحجر: آية 3] وقولُه: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: آية 8] وقولُه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: آية 29] كُلُّ هذه صيغٌ مرادٌ بها التهديدُ؛ ولذا قال هنا: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} والافتراءُ: هو اختلاقُ الكذبِ والعياذُ بالله جل وعلا.

وقولُه: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} [الأنعام: آية 113] أي: ليغروهم ولتميلَ إليه، أي: إلى ذلك القولِ المزخرفِ المزينِ الباطلِ؛ ليكونَ سببًا للضلالِ، تميلُ إليه أفئدة: أي: قلوبُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ - والعياذُ بالله - لأَنَّ المؤمنينَ يعرفونَ زخارفَ الشيطانِ ووحيَه، فيتباعدونَ منه ويجتنبونَه؛ ولذا قال:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} . إذا مَالَتْ قلوبُهم إليه يرضوه ويحبوه، ثم إذا رضوه وقعوا في الكفرِ المزينِ المزخرفِ والعياذُ بالله.

{وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)} [الأنعام: آية 113] الاقترافُ في لغةِ العربِ: معناه الاكتسابُ

(3)

. والمعنَى: وَلِيَكْتَسِبُوا ما هم مكتسبونَ إياه من الكفرِ والمعاصِي - عياذًا بالله - بسببِ ذلك القولِ المزخرفِ، الذي صَغَتْ إليه قلوبُهم ورضوه وأحبوه، ووقعوا بسببِه بالكفرِ والمعاصِي. والاقترافُ: الاكتسابُ. وتقول: راحَ فلانٌ يقترفُ

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 23، 37)، الإيضاح للقزويني ص148.

(2)

السابق.

(3)

انظر: المفردات (مادة: قرف) ص667.

ص: 157

لأهلِه، أي: يكتسبُ لهم من الدنيا. والمرادُ بالاقترافِ هنا: اكتسابُ المعاصِي هذا معنَى قولِه: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} .

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: الآية 114].

يقول الله جل وعلا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: الآية 114].

ذكر بعضُ أهلِ العلمِ

(1)

أن بعضَ الكفارِ طلبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتحاكَم معهم إلى بعضِ الكهانِ، كما كانت عادةُ العربِ إذا تَنَازَعُوا واختلفوا تَحَاكَمُوا إلى بعضِ الكهنةِ - والعياذُ بِاللَّهِ - فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن رَبَّهُ أمرَه أن ينكرَ كلَّ الإنكارِ على مَنْ يبتغي حَكَمًا غيرَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي هو الْحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ قُلْ:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: آية 114].

قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(2)

أن حروفَ العطفِ من (الفاء)، و (الواو)، و (ثم) إذا جاءت بعد همزةِ استفهامٍ أن فيها وَجْهَيْنِ معروفين للعلماءِ:

أحدُهما: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، وأن الفاءَ عاطفةٌ على الجملةِ المحذوفةِ، وعلى هذا فالتقديرُ يدلُّ عليه المقامُ في

(1)

سيأتي قريبًا إن شاء الله.

(2)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة، وسيأتي عند الآية (118) من الأنعام، وغير ذلك من المواضع.

ص: 158

الجملةِ، وعليه فالتقديرُ هنا: أَأَضِلُّ عن سبيلِ اللَّهِ فأبتغي حَكَمًا غيرَ الله؟

الوجهُ الثاني: أن همزةَ الاستفهامِ مُزحْلَقَةٌ عن مَحَلِّهَا وهي مقدمةٌ على حرفِ العطفِ لفظًا وهي بعدَه في الرتبةِ؛ لأن حرفَ الاستفهامِ له صدارةُ الكلامِ، وعليه فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرَةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، وهذا معروفٌ. والمعنَى: قَلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ - لأن النبيَّ مأمورٌ أن يقولَ هذا - أَأَضِلُّ عن سواءِ الطريقِ فَأَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الله؟ هذا لا يمكنُ أبدًا.

والهمزةُ في قولِه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} همزةُ إنكارٍ، وهي تدلُّ على إنكارِ الشيءِ وتشنيعِه والتباعدِ منه.

والْحَكَمُ: قال بعضُ العلماءِ

(1)

: الحَكَمُ عند العربِ أفضلُ من الحاكمِ؛ لأن الحاكمَ هو الذي يُوقِعُ الحُكمَ بين اثنين، قد يكونُ حُكْمَ عدلٍ وقد يكونُ حُكْمَ جَوْرٍ، وأما الحَكَمُ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلَاّ على الذي يُنْصِفُ في حُكْمه، والمعنَى: لا أطلبُ حَكَمًا غيرَ اللَّهِ؛ لأن اللَّهِ هو الحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ الذي هو الحاكمُ وحدَه (جل وعلا).

وفي إعرابِ (غير) و (حَكَمًا) أوجهٌ معروفةٌ (1)، قال بعضُ العلماءِ:(غير) مفعولٌ مقدمٌ لـ (أبتغي)، والمعنَى: أبتغي غيرَ الله. وعليه فقولُه: {حَكَمًا} قيل: تمييزٌ، وقيل: إنها حالٌ، أبتغي غيرَ اللَّهِ في حالِ كونِه حَكَمًا. أي: مميزةٌ لـ (غير).

(1)

سيأتي قريبًا إن شاء الله.

ص: 159

وقال بعضُ العلماءِ: (حَكَمًا) هي مفعولُ (أبتغي)، أبتغي حَكَمًا. و (غير الله) في محلِّ الحالِ. والمعروفُ في العربيةِ أن نعتَ النكرةِ إذا تَقَدَّمَ عليها صارَ حَالاً (2).

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن ينكرَ غايةَ الإنكارِ ابتغاءَ حَكَمٍ غيرِ اللَّهِ، فلا يُطْلَبُ ولا يُبْتَغَى حَكَمٌ إلَاّ خالقَ السمواتِ والأرضِ.

وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ لنا أن الحاكمَ هو خالقُ هذا الكونِ، هو الحكمُ وحدَه (جل وعلا) لا محاكمةَ إلَاّ إليه، فالحلالُ هو ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، لا حَكَمَ إلَاّ اللَّهُ، ولا حُكْمَ إلَاّ لله - كما قد بَيَّنَّا ذلك مِرَارًا (3) - والله (جل وعلا) كما يَتَنَزَّهُ أن يكونَ له ولدٌ، ويتنزه عن أن يكونَ له شريكٌ، كذلك يتنزهُ عن أن يكونَ حاكمٌ معه أو مُشرِّعٌ معه، كما في قولِه في عبادتِه:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110]، وكما قال في حكمِه:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فَحُكْمُهُ كعبادتِه، العبادةُ له وحدَه، والحكمُ له وحدَه (جل وعلا)؛ لأن اللَّه هو الذي له الحكمُ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في سورةِ المؤمنِ أن الحكمَ لا يكونُ إلَاّ لِمَنْ هو أعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كلِّ شيءٍ، فلا يكونُ إلَاّ لمن له سلطةٌ عُلْيَا قاهرةٌ حاكمةٌ على كُلِّ شيءٍ، وقد أَشَارَ اللَّهُ

ص: 160

لهذا في سورةِ المؤمنِ حيث قالَ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ، ثم قال:{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12]، فمن لم يكن بهذه المثابةِ مِنَ الْعُلُوِّ والكِبَرِ فهو ضعيفٌ مخلوقٌ محتاجٌ محكومٌ عليه مأمورٌ مَنْهِيٌّ، ليس له الحكمُ، قد بَيَّنَّا ذلك مرارًا، وَعَرَّفْنَا أنه يجبُ على سائرِ الناسِ أن يعرفوا أن الحكمَ لله وحدَه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57]، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26]، وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ

(1)

:

{ولا تُشْركْ في حكمه أحدًا} بصيغةِ النهيِ، فالحكمُ له (جل وعلا) وحدَه، فهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، وهو الذي يُشرِّع، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حرمه الله، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تشريعٌ مع اللَّهِ، وقد قَدَّمْنَا مرارًا

(2)

أن الآياتِ القرآنيةَ بكثرةٍ دَلَّتْ دلالةً واضحةً على أن كُلَّ مَنْ يُحَكِّمُ غيرَ حكمِ اللَّهِ ويتحاكم إلى غيرِ شَرْعِ اللَّهِ معتقدًا أن ذلك بمثابةِ حكمِ اللَّهِ أو أنه خيرٌ من حكمِ الله، كالذين يقولونَ: إن القرآنَ لا يَصْلُحُ لهذا الزمنِ، ولا ينظمُ علاقاتِ الدنيا بحسبِ التطورِ الحادثِ!! مَنْ يقولُ هذا وَيَدَّعِيهِ فهو كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن الملةِ بإجماعِ المسلمين وشهادةِ القرآنِ، وَرَبُّهُ الذي جَعَلَهُ ربه هو الذي اتبعَ تشريعَه؛ فإن التشريعَ وَوَضْعَ النظامِ مِنْ حَقِّ الربوبيةِ، وَكُلُّ مَنِ اتبعَ نظامَ أحدٍ فقد جَعَلَهُ رَبًّا، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على هذا الموضوعِ لا تكادُ أن تُحْصَرَ في المصحفِ، وقد جاءَ مُوَضَّحًا

(1)

تقدمت عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام ..

(2)

سيأتي عند تفسير الآية (158) من سورة الأعراف.

ص: 161

كثيرًا في هذه السورةِ الكريمةِ؛ سورةِ الأنعامِ - السورةِ العظيمةِ - لأن اللَّهَ بَيَّنَ فيها أن المشركين لَمَّا جاءهم الشيطانُ وأوحى إلى كفرةِ قريشٍ وحيَ الشياطين أن يقولوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: الشاةُ تُصْبِحُ ميتةً مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ رجلٌ تكون عندَه الغنمُ فتصبحُ منها شاةٌ ميتةٌ، قالوا: مَنْ هو الذي قَتَلَ هذه الشاةَ؟ فقال لهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: كيف تقولونَ: إنها ميتةٌ جيفةٌ مستقذرةٌ وهي ذبيحةُ اللَّهِ؟ ما ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم تقولونَ: حلالٌ مستلذٌّ طيبٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ تقولونَ: جيفةٌ ميتةٌ حرامٌ مستقذر!! فأنتم إذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ!! فأنزلَ اللَّهُ (جل وعلا) في ذلك - بإجماعِ المفسرين

(1)

- هذه الآيةُ الآتيةُ عن قُرْبٍ من سورةِ الأنعامِ، وهي قولُه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121]، يعني: لا تَأْكُلُوا الميتةَ وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأنه ذَبَحَهَا بيدِه الكريمةِ بسكينٍ مِنْ ذَهَبٍ.

ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: وإن أكلَ الميتةِ لَفِسْقٌ، أي: خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ.

ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121]، إِنْ أَطَعْتُمْ أتباعَ إبليسَ في قانونِ إبليسَ ونظامِ إبليسَ أَنَّ الميتةَ حلالٌ، وأنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ذبيحةَ اللَّهِ أحسنُ من ذبيحتِكم، إن اتبعتم في هذا النظامَ الإبليسيَّ والقانونَ الشيطانيَّ الذي يُبِيحُ الميتةَ التي حَرَّمَهَا اللَّهُ على لسانِ سيدِ الخلق - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - إن اتَّبَعْتُمْ في هذا النظامِ الإبليسيِّ والتشريع الشيطاني إنكم لمشركون، فَاللَّهُ صَرَّحَ بأن مَنِ اتبعَ نظامَ إبليسَ في تحليلِ مضغةٍ من لحمٍ هي لحمُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام ..

ص: 162

الميتةِ حَرَّمَهَا اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ، صَرَّحَ اللَّهُ بأنه مشركٌ حيث قال:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وهذا شِرْكُ ربوبيةٍ حيث اتبعتُم تشريعَ الشيطانِ، والتشريعُ من خصوصِ الربوبيةِ، فقد جعلتُم الشيطانَ هو رَبُّكُمْ - والعياذُ بالله - وهؤلاء الذين يتبعونَ تشريعَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ ونظامَه الذي يشرعُ على ألسنةِ أوليائِه من الكفرةِ الفجرةِ، هم الذين يُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ في السورةِ الكريمةِ سورةِ يس، ويبينُ مصيرَهم كما بَيَّنَهُ في قولِه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} يعنِي: أَلَمْ أُوصِيكُمْ في دارِ الدنيا أن لا تعبدُوا الشيطانَ؟ وعبادةُ الشيطانِ الذي عَهِدَ إليهم فيها: ألَاّ يَتَّبِعُوا نظامَه وقانونَه في تحليلِ المعاصِي والكفرِ، والعياذُ بالله:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} واتبعوا تَشْرِيعِي الذي أنزلتُه على ألسنةِ أنبيائي {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيْمٌ} .

ثُمَّ بَيَّنَ للذين اتبعوا طرقَ الشيطانِ ونظامَه وشرعَه فاتبعوا المعاصيَ والكفرَ في تحليلِ الشيطانِ وتزيينِه، قال اللَّهُ فيهم:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ثم بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لِمُتَّبِعِي نظامَ الشيطانِ وتشريعَ إبليسَ بقولِه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُنَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: الآيات 60 - 65]، وَلِذَا قال نَبِيُّ اللَّهُ إبراهيمُ الخليلُ - عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ -:{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} ] مريم: آية 44 [، يعني: لا تعبدِ الشيطانَ، لا تَتَّبِعْ النظامَ الذي يُزَيِّنُهُ لكَ ويزخرفُه من زخرفِ القولِ غُرُورًا، من عبادةِ الأوثانِ،

ص: 163

والكفرِ بالله والمعاصي- والعياذُ بالله - وقد قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: ما يعبدونَ إلَاّ شيطانًا، وعبادتُهم للشيطانِ هي اتِّبَاعُهُمْ ما يُشَرِّعُ لهم وَيُحَلِّلُ لهم - والعياذُ بالله - وقد سَمَّى اللَّهُ في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - سَمَّى الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ سَمَّاهُمْ شركاءَ لِلَّهِ حيث أُطيعوا في معصيتِه؛ وذلك في قولِه:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ شركاءَ لِمَّا قالوا لهم: اقتلوا أولادكم فقتلوهم.

وقد ثَبَتَ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه أنه سَأَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِه تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] قال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كيف اتخذوهم أربابًا؟ قال: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا»

(1)

.

وقد أوضحَ اللَّهُ (جل وعلا) في السورةِ الكريمةِ - سورةِ النساءِ - أن الذي يَدَّعِي الإيمانَ ويُحكِّمُ شَرْعًا غيرَ شرعِ اللَّهِ أن دَعْوَاهُ الإيمانَ إنها بالغةٌ من الكفرِ والكذبِ والفجورِ ما يمكنُ التعجبُ منها، وذلك في قولِه مُعجِّبًا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} [النساء: آية 60] يضلهم ضلالاً بعيدًا عن طريقِ الصوابِ الذي شرَّعَهَا خالقُ الكونِ على لسانِ سيدِ الخلقِ، يضلهم ضلالاً بعيدًا لِيَتَّبِعُوا تشريعَ

(1)

السابق.

ص: 164

إبليسَ ونظامَ الشيطانِ الذي شَرَّعَهُ على ألسنةِ أوليائِه الكفرةِ الفجرةِ - والعياذُ بالله - فهذهُ الآياتُ وأمثالُها تُعْلِمُنَا أن التشريعَ من خصائصِ الربوبيةِ، وأن الأمرَ والنهيَ والتحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلَاّ لمن له السلطةُ العليا التي هي فوقَ كُلِّ شَيْء، وهي سلطةُ خالقِ هذا الكونِ (جل وعلا) فهذا الكونُ له مُدَبِّرٌ هو الذي رفعَ هذه السماواتِ وَنَصَبَ هذه الأرضَ، ووضعَ هذه الجبالَ، وَصَبَغَهَا بألوانٍ مختلفةٍ، وفتحَ هذه العيونَ في أوجهكم، وصبغَ بعضَ عيونِكم بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وجعل لكم في أجوافِكم الكبدَ والرئةَ وَالْكُلْيَتَيْنِ والطحالَ، ووضعَ كُلاًّ في موضِعه، ووكَّلَه بوظيفتِه البدنيةِ، ولو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ من أعضاءِ الإنسانِ لاطُّلع في من غرائبِ صنعِ اللَّهِ وعجائبِه على ما يُبْهِرُ العقولَ، وهذا الذي فَعَلَ في كُلِّ واحدٍ مِنْكُمْ فِعْلَهُ فيكم وأنتم في بطونِ أمهاتِكم لم يَحْتَجْ أن يُبَنِّجَ أمهاتِكم، ولا أن يشقَ بطونَها حتى يعملَ هذه العملياتِ فيكم، بل عملها وَبَصَرُهُ نافذٌ، وعلمُه محيطٌ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: آية 6]

هذا الذي رَفَعَ السماواتِ وَدَحَا الأرضين والبحارَ، وخلقَ الآدَمِيِّينَ وَأَوْدَعَ فيهم مِنْ غرائبِ صنعِه وعجائبِه

(1)

، هذا هو الربُّ، هذا هو المعبودُ وهو المشرعُ،

(1)

تحدث الشيخ رحمه الله في مواضع كثيرة من هذه الدروس عن عجيب صنع الله وخلقه في الإنسان وغيره، انظر على سبيل المثال ما تقدم عن تفسير الآية (92) من سورة الأنعام.

ص: 165

وهو الحاكمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ، فمن تَمَرَّدَ على نظامِه وجاءَ بنظامِ الشيطانِ وإبليسُ فهو من الذين قال اللَّهُ فيهم:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: آيتان 63، 64].

قَرَأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عَدَا حَفْصًا، وابنَ عامرٍ:{مُنْزَلٌ من ربك بالحق} بصيغة اسم مفعول (أَنْزَل). وقرأه حفصٌ عن عاصمٍ، وابن عامرٍ {مُنَزَّلٌ} بصيغةِ اسمِ المفعولِ من (نَزَّله) مُضَعَّفًا

(1)

.

كان كفارُ قريشٍ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: احْتَكِمْ معنا إلى علماءِ اليهودِ والنصارى، الذين عندهم بقيةُ عِلْمٍ من التوراةِ والإنجيلِ؛ لِيُخْبِرُونَا أَأَنْتَ رسولُ حَقًّا أَمْ لَا

(2)

.

وقال بعضُهم

(3)

: قالوا له: نحنُ وأنتَ اخْتَلَفْنَا فَلْنَتَحَاكَمْ إلى بعضِ الكهنةِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ جل وعلا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يُبَيِّنَ - أنه لا يَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الحَكَمِ العدلِ، خالقِ السماواتِ والأرضِ، الذي أَنْزَلَ هذا الكتابَ وَفَصَّلَهُ.

وأهلُ الكتابِ الذين تريدونَ أن نتحاكمَ معكم إليهم يعلمونَ أن هذا الكتابَ حَقٌّ، وأنه مُنَزَّلٌ من اللَّهِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص201.

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 208 - 209)، ولم أقف على ذلك في غيره.

(3)

السابق.

ص: 166

رسولٌ حَقًّا. كما أُخِذَ عليهم بذلك العهدِ في كُتُبِهِمْ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.

{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: آية 146] وقد أَخَذَ اللَّهُ العهدَ على جميعِ الرسلِ، وعلى أُمَمِهِمْ أن مَنْ أَدْرَكَ [منهم]

(1)

النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يؤمنَ به ويصدقَه، كما قَدَّمْنَا بَيَانَهُ في سورةِ آلِ عمرانَ في قولِه:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: آية 81] ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: أأضلُّ عن سواءِ الطريقِ ضلالاً بعيدًا في الحكومةِ فَأَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ اللَّهِ؟! لا يكونُ ذلك مِنِّي أَبَدًا.

قال بعضُ العلماءِ: والحَكَمُ: أعظمُ مِنَ الحاكمِ؛ لأَنَّ الحَكَمَ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلا على مَنْ هو معروفٌ بالإنصافِ والعدالةِ في حكومتِه، أما الحاكمُ فيطلقُ على كُلِّ مَنْ يَحْكُمُ، سواءٌ حَكَمَ بِجَوْرٍ أَمْ بِحَقٍّ

(2)

.

والهمزةُ للإنكارِ. أي: لا أَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ اللَّهِ. وقد قَدَّمْنَا بعضَ الكلامِ على بعضِ هذه الآيةِ وَأَوْضَحْنَا إعرابَ (غير) و (حَكَمًا).

وقولُه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي: لَا يكونُ ذلك؛ لأن الهمزةَ إنكارٌ، بمعنَى النفيِ

(3)

. أي: وهو الذي أَنْزَلَ، الْحَكَمُ الذي

(1)

في الأصل: "أن منهم من أدرك النبي".

(2)

انظر: القرطبي (7/ 70)، البحر المحيط (4/ 209)، الدر المصون (5/ 123).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 209).

ص: 167

لَا أبتغي حَكَمًا سواه هو اللَّهُ الذي أَنْزَلَ إليكم على لسانِي هذا الكتابَ - القرآنَ العظيمَ - الذي جَمَعَ اللَّهُ فيه ثمراتِ الكتبِ المنزلةِ، وَجَمَعَ فيه علومَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.

وقولُه: {مُفَصَّلاً} أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا، آياتُه تُوَضَّحُ فيها العقائدُ والحلالُ والحرامُ والأمثالُ والمواعظُ والآدابُ والمكارمُ؛ لأنه في غايةِ الإيضاحِ والتفصيلِ، والذي فَصَّلَهُ هو الحكيمُ الخبيرُ:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: آية 1].

وقولُه: {مُفَصَّلاً} حالٌ مِنَ {الْكِتَابَ}

(1)

أي: أَنْزَلَهُ إليكم في حالِ كونِه مُفصَّلاً، أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا فيه العقائدُ، مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ، والنافعُ من الضارِّ، والحسنُ من القبيحِ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وما يقرِّب إلى اللَّهِ، وما يُوَصِّلُ إلى جنتِه، وما يُبْعِدُ من اللَّهِ ويسخطُه، ويوصلُ إلى نارِه، وَبَيَّنَ مصيرَ الفريقين، وما أعدَّ لأوليائه، وما أعدَّ لأعدائِه، كُلُّ هذا مُوَضَّحٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ، وإن كان في القرآنِ بعضُ الآياتِ المتشابهاتِ، فإنها تُرَدُّ إلى الْمُحْكَمَاتِ، وَيُعْرَفُ إيضاحُها بِرَدِّهَا إلى المحكماتِ.

كَمَا قَدَّمْنَا في سورةِ آلِ عمرانَ في تفسيرِ قولِه: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: آية 7].

يعني: أن المحكماتِ هُنَّ أُمُّ الكتابِ التي يُرَدُّ إليها ما أُشْكِلَ من مُتَشَابِهَاتِهِ. وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: آية 114] التفصيلُ: ضِدُّ الإجمالِ، وهو الإيضاحُ

(1)

المصدر السابق (4/ 209)، الدر المصون (5/ 123).

ص: 168

والبيانُ

(1)

. وقولُ مَنْ قال: «{مُفَصَّلاً} أي: بَيْنَهُ فَتَرَاتٌ وفَصْلٌ؛ لأنه يُنَزَّلُ أَنْجُمًا مُنَجَّمًا. هو غيرُ الصوابِ، والتحقيقُ: أن معنَى قولِه: {مُفَصَّلاً} : أنه مُبَيَّنٌ مُوَضَّحٌ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ والحلالَ والحرامَ، ومصيرَ أهلِ الجنةِ، ومصيرَ أهلِ النارِ، وَكُلَّ شيءٍ يحتاجُ إليه الخلقُ، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: آية 89] فالقرآنُ فيه تبيانُ كُلِّ شيءٍ، وَلَكِنَّ الناسَ [كل منهم]

(2)

يأخذ منه بِقَدْرِ ما أعطاه اللَّهُ من الفهمِ، فهو بَحْرٌ، وَكُلٌّ يَغْرِفُ منه بِحَسَبِ ما عندَه، كما بَيَّنَهُ حديثُ أميرِ المؤمنين عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ رضي الله عنه وأرضاه)، كما ثَبَتَ عنه في صحيحِ البخاريِّ

(3)

: أنه لَمَّا سَأَلَهُ أبو جحيفةَ: هَلْ خَصَّكُمْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ؟ أجاب عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا والذي فَلَقَ الحبةَ وبرأَ النسمةَ، إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رجلاً في كتابِ الله، وما في هذه الصحيفةِ. قال: وما في هذه الصحيفةِ؟ قال: العقلُ وفكاكُ الأسيرِ، وَأَلَاّ يُقْتَلَ مسلمٌ بكافرٍ. ومحلُّ الشاهدِ من الحديثِ: قولُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «إِلَاّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رجلاً في كتابِ اللَّهِ» فهو يدلُّ على أن مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ فَهْمًا في كتابِ اللَّهِ فَهِمَ علومًا خَصَّهُ اللَّهُ بها لم تكن عن أحدٍ؛ لأن القرآنَ يتضمنُ جميعَ الأشياءِ، والناسُ في فَهْمِهِ بحسبِ ما أعطاهم اللَّهُ من المواهبِ؛ ولذا قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} .

وقولُه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} {آتَيْنَاهُمُ} معناه: أَعْطَيْنَاهُمُ

(1)

انظر: ابن جرير (11/ 396)، (12/ 60)، البحر المحيط (4/ 209).

(2)

في الأصل: كلهم.

(3)

تقدم تخريجه في مقدمة الكتاب.

ص: 169

{الْكِتَابَ} والمرادُ بالكتابِ: جنسُ الكتابِ الصادقِ بالتوراةِ والإنجيلِ، وصيغةُ الجمعِ في قولِه:{آتَيْنَاهُمُ} للتعظيمِ. والمعنَى: والإسرائيليونَ والنصارى الذين أَعْطَيْنَاهُمْ عِلْمًا من علمِ التوراةِ والإنجيلِ يعلمونَ أن هذا القرآنَ {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أن اللَّهَ نَزَّلَهُ عليكَ في حالِ كونِه مُتَلَبِّسًا بالحقِّ؛ لأن كُلَّ ما فيه حَقٌّ، لا يأمرُ إلا بخيرٍ، ولا يَنْهَى إلا عن شَرٍّ، ولا يُخْبِرُ إلا بصدقٍ، إلى غيرِ ذلك من أمورِ أحقيتِه.

ومعنَى الآيةِ: علماءُ اليهودِ والنصارى الذين تطلبونَ أن نتحاكمَ إليهم هم يعلمونَ أن هذا الكتابَ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ حقٌ، وأني رسولُ اللَّهِ، ولأنهم يعلمونَ أن الكتابَ حَقٌّ [وأنه]

(1)

{مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} .

وقوله: {بِالْحَقِّ} كأنه في مَحَلِّ حالٍ. أي: في حالِ كونِه متلبسًا بِالْحَقِّ

(2)

، والحقُّ: ضِدُّ الباطلِ. ومعناه: أن هذا القرآنَ لا باطلَ فيه، كُلُّهُ حَقٌّ، وَكُلُّهُ هُدًى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ} [يونس: آية 32] كما يأتِي إيضاحُه في قولِه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] وهذا معنَى قولِه: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} .

{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: آية 114](الفاء) كأنها سببيةٌ. أي: يتسببُ عن كونِ هذا القرآنِ حَقًّا لَا شَكَّ فيه ألا يمتريَ أَحَدٌ فيه.

(1)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة لربط أجزاء الكلام.

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 124).

ص: 170

وقولُه: {الْمُمْتَرِينَ (94)} هو جمعُ الْمُمْتَرِي. والممتريُ: اسمُ فاعلِ امْتَرَى، يَمْتَرِي، فهو مُمْتَري: إذا كان شَاكًّا

(1)

. وأصلُه: (ممتريُ) من المِرْيَة، والمِرْيَةُ: الشكُّ.

[ومعلومٌ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ شَاكًّا فيما أَوْحَى اللَّهُ إليه، وإنما هذا كقولِه: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)} [الإنسان: آية 24] وكقولِه: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14)} [الأنعام: آية 14] وكقولِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: آية 1] ولَا يَخْفَى أن رسولَ اللَّهِ صلواتُ اللَّهِ]

(2)

وسلامُه عليه أنه مُتَّقٍ لله وأنه لا يطيعُ منهم آثِمًا ولا كَفُورًا، وأنه لا يشركُ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا

(3)

أنه جَرَتَ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ (جل وعلا) يأمرُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَيَنْهَاهُ ليُشرِّعَ ذلك الأمرَ والنهيَ لأُمَّتِهِ على لسانِه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو القدوةُ لَهُمْ، المُشَرِّعُ لهم بقولِه وفعلِه وتقريرِه، وَمِنْ أَكْبَرِ الأدلةِ على ذلك: هو ما قَدَّمْنَا في آيةِ بنِي إسرائيلَ، وهي قولُه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: آية 23] هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على التحقيقِ؛ لأن كُلَّ الخطاباتِ في الآياتِ له، يقولُ له اللَّهُ:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} يعني: إِنْ يَبْلُغْ عندَك والداك الكبرَ أو أحدُ وَالِدَيْكَ {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} ومعلومٌ أن وقتَ نُزُولِهَا أن وَالِدَيْهِ قد مَاتَا مِنْ زَمَانٍ؛ لأن أباه مَاتَ وهو حَمْلٌ، وأمُّه مَاتَتْ وهو (صلواتُ الله عليه

(1)

انظر: المفردات (مادة: مرى) ص 766.

(2)

في هذا الموضع انقطاع في التسجل وما بين المعقوفين [

] زيادة يتم بها الكلام.

(3)

مضى عند تفسير الآية (90) من هذه السورة ..

ص: 171

وسلامُه) صغيرٌ، فَعُرِفَ أنه أَمَرَهُ بأنه إن بلغَ وَالِدَاهُ أو أحدُهما الْكِبَرَ أن يَبَرَّهُمَا، وهما قد مَاتَا، لا يُمْكِنُ بِرُّهُمَا، عَرَفْنَا من ذلك أنه يأمرُه ليُشرِّعَ للناسِ على لسانِه صلى الله عليه وسلم، وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن مِنْ أساليبِ اللغةِ العربيةِ [15/ب] المعروفةِ: / أن الإنسانَ يُخَاطِبُ إنسانًا والمرادُ عندَه بالخطابِ غيرُه

(1)

، وَذَكَرْنَا فيه مرارًا المثلَ المعروفَ:(إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ)

(2)

وَبَيَّنَّا فيما مَضَى أنه مِنْ رَجَزٍ لرجلٍ من بني فزارةَ، يُسَمَّى: سهل بن مالكٍ، نَزَلَ في بيتِ حارثةَ بنِ لأم الطائيِّ، ووجدَه غائبًا، فأكرَمَتْه أُخْتُهُ، وَأُعْجِبَ بِجَمَالِهَا، فَأَرَادَ أن يُعَرِّضَ لها بالخطبةِ فخاطبَ أُخرى غيرَها قائلاً:

يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَةْ

كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ

أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةْ

إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ

فَعَلِمَتْ بنتُ

(3)

حارثةَ بنِ لأم الطائيِّ أن الخطابَ مُوَجَّهٌ إليها وإن كانَ يخاطبُ غيرَها حيث قال: «إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ» .

فَأَجَابَتْ قَائِلَةً:

إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فَزَارَةْ

لَا أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلَا الدَّعَارَةْ

وَلَا فِرَاقَ أَهْلِ هَاذِي الْحَارَةْ

فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَةْ

والشاهدُ من هذا الرَّجَزِ قولُه: «إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ»

(1)

انظر: ابن جرير (2/ 485 - 487، 500)، (3/ 191)، بصائر ذوي التمييز (1/ 109)، فتح الباري (3/ 174، 355).

(2)

انظر: المثل ومناسبته في كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلَاّم ص 65، (وانظر معه في الهامش رقم (2)، مجمع الأمثال للميداني (1/ 80 - 81) ..

(3)

هذا من سبق اللسان. وإلا فهي أخته.

ص: 172

فهو أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، يخاطبُ الإنسانُ إِنْسَانًا لينقلَ الخطابَ بواسطتِه إلى غيرِه، والقرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ولا سيما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الْمُشَرِّعُ، فَمَا أُمِرَ بِهِ أو نُهِيَ عنه صارَ مُشَرَّعًا لأُمَّتِهِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه) ولذا قال هنا:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: آية 114] وقالت جماعةٌ من أهلِ العلمِ: الخطاباتُ في قولِه: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: آية 65] كالخطابِ العامِّ الْمُوَجَّهِ لجميعِ الناسِ وإن كان لفظُه مُفْرَدًا

(1)

، كما هو معروفٌ، كقولِ طَرَفَةَ بنِ العبدِ

(2)

:

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً

وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

فَإِنَّ هذا الخطابَ لفظُه كأنه مفردٌ، ومعناه عامٌّ مُوجَّهٌ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه الخطابُ. هذا معنَى قولِه:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} أي: لا تَكُونَنَّ يا نَبِيَّ اللَّهِ. أي: يا مخاطبُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الخطابُ: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ (49)} أي: في الشَّاكِّينَ في أن هذا الكتابَ مُنَزَّلٌ من اللَّهِ. أي: لا تَكُونَنَّ من الممترين في أن الذين آتَيْنَاهُمُ الكتابَ يعلمونَ أنه مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بالحقِّ.

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: آية 115]{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} قرأ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عدا الكوفيين الثلاثةَ، قرأه من السبعةِ: نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عَامِرٍ كُلُّهُمْ قرؤوا: {وتمت كلماتُ ربك صدقًا وعدلا} بصيغةِ الجمعِ، وقرأه الكوفيونَ، أَعْنِي: عَاصِمًا وحمزةَ والكسائيَّ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 209).

(2)

البيت من معلقته. وهو في شرح القصائد المشهورات (1/ 94).

ص: 173

بالإفرادِ

(1)

. ومعنَى القراءتين واحدٌ؛ لأَنَّ (الكلمةَ) أُضِيفَتْ إلى معرفةٍ فتعمُّ، كقولِه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أوامره {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: كلماتُ رَبِّكَ. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في آياتٍ من كتابِه أن كلماتِه (جل وعلا) لا حصرَ لها ولا نهايةَ، كما قال في قولِه جل وعلا:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: آية 27]، وكقولِه:{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: آية 109] والمرادُ بالتمامِ هنا: الكمالُ التامُّ من جميعِ الجهاتِ، والمعنَى: أن كلماتِ الله - ومنها هذا القرآنُ العظيمُ - أنها بالغةٌ غايةَ الكمالِ والتمامِ.

وقولُه: {صِدْقًا وَعَدْلاً} قال بعضُهم

(2)

: هما تمييزٌ مُحوَّلٌ عن الفاعلِ. أي: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا.

وقال بعضُ العلماءِ

(3)

: هما مصدرانِ حالانِ. أي: تَمَّتْ في حالِ كونِها صادقةً عادلةً.

وأعربهما بعضُ العلماءِ بأن كِلَيْهِمَا ما نَابَ عن الْمُطْلَقِ؛ لأن التمامَ يتضمنُ معنَى الصدقِ والعدالةِ، أي: تَمَّتْ، أي: صَدَقَتْ وعَدَلَتْ. {صِدْقًا وَعَدْلاً} والمعنَى أنها كاملةٌ صِدْقًا فِي أخبارِها، وَعَدْلاً في أحكامِها. وقولُه:{صِدْقًا} أي: في جميعِ الأخبارِ {وَعَدْلاً} أي: في جميعِ الأحكامِ. فما في القرآنِ من أحكامٍ فهو في

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 210.

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 124).

(3)

انظر: الدر المصون (5/ 124).

ص: 174

غايةِ العدالةِ والإنصافِ ومراعاةِ مصالحِ البشرِ في دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وما فيه من الأخبارِ فهو صحيحٌ حَقٌّ مُطَابِقٌ للواقعِ، لا يأتيه الباطلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ. يعنِي أن ما تُخْبِرُونَ فيه من الأخبارِ هو حَقٌّ، وما تُؤْمَرُونَ فيه وما تُنْهَوْنَ عنه فيه من الشرائعِ فهو في غايةِ العدالةِ والكمالِ، وإذا كانت كلماتُ اللَّهِ بهذه المثابةِ من الكمالِ والصدقِ في الأخبارِ والعدالةِ في الأحكامِ فليس لأحدٍ أن يطلبَ عنها غيرَها، فَاللَّهُ (جل وعلا) كلماتُه تامةٌ في عدالتِها، كُلُّ شَرْعِهِ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ والإحكامِ، وَكُلُّ أخبارِه في غايةِ الصدقِ؛ وَلِذَا فإن هذا القرآنَ العظيمَ جاء للبشريةِ بخيرِ الدنيا والآخرةِ، أما في دارِ الدنيا: فجاءَ فيه تنظيمُ علاقاتِها، أُمِرَ فيه الفردُ بأن يكونَ لَبِنَةً صالحةً لبناءِ المجتمعِ، بأن يكونَ سَخِيًّا باذلاً لِمَا لَدَيْهِ، وأن يكونَ شُجَاعًا مُضَحِّيًا، وأن يكونَ مُخْلِصًا لأُمَّتِهِ لا يغشها، إلى غيرِ ذلك من مكارمِ الأخلاقِ.

وعَلَّمَ الإنسانَ كيفَ يُعَاشِرُ أقربَ الناسِ إليه؛ زوجتَه وأبناءه وَأُسْرَتَهُ الأَدْنَيْنِ، أَمَرَهُ أن يتحفظَ منهم غايةَ التحفظِ لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ لأنهم رُبَّمَا أَوْقَعُوهُ فيما لا يَنْبَغِي، ثم أَمَرَهُ إذا وَجَدَ منهم ما لَا يحبُ أن يعاملَهم باللينِ والصفحِ والمغفرةِ، كما قال في التغابن:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] فَمِنْ شدةِ حكمتِه يُعَلِّمُ الإنسانَ كيف يُعَاشِرُ أسرتَه الأَدْنَيْنِ، وَأَنْ يَحْذَرَ مِنْ شَرِّ امْرَأَتِهِ وأولادِه؛ لئلَاّ يُضَيِّعُوا عليه دِينَهُ أو دُنْيَاهُ، ثم إذا عَثَرَ منهم على ما لَا ينبغي أَمَرَهُ ألا يعاملهم بالشدةِ والمكروهِ؛ ولذا قال في هذه الآيةِ:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ثم قال - إذا رأى منهم ما يَكْرَهُ -: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)} وَعَلَّمَ الإنسانُ

ص: 175

كيف يعاشرُ مجتمعَه، وَبَيَّنَ له ما يعاشرُ به مجتمعَه من الوفاءِ والإخلاصِ والبذلِ والسخاءِ والتضحيةِ، وَأَمَرَ الرؤساءَ أن يَلِينُوا للمرؤوسين، وأن يَسْعَوْا في مصالحِهم وَيُنْصِفُوهُمْ، ويلينوا لهم الجانبَ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: آية 159]{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: آية 88] وَأَمَرَ المرؤوسين أَنْ يُطِيعُوا الرؤساءَ، ويعاونوهم على الخيرِ والسمعِ والطاعةِ؛ لتتحدَ جهودُ الجميعِ إلى ما فيه مصلحةُ الدنيا والآخرةِ.

وَأَحَاطَ الجواهرَ الستَّ التي عليها مدارُ المظالمِ والإنصافاتِ في دارِ الدنيا؛ لأن جميعَ المظالمِ والإنصافاتِ في دارِ الدنيا إذا تَأَمَّلْتَهَا فهي راجعةٌ إلى ستةِ جواهرَ، اعتْنَى دينُ الإسلامِ بالإحاطةِ بها، وهذه الجواهرُ الستُّ - أعنِي بها - الدِّينَ والنفسَ والنسبَ والعقلَ والمالَ والعِرْضَ. هذه الجواهرُ الستُّ التي تدورُ حَوْلَهَا المظالمُ والإنصافاتُ في الدنيا

(1)

، وأعظمُها: دينُ الإنسانِ. فهؤلاء الذين يَأْتُونَ البلادَ متمسكةً بدينٍ، وَيَدُسُّونَ لهم السمومَ والمذاهبَ الهدامةَ والتعاليمَ الخبيثةَ، حتى يُضَيِّعُوا دينَهم، وَيَفْصِلُوا بينَهم وبينَ خالقِهم، هذا أكبرُ عُدْوَانٍ، وأعظمُ جريمةٍ عَرَفَهَا التاريخُ. كذلك الأنفسُ بعدَ ذلك، الذي يَظْلِمُ إنسانًا فيقتلُه ظُلْمًا، ثم بعدَ ذلك تكونُ العقولُ كالذي يضيعُ عقلَ الإنسانِ، أو إنسانٌ يُضَيِّعُ عقلَ نفسِه، كالذي يشربُ الخمرَ. فَاللَّهُ (جل وعلا) حَمَى الدِّينَ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(2)

حمايةً للدين.

وقال اللَّهُ جل وعلا: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ

(1)

انظر: المستصفى (1/ 287)، أضواء البيان (3/ 449).

(2)

البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، حديث رقم (6922)، (12/ 267).

ص: 176

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: آية 39] وقد حَمَى اللَّهُ الأنفسَ؛ ولذلك شرعَ القصاصَ حياطةً لأنفسِ الناسِ؛ لأَنَّ مِنْ أعظمِ السدِّ دونَ القتلِ وهو شرعيةُ القصاصِ، وَاللَّهُ يقولُ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: آية 179] هذا من مراعاةِ القرآنِ لمصالحِ البشريةِ في دينِها وَدُنْيَاهَا؛ لأن القاتلَ إذا احترقَ قلبُه من الغضبِ فأخذَ الآلةَ ليقتلَ تَذَكَّرَ إيقافَه للقصاصِ على الخشبةِ للقتلِ فَارْتَعَدَتْ فرائصُه، وَخَافَ من ذلك الموقفِ الهائلِ، فَسَلِمَ هو مِنَ القتلِ، وَسَلِمَ مَنْ كان يريدُ أن يقتلَه، كما قَالَ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179] وقد جعلَ على العقولِ حِمًى، حيث حَرَّمَ شربَ كُلِّ ما يضرُّ بالعقلِ من مسكرٍ ونحوِه، قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»

(1)

(1)

هذه الجملة رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:

1 -

عبد الله بن عمر رضي الله عنه: - أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام برقم:(2003)(3/ 1587).

2 -

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: - أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، برقم:(242)، (1/ 354)، وأطرافه في:(5585، 5586)، ومسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام. برقم:(2001)، (3/ 1585) بلفظ:(كل شراب أسكر فهو حرام).

3 -

جابر بن عبد الله رضي الله عنه: - أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام برقم:(2002)، (3/ 1587).

4 -

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: - أخرجه البخاري في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم:(4343، 4344، 4345)، (8/ 62)، وأطرافه في (6124، 7172)، وأخرجه مسلم في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، برقم:(977)، (3/ 1585).

5 -

بريدة رضي الله عنه: - أخرجه مسلم في الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت. حديث رقم:(977)، (3/ 1585).

وفي الباب - في غير الصحيحين - عن ابن مسعود، وأشج عبد القيس، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وأبي وهب الجيشاني ووائل بن مُحبر، وابن عباس، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد بن عبادة، وبريدة، وفيروز بن الديلمي، وأبي سعيد الخدري، وعلي، وعبد الله بن المغفل، وقرة بن إياس، وميمونة رضي الله عنهم أجمعين).

ص: 177

(1)

الحديث جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:

1 -

عائشة: - أخرجه أحمد في المسند (6/ 71، 72، 131)، وأخرجه في كتاب الأشربة كذلك ص 97، وأبو داود في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء في السكر، برقم:(3670)(10/ 151)، والترمذي في السنن، أبواب الأشربة، باب ما جاء أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم:(1866)(4/ 293)، وابن الجارود في المنتقى كما في الغوث (3/ 154)، وأبو يعلى في المسند (7/ 322)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 216 - 217)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (7/ 379)، والطبراني في الأوسط (4/ 194، 216، 223، 249)، (9/ 130)، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 1255)، (3/ 994)، (4/ 1624)، وأخرجه الدارقطني في السنن بألفاظ مختلفة (4/ 254 - 256) وأخرجه ابن حزم في المحلى (7/ 500، 510)، والبيهقي في السنن (8/ 296) وفي الشعب (10/ 191)، والجوزجاني في الأباطيل والمناكير (2/ 238)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، والألباني في صحيح الجامع برقم:(5407)، وصحيح أبي داود (2/ 703).

2 -

زيد بن ثابت: - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5/ 139) وفي الأوسط (6/ 291)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250).

3 -

سعد بن أبي وقاص: - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم: (3815)، والنسائي في الكبرى، كتب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم:(5118، 5119) بلفظ: (نهى عن قليل ما أسكر كثيره)، وأخرجه في السنن الصغرى، كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم:(5608 - 5609)(8/ 301)، والدارمي في سننه (2/ 39)، وابن الجارود (3/ 154)، وأبو يعلى في المسند (2/ 55) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 216)، وابن حبان في الصحيح (كما في الإحسان 7/ 375)، والدارقطني (4/ 251) وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي في الكبرى (8/ 296) وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وهو في الدراية (2/ 250).

4 -

ابن عمر: - أخرجه أحمد (2/ 91)، وابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم:(3392)، (2/ 1124) والطبراني في الأوسط (1/ 197)، (4/ 155)، (5/ 106)، (8/ 52) وفي الكبير (12/ 381)، وابن عدي (1/ 387)، (4/ 1589)، (6/ 2254، 2389)، (7/ 2519)، والدارقطني في العلل (2/ 17) وانظر السنن له (4/ 262)، وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي (8/ 296)، وهو في نصب الراية (4/ 301) وفي التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، وصحيح ابن ماجه (2/ 245).

5 -

جابر بن عبد الله: - أخرجه أحمد (3/ 343)، وأخرجه في كتاب الأشربة برقم (148)، وأبو داود في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء في السكر، برقم:(3664)، (10/ 121)، والترمذي في السنن، كتاب الأشربة، باب ما جاء: ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم:(1865)، (4/ 292)، وقال: وفي الباب عن سعد، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر، وخوَّات بن جبير، وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، برقم:(3393)، (2/ 1125)، وابن الجارود (3/ 153)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 217)، وابن حبان (كما في 7/ 379)، وابن عدي (3/ 1177)، وابن حزم في المحلى (7/ 500)، والبيهقي في السنن (8/ 296) وفي شعب الإيمان (10/ 192)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 255)، والبغوي (11/ 350 - 351)، والجوزجاني في الأباطيل (2/ 237)، والمزي في تهذيب الكمال (8/ 377)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250)، والألباني في صحيح الجامع برقم:(5406)، صحيح أبي داود (2/ 702)، صحيح الترمذي (2/ 170)، صحيح ابن ماجه (2/ 245).

6 -

خَوّات بن جبير: - أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 233)، والطبراني في الكبير (4/ 205) وفي الأوسط (2/ 171)، والدارقطني في السنن (4/ 254) والحاكم في المستدرك (3/ 466)، وابن الأثير في الاستيعاب (1/ 445)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدارية (2/ 250).

7 -

أنس بن مالك: - أخرجه أحمد (3/ 112) وأبو يعلى (7/ 50)، وذكر الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، والهيثمي في المجمع (5/ 56) وقال: «رواه أحمد وأبو يعلى

والبزار باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح» ا. هـ، وذكره ابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250).

8 -

عبد الله بن عمرو: - أخرجه أحمد (2/ 167، 2/ 179)، والنسائي في الكبرى، كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم:(5117)، (3/ 216)، وفي كتاب الأشربة المحظورة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم:(6820)، (4/ 186)، وأخرجه في الصغرى في كتاب الأشربة، باب تحريم كل شراب أسكر كثيره، برقم (5607)، (8/ 300)، وابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام. برقم:(3394)، (2/ 1125)، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 217)، والدارقطني (4/ 254، 257، 258)، وابن حزم في المحلى (7/ 500) والبيهقي (8/ 296) وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في الدراية (2/ 250) وفي التلخيص (4/ 73)، وانظر صحيح ابن ماجه (2/ 245)، صحيح النسائي (5180).

9 -

علي بن أبي طالب: - أخرجه الدارقطني (4/ 250)، والبيهقي (8/ 296)، وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/ 301)، وابن حجر في التلخيص (4/ 73)، وفي الدراية (2/ 250) وقال فيه:«إسناده ساقط» ا. هـ.

10 -

ابن عباس: - أخرجه الدارقطني (4/ 256).

ص: 178

{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ} [المائدة: آية 90] إلى قولِه: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وتحريمُ هذه المسكراتِ كُلِّهَا مُحَافَظَةً من النظامِ السماويِّ على عقولِ الناسِ؛ لأَنَّ مَنْ شَرِبَ فضاعَ عقلُه ارتكبَ كُلَّ فاحشةٍ وكلَّ سوءٍ - والعياذُ بالله - لأَنَّ نورَ العقلِ هو النورُ الذي يميزُ الإنسانَ به بينَ الْحَسَنِ والقبيحِ، والنافعِ والضارِّ، فربما إذا سَكِرَ رُبَّمَا وَقَعَ على ابنتِه، وَرُبَّمَا ضربَ جَارَهُ.

وَذَكَرَ بعضُهم في تفسيرِ آيةِ الخمرِ في سورةِ المائدةِ: أنه رَأَى شَائبًا شَارِبًا - والعياذُ بالله - يبولُ في يَدَيْهِ - يتخيلُ للخبيثِ أنه يَتَوَضَّأُ - ويستنشقُ ويتمضمضُ بالبولِ، ويغسلُ وجهَه ولحيتَه بالبولِ، ويقولُ: الحمدُ لله الذي جعلَ الإسلامَ نُورًا، والماءَ طَهُورًا

(1)

!! وهو لا يَدْرِي أنه يغسلُ وجهَه بالبولِ والعياذُ بالله!! فالخمرُ أُمُّ الخبائثِ، ولمحافظةِ دينِ الإسلامِ على العقولِ حَرَّمَ كُلَّ ما يضرُّ بالعقلِ، فَحَرَّمَ شربَ الخمرِ، وأوجبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحدَّ في شربِها، كذلك حافظَ القرآنُ العظيمُ على أنسابِ الناسِ، فَمَنَعَ الزِّنَى صيانةً للأنسابِ، وَتَطْهِيرًا لِلْفُرُشِ من التقذيرِ؛ لئلَاّ تتقذرَ فُرُشُ المجتمعِ، وتختلطَ أنسابُه؛ ولذا قال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ

(1)

انظر: التفسير الكبير (6/ 46)، روح المعاني (1/ 114)، تفسير المنار (2/ 327)، وانظر: ما يشبه هذه الحكاية في القرطبي (3/ 57).

ص: 181

فَاحِشَةً} [الإسراء: آية 32] وأوجبَ في الزنا الجلدَ الرادعَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: آية 2] كُلُّ هذا محافظةً على الأنسابِ ومكارمِ الأخلاقِ؛ لئلَاّ تتقذرَ فُرُشُ المجتمعِ، وتختلطَ أنسابُه. وفي آيةٍ مُحْكَمَةِ الحكمِ منسوخةِ التلاوةِ: أن الزانيَ المحصنَ أنه يُرْجَمُ؛ لأن جريمتَه عُظْمَى، والذي اعتادَ النساءَ لا يصبرُ عَنْهُنَّ، فكانَ الزجرُ في جنبِه أغلظَ؛ لأنه ارتكبَ أخسَّ جريمةً، وتعرضَ لاختلاطِ أنسابِ الناسِ، وتقذيرِ فرشِ المجتمعِ، فَقَتَلَهُ القرآنُ أشدَّ قِتْلَةٍ، في آيةٍ منسوخةِ التلاوةِ باقيةِ الحكمِ:«الشيخُ [والشيخةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» فهذا الحدُّ]

(1)

يُطَهَّرُ به البدنُ.

(1)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام. وقد جاء في بعض الروايات زيادة: «بما قضيا من اللذة» .

وأصل الخبر المشار فيه لآية الرجم - دون لفظها - ثابت مشهور، أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.

وقد رواه عن الزهري: ابن عيينة، ومعمر، ويونس، ومالك، وصالح بن كيسان، وعقيل، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهُشيم، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الملك بن أبي بكر، والحسن بن محمد بن الصبَّاح.

وكلهم يرويه من غير هذه الزيادة (والشيخ والشيخة

) إلخ، سوى سفيان بن عيينة عند بعض من أخرج الحديث من طريقه؛ كما في ابن أبي شيبة (10/ 75، 76)، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب الرجم، حديث رقم (2553)، (2/ 853)، والنسائي في الكبرى، باب: تثبيت الرجم، حديث رقم:(7156)، (4/ 273)، والبيهقي (8/ 211).

وأما رواية البخاري ومسلم للحديث من طريق سفيان فمن دون هذه الزيادة، وهو عند عبد الرزاق في المصنف (7/ 330)، عن ابن عباس من غير طريق الزهري.

وقد أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود (ما جاء في الرجم) حديث رقم (1501)، ص592، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (6/ 323)، وفي الكبرى (8/ 212 - 213)، من طريق سعيد بن المسيب - منقطعًا - عن عمر بهذه الزيادة. مع أن هذه الرواية أخرجها أحمد والترمذي من غير الزيادة السابقة.

والحديث - بهذه الزيادة - له عدة شواهد وهي:

1 -

من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند أحمد (5/ 183)، والدارمي (2/ 100)، والنسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7145)، (7148)، (4/ 270 - 271)، والبيهقي (8/ 211)، والحاكم (4/ 360)، وابن حزم (11/ 235).

2 -

من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عند أحمد (5/ 132)، وعبد الرزاق (7/ 329 - 330)، والنسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7150)، (4/ 271)، والبيهقي في السنن (8/ 211)، وفي المعرفة (3/ 473)، والضياء في المختارة (3/ 370 - 371)، والطيالسي ص 73، وابن حبان (6/ 301 - 302)، والحاكم (2/ 415)، (4/ 359)، وابن حزم في المحلى (11/ 234). وقال ابن كثير (3/ 465):«هذا إسناد حسن» ا. هـ. وقال ابن حزم في المحلى (11/ 235): «هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه» ا. هـ.

3 -

من حديث أبي أمامة (سهل بن حنيف) عن خالته العجماء، عند النسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب: نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7146)، (7147)، (4/ 270 - 271)، والحاكم (4/ 359).

وهذه الزيادة قد صححها بعض أهل العلم وضعفها آخرون. انظر: الإرواء (8/ 3)، صحيح ابن ماجه (2/ 81).

ص: 182

وهذه نُبَذٌ قليلةٌ يَفْهَمُ بها الإنسانُ كيفَ حافظَ دينُ الإسلامِ على مصالحِ البشرِ، وأحاطَ أديانَهم، وأحاطَ أنفسَهم، وَحَفِظَ عقولَهم

ص: 183

وأنسابَهم وأعراضَهم وأموالَهم، كُلُّ هذا تشريعُ رَبِّ العالمينَ، ينظمُ فيه علاقاتِ الدنيا على أكملِ الوجوهِ، ويهذبُ أرواحَها لِتَتَّقِيَ. والقرآنُ العظيمُ اعْتَنَى بالإنسانِ من نَاحِيَتَيْهِ: من ناحيتِه الجسديةِ، وناحيتِه الروحيةِ؛ لأن هذا الحيوانَ المسمَّى بالإنسانِ هو مركبٌ من عُنْصُرَيْنِ مختلفين في الحقيقةِ أشدَّ الاختلافِ، أحدُهما: يُسَمَّى الروحَ.

والثاني: يُسَمَّى الجسدَ. ولابدَّ لكلٍّ منهما من متطلباتٍ، فللروحِ متطلباتٌ لَا تكفي عنها متطلباتُ الجسدِ، وللجسدِ متطلباتٌ لا تكفي عنها متطلباتُ الروحِ. فالقرآنُ العظيمُ جاء للإنسانِ بمتطلباتِه الجسديةِ، ومتطلباتِه الروحيةِ، فَنَظَّمَ له جميعَ العلاقاتِ التي بها تَقَدُّمُهُ وقوتُه في الدنيا في جميعِ الميادينِ من حيثُ إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَبَيَّنَ له طرقَ الصلةِ بالله لتتهذبَ روحُه على ضوءِ النورِ السماويِّ؛ لأن الروحَ هي التي لها الأهميةُ، والمادةُ إذا طَغَتْ وَقَوِيَتْ وَلَمْ تقدها روحٌ مهذبةٌ كانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ.

وَأَنْتُمْ تشاهدونَ هذا في الدنيا، تشاهدونَ الكتلةَ الشرقيةَ والغربيةَ، كِلْتَاهُمَا نَجَحَتْ غايةَ النجاحِ في خدمةِ الإنسانِ من حيث إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَفْلَسَتَا كُلَّ الإفلاسِ في خدمةِ الإنسانِ من ناحيتِه الروحيةِ، وَصَارَتْ هذه المادةُ لم تَقُدْهَا روحٌ مرباةٌ مهذبةٌ على ضوءِ تعليمٍ سماويٍّ، فكانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ، وخطرًا داهمًا يهددُ الإنسانَ، ولذلك تجدونَهم يعقدونَ المؤتمرَ بعدَ المؤتمرِ، والمجلسَ بعدَ المجلسِ لِيُدَمِّرُوا القوةَ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ خَوْفًا منها، وَكُلٌّ منهم يبيتُ في قلقٍ وخوفٍ من القوةِ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ!!.

كُلُّ ذلك إنما جاءَهم من إهمالِهم الناحيةَ الروحيةَ؛ لأَنَّ أرواحَهم لو كانت مرباةً على ضوءِ نورٍ سماويٍّ من تعاليمِ ربِّ

ص: 184

العالمين كان البشرُ في أمنٍ وطمأنينةٍ أن تلك الروحَ المهذبةَ المرباةَ لا تقودُ تلك المادةَ الطاغيةَ والقوةَ الهائلةَ إلا قيادةً طبيعيةً لخيرِ البشريةِ وخيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإهمالُ الناحيةِ الروحيةِ هو مِنْ أعظمُ البلايا والويلاتِ.

ونحن دائمًا نُنَبِّهُ أبناءَنا معاشرَ المسلمين؛ لأنا نأسفُ كُلَّ الأسفِ أنهم أَضَلَّتْهُمُ الحضارةُ الغربيةُ، فَانْفَصَلُوا عن تعاليمِ السماءِ، وَقَطَعُوا الصلةَ بينَهم وبينَ مَنْ فَتَحَ أعينَهم، ونحن نبينُ لهم الحقائقَ، ونضربُ لهم الأمثالَ؛ لأن الحضارةَ الغربيةَ بالاستقراءِ التامِّ الذي لا يمكنُ أن يُكَابِرَ فيه إلا مكابرٌ جاحدٌ للمحسوسِ جَمَعَتْ بينَ نافعٍ لا مِثَالَ لنفعِه، وبين ضارِّ لَا مِثَالَ لضرِّه.

أما الذي حصلته من النفعِ: فهو ما حَصَلَتْ عليه من التقدمِ الماديِّ، والتقدمِ التنظيميِّ في جميعِ ميادينِ الحياةِ، فهذا الأمرُ كماءِ الْمُزْنِ، والتواكلُ عنه عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَتَمَرُّدٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ نظامَ السماءِ يأمرُ المسلمَ أن يكونَ قَوِيًّا مُتَقَدِّمًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ، سَابِحًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] هذا الأمرُ كأنه يقولُ: أَعِدُّوا ما يكونُ في المستطاعِ من القوةِ كَائِنًا ما كَانَ، مَهْمَا تَطَوَّرَتِ القوةُ، ومهما بَلَغَتْ، فالمتواكلونَ العَجَزَةُ الذين لا يُعِدُّونَ القوةَ متمردونَ على نظامِ السماءِ، مخالفونَ لأَمْرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] وَمَنْ نَظَرَ في القرآنِ وجدَه جَامِعًا بَيْنَ الأمرين: الأمرِ بالقوةِ والتقدمِ، مع المحافظةِ على الآدابِ الروحيةِ.

وَنَحْنُ دَائِمًا نضربُ بعضَ الأمثالِ: اقرؤوا آيَتَيْنِ من سورةِ النساءِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ

ص: 185

وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ [النساء: الآيتان 102، 103] هذا وقتُ التحامِ الكفاحِ المُسَلَّحِ، والرؤوسُ تنزلُ عن الأعناقِ، وفي هذا الوقتِ الحَرِجِ نظامُ السماءِ والقرآنُ العظيمُ يدبرُ الخطةَ العسكريةَ على أكملِ الوجوهِ، في الوقتِ الذي يُحَافِظُ فيه على الاتصالِ بخالقِ هذا الكونِ، وتربيةِ الروحِ بأدبٍ سَمَاوِيٍّ من آدابِ السماءِ، وهو الصلاةُ في الجماعةِ، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ في سورةِ الأنفالِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: آية 45] وقوله: {فَاثْبُتُوا} تعليمٌ عسكريٌّ سماويٌّ، يأمرُ به خالقُ السماواتِ والأرضِ بالصمودِ في الميدانِ في خطوطِ النارِ الأماميةِ. وفي هذا الوقتِ الضنكِ يقولُ اللَّهُ (جل وعلا):{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} هكذا فَلْيَكُنِ المؤمنُ، قَوِيًّا في جميعِ الميادينِ، مُحَافِظًا على آدابِه الروحيةِ متصلاً بربِّه صلةً روحيةً؛ لأَنَّ الروحَ المهذبةَ على ضوءِ التعليمِ السماويِّ تقودُ المادةَ والقوةَ قيادةً طبيعيةً حكيمةً، ليس بها ويلةٌ على البشرِ.

وما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من المنافعِ، وما جَنَتْهُ من المضارِّ نضربُ له في المناسباتِ مثلاً يصيرُ به المعقولُ كالمحسوسِ، مثالُ ذلك

(1)

: هو أن رَجُلاً بَعِيدًا من العمرانِ، مُنْقَطِعًا في آخِرِ رَمَقٍ من الحياةٍ وَجَدَ ماءً عَذْبًا زُلَالاً وَسُمًّا قاتلاً فَتَّاكًا، فحالُه مع هذا السمِ القاتلِ والماءِ العذبِ الزلالِ، حالُه لابدَّ أن تكونَ واحدةً من أربعِ حالاتٍ: إما أن يَشْرَبَهُمَا معًا، وإن شربهما معًا لم ينتفع بالماءِ الزلالِ؛ لأن السمَّ الفتاكَ يقتلُه، وإن تَرَكَهُمَا معًا انقطعَ عن الركبِ،

(1)

انظر: الأضواء (4/ 381).

ص: 186

وماتَ في الطريقِ. وإن شَرِبَ السمَّ وتركَ الماءَ فهذا رجلٌ أحمقُ أهوجُ لا يُبَيِّنُ نَافِعًا من ضَارٍّ، وإن كان رجلاً عاقلاً شَرِبَ الماءَ وتركَ السُّمَّ.

فالحضارةُ الغربيةُ فيها ماءٌ عذبٌ زُلَالٌ، وفيها سُمٌّ فَاتِكٌ قَتَّالٌ. أما ما فيها من الماءِ الزلالِ: فهو ما أَنْتَجَتْهُ من القوةِ الماديةِ؛ والقوةِ التنظيميةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. وأما ما فيها من السمِّ الفاتكِ القتَّالِ: فهو التمردُ على نظامِ السماءِ، والطغيانُ والعصيانُ لخالقِ هذا الكونِ (جل وعلا)، والإفلاسُ الكليُّ في الآدابِ الروحيةِ السماويةِ.

فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نَتَنَبَّهَ لهذا، ونفرقَ بين السمِّ والماءِ، فنأخذ من الحضارةِ الغربيةِ ما اسْتَطَعْنَا من قوتِها الماديةِ، ونجتنبَ كُلَّ التَّجَنُّبِ، ونتباعد كُلَّ البعدِ عن سُمِّهَا الفتاكِ القتَّالِ، مما جَنَتْهُ من التمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةُ خالقِ هذا الكونِ، والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الأخلاقِ والقيمِ الروحيةِ الإنسانيةِ.

والذي يُؤْسِفُ كُلَّ الأسفِ أن أغلبَ - إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ يُحَرِّكُونَ الدَّفَّاتِ ربما أخذوا منها ضَارَّهَا من الانحطاطِ الخلقيِّ؛ والزهد في الإسلامِ، وقطع الصلةِ بالله، وعدم صلةِ السماءِ بالأرضِ، في الوقتِ الذي هم فيه مفلسونَ كُلَّ الإفلاسِ من مائِها الزلالِ، ومنافعِها الدنيويةِ، فَعَكَسُوا القضيةَ والعياذُ بالله.

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا

وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ

(1)

فَعَلَى المسلمِ أن يفرقَ بين ما يَضُرُّ وما ينفعُ، ويفرقُ بين ضارِّ الحضارةِ الغربيةِ ونافعِها، ويستفيدُ من نافعِها من القوةِ الماديةِ

(1)

هذا البيت يُنسب لأبي دلامة الأسدي، وهو في ديوانه ص77.

ص: 187

والتنظيميةِ، ويحذرُ كُلَّ الحذرِ من ضارِّها من الانحطاطِ الخلقيِّ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأنَّ الإنسانَ في هذه الدنيا إذا فَقَدَ صلتَه بخالقِ السماءِ الذي فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وجعلَ له فيها النورَ، وأبدعَه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، مَنْ خَسِرَ صلتَه بالله خَسِرَ كُلَّ شيءٍ، ولم يَبْقَ له في الدنيا شيءٌ، فَعَلَى المسلمين أن يحافظوا على تراثِهم الروحيِّ، وآدابِهم السماويةِ من طاعةِ خالقِ هذا الكونِ، في الوقتِ الذي هم فيه ينتفعونَ بالمادةِ والقوةِ.

ونحنُ نُبَيِّنُ لإخوانِنا مِرَارًا أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالمحافظةِ على التعاليمِ السماويةِ والآدابِ الروحيةِ، ويأمرُ بالتقدمِ الدنيويِّ في جميعِ الميادينِ، حتى ولو كان ذلك التقدمُ الدنيويُّ العقولُ الذي أَنْتَجَتْهُ: عقولُ كفرةٍ فجرةٍ، وكذلك كان سيدُ البشرِ، مُرَبِّي هذا الْخَلْقِ، ومبينُ الطريقِ له- نبينا صلى الله عليه وسلم كان كذلك يفعلُ

(1)

.

أنتم تعلمونَ في التاريخِ أنه لَمَّا حاصرَه الأحزابُ في غزوةِ الخندقِ ذلك الحصارَ العسكريَّ التاريخيَّ العظيمَ المنصوصَ في قولِه: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] لَمَّا وَقَعَ هذا قال له سلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه: كُنَّا إذا خِفْنَا خَنْدَقْنَا

(2)

. فالخندقُ خطةٌ عسكريةٌ، العقولُ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ فارسَ، وهم مجوسٌ يعبدونَ النارَ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْ: هذه الخطةُ العسكريةُ نجسةٌ قذرةٌ؛ لأن

(1)

انظر: الأضواء (4/ 383).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 44).

ص: 188

العقولَ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ كفرةٍ. لَا، بل أخذَ الخطةَ الكافريةَ التي مبدؤها من الكفارِ، واستعانَ بها في دُنْيَاهُ، وهو مُرْضٍ رَبَّهُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ، متمسكٌ بالآدابِ السماويةِ والتصفيةِ الروحيةِ.

وكذلك لَمَّا تَكَالَبَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ، وَاضْطُرَّ إلى أن يخرجَ من وطنِه مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، والناسُ كُلُّهُمْ حربٌ عليه، واضطر إلى أن يدخلَ هو وصاحبُه الصِّدِّيقُ رضي الله عنه إلى أن يدخلَا في غَارٍ خَوْفًا من المشركين، كما بينه اللَّهُ في سورةِ براءةِ:{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} [التوبة: آية 40] وَجَدَ رجلاً كافرًا يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُريقط الدؤلي

(1)

، ولكنه عندَه خبرةٌ دنيويةٌ، فهو خبيرٌ دنيويٌّ كافرٌ، يعرفُ الطرقَ، والطرقُ المعهودةُ بينَ مكةَ والمدينةِ جعلَ الكفارَ عليها الرَّصَدَ والعيونَ، إذا سَلَكُوهَا أخذوا، فصارَ هذا الخبيرُ الكافرُ- عبدُ اللَّهُ بنُ الأُريقط الدؤليُّ- يعلمُ طُرُقًا غيرَ معهودةٍ. سَاحَلَ به إلى جهةِ البحرِ، وجاء به من طرقٍ غيرِ معهودةٍ، حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ

(2)

[فلم يَمْنَعْهُ كفرُه من الانتفاعِ بخبرتِه الدنيويةِ]

(3)

.

على حَدِّ قولِهم: (اجْتَنِ الثمارَ، وَأَلْقِ الخشبةَ في النارِ). لم يمنعه من ذلك كونُه كافرًا، وهو فيما بينَه وبينَ رَبِّهِ مُرْضٍ رَبَّهُ، محافظٌ على الآدابِ السماويةِ، والتهذيبِ الروحيِّ على ضوءِ تعليمِ السماءِ.

(1)

هناك بعض الاختلاف في اسمه انظر: الفتح (7/ 237 - 238).

(2)

انظر: البخاري، كتاب مناقب الأنصار باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. حديث رقم (3905)، (7/ 230).

(3)

وقع في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 189

وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم همَّ أن يمنعَ وطءَ النساءِ إذا كانت تُرْضِعُ أَوْلَادَهُنَّ؛ لأن العربَ كانوا يظنونَ أن المرأةَ إذا أتاها زوجُها وهي ترضعُ أن ذلك الوطءَ يُضْعِفُ عظمَ ولدِها ويضرُّه، هذا كان مَشْهُورًا عندَ العربِ، وكانوا إذا رَمَى الرجلُ بالسيفِ فَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ ولم يَقْطَعْ، قالوا: هذا رَجُلٌ وُطِئَتْ أُمُّهُ وهو يَرْضَعُ، كما قال شاعرُهم

(1)

:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ

فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ

فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ فَارِسُ والرومُ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم أخذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من الكفارِ

(2)

.

والقصدُ أن نُنَبِّهَ إخوانَنا على أن دينَ الإسلامِ دينُ تَقَدُّمٍ في الميدانِ، ودينُ قوةٍ، ليس دينَ جمودٍ، ولا دينَ إخلادٍ إلى الأرضِ، بل هو دينُ كفاحٍ وقوةٍ وجهادٍ وَتَقَدُّمٍ في الميدانِ، وَقَوْدُ الدنيا وإضاءتُها بالنورِ إلى ما ينفعُها في دنياها ودينها، وقد نَظَّمَ اللَّهُ فيه- في كتابِه- علاقاتِ البشرِ في الدنيا والآخرةِ، وأوضحَ لهم ما يَحْيَوْنَ به في الدنيا حياةً سعيدةً، ويَحْيَوْنَ به الحياةَ الأبديةَ بعدَ الموتِ حياةً سعيدةً، فعلى المسلمِ أن يعلمَ أن دينَ الإسلامِ دينُ كفاحٍ وتقدمٍ في الميدانِ، إلا أنه يجبُ فيه المحافظةُ على طاعةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأَنَّ هذا الكونَ له خالقٌ هو الذي خَلَقَهُ، ومَلِكٌ هو الحكمُ العدلُ فيه، ولم يترك الناسَ سُدًى. أَمَرَهَمُ وَنَهَاهُمْ، فلابد أن تطاعَ أوامرُه، وَتُسْلَكَ طرقُه التي أَمَرَ بها، وكلُّ ذلك ما فيه للإنسانيةِ إلا خيرُ الدنيا

(1)

البيت في الكامل ص177.

(2)

مسلم، كتاب النكاح، باب: جواز الغيلة، حديث رقم (1442)، (2/ 1066).

ص: 190

والآخرةِ؛ ولذا قال (جل وعلا) هنا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: آية 115] صدقًا في كُلِّ ما تُخْبِرُ به من الأخبارِ، وَعَدْلاً في كُلِّ ما تَحْكُمُ به من الأحكامِ، وكلِّ ما تُشَرِّعُهُ للبشريةِ.

وقولُه جل وعلا: {لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قولُه: {لَاّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لأن كلماتِ الله (جل وعلا) هي في غايةِ الحقِّ والصدقِ والعدالةِ لا يمكنُ أحدًا أن يبدلَها ويُحوِّلَ عدالتَها جَوْرًا، أو يُحَوِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، لا يمكنُ أحدًا أن يفعلَ ذلك، فَهِيَ في غايةِ العدالةِ والصدقِ والكمالِ، لا يمكنُ أحدًا أن يغيرَها فيجعلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، ولا أن يجعلَ صِدْقَهَا كَذِبًا أبدًا.

ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} هو السميعُ لِكُلِّ ما يقولُه خَلْقُهُ، العليمُ بكلِّ ما يعملُه خلقُه، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(1)

: أنه جَرَتِ العادةُ في القرآنِ: أن اللَّهَ لا يذكرُ آياتٍ تتضمنُ أوامرَ ونواهيَ إِلَاّ وترى بعدَها الواعظَ أكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ؛ لأنه لا خلافَ بَيْنَ العلماءِ أنه لا يوجدُ واعظٌ أكبرُ، ولا زاجرٌ أعظمُ من زاجرِ المراقبةِ والعلمِ. وهو أن يعلمَ هذا الإنسانُ المسكينُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مطلعٌ عليه، يعلمُ ما يُسِرُّ وما يُعْلِنُ، حتى ما يخطرُ في قلبِه فهو يعلمُه (جل وعلا).

إن الله يعلم خطراتِ القلوبِ، وكيف يجهلُ خطراتِ القلوبِ مَنْ هُوَ خالقُ خطراتِ القلوبِ؟ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: آية 14]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] فاللَّهُ يقولُ لنا في كُلِّ موضعٍ من كتابِه، لا تكادُ تقلبُ ورقةً واحدةً من المصحفِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

ص: 191

الكريمِ إلا وَجَدْتَ فيها هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ (سميعٌ عليمٌ)، (عليمٌ حكيمٌ)، (سميعٌ بصيرٌ) يَعْلَمُ كذا. لا تكادُ تجدُ ورقةً إلا فيها أن اللَّهَ يعلمُ ما نفعلُ، وهذا أكبرُ واعظٍ، وأعظمُ زاجرٍ، وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: لو فَرَضْنَا أن في هذا البراحَ من الأرضِ مَلِكًا عَظِيمًا شديدَ البَأْسِ، عظيمَ النكالِ، شديدَ الغضبِ إذا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ، قَتَّالاً للرجالِ، سَفَّاكًا للدماءِ، وحولَه سَيَّافُهُ، والنطعُ مبسوطٌ، والسيفُ يقطرُ دَمًا، وحولَ هذا الْمَلِكِ بناتُه ونساؤُه وجواريه، أيخطرُ في البالِ أن أحدًا من الحاضرين يُطِلُّ بريبةٍ أو غمزةٍ، أو إشارةِ عينٍ؟! لَا وكَلَاّ، كُلُّهُمْ خَاضِعُ الطرفِ، خاشعُ الجوارحِ، أُمْنِيَتُهُ السلامةُ

(1)

.

ونحن نؤكدُ لكم أن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ اطِّلَاعًا، وأشدُّ بَطْشًا، وأفظعُ فَتْكًا إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه جل وعلا.

فعلى الإنسانِ أن يعلمَ أن هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ، أن رَبَّهُ يسمعُ ما يقولُ، ويعلمُ ما يَنْوِي وما يفعلُ، إذا عَلِمَ الإنسانُ هذا فإنه يُحاسِبُ ويطيعُ رَبَّهُ، فلو عَلِمَ أهلُ بلدٍ من البلادِ أن أميرَ ذلك البلدِ يعلمُ كُلَّ ما يفعلونَه بالليلِ من الخسائسِ والدسائسِ بَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ، كَافِّينَ عن كُلِّ ما لا ينبغي.

وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ- مع عظمتِه وجلالِه- يُبَيِّنُ لخلقِه أنه مُطَّلِعٌ عليهم، عَالِمٌ بما يفعلونَ، ومع هذا لا يَتَأَدَّبُونَ، ولا يَنْزَجِرُونَ!! فهذه وقاحةٌ عُظْمَى، وجهلٌ كبيرٌ؛ ولأجلِ هذا أَنْتُمْ تعلمونَ في آياتٍ من كتابِ اللَّهِ أن اللَّهَ بَيَّنَ أن الحكمةَ التي خَلَقَ من أجلِها الخلائقَ، والموتَ والحياةَ، والسماواتِ والأرضَ، هي أن يَبْتَلِيَهُمْ على ألسنةِ رُسُلِهِ، أيهم يحسنُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.

ص: 192

العملَ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُهُ، كما قال تعالى في أولِ سورةِ هودٍ:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [الكهف: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الملكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] وإذا عَرَفَ العاقلُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ خَلَقَهُ ليبلوه ويختبرَه: أهو يُحْسِنُ العملَ أَمْ لَا يُحْسِنُهُ؟ وربُّنا يقولُ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يَقُلْ: (أَيُّكُمْ أكثرُ عملاً) فلابدَّ أن يقول الإنسانُ: يا ليتني عرفتُ الطريقَ التي أنجحُ بها في هذا الاختبارِ، ويكون عَمَلِي حَسَنًا؛ ولأجلِ هذه المهمةِ العُظْمَى لَمَّا غَفَلَ عنها أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جاء جبريلُ عليه السلام في صفةِ أعرابيٍّ في حديثِه المشهورِ الصحيحِ

(1)

؛ لِيُبَيِّنَ لهم هذه المهمةَ الكبرى، والواعظَ الأكبرَ؛ ولذا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في ضمنِ حديثِه المشهورِ: يا محمدُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ.

يعني: والإحسانُ هو الذي خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ أَجْلِ الاختبارِ فيه، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أن الإحسانَ الذي خُلِقَ الخلقُ للاختبارِ فيه لا يمكنُ أن يحصلَ إلا بهذا الزاجرِ الأعظمِ والواعظِ الأكبرِ (

)

(2)

.

(1)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

(2)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. ولاستيفاء النقص راجع كلام الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع عند تفسير الآيات: (59، 128) من سورة الأنعام، (56، 61) من سورة الأعراف، (43، 71) من سورة الأنفال.

ص: 193

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: آية 116 - 120].

يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: آية 116].

أخبرَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم ليبينَ على لسانِه لأُمَّتِهِ أن مَنْ أَطَاعَ أكثرَ الناسِ أَضَلُّوهُ عن سبيلِ اللَّهِ، وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن أكثرَ الخلقِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ، وهو كذلك، كما جاء مُبَيَّنًا في أحاديثَ كثيرةٍ صحيحةٍ، وآياتٍ من كتابِ اللَّهِ

(1)

، فَمِنَ الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)} [هود: آية 17]{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [هود: آية 103]{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: آية 71]{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8)} [الشعراء: آية 8] وقد ثَبَتَ في الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن نصيبَ الجنةِ من الناسِ وَاحِدٌ من الأَلْفِ، وأن نصيبَ النارِ تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة. هذا ثابتٌ في الصحيحين عن

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 208).

ص: 194

النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحِ: أن الله يقولُ لآدمَ يومَ القيامةِ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ آدَمُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. فَيُقَالُ له: يا آدمُ أَخْرِجْ خلقَ النارِ. فيقولُ: يا رَبِّي، وما خَلْقُ النارِ؟ فيخبرُه رَبُّهُ أنه تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة من كُلِّ أَلْفٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذا ضَاقَ على الصحابةِ، وَحَزِنُوا من هذا لقلةِ نصيبِ أهلِ الجنةِ، وكثرةِ نصيبِ النارِ، فَبَيَّنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثرةَ الكفرةِ الفجرةِ، وأن يأجوجَ ومأجوجَ يمكنُ أن يكونَ منهم الألفُ ومنكم الواحدُ

(1)

؛

ولذا قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: آية 116] المرادُ بالأرضِ على التحقيقِ: جميعُ أهلِ الدنيا الذين هُمْ في الأرضِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ المرادَ بها أرضُ مكةَ، وأن المرادَ أكثرُ أهلِها مِنْ رؤساءِ الكفرةِ. التحقيقُ هو التعميمُ

(2)

.

وقولُه: {يُضِلُّوكَ} هو جزاءُ الشرطِ، منصوبٌ بحذفِ النونِ، مضارعُ (أَضَلَّهُ، يُضِلُّهُ) إذا جَعَلَهُ ضَالاًّ، وَتَسَبَّبَ له في الضلالِ عن طريقِ الصوابِ.

وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن الضلالَ- أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمينَ منه- يُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ وفي اللغةِ العربيةِ إطلاقاتٍ متعددةً على ثلاثةِ أنحاءَ

(3)

: يُطْلَقُ الضلالُ في اللغةِ والقرآنِ على

(1)

الحديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم (3348)، (6/ 382)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(4741، 6530، 7483). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: قوله: (يقول الله: يا آدم، أخرج بعث النار

) حديث رقم (222)، (1/ 201) ..

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 210).

(3)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 195

الذهابِ عن طريقِ الحقِّ إلى طريقِ الباطلِ، كالذي يذهبُ عن طريقِ الْهُدَى إلى طريقِ الكفرِ، وعن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ. وهذا الاسْتِعْمَالُ أكثرُ استعمالاتِ الضلالِ. ومنه قولُه تعالى:{غَيْرِ الْمَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: آية 7] وهذا أكثرُ معناه في القرآنِ. وَيُطْلَقُ الضلالُ في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ: على الغيبوبةِ والاضمحلالِ. فَكُلُّ شيءٍ غَابَ وَاضْمَحَلَّ وذهبَ تقولُ العربُ: «ضَلَّ» . ومنه قولُ العربِ: «ضَلَّ السَّمْنُ في الطعامِ» إذا طُبِخَ فيه وَغَابَ فيه، ومنه بهذا المعنَى في القرآنِ:{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَبَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، ومنه بهذا المعنَى في القرآنِ: قولُه تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ: أن عظامَهم أَكَلَتْهَا الأرضُ، فَاخْتَلَطَتْ بالترابِ، فَذَهَبَتْ وَاضْمَحَلَّتْ فيها كما يضمحلُ السمنُ في الطعامِ؛ وَمِنْ أجلِ هذا المعنَى كانت العربُ تُسَمِّي الدفنَ (إضلالاً)، إذا دَفَنُوا الميتَ في قبرِه تقولُ العربُ:«أَضَلُّوهُ» . أي: غَيَّبُوهُ فِي قَبْرِهِ؛ لأن مآلَه إلى أن تَأْكُلَهُ الترابُ، كَمَا قالوا:{أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] ومن إطلاقِ العربِ الإضلالَ على الدفنِ كما ذَكَرْنَا قولُ المُخَبَّلِ السعديِّ يَرْثِي قيسَ بنَ عاصمٍ المنقريَّ التميميَّ

(1)

:

أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا

وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ

فقولُه: «أَضَلَّتْ» يعنِي: دَفَنَتْ عَمِيدَهَا قيسَ بنَ عاصمٍ لَمَّا مَاتَ. ومنه بهذا المعنَى: قولُ نابغة ذبيانَ يرثِي النعمانَ بنَ

(1)

البيت في اللسان (مادة: ضلل)(2/ 546).

ص: 196

الحارثِ بنِ أبِي شمر الغسانيَّ

(1)

:

فَإِنْ تَحْيَا لَا أَمْلِكْ حَيَاتِي، وَإِنْ تَمُتْ

فَمَا فِي حَيَاتِي بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ

فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ

وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ ونَائِلُ

فقولُه: «آبَ مُضِلُّوه» يعنِي: رَجَعَ دَافِنُوهُ في قَبْرِهِ. (بعينٍ جَلِيَّةٍ) أي: بخبرٍ يقينٍ أنه قد مَاتَ. ومن هذا المعنَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10]{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَاضْمَحَلَّ. وقولُ الشاعرِ

(2)

:

أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ

عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا

يعنِي بالحيِّ المضللِ: الذين ذَهَبَتْ بهم الأيامُ والليالِي فَمَاتُوا وَغَابُوا.

ويطلقُ الضلالُ أيضًا في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ على: الذهابِ عن معرفةِ حقيقةِ الشيءِ، فكلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حقيقةَ شيءٍ تقولُ العربُ:«ضَلَّ» . وهذا ليس من الضلالِ في الدينِ، وإنما هو الذهابُ عن علمِ معرفةِ الشيءِ. وهذا الإطلاقُ كثيرٌ في القرآنِ، ومنه على أَصَحِّ التفسيراتِ: قولُه تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7)} [الضحى: آية 7] أي: ذَاهِبًا عما تَعْلَمُهُ الآنَ من العلومِ والأسرارِ، فهداكَ إليه بالوحيِ؛ لأنه لا يُعْلَمُ إلا بالوحيِ. ومنه بهذا المعنَى: قولُ أولادِ يعقوبَ في حَقِّ أَبِيهِمْ: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: آية 95]{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8)} [يوسف: آية 8] يعنونَ: لَفِي ذهابٍ عن حقيقةِ الأمرِ، حيث فَضَّلَ ابْنَيْنِ على عشرةِ بنينَ، وحيث

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 197

رَجَا يوسفَ أنه حَيٌّ وهو قد مَاتَ، فهو ذاهبٌ عن علمِ الحقيقةِ في زَعْمِهِمْ، ومن الضلالِ بهذا المعنَى:{لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: آية 52] أي: لا يَخْفَى عليه عِلْمُ شيءٍ، ولا تذهبُ عليه حقيقةُ شيءٍ، ومنه بهذا المعنَى قولُه تعالى:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: آية 282] أي: تذهبُ عن علمِ حقيقةِ المشهودِ به بنسيانٍ ونحوِه {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وَمِنَ الضلالِ بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ

(1)

:

وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا

بَدَلاً أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ

يعني بالضلال: عدمَ معرفتِها للحقيقةِ حيث ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، وهو لا يبغي بها بدلاً. هذه معانِي الضلالِ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ.

وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {يُضِلُّوكَ} هو من المعنَى الأولِ. أي: يُذْهِبُوكَ عن طريقِ الصوابِ إلى طريقِ الباطلِ، عن طريقِ الهدى إلى طريقِ الْجَوْرِ، وعن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ.

وهذا معنَى قولِه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: آية 116] السبيلُ في لغةِ العربِ: الطريقُ

(2)

. وهي تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَمِنْ تَأْنِيثِهَا في القرآنِ:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: آية 108] ولم يَقُلْ: «هذا سبيلي» .

وَمِنْ تذكيرِها في القرآنِ: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}

[الأعراف: آية 146] فَهِيَ من أسماءِ الأجناسِ التي تُذَكَّرُ

(1)

السابق.

(2)

انظر: المفردات (مادة: سبل) ص395.

ص: 198

وتؤنثُ

(1)

. والسبيلُ: الطريقُ. وسبيلُ [16/أ] اللَّهِ مَعْنَاهُ: طريقُ اللَّهِ. وَأَضَافَ تلك الطريقَ إلى اللَّهِ؛ / لأنه هو الذي شَرَّعَهَا، وَبَيَّنَ مَعَالَمَهَا، وَأَمَرَ بسلوكِها، وَوَعَدَ مَنْ سَلَكَهَا خيرَ الدنيا والآخرةِ

(2)

. فسبيلُ اللَّهِ- التي هي الحقُّ، التي أَمَرَ بها، وبعثَ بها أنبياءَه- مَنْ أَطَاعَ أكثرَ مَنْ في الأرضِ أَضَلُّوهُ عنها إلى سبيلِ الشيطانِ وطريقِ الجورِ عن الحقِّ. وهذا معنَى قولِه:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

ثم بَيَّنَ (جل وعلا) أن أكثرَ أهلِ الأرضِ الضالينَ المضلينَ لَمْ يكن عندَهم مُسْتَنَدٌ عِلْمِيٌّ في ضلالِهم، وإنما هي ظُنُونٌ وتخميناتٌ، حيث قال:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} يعني: ما يَتَّبِعُونَ إلا الظنَّ {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: آية 116](إن) هنا نافيةٌ بمعنَى: (ما)

(3)

، والمعنَى: ما يتبعونَ شَيْئًا إلا الظنَّ، وما هم إلا يَخْرُصُونَ.

والخَرْصُ معناه: الكذبُ، وأصلُ الْخَرْصِ: هو الحَزْرُ والتخمينُ

(4)

، ومنه:«خَرَصَ ما على النخلةِ فَحَزَرَهُ» . لأَنَّ الكاذبَ لا يتحرى في الأمورِ، بل يُخمِّنُ ويحزُر، ولا يتحرَّى الحقائقَ، ومن هنا قيلَ للكذبِ خرص. ومنه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: آية 10] أي: لُعِنَ الكذابونَ؛ لأَنَّ الخارصَ يظنُّ ويحزُرُ، ولَا يتحرَّى ويتحققُ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: مدارج السالكين (1/ 11).

(3)

انظر: القرطبي (7/ 71)، الدر المصون (5/ 125).

(4)

انظر: المفردات (مادة: خرص) ص279، القرطبي (7/ 71)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (5/ 65).

ص: 199

والظنُّ يُطْلَقُ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ يُطْلَقُ إطلاقين

(1)

:

أَحَدُهُمَا: يُطْلَقُ (الظنُّ) على الشكِّ المستوي الطرفين. وكونُ الظنِّ جُلُّ الاعتقادِ اصطلاحٌ حادثٌ للأُصُولِيِّينَ والفقهاءِ، أما لغةُ العربِ فتطلِقُ الظنَّ إطلاقين، وهما في القرآنِ: أحدُهما: إطلاقُ الظنِّ بمعنَى الشكِّ، ومنه قولُه هنا:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} [النجم: آية 28] الشكُّ في تقليدِ آبائِهم، وهذا الظنُّ- الذي هو شَكٌّ- هو المرادُ في قولِه:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: آية 28]{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنًّا} [يونس: آية 36].

الثاني من إطلاقِ (الظنِّ) في القرآنِ: هو إطلاقُ الظنِّ مُرَادًا به اليقينُ، وهذا كثيرٌ أيضًا في القرآنِ وفي كلامِ العرب، فَمِنْ إطلاقِ الظنِّ مرادًا به اليقينُ في القرآنِ:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ} [البقرة: آية 249] أي: يُوقِنُونَ أنهم ملاقُو اللَّهِ {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: آية 46]{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20)} [الحاقة: آية 20] أي: أَيْقَنْتُ ذلك: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا} أي: أَيْقَنُوا {أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: آية 53]. ومن إطلاقِ الظنِّ في لغةِ العربِ بمعنَى اليقينِ: قول دُريدِ بنِ الصِّمَّةِ الجُشَميِّ حيث قال

(2)

:

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ

سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسرَّدِ

فقولُه: «ظُنُّوا» أي: أَيْقِنُوا بألفِ فارسٍ مُدَجَّجٍ بالسلاحِ. ومنه بهذا المعنَى قولُ عَمِيرَةَ بنِ طارقٍ

(3)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 200

بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ

وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا

يعني: أجعل مني اليقين غَيْبًا مُرَجَّمًا.

ومن إطلاقِ (الظنِّ) في كلامِ العربِ بمعنَى (الشكِّ) قولُ طَرَفَةَ بنِ العبدِ

(1)

:

وأعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ

إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ

فقولُه: «ليس بالظنِّ» : ليس بالشكِّ. هذه إطلاقاتُ (الظنِّ) في القرآنِ وفي لغةِ العربِ، والمرادُ بالظنِّ في الآيةِ: الشكُّ. والمعنَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} [الأنعام: آية 116] أي: ما يَتَّبِعُونَ إلا الشكَّ حيث قَلَّدُوا آباءَهم في أَمْرِ جهلٍ لا يعلمونَ حقيقتَه: {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} يكذبون؛ لأن الخرصَ الحَزْرُ والتخمينُ من غيرِ معرفةِ الحقيقةِ، ومن هنا أُطْلِقَ على الكذبِ

(2)

، كقولِه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: آية 10] أي: لُعِنَ الكَذَّابون. وقولُه هنا: {وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: آية 116] أي: مَا هُمْ إلا يكذبونَ في قولِهم: إِنَّ الميتةَ حلالٌ؛ لأنها ذبيحةُ اللَّهِ، وفي ادعائِهم الشركاءَ والأولادَ لِلَّهِ سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: آية 66] أي: لَا يتبعونَ شركاءَ في نفسِ الأمرِ، ولا في الحقِّ، إن يتبعونَ إلا ظَنًّا.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} [الأنعام: آية 117] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أن أكثرَ أهلِ الأرضِ ضَالُّونَ

(1)

ديوانه ص84، اللسان (مادة: حظرب)، (1/ 666).

(2)

انظر: المفردات (مادة: خرص) ص 279.

ص: 201

مُضِلُّونَ، وأنه إن أَطَاعَهُمْ أَضَلُّوهُ بَيَّنَ أنه (جل وعلا) عَالِمٌ بمن سبقَ له الضلالُ في الأزلِ، وَمَنْ سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ، فَيُيَسِّرُ كُلاًّ منهما لِمَا خَلَقَهُ له؛ لأن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سألوه وقالوا: هذه الأعمالُ التي نَسْعَى لها وجزاؤُها وما نصيرُ إليه، هَلْ هو أمرٌ مُؤتَنَفٌ، أو أمر قُضِيَ وَكُتِبَ وَفُرِغَ منه؟ فَلَمَّا بَيَّنَ لهم أن اللَّهَ قَدَّرَ ما سَيَكُونُ، قالوا: أَفَلَا نَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ؟ فَمَنْ قَدَّر اللَّهُ له الجنةَ لابدَّ أن يدخلَها، وَمَنْ قَدَّرَ له النارَ لابدَّ أن يدخلَها؟ فَأَخْبَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له

(1)

. فهو يخلقُ الخلقَ وَيَجْبُلُهُمْ على ما يشاءُ، مِنْ خُبْثٍ وطِيبٍ ثم يُيَسِّرُ كلاًّ لِمَا خَلَقَهُ له:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: آية 2]{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: آية 7]{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: آية 105] فهو (جل وعلا) يخلقُ الناسَ وَيُيَسِّرُ كُلاًّ لِمَا خلقه له من خيرٍ أو شَرٍّ: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: آية 117] الذي سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ فَيُيَسِّرُهُ لِلْهُدَى.

وأعلمُ بالمعتدِي الضالِّ الذي سَبَقَ له الضلالُ في الأزلِ فييسره لِلْعُسْرَى - والعياذُ باللَّهِ- كما قال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: الآيات 5 - 10] وَلِذَا قال هنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} (أعلم) هنا ليست في معنَى صيغةِ التفضيلِ، بل هي هنا بمعنَى الوصفِ

(2)

؛ لأن صيغةَ التفضيلِ لابدَّ أَنْ يشتركَ فيها المُفَضَّلُ والمُفَضَّلُ عليه في نفسِ المصدرِ، ثم يكونُ المُفَضَّلُ أكثرَ فيه من المُفَضَّلِ عليه

(3)

، فإذا قلتَ: «زَيْدٌ أعلمُ

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 126).

(3)

مضى عند تفسير الآية (58) من هذه السورة.

ص: 202

من عمرٍو» معناه: أنهما مشتركانِ في العلمِ إلا أن هذا يفوقُ هذا فيه، ولا يجوزُ أن تقولَ:«زَيْدٌ أعلمُ من الحمارِ» ؛ لأن الحمارَ لَا يشاركُه في العلمِ. وكذلك قولُه هنا: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} لا يشاركُ الناسُ رَبَّهُمْ في علمِ عواقبِ الناسِ، وما يؤولون إليه من ضلالٍ وَهُدًى؛ لأن ذلك لا يعلمُه إلا اللَّهُ؛ ولذلك صيغةُ التفضيلِ هنا بمعنَى الوصفِ، وقد تقررَ في علومِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تأتِي بمعنَى الوصفِ ليس مُرَادًا بها التفضيلُ، كقولِهم

(1)

: «الناقصُ والأشجُّ أعدلَا بَنِي أُمَيَّةَ»

(2)

أي: هما العادلانِ منهم. وهذا موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الفرزدقِ

(3)

:

إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا

بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

يعنِي: دعائمُه عزيزةٌ طويلةٌ. وقولُ الشَّنْفَرَى

(4)

:

وِإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ

بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ

يعنِي: لم أَكُنْ أنا هو العَجِلُ منهم. وكذلك هنا: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} هو الْعَالِمُ مَنْ يَضِلُّ عن سَبِيلِهِ.

واختلفَ علماءُ العربيةِ في إعرابِ (مَنْ) في قولِه هنا: {مَنْ

(1)

انظر: الدر المصون (2/ 10)، ضياء السالك (3/ 120)، التوضيح والتكميل (2/ 133).

(2)

الناقص: هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، سُمي بذلك لنقصه أرزاق الجند. والأشج: هو عمر بن عبد العزيز، سُمي بذلك لشجة كانت في وجهه من ضرب دابة. انظر: التوضيح والتكميل (2/ 133).

(3)

مضى عند تفسير الآية (58) من هذه السورة.

(4)

البيت في شرح الأشموني (2/ 55)، التوضيح والتكميل (2/ 133).

ص: 203

يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ}

(1)

فعلماءُ الكوفةِ يقولونَ: إنها مفعولٌ به لـ (أعلم)؛ لأنهم يُجِيزُونَ عملَ صيغةِ التفضيلِ في نَصْبِهَا للمفعولِ، هذا قولُ الكوفيين. وَخَالَفَهُمْ عامةُ نحاةِ البصرةِ زَاعِمِينَ أن صيغةَ التفضيلِ لا يمكنُ أن تنصبَ المفعولَ؛ ولذا اختلفوا في إعرابِ بيتِ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلميِّ المشهورِ حيث قال

(2)

:

فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَيِّ حَيًّا مُصَبَّحًا

وَلَا مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا

أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا

فالكوفيونَ يقولون: (القوانس) مفعولٌ به لـ (أَضْرَبَ) التي هي صيغةُ التفضيلِ. والبصريونَ يقولونَ: لا يمكنُ أن تُنْصَبَ بصيغةِ التفضيلِ فهي منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّتْ عليه صيغةُ التفضيلِ، أي: نضربُ القوانسَ. وعلى قولِ البصريينَ فيكونُ قولُه: {مَنْ يَضِلُّ} منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّتْ عليه صيغةُ التفضيلِ، أي: يعلمُ مَنْ ضَلَّ عَنْ سبيلِه. وقال قومٌ: هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ؛ لأن الأصلَ: (هو أعلمُ بِمَنْ ضَلَّ عن سبيلِه) فَحُذِفَ الباء ونُصِبَ بنزعِ الخافضِ، قالوا: ويدلُّ لهذا قولُه: {هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} فجاءَ بالباءِ في قولِه: {بِالْمُعْتَدِينَ (119)} وقولُه فِي أُخْرَيَاتِ النحلِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل: آية 125] فجاءَ بالباءِ. وهذا الإعرابُ ضَعَّفَهُ الكوفيونَ؛ لأن النصبَ بنزعِ الخافضِ لا يكونُ إلا بعاملٍ يعملُ، وصيغةُ التفضيلِ لا تعملُ فِي المفعولِ ونحوِه. هذا قولُ العلماءِ.

(1)

انظر: ابن حرير (12/ 65)، القرطبي (7/ 72)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (5/ 126).

(2)

البيتان في الخزانة (3/ 517)، البحر المحيط (4/ 210)، الدر المصون (1/ 261)، الأشموني (2/ 60).

ص: 204

والذي يظهرُ لنا في القواعدِ العربيةِ: أن هذه المسألةَ الصوابُ فيها مع الكوفيين لَا مع البصريين، وأن صيغةَ التفضيلِ تنصبُ المفعولَ، وأنه لا مانعَ من ذلك؛ لأَنَّ صيغةَ التفضيلِ مُسْتَنِدَةٌ على مصدرٍ، فقولُه:«وَأَضْربَ مِنَّا بالسيوفِ القَوَانِسَا» في معنَى قَوْلِكَ: يَزيدُ ضَرْبُنَا القَوانِسَ على غيرِنا. وهذا لَا مانعَ من عَمَلِهِ، فالمصدرُ الكامنُ فيها القياسُ أن يعملَ عملَ فِعْلِهِ. وَخَالَفَ البصريونَ في ذلك، وهذا معنَى كلامِ علماءِ العربيةِ في قولِه:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: آية 117] عالم بالضالينَ في الأزلِ وهو مُيَسِّرُهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، وعالمٌ بالمهتدينَ في الأزلِ وَمُيَسِّرُهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، وهو يعلمُ أنكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَكَ من المهتدين، وأن مَنْ خَالَفَكَ مِنَ الضَّالِّينَ المعتدين. وهذا معنَى قولِه:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} .

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} هذه الآياتُ كُلُّهَا إلى قولِه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: الآيات 118 - 120] نَزَلَتْ لَمَّا قال الكفارُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: كيفَ تأكلونَ ما قَتَلْتُمُوهُ بأيديكم، ولا تأكلونَ ما قَتَلَهُ اللَّهُ؟ يَعْنُونَ الميتةَ. ذَبِيحَتُكُمُ الني قتلتموها تأكلونَها، وتقولونَ: هي طَيِّبَةٌ حلالٌ مُستَلَذَّةٌ، والتي قَتَلَهَا اللَّهُ تقولونَ: هي ميتةٌ جيفةٌ قذرةٌ حرامٌ، فَأَنْتُمْ إِذَنْ أحسنُ من اللَّهِ!! فجاءت هذه الآياتُ رَدًّا عليهم

(1)

. فقال لهم اللَّهُ (جل وعلا):

(1)

أبو داود كتاب الضحايا باب في ذبائح أهل الكتاب. حديث رقم (2801)، (8/ 13)، وانظر: حديث رقم (2802)، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام. حديث رقم (3069)، (5/ 263)، والنسائي، كتاب الضحايا، باب تأويل قول الله عز وجل {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حديث رقم (4437)، (7/ 237)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: صحيح الترمذي رقم (2454)، وصحيح أبي داود رقم (2444)، (2445)، وصحيح النسائي رقم (4134).

ص: 205

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 118] لأَنَّ المسلمينَ إذا أرادوا أن يَذْبَحُوا سَمَّوُا اللَّهَ (جل وعلا) على ذبائحِهم عند الذبحِ، وكذلك إذا أَرَادُوا أن يَعْقِرُوا الوحشَ سَمَّوْا عند ذلك، وإذا أرادوا أن يُرْسِلُوا جَوَارِحَهُمْ كَالكلابِ والصقورِ والبزاةِ أَرْسَلُوهَا وَسَمَّوُا اللَّهَ على الصيدِ عندَ إرسالِها؛ ولذا قال لهم اللَّهُ:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .

قوله: {فَكُلُوا} أصلُه (اؤكلوا) لأنه مضارعُ (أَكَلَ)

(1)

ومعروفٌ في لغةِ العربِ ثلاثةُ أفعالٍ من فعلِ الأمرِ هي الأمرُ من (أَخَذَ)، و (أَمَرَ)، و (أَكَلَ) كُلُّهَا يجوزُ حذفُ الهمزةِ في الأمرِ

(2)

، فتقولُ في (أَخَذَ) في أَمْرِهَا:(خُذْ)

(3)

، وفي أَمْرِ (أَكَلَ): كُلْ، وفي أَمْرِ (أَمَرَ) مُرْ

(4)

. أما (أَمَرَ) إذا كان قَبْلَهَا حرفُ عطفٍ فالأجودُ رَدُّهَا إلى الأصلِ

(5)

، كقولِه:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: آية 132]

(1)

وقد أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما كما أخرجه عن غيره مرسلاً. انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1378، 1380)، وابن جرير (12/ 78) فما بعدها، أسباب النزول للواحدي ص223. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

() انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 321.

(2)

انظر: شرح الكافية (4/ 2166)، الدر المصون (1/ 280)، التوضيح والتكميل (2/ 478).

(3)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 315.

(4)

انظر: شرح الكافية الشافية (4/ 2166).

(5)

المصدر السابق (4/ 2167)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 323، 315.

ص: 206

وأما إذا كان ليس قَبْلَهَا حرفُ عطفٍ فإن الهمزةَ تُحْذَفُ، كقولِه:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»

(1)

، «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ لِعَشْرٍ»

(2)

.

أما (أَخَذَ) و (أكل) فالأجودُ فيهما حذفُ الهمزةِ في الأمرِ، تقولُ:«خُذْ» وَلَا تقولُ: «أُخذ» وتقول: «كل» ولا تقول: «ءُأْكل» ورَدُّهُما إلى أصلِهما لغةٌ قليلةٌ.

(1)

البخاري في الطلاق، باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ

} الآية. حديث رقم (5251، 5333)، (9/ 345)، ومسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. حديث رقم (1471)، (2/ 1093).

(2)

ورد هذا الحديث مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، وهم:

1 -

سبرة بن معبد رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة (1/ 347)، والدارمي (1/ 273)، وأبي داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (490)، (1/ 161)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء: متى يؤمر الصبي بالصلاة. حديث رقم (407)، (2/ 259)، وابن خزيمة (2/ 102)، والدارقطني (1/ 230)، والبيهقي (2/ 14)، (3/ 83)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 231)، وصحيح ابن خزيمة رقم (1002)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (465)، وصحيح الترمذي رقم (334)، ومشكاة المصابيح رقم (572)، والإرواء (1/ 266).

2 -

عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. عند أحمد (2/ 180، 187)، وابن أبي شيبة (1/ 347)، وأبي داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (491)، (1/ 162)، والدارقطني (1/ 230)، والحاكم (1/ 197)، والبيهقي (3/ 84)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (466) والمشكاة رقم (572)، والإرواء (1/ 266).

3 -

أنس بن مالك رضي الله عنه عند الدارقطني (1/ 231)، وفي سنده داود بن المُحبَّر، قال أحمد: لا يدري ما الحديث ا. هـ. وقال ابن المديني: ذهب حديثه، ا. هـ وقال الدارقطني: متروك ا. هـ الميزان (2/ 20).

ص: 207

والأمرُ في قولِه هنا: {فَكُلُوا} أمرُ إباحةٍ، وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ الأصولِ أن مِنْ صِيَغِ (افْعَل) التي تأتِي لها: الإباحةُ

(1)

. يعنِي: فَكُلُوا. والفاءُ هنا مُسَبَّبَةٌ عما قَبْلَهَا، إن زَعَمُوا أن الميتةَ ذبيحةُ اللَّهِ، وأنها خيرٌ من ذبيحتِكم؛ فَكُلُوا مِمَّا ذَكَّيْتُمْ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه عندَ الذَّكَاةِ، ولا تأكلوا من الميتةِ، ومما ذَبَحَهُ الكفارُ وذكروا عليه اسمَ الأصنامِ. كما يأتِي في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] فإنه قَابَلَ بَيْنَ الأمرِ والنهيِ، أَمَرَ بالأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 118] وَنَهَى عن أكلِ ما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه في قولِه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .

ومعنَى ذِكْرِ اسمِ اللَّهِ عليه: هو أَنْ يُسمَّى على الذبيحةِ عندَ الذكاةِ، أو على العقيرةِ عندَ الاصطيادِ، أو على الجارحِ إذا أُرْسِلَ إلى الصيدِ، كُلُّ هذا يُسَمَّى اللَّهُ عليه وَيُؤْكَلُ منه، وسيأتِي ذلك في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَسَنَتَكَلَّمُ عليه هناكَ، وحاصلُه أن للعلماءِ فيه ثلاثةَ مذاهبَ

(2)

:

أحدُها: أَنَّ كُلَّ ما ذَبَحَهُ مسلمٌ ولم يَذْكُرِ اسمَ اللَّهِ عليه، أو صَادَهُ ولم يذكر اسمَ اللَّهِ عليه، أو أَرْسَلَ عليه جَارِحَهُ من كَلْبِهِ أو صَقْرِهِ أو بَازِهِ ولم يُسَمِّ اللَّهَ عليه؛ أنه لا يُؤْكَلُ، سواء تركَ التسميةَ عَمْدًا أو نِسْيَانًا. وهذا قالَ به طائفةٌ قليلةٌ في الذبيحةِ، وقال به جماعةٌ في الصيدِ، وهو روايةٌ قويةٌ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ. وجمهورُ العلماءِ

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 18)، مذكرة الأصول ص 189.

(2)

انظر: المجموع (9/ 102) المغني (13/ 289_ 291)، المحلى (7/ 412_ 414)، القرطبي (7/ 75)، ابن كثير (2/ 169).

ص: 208

على أنه إِنْ تَرَكَ التسميةَ نِسْيَانًا فالذبيحةُ تُؤْكَلُ؛ لأنه ما تَرَكَهَا إلا نِسْيَانًا، والنسيانُ مَعْفُوٌّ عنه، وإن تَرَكَهَا عَمْدًا فلَا تُؤْكَلُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، خِلَافًا للإمامِ الشافعيِّ وعامةِ أصحابِه في مشهورِ مذهبِه أنه إِنْ تَرَكَ التسميةَ وهو مسلمٌ أُكِلَتْ ذبيحتُه مُطْلَقًا، سواء تَرَكَهَا عَمْدًا أو نِسْيَانًا؛ لأَنَّ الشافعيَّ يُفَسِّرُ قولَه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} بما أُهِلَّ به لغيرِ اللَّهِ، أما المسلمُ عندَه فذبيحتُه حلالٌ سواء سَمَّى اللَّهَ أو لَمْ يُسَمِّ، سواءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أو نِسْيَانًا. وسيأتِي تفاصيلُ هذا في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .

وقولُه هنا: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: مِمَّا ذَكَّيْتُمْ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه. والآيةُ على التحقيقِ في الذكاةِ، خِلَافًا لبعضِ العلماءِ القائلِ: هي عَامَّةٌ. أي: كُلُّ طعامٍ: مِنْ خُبْزٍ أو لَحْمٍ أو غيرِه أو فاكهةٍ تُسَمِّي اللَّهَ عليه وأن تأكلَ منه

(1)

. وعلى هذا فلَا ينبغي للإنسانِ أن يأكلَ من شيءٍ كَائِنًا ما كَانَ إِلَاّ إذا سَمَّى اللَّهَ عليه.

والتحقيقُ أنها في الذكاةِ كما يَقْتَضِيهِ السياقُ. وهذا معنَى قولِه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} هذه (إِنْ) الشرطيةُ هي كثيرةٌ في القرآنِ وفي السنةِ، وفيها إشكالٌ معروفٌ كثيرٌ؛ لأنهم يؤمنونَ قَطْعًا. وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي: أن تعليقَ فعلِ الشرطِ بجزاءِ الشرطِ بأداةِ الشرطِ التي هي (إِنْ) لا تكونُ إِلَاّ فيما لَا يُتَحَقَّقُ وقوعُ الشرطِ فيه

(2)

، فلو قُلْتَ لعبدِك وهو عارفٌ باللغةِ العربيةِ:«إِنْ جاءَك زيدٌ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا» . هو يعلمُ أن معنَى كلامكَ: أن زَيْدًا قَدْ يَأْتِي وقد لَا يأتِي؛ لأَنَّ (إِنْ) لا تدلُّ على تحقيقِ وقوعِ الشرطِ، بل قد

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 67)، القرطبي (7/ 72).

(2)

انظر: الكليات ص69، 70، 71، 193، 839، جواهر البلاغة ص133.

ص: 209

يقعُ الشرطُ فيقعُ الجزاءُ، وقد لا يقعُ الشرطُ فلا يقعُ الجزاءُ. وقولُه:{إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} يُفْهَمُ من «إِنْ» الشرطيةِ أنهم قد يكونونَ مؤمنينَ وَقَدْ يكونونَ غيرَ مُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مؤمنونَ حَقًّا قَطْعًا، فَمِنْ هذا جاءَ الإشكالُ في (إِنْ) هذه، وهذا كثيرٌ فِي القرآنِ، كقولِه للمؤمنينَ:{إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (91)} وكقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ زيارةِ القبورِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»

(1)

وهم لاحقونَ بهم قَطْعًا يَقِينًا. وكقولِه جل وعلا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: آية 27] وهم دَاخِلُوهُ قَطْعًا بِلَا شَكٍّ، فما وجهُ التعليقِ بأداةِ الشرطِ التي هي (إِنْ) التي تَدُلُّ على أَنَّ جزاءَ الشرطِ قد يَقَعُ، وقد لا يَقَعُ، مع أنها أمورٌ مُحَقَّقَةٌ؟ هذا وجهُ الإشكالِ. وهذه مسألةٌ عربيةٌ معروفةٌ، وهي من مسائلِ العربيةِ الكبارِ المشهورةِ التي اختلفَ فيها علماءُ البصرةِ وعلماءُ الكوفةِ من النحاةِ

(2)

، فَذَهَبَ عامةُ علماءِ الكوفةِ إلى أَنَّ (إِنْ) في جميعِ هذه الآياتِ بمعنَى (إذْ) التعليليةِ، قالوا: وَتَأْتِي (إنْ) بمعنَى (إِذْ) التعليليةِ،

(1)

ورد في هذا المعنى ثلاثة أحاديث:

الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم في الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. حديث رقم (249)، (1/ 218)، وهو اللفظ الْمُطَابِقُ لِمَا ذكرَ الشيخُ رحمه الله.

الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم في الجنائز، باب ما يُقال عند دخول المقابر، حديث رقم (974)، (1/ 669).

الثالت: حديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم في الجنائز، باب ما يُقال عند دخول المقابر، حديث رقم (975)، (1/ 671).

(2)

انظر: مغني اللبيب (1/ 24)، الدر المصون (4/ 192_ 193)، خزانة الأدب (3/ 655).

ص: 210

وعليه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ} أَيْ: لأَجْلِ كونِكم مؤمنينَ بآياتِي. قال الكوفيونَ: وَمِنْ هذا المعنَى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: آية 9]، قالوا: مَعْنَاهَا: إِذْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ذَكِّرْ؛ لأَجْلِ أن الذِّكْرَى تنفعُ. قالوا: وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. واستدلوا له من أشعارِ العربِ بقولِ الفرزدقِ- وهو عَرَبِيٌّ فصيحٌ قُحٌّ

(1)

-:

أتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا

جِهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ

قالوا: (إِنْ) هنا بمعنَى (إِذْ)، أَتَغْضَبُ إِذْ حُزَّتْ أُذُنَا قتيبةَ. هذا قولُ البصريين؛ ولذا كُلُّهُ أَجْرَوْهُ على سَنَنٍ واحدٍ. «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قالوا: وإنا لاحقونَ إن شاءَ اللَّهُ ذلك. {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: آية 27] أي: إِنْ شاءَ اللَّهُ ذلك. وهذا قولُ الكوفيين. وأما البصريونَ فَفَصَلُوا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، قالوا: أما قولُه: {إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (91)} فهي أداةُ شرطٍ جِيءَ بها للتهييجِ والإلهابِ؛ لأن مِنْ عَادَةِ العربِ أن يُهَيِّجُوا المُخَاطَبَ، تقولُ للرجلِ:«إِنْ كنتَ ابنَ الكرامِ، ابنَ فلانٍ وفلانٍ، فَافْعَلْ لِي كَذَا» . وليس مقصودُك تعليقَ الشرطِ بالجزاءِ، بل مقصودُك تَهْيِيجَهُ وبعثَه للفعلِ، وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أحدِ أولادِ الخنساءِ الشاعرةِ

(2)

:

لَسْتُ لِخَنْسَاءَ وَلَا للأَخْزَمِ

وَلَا لِعَمْرِو ذِي السَّنَاءِ الأَقْدَمِ

إِنْ لَمْ أَرِدْ فِي الْجَيْشِ جَيْشِ الأَعْجَمِي

مَاضٍ عَلَى الْهَوْلِ خِضَمٍّ خِضْرِم

(1)

البيت في الكتاب لسيبويه (3/ 161)، مغني اللبيب (1/ 24)، خزانة الأدب (3/ 655)، الدر المصون (4/ 193).

(2)

البيتان في الاستيعاب (4/ 297)، الإصابة (4/ 288).

ص: 211

يقولُ: لستُ لأَبِي ولَا لأُمِّي إِنْ لَمْ أَرِدْ في الجيشِ. ليس يعنِي التعليقَ، وإنما يعنِي تحريضَ نفسِه.

قالوا: قولُه: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وقولُه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: آية 27] قال علماءُ البصرةِ: المرادُ بالتقييدِ بالمشيئةِ في هذا الأمرِ المُحَقَّقِ: هو تعليمُ الْخَلْقِ ألَاّ يتكلموا عن أمرٍ مستقبلٍ إلا مُعَلِّقِينَ بمشيئةِ اللَّهِ، وإنما جِيءَ بالأمرِ المُحَقَّقِ لتوكيدِ ذلك، وأنه لا يَنْبَغِي للإنسانِ أن يتحدثَ عن مستقبلٍ أنه سيقعُ أو سيفعلُ إلا إذا قُيِّدَ بمشيئةِ اللَّهِ، كما قال اللَّهُ لنبيه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: الآيتان 23، 24] وهذا معنَى قولِه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (128)} .

و (الآيات) جمعُ تصحيحٍ مؤنثٌ، مفردُه (آية)، وقد بَيَّنَّا

(1)

أن الآيةَ أَصْلُهَا عندَ الْمُحَقِّقِينَ من علماءِ التصريفِ أن أصلَها (أَيَيَة) اجتمعَ فيها موجبَا إعلالٍ، فوقعَ الإعلالُ في الحرفِ الأولِ، على خلافِ القاعدةِ الكثيرةِ المُطَّرِدةِ، وهو جائزٌ، فلو جَرَى على الأغلبِ لكانَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ. وقيل:(أيَاه) ولكنَّ الإعلالَ وقعَ هنا في الحرفِ الأولِ، فصارَ (آية) ووزنُه بالميزانِ الصرفيِّ:(فَعَلَة) وحروفُه: فاؤه همزةٌ، وعينُه ولامُه كِلَاهُمَا ياءٌ. هذا أصلُ وزنِها وصرفِها.

وهي في لغةِ العربِ - قد بَيَّنَّا مِرَارًا

(2)

- أن (الآية) في لغةِ العربِ تُطْلَقُ إطلاقين، وَذَكَرْنَا هذا كثيرًا في هذه الدروسِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

ص: 212

أما الإطلاقُ الأولُ المشهورُ: فهو إطلاقُ الآيةِ بمعنَى (العلامةِ). تقولُ العربُ: «الآيةُ بَيْنِي وبينَك كذا» . أي: العلامةُ بَيْنِي وبينَك كذا. ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ مُلْكِهِ أن يأتيَكم التابوتُ. وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ- وهو عربيٌّ جاهليٌّ- تفسيرُ الآياتِ بالعلاماتِ حيث قال

(1)

:

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا

لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ

ثُمَّ بَيَّنَ أن مرادَه بالآياتِ: (علاماتُ الدارِ) فقال:

رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ

وَنُؤْيٍ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ

إطلاقُ الآيةِ الآخَرُ في لغةِ العربِ: تُطْلِقُ العربُ الآيةَ على (الجماعةِ)، وهو إطلاقٌ عربيٌّ مشهورٌ، يقولونَ:«جاء القومُ بآيتِهم» ؛ أي: بجماعتِهم، ومنه بهذا المعنَى: قولُ بُرج بن مُسْهِر الطائيِّ

(2)

:

خَرجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلَنَا

بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا

أي: بِجَمَاعَتِنَا.

إذا عرفتُم أن (الآيةَ) تُطْلَقُ في لغةِ العربِ إِطْلَاقَيْنِ: تطلقُ بمعنَى (العلامةِ)، وتطلقُ بمعنَى (الجماعةِ)، فَاعْلَمُوا أن (الآيةَ) في القرآنِ تُطْلَقُ أيضًا إطلاقين:

تُطْلَقُ على الآيةِ الكونيةِ القدريةِ، وهي: ما نَصَبَهُ اللَّهُ كَوْنًا وَقَدَرًا

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

(2)

تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.

ص: 213

دَالاًّ على ربوبيتِه، وأنه المعبودُ وحدَه، وهي بهذا المعنَى من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) قَوْلاً واحدًا، كقولِه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: آية 190] أي: علاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن لهذا الكونِ مُدَبِّرًا هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا.

الإطلاقُ الثانِي في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِه:{رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] فهي بهذا من الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، والآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ قِيلَ: من الآيةِ بمعنَى (الجماعة)؛ لأَنَّ الآيةَ جَمَعَتْ كلماتٍ من القرآنِ اشْتَمَلَتْ على بعضِ معانِيه ومقاصدِه.

وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ أيضًا من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ)؛ لأنها علاماتٌ على صدقِ مَنْ جاء بها؛ لِمَا فيها من الإعجازِ؛ ولأَنَّ لَهَا علاماتٍ: مبادئَ ومقاطعَ تدلُّ على انتهاءِ هذه الآيةِ وابتداءِ هذه.

وهذا معنَى قولِه: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} .

والإيمانُ في لغةِ العربِ: التصديقُ

(1)

، ومنه قولُه:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: آية 17] أي: بِمُصَدِّقٍ لنا في أن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [يوسف: آية 17].

والإيمانُ في اصطلاحِ الشرعِ في مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ: هو التصديقُ الكاملُ من جميعِ الجهاتِ، أَعْنِي: تصديقَ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في

(1)

مضى عند تفسير الآية (55) من سورة البقرة.

ص: 214

الصحيحِ أن: «الإيمانَ بضعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ الرواياتِ: «بضعٌ وسبعونَ شعبةً، أَعْلَاهَا شهادةُ أن لَا إلهَ إلَاّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ»

(1)

فَسَمَّى إماطةَ الأَذَى عن الطريقِ (إيمانًا). وفي الحديثِ الصحيحِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»

(2)

فَسَمَّى الصومَ (إيمانًا)«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا»

(3)

فَسَمَّى القيامَ (إيمانًا). وقد قَدَّمْنَا في قولِه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أن معناه: وما كانَ اللَّهُ ليضيعَ صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ نسخِ القبلةِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وهذا معنَى قولِه:{إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} .

{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [الأنعام: آية 119].

في هذه الآيةِ الكريمةِ قراءاتٌ سبعياتٌ

(4)

: قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصمٍ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} ببناءِ الفعلين للفاعلِ.

وقرأ ابنُ عامرٍ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {وقد فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم} ببناء الفِعْلَيْنِ للمفعولِ والتركيبِ للنائبِ.

وقرأ هذا شعبةُ عن عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ: (وقد فَصَّل لكم ما حُرِّم عليكم} ببناءِ «فصَّل» للفاعلِ، و «حُرِّم» للمفعولِ. فتحصَّل أنها ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ:{فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ} لنافعٍ

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

انظر: المبسوط لابن مهران ص202.

ص: 215

وحفصٍ: {فُصِّلَ لكم ما حُرِّم} لابنِ عامرٍ وابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: {فَصَّل لكم ما حُرِّم} لحمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ.

والجمهورُ- غيرُ الكوفيين- قرؤوا: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيَضِلُّونَ} بفتحِ الياءِ. وقرأَ الكوفيونَ الثلاثةُ- أعني: عَاصِمًا، وَحَمْزَةَ، والكسائيَّ- {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} بضمِّ الياءِ

(1)

{بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذه القراءاتُ في الآيةِ.

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ

(2)

{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (ما) استفهاميةٌ، أَيُّ شيء ثَبَتَ لكم يمنعُكم من أن تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه؟ والاستفهامُ هنا بمعنَى الإنكارِ

(3)

، أي: لا يوجدُ شيءٌ يمنعُكم من ذلك. وقال بعضُ العلماءِ: هو بمعنَى التقريرِ بأن يقولوا: ليس هنالك شيءٌ يَمْنَعُنَا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أيُّ شيءٍ ثَبَتَ لكم يمنعُكم من ذلك؟ والمعنَى: لَا شيءَ يمنعُ من ذلك؛ لأنكم ذَكَّيْتُمُوهُ، وَذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عليه، وفعلتُم فيه الطريقةَ الشرعيةَ التي أُمِرْتُمْ بها، فأيُّ مانعٍ يَثْبُتُ يمنعُكم من أَكْلِ هذا؟ والمعنَى: لا مانعَ منه، وإنما جاءَ المانعُ في الأكلِ مما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: والحالُ أنه حلالٌ كماءِ المزنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَ عليكم، أي: أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ غايةَ البيانِ والإيضاحِ، ولم يَجْعَلْ مِمَّا حَرَّمَ عليكم ما ذبحتموه وذكيتموه وَسَمَّيْتُمُ اللَّهَ عليه، فإذا كان اللَّهُ فصَّل لكم ما حَرَّمَهُ عليكم

(1)

المصدر السابق ص 201.

(2)

انظر: الأضواء (2/ 208_ 209).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 211).

ص: 216

التفصيلَ والبيانَ، ولم يكن منه أنه حَرَّمَ ما ذَكَّيْتُمُوهُ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه، فما لكم ألا تَأْكُلُوا منه؟ لا مانعَ من الأكلِ منه.

وَاعْلَمْ أن هذه الآيةَ غَلِطَ فيها كثيرٌ من المفسرين

(1)

فقالوا: {فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فصَّلَهُ بقولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] وهذا غلطٌ لا شكَّ فيه؛ لأن هذه الآيةَ التي نُفَسِّرُهَا من سورةِ الأنعامِ، وهي من القرآنِ النازلِ بمكةَ بإجماعِ علماء، إلا آياتٍ معروفةً منها

(2)

، كقولِه:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآياتِ [الأنعام: آية 151]، وقوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: آية 91]{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: آية 93] فهي آياتٌ معدودةٌ مدنيةٌ في سورةٍ مكيةٍ، أما جُلُّ سورةِ الأنعامِ فهي نازلةٌ في مكةَ قبلَ الهجرةِ بلا خلافٍ بين العلماءِ، وهي نازلةٌ قبلَ النحلِ بلا شكٍّ، والنحلُ من القرآنِ المكيِّ على التحقيقِ، وقد دَلَّ القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ أن سورةَ الأنعامِ نَزَلَتْ قبلَ سورةِ النحلِ

(3)

:

أحدُهما: قولُه في سورةِ النحلِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: آية 118] فهذا المحرمُ المقصوصُ من قبلُ المُحالُ عليه هو النازلُ في سورةِ الأنعامِ بالإجماعِ في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: آية 146].

الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ هذه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 69)، القرطبي (7/ 73).

(2)

مضى عند تفسير الآية (88) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

ص: 217

لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: آية 148] فَبَيَّنَ أنهم سيقولونَه في المستقبلِ بدلالةِ حرفِ التنفيسِ الذي هو السينُ، ثم بَيَّنَ في سورةِ النحلِ أن ذلك الموعودَ به في المستقبلِ وَقَعَ وَثَبَتَ في سورةِ النحلِ حيث قال:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: آية 35] فَدَلَّ على أنها بعدَها، وإذا كانت سورةُ الأنعامِ التي فيها:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: آية 119] نازلةً في مكةَ قبلَ الهجرةِ، وقولُه:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] من سورةِ المائدةِ نَزَلَتْ بعدَ الهجرةِ في المدينةِ في آخِرِ ما نَزَلَ من القرآنِ؛ لأَنَّ المائدةَ من آخِرِ ما نَزَلَ من سورِ القرآنِ، وفيها:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: آية 3] المُؤْذِنَة بكمالِ الدينِ وَقُرْبِ انقضاءِ الوحيِ، كيف يكونُ هذا التفصيلُ المذكورُ في الأنعامِ في سورةِ المائدةِ، والمائدةُ لَمْ تَنْزِلْ إلا بعدَ ذلك بسنينَ كثيرةٍ؟ والتحقيقُ أن قولَه هنا:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: آية 119] أنه هو التفصيلُ المذكورُ في سورةِ الأنعامِ؛ لأنها نَزَلَتْ جملةً واحدةً، وهذا مِمَّا فَصَّلَهُ في الأنعامِ، وهو قولُه:{قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: آية 145] فقولُه: {لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: آية 145] هذا التفصيلُ للحرامِ يدلُّ على أن ما ذَبَحْتُمْ وذكيتموه وذكرتم اسمَ اللَّهِ عليه أنه ليس من المحرمِ الذي فُصِّلَ لكم، وهذا معنَى قولِه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا

حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (ما): موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ، والعائدُ إلى الصلةِ محذوفٌ، والتقديرُ: وقد فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَهُ

ص: 218

عليكم. وعلى قراءةِ (حُرِّم) فالرابطُ هو ضميرُ النائبِ المحذوف أي: ما حُرِّمَ هو عليكم وهذا معنَى قولِه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} جَرَتِ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ إذا ذَكَرَ هذه المحرماتِ الأكلِ، أنه يَسْتَثْنِي منها حالةَ الضرورةِ كما قال:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ثم قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: آية 173] وقال في النحلِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)} [النحل: آية 115].

وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: آية 3] وقال هنا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يعني: أن هذا الذي حَرَّمَهُ عليكم وَفَصَّلَ تحريمَه، إذا أَلْجَأَتْكُمُ الضرورةُ إليه فهو حلالٌ عليكم للضرورةِ؛ لأن الضرورةَ تُبِيحُ المحظوراتِ.

وَمَنْ يَأْتِ الأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ

فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارَا

(1)

فالميتةُ حرامٌ بالإجماعِ، ولكنَّ الإنسانَ إذا خَافَ على نفسِه الهلاكَ ولم يَجِدْ إلا الميتةَ أو الخنزيرَ أو ما جرى مجرَى ذلك فإنه يباحُ له ذلك الحرامُ. وقد قَدَّمْنَا في سورةِ البقرةِ كلامَ العلماءِ في الضرورةِ التي تبيحُ الميتةَ، وفي القَدْرِ الذي يُبَاحُ مِنْهَا هل هو ما يَسُدُّ الرمقَ ويمسكُ الحياةَ، أو هو الشبعُ والتزودُ حتى يجدَ غيرَها كما قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا

(2)

.

(1)

البيت لسيدي محمد بن الشيخ سيدي من أدباء شنقيط، وهو ضمن قصيدة له مذكورة مع ترجمته في كتاب: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص247.

(2)

انظر: المجموع (9/ 39)، المغني (13/ 330)، المحلى (7/ 426)، القرطبي (2/ 225)، الأضواء (1/ 107).

ص: 219

وقولُه: {إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} يدلُّ على أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ، وَبَيَّنَ أنها حرامٌ إذا اضْطُرَّ الإنسانُ إليها وَأَلْجَأَتْهُ الضرورةُ إليها كانت حلالاً عليه؛ لأَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بالحَنِيفِيَّةِ السمحةِ، وسُهِّلَ له فيها كُلَّ التسهيلِ، وَرُفِعَتْ عنا على لسانِه الآصارُ- وهي أثقالُ التكليفِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا- وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَ:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآيات [البقرة: آية 286]. أن اللَّهَ قال: «قَدْ فَعَلْتُ» في روايةِ ابنِ عباسٍ عند مسلمٍ، وأن اللَّهَ قال:«نَعَمْ» في روايةِ أبي هريرةَ عندَ مسلم

(1)

. وَلِذَا كان من علاماتِ نُبَوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أنه يُحِلُّ الطيباتِ وَيُحَرِّمُ الخبائثَ ويضعُ الآصارَ والأغلالَ وأثقالَ التكليفِ التي كَانَتْ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن ذلك من صفاتِه في الكتبِ المتقدمةِ كما يأتي في سورةِ الأعرافِ في قولِه: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157] والآصارُ والأغلالُ هي: الأثقالُ التي كانت شديدةً في التكليفِ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن مَنْ قَبْلَنَا ربما إذا أَذْنَبَ الواحدُ منهم ذنبًا لا تُقْبَلُ توبتُه حتى يُقَدِّمَ نفسَه للموتِ والقتلِ، كما قَدَّمْنَاهُ في البقرةِ

(2)

في قولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: آية 54] وما كانوا تصحُّ صلاتُهم إلا في المساجدِ، ولا تصحُّ صلاتُهم إلا بالماءِ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام ..

ص: 220

ولا طهارتُهم من الخبثِ إلا بالماءِ، فهي آصارٌ وتكليفاتٌ وأثقالٌ شديدةٌ رَفَعَهَا اللَّهُ عَنَّا على لسانِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حيث قال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78]{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: آية 16]{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: آية 185] ونحو ذلك من الآياتِ، ولذا قال هنا:{إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} والطاءُ في قولِه: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أصلُها مبدلةٌ من تاءِ الافتعالِ، وقد تَقَرَّرَ من فَنِّ العربيةِ

(1)

: أن تاءَ الافتعالِ إذا جاءَ بعدَ واحدٍ من حروفِ الإطباقِ أنه يُبْدَلُ طاءً، والحقيقةُ: أصلُ مادةِ هذا الفعلِ (ضَرَرَ). ففاء المادةِ: ضادٌ، وعينها: راءٌ، ولامُها: راءٌ. فَدَخَلَهَا تاءُ الافتعالِ، كما تقولُ في قَرُبَ: اقتربَ، وفي كَسَبَ: اكتسبَ، وفي ضررَ: اضترر فأُبدلت تاءُ الافتعالِ طاءً، ثم بُنِيَ الفعلُ للمفعولِ ورُكِّبَ للنائبِ، فقيل: اضْطُرِرْتُمْ

(2)

.

والمعنَى: أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ لنا أن محلَّ تحريمِها علينا ما لم تُلْجِئْنَا إليها ضرورةٌ، فَإِنْ أَلْجَأَتْنَا إليها ضرورةٌ فهي حلالٌ لنا.

وقد قَدَّمْنَا كلامَ العلماءِ في قولِه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالإنسانُ إذا خاف على نفسِه الهلاكَ جازَ له أَكْلُ الميتةِ إن لم يَجِدْ غيرَها، وجاز له أكلُ الخنزيرِ إن لم يجد غيرَه، وجازَ له ما حُرِّمَ عليه للضرورةِ. وأعظمُ الأشياءِ هو كلمةُ الكفرِ إذا أُلْجِئ الإنسانُ وَأُكْرِهَ

(1)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 511).

(2)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 225)، شرح الكافية (4/ 2158)، البحر المحيط (1/ 373)، الدر المصون (2/ 113)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص425.

ص: 221

عليها، وقالَها إكراهًا وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ لا يؤاخذُه اللَّهُ بها؛ لأن اللَّهَ قال كما يأتِي في سورةِ النحلِ:{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} [النحل: آية 106] وهذا معنَى قولِه: {إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} .

وقولُه: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} قرأه القراءُ

(1)

: {وإن كثيرًا ليَضلونَ} وقرأه الكوفيون

(2)

: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ} فعلى قراءةِ {يَضِلُّونَ} فالفعلُ لازمٌ لا مفعولَ له. والمعنَى: أنهم يَضِلُّون ويذهبونَ عن طريقِ الحقِّ. وعلى قراءةِ الكوفيين {يُضلون} فهو متعدٍّ للمفعولِ، والمفعولُ محذوفٌ. والمعنَى: كثيرًا من الناسِ ليُضلون الناسَ عن طريقِ الحقِّ بأهوائهم

(3)

. وحَذْفُ المفعولِ إذا دَلَّ المقامُ عليه سائغٌ أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ مشهورٌ.

{بِأَهْوَائِهِم} الأهواءُ: جمع الهوَى، وأصلُ الهوى:(هَوَيٌ) بواوٍ وياءٍ، اجتمعَ فيه موجبَا إعلالٍ فوقعَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ الذي هو الياءُ على القاعدةِ الأغلبيةِ

(4)

.

وأصلُ (الهوى) في لغةِ العربِ ميلُ النفسِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على ميلِها إلى ما لَا ينبغي

(5)

، وربما أُطْلِقَ نادرًا على مَيْلِهَا لِمَا ينبغي

(6)

.

(1)

وَهُمْ: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر.

(2)

وَهُمْ: عاصم، وحمزة، والكسائي. انظر: السبعة ص 267.

(3)

انظر: حجة القراءات ص269، الدر المصون (5/ 130).

(4)

مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام.

(5)

السابق.

(6)

انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 438).

ص: 222

والهمزةُ في قولِه: {بِأَهْوَائِهِمْ} مبدلةٌ من الياءِ؛ لأَنَّ مادةَ (الهوى) مما يسميه الصرفيون «اللفيفَ المقرونَ»

(1)

معتلَ الواوِ واللامِ. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ واوٍ أو ياءٍ تَطَرَّفَتْ بعد ألفٍ زائدةٍ وَجَبَ إبدالُها همزةً

(2)

. فهمزةُ (الأهواءِ) مبدلةٌ من ياءِ الهوى، أصلُها:(هَوَيٌ) بالياءِ؛ لأن لامَ الكلمةِ ياءٌ، فَأُبْدِلَتْ همزةً لتطرفِها في الأخيرِ بعدَ ألفٍ.

والمعنَى: أن كثيرًا من الناسِ ليُضلون الناسَ. على قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ وعاصمٍ. أو ليَضلون في أنفسِهم فيكونونَ ضالينَ. وذلك الإضلالُ- على قراءةِ الكوفيين- والضلالُ- على قراءةِ غيرهم- إنما هو بسببِ أهوائِهم، أي: ميول أنفسِهم إلى الباطلِ والكفرِ- والعياذُ بالله- وهو ميلُ الهوى واتباعُ النفسِ في الحرامِ والكفرِ، لا إلى الشرعِ، ولا إلى بيانٍ، ولا إلى دِينٍ. وهذا معنَى قولِه:{لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ} .

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} لا علمَ لهم بذلك الذي سلكوه وَضَلُّوا به وأضلوا، وإنما اتبعوه جَهْلاً منهم؛ ولذا قال:{بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} (أعلم): كـ (أعلم) التي قبلَها. والمعتدونَ: جمعُ المعتدِي، والمعتدِي (مُفْتَعِل) من العُدْوَانِ، وأصلُ العُدوانِ: مجاوزةُ الحدِّ، فَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ حدَّه فقد اعتدى. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ العدوانِ مشتقٌّ من العُدْوَةِ، والعُدوة: شاطئُ الوادي؛ لأنه كأنه جاوزَ شاطئَ الحلالِ والحقِّ إلى شاطئ الحرامِ والضلالِ، فالعدوانُ: مجاوزةُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (56) من هذه السورة.

ص: 223

الحدِّ

(1)

. وهذا معنَى قولِه: إن الله جل وعلا {أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} الذي سَبَقَ لهم الضلالُ في أزلِه، وَيَسَّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فهو أعلمُ بهم. وكأن هذا فيه تسليةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، كأنه يقولُ له: رَبُّكَ أعلمُ بالضالين المضلين، ولابد أن يُيَسِّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فلا تَحْزَنْ عليهم إذا لم يؤمنوا وهذا معنَى قولِه:{هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} .

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: آية 120]{وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (ذروا) معناه: اتْرُكُوا. و (ذَرْ) بمعنَى: اتْرُكْ. وهذا الفعلُ- الذي هو (ذَرْ) - لَمْ يُسْتَعْمَلْ منه في لغةِ العربِ إلا الأمرُ والمضارعُ

(2)

، تقول العربُ:(ذَرْ) بمعنى: اتْرُكْ، و (يَذَر) بمعنَى: يترك. ولم يُسْتَعْمَلْ منه ماضٍ، ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ، ولا اسمُ مفعولٍ، ولا صيغةُ تفضيلٍ، لم يُسْتَعْمَلْ منه إلا المضارعُ والأمرُ خاصةً. ومعنَى (ذَرْ): اتْرُكْ. ومعنَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ} اتركوا ظاهرَ الإثمِ. وعلماءُ العربيةِ يقولونَ: إن الحرفَ المحذوفَ في مكانِ الفاءِ إنها واوٌ، وإن أصلَ (ذَرْ) أن أصلَ ماضيه (وَذَرَ) بواوٍ

(3)

، إلا أن هذه الواوَ لم تَثْبُتْ؛ لأن (فَعَل) إذا كانت مفتوحةَ العينِ تُحْذَفُ فاؤها في المضارعِ والأمرِ، وتُحْذَفُ في المصدرِ، وذلك إنما ينقاسُ في (فَعَلَ يَفْعَل) وأما (وَذَر يذَر) فليس مَقِيسًا فيها؛ إلا أن العربَ لم تَنْطِقْ بالواوِ ولم تَنْطِقْ بها إلا في المضارعِ والأمرِ

(4)

. وعلى كُلِّ حالٍ فـ (ذَرُوا) معناه: اتْرُكُوا.

(1)

انظر: المفردات (مادة: عدا)(553_ 554)، بصائر ذوي التمييز (4/ 31).

(2)

مضى عند تفسير الآية (112) من هذه السورة.

(3)

انظر: الدر المصون (2/ 636 _637)، (3/ 508)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص486.

(4)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص486.

ص: 224

وقولُه: {ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الظاهرُ: كُلُّ ما ظَهَرَ وعلن. والباطنُ: كُلُّ ما خَفِيَ وَاسْتَتَرَ

(1)

. والإثمُ: أصلُه ضدُّ الطاعةِ، فكلُّ ما هو خلافُ التقوى والطاعةِ من الوقوعِ في المعاصِي يُسَمَّى:(إثمًا)

(2)

. وقد قال الشاعرُ - وَصَدَقَ

(3)

-:

إِنِّي رَأَيْتُ الأَمْرَ أَعْجَبُهُ

تَقْوَى الإِلَهِ وَشَرُّهُ الِإِثْمُ

فقابلَ الإثمَ بالتقوى.

وَاعْلَمُوا أن ظاهرَ الإثمِ وباطنَه فيهما أقوالٌ [

(4)

وأنها كلَّها ترجع إلى شيءٍ واحدٍ، فقال بعضُهم: الفواحشُ الظاهرةُ هي الزِّنَى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، والفواحشُ الباطنةُ هي الزنى مع الخليلاتِ والصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا في البيوتِ. وقال بعضُ العلماءِ: ما ظهر من الفواحشِ: كنكاحِ زوجاتِ الآباءِ، كما تقدَّم في قولِه:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً (22)} [النساء: آية 22] وأن ما بَطَنَ منها هو الزنى. والتحقيقُ: أَنَّ الآيةَ الكريمةَ تشملُ جميعَ المعاصِي والذنوبِ، لا تفعلوا شيئًا منها ظاهرًا عَلَنًا بين الناسِ، ولا شيئًا باطنًا في خفيةٍ لا يطلعُ عليه أحدٌ، وهو يشملُ جميعَ التفسيراتِ الواردةِ عن الصحابةِ وغيرِهم.

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 72)، ابن كثير (2/ 168)، البحر المحيط (4/ 212).

(2)

انظر: المفردات (مادة: أثم) ص63، اللسان (مادة: أثم) (1/ 22).

(3)

البيت للمخبل السعدي، وهو في ديوانه ص316.

(4)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وللوقوف على الأقوال المشار إليها راجع: القرطبي (7/ 74)، ابن كثير (2/ 168) وقد تم استدراك النقص هنا من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (33) من سورة الأعراف.

ص: 225

والفواحشُ ظاهرُها وباطنُها تشملُ جميعَ الذنوبِ، إلا أن اللَّهَ عَطَفَ بعضَها على بعضٍ عطفَ خاصٍّ على عَامٍّ. وقد تقررَ في المعانِي: أَنَّ عَطْفَ الخاصِّ على العامِّ، وعطفَ العامِّ على الخاصِّ إن كان في كلٍّ منهما في الخاصِّ أهميةٌ لا تكونُ في غيرِه من أفرادِ العامِّ أنه سائغٌ، وأنه من الإطنابِ المقبولِ لأَجْلِ الخصوصيةِ التي في الخاصِّ. فكأن تميزَه بخصوصيتِه جَعَلَهُ كأنه قِسْمٌ آخَرُ من أقسامِ العامِّ فَحَسُنَ عطفُه عليه

(1)

. وهنا عُطِفَ الخاصُّ على العامِّ لأن المعطوفاتِ الآتيةَ كُلَّهَا داخلةٌ في الفواحشِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ.

وقولُ مَنْ قال: إن {مَا ظَهَرَ} هو الزنى مع البغايا ذواتِ الراياتِ، و {وَمَا بَطَنَ} الزِّنَى مع الخليلاتِ الصديقاتِ التي يُزْنَى بِهِنَّ سِرًّا. أو: إن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو نكاحُ زوجاتِ الآباءِ، وأن {وَمَا بَطَنَ} هو الزِّنَى إلى غيرِ ذلك من الأقوالِ كُلُّهُ يشملُه التفسيرُ العامُّ الذي هو الصوابُ، وإن اللَّهَ نَهَى عن ارتكابِ جميعِ المحرماتِ سواءً كان ذلك ظَاهِرًا أمامَ الناسِ، أو خفيةً بحيثُ لا يطلعُ عليه الناسُ].

[16/ب] / يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128)} [الأنعام: آية 128].

(1)

انظر: فقه اللغة للثعالبي ص294، الإكسير للطوفي ص256، المدخل للحدادي ص295، البرهان للزركشي (2/ 464)، الإتقان (3/ 212، 213)، قواعد التفسير (1/ 429، 430).

ص: 226

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حَفْصًا عن عاصمٍ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} وقرأه حفصٌ- وحدَه- عن عاصمٍ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} بالياءِ التحتيةِ

(1)

.

أما قراءةُ الجمهورِ ففاعلُ الفعلِ ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: نحن. أي: نَحْشُرُهُمْ نحنُ. وصيغةُ الجمعِ في (نحشرهم) وفي (نحن) للتعظيمِ، كقولِه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: آية 9]{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: آية 12] وهو جل وعلا واحدٌ إلا أنه يُعَبِّرُ عن نفسِه بصيغةِ الجمعِ؛ لأجلِ التعظيمِ والإجلالِ. وعلى قراءةِ حفصٍ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} فالفاعلُ ضميرٌ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ. (يحشرُهم) هو. أي: اللَّهُ.

وقولُه هنا: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا، أي: اذْكُرْ يومَ نحشرُهم. وقال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بالقولِ المحذوفِ الذي دَلَّ عليه المقامُ

(2)

. والمعنَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أي: نقولُ: يا معشرَ الجنِّ قد اسْتَكْثَرْتُمْ. نقول ذلك القولَ: {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} .

والحشرُ في لغةِ العربِ معناه: الجمعُ. وَكُلُّ شيءٍ قد جمعتَه فقد حشرتَه

(3)

. ومنه قولُ قومِ فرعونَ لفرعونَ: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)} [الأعراف: آية 111]{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)} [الشعراء: آية 36] أي: قومًا جامعين، يجمعون السحرة، ويحشرونهم

(1)

انظر: السبعة ص269، الموضح (1/ 503)، النشر (2/ 262).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 219)، الدر المصون (5/ 148).

(3)

انظر: القاموس (مادة: الحشر) ص 480.

ص: 227

من أطراف مصر. فالحشر في لغة العرب: الجمع؛ لأن اللَّهَ يومَ القيامةِ يجمعُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، إِنْسَهُمْ وِجِنَّهُمْ، في صعيدٍ واحدٍ، يُسْمِعُهُمُ الداعي وينفذهم البصرُ، كما قال:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: آية 9]{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: آية 87]{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50)} [الواقعة: الآيتان 49، 50]{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف: آية 47] والمعنَى: يقول اللَّه جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ} [الأنعام: آية 128] يقول ذلك القولَ حين يحشرهم جميعًا.

وقد بَيَّنَ اللَّهُ في هذه السورةِ الكريمةِ- سورةِ الأنعامِ- أنه يحشرُ جميعَ المخلوقاتِ مِمَّا يدبُّ على رِجْلَيْنِ، ومما يطيرُ في السماءِ، وسائرِ المخلوقاتِ كما تَقَدَّمَ في قولِه:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: آية 38] فَبَيَّنَ أنه يَحْشُرُ كُلَّ دابةٍ وكلَّ طيرٍ- جل وعلا- والذي يُجَازَى من هذا إنما هو الثقلانِ: الإنسُ والجنُّ.

وقولُه: {نَحْشُرُهُمْ} : نَجْمَعُهُمْ جميعًا يومَ القيامةِ بعدَ أن نُخْرِجَهُمْ من قبورِهم أحياءً يَمْشُونَ بعدَ أن كانوا عِظَامًا رَمِيمًا.

وقولُه: {جَمِيعًا} يُعْرَبُ حالاً

(1)

، ومعناه: التوكيدُ، بدليلِ أنك لو حذفتَ التنوينَ وأضفتَه لكانَ توكيدًا مَحْضًا، لو قلتَ:«نحشرهم جميعهم» . لكان توكيدًا، فَلَمَّا حُذِفَتِ الإضافةُ أُعْرِبَ حَالاً

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 148).

ص: 228

ومعناه التوكيدُ. أي: نحشرُهم في حالِ كونِهم مجتمعين فلم يَشِذَّ منهم أحدٌ.

{ثُمَّ نَقُولُ} فَسَّرَهُ بعضُ العلماءِ

(1)

: (يُقال). قال: لأَنَّ اللَّهَ ليس هو القائلَ؛ لأن كفرةَ الإنسِ لا يكلِّمُهم اللَّهُ، لأن اللَّهَ يقولُ عن الكفارِ:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ} .

والتحقيقُ: أن اللَّهَ يكلمُ الكفارَ كلامَ توبيخٍ وتقريعٍ، الذي هو من جنسِ العذابِ، كقولِه لَمَّا قالوا:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: الآيتان 107، 108] لأن هذا التكليمَ لهم ليس تكليمَ تشريفٍ، إنما هو تكليمُ توبيخٍ وتقريعٍ، وهو من أنواعِ عذابِه لهم، ولا مانعَ منه.

يقولُ اللَّهُ ذلك اليومَ مُخَاطِبًا عُتاةَ الشياطين الذين أَضَلُّوا بَنِي آدمَ حتى أَغْوَوْهُمْ وأدخلوهم النارَ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} المَعْشَرُ في لغةِ العربِ

(2)

: الجماعةُ، كُلُّ جماعةٍ تُسَمَّى مَعْشَرًا، وَيُجْمَعُ على: مَعَاشِرَ. كان بعضُهم يقولُ: لأن بعضَهم يُعاشِرُ بعضًا. وقد يُطْلَقُ المَعْشَرُ على الجماعةِ المتفقين في نِحْلَةٍ أو ناحيةٍ وإن لم يُعَاشِرْ بعضُهم بعضًا، كما في الحديثِ:«إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ»

(3)

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 148).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 148 _149)، القاموس (مادة: العشرة) ص566.

(3)

روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة. وممن رواه منهم:

1 -

عمر رضي الله عنه: عند البخاري في الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (6728)، (12/ 6)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(2904، 3094، 4033، 4885، 5357، 5358، 7305)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء. حديث رقم (1757)(3/ 1376).

2 -

عائشة رضي الله عنها: عند البخاري في فضائل الصحابة باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديت رقم (3711_ 3712)، (7/ 77)، وانظر الأحاديث (6725، 6727، 6730)، ومسلم في الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (1759)، (3/ 1380)، وانظر: حديث رقم (1758).

3 -

أبو هريرة رضي الله عنه عند البخاري في الوصايا، باب: نفقة القيم للوقف. حديث رقم (2776)، (5/ 406)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: حديث رقم (3096، 6729)، ومسلم في الجهاد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . حديث رقم (1760)، (3/ 1382).

وقد أخرجه أحمد (2/ 463)، بنفس اللفظ الذي أورده الشيخ رحمه الله هنا.

ص: 229

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يدرك منهم أحدًا، ولم يُعَاشِرْ منهم أحدًا.

والحاصلُ أن المعْشَرَ: الجماعةُ، أي: يا جماعةَ الجنِّ.

وأصلُ (الجنِّ) مشتقٌّ من الاجتنانِ، وكلُّ ما يَخْفَى عنكَ وَيَجْتَنُّ فهو مجنونٌ عَنْكَ، أي: مُغَيَّبٌ. ومنه: جَنَّ عليه الليلُ، وقيل للجنينِ:(جنينٌ) لأن بطنَ أُمِّهِ يُجِنُّهُ، ومنه سُمِّيَ المجنونُ (مجنونًا) لغيبوبةِ عَقْلِهِ

(1)

. وبعضُهم قال: تُسَمِّي العربُ الملائكةَ (جِنًّا)؛ لأنهم محجوبونَ عن الأبصارِ، وهو أحدُ التفسيرين في قولِه: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام.

ص: 230

وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}

(1)

[الصافات: آية 158] والعربُ تعرفُ ذلك، ومنه قولُ الأَعْشَى يمدحُ سليمانَ

(2)

:

وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً

قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ

والمرادُ بالجنِّ هنا: عُتَاتُهُمْ وشياطينُهم الذين كانوا يُضِلُّونَ الآدميين ويغوونهم في دارِ الدنيا، يقولُ لهم اللَّهُ يومَ القيامةِ:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أَعْنِي: يا جماعةَ الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} والمعنَى: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} أَكْثَرْتُمْ من إغوائِهم وإضلالِهم

(3)

- والعياذُ باللَّهِ- حتى أَضْلَلْتُمْ منهم أعدادًا طائلةً وَجِبِلاًّ كثيرًا ضَخْمًا، كما يأتِي في قولِه:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62].

وهذه الآياتُ يُبَيِّنُهَا اللَّهُ لنا في دارِ الدنيا لنحذرَ من أن تكونَ الشياطينُ تَسْتَهْوِينَا وَتُضِلُّنَا لتدخلنا النارَ، وقد بَيَّنَ القرآنُ أن هذا العددَ الكثيرَ من الإنسِ الذي أَضَلَّتْهُمْ شياطينُ الجنِّ الذين قال اللَّهُ فيهم:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] أن منهم الذين يَتْبَعُونَ تشريعَ الشيطانِ، وَيَحِيدُونَ عن تشريعِ اللَّهِ فيتبعونَ ما نَظَّمَهُ الشيطانُ من النُّظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، صَرَّحَ القرآنُ بأن هؤلاء داخلونَ في هذا الاستكثارِ وما أكثرَهم؛ لأن اللَّهَ يقولُ في السورةِ الكريمةِ- وَكُلُّ سورةٍ من القرآنِ كريمةٌ- أعنِي سورةَ يس:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: آية 60]

(1)

انظر: ابن جرير (23/ 108)، القرطبي (15/ 134).

(2)

البيت في ابن جرير (1/ 506)، القرطبي (1/ 295)، البحر المحيط (1/ 153)، اللسان (مادة: جنن) (1/ 517).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 115).

ص: 231

ومعنَى عبادتِهم للشيطانِ ليست أنهم سَجَدُوا للشيطانِ، ولَا ركعوا للشيطانِ، ولا صَامُوا للشيطانِ، ولا حَجُّوا للشيطانِ، وإنما عبادتُهم للشيطانِ: هي اتِّبَاعُهُمْ ما شَرَعَهُ من النُظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، كما قَدَّمْنَا في قولِه:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121]، فاللَّهُ- مثلاً- يقولُ: إن الميتةَ حرامٌ {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] فالميتةُ حرامٌ {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173]، هذا من تشريعِ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ.

فيأتي الشيطانُ فَيُشَرِّعُ نظامًا آخرَ غيرَ هذا ويقولُ: ما قَتَلَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ من ذهبٍ أَحَلُّ وَأَكْرَمُ مما قَتَلَهُ الإنسانُ بيدِه؟ فالميتةُ ذبيحةُ اللَّهِ، وهي أَحَلُّ مِنْ ذبيحةِ الناسِ!! فهذا تشريعُ إبليسَ على ألسنةِ أولياءِ إبليسَ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ إبليسَ وقال: بأن الميتةَ حلالٌ: أنه مشركٌ باللَّهِ، وهو قولُه:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: آية 121] وهذا الشركُ باللَّهِ هو عبادةُ الشيطانِ التي نَهَى اللَّهُ عنها في (يس) في قولِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وليس المرادُ بعبادتِه أنهم يسجدونَ له ويركعونَ، لا؛ وإنما بطاعتِه فيما شَرَعَ، وَاتِّبَاعِهِ في نُظُمِهِ وقوانينِه، ثم بَيَّنَ أن الذين يتبعونَ ذلك من هذا الاستكثارِ المذكورِ في (الأنعام) حيث قال في (يس):{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} أي: ومنهم الذين عَبَدُوهُ باتباعِ نظامِه وشرعِه وقانونِه: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} فتتركونَ تشريعَ خالقِ السماواتِ والأرضِ إلى عبادةِ الشيطانِ باتباعِ نظامِه وقانونِه، ثم بَيَّنَ مصيرَ هؤلاء فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ

ص: 232

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60، 62 - 65] هؤلاء عَابِدِي الشيطانِ باتباعِ تشريعِه. ومن هذا المعنَى قولُ خليلِ اللَّهِ إبراهيمَ لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] وما كان أبوه يسجدُ للشيطانِ، ولكنه كان يتبعُ نظامَ الشيطانِ وَشَرْعَ الشيطانِ وقانونَ الشيطانِ الذي شَرَعَهُ من عبادةِ الأوثانِ ومعاصاةِ الرسلِ.

فَلْيَعْلَمْ كُلُّ إنسانٍ أن للشيطانِ مَذْهَبًا وَقَانُونًا وَشَرْعًا وَضَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه من مَرَدَةِ الإنسِ، ولخالقِ السماواتِ والأرضِ نِظَامًا وَشَرْعًا: نُورًا مُنَزَّلاً من السماءِ شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه، فالذين يعدلونَ عن نورِ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه إلى تشريعِ الشيطانِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه داخلونَ في قولِه:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] وداخلونَ في قولِه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62] سواء سَمَّوْا ذلك قانونًا، أو سَمَّوْهُ نِظَامًا، أو تَشْرِيعًا؛ لأن خالقَ السماواتِ والأرضِ لا يقبلُ أن يُعْبَدَ إلا بما شَرَعَ؛ لأنه ملكُ الملوكِ لا يقبلُ غيرَ شرعِه وتشريعِه، كما قال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} [الشورى: آية 21]{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: آية 59] فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وكل من يتبعُ نظامًا شيطانيًّا وَضَعَهُ الشيطانُ على مردةِ شياطينِ الإنسِ من أوليائِه فإنه يومَ القيامةِ صائرٌ إلى النارِ، داخلٌ في قولِه:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: آية 62] وفي قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128].

ص: 233

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد بَيَّنَ هذا لعديِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه، فإنه لَمَّا قال له: يا نَبِيَّ اللَّهِ: قولُ اللَّهِ تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ فقال: ألم يُحِلُّوا لهم ما حرَّم اللَّهُ، ويُحرِّمُوا عليهم ما أحلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟ قال: بلى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا

(1)

. وذلك هو عبادتُهم إياهم. فَكُلُّ تشريعٍ غيرِ تشريعِ اللَّهِ، وكلُّ نظامٍ غيرِ نظامِ السماءِ الذي يَمْشِي عليه كأنه يقولُ: تشريعُ خالقِ السماواتِ والأرضِ أفضلُ منه تشريعُ غيرِه!! فهو يُنَزِّلُ درجةَ الخالقِ- جل وعلا، سبحانَه عن ذلك وتعالى عُلُوًّا كبيرًا- إلى أن أوضاعًا مُلَفَّقَةً من أذهانِ الكفرةِ الفجرةِ الخنازيرِ أنه أحسنُ من تشريعِ اللَّهِ!! ولذا يعدلونَ عن نورِ القرآنِ والسنةِ النبويةِ الصحيحةِ إلى ما يسمونَه قانونًا ونظامًا وَضَعَهُ أبناءُ الكلابِ القردةُ الخنازيرُ من اجتهاداتهم، تارةً يُحَرِّمُونَ ما أَحَلَّ اللَّهُ صريحًا، ويحللونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ صريحًا، يزعمونَ أن الهدى في هذا!! هذا- والعياذُ بالله- من أشنعِ الكفرِ والطغيانِ على اللَّهِ والتمردِ على نظامِ السماءِ، واحتقارِ الخالقِ -جل وعلا- حيث كان تشريعُه لا ينفعُ، وتشريعُ غيرِه من سَفَلَةِ الخنازيرِ أحسنَ من تشريعِه!! وهذا إنما وَقَعَ- والعياذُ باللَّهِ- بسببِ طمسِ البصيرةِ؛ لأن نورَ البصيرةِ إذا طُمِسَ من قلبِ الإنسانِ صارَ يرى الباطلَ حَقًّا، والحقَّ باطلاً، والحسنَ قَبِيحًا، والقبيحَ حَسَنًا، والذينَ يعدلونَ عن نورِ اللَّهِ يطلبونَ النورَ في تشريعِ المخلوقين هم في الحقيقةِ- بالكلمةِ التي هي بمعنَى الحرفِ الصحيحِ- هم خفافيشُ البصائرِ، أَعْمَاهُمْ ضوءُ القرآنِ فصاروا يطلبونَ الضياءَ في ظلامِ أفكارِ الكفرةِ الفجرةِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 234

خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ

وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

(1)

مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى

نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ

(2)

وَاللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية20] وفي بعضِ التفسيراتِ: تكادُ أنوارُ القرآنِ تُعْمِي بقيةَ بصائرِهم، واللَّهُ يقولُ:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: آية 44] لأن النورَ الساطعَ الشديدَ يَقْضِي على البصرِ الأَعْشَى الضعيفِ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ تعالى في السورةِ الكريمةِ- سورةِ الرعدِ- أن الذي لا يعلمُ أحقيةَ القرآنِ ومنزلتَه وكونَه هو الذي ينبغي أن يُتَّبَعَ أن ذلك إنما جاءَه مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ بأن الذي مَنَعَهُ من ذلك عَمَاهُ، وعدمُ رؤيةِ الأَعْمَى للشمسِ لا يجعلُ الشمسَ فيها رَيْبٌ.

إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ

فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (1)

والذين عَمُوا عن نورِ القرآنِ ونورِ السنةِ النبويةِ التي نَظَّمَتْ حياةَ البشريةِ على أكملِ الوجوهِ وأبدعِها وَأَنْصَفِهَا، وَمَيَّزَتِ الأوضاعَ على ضوءِ نورِ السماءِ، فَجَمَعَتْ بين خيرِ الدنيا والآخرةِ يرفضونَها وَيَنْصَرِفُونَ عنها ذَاهِبِينَ إلى النظامِ الذي شَرَعَهُ إبليسُ- عليه لعائنُ

(1)

البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (1/ 157)، تحقيق حسين نصار، ولفظه هناك:

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا نَهَارٌ بِضَوْئِهِ

وَلَاحمَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَيْهَبُ

(2)

البيت في المغني لابن قدامة (13/ 323)، حياة الحيوان للدميري (1/ 296)، صبح الأعشى (2/ 88)، الأضواء (2/ 274).

ص: 235

اللَّهِ- على ألسنةِ أوليائِه إنما جَرَّهُمْ إلى ذلك أنهم خفافيشُ، والخفاشُ يُعْمِيهِ نورُ الشمسِ، وإذا كان النهارُ وانتشرَ ضوءُ الشمسِ صارَ الخفاشُ أَعْمَى لا يرى شيئًا، ولا يقدرُ أن يقومَ من محلِّه، وإذا جاء الليلُ وأرخَى الظلامُ سدولَه قَامَ الخفاشُ يسرحُ ويمرحُ؛ لأن هذا عندَه ضياءٌ!! فهذا مثلُهم، ولله المثل الأعلى.

وعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن اللَّهَ خَصَّنَا بسيدِ الرسلِ، وسيدِ الخلقِ، وأشرفِ الأنبياءِ، وجعلَ معجزتَه باقيةً، وهي هذا النورُ المنزلُ الذي يترددُ في أسماعِ البشرِ إلى يومِ القيامةِ. وفي الحجِّ تَلْتَقِي ببعضِ الحجاجِ من جميعِ أقطارِ الدنيا، تَرَى الذين يعرفونَ القرآنَ منهم على الحقيقةِ لا يختلفُ اثنانِ منهم في حرفٍ:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: آية 82]{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: آية 9] بَيَّنَ اللَّهُ لنا فيه العقائدَ، وأصولَ الحلالِ والحرامِ، وطريقَ الجنةِ، وطريقَ النارِ، وتهذيبَ النفوسِ وتربيتَها، ومعالِيَ الأمورِ، والتنزهَ عن سَفْسَافِهَا، وَبَيَّنَ لنا فيه كيفَ نستعدُّ لأعدائِنا، وكيف نُوَاجِهُهُمْ في حالةِ الحربِ، وحالةِ الصلحِ والهدنةِ، وقد بَيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا كافيًا، حتى تَرَكَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، فعلينا أن نعملَ به، ونتركَ آراءَ الكفرةِ الفجرةِ؛ لأن اتباعَ نظامِ الشيطانِ دَلَّتْ هذه الآياتُ على أنه كُفْرٌ بِاللَّهِ.

واعلموا أن الأنظمةَ ليست سواءً، منها نظامٌ إداريٌّ، ومنها نظامٌ شرعيٌّ، والأنظمةُ الإداريةُ التي لا تصادمُ الشرعَ وإنما تَجْرِي على المصالحِ المرسلةِ لضبطِ أمورِ الرعيةِ وأوطانِها، فهذا النوعُ لا بأسَ به، وقد فَعَلَ الصحابةُ كثيرًا منه؛ فإن المسلمينَ لم يكن عندهم ديوانٌ

ص: 236

للجندِ تُكْتَبُ فيه أسماءُ الجندِ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، ولَمَّا تَخَلَّفَ كعبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه في غزوةِ تبوكَ لم يَعْلَمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنه تخلفَ حتى بلغَ تبوكَ؛ لأنه لم يكن عنده ديوانٌ يَكْتُبُ فيه أسماءَ الجندِ، وقام عُمَرُ بنُ الخطابِ لِمَّا أَفْضَتِ الخلافةُ إليه، وكتبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ؛ فصارَ جميعُ الجندِ المقاتلين مكتوبةٌ أسماؤُهم في دواوينَ، إذا تخلفَ واحدٌ عُرِفَ الوقتُ الذي تخلفَ فيه وَوَجَّهَهُمْ إلى الجهادِ، وأعدَّ لكلِّ جهةٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا بأسمائِه. فهذا نظامٌ عسكريٌّ لم يفعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولكنه إداريٌّ لَا يخالفُ شيئًا من الشرعِ.

ولم يكن في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا زمنِ أبي بكرٍ سِجْنٌ يُوقَفُ فيه المجرمونَ حتى يُحَقَّقَ معهم فيعاقبوا فيه، حتى كان في زمنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه فَاشْتَرَى دارَ صفوانَ بنِ أميةَ في مكةَ وَاتَّخَذَهَا سِجْنًا.

ومثلُ هذا من الأنظمةِ الإداريةِ لضبطِ أمورِ الرعيةِ مما لا يخالفُ الشرعَ، هذا أمرٌ كان يفعلُه الصحابةُ، وأجمعَ عليه جميعُ المسلمينَ في قرونِهم الماضيةِ، وليس كلامُنا عليه، وإنما كلامُنا على الذين يتبعونَ نظامَ الشيطانِ في التحليلِ والتحريمِ، ويتركونَ نظامَ اللَّهِ، كالذين يقولونَ: إن المرأةَ أضعفُ من الرجلِ، وَصِلَتُهُمَا بالميتِ واحدةٌ، فلابدَّ أن يكونَا سواءً، وتفضيلُه عليها غلطٌ وَحَيْفٌ عليها!! وكالذين يقولونَ: إن قَطْعَ يدِ السارقِ إنه عملٌ وحشيٌّ، لا ينبغي أن يكونَ في النُّظُمِ الإنسانيةِ!! وكالذين يقولونَ: إن الرجمَ والقتلَ بالحجارةِ عملٌ وحشيٌّ، لا ينبغي أن يكونَ في النُّظُمِ الإنسانيةِ!! ونحو هذا مما يقولُه الكفرةُ وأتباعُ الكفرةِ، حتى تَرَكُوا تشاريعَ

ص: 237

السماءِ لآراءِ الكفرةِ، وَخَفِيَتْ عليهم الْحِكَمُ.

أما قطعُ اليدِ مثلاً الذي يقولونَ: إنه عملٌ وحشيٌّ لَا ينبغي أن يكونَ في نظامٍ سماويٍّ، ولا أن يُعَامَلَ به الإنسانُ. فإنما هو لِجِهْلِهِمْ؛ لأن اليدَ الواحدةَ إذا لم تُعَاقَبْ عقوبةً رادعةً قد تُقَطِّعُ آلافَ الأيادِي بسرقتِها، وإن الله (جل وعلا) خَلَقَ هذه اليدَ وفَرَّقَ أصابعَها، وأبعدَ إبهامها عن أصابعِها؛ لأنه لو جَعَلَ الإبهامَ قريبًا من السبابةِ لَمَا قدرَ صاحبُها أن يحلَّ ولا أن يعقدَ، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ لتكونَ أداةً فَعَّالةً عاملةً في الخيرِ، وفي الإعانةِ على ما يُرْضِي اللَّهَ، على غرارِ:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: آية 2] فَلَمَّا مَدَّهَا هذا الخائنُ الخبيثُ الخسيسُ ليأخذَ أموالَ الناسِ على أخسِّ وجهٍ وأدناه وأردئه صارت هذه اليدُ في نظرِ مَنْ خَلَقَهَا وفي شَرْعِهِ صارت كأنها قذرةٌ نجسةٌ، وإن استمرت بالبدنِ قَذَّرَتْ ذلك البدنَ كُلَّهُ وَنَجَّسَتْهُ، فَقَطْعُ عُضْوٍ فَاسِدٍ كعمليةٍ تطهيريةٍ؛ ليصحَّ بها بقيةُ البدنِ من ذلك التنجيسِ وتلك الرذيلةِ، ولتطمئنَ الناسُ على أموالِها؛ ولذا ثبتَ في الصحيحين من حديثِ عبادةَ بنِ الصامتِ رضي الله عنه ما يَدُلُّ على أن الحدودَ كفاراتٌ

(1)

، وأنه إن قُطِعَتْ يدُه الخبيثةُ النجسةُ الفاجرةُ المجرمةُ أنه يطهر بذلك بقيةُ بدنِه

(2)

.

وقد يحصلُ في ذهنِ طالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: الْعُدْوَانُ على المالِ ذو وجوهٍ كثيرةٍ؛ لأنه قد يكونُ بِالْغَصْبِ، وقد

(1)

البخاري في الحدود، باب: الحدود كفارة. حديث رقم (6784)، (12/ 84)، ومسلم في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها. حديث رقم (1709)، (3/ 1333).

(2)

انظر: الأضواء (3/ 431).

ص: 238

يكونُ بالاختلاسِ، وقد يكونُ بالتعدِّي، وقد يكونُ بِالْمَطْلِ، وما جاء القطعُ إلا في نوعٍ واحدٍ منه وهو السرقةُ، فما الحكمةُ في أن يكونَ قطعُ اليدِ في خصوصِ السرقةِ دونَ غيرِها من الاعتداءاتِ الماليةِ

(1)

؟!

والجوابُ عن هذا: أن غيرَ السرقةِ من الاعتداءاتِ الماليةِ الغالبُ على حالِه أن صاحبَه لَابُدَّ أن يرى الشهودَ؛ لأنه لا يكونُ غالبًا في خصوصٍ ومفارقةٍ، وإذا جاء الشهودُ رَفَعَ بهم صاحبُ الحقِّ إلى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يدَه فاستخرجَ له حَقَّهُ، وعاقبَ الجانيَ بقدرِ ما يستحقُّ. أما السرقةُ: فإن السارقَ يَتَحَرَّى أخفَى الأوقاتِ، وأبعدَها عن اطلاعِ الناسِ بحيثُ لا يشعرُ به أحدٌ، ولا يطلعُ عليه أحدٌ، ولو لم يُعَاقَبْ صاحبُها بعقوبةٍ رادعةٍ لَمَا اطْمَأَنَّ أحدٌ على سبيلٍ مَالِيٍّ؛ لحذقِ اللصوصِ في الحيلِ الخفيةِ التي يسرقونَ بها أموالَ الناسِ، والمالُ شريانُ الحياةِ؛ لأَنَّ المالَ هو أساسُ هذه الحياةِ الدنيا، فهو شريانُها في جميعِ المجالاتِ؛ إِذْ لا عسكريةَ إلا بالمالِ، ولا سياسةَ إلا بالمالِ، ولا اجتماعيةَ إلا بالمالِ، ولا ثقافةَ إلا بالمالِ، فهو شريانُ الحياةِ، واللَّهُ (جل وعلا) جَعَلَ هذه العقوبةَ لأَمْرَيْنِ:

أحدُهما: تطهيرُ الجسدِ الذي أَنْجَسَهُ ذلك الجزءُ النجسُ كعمليةٍ تطهيريةٍ بقطعِ عضوٍ فاسدٍ لتصحَّ بقيةُ البدنِ.

والثاني: لتطمئنَ الناسُ على مَالِهَا، فإذا قُطِعَتْ يدٌ واحدةٌ طُهِّرَ صاحبُها من تلك الرذيلةِ، وصار إنسانًا طَيِّبًا بعدَ أن صارَ قَذِرًا نَجِسًا، وسَلِمَ المسلمونَ من أَذَاهُ بعدَ ذلك، وَمِنْ أَذَى غيرِه؛ لأن مَنْ عَلِمَ أنه إذا سَرِقَ قُطِعَتْ يدُه كَفَّ عن الناس؛ ولذلك ترى أقلَّ البلادِ أن يوجدَ

(1)

المصدر السابق (3/ 432).

ص: 239

فيها حوادثُ السرقةِ هي هذه البلادُ - نرجو اللَّهَ أن يوفقَ ولاتِها إلى ما يُحِبُّهُ - وإنما ذلك بفضلِ اللَّهِ ثم بفضلِ قطعِ يدِ السارقِ، وإن الإحصاءاتِ العالميةَ إذا أُحْصِيَتْ تَجِدْ آلافَ حوادثِ السرقةِ بل ملايينها في كلِّ محلٍّ، وأقلُّ ما يُوجَدُ فيه هذا المحلُّ، الذي يُقَامُ فيه هذا الحدُّ من حدودِ اللَّهِ؛ وذلك مما يُبَيِّنُ أن حكمةَ اللَّهِ في تشريعِه هي الحكمةُ الكفيلةُ للمخاليقِ بجميعِ مصالحهم.

ولا يَسَعُنَا في الوقتِ أن نتتبعَ جميعَ هذه التي ينكرونَ فنُظْهِرَ حِكَمَهَا الواضحةَ بفلسفةٍ عقليةٍ لا تَخْفَى على أَحَدٍ، كتعددِ الزوجاتِ، وكتفضيلِ الرجلِ في الميراثِ، وكالرجمِ، وما جرَى مَجْرَى ذلك، فإنها أحكامٌ عادلةٌ في تشريعاتٍ سماويةٍ، وكمسألةِ الرقِّ، إلى غيرِ ذلك من المسائلِ، فهي في الحقيقةِ من أبرزِ المسائلِ وأظهرِها. ومن أشدِّ ما ينكره الفجرةُ على الإسلامِ: مسألةُ الرقِّ، وَهُمْ في الحقيقةِ يرتكبونَ أعظمَ منها!! وَسَنُبَيِّنُ حكمتَها تَنْبِيهًا بها على غيرِها

(1)

.

وإنما أَوْجَبَ الإسلامُ الرقَّ لأن اللَّهَ خَلَقَ هذا الإنسانَ وأمرَه أن يكونَ إعانةً وعضوًا صَالِحًا في المجتمعِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: آية 56] وقد وَضَعَ اللَّهُ نظامًا أرادَ به الخيرَ لِخَلْقِهِ، هو نظامُ السماءِ الذي شرعَه على لسانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، يريدُ للناسِ إذا اتبعته أن يسودَهم العدالةُ والطمأنينةُ والرخاءُ والمساواةُ في الحقوقِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الخيرِ، فقامَ الكافرُ واستعملَ جميعَ نِعَمِ اللَّهِ في كُلِّ ما يُسْخِطُ اللَّهَ، وخرجَ على نظامِ السماءِ ليقلبَ الحكمَ السماويَّ إلى غيرِه!! ومعلومٌ أن كُلَّ دولةٍ من هذه الدولِ التي تُنْكِرُ الرقَّ لو أَغْدَقَتِ النِّعَمَ على رجلٍ منها، ثم تَمَرَّدَ عليها وحاولَ إسقاطَ حُكْمِهَا، وقَلْبَ

(1)

انظر: الأضواء (3/ 424)، (7/ 419).

ص: 240

نظامِ الحكمِ، ثم تَمَكَّنَتْ منه أن تَقْتُلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ فالكافرُ تمردَ على نظامِ مَنْ خَلَقَهُ، واستعملَ نِعَمَ اللَّهِ في معصيةِ اللَّهِ، يريدُ بذلك قَلْبَ نظامِ حُكْمِ السماءِ؛ لعدمِ رِضَاهُ بنظامِ السماءِ، فأصحابُ الدولةِ الإسلاميةِ الذين هم وكلاءُ اللَّهِ في أَرْضِهِ، ويستعملُهم في طاعتِه؛ لِيُنَفِّذُوا ما يريدُ من خيرٍ، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا يَنْهَى عنه من شرٍّ قَاتَلُوا هذا الكافرَ قِتَالاً مَرِيرًا، فبعدَ أن أَمْسَكُوهُ كان لهم أن يقتلوه؛ لأنه كان عَدُوًّا لهم يريدُ أن يقلبَ نظامَ السماءِ، فأمَرَ مَنْ خَلَقَهُ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وهي أنه طَرَدَهُ عن مرتبةِ الإنسانِ إلى مرتبةٍ تَقْرُبُ من مرتبةِ الحيوانِ، بل هي مرتبةُ الحيوانِ؛ لأنه يُبَاعُ ويُشْرَى ويُوهَبُ، مع أنه لم يَقْتُلْهُ من الدنيا، بخلافِ الدولةِ التي تَنْشُرُ الكفرَ لو تَمَكَّنَتْ من المتمردِ عليها الذي يريدُ قلبَ نظامِها لَشَنَقَتْهُ وَقَتَلَتْهُ شَرَّ قِتلَةٍ!!

فاللَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وأنه تُنَزَّلُ منزلتُه عن درجةِ الإنسانِ الكاملِ إلى درجةِ الحيوانِ، ويبينُ حقوقَه كاملةً، فَيَأْمُرُ سيدَه بالإحسانِ إليه، وألا يُكَلِّفَهُ من العملِ إلا ما يطيقُ، وإن كَلَّفه أَعَانَهُ.

نعم، هنا يبقى سؤالٌ: وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما دامَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا على نظامِ السماءِ فَقَتْلُهُ قِتْلَةً دونَ قِتلَةٍ هذا أمرٌ معقولٌ، ولكن إذا أَسْلَمَ وَصَلَّى أخًا لنا يُصَلِّي معنا في المساجدِ، ويصومُ معنا رمضانَ، ويعبدُ اللَّهَ معنا، فما الحكمةُ إذًا وَمَا المُسَوِّغُ بِأَنَّا نَشْتَرِيهِ، ونبيعُه وقد زالَ الموجبُ المُسَوِّغُ لذلك؟

والجوابُ عن هذا: هي قاعدةٌ معروفةٌ لَدَى جميعِ العقلاءِ، وهي أن الحقَّ الثابتَ لَا يرفعُه الحقُّ اللاحقُ، فالمجاهدونَ عندما وضعوا عليه أيديَهم وهو كافرٌ ثَبَتَتْ لهم ملكيتُه، فَلَمَّا أَسْلَمَ استحقَّ رفعَ الملكيةِ، وَلَكِنْ كان حقُّه متأخرًا، فَقُدِّمَ عليه الحقُّ السابقُ،

ص: 241

وتقديمُ الحقِّ السابقِ على الحقِّ المتأخرِ أمرٌ يُقِرُّ به جميعُ العقلاءِ، نَعَمْ لطالبِ العلمِ أن يقولَ: إن كان هذا الحقُّ قبلَ هذا الحقِّ، والحقُّ الآخرُ لَا يرفعُ الحقَّ الأولَ، لكن يجدرُ بالمسلمِ أن يُعْتِقَ أَخَاهُ، وَيُسْقِطَ حَقَّهُ الأولَ لِحَقِّ أَخِيهِ الأَخِيرِ!!

فنقولُ: نَعَمْ بهذه جاء القرآنُ، وَرَغَّبَ المؤمنَ بعتقِ أَخِيهِ، وأنه يُعْتَقُ كُلُّ عُضْوٍ منه بعضوٍ منه، وَفَتَحَ الأبوابَ الكثيرةَ للعتقِ: من كفارةِ الأيمانِ والظهارِ وغيرِه إلى غير ذلك، فهذه حِكَمُ اللَّهِ في تشريعِه لا يضلُّ عنها إلا مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ كالخفاشِ.

ومعنَى قولِه: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: آية 128] أي: قَدْ أَكْثَرْتُمْ من إغواءِ الإنسِ، وإضلالِهم باتباعهم تشاريعَكم ونُظُمَكم، وقد يُضِلون لو لم تتبع تشريعهم، فيُضِلُّون المسلمَ الذي هو على تشريعِ السماءِ بأن يُزَيِّنُوا له المعاصيَ كالزنا والسرقة وَشُرْبِ الخمرِ ويتبعهم في ذلك، ويغوونه بذلك مع أنه لم يَكْفُرْ، ولم يُقِرَّ بتشريعٍ غيرِ تشريعِ الله؛ لأَنَّ الذي يشربُ الخمرَ ويزني ويسرقُ- والعياذُ بِاللَّهِ- إن كان يعتقدُ أن ذلك حلالٌ فهو كافرٌ متبعٌ نظامَ الشيطانِ داخلٌ في قولِه:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: آية 62] أما إذا زَيَّنَ له الشيطانُ الزنى والسرقةَ وهو يعلمُ أنه مرتكبٌ خسيسةً، وأنه فاعلٌ أَمْرًا حَرَامًا، وأن هذا لا يجوزُ فهذا لا يَخْرُحُ عن دينِ الإسلامِ، بل هو مسلمٌ مِنْ عُصَاةِ المسلمين، مرتكبٌ كبيرةً تُرْجَى لهم التوبةُ. والشياطينُ قد يستكثرونَ من الآدميين بِالنَّوْعَيْنِ، يستكثرونَ باتباعِ تشاريعِهم كما هو جَارٍ الآنَ في أقطارِ الدنيا، ويستكثرونَ بتزيينِ الشهواتِ كالزِّنَا والسرقةِ والمعاصِي- والعياذُ بالله- مع أنه مسلمٌ. وهذا معنَى قولِه:{قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ}

ص: 242

[الأنعام: آية 128] ثم إن أولياءَهم من الإنسِ، والمرادُ بأوليائهم: هم الذين كانوا يتبعونَ تشريعَهم في الدنيا، أو يُطَاوِعُونَهُمْ فيما زَيَّنُوا لهم من المعاصِي كالزنى وشربِ الخمرِ، وما جرى مجرَى ذلك. هؤلاء أولياؤُهم؛ لأنهم يُوَالُونَهُمْ، هؤلاء يُوَالُونَهُمْ في التشريعِ، وهؤلاء يوالونهم في الطاعةِ، والفاجرُ وَلِيُّ الفَاجِرِ، والكافرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ، والمؤمنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ.

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا} [الأنعام: آية 128] معناه: يا خَالِقَنَا وَمُدَبِّرَ شُؤُونِنَا، {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: آية 128] الاستمتاعُ: هو التمتعُ، والتمتعُ في لغةِ العربِ: الانتفاعُ، وقد انتفعَ بعضُنا في دارِ الدنيا من بعضٍ.

{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: آية 128] أما انتفاعُ الإنسِ بالشياطين: فهو أنهم يَدُلُّونَهُمْ على لذاتِ الدنيا الحرامِ، وَيُزَيِّنُونَهَا لهم، فيستمتعونَ بالزنا، والتلذذُ بالنساءِ الجميلاتِ زِنًا، وبشربِ الخمرِ، وبقتلِ الأعداءِ ظُلْمًا، حتى يَتَشَفَّوْا وَيُشْفُوا غيظَهم، ومن جنسِ المظالمِ التي يُزَيِّنُونَهَا لهم ينتفعونَ ويتمتعونَ بها في الدنيا. وأما انتفاعُ الشياطين: فهو أنهم يكونونَ سادةً مُطَاعِينَ؛ لأن لذةَ الطاعةِ والرياسةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، أكثرُ من لذةِ ما ينالُه ذلك. وكان بعضُ العلماءِ

(1)

يقولُ في انتفاعِ الإنسِ بالجنِّ والجنِّ بالإنسِ: إنه كان قبلَ الإسلامِ إذا نَزَلَ الرجلُ بِوَادٍ في الليلِ وخافَ من الجنِّ قال: أعوذُ بسيدِ هذا الحيِّ من سفهاءِ قومِه. فَيُعِيذُهُ ذلك السيدُ، فينتفعُ الإنسيُّ بأن كبيرَ الشياطين مَنَعَهُمْ من الدنوِّ، وينتفخُ كبيرُ الشياطين

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 116)، القرطبي (7/ 84)، ابن كثير (2/ 176)، البحر المحيط (4/ 220).

ص: 243

وينتفعُ، ويقولُ: نَحْنُ صِرْنَا سادةَ الجنِّ والإنسِ، الإنسُ يعوذونَ بِنَا، والجنَّ سُدْنَاهُمْ، وإلى هذا الإشارةُ بقولِه:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: آية 6] ولكن هذا لا تُفَسَّرُ الآيةُ به؛ لأن هذا يقعُ قليلاً؛ واللَّهُ يقولُ: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} فَدَلَّ على أنه كثيرٌ، وأنه اتبعَ تشريعَهم، أو ما زَيَّنُوا من المعاصِي، والشهواتِ- والعياذُ باللَّهِ جل وعلا- هذا معنَى قولِه:{اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: آية 128] أظهرُ الأقوالِ أن أَجَلَهُمُ الذي أَجَّلَ لهم: الموتُ؛ لأَنَّ كُلَّ إنسانٍ حياتُه محددةٌ بدقائقِها، لم يَزَالُوا - والعياذُ بالله- في تزيينِهم لَهُمُ المعاصيَ والشهواتِ والكفرَ واتباعَهم إياه - إلى أن- حتى انْتَهَى الأجلُ وماتوا.

وقال بعضُ العلماءِ: إن الأجلَ الذي أَجَّلَهُ لهم هو يومُ القيامةِ؛ لأنه هو اليومُ الذي أَجَّلَهُ لمعاقبةِ الجميعِ بما يليقُ بِكُلٍّ منهم

(1)

. وهذا معنَى قولِه: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} قال اللَّهُ مُجَاوِبًا لهم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} - والعياذُ بِاللَّهِ - يعني أن عُذْرَكُمْ هذا عذرٌ باردٌ غيرُ مقبولٍ، لا حجةَ لكم فيه، وأنتم وإياهم في النارِ (

)

(2)

.

و (النارُ) - عِيَاذًا بِاللَّهِ - هي نارُ الآخرةِ. وأَلِفُ النارِ - التي بينَ النونِ والراءِ - مبدلةٌ من واوٍ، أصلُها:(نَوَرَ) بدليلِ تصغيرِها على (نُويرة)، ولو كانت يَائِيَّةَ العينِ لَقِيلَ فيها:(نُييرة) ويقال: «تَنَوَّرْتُ النارَ» إذا نَظَرْتَهَا من بَعِيدٍ.

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 220).

(2)

في هذا الموضع كلام غير واضح ولعله بيت من الشعر.

ص: 244

تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتٍ وَأَهْلُهَا

بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِ

(1)

ولو كانت يائيةَ العينِ لَقَالَ: تَنَيَّرْتُهَا بالياءِ، ولم يَقُلْ:«تَنَوَّرْتُهَا» ،

(2)

واشتقاقُ النارِ من «نَارَتِ الظبيةُ» إذا ارْتَفَعَتْ جافلةً؛ لأَنَّ عادتَها إذا أُوقِدَتِ الارتفاعُ. ونارُ الآخرةِ- والعياذُ بالله- أَشَدُّ حَرًّا من هذه بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.

وقولُه: {مَثْوَاكُمْ} الْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. والثَّوَاءُ: الإقامةُ على الدوامِ. ومنه قولُه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: آية 45] أي: مُقِيمًا فيهم

(3)

. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الحارثِ بْنِ حِلِّزَةَ

(4)

:

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ

رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

فَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. وهو مفتوحُ الواوِ على القياسِ؛ لأَنَّ المقررَ في فَنِّ التصريفِ أن الفعلَ المعتلَّ اللامِ الثلاثيَّ يبقى مصدرُه الميميُّ، واسمُ مكانِه، واسمُ زمانِه على (المَفْعَل) بفتحِ العينِ. وهذا مُطَّرِدٌ

(5)

. وَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ.

وقولُه: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ} ، {خَالِدِينَ} حالٌ، ويُشْكِلُ العاملُ في الحالِ؛ لأن المَثْوى اسمُ مكانٍ، والمكانُ لا يعملُ في الحالِ.

(1)

البيت لامرئ القيس، وهو في ديوانه ص 124.

(2)

انظر: المفردات (مادة: نور) ص828، اللسان (مادة: نور) (3/ 739)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص263.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 117)، المفردات (مادة: ثوى) ص181.

(4)

شرح القصائد المشهورات (2/ 51).

(5)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83). الدر المصون (3/ 436)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 76.

ص: 245

قال بعضُهم: العاملُ في الحالِ فعلٌ محذوفٌ، تقديرُه: النارُ مَثْوَاكُمْ تَدْخُلُونَهَا خالدينَ فيها. وقال بعضُ العلماءِ: العاملُ في الحالِ معنَى الإضافةِ

(1)

.

ومعنَى: {خَالِدِينَ فِيهَا} لَابِثِينَ فيها على الدَّوَامِ.

{إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} هذه الآيةُ ونظيرتاها في القرآنِ هما اللتانِ أَخَذَ منهما بعضُ أهلِ العلمِ أن النارَ تَفْنَى

(2)

، وقد جاءت في القرآنِ ثلاثُ آياتٍ يُفْهَمُ من بعضِ ظاهرِها بعضُ الشيءِ:

أولُها: آيةُ الأنعامِ هذه: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} .

الثانيةُ: آيةُ هودٍ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ} [{مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: الآيتان 106 - 107].

الثالثةُ: آيةُ النبأِ: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: الآية 23]

(3)

.

[17/أ] / (

)

(4)

وجاءَ عن جماعةٍ من الصحابةِ منهم

(5)

عُمَرُ بنُ

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 220)، الدر المصون (5/ 149).

(2)

في مسألة فناء النار راجع: حاوي الأرواح ص 248، الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية، كشف الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني، دفع إيهام الاضطراب ص 122 - 128.

(3)

في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل. وتم استدراك النقص من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (36) من سورة الأعراف. وللاستزادة راجع كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة في دفع إيهام الاضطراب ص 122 - 123، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص 254.

(4)

في هذا الموضع جملة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.

(5)

انظر: ابن جرير (15/ 484)، ابن كثير (2/ 460)، الدر المنثور (3/ 350)، الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص 53، 69، رفع الأستار 64 - 87، حادي الأرواح 249، 252.

قال الصنعاني بعد أن ذكر بعض هذه الآثار وأجاب عنها: «فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة، كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر» إلى أن قال: «وبعد تحقيقك لما أسلفناه، وإحاطتك علمًا بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم: عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد

هم بريئون من هذا القول، ومن نسبة فناء النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب

» ا. هـ رفع الأستار ص77، 80.

ص: 246

الخطابِ

(1)

، وابنُ مسعودٍ

(2)

،

وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ

(3)

أنهم

(1)

أخرجه ابن جرير (15/ 484)، وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص252، 253، وعزاه في الدر (3/ 350) لابن المنذر وأبي الشيخ.

وقال الألباني عن إسناده عند ابن جرير: «وهذا إسناد مظلم» ا. هـ رفع الأستار ص 76.

(2)

ذكره البغوي في التفسير (2/ 403) وابن تيمية في كتاب «الرد على من قال بفناء الحنة والنار» ص53 وعزاه لعبد بن حميد، كما ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص249 وعزاه لعبد بن حميد، وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وعزاه في الدر (3/ 350) لابن

(3)

المنذر، وعزاه الحافظ- كما في تخريج أحاديث الكشاف (2/ 149) لمسند الحارث بن أبي أسامة، وعقبه بقوله:«منقطع» ، ومراسيل الحسن عندهم واهية؛ لأنه كان يأخد من كل أحد

» ا. هـ والأثر ضعفه الصنعاني في رفع الأستار ص65، وكذا الألباني في التعليق على رفع الأستار ص65، والسلسلة الضعيفة (2/ 73).

() ذكره البسوي في تاريخه (2/ 103)، وأورده القرطبي في التذكرة ص437 وابن تيمية في «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» ص69 من طريق حرب الكرماني. كما نقله ابن القيم في حادي الأرواح ص252، والذهبي في الميزان (4/ 385) في ترجمة أبي بَلج الفزاري الواسطي. وعَدّ هذا الأثر من بلاياه!! وبعد أن ساق الأثر عقبه بقوله:«وهذا منكر. قال ثابت البناني: سألتُ الحسن عن هذا فأنكره» ا. هـ وأشار له ابن كثير (2/ 460)، وذكره الحافظ في التهذيب (12/ 49) في ترجمة أبي بَلْج، وانظر: تخريجه لأحاديث الكشاف (2/ 148). وقد ضعفه الألباني في الضعيفة (2/ 72) وفي التعليق على «رفع الأستار» ص 81، 82.

ص: 247

قالوا: «يأتي يومٌ على النارِ- زمانٌ- تَصْفَقُ أبوابُها ليس فيها أَحَدٌ» .

وهذه النارُ هي في الحقيقةِ يجبُ حَمْلُهَا على الطبقةِ التي كان بها عصاةُ المسلمينَ؛ لأنه ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أن النارَ يَدْخُلُهَا بعضُ عصاةِ المسلمين ثم يُخْرَجُونَ منها. هذا ثابتٌ متواترٌ عن النبيِّ لا نزاعَ فيه. والنارُ طبقاتٌ وأبوابٌ: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)} [الحجر: آية 44] وبَيَّنَ أنها دركاتٌ، وأن المنافقين في الدركِ الأسفلِ منها، فالطبقةُ التي كان فيها عصاةُ المسلمينَ إذا أُخْرِجُوا منها هي التي تَفْنَى، أما النارُ التي فيها الكفارُ فالتحقيقُ أنها باقيةٌ لا تَفْنَى، وأنه لم يَدُلَّ كتابٌ ولا سُنَّةٌ على أنها تَفْنَى، فهي باقيةُ لا تزولُ أَبَدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بذلك في آياتٍ كثيرةٍ، فَصَرَّحَ بأنها لا تَفْنَى حيث قال:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: الآية 97]، ومعلومٌ أن (كلما) تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الفعلِ بَعْدَهَا

(1)

.

ولو قلتَ لِعَبْدِكَ: كلما جاءكَ زيدٌ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا. وجاءَه زيدٌ عدةَ مراتٍ. فعليهِ في كُلِّ مرةٍ أن يعطيَه درهمًا؛ لأن (كُلَّمَا) تتكررُ دائمًا بتكررِ الفعلِ، فَمَنِ ادَّعَى أن للنارِ خبْوَةً نهائيةً ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ يُرَدُّ عليه بقولِه:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} وَبَيَّنَ أنهم لَا يخرجونَ منها بقولِه جل وعلا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ

(1)

انظر: البرهان للزركشي (4/ 324)، الكليات 744.

ص: 248

أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: الآية 20]{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} [المائدة: الآية 37] وَبَيَّنَ أنهم لَا يُخَفَّفُ عنهم عَذَابُها قال: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: الآية 36]{فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا (30)} [النبأ: الآية 30] إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ

(1)

. وهنا سؤالانِ: أحدُهما سؤالٌ على بابِه، سؤالُ إسلامٍ، والثانِي سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ.

أما السؤالُ الإلحاديُّ المعروفُ فهو أن يقولَ الْمُلْحِدُ: أنتم تقولونَ: إن رَبَّكُمْ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ- ونحنُ نقولُ: بلى هو في غايةِ الكمالِ والعدالةِ والإنصافِ- والمعاصِي التي فَعَلَهَا

(2)

، والكفرُ الذي كان عليه، كان في أيامٍ معدودةٍ، وجزاءُ النارِ الذي تقولونَ إنه لَا ينقطعُ في ملايينِ السنينَ، فأينَ العدالةُ والإنصافُ؟ المعصيةُ كان في وقتٍ قليلٍ مُعَيَّنٍ، والجزاءُ بهذا الصنفِ، فأينَ المعادلةُ بينَ العذابِ والذنبِ والجزاءِ، والإنصافُ أن يكونَ العقابُ بقدرِ الفعلِ؟ هذا سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ، يُدْلِي به هنا كُلُّ مُلْحِدٍ. والجوابُ عن هذا السؤالِ

(3)

أن نقولَ: إن اللَّهَ (جل وعلا) بَيَّنَ أن خبثَهم وكفرَهم الذي جُبِلُوا عليه باقٍ دائمٌ لا يزولُ ولو مَرَّتْ عليه ملايينُ السنينَ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ.

ومن الآياتِ الدالةِ على بقائِه أبدًا أنهم لَمَّا عَايَنُوا العذابَ وَرَأَوُا النارَ وَنَدِمُوا على الكفرِ وقالوا: {يا ليتنا نُرَدُّ ولا نكذِّبُ بآياتِ ربنا ونكونُ من المؤمنين}

(1)

انظر: حادي الأرواح ص 254.

(2)

أي: الكافر.

(3)

انظر: كشف الأستار ص 126.

ص: 249

[الأنعام: الآية 27]، وفي قراءةٍ أُخْرَى

(1)

: {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآيةَ. اللَّهُ لَمَّا تَمَنَّوْا أنهم يُرَدُّونَ إلى الدنيا مرةً أُخْرَى ليُصَدِّقُوا الرسلَ بَيَّنَ أنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا مرةً أُخْرَى وَأُمْهِلُوا، وَأُرْسِلَتْ لهم الرسلُ لَبَقَوْا على خُبْثِهِمْ الذي لا يَنْفَكُّ عنهم أَبَدًا، قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: الآية 28]. وقال في سورةِ الأنفالِ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: الآيتان22، 23] وقولُه: {خَيْرًا} نكرةٌ في سياقِ الشرطِ فَهِيَ تَعُمُّ

(2)

، فهي تدلُّ على أن اللَّهَ لو يَعْلَمُ فيهم خَيْرًا ما، في وَقْتٍ ما، كائنًا مَا كَانَ، فَهُمْ مَنْفِيٌّ عنهم جميعُ الخيرِ لا يطلبونه أبدًا، والخبثُ باقٍ فيهم أبدًا، فكانَ الجزاءُ دائمًا أبدًا، ومن هنا تَطَابَقَ الجزاءُ والعملُ.

أما السؤالُ الثاني: وهو السؤالُ الذي على بابِه، وهو أن يقولَ: إذا قَرَّرْتُمْ أن النارَ باقيةٌ، وأن الكفارَ بَاقُونَ فيها مخلدونَ، عَذَابًا سَرْمَدِيًّا، فما الحكمةُ في الاستثناءِ بقولِه:{إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: الآية 128] وفي قولِه: {إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: الآية 107] وفي قولِه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: الآية 23]؟ وفي هذا أوجهٌ كثيرةٌ

(3)

، وبحوثٌ كثيرةٌ نقتصرُ منها على القليلِ، وَسَنُبَيِّنُهَا جميعًا- إن شاءَ اللَّهُ- في سورةِ هودٍ.

مِنْ أَحْسَنِ الأجوبةِ: الذي اختارَه

(1)

مضى عند تفسير الآية (101) من هذه السورة.

(2)

انظر: المسودة 103، شرح الكوكب المنير (3/ 141)، البرهان للزركشي (2/ 6)، أضواء البيان (3/ 322)، (4/ 174) قواعد التفسير (2/ 560).

(3)

انظر: ابن جرير (15/ 481)، ابن كثير (2/ 460)، رفع الأستار ص 90 فما بعدها، حادي الأرواح ص 251 فما بعدها.

ص: 250

كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ

(1)

، ونسبَه لقتادةَ والضحاكِ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَأَبِي سِنَانَ: أن (ما) بمعنَى: (مَنْ) وعليه فلا إشكالَ، فَخَالِدِينَ فيها إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ عدمَ خلودِه من العصاةِ الذين أُدْخِلُوا فيها لِتُمَحِّصَهُمْ وتطهرهم من الذنوبِ، وغايةُ ما في البابِ أنه أَطْلَقَ (مَا) وَأَرَادَ (مَنْ)

(2)

، وإطلاقُ (ما) مُرَادًا بِهَا (مَنْ) كثيرٌ فِي القرآنِ، كقولِه:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: الآية 3] أي: مَنْ طَابَ لَكُمْ. وقولُه: {إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: الآية 6] أي: مَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.

والآياتُ موجودةٌ كثيرةٌ غيرُ هذا. أما آيةُ النبأِ: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [عم: الآية 23] فالآيةُ التي بعدَها تُبَيِّنُهَا، بقرينةِ آيةٍ فِي سورةِ (ص) فَهِيَ بيانٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ؛ لأَنَّ معنَى:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} أي: لَابِثِينَ فيها أَحْقَابًا فِي حالِ كونِهم لَا يذوقونَ فيها بَرْدًا وَشَرَابًا إلا حميمًا

(3)

وغساقًا. [فالآيةُ بَيَّنَتْ]

(4)

أحقابَ الحميمِ والغساقِ [مع كونِهم يُعَذَّبُونَ]

(5)

بأشكالٍ أُخَرَ وأنواعٍ أُخَرَ، غيرِ أنواعِ الحميمِ والغسَّاقِ، وهذا التفسيرُ دَلَّتْ عليه آيةُ (ص) دلالةً واضحةً؛ لأَنَّ اللَّهَ قال:{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} ثم قال:

(1)

انظر: ابن جرير (15/ 481_ 483).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 221)، الدر المصون (5/ 151).

(3)

يحتمل أن تكون عبارة الشيخ هكذا: «لا يذوقون فيها إلا بردًا وشرابًا وحميمًا وغساقًا» . ولضعف التسجيل لم أجزم بذلك.

(4)

في الأصل قدر كلمتين غير واضحتين. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام.

(5)

في الأصل كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يستقيم بها الكلام.

ص: 251

{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: الآيات 55 - 58] وقولُه: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} المذكورةُ فِي سورةِ (ص) بَيَّنَتْ أن آيةَ: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [عم: الآيات 23 - 26] أنها الأحقابُ المقصورةُ عليها الحميمُ والغساقُ، وأن هنالك أشكالاً وأزواجًا أُخَرَ لا نهايةَ لها، كما قال:{وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} قال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} . وهذا معنَى قولِه: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} .

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} الحكيمُ: هو الذي يَضَعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها، فَاللَّهُ لا يضعُ أَمْرًا إلا فِي مَوْضِعِهِ، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، فلَا يُشَرِّعُ شَرْعًا إلا لمصلحةٍ، ولا يَنْهَى عن شيءٍ إلا وهو ضَارٌّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، ولا يُجَازِي بالخيرِ إلا مَنْ مُجَازَاتُهُ له واقعةٌ مَوْقِعَهَا. فأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ وأفعالُه وتشريعاتُه وجزاؤُه.

لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه؛ لأنه حكيمٌ خبيرٌ، والحكمةُ إنما [تتمُّ وتتحققُ]

(1)

بوصفِ العلمِ، فترى الرجلَ القُلَّبَ الحكيمَ الخبيرَ يفعلُ الأمرَ ويظنُّه سدادًا ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه غيرَه، ويقولُ: يَا لَيْتَنِي لم أَفْعَلْ، ولو لم أَفْعَلْ لكانَ خَيْرًا!! كما قال الشاعرُ

(2)

:

لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّيَ لَيْتٌ

إِنَّ لَيْتًا وَإِنْ لَوًّا عَنَاءُ

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في الشعر والشعراء ص191 وفي الكتاب لسيبويه (3/ 261) فتح الباري (13/ 226).

ص: 252

وَنَهَى النبيُّ عن (لو)، وَبَيَّنَ أنها تفتحُ بابَ الشيطانِ، وقال الشاعرُ

(1)

:

أُلَامُ عَلَى (لَوٍّ) وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا

بِأَذْنَابِ (لَوٍّ) لَمْ تَفْتِنِّي أَوَائِلُهُ

فَاللَّهُ وحدَه هو الذي لا يَجْرِي عَلَيْهِ: (لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ) أو: (لو فعلتُ كذا لكانَ كذا) لأَنَّهُ عالمٌ بعواقبِ الأمورِ، وما تَؤُولُ إليه، فحكمتُه لا اختلالَ فيها. بخلافِ المخلوقينَ، فقد يفعلُ الإنسانُ بوصفٍ يظنُّه حكمةً لجهلِه بما تنكشفُ عنه الغيوبُ؛ ولذا كان الحكيمُ الحكمةَ التامةَ هو وحدَه جل وعلا:{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} قولُه: {عَلِيمٌ (83)} صيغةُ مبالغةٍ؛ لأَنَّهُ (جل وعلا) يحيطُ علمُه بِكُلِّ شيءٍ.

وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن وصفَ رَبِّنَا لنفسِه بأنه عليمٌ هو من أكبرِ المواعظِ وأعظمِ الزواجرِ، فَعَلَيْنَا أن نَتَّبِعَهُ، وهو واعظٌ أكبرُ، وزاجرٌ أعظمُ، لا تكادُ تَخْلُو ورقةٌ من المصحفِ منه، كأنه يقولُ:{عَلِيمٌ (128)} اعْلَمُوا يا عباديَ أني حكيمٌ في تشريعِي، وأني ما أَمَرْتُكُمْ إلا بِمَا فيه الخيرُ لكم، وما نهيتُكم إلا عمَّا فيه الشرُّ لكم، وَأَنَّنِي تَقْتَضِي حِكْمَتِي أن أُعَذِّبَ مَنْ عَصَانِي، وَأُدْخِلَ الجنةَ مَنْ أَطَاعَنِي، وَاعْلَمُوا أني عليمٌ لَا يَفُوتُنِي شيءٌ مما تفعلونَ وما تقولونَ، وما تحدثونَ به أنفسَكم {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: الآية 19]. وقد قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: الآية 16].

(1)

مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

ص: 253

وقد أطبقَ العلماءُ أنه لم ينزل من السماءِ إلى الأرضِ واعظٌ أكبرُ، ولا زاجرٌ أعظمُ من واعظِ العلمِ والمراقبةِ

(1)

، وقد ضَرَبَ العلماءُ لهذا مَثَلاً- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- قالوا: لو فَرَضْنَا أن هذا البراحَ من الأرضِ فيه مَلِكٌ قتَّالٌ للرجالِ، سفاكٌ للدماءِ، عظيمُ الغضبِ والنكالِ إذا انْتُهِكَتْ حرماتُه- وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى- وحولَ هذا الملكِ زوجاتُه وبناتُه وَجَوَارِيهِ، هل يخطرُ في قلبِ أحدٍ من الحاضرين، يمكنُ أحدًا منهم أن يغمزَ إلى واحدةٍ من تلك النساءِ أو يشيرَ أو يَهُمَّ بِرِيبَةٍ؟ لَا، وكَلَاّ. كلهم خاضعةٌ أبصارُهم، خائفةٌ جوارُحهم، غايتُهم السلامةُ.

ونحن نقولُ- ولله المثلُ الأعلى- إن خالقَ السماواتِ والأرضِ أشدُّ اطلاعًا، وأعظمُ بطشًا في سَخَطَاتِهِ، وأشدُّ فَتْكًا عندَ سخطه؛ لأن حِمَاهُ في أرضِه محارمُه، وأنه لا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ. فَأَهْلُ هذا البلدِ وغيرُهم من البلادِ لو خافوا أن أميرِ البلدِ يعلمُ كُلَّ ما يفعلونَه من الخسائسِ بالليلِ لَبَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ هائبين لا يعملونَ إلا خَيْرًا.

وهذا مَلِكُ السماواتِ والأرضِ، العظيمُ الجبارُ، يُعْلِمُ خلقَه بأنه مُطَّلعٌ على كُلِّ ما يفعلونَ من الخسائسِ، فهذا أكبرُ واعظٍ، فعليهم أن يعلموا مراقبةَ اللَّهِ، ويعلموا أن اللَّهَ عليمٌ بما يعملونَ، فلا يفعلونَ إلا ما يُرْضِيهِ، وهذا الواعظُ الأكبرُ، والزاجرُ الأعظمُ كان جبريلَ عليه السلام يعرفُ قيمتَه حَقَّ المعرفةِ.

فجبريلُ يعلمُ أن اللَّهَ خلقَ هذه الخلائقَ لِيَبْتَلِيَهَا في خصوصِ إحسانِ العملِ، حيث قال في أولِ سورةِ هودٍ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من هذه السورة.

ص: 254

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} _ ثم بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: الآية 7] وقال في أولِ الكهفِ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ فَقَالَ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [الكهف: الآية 7] ثم قال في المُلْكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: الآية 2] فَعَرَفْنَا أنا خُلِقْنَا لِنُبْتَلَى في إحسانِ العملِ، وَمَنْ عرفَ أنه خُلِقَ ليُختبرَ في شيءٍ تَاقَتْ نفسُه إلى أن يعرفَ النجاحَ في ذلك الشيءِ ما هو طريقُه؟ فجاءَ جبريلُ يُبَيِّنُ هذه النقطةَ العظيمةَ للصحابةِ، لَمَّا جاء في صورةِ الأعرابيِّ، في حديثِ جبريلَ المشهورِ فقال:«يَا مُحَمَّدُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟» المهمُّ الذي خُلقوا من أجلِ الاختبارِ فيه. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ له أن الإحسانَ لا يقعُ إلا بملاحظةِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ. ففال له: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

(1)

.

فَعَلَيْنَا جميعًا أن نعرفَ رَبَّنَا في القرآنِ من أن اللَّهَ عليمٌ خبيرٌ، يعلمُ خائنةَ الأعينِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: الآية 16]. فهذا أكبرُ زاجرٍ وأعظمُ واعظٍ، فَعَلَى المرءِ إذا هَمَّ بشيءٍ أن يراقبَ خالقَ السمواتِ والأرضِ، ويعلمَ أنه حاضرٌ يرى:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعر اف: الآية 7] ليُحَاسِب.

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

(1)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

ص: 255

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: الآيات 129 - 134].

يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: الآية 129].

في هذه الآيةِ الكريمةِ أوجهٌ متقاربةٌ من التفسيرِ معروفةٌ عند العلماءِ، لا يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ. قولُه جل وعلا:{وَكَذَلِكَ} أي: كَمَا سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ حتى أَغْوَوْهُمْ واستكثروا منهم فَأَدْخَلُوهُمُ النَّارَ، كما تقدَّم في قولِه:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} [الأنعام: الآية 128]{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} في قولِه: {نُوَلِّي} أوجهٌ معروفةٌ

(1)

:

أحدُها: أن معنَى: نُوَلِّيهِمْ عليهم أي: نُوَلِّيهِمْ ولايةَ تَسْلِيطٍ، أي: نسلطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ فَيَضُرُّهُ ويؤذيه، ثم ننتقمُ من الجميعِ.

وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَاّ يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا

وَلَا ظَالِمٌ إِلَاّ سَيُبْلَى بِظَالِمِ

(2)

فكما سَلَّطْنَا شياطينَ الجنِّ على شياطينِ الإنسِ فَأَغْوَوْهُمْ وَأَضَرُّوهُمْ حتى أَدْخَلُوهُمُ النارَ، كذلك نُسَلِّطُ بعضَ الظالمينَ على بعضٍ، فَنَنْتَقِمُ من بعضِ الظالمين ببعضِهم، ثم ننتقمُ من الجميعِ. واختارَ أبو جعفر بنُ جريرٍ الطبريُّ أن معنَى:{نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا}

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 118)، القرطبي (7/ 85)، البحر المحيط (4/ 222).

(2)

هذا البيت أورده ابن كثير في التفسير (2/ 176).

ص: 256

أي: نَجْعَلُ بعضَهم أولياءَ بعضٍ، فالكافرُ وَلِيُّ الكافرِ حيثما كَانَ، وَأَيْنَمَا كَانَ

(1)

. واستدل له بقولِه: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: الآية 128] وكان قتادةُ يقولُ: {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ} أي: نُتَابِعُهُمْ طائفةً بعد طائفةٍ في النارِ يومَ القيامةِ

(2)

، كما سيأتِي في قولِه لَمَّا ذَكَرَ الْجِنَّ والإنسَ:{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: الآية 38] وكونُه يومَ القيامةِ بالموالاةِ في النارِ ليس بأظهرِها، بل إنما هو تسليطُ بعضِهم على بعضٍ، فيؤذيه انْتِقَامًا من اللَّهِ من بعضِ الظلمةِ ببعضٍ، أو يُوَلِّي بعضَهم لبعضٍ؛ لأن الكافرينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ، كما صَرَّحُوا به لِلَّهِ في قولِه:{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: الآية 128] وجاء في حديثٍ أخرجَه ابنُ عساكرَ: «مَنْ سَلَّطَ ظَالِمًا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ»

(3)

وهو من توليةِ بعضِ الظالمينَ على بعضٍ. وَالحديثُ فيه غرابةٌ معروفةٌ (غريبٌ).

وَلَمَّا سمعَ عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ بقتلِ عبدِ الملكِ للأشدقِ

(4)

ذَكَرَ هذه الآيةَ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 120).

(2)

المصدر السابق (12/ 119).

(3)

لفظه: «من أعان ظالمًا سلّطه الله عليه» وقد أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق 34/ 4)(وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 14/ 153، وأورده القرطبي في التفسير (7/ 85)، وابن كثير في التفسير (2/ 176). وقال:«هذا حديث غريب» ا. هـ.

وانظر: كشف الخفاء (2/ 297)، مختصر المقاصد الحسنة ص186، وقال:(ضعيف جِدًّا) ا. هـ وضعيف الجامع رقم: (5453)، السلسلة الضعيفة رقم:(1937) وقال: موضوع.

(4)

وهو: عمرو بن سعيد بن العاص. انظر ترجمته في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (19/ 214).

ص: 257

الظَّالِمِينَ بَعْضًا}

(1)

يريدُ أن معناها عندَه: أن اللَّه ينتقمُ من بعضِ الظالمين ببعضٍ. هذا جلُّ أقوالِ العلماءِ في معنَى: {نُوَلِّي} .

وَأَمَّا (الظالمين) فهو جمعُ تصحيحٍ للظالمِ، والظالمُ: اسمُ فاعلِ الظلمِ، والظلمُ في لغةِ العربِ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، وكلُّ مَنْ وَضَعَ شيئًا في غيرِ موضعِه فهو ظالمٌ في لغةِ العربِ

(2)

، ومنه يقولونَ للذي يضربُ لَبَنَه قبلَ أن يروبَ: هذا ظَالِمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ مَوْضِعِهِ؛ لأن ضَرْبهُ قبلَ أن يروبَ يُضَيِّعُ زُبْدَهُ، وفي لُغَزِ الحريريِّ

(3)

في مقاماتِه: هل يجوزُ أن يكونَ القاضِي ظَالِمًا؟ قال: نَعَمْ إذا كان عَالِمًا. يعنِي بِكَوْنِهِ ظَالِمًا: أنه يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ. وهذا المعنَى مطروقٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

وَقَائِلَةٍ: ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي

وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ؟

(ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي) تعني: أنها ضَرَبَتْهُ لهم فشربوه قبلَ أن يروبَ. وقولُه: «وهل يَخْفَى على العَكَدِ الظليمُ» العَكَدُ: عَصَبُ اللسانِ، لَا يخفَى عليه اللبنُ المضروبُ قبلَ أن يروبَ من غيرِه. ومنه بهذا المعنَى قولُ الآخَرِ في سقاءٍ له فيه لَبَنٌ

(5)

:

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ

ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 222).

(2)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

(5)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

ص: 258

يعنِي أنه سَقَى الناسَ به قبلَ أن يروبَ. وفي هذا الضربِ هو يريدُ الأَجْرَ؛ لأنه صدقةٌ منه؛ ولذا قال:

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ

ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ

ومن هنا كانت العربُ تُسَمِّي الأرضَ التي لم تُحْفَرْ، وليست مَحلاًّ للحفرِ إذا حُفِرَتْ:(مظلومةٌ) لأَنَّ الحفرَ وُضِعَ في غيرَ موضعِه. ومنه على التحقيقِ قولُ نابغةِ ذبيانَ

(1)

:

إِلَاّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا

وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

أَيْ: بالأرضِ التي ليست مَحَلاًّ لأَنْ يُحْفَرَ فيها، وحفر النؤيِ فيها حَفْرٌ فِي غَيْرِ محلِّه؛ لأنها في فلاةٍ من الأرضِ. هذا هو التحقيقُ، دونَ قولِ مَنْ قال: إن الأرضَ المظلومةَ: التي تَأَخَّرَ عنها المطرُ. هذا ليس بالصحيحِ في معنَى البيتِ. ومنه تقولُ العربُ للترابِ الذي يُخْرَجُ من القبرِ إذا حُفِرَ، تقولُ لَهُ: ظليمٌ، (فَعِيل) بمعنَى (مَفْعولٍ) أي: مظلومٌ؛ لأن العادةَ أن القبورَ إنما تُحْفَرُ في المَحَالِّ التي ليس من شأنِها أن يُحْفَرَ فيها سابقًا، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ يذكر ميتًا

(2)

:

فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ

مِنَ الْعَيْشِ، مَرْدُودٍ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا

يعنِي بـ (غبراءَ): القبر و (مَرْدُود عليها ظَليْمُها) أي: الأرضُ التي أُخْرِجَتْ منها عندَ الحفرِ رُدَّتْ عليها عندَ الدفقِ. هذا أصلُ الظلمِ في لغةِ العربِ، هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه. وَقَدْ جاءَ في القرآنِ في موضعٍ واحدٍ معناه: النقصُ، وهو قولُه: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا

(1)

السابق.

(2)

السابق.

ص: 259

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: الآية 33] أي: ولم تَنْقُصْ منه شَيْئًا. إذا عَرَفْتُمْ أن الظلمَ في لغةِ العربِ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، اعلموا أَنَّ وضعَ الشيءِ في غيرِ موضعِه على نَوْعَيْنِ:

أحدُهما: أن يكونَ بَالِغًا في غايةِ القباحةِ والشناعةِ.

والثاني: أن يكونَ دونَ ذلك.

أما وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه البالغ غايةَ الشناعةِ: فهو وضعُ العبادةِ في غيرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، فَمَنْ عَبَدَ غيرَ الذي خَلَقَهُ ورَزَقَهُ فَقَدْ وضعَ الأمرَ في غيرِ موضعِه، فهو أعظمُ الظالمين، وأخبثُ الواضعين للشيءِ في غيرِ موضعِه؛ ولهذا المعنَى

(1)

كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُ الظلمِ مُرَادًا به الكفرُ، وهو أخبثُ أنواعِه، ومنه قولُه:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)} [الكهف: الآية 50] وقولُه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: الآية 254] وقولُه: [وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: الآية106] وقال عن العبدِ الحكيمِ لقمانَ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: الآية 13] وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فَسَّرَ قولَه في هذه السورةِ الكريمةِ- سورةِ الأنعامِ-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: الآية 82] قال: معناه: لَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ

(2)

.

النوعُ الثاني من أنواعِ الظلمِ: هو وضعُ الطاعةِ في غيرِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

ص: 260

موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ معصيتِها

(1)

بما لا يُؤَدِّي إلى الكفرِ، كَأَنْ يُزَيِّنَ لكَ الشيطانُ أن تعملَ عَمَلاً يُخَالِفُ الشرعَ فتطيعُ الشيطانَ، وتعصِي اللَّهَ، وأنتَ عَالِمٌ أَنَّكَ عاصٍ مُجْرِمٌ، وأنكَ فعلتَ قبيحًا، فهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، ووضعٌ للطاعةِ في غيرِ موضعِها، والمعصيةِ في غيرِ موضعِها، وليسَ بِكُفْرٍ، وهو ظلمٌ دونَ ظلمٍ. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى في سورةِ (فاطر) لَمَّا نَوَّهَ بشأنِ القرآنِ العظيمِ، وأنه أعظمُ فضلٍ أُعْطِيهِ الخلق، وأن جميعَ الأمةِ التي أُعْطِيَ لها هي قد اصطفاها اللَّهُ، وأن كُلَّهَا في الجنةِ، قال:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: الآية 32] وَبَيَّنَ أن هذا النورَ الْمُنَزَّلَ لا يُعْطِيهِ اللَّهُ إلا لِمَنِ اصطفاهُ واختارهُ، وهو النصيبُ الأعظمُ الأكبرُ الذي يُعْطِيهِ اللَّهُ، ثم قال:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وهذا ظلمٌ دونَ ظلمٍ، كالذي يَعْصِي تارةً ويطيعُ أخرى، مِنَ الذين قال اللَّهُ فيهم:{خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: الآية 102] والعلماءُ يقولونَ: «عسى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ

(2)

.

{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ العظيمُ عليهم منا؛ فَلِذَا عَلَّمَنَا اللَّهُ أن نحمدَه على هذا الفضلِ العظيمِ في قولِه في أولِ سورةِ الكهفِ:

(1)

أي: تكون طاعته تبعًا للنفس، والهوى والشيطان. وتكون معصية لله بدلاً من أن يعصي هواه وشيطانه.

(2)

انظر: ابن جرير (8/ 579)(14/ 167، 447)، حجج القرآن ص83، تفسير ابن كثير (3/ 397)، البرهان للزركشي (4/ 57، 158، 288) الإتقان (2/ 204_205)، الكليات ص297، 635، فتح البيان (7/ 110_111، 169).

ص: 261

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)} [الكهف: الآية 1] أي: لم يَجْعَلْ فيه اعْوِجَاجًا ما، لا في معانيه، ولا في ألفاظِه، ولا في أحكامِه، ولا في أخبارِه. أخبارُه كُلُّهَا حَقٌّ صِدْقٌ، وأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ، وهو في غايةِ الاستقامةِ، لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه اعوجاجًا {قَيِّمًا} أي: مُسْتَقِيمًا في غايةِ الاستقامةِ. ثم لَمَّا ذَكَرَ هذه الأصنافَ الثلاثةَ التي انْقَسَمَتْ إليها أمةُ الكتابِ الذي أُورِثَتْ إياه بدأ بالظالمِ لنفسِه في قولِه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ثم وَعَدَ الجميعَ بوعدِه الصادقِ الذي لا يُخْلِفُ دخولَ الجنةِ، قال:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: الآيات 33 - 35] فهذا الظالمُ المعدودُ مِمَّنْ أُورِثُوا الكتابَ، الموعود بالجنة، ظُلْمُهُ: ظُلْمٌ دونَ ظُلْمٍ. وَأَصَحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ)

(1)

، فيما يظهرُ:

أن (الظَّالِمَ) هو مَنْ يُطِيعُ الشيطانَ مَرَّةً، ويعصيه أُخْرَى، ويطيعُ اللَّهَ مرةً، وربما عَصَاهُ، من الذين قال اللَّهُ فيهم:{خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: الآية 102].

والمقتصدُ: هو الذي يَمْتَثِلُ أوامرَ اللَّهِ، ويجتنبُ نواهيَ اللَّهِ، ولكنه لا يتقربُ بزيادةِ الطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ.

وأما السابقُ بالخيراتِ: فهو الذي يجتنبُ محارمَ اللَّهِ، ويمتثلُ أوامرَ اللَّهِ، ويستكثرُ من القرباتِ والطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ مرضاةً لِلَّهِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

ص: 262

وفي آيةِ فاطر هذه- التي ذَكَرْنَاهَا استطرادًا- فيها سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقَالَ: كيف بدأ اللَّهُ بالظالمِ في هذه الآيةِ، وَقَدَّمَهُ على المقتصدِ، وَأَخَّرَ السابقَ بالخيراتِ، مع أنهما خيرٌ من الظالمِ، وخيرُهم السابقُ بالخيراتِ، ثم المقتصدُ، ثم الظالمُ. فَلِمَ قَدَّمَ هذا الذي غيرُه أفضلُ منه

(1)

؟

وللعلماءِ عن هذا التقديمِ أجوبةٌ معروفةٌ، منها:

أن هذا إظهارُ كرمٍ من اللَّهِ يستدعيهم بالقرآنِ بفضلِ آثارِه على الأمةِ التي أُورِثَتْ إياه، فبدأ بالظالِمِ لئلَاّ يقنطَ، وَأَخَّرَ السابقَ بالخيراتِ لئلَاّ يعجبَ بعملِه فيحبط.

وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الخَطَّاؤون الذين يظلمونَ أنفسَهم، يخالفونَ مرةً وَيُنِيبُونَ إلى اللَّهِ. وأما السابقونَ بالخيرِ فقليلٌ جِدًّا، والمقتصدونَ أَقَلُّ من الظالمين؛ ولذا لَمَّا سُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها عن معنَى هذه الآيةِ قالت: المقتصدُ الذي رُبَّمَا خَالَفَ، مثلي ومثلك

(2)

.- جَعَلَتْ نفسَها من الظالمين- فقدَّم الظالمين لأنفسِهم لأنهم أكثرُ أهلِ الجنةِ، والأكثريةُ لها شأنٌ، فَعُلِمَ من هذه الآيةِ أن الظلمَ قد يكونُ ظُلْمًا دونَ ظُلْمٍ، والظلمُ معناه: وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، تارةً يَعْظُمُ فيكونُ كُفْرًا، وتارةً يكونُ ظُلْمًا دونَ ظلمٍ فلا يكونُ كُفْرًا. وهذا معنَى قولِه:

(1)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

(2)

أخرحه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 209 رقم (1489)، والحاكم (2/ 426)، والطبراني في الأوسط رقم (6090)(7/ 56)، وذكره السيوطي في الدر (5/ 251) وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه. وسنده ضعيف جِدًّا.

ص: 263

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} أي: نُوَلِّي البعضَ منهم البعضَ الآخرَ، كما بَيَّنَا.

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} وهذه التوليةُ بينَهم هي: تسليطُ بعضِهم على بعضٍ لِيُؤْذِيَهُ وَيَضُرَّهُ، أو: جعل بعضهم وَلِيًّا للآخَرِ أو قرينًا له، كُلُّهَا بسببِ ما كانوا يعملونَه، فعلى أنها تسليطٌ فهي انتقامٌ منه لعملِه السيئِ، وعلى أنها ولايةُ بعضِهم البعضَ فهي بسببِ اتحادِهم بالعملِ الخبيثِ والعملِ السيئِ؛ لأن الخبيثَ وَلِيُّ الخبيثِ، والكافرُ وَلِيُّ الكافرِ، والناسُ يومَ القيامةِ أزواجٌ، أي: أصنافٌ، كُلُّ خبيثٍ يُحْشَرُ مع من يُطَابِقُهُ من الخبثاءِ. كما سيأتِي في قولِه:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: الآية 22] أي: أَصْنَافَهُمْ وأشكالَهم الْمُلَائِمِينَ لهم بالخبثِ، والعياذُ بالله. وهذا معنَى قولِه:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: الآية 129].

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: الآية 130].

هذا يُقَالُ لهم يومَ القيامةِ، يُقال لأَهْلِ النارِ يومَ القيامةِ من الجنِّ والإنسِ:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} يا جماعةَ الجنِّ وجماعةَ الإنسِ، الذين طَغَيْتُمْ وكفرتُم في دارِ الدنيا حتى دخلتُم النارَ، وقيل لكم:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: الآية 128] أَلَمْ تَصِلْكُمْ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ رُسُلٌ ينذرونكم من هذا اليومِ، ويحذرونَكم من العذابِ الذي أنتم فيه، ويبينونَ لكم طرقَ النجاةِ من هذا قبلَ أن تضيعَ الفرصةُ، فتكونوا قد حذرتم هذا العذابِ، ونجوتُم مع مَنْ

ص: 264

نَجَى؟ وهذا معنَى قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} . قال بعضُ

(1)

علماءِ التفسيرِ: كُلُّ فعلٍ مضارعٍ في القرآنِ مجزومٍ بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْهُ همزةُ الاستفهامِ؛ فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ في جميعِ القرآنِ:

أحدُهما: أن الاستفهامَ استفهامُ تقريرٍ، وهو الظاهرُ في هذه الآيةِ. ومعنى استفهامِ التقريرِ: هو الاستفهامُ الذي لا يريدُ الْمُخَاطِبُ به أن يُفْهِمَ الشيءَ، وإنما يريدُ أن يَحْمِلَ المخاطَب على أن يُقِرَّ ويقولَ: بلى، ويقرَّ بالحقيقةِ، كقولِ جريرٍ لعبدِ الملكِ بنِ مروانِ

(2)

:

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا

وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ

مقصودُ جريرٍ أن يقولَ عبدُ الملكِ: بلى، فيقول: هذه [منزلتُكم]

(3)

ما دمتُم بهذه المثابةِ، هذا قَصْدُهُ.

الثاني: أن يَخْتَلِجَ المُضَارَعَةَ مَاضَوِيَّةٌ، وينقلب النفيُ إثباتًا، فيصيرَ المضارعُ المنفيُّ بـ (لم) معناه الماضي المُثْبَت، كقولِه:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الانشراح: الآية 1] معناه: شَرَحْنَا لكَ صدركَ، وقولِه:{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: الآية 8] جَعَلْنَا له عينين، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أَتَاكُمْ رسلٌ منكم.

وطالبُ العلمِ يعرفُ أن انقلابَ المُضَارَعَةِ ماضَوِيَّةً أنه هنا واضحٌ لا إشكالَ فيه؛ لأن لفظةَ (لم) حرفُ قَلْبٍ، تقلبُ المضارعَ من معنَى الاستقبالِ إلى معنَى

(1)

مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 265

الماضِي. وهذا معروفٌ، كقولِك:«لم يأت زيد» . بمعنَى: ما جاء زيدٌ في الماضِي. وهذا معروفٌ، فقلبُ المضارعِ ماضَوِيًّا ظَاهِرٌ، ولكن قلبَ النفيِ إثباتًا هو الذي يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ، وإيضاحُه على هذا التفسيرِ: أن همزةَ الاستنكارِ المتقدمةَ على حرفِ (لم) أصلُها حرفُ إنكارٍ، فهو مشتملٌ على معنَى النفيِ، ويتسلطُ النفيُ الكامنُ في الهمزةِ على النفيِ الصريحِ في (لم) فَيَنْفِيهِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، ويرجعُ النفيُ إلى الإثباتِ، والمُضَارَعَةُ إلى المَاضَوِيَّةِ. ومعنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ.

ومعنى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يجئُكم في دارِ الدنيا رُسُلٌ منكم. الرُّسُلُ: جمعُ الرسولِ، والرسولُ:(فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) والمرادُ بهم هنا: مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، فالرسولُ- طبعًا- يكونُ من الإنسِ ومن الملائكةِ، كما سيأتِي في قولِه:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: الآية 75] أما الجنُّ فسنذكرُ الخلافَ فيهم- الآنَ- المعروفَ عندَ العلماءِ، فالرسلُ: جمعُ رسولٍ، وهو (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) أي: مُرْسَلٌ، وأصلُه مصدرٌ، وإتيانُ المصادرِ على (فَعُول) قليلٌ جِدًّا، كالرسولِ، فأصلُه من معنَى الرسالةِ، وكالقبُولِ والوَلُوعِ، وكونُ الرسولِ أصلُه مصدرٌ فيه فوائدُ تفيدُ في التفسيرِ؛ لأن أصلَ الرسولِ مصدرٌ، تقولُ العربُ:«أرسلتُه رسولاً» . أي: رسالةً. و «ما أرسلتُه برسولٍ» . أي: برسالةٍ: فأصلُه: مصدرٌ، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

(1)

البيت لكُثَيِّر عزة. وهو في ديوانه ص 176 اللسان (مادة: رسل)(3/ 71)، ولفظه في الديوان:

لقد كذب الواشون ما بُحْتُ عندهم

بلَيلى ولا أرسلتهم برسول

مشاهد الإنصاف ص99 وفيه (بِسِرٍّ) بدلاً من (بقول).

ص: 266

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ

بِقَوْلٍ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أي: برسالةٍ. والمصدرُ إذا نُعِتَ به- بأن أُجْرِيَ مَجْرَى الوصفِ- جازَ إفرادُه، وربما جازَ جمعُه وتثنيتُه نَظَرًا إلى وصفيتِه العارضةِ

(1)

. وتارةً يُنْظَرُ إلى أصلِه وهو المصدرُ، فلا يُجْمَعُ ولَا يُثَنَّى، وتارةً يُنظر إلى ما عَرَضَ له من الوصفيةِ فَيُجْمَعُ ويُثنى.

وبهذا التقريرِ يزولُ الإشكالُ في قولِه عن موسى وهارونَ في (الشعراءِ): {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)} [الشعراء: الآية 16] وفي (طه): {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: الآية 47] فَثَنَّى في آيةٍ، وَأَفْرَدَ في أُخْرَى، وهما رَجُلَانِ: موسَى وهارونُ، فإفرادُ الرسولِ نظرًا إلى أصلِه وهو المصدرُ، وتثنيتُه في قولِهم:{إِنَّا رَسُولَا} نظرًا إلى الوصفيةِ العارضةِ له؛ ولذلك جَمَعَ الرسلَ هنا في قولِه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} وفي قولِه: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: الآية 253] فيجوزُ إطلاقُ الرسولِ مرادًا به الجمعُ أيضا، كما أُرِيدَ به الاثنانِ، لكن إطلاقَ الرسولِ مُرَادًا به الجمعُ ما جاءَ في القرآنِ، وإنما جاءَ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ أبِي ذؤيبٍ الهذليِّ في رائيتِه المشهورةِ

(2)

:

أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّ

سُولِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ

فَرَدَّ على الرسولِ ضميرَ الجمعِ؛ لأَنَّ أصلَه مصدرٌ.

وقولُه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} ظاهرُ قولِه: {مِنْكُمْ} أن مِنَ الإنسِ رُسُلاً ومن الجنِّ رُسُلاً، هذا هو الْمُتَبَادَرُ من الآيةِ. ولأجلِ هذا

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (50) من هذه السورة.

ص: 267

الظاهرِ تَمَسَّكَ قومٌ قليلونَ بأن اللَّهَ بعثَ من الجنِّ رُسُلاً إلى الجنِّ

(1)

. وَزَعَمَ بعضُهم أنه ما أَرْسَلَ للجنِّ منهم إلا رَسُولاً واحدًا، وَاسْمُهُ يوسفُ.

والذي عليه جماهيرُ العلماءِ، خَلَفًا وَسَلَفًا، أن الرسلَ جميعَهم إنما هُمْ من الإنسِ، وإنما قَالَ:{رُسُلٌ مِّنكُمْ} لِمَجْمُوعِ الإنسِ والجنِّ، نَظَرًا إلى أن العربَ تُطْلِقُ المجموعَ وتريدُ بعضَه. أي: من مجموعِكم الصادقِ بالإنسِ دونَ الجنِّ. وهو كثيرٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ

(2)

، فَمِنْهُ في القرآنِ قولُه تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: الآيتان 15، 16]، أي: في مجموعِهن الصادقِ بواحدةٍ منها. وأظهرُ الآياتِ الدالةِ عليه في القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ

(3)

: {وَلَا تَقْتُلُوهُم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: الآية 191] لأن المرادَ هنا: بأنه لا يصحُّ أن تقولَ: «فإن قَتَلُوكُمْ ومتم وخرجتُم من الدنيا فَاقْتُلُوهُمْ» [وعلى هذا المعنَى يُحْمَلُ قولُ الشاعرِ:

فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ حَرَّةِ وَاقِمِ

فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلَامِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ]

(4)

هو حَيٌّ يتكلم، ويقولُ:«فَإِنْ تَقْتُلُونَا» يعني: تَقْتُلُوا بَعْضَنَا. هذا هو المعروفُ في كلامِ العربِ، أي: من مجموعِكم الصادقِ بالإنسِ، بناءً على أن الجنَّ لَمْ تُرْسَلْ منهم رُسُلٌ.

(1)

في هذه المسألة راجع: ابن جرير (12/ 121)، القرطبي (7/ 86)، ابن كثير (2/ 177)، البحر المحيط (4/ 222)، أضواء البيان (2/ 210).

(2)

مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

(4)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [

]، زيادة يتم بها الكلام.

ص: 268

وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ الْقَوْلَيْنِ فقالَ: رسلُ الإنسِ هم الذين يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ بواسطةِ الملكِ، ورسلُ الجنِّ هم الذين يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بما سَمِعُوا من الأنبياءِ، فَهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ [17/ب] / ولذا أَطْلَقَ عليهم (الرسل) هنا. وَيُطْلَقُ عليهم (النُّذُرُ)، كما يأتي في قولِه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ} [الأحقاف: الآية 29]، فالنُّذرُ كأنهم جاؤوهم منذرينَ مُرْسَلِينَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَتَ في الأحاديثِ - وكما يأتِي في سورةِ الجنِّ - أن الجنَّ جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكادوا يكونونَ عليه لِبَدًا، وأنه دَعَاهُمْ إلى الإسلامِ، وَعَلَّمَهُمُ الدينَ، وَأَمَرَهُمْ أن يُبَلِّغُوا قومَهم. ومن هنا قال جمهورُ العلماءِ: الرسلُ من الإنسِ والجنِّ ليسوا بِرُسُلٍ [وإنما يكونُ منهم نُذُرٌ]

(1)

إلى قومِهم، كما قال:{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)} .

وقد أجمعَ جميعُ المسلمين أن نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم مرسلٌ إلى الجنِّ والإنسِ مَعًا، وأنه بَلَّغَ الرسالةَ لِمَنِ استطاعَ أن يبلغَه من الجنسين، وَأَمَرَ كُلاًّ منهم أن يبلغَ مَنْ لَقِيَ، وقال:«فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»

(2)

، وقد يأتي صريحًا في سورةِ الرحمنِ لَمَّا قَرَأَ على الجنِّ سورةَ الرحمنِ، وقال:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: الآية 33] كلما قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: الآية 32] والتثنيةُ للجنِّ والإنسِ، والجنُّ

(1)

في هذا الموضع كلام غير واضح. وما بين المعقوفين [

]، زيادة يتم بها الكلام.

(2)

هذه الجملة جزء من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وسيأتي عند تفسير الآيتين (89 - 90) من سورة التوبة.

ص: 269

يقولونَ: ولا بشيءٍ من آلاءِ رَبِّنَا نكذبُ

(1)

. وَذَكَرَ اللَّهُ كثيرًا من قِصَصِهِمْ في سورةِ الجنِّ، وبَيَّنَ أَنَّهُمْ ما كانوا يظنونَ أن اللَّهَ يُمَكِّنُ أَحَدًا أن يفتريَ عليه، قالوا:{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} [الجن: الآية 5] وَبَيَّنُوا أن منهم طَيِّبِينَ وخبثاءَ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن: الآية 11] وتحصَّل أن قولَه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} جمهورُ العلماءِ على أن الرسلَ كُلَّهُمْ من الإنسِ، وأنه أُطْلِقَ المجموعُ مُرَادًا بعضُه، لا أن الجنَّ رُسُلٌ أُرْسِلُوا إلى قومِهم.

وخالفَ بعضٌ قليلٌ من أهلِ العلمِ وقالوا: أُرْسِلَتْ للجنِّ رسلٌ منهم لظاهرِ هذه الآيةِ الكريمةِ، قالوا: ولأَنَّ كَوْنَ الرسلِ منهم أَدْرَى بأحوالهم، وأقدرُ على تبليغِهم، وذلك ليس بقاطعٍ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما جَاءَهُ جِنُّ نصيبين تَكَلَّمَ معهم، وَخَاطَبُوهُ في كُلِّ ما يفيدُ، وأباحَ لهم ما أباحَ لهم من الزادِ، كما هو معروفٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ، وَدَعَاهُمْ إلى الإسلامِ

(2)

. وهذا معنَى قولِه:

(1)

ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه الترمذي في التفسير، باب «ومن سورة الرحمن» ، حديث رقم:(3291)(5/ 399)، والحاكم (2/ 473) وقال:«صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي. من حديث جابر رضي الله عنه. وللحديث شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البزار (كشف الأستار 3/ 74)، وابن جرير (27/ 123 - 124). وانظر: السلسلة الصحيحة رقم: (2150)، صحيح الترمذي (3/ 112).

(2)

جاء في وفد نصيبين من الجن عدة أحاديث، منها:

1 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند البخاري في مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، حديث رقم:(3860)، (7/ 171).

2 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عند الطبري في التفسير (26/ 30، 31، 33).

3 -

حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، عند الطبراني في الكبير (1/ 125) وحسنه الهيثمي في المجمع (1/ 210).

4 -

حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد جاء بروايات وطرق كثيرة بألفاظ متفاوتة، وممن أخرج حديثه: الإمام أحمد في المسند (1/ 458)، وابن جرير في التفسير (26/ 32)، والطبراني في الكبير (10/ 77، 79، 80) وابن أبي عاصم في السنة (2/ 611)، والخطيب في تاريخه (2/ 398). وللوقوف على بعض روايات أحاديث استماع الجن للنبي صلى الله عليه وسلم انظر:

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 225 - 233)، مجمع الزوائد (8/ 313 - 314)، فتح الباري (7/ 171 - 172)، الدراية (1/ 63 - 67)، نصب الراية (1/ 139 - 147).

ص: 270

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} .

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} معنَى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي: يقرؤون عليكم آياتِي التي أُنْزِلَتْ، وَيُبَيِّنُونَ لكم ما فيها من العقائدِ، ومن الحلالِ والحرامِ، وَمِمَّا أَمَرْتُ به وَبَيَّنْتُ أنه يُدْخِلُ الجنةَ، ومما بَيَّنْتُ في آياتِي أنه سببٌ لدخولِ النارِ - وهي التي أنتم فيها - وَحَذَّرْتُ جميعَكم على ألسنةِ الرسلِ من ذلك الفعلِ الذي يكونُ سَبَبًا لدخولِها.

وقد أجمعَ جميعُ العلماءِ على أن الكفرةَ من الجنِّ في النارِ، هذا لا نِزَاعَ فيه بينِ العلماءِ، والآياتُ الدالةُ عليه كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ، كقولِه جَلَّ وعلا:{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: الآية 38] فَصَرَّحَ بأن أُمَمًا منهم كثيرةٌ في النارِ في آياتٍ كثيرةٍ، وقالوا لقومِهم: إنهم إن لم يُجِيبُوا داعيَ اللَّهِ يعذبهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} إلى أن قال: {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: الآية 31] فلا خلافَ أن الجنَّ يُعَذَّبُ كافرُهم وعاصيهم، كما يُعَذَّبُ كافرُ الإنسِ وعاصيهم، وإنما

ص: 271

الخلافُ المشهورُ بينَ العلماءِ: هل الجنُّ يدخلونَ الجنةَ أو لا يدخلونَ الجنةَ؟؟

(1)

وهذا خلافٌ معروفٌ قديمٌ بينَ العلماءِ، وَيُرْوَى عن الإمامِ أَبِي حنيفةَ رحمه الله أنه من الطائفةِ الذين يقولونَ: لا يدخلُ الجنُّ الجنةَ، وأن الجنةَ لَا يدخلُها أحدٌ من الجنِّ. وغالبُ ما استدلَّ به هؤلاءِ: أن اللَّهَ جَعَلَ جزاءَهم هو الإجارةَ من العذابِ فقط، وغفرانَ الذنوبِ فقط، حيث قال:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف: الآية 31] ولم يَقُلْ: ويدخلكم الجنةَ. بخلافِ الإنسِ، فإنه إذا ذُكِرَ ثوابُ الطاعةِ تُذْكَرُ الجنةُ جزاءً لها، ولم يَذْكُرِ اللَّهُ في القرآنِ جَزَاءً للجنِّ إلا غفرانَ الذنوبِ، والإجارةَ من العذابِ الأليمِ. ومن هنا قال مَنْ قال: إن مُؤْمِنِي الجنِّ لَا يدخلونَ الجنةَ.

والتحقيقُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنهم كما أن كَافِرَهُمْ في النارِ فمؤمنُهم المطيعُ في الجنةِ، وقد دَلَّتْ على هذا بعضُ ظواهرِ آياتٍ، ومنها قولُه تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: الآية 56] فَعُلِمَ أن في الجنةِ جَانًّا يطمثونَ النساءَ، ومن أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك: قولُه تعالى مُخَاطِبًا الجنَّ والإنسَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: الآية 46] ثم قال مُبَيِّنًا دخولَ الجنِّ والإنسِ فيه: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن الآية 47]. فلو لم يكن من الآلاءِ على الجنِّ دخولُهم الجنةَ لَمَا قال فيهم وفي الإنسِ مَعًا: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعدَ قولِه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ

(1)

انظر: القرطبي (16/ 217 - 218)، ابن كثير (4/ 170 - 171) طريق الهجرتين 417 - 427، أضواء البيان (7/ 402 - 407) دفع إيهام الاضطراب 263 - 268.

ص: 272

جَنَّتَانِ} فَدَلَّ قولُه: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الصادقُ على الجنِّ والإنسِ، على أن قولَه:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي: للجنِّ والإنسِ. وهذا هو الأظهرُ. وهذا معنَى قولِه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} . (ينذرونَ) هو مضارعُ فعلِ الإنذارِ. والإنذارُ في لغةِ العربِ: هو الإعلامُ المقترنُ بتخويفٍ وتهديدٍ، فكلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إِعْلَامٍ إنذارًا، وَكُلُّ إعلامٍ اقترنَ بتخويفٍ وتهديدٍ فهو المسمَّى بالإنذارِ

(1)

. ومعنَى: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: يُعْلِمُونَكُمْ بِمَا في هذا اليومِ من الأهوالِ والأوجالِ وشدَّةِ عذابِ النارِ، في حالِ كونِهم مُهَدِّدِينَ لكم وَمُخَوِّفِينَ من الأعمالِ التي تُؤَدِّي إليه. وهذا [معنى]

(2)

قولِه: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وَعَبَّرَ عن اليومِ باللقاءِ لأنهم يُلَاقُونَ ما فيه من الأهوالِ والأوجالِ، وعادةُ العربِ أن تُذَكِّرَ اليومَ ومرادُها ما فيه من البلايا والأوجالِ

(3)

، كقولِ نبيِّ اللَّهِ لوطٍ:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} [هود: الآية 77] والزمنُ بنفسِه كسائرِ الأزمانِ، وإنما المرادُ ما فيه؛ وَلِذَا قال تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: الآية 17] والذي يَجْعَلُ الولدانَ شِيبًا إنما هو ما فيه من الأهوالِ الأوجالِ؛ لأَنَّ نفسَ اليومِ ظرفٌ من الظروفِ كسائرِ غيرِه من الظروفِ. ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

(1)

انظر: المفردات (مادة: نذر) 797، القاموس (مادة: النذر) 619، الأضواء (2/ 288).

(2)

ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق ..

(3)

انظر: المزهر (1/ 336).

(4)

البيت لعدي بن زيد. وهو في تفسير ابن جرير (15/ 409)، تاريخ دمشق (40/ 119)، الدر المصون (6/ 361). وقوله:«لزاز» أي: ملازم. وقوله: «لم أُعرد» أي: لم أُحجم.

ص: 273

وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ

وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ

(

)

(1)

هذه عادةُ العربِ، والقرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

لَمَّا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ، وقرعهم هذا التقريعَ، أَقَرُّوا نَادِمِينَ حيثُ لَا ينفعُ الندمُ، فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في سورةِ الملكِ أن ذلك الاعترافَ في الوقتِ الذي لا ينفعُ فيه الاعترافُ والندمُ:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: الآية 11]. {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أَقَرُّوا في ذلك الموضعِ على رؤوسِ الأشهادِ {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: الآية 130] أن الرسلَ بَلَّغُونَا وَحَذَّرُونَا وَأَنْذَرُونَا لقاءَ هذا اليومِ، فَحَذَّرُونَا مِمَّا نحنُ فيه من البلايا غايةَ التحذيرِ، لكنهم - والعياذُ بالله - عَصَوْا، وأَبَوْا وَتَمَرَّدُوا، فَأَقَرُّوا بالحقيقةِ كما هي.

ثم بَيَّنَ اللَّهُ السببَ الذي كَذَّبُوا به الرسلَ ولم يَعْتَنُوا بالإنذارِ، قال:{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لأَنَّ الدنيا دارُ الغرورِ، تَغُرُّ الجاهلَ فيشتغلُ بشهواتِها ولذاتِها وراحتِها عن موجباتِ الجنةِ؛ لأن ما يُدْخِلُ الجنةَ فيه تكاليفُ شَاقَّةٌ، تَشُقُّ على مَنْ لم يَهْدِهِمُ اللَّهُ، وإن الصلاةَ يقولُ اللَّهُ فيها:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: الآية 45] فالرجلُ يكونُ عزيزًا مُطَاعًا، فإذا دَخَلَ الإسلامَ كان وَاحِدًا من عامةِ الناسِ، مَأْمُورًا مَرْؤُوسًا من غيرِه، فيشقُّ هذا عليه، وكذلك أوقاتُ التكاليفِ يتكاسلونَ عنها ويختارونَ عنها لَذَّاتِ الدنيا، فالذي يصومُ ويجوعُ ويعطشُ يُفَضِّلُ على ذلك أن يأكلَ ويشربَ ويجامعَ إلى غير ذلك من لَذَّاتِ الدنيا، فَلَذَّاتُ الدنيا عاجلةٌ، وتشغلُ الإنسانَ عن مَعَادِهِ، حتى يضيعَ عُمْرُهُ فيما لا يَنْبَغِي، فيدخلُ النارَ، فيندمُ

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.

ص: 274

حيث لا ينفعُ الندمُ.

وهذا [معنَى]

(1)

قوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} والعياذُ بالله {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} في دارِ الدنيا، مع أن الرسلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَحَذَّرَتْهُمُ الكفرَ، وقد نَصَّ اللَّهُ على أنهم شَهِدُوا على أنفسِهم بالدنيا بالكفرِ، والظاهرُ أنها شهادةٌ صريحةٌ منهم، وَنَصَّ على شهادتِهم في دارِ الدنيا بالكفرِ أيضًا حيث قال في سورةِ التوبةِ:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: الآية 17] وهذه الشهادةُ قِيلَ: هي شهادةُ لسانِ الحالِ، وقيل أيضًا: شهادةُ مقالٍ

(2)

، ونظيرُه قولُه في العادياتِ:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: الآيتان 6، 7]. بِنَاءً على التحقيقِ من أن الضميرَ عائدٌ إلى الإنسانِ

(3)

.

وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: اللَّهُ في آيةِ الأنعامِ هذه بَيَّنَ أنهم لَمَّا سُئِلُوا اعترفوا، وهذا جاء في مواضعَ كثيرةٍ - هذا الاعترافُ - كقولِه في سورةِ الزمرِ التي وَصَفَ فيها يومَ القيامةِ كأنك تنظرُ إليه:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: الآية 69] وقال فيه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} يَعْنُونَ في دارِ الدنيا: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: الآية 71] وَلَمَّا قالوا في سورةِ المؤمنِ لخزنةِ النارِ:

(1)

ما بين المعقوفين [

] زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: فتح القدير (2/ 344).

(3)

انظر: أضواء البيان (1/ 12)، قواعد التفسير (1/ 116، 279، 419).

ص: 275

{ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر: الآيتان 49، 50] وهذه الآياتُ تدلُّ على أنهم أَقَرُّوا بما كانوا فيه.

ونظيرُها قولُه في النساءِ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: الآية 42] بل يُقِرُّونَ بكل ما فَعَلُوا. قد يقولُ طالبُ العلمِ: هذه الآياتُ وأمثالُها تدلُّ على أنهم أَخْبَرُوا بالواقعِ ففي القرآنِ آياتٌ أُخَرُ تدلُّ على إنكارِهم وحلفِهم على الإنكارِ، كقولِه عنهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: الآية 23]{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: الآية 28] وقولُه جلَّ وعلا: {بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: الآية 74]. فهذه الآياتُ تدلُّ على إنكارِهم لِمَا جاؤوا به من الكفرِ، وهذه تدلُّ على إقرارِهم. وقد سُئِلَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما عن قولِه:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: الآية 42] مع قولِهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: الآية 23] فأجابَ ترجمانُ القرآنِ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ قال: إنهم إذا رأوا أهلَ الشركِ لَا خلاصَ لهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} فعندَ ذلك يختمُ اللَّهُ على ألسنتِهم وتشهدُ أيديهم وأرجلُهم بما كانوا يكسبونَ

(1)

. فهذه الأسرارُ التي يقولُها ويفصحُ عنها إنما هي أَيْدِيهِمْ وألسنتُهم وجلودُهم، كما قال:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22)} [فصلت: الآية 22] وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: الآية 21] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ

(1)

أخرجه ابن جرير (8/ 373 - 374)، وهو في الدر المنثور (2/ 164).

ص: 276

أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآية 65] قال ابنُ عباسٍ: فالاثنانِ من جهةِ اللسانِ والإقرارِ والإيضاحِ من جهةِ الجوارحِ والجلودِ والأَرْجُلِ والأَيْدِي.

وقال بعضُ العلماءِ: وجهُ الجمعِ بينَ الآياتِ: أن يومَ القيامةِ يومٌ طويلٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال فيه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: الآية 4] ولا خلافَ بينَ العلماءِ أن اليومَ الذي قيلَ فيه خمسينَ ألفَ سنةٍ أنه يومُ القيامةِ

(1)

. أما يومُ الألفِ السنةِ في (الحجِّ) ويومُ الألفِ السنةِ في (السجدةِ) ففيهما أقوالٌ غيرُ هذا

(2)

؛ لأن اللَّهَ يقولُ في الحجِّ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج: الآية 47] ويقولُ في السجدةِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: الآية 5] وقال في سورةِ المعارجِ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً (5)} [المعارج: الآيتان 4، 5] ويوم الخمسين ألف سنةً: هو يومُ القيامةِ بلَا خلافٍ

(3)

، إلا أن العلماءَ ذَكَرُوا أنه إنما يطولُ هذا الطولَ على الكافرينَ خاصةً، أَمَّا على المؤمنينَ فهو كنصفِ نهارٍ، وجاءت آيةٌ في سورةِ الفرقانِ تدلُّ على ذلك، وهي قولُه تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: الآية 24] لأنه سَمَّاهُ {مَقِيلاً} والمقيلُ: الاستراحةُ بالقيلولةِ في

(1)

ذكر فيه ابن كثير رحمه الله أربعة أقوال. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 418 - 420)، القرطبي (18/ 281 - 283).

(2)

انظر: القرطبي (12/ 78)(14/ 87)، ابن كثير (3/ 228، 457)، أضواء البيان (5/ 718).

(3)

في الجمع بين هذه الآيات انظر: الأضواء (6/ 503).

ص: 277

وسطِ النهارِ

(1)

.

وأتبعَ هذه الآيةَ بأنَّ هذا لخصوصِ المؤمنين دونَ الكافرين حيث قالَ بعدَ آيةِ الفرقانِ هذه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: الآية 26] وقال: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: الآيتان 9، 10]. فَيُفْهَمُ منه أنه على المؤمنينَ يسيرٌ. فإذا كان على الكافرينَ مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ فهذه أزمانٌ متطاولةٌ ومواطنُ متعددةٌ، ففي بعضِها ينكرونَ، وفي بعضِها يُقِرُّونَ، ومثلُ هذا الإقرارِ الذي أَقَرُّوا به في بعضِ الْمَوَاطِنِ، والإنكارِ الذي أنكروا به في بعضِ المواطنِ، والكلامُ إذا كانَ في أزمنةٍ مختلفةٍ لا تَنَاقُضَ بينَه أبدًا؛ لأن هذا الإثباتَ في وقتٍ، والنفيَ في وقتٍ آخَرَ، فلا تناقضَ بينَ الآياتِ

(2)

. وهذا معنَى قولِه: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} .

قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: الآيات 131 - 134].

يقول اللَّهُ جل وعلا: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام: الآية 131].

(1)

انظر: القرطبي (13/ 22)، دفع إيهام الاضطراب ص222، أضواء البيان (6/ 308 - 311).

(2)

انظر: ابن عطية (6/ 153)، البحر المحيط (4/ 223)، دفع إيهام الاضطراب ص81، 22، أضواء البيان (5/ 718)، (6/ 308 - 311).

ص: 278

اخْتَلَفُوا في موقعِ (ذلك) من الإعرابِ

(1)

، فَعَنْ سِيبَوَيْهِ: أنها تتعلقُ بمحذوفٍ، جملةٌ - مبتدأٌ وَخَبَرٌ - أي: الأمرُ ذلك الذي قَصَصْنَا عليكم. وذهبَ بعضُهم إلى أنها في مَحَلِّ نَصْبٍ، أي: فَعَلْنَا ذلك لأَجْلِ أن لم يَكُنْ رَبُّكَ مهلكَ القُرَى بِظُلْمٍ. و (أَنْ) هنا زَعَمَ بعضُهم أنها المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ. وَزَعَمَ بعضُهم أنها الْمُخَفَّفَةُ من الثقيلةِ. والمعنَى مُتَقَارِبٌ

(2)

.

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: ذلك الذي ذَكَرْنَا من أَنَّا أَرْسَلْنَا إلى معاشرِ الجنِّ والإنسِ رُسُلَنَا في دارِ الدنيا لِيُنْذِرُوهُمْ ويحذروهم حتى شَهِدُوا على أنفسِهم أن الرسلَ بَلَّغَتْهُمْ في دارِ الدنيا، وأنهم كانوا كَافِرِينَ، ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا واقعٌ من أجلِ أَنَّ رَبَّكَ لم يَكُنْ لِيُهْلِكَ القرى بظلمٍ، أي: لِيُهْلِكَهَا بظلمِها؛ بِكُفْرِهَا ومعاصِيها.

والقولُ الذي يقولُ: «لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِهِ لَهَا قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَهَا» ليسَ على الصحيحِ، وإنما التحقيقُ أن المعنَى: ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألسنةِ الرسلِ في دارِ الدنيا؛ لأَجْلِ أن رَبَّكَ لم يكن لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمِهَا، أي: بِكُفْرِهَا ومعاصيها، والحالُ: هُمْ غَافِلُونَ، لم يُنَبَّهُوا برسولٍ ولا بكتابٍ. بل لابد من إزالةِ الغفلةِ في دارِ الدنيا بإرسالِ الرسولِ والكتابِ

(3)

.

وهذه الآيةُ الكريمةُ صَرَّحَ اللَّهُ فيها بأنه لم يكن لِيُهْلِكَ القرى

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 125)، القرطبي (7/ 87)، البحر المحيط (4/ 224)، الدر المصون (5/ 155).

(2)

انظر: المصادر السابقة.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 124)، القرطبي (7/ 87)، البحر المحيط (4/ 224)، ابن كثير (2/ 177 - 178). طريق الهجرتين 413.

ص: 279

بظلمِها وهي غافلةٌ غيرُ مُنَبَّهَةٍ على ألسنةِ الرسلِ، مُنْذَرَةً مُحَذَّرةً على ألسنةِ الرسلِ.

فمعنَى قولِه: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} أي: غافلونَ عن حججِ اللَّهِ وتوحيدِه، لم يُنبَّهُوا عليها بإنذارِ الرسلِ، بل لابدَّ من إنذارِ الرسلِ.

والنفيُ هنا في قولِه: {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} مُنْصَبٌّ على الحالِ؛ ولأن المنفيَّ هنا إهلاكُهم في حالِ كونِهم غَافِلِينَ، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ لَا على إهلاكِ القرى؛ لأَنَّ القرى أُهلكوا، فالنفيُ مُنْصَبٌّ على الحالِ

(1)

، ونظيرُه:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: الآية 38] فالنفيُ مُنْصَبٌّ على اللعبِ الذي هو الحالُ لا على خلقِ السماواتِ والأرضِ.

وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن اللَّهَ لن يعذبَ قومًا لا بهلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ في الدنيا، ولا بعذابٍ في الآخرةِ، حتى يُنْذِرَهُمْ على ألسنةِ رسلِه في دارِ الدنيا، وَيُكَذِّبُوا. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى كثيرةٌ، كقولِه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن حكمةَ إرسالِ الرسلِ هي قَطْعُ حجةِ البشرِ عن خالقِهم، حيث قال:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: الآية 165]. وهذه الحجةُ التي كانت تكونُ للناسِ على اللَّهِ لو لم يُرْسِلِ الرسلَ أَوْضَحَهَا في أخرياتِ (طه)، وأشارَ لها في (القصص)، قال في (طه): {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 211).

ص: 280

قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: الآية 134] وقال في (القصص): {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: الآية 47] فهذه الآياتُ جاءت آياتٌ تُصَدِّقُهَا، أن اللَّهَ ما عَذَّبَ أحدًا بالنارِ إلا بعدَ إنذارِهم في دارِ الدنيا على ألسنةِ الرسلِ، ومن الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه تعالى في سورةِ (الملك):{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: الآيتان 8، 9].

وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا} إِنَّ كَلِمَةَ (كلما) تعمُّ أزمنةَ الإلقاءِ كُلَّهَا، فتُعمُّ جميعَ المُلْقَيْنَ من الأفواجِ في النارِ، أنهم جاءهم نذيرٌ في الدنيا. ونظيرُها من الآياتِ أن اللَّهَ لَمَّا قسم أهلَ المحشرِ في سورةِ الزمرِ قال:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} و (الذين) موصولٌ، وقد تَقَرَّرَ في علمِ الأصولِ

(1)

أن الموصولاتِ من صيغِ العمومِ؛ لأنها تَعُمُّ كل ما تشملُه صِلاتُهَا، قال:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وظاهرُ النَّصِّ أنه شاملٌ لكلِّ مَنْ صدق عليه اسمُ الكافرِ.

{إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: الآية 71] فمعنَى قولِهم: (بلى) أي: قد جاءَنا نذيرٌ، وَاللَّهُ ذَكَرَهُ عنهم في معرضِ التصديقِ والتسليمِ، ونظيرُه في سورةِ (فاطر) أنه لَمَّا قَسَّمَ الأُمَّةَ إلى مَنْ أُورِثُوا القرآنَ، وَقَسَّمَهُمْ إلى الطوائفِ الثلاثةِ: مقتصدٍ، وسابقٍ بالخيراتِ، وظالمٍ، وَوَعَدَ جميعَهم الجنةَ، لم يَبْقَ إلا الكفارُ، قال في جميعِهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 123)، نثر الورود (1/ 251).

ص: 281

يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: الآيتان 36، 37] وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} راجعٌ لجميعِِ الذين كَفَرُوا المذكورين في قولِه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} ونظيرُها من الآياتِ قولُه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر: الآيتان 49، 50] أي: جَاءَتْنَا رُسُلُنَا بالبيناتِ والآياتِ بنحوِ هذا كثيرة.

وهذه الآياتُ تدلُّ على أن أهلَ الفترةِ معذورونَ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام: الآية 131] ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)} [الإسراء: الآية 15] وَتَمَسَّكَ بظاهرِ هذه الآياتِ جماعاتٌ من أهلِ العلمِ.

وَذَهَبَ جماعاتٌ آخرونَ، إلى أن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ، وأن كلَّ مَنْ ماتَ كافرًا يعبدُ الوثنَ، أنه في النارِ، وإن لم يَأْتِهِ نذيرٌ. واستدلوا بظواهرِ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وبأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

والحاصلُ أن هذه المسألةَ مسألةٌ اصْطَدَمَتْ فيها عقولُ الفحولِ، واختلفَ فيها العلماءُ، وجاءَ كُلٌّ منهم بحججٍ وأدلةٍ، وسنذكرُ طَرَفًا من أدلةِ الجميعِ، ومناقشةِ أدلتِهم، ثم نذكرُ ما يُرَجِّحُهُ الدليلُ إن شاء اللَّهُ تعالى

(1)

.

(1)

في هذا المسألة راجع: مجموع الفتاوى (17/ 308 - 310) أحكام أهل الذمة (2/ 648 - 656)، لوامع الأنوار البهية (2/ 398)، تفسير ابن كثير (3/ 28 - 32) دفع إيهام الاضطراب 178 - 186، نثر الورود (1/ 45)، أضواء البيان (3/ 471 - 484)، نواقض الإيمان الاعتقادية (1/ 294 - 301)، الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 209 - 215، منهج الجدل والمناظرة (2/ 827).

ومما يتصل بهذا الموضوع مسألة (أطفال المشركين)، وقد أطال الكلام عليها الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (18/ 96 - 141)، وفي الاستذكار (8/ 390 - 408)، وابن القيم في طريق الهجرتين 388 فما بعدها. وانظر مجموع الفتاوى (24/ 372).

ص: 282

أما الذين قالوا: إن مَنْ مَاتَ في الفترةِ معذورٌ، فدلالةُ قولِه: الآياتُ - التي ذَكَرْنَا - القرآنيةُ، كقولِه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15]{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: الآية 131]{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: الآية 165]{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: الآية 134] وأن الله بَيَّنَ أنه ما أَدْخَلَ أحدًا النارَ إلا بعدَ الإنذارِ والإعذارِ في دارِ الدنياِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)} [الملك: الآيتان 8، 9] إلى آخِرِ ما ذَكَرْنَا من الآياتِ.

أما الذين قالوا: إن الكفرَ وعبادةَ الأوثانِ لا يُعْذَرُ فيها أحدٌ، وأن كُلَّ مَنْ ماتَ كَافِرًا يعبدُ الأوثانَ فهو في النارِ - فَاعْلَمُوا أَوَّلاً: أن الفروعَ كالصيامِ والحجِّ والصلاةِ والواجباتِ والمحرماتِ فهذا محلُّ إجماعٍ بين العلماءِ أن اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ به أَحَدًا إلا بعدَ إبانةِ الرسلِ، وإنما الخلافُ فِي شهادةِ أن لا إلهَ إِلَاّ اللَّهُ وعبادةِ الأوثانِ من دُونِ

ص: 283

اللَّهِ. هذا محلُّ خلافِ العلماءِ، الذين قالوا: إِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا بِاللَّهِ يعبدُ الأصنامَ أنه في النارِ، ولو لم يَأْتِهِ نذيرٌ - استدلوا بظواهرِ آياتٍ دَلَّتْ على ذلك وبأحاديثَ، وَنَاقَشَهُمْ فيه خصماؤهم مناقشاتٍ سَنُلِمُّ ببعضِها. قالوا: قال اللَّهُ: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: الآية 18]{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91)} [آل عمران: الآية 91]{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: الآية 31]{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: الآية 72]{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} [الأعراف: الآية 50]{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: الآية 48] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.

واستدلوا بأحاديثَ ثابتةٍ في الصحيحِ، صَرَّحَ فيها النبيُّ بتعذيبِ بعضِ مَنْ مَاتَ في الفترةِ، كما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رجلٌ فقال: أَيْنَ أَبِي؟ قال: «فِي النَّارِ» ، فلما ولَّى الرجلُ دعاه، فقال:«إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»

(1)

فهذا ثابتٌ من لفظِ النبيِّ في صحيحِ مسلمٍ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استأذنَ رَبَّهُ أن يزورَ أُمَّهُ فَأَذِنَ له أن يَزُورَهَا، واستأذنَه أن يستغفرَ لها فلم يُؤْذَنْ له. وفي بعضِ رواياتِه عندَ مسلمٍ: فَزَارَ قَبْرَهَا فَبَكَى وَأَبْكَى، وقال:

(1)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: (بيان أن من مات على الكفر فهو في النار

) حديث رقم: (203)(1/ 191).

ص: 284

«فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»

(1)

.

وأمثالُ هذا من الأحاديثِ الثابتةِ في تعذيبِ بعضِ أهلِ الفترةِ. وهذا القولُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ في الفترةِ على الإشراكِ، وعلى دِينِ الآباءِ، كما قال أبو طالبٍ في آخِرِ كَلَامِهِ:«إنه على دِينِ الأشياخِ» الذين عَاشُوا في الفترةِ، وأنزلَ اللَّهُ فيه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: الآية 56] وَلَمَّا استغفرَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْ ذَلِكَ) واستغفرَ المسلمون لِمَوْتَاهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ في ذلك:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية

(2)

[براءة: الآية 113]. وَلَمَّا قالوا: «لَنَا فِي إبراهيمَ أسوةٌ حسنةٌ، وقد استغفرَ إبراهيمُ لأبيه» . أنزلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}

(3)

[التوبة: الآية 114] والموعدةُ التي وَعَدَهَا إياه: هي المذكورةُ في سورةِ (مريم): {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي

(1)

صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم:(976)(2/ 671).

(2)

البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله. حديث رقم: (1360)(3/ 222). وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم:(3884، 4675، 4772، 6681) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت

حديث رقم: (24، 25)(1/ 54 - 55) من غير الزيادة التي في آخره، وهي قوله: (فاستغفر المسلمون

) وهي عند الواحدي في أسباب النزول ص 261 - 262.

(3)

أخرج ابن جرير في هذا المعنى جملة من المراسيل عن مجاهد (17326) وعمرو بن دينار (17327) ..

ص: 285

مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: الآيتان 46، 47] ثم إن اللَّهَ في سورةِ الممتحنةِ اسْتَثْنَى الاستغفارَ للمشركين من أسوةِ إبراهيمَ، حيث قال:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} ثم استثنَى من هذه الأسوةِ: {إِلَاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: الآية 4] فلا أسوةَ لكم بإبراهيمَ فيه.

وهذا القولُ الذي يقولُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مشركًا دخلَ النارَ، ولو لم يَأْتِهِ نذيرٌ، جَزَمَ به النوويُّ في شرحِ مسلمٍ

(1)

، وحكى عليه القرافيُّ الإجماعَ في شرحِ التنقيحِ في الأصولِ

(2)

.

وأجابَ مَنْ قَالَ بهذا عن الآياتِ التي ذَكَرْنَا من أربعةِ أَوْجُهٍ:

قال: قولُه مثلاً: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)} [الإسراء: الآية 15] قالوا: يعنِي عذابَ الدنيا، كما وقعَ لقومِ نوحٍ من الإغراقِ، وقومِ هودٍ من الريحِ العقيمِ، وقومِ لوطٍ من أن اللَّهَ رَفَعَ أرضَهم إلى السماءِ فجعلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. أما عذابُ الآخرةِ فلم يُقْصَدْ، وحكى القرطبيُّ وأبو حيانَ على هذا أن عليه إجماعَ المفسرين

(3)

.

(1)

عبارة النووي: «وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم» ا. هـ شرح مسلم (1/ 482).

(2)

انظر: شرح تنقيح الفصول ص 297. ولا يخفى أن الإجماع لم ينعقد على ذلك.

(3)

تتبعت جميع الآيات التي لها تعلق بهذا الموضوع في التفسيرين المذكورين فلم أجد لهذا الإجماع ذكرا. ولعله وهم من الشيخ رحمه الله بدليل أنه ذكر جميع هذه التفاصيل في أضواء البيان، وفي هذه الجزئية قال:«ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني، وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور» ا. هـ. الأضواء (3/ 476). وانظر: القرطبي (10/ 231)، والبحر المحيط (6/ 16).

ص: 286

الوجهُ الثاني: قالوا: إن الواضحَ الذي لا يَلْتَبِسُ على أحدٍ، وهو عبادةُ الأوثانِ، لا عذرَ فيها؛ لأن عَابِدِيهَا يعلمونَ في قرارةِ أنفسِهم أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وأنها حجارةٌ، ومثل هذا لا يُعْذَرُ فيه أحدٌ؛ ولذا لَمَّا قال إبراهيمُ لقومِه:{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: الآية 63] أجابوه فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء: الآية 65] قالوا: والدليلُ على أنهم يعلمونَ أن الأصنامَ لَا تنفعُ ولَا تَضُرُّ، وأنها جماداتٌ لا يُعْذَرُ أحدٌ في عبادتِها: أنهم إذا نَزَلَتْ بهم شدائدُ، أو قامت عليهم كُرباتٌ تَرَكُوا دعاءَ الأصنامِ، وَأَخْلَصُوا الدعاءَ لِلَّهِ وحدَه؛ لأنهم يعرفونَ في أنفسِهم أنه النافعُ الضارُّ، الْمُحْيِي المميتُ، الذي بيدِه الخيرُ والشرُّ، والآياتُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ جِدًّا، كقولِه:{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: وخافوا الهلاكَ في البحرِ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: الآية 32] وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} أي: وَهَاجَتْ عليهم أمواجُ البحرِ، وَخَافُوا الهلاكَ:{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: الآية 65] وقولُه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء: الآيات 67 - 69] وقال جل وعلا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ

ص: 287

مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ

أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23] والآياتُ في مثل هذا كثيرةٌ، ومعلومٌ في التاريخِ أن سببَ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مكةَ خَرَجَ عكرمةُ بنُ أَبِي جهلٍ لشدةِ عداوتِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قَتَلَ أَبَاهُ يومَ بدرٍ. شَرَدَ هاربًا إلى الحبشةِ، فَرَكِبَ في قومٍ سفينةً من البحرِ الأحمرِ إلى الحبشةِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا دَاخِلَ البحرِ هَاجَتْ عليهم الريحُ، وَاضْطَرَبَتْ أمواجُ البحرِ، ورأوا الهلاكَ، وَظَنُّوا الموتَ، فإذا جميعُ مَنْ في السفينةِ يَتَنَادَوْنَ ويقولونَ من أطرافِ السفينةِ: أَلَا فَلْيَحْذَرْ كُلُّ أحدٍ منكم أن يدعوَ في هذا الوقتِ غيرَ اللَّهِ؛ فإنه لا يُنْقِذُ من هذه الكرباتِ إلا هو وحدَه، فَفَهِمَهَا عكرمةُ، ثم قال: وَاللَّهِ إن كانَ لا ينقذُ من كرباتِ البحرِ إلا هو، فلَا ينقذُ من ظلماتِ البرِّ إلا هو. ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ عَهْدًا إن أنقذتني من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فَلأَجِدَنَّهُ رَؤُوفًا رحيمًا. فهدأ البحرُ وسكنوا، فرجعَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْلَمَ، وصارَ من فضلاءِ الصحابةِ

(1)

. قالوا: كونُ الكفارِ يعلمونَ أن اللَّهَ هو النافعُ الضارُّ، وأن الأصنامَ جماداتٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنهم إذا كان وقتُ الشدائدِ لجؤوا إلى مَنْ بِيَدِهِ الأمرُ والنهيُ، هذا يدلُّ على أنهم غيرُ مَعْذُورِينَ في عبادةِ الأوثانِ.

الوجهُ الثالثُ: زعموا أن عندَهم بقيةُ نذارةٍ من إرثِ دينِ إبراهيمَ والرسلِ الذين أُرْسِلُوا قَبْلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

(1)

مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من سورة الأنعام.

ص: 288

الوجهُ الرابعُ: هو ما ذَكَرْنَا من الأحاديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من أنه ذَكَرَ أن بعضَ أهلِ الفترةِ في النارِ.

وأجابَ القائلونَ [بِعُذْرِهِمْ بالفترةِ]

(1)

عن هذه الأوجهِ الأربعةِ رَادِّينَ لها، مُجِيبِينَ عن كُلِّ وَاحِدٍ، فقالوا: قولكم: «إِنَّ الْعَذَابَ يَخْتَصُّ بِالدُّنْيَا» . فالدليلُ على أنه باطلٌ أَمْرَانِ:

أحدُهما: أنه خلافُ ظاهرِ القرآنِ، واللَّهُ لم يُخَصِّصْ بعذابِ الدنيا دونَ عذابِ الآخرةِ. فلم يَقُلْ: وما كنا مُعَذِّبِينَ في الدنيا. حتى تقصروا الظاهرَ عليه، وظاهرُ القرآنِ لا يجوزُ العدولُ عنه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه

(2)

، ولا دليلَ عندكم من ظاهرِ القرآنِ.

الوجهُ الثاني قالوا: إِنَّ اللَّهَ صَرَّحَ لنا في كتابِه أن الذين عَذَّبَهُمْ في النارِ أَنْذَرَهُمْ في دارِ الدنيا على ألسنةِ رُسُلِهِ، كقولِه:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} [الملك: الآيتان 8، 9] إلى آخِرِ الآياتِ التي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا.

وَأَجَابُوا عن كونِ الأمرِ الواضحِ لا عُذْرَ فيه بِأَمْرَيْنِ:

أحدُهما: أن ظاهرَ القرآنِ لم يُفَرِّقْ بَيْنَ الأمرِ الواضحِ وغيرِه، ولا يجوزُ العدولُ عن ظاهرِه إلا بدليلٍ.

الثانِي: أن اللَّهَ صَرَّحَ بأنه ما عَذَّبَ على ذلك الأمرِ الواضحِ أَحَدًا إلا بعدَ إنذارِ الرسلِ في دارِ الدنيا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} [الملك: الآيتان 8، 9].

أما قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانت عندهم بقيةُ نَذَارَةٍ مِنْ نَذَارَةِ

(1)

ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.

ص: 289

إبراهيمَ وغيرِه من الرسلِ الذين كانوا قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فهذا الوجهُ جَزَمَ به النوويُّ في شرحِ مسلمٍ

(1)

، وَمَالَ إليه ابنُ قاسمٍ العباديُّ في الآياتِ البيناتِ

(2)

، وهو قولٌ باطلٌ بشهادةِ القرآنِ، وأنا أستغربُ كيف يقولُه عالمٌ كالعباديِّ والنوويِّ؟! مع أن الآياتِ القرآنيةَ صريحةٌ في بطلانِه غايةَ الإبطالِ؛ لأن معناه أن الأُمَّةَ التي بُعِثَ فيها النبيُّ كان مَنْ مَاتَ منها يُعَذَّبُ بسببِ نَذَارَةِ إبراهيمَ، وَاللَّهُ يصرحُ فِي آياتٍ كثيرةٍ أن الأمةَ التي بَعَثَ فيها مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ عندَها نذارةٌ أَلْبَتَّةَ مِنْ أَحَدٍ، من ذلك قولُه في سورةِ (يس):{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: الآية 6] و (ما) في قولِه: {مَّا

أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} نافيةٌ قَطْعًا. وَمَنْ قال: إنها موصولةٌ فهو غالطٌ. والدليلُ على أنها نافيةٌ أنه قال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} [يس: الآية 6] ولو كانت موصولةً لَمَا قال: {فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} . ومنها قولُه في سورةِ القصصِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: الآية 46] فَصَرَّحَ بأنهم ما أتاهم مِنْ نذيرٍ، وقد تَقَرَّرَ فِي علمِ الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ إن زِيدَتْ قبلَها لفظةُ (مِنْ) كانت نَصًّا صريحًا فِي العمومِ

(3)

، وقاله شيخُ النحوِ سيبويه

(4)

إنها إن زِيدَتْ قَبْلَهَا (مِنْ) كانت صَرِيحًا في العمومِ، فهي تَعُمُّ نَفْيَ كُلِّ نَذِيرٍ. ومنه قولُه تعالى فِي سورةِ سبأ:{وَمَا آتَيْنَاهُم مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44)} [سبأ: الآية 44] ومنه قولُه في سورةِ

(1)

انظر: شرح مسلم (1/ 482).

(2)

انظر: الآيات البينات (4/ 262).

(3)

مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

(4)

الكتاب (2/ 315، 316)، (4/ 225).

ص: 290

السجدةِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [السجدة: الآية 3] إِذِ اللَّهُ تعالى يُصَرِّحُ بأنهم لم يَأْتِهِمْ نذيرٌ، فليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن [18/أ] عندهم نَذَارَةٌ باقيةٌ يُعَاقَبُونَ /عليها. ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [المائدة الآية 19] فَصَرَّحَ بأنها فَتْرَةٌ.

أما الوجهُ الرابعُ، وهو ذَكَرَتْهُ بعضُ الأحاديثِ، كحَدِيْثَي مسلمٍ الذي ذَكَرْنَا، وهو محلُّ مناقشةٍ طويلةٍ عريضةٍ بَيْنَ العلماءِ.

أجابَ المخالفونَ قالوا: حَدِيثَا مُسْلِمٍ هما خَبَرَا آحَادٍ، فلا يُقَدَّمَانِ على القاطعِ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] دليلٌ قاطعٌ متواترٌ محفوظٌ لا يمكنُ أن يكونَ كَذِبًا بِحَالٍ، وهو صريحُ الدلالةِ ظاهرُها، وحديثُ مسلمٍ وما جَرَى مَجْرَاهُ أخبارُ آحَادٍ، والمتواتراتُ تُقَدَّمُ على الآحادِ.

وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا، قالوا: لَا نُسَلِّمُ هذا؛ لأن حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ ونحوِهما أحاديثُ خاصةٌ، والآياتُ التي ذَكَرْتُمْ عامةٌ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ على العامِّ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه لَا يتعارضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، بل يُقَدَّمُ الخاصُّ على العامِّ، إلا عندَ الإمامِ أبِي حنيفةَ رحمه الله

(1)

- فإن المقررَ في أصولِه: أن الخاصَّ لَا يُقَدَّمُ على

(1)

في مسألة تقديم الخاص على العام انظر: الفروق للقرافي (1/ 209 - 212)، البرهان للجويني (2/ 773، 774)، نهاية السول (2/ 162)، (3/ 239)، إحكام الفصول 160، إيثار الحق على الخلق 102. وانظر هذه المسألة وما ينبني عليها من الفروع في كتاب: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص 215 - 229، وتفسير النصوص لمحمد أديب الصالح (2/ 83) فما بعدها.

ص: 291

العامِّ؛ لأن دلالةَ العمومِ عندَه قطعيةٌ، فيرجحُ بينَهما

(1)

؛ وَلِذَا كانَ جمهورُ العلماءِ، منهم الأئمةُ الثلاثةُ، يخصصونَ عمومَ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ»

(2)

بخصوصِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»

(3)

وكان أبو حنيفةَ يقول: هذا الحديثُ خاصٌّ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» لا أُقَدِّمُهُ على العامِّ الذي هو: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» وقد جَهِلْنَا التاريخَ، فلم نَعْرِفْ أيهما المتأخرُ حتى نُقَدِّمَهُ؛ ولذا أَوْجَبَ الزكاةَ في كُلِّ شيءٍ خرج من الأرضِ قليلاً أو كثيرًا، تبرئةً للذمةِ، وعدمِ تقديمٍ للخاصِّ على العامِّ

(4)

.

وَأَجَابَ المخالفونَ عن هذا بمناقشةٍ أُخْرَى، قالوا: لو سَلَّمْتُمْ هذا الْخَاصَّ، وقلتُم: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه في بعضِ الأحاديثِ أن اللَّهَ عَذَّبَ أحدَ أهلِ الفترةِ - لو قَدَّمْنَا هذا الخاصَّ - لَانْتَفَتِ الحكمةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بها، وَأَثْنَى بها على نفسِه؛ لأَنَّ اللَّهَ تَمَدَّحَ وَأَثْنَى على نفسِه بأنه بالغٌ من العدلِ والإِنْصَافِ مَا لَمْ يُعَذِّبْ

(1)

انظر: تيسير التحرير (1/ 267، 271).

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب العشر فيما يُسقى من السماء

، حديث رقم:(1483)، (3/ 347) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ مقارب لما ذكر الشيخ رحمه الله هنا. وأخرج مسلم نحوه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، كتاب الزكاة، حديث رقم:(981)، (2/ 675).

(3)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب ما أُدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم:(1405)، (3/ 271) وأطرافه:(1447، 1459، 1484). ومسلم في الزكاة، حديث رقم:(979)، (2/ 673) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كما أخرجه من حديث جابر رضي الله عنه (980)، (2/ 675) ..

(4)

انظر: المبسوط للسرخسي (3/ 3).

ص: 292

[معه]

(1)

أحدًا إلا بعدَ الإنذارِ في دارِ الدنيا، وأنه لو عَذَّبَ أَحَدًا لكانَ بذلك لأحدٍ حجةٌ، حيث قال:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: الآية 165] قالوا: فلو عَذَّبَ إنسانًا واحدًا لَانْحَرَمَتْ هذه الحكمةُ، وقال له ذلك الإنسانُ: لولَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ رسولاً فَأَتَّبِعَ آياتِك قبلَ أن أَذِلَّ أو أَخْزَى، وَصَارَتْ حكمةُ آيةِ (طه) منخرمةً أيضًا، ولَا يمكنُ هذا.

وأجابَ المعارضونَ عن هذا أيضًا، قالوا: كُلُّ ما أَخْرَجَهُ الدليلُ الخاصُّ يخرجُ من العامِّ، ولا يقدحُ في حكمةِ الْعِلَّةِ؛ لأنه قد يكونُ فِي ذلك الإنسانِ خصوصيةٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ، فَأَخْرَجَهُ من العمومِ لأَجْلِهَا. وهذا مَبْنِيٌّ على مبحثٍ أصوليٍّ عظيمٍ: هل عدمُ اطرادِ العلةِ نقضٌ لها؟ أو هو تخصيصٌ لعمومِها

(2)

؟ إلى غيرِ ذلك مِنَ الأبحاثِ. فهذا نموذجٌ قليلٌ من مناظراتِ العلماءِ في هذه المسألةِ.

والتحقيقُ في هذه المسألةِ - إن شاءَ اللَّهُ - هو ما حَقَّقَهُ العلامةُ ابنُ كثيرٍ في شرحِ قولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: الآية 15] وغيرُه من الْمُحَقِّقِينَ: أن اللَّهَ (جل وعلا) يَعْذُرُ أهلَ الفترةِ في دارِ الدنيا، ثم إنه يومَ القيامةِ يَمْتَحِنُهُمْ بالنارِ، ويقولُ لهم: اقْتَحِمُوا في هذه النارِ، فَمَنِ اقْتَحَمَ فيها دَخَلَ الجنةَ، وهو الذي كان يُطِيعُ الرسلَ لو جَاءَتْهُ، وهو المؤمنُ في عِلْمِ اللَّهِ الداخلُ للجنةِ، وَمَنْ تَمَرَّدَ وَعَصَاهُ، وامتنعَ أن يدخلَها دخلَ النارَ، وهو الذي كان

(1)

ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 135 - 142، 261) فما بعدها، المذكرة في أصول الفقه 278، 292، نثر الورود (2/ 527)، الأضواء (3/ 479 - 481).

ص: 293

يَعْصِي الرسلَ لو جَاءَتْهُ ولَا يُصَدِّقُهَا، وهو الكافرُ في عِلْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما كَانُوا إليه صَائِرِينَ. وهذا المعنَى جَاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كثيرةٍ، منها أحاديثُ صحاحٌ بشهادةِ أئمةِ الحديثِ الْحُفَّاظِ، ومنها أحاديثُ حِسَانٌ، ومنها أحاديثُ ضعافٌ تَعْتَضِدُ بالصحاحِ وَالْحِسَانِ، وهذه الأحاديثُ الواردةُ بهذا هي نَصٌّ في مَحَلِّ النزاعِ تجتمعُ عليها الأدلةُ. وقد أَنْكَرَهَا ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله (2) - قال: هذه الأحاديثُ لَا يمكنُ أن تَصِحَّ؛ لأن القيامةَ دارُ جزاءٍ وليست دارَ عملٍ حتى يُكَلَّفُوا فيها فيدخلوا الجنةَ والنارَ بالتكليفِ فيها؛ لأنها دارُ جزاءٍ لا دارَ عملٍ، وهذا الذي قَالَهُ ابنُ عبدِ البرِّ لَا تُرَدُّ به النصوصُ الصحيحةُ الثابتةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد دَلَّ القرآنُ والسنةُ الصحيحةُ أن اللَّهَ يكلفُ خلقَه في عرصاتِ المحشرِ بعضَ التكاليفِ، وقد ثَبَتَ في سورةِ القلمِ أنه يَأْمُرُ جميعَهم بالسجودِ، وأَمْرُهُمْ بالسجودِ تكليفٌ في عرصاتِ المحشرِ، كما سيأتِي فيِ قولِه:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: الآيتان 42، 43] لأنه قد جاءَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أن اللَّهَ يدعوهم ذلك اليومَ إلى السجودِ، كما دَلَّتْ عليه الآيةُ.

فأما المؤمنونَ فيسجدونَ فيرفعونَ مِنَ السجودِ وعلى وجهِهم نضرةُ النعيمِ، وأما الكافرُ فيكونُ ظهرُه كالصفيحةِ فلا يستطيعُ أَنْ يَسْجُدَ، وإذا أراد تَكَلُّفَ السجودِ خَرَّ على

ص: 294

قَفَاهُ (1)؛ لأنه لا يستطيعُ السجودَ، كما قال تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} .

وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديثِ الصحاحِ في قصةِ الرجلِ المشهورةِ الذي هو آخِرُ أَهْلِ النارِ خُرُوجًا من النارِ أنه يقول: «يَا رَبِّ أَخِّرْنِي عَنِ النَّارِ. يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ أَخَّرْتُكَ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: لَكَ عَلَيَّ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنْ لَا أَطْلُبَكَ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ لِي كَذَا، أَوْ: إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَيَقُولُ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ!! فَيُعْطِيهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ. إِلَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (2).

والتكاليفُ إنما هي عهودٌ ومواثيقُ تُؤْخَذُ على الإنسانِ أن يفعلَ أو أن لَا يفعلَ. فهذا هو الصوابُ في هذه المسألةِ، أنهم معذورونَ في الدنيا بشهادةِ الآياتِ، وأن اللَّهَ يومَ القيامةِ يمتحنُهم بنارٍ يأمرُهم بالدخولِ فيها، فَمَنْ دَخَلَهَا دخلَ الجنةَ

(1)

،

وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه كان يُطِيعُ الرسلَ لو جاءَته،

(1)

ورد في ذلك عدة أحاديث من أشهرها:

1 -

حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه عند أحمد (4/ 24)، وأبي نعيم في معرفة الصحابة، (2/ 281)، والطبراني في الكبير (1/ 287)، وابن حبان (الإحسان (9/ 225)، والبيهقي في الاعتقاد ص 76، والبزار (كشف الأستار 3/ 33)، والضياء في المختارة (4/ 254، 256). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص 77، وابن القيم في طريق الهجرتين 397، والهيثمي في المجمع (7/ 216)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 419).

2 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد (4/ 24)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 176)، والضياء في المختارة (4/ 255 - 256)، والبيهقي في الاعتقاد ص 77، والبزار (كشف الأستار 3/ 33 - 34). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص 77، وابن تيمية في الدرء (8/ 399)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 654)، والهيثمي في المجمع (7/ 216)، والألباني في تخريجه لكتاب السنة (1/ 176)، والسلسلة الصحيحة (3/ 419).

وللحديث طرق وشواهد عن عدد من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك. انظر في ذلك: مسند أبي يعلى (7/ 225)، المعجم الكبير للطبراني (20/ 605)، التمهيد (18/ 127 - 130)، كشف الأستار عن زوائد البزار (3/ 34)، الاعتقاد للبيهقي ص 77، مختصر الفتاوى المصرية 643، طريق الهجرتين 398، أحكام أهل الذمة (2/ 650 - 653)، تفسير ابن كثير (3/ 29 - 30)، مجمع الزوائد (7/ 215 - 217)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 603).

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: «وقد رُوي بأحاديث حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يكلف في الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة، يُمتحنون يوم القيامة

» ا. هـ مختصر الفتاوى المصرية ص 643، وقال ابن كثير في التفسير (3/ 31):«إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها» ا. هـ، وقال الحافظ في الفتح (3/ 246):«وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة من طرق صحيحة» ا. هـ.

ص: 295

وَمَنِ امتنعَ دخلَ النارَ، وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه لو جاءته الرسلُ لَكَذَّبَهَا. وقولُ ابنِ عبدِ البرِّ: إن هذا تكليفٌ بِمُحَالٍ، وأن القولَ للرجلِ:«ادْخُلِ النَّارَ» هذا تكليفٌ بما لا يطاقُ!! هذا لا يَرُدُّ - أيضا - الأحاديثَ الصحيحةَ، وقد جاء أمثالُه في الشرعِ، فقد ثَبَتَ في الأحاديثِ الصحاحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في علامةِ الأعورِ - المسيحِ الدجالِ - أن معه جنةً ونارًا، والنبيُّ يأمرُ المؤمنين أن يقتحموا في نارِه التي معه؛ لأنهم إن اقتحموها وجدوها ماءً عذبًا وَشَرِبُوا منه، وأن ماءَه نارٌ

(1)

،

ففي هذه الأحاديثِ الصحيحةِ أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم باقتحامِ النارِ التي مع الدجالِ، وقد أَمَرَ اللَّهُ بني إسرائيلَ - قد بَيَّنَّا أنه لا يتوبُ عليهم حتى يقتلوا أنفسَهم، كما قَدَّمْنَاهُ في سورةِ البقرةِ:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: الآية 54] فلم يَقْبَلْ توبةَ أحدٍ منهم إلا بعدَ أن يُقدِّمَ نفسَه للموتِ فَيُقْتَل، فمعنَى:{فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي: فَلْيَقْتُلِ الذين لم يَعْبُدُوا العجلَ منكم الذين عَبَدُوهُ، وليس المعنَى: أن

(1)

ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها:

1 -

حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} . حديث رقم (3338)، (6/ 370)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم:(2936)، (4/ 2250).

2 -

حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم:(7130)، (13/ 90)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم:(2934)، (4/ 2248).

3 -

حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (7130)، ومسلم (2935) بمثل حديث حذيفة.

() ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها:

1 -

حديث أبي هريرة عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} . حديث رقم (3338)، (6/ 370)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال، حديث رقم:(2936)، (4/ 2250).

2 -

حديث حذيفة عند البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، حديث رقم:(7130)، (13/ 90)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال، حديث رقم:(2934)، (4/ 2248).

3 -

حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري (7130)، ومسلم (2935) بمثل حديث حذيفة.

ص: 297

الإنسانَ يقتلُ نفسَه بيدِه. حتى تَابَ اللَّهُ عليهم، وَرَفَعَ القتلَ عن بقيتِهم. وهذا معنَى قولِه:{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: الآية 131].

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: الآية 132].

قرأه عامةُ القراءِ، غير ابنِ عامرٍ:{عَمَّا يَعْمَلُونَ} وقرأه ابنُ عامرٍ: {عما تَعْمَلُونَ}

(1)

والمعنَى واحدٌ.

وقولُه (جل وعلا): {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} التنوينُ: تنوينُ عِوَضٍ. أي: ولكلِّ الناسِ من كافرينَ ومؤمنينَ على التحقيقِ. خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بالكافرين

(2)

. لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم درجاتٌ.

والدرجاتُ: جمعُ الدرجةِ، وهي المرتبةُ والمنزلةُ

(3)

. أي: لِكُلِّ عاملٍ مطيعٍ وعاصٍ، لكل واحدٍ من المطيعينَ والعاصينَ درجاتٌ. أي: منازلُ ومراتبُ يَسْتَحِقُّونَهَا بأعمالهم، فمنهم من هو بدرجتِه في أعلى الجنانِ، ومنهم من هو بأعمالِه في دركاتِ النارِ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أن الآخرةَ يتفاوتُ أهلُها بدرجاتِهم

(4)

، كما في قولِه:{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: الآية 21] وَبَيَّنَ أن أهلَ النارِ يتفاوتونَ في دركاتِهم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: الآية 145] وفي

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 202.

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 224 - 225).

(3)

انظر: المفردات (مادة: درج)310.

(4)

انظر: أضواء البيان (2/ 211).

ص: 298

القراءةِ الأُخْرَى: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}

(1)

فهم يتفاوتونَ، ففي أعمالِ أهلِ الشرِّ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في النارِ. ولأعمالِ أهلِ الخيرِ تفاوتٌ، تتفاوتُ بها منازلُهم في الجنةِ. وهذا معنَى قولِه:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} .

والآيةُ فيها موعظةٌ عظيمةٌ، يعني: أيها المخاطبونَ ما دُمْتُمْ في دارِ الدنيا فَاعْلَمُوا أن الدركاتِ في النارِ والدرجاتِ في الآخرةِ إنما تُنَالُ بالأعمالِ في الدنيا، فَرَاقِبُوا اللَّهَ وَاجْتَهِدُوا في أن تكونَ أعمالُكم صالحةً، لأَنْ تكونَ درجاتُكم ومنازلُكم في الجنةِ عاليةً. وكذلك يُحذِّرُ من أن تكونوا في دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله - وهذا معنَى قولِه:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} .

{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، و (ما) نافيةٌ، والباءُ في قولِه:{بِغَافِلٍ} هي لتوكيدِ النفيِ؛ لأن للإسنادِ الخبريِّ المنفيِّ توكيدًا كما للإيجابيِّ توكيدًا، فلو قلتَ مثلاً:«زيدٌ قائم» . فهذا ليس فيه توكيدٌ، ولو قلتَ في الإثباتِ:«إن زيدًا لقائم» . فقد أَكَّدْتَ إثباتَ قيامِه بـ (إن) واللامِ. ولو قلتَ: «ما زيدٌ بقائمٍ» . فقد أَكَّدْتَ نفيَ قيامِه بـ (الباءِ)، والباءُ في النفيِ تُفِيدُ التوكيدَ الذي تُفِيدُهُ (إنَّ) في حالةِ الإثباتِ. وهي توكيدٌ للنفيِ، والجارُّ والمجرورُ في مثلِ هذا هو مفردٌ، وليس بِشِبْهِ جملةٍ؛ ولذا لا يُقَدَّرُ له الكونُ ولا الاستقرارُ، فلا يجرى على قولِ ابنِ مالكٍ

(2)

:

وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ

نَاوِينَ مَعْنَى (كَائِنٍ) أَوْ (اسْتَقَرْ)

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 182 - 183.

(2)

الخلاصة ص 17، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (1/ 162).

ص: 299

فهذا لا يُقدَّر فيه كَوْنٌ ولا استقرارٌ؛ لأنه مفردٌ زِيْدَتْ به (باءٌ) للتوكيدِ، ليس بِشِبْهِ جُمْلَةٍ.

والغفلةُ هي: الغفلةُ عن الشيءِ وخروجُه عن الذهنِ للاشتغالِ بغيرِه، فَاللَّهُ لا يغفلُ عما يعملُه الظَّلَمَةُ، فهو (جل وعلا) لا يغفلُ عن شيءٍ، ولكنه يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ. وقد نَهَى اللَّهُ خَلْقَهُ أن يظنوا به هذه الغفلةَ، قال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: الآية 42] يعني: على قولِه: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}

(1)

[الأنعام: الآية 132] ليس بغافلٍ عما يعملونَه من الكفرِ، فهو مُدَّخِرُهُ لهم، ومجازِيهم عليه، وَمُخَلِّدُهُمْ به بالنارِ. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ليس اللَّهُ غافلاً عما تعملونَ أيها المسلمونَ من الخيرِ والحسناتِ، فهو مُدَّخِرُهُ لكم ومجازِيكم عليه، فجميعُ الأعمالِ تُحْفَظُ عند اللَّهِ، لا يغفلُ عن شيءٍ منها، يجازِي بها أهلَها يومَ القيامةِ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمن وَجَدَ خيرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَه. وهذا معنَى قولِه:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: الآية 132].

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: الآية 133].

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} قولُه: {وَرَبُّكَ} خطابٌ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأضافَ لفظةَ الربِّ إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريمٍ.

(1)

«يعملون» على قراءة ابن عامر.

ص: 300

والربُّ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على عشرةِ مَعَانٍ

(1)

: منها: السيدُ الذي يَسُوسُ الناسَ ويُدَبِّرُ شؤونَها، وكلُّ مَنْ يسوسُ بلدًا ويدبرُ شؤونَه تقولُ العربُ: هذا رَبُّهُ. وتقول العربُ: فلانٌ رَبُّ بَنِي فُلَانٍ. أي: سيدُهم الذي يَسُوسُهُمْ ويدبرُ شؤونَهم. والعربُ تقولُ: ربَّه يربُّه. إذا أَصْلَحَ شؤونَه وَسَاسَهُ وَأَصْلَحَ أمورَه. فالفاعلُ: رَبٌّ، والمفعولُ: مربوبٌ. وَمِنْ إطلاقِ العربِ الربَّ على الذي يَسُوسُ الأمورَ وَيُدَبِّرُهَا: قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَة التميميِّ، قال لرجلٍ سَادَ قَوْمَهُ

(2)

:

وكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي

وقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ

أي: سَادَتْنِي قبلكَ سادةٌ وساسةٌ وَضَيَّعُونِي، والآنَ أَفْضَتْ إليكَ ربابتي، فَصِرْتَ رَبِّي الذي يُدَبِّرُ شؤوني، فلا تضيعني. وتعرفونَ في السيرةِ، أن صفوانَ بنَ أميةَ بنِ خَلَفٍ كان عَدُوًّا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبيَّ قَتَلَ يومَ بدرٍ أباه أُمَيَّةَ بنَ خلفٍ، وقتلَ أخاه عَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بنِ خلفٍ يومَ بدرٍ، وَقَتَلَ عَمَّهُ أُبَيَّ بنَ خلفٍ يومَ أُحُدٍ، وهو من أشدِّ الناسِ عداوةً لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فلما فتحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ وطلبَ منه إعارةَ السلاحِ المشهورةَ الثابتةَ في الحديثِ طَلَبَ صفوانُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُعْطِيَهُ مهلةً ينظرُ فيها في أمرِه، فَأَعْطَاهُ النبيُّ مهلةً ينظرُ فيها في أمرِه، ويتدبرُ فيما يفعلُ، وكان في تلك المهلةِ أن غَزَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم هوازنَ - غزوةَ حنينٍ - المذكورةَ في القرآنِ، وكانت الرياسةُ في ذلك الوقتِ صَارَتْ من دُرَيْدِ بنِ الصَّمَّةِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 301

إلى مالكِ بْنِ عوفٍ النصريِّ، وكان دُريد شائبًا أَعْمَى، وكانت فكرتُه: أن هوازنَ يفعلونَ مثلَ ما فَعَلَتْ ثقيفٌ، يَبْقَوْنَ في ديارِهم، وَيُخْرِجُونَ النبالَ والرماحَ من كُوَى الحصونِ، ويحاصرُهم القومُ فيرامونَهم وهم في مَقَرِّهِمْ. وأبى عن هذه الفكرةِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ سيدُ هوازنَ في ذلك اليومِ، وقال: إن لم تطيعونِي لأتكئنَّ على سَيْفِي (في قصةِ حنينٍ المشهورةِ). فخرجَ بهوازنَ بنسائِهم وأطفالِهم وأموالِهم، حتى نزلَ بهم في مضيقِ وَادِي حنينٍ، في طريقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان دريدٌ أَعْمَى، فقال: ما لِي أسمعُ رغاءَ البعيرِ ونهاقَ الحميرِ وبكاءَ الصغيرِ؟ يظنُّ أن الخارجين جيشٌ فقط. فقيل له: خَرَجَ مالكُ بنُ عوفٍ النصري بالمالِ، يقول: إن الرجلَ إذا كان معه أهلُه ومالُه وزوجاتُه لَا يَفِرُّ. فَحَرَّكَ بشفتيه استهزاءً برأيه، وقال: إن الرجلَ إذا انتفخَ سِحْرُهُ - أي: رِئَتُهُ - من الخوفِ لا يَلْوِي على مالٍ ولا ولدٍ.

ونزلوا مضيقَ حنينٍ، وصلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصبحَ في غَلَسٍ من ظلامِ الليلِ، ثم انحدرَ مع وادي حنينٍ هو وأصحابُه، فلم يعلموا بشيءٍ حتى أَتَوْا هوازنَ، وهم أمامَهم في مضيقِ الوادِي، فَصَبُّوا عليهم النبالَ والسهامَ كأنها مطرٌ تُزَعْزِعُهُ الريحُ، فَوَقَعَ ما وَقَعَ، وقصَّه اللَّهُ في سورةِ براءة:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: الآية 25] وفي ذلك الوقتِ لم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً، وَنَزَلَ عن بغلتِه (دُلْدُل)، بغلة لا تصلحُ لِكَرٍّ ولا لِفَرٍّ، وهو يقولُ:

«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»

ص: 302

والشاهدُ: أنه لَمَّا وقعَ ما وقعَ بالمسلمين في أولِ وهلةٍ، وصفوانُ بن أُميةَ حاضرٌ، ومعه رجلٌ يرافقُه، قال ذلك الرجلُ: بَطَلَ الآنَ سحرُ محمدٍ!! يعني: أن هوازنَ غَلَبُوهُ، وأن قومَه انهزموا، وأن ما كان عنده سِحْرٌ، وأنه بَطَلَ. فقال له صفوانُ - وهو محلُّ الشاهدِ -: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، لئن يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أحبُّ إليَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ

(1)

!! ومعناه: أن يسودَني ويسوسنِي قُرَشِيٌّ، ابنُ عَمِّي، أحبُّ إِلَيَّ من أن يَسُودَنِي واحدٌ من ثقيفٍ، أهلِ الطائفِ. فهذا يُبَيِّنُ أن معنَى (ربّه يَرُبُّهُ) أي: سادَه وساسَه وَدَبَّرَ أمورَه، وهو بالنسبةِ إلى اللَّهِ (جل وعلا): السيدُ الذي يدبرُ شؤونَ الناسِ، ويسوسُ أمورَها، فلا يستغنِي عنه العَالَمُ طرفةَ عَيْنٍ.

قولُه: {الْغَنِيُّ} معناه: هو الذي عنده الغِنَى، واللَّهُ (جل وعلا) غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلَقًا، لا يحتاج إلى خَلْقِهِ، وخلقُه محتاجونَ إليه. والنكتةُ في الآيةِ: أن اللَّهَ بما مَضَى أَمَرَ وَنَهَى، وَبَيَّنَ ما يُدْخِلُ الجنةَ وما يُدْخِلُ النارَ، ثم نَبَّهَ خلقَه، فكأنه يقولُ: يا عبادي: لا تَظُنُّوا أنني آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ لأَجْلِ أن أَجُرَّ بذلك لنفسِي نفعًا أو أصرفَ عنها ضُرًّا، لا، أنا الغنيُّ بذاتِي الغِنَى المطلق، وإنما النفعُ لكم لا لِي، كما قال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: الآية 15] وفي الحديثِ القدسيِّ، الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ، أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

ص: 303

وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الحديثَ

(1)

. فهو (جل وعلا) لا ينتفعُ بطاعةِ المطيعِ، ولا تضرُّه معصيةُ العاصِي:{إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8]{فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: الآية 6] ولذا قال هنا: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} الذي لا تنفعُه طاعةُ مَنْ أَطَاعَ منكم، ولا تضرُّه معصيةُ مَنْ عَصَى منكم، وهو غَنِيٌّ بذاتِه غِنًى مُطْلقًا.

{ذُو الرَّحْمَةِ} : هو الرحيمُ الذي يرحمُكم - إن اتبعتُم أوامرَه - يومَ القيامةِ، كما قال تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: الآية 43] أي: يدعُوكم إلى طاعتِه - وهو رحيمٌ - ليرحمَكم ويدخلَكم جَنَّتَهُ.

وقد قَدَّمْنَا أن (الرحمنَ) هو ذو الرحمةِ الشاملةِ لجميعِ الخلائقِ في الدنيا، و (الرحيمُ) هو الذي يَرْحَمُ عبادَه المؤمنين في الآخرةِ

(2)

، ومن رحمانيتِه (جل وعلا): لطفُه بالطيرِ الصافاتِ، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ الرَّحْمَنُ} [الملك: الآية 19] أي: ومن رحمانيتِه: لطفُه بالطيرِ صافاتٍ وقابضاتٍ في جوِّ السماءِ، وإمساكُه لها. وهذا معنَى قولِه:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} يعني: وَمِنْ شدةِ غناهُ عنكم وعن أعمالِكم، وعدمُ حاجتِه إليكم،

(1)

أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم:(2577)(4/ 1994) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(2)

في الفرق بين (الرحمن) و (الرحيم) انظر: ابن جرير (1/ 126)، القرطبي (1/ 105)، ابن كثير (1/ 20)، مدارج السالكين (1/ 75)، بدائع الفوائد (1/ 24)، أضواء البيان (1/ 39 - 41).

ص: 304

ولا إلى طاعتِكم، ولا إلى معصيتِكم، فهو في قدرتِه أن يذهبَكم جميعًا ويجعلَكم أثرًا بعدَ عَيْنٍ، ويأتي بقومٍ آخرِينَ غيركم، كما جاء بكم أَنْتُمْ من ذريةِ قومٍ آخَرِينَ. وهذا معنَى قولِه:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} .

{وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ} : أي: يَجْعَلْ خلفاءَ فِي الأرضِ بعدَكم خَلَفًا منكم {مَّا يَشَاءُ} من خَلْقِهِ. وهذا المعنَى تَكَرَّرَ في القرآنِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ للناسِ أنه قادرٌ على أن يزيلَهم عن بكرةِ أبيهم، ويستبدلَ قومًا غيرَهم، وقد يكونُ المستبدلونَ خيرًا منكم أيها المخاطَبونَ، كقولِه في سورةِ النساءِ:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: الآية 133] وقولُه (جل وعلا): {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود: الآية 57] إذا استخلفَ غيرَكم فما عليه في ذلك مِنْ ضَرَرٍ، وقولُه في سورةِ فاطرٍ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} [فاطر: الآيات 15 - 17] أي: ليس فيه صعوبةٌ عليه ولا مشقةٌ، بل هو هَيِّنٌ عليه يَسِيرٌ. وقولُه في أُخْرَيَاتِ سورةِ القتالِ - سورةِ محمدٍ - حيث قال فيها:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: الآية 38] وقد قال في الواقعةِ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: الآيتان 60، 61] وقد قال في الإنسانِ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} [الإنسان: الآية 28] يعني: فَذَهَابُكُمْ جميعًا والإتيانُ ببدلٍ منكم، سهلٌ عَلَيَّ، خفيفٌ عندي، لا يضرُّني شيئًا، فأنتم إنما تنتفعونَ بطاعتِكم

ص: 305

وتتضررونَ بمعصيتِكم، وأنا الغنيُّ بذاتِي عنكم، القادرُ على أن أُذْهِبَكُمْ، وآتِي بغيركم، وقولُه:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} المرادُ هنا: الإذهابُ بوقتٍ واحدٍ، بأن يذهبَهم جميعًا، وليس المرادُ أن يذهبَهم تَدْرِيجًا بالموتِ

(1)

،

كما هي عادتُه في القرونِ أن يُفْنِيَ قَرْنًا تدريجًا بالموتِ، ثم يأتي بعدَه بقرنٍ آخَرَ تدريجًا بالولادةِ؛ لأن هذا هو الواقعُ، فلو كان هو المرادَ لَمَا قال:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} لأنه مُذْهِبُهم قَطْعًا وَمُسْتَخْلِفٌ بعدَهم ما يشاءُ على التدريجِ، هذا واقعٌ قَطْعًا.

وقولُه: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} عَبَّرَ بـ (ما) هنا للإبهامِ في الشيءِ، وإن كان قد يقعُ على العاقلِ؛ لأن المقررَ في علمِ النحوِ: أن الشيءَ إذا أُبْهِمَتْ صفاتُه - أي: كان المرادُ صفاته مثلا - أنه يُعبَّرُ عنه بـ (ما)

(2)

.

وهذا معنَى قولِه: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} كما أنه كان في الأرضِ قَبْلَكُمْ ناسٌ غيركم - قال بعضُهم: هم الذين كانوا في سفينةِ نوحٍ، وقال بعضُهم: يَعُمُّ ما قبلَهم من القرونِ. كان قبلَكم ناسٌ أهلُ ثروةٍ وأهلُ غِنًى في الدنيا، وأهلُ تَمَدُّنٍ ومكاناتٍ

(3)

- أَذْهَبْنَاهُمْ جميعًا، وَجِئْنَا بكم، وَجَعَلْنَاكُمْ خلفاءَ في الأرضِ بعدَهم، كما أَذْهَبْنَا أولئك وجعلناكم خَلَفًا بعدهم، فنحن قادرونَ أيضًا على أن نفعلَ بكم مثلَ ذلك، وهذا معنَى قولِه:{وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} .

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 225) ..

(2)

انظر: الكوكب الدري ص 210، التوضيح والتكميل (1/ 115).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 125).

ص: 306

يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: الآية 134].

(ما) هنا موصولةٌ، وعائدُ الصلةِ محذوفٌ

(1)

، والتقديرُ: إن الذي تُوعَدُونَهُ لآتٍ لا محالةَ. اعْلَمُوا أَوَّلاً: أن {تُوعَدُونَ} هنا يحتملُ أن يكونَ من الوعدِ، ويحتملُ أن يكونَ من الإيعادِ، والوعدُ: هو الوعدُ بالخيرِ، والإيعادُ: هو الوعيدُ بالشرِّ

(2)

، كما قال الشاعرُ

(3)

:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ

لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

فقولُه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} بناءً على أنه مِنَ الوعدِ، فَاللَّهُ (جل وعلا) لا يُخْلِفُ وعدَه أبدًا؛ لأن اللَّهَ يقولُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: الآية 9] أما إخلافُ الوعيدِ ففيه تفصيلٌ غَلِطَ فيه جماعاتٌ من العلماءِ، حتى كان من يقولُ من العلماءِ بفناءِ النارِ، أن اللَّهَ لو صَرَّحَ بأنها [لا] تَفْنَى

(4)

أن ذلك وعيدٌ، وإخلافُ الوعيدِ من المدحِ لا من الذمِّ، إذ إنَّ مَنْ أَوْعَدَكَ بشرٍّ ثم عَفَا عَنْكَ وأعطاكَ الخيرَ فهذا من الجميلِ، وإنما المذمومُ القبيحُ هو إخلافُ الوعدِ بالخيرِ.

والتحقيقُ في هذا المقامِ: أن اللَّهَ (جل وعلا) إِنْ وَعَدَ بِخَيْرٍ فإنه

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 157).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 88).

(3)

البيت لعامر بن الطفيل. وهو في اللسان (مادة: وعد)(3/ 951)، وانظر: المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (1/ 255).

(4)

في الأصل: «بأنها تفنى» وهو سبق لسان.

ص: 307

لا يُخْلِفُ وعدَه أبدا؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وإن أَوْعَدَ بشرٍّ فإيعادُه بالشرِّ له حَالَتَانِ:

تَارَةً يكونُ وعيدًا للكفارِ. وهذا لا يُبَدَّلُ بحالٍ، ويدلُّ عليه قولُه هنا:{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} ؛ لأن الكلامَ في الكفارِ الذين يهددُهم اللَّهُ. أي: ما يُوعِدُكُمُ اللَّهُ من العذابِ وَاقِعٌ لَا محالةَ، يدلُّ عليه قولُه:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} كما سَنُفَسِّرُهُ، وقد صَرَّحَ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه أن وعيدَه للكفارِ لَا يُخْلَفُ حيث قال فِي سورةِ (ق):{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: الآيتان 28، 29] والمرادُ به على التحقيقِ: ما وُعِدَ الكفارُ به من عذابِ النارِ. وقال جل وعلا: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: الآية 14] حَقَّ: معناه ثَبَتَ وَوَجَبَ، وما قال اللَّهُ فيه:«إِنَّهُ ثَبَتَ وَوَجَبَ» لا يمكنُ أن يتخلفَ، و (الفاءُ) في قولِه:{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} من حروفِ التعليلِ، وقد تقررَ في الأصولِ في (مسلكِ النصِّ) وفي (مسلكِ الإيماءِ والتنبيهِ) أن (الفاءَ) من حروفِ التعليلِ

(1)

كما تقولُ: «سَهَا فَسَجَدَ» ، أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. و «سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ» أي: لِعِلَّةِ سرقتِه. و «أَسَاءَ فَأُدِّبَ» . أي: لإساءتِه. {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} أي: وَجَبَ الوعيدُ لأجلِ تكذيبِ الرسلِ، ونظيرُه قولُه في (ص):{إِنْ كُلٌّ إِلَاّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: الآية 14].

أما الوعيدُ الذي يجوزُ أن يُخْلَفَ: هو وعيدُ اللَّهِ لِعُصَاةِ المسلمين، فإن اللَّهَ أَوْعَدَ مُرْتَكِبِي الذنوبِ الكبائرِ بأنه يُعَذِّبُهُمْ، وهذا

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

ص: 308

الوعيدُ إن شاءَ اللَّهُ أَنْفَذَهُ، وإن شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْ أَهْلِهِ. وَصَرَّحَ اللَّهُ بهذا في قولِه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: الآية 48] فَجَعَلَ غيرَ الشركِ من الكبائرِ تحتَ مشيئتِه، إن شاء عَفَا، وإن شَاءَ عَذَّبَ. هذا هو تحقيقُ المقامِ في الوعدِ والوعيدِ

(1)

.

قولُه هنا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} أي: ما يُوعَدُ به من ثوابٍ وخيرٍ فهو آتٍ لَا محالةَ، وما يُوعَدُ به الكفارُ المكذبونَ للرسلِ من العذابِ والتنكيلِ فهو آتٍ لَا محالةَ.

ثم قال: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} المعجزونَ: جمعُ تصحيحٍ للمعجزِ، والمعجزُ: اسمُ فاعلِ الإعجازِ، ومفعولُ اسمِ الفاعلِ هنا محذوفٌ. والمعنَى: وما أنتم بمعجزينَ رَبَّكُمْ. أي: لستُم بِفَائِتِيهِ حتى تُعْجِزُوهُ فيعجزَ عن التمكنِ منكم وتعذيبِكم، بل أنتم في قبضةِ يدِه، وتحتَ قهرِه وسلطانِه، لا تُعْجِزُونَهُ ولا تَفُوتُونَهُ، بل أَمْرُهُ وَاقِعٌ فيكم، نافذٌ فيكم، ليس لكم مَفَرٌّ وَلَا مَلْجَأٌ، ولا يمكنُ أن تُعجزوا رَبَّكُمْ وتفوتوه حتى لا يُعَذِّبَكُمْ. فَعُرِفَ من هذا أن المفعولَ محذوفٌ، العربُ تقول:«طَلَبَ فلانًا فَأَعْجَزَهُ» . أي: فاتَه ولم يَقْدِرْ على إدراكِه، واللَّهُ يقولُ:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لا تُعْجِزُونَنِي فتسبقونني حتى لا أُنَفِّذَ فيكم ما أَوْعَدْتُكُمْ به، بل أَنْتُمْ تحتَ قَهْرِي وسلطانِي، وفي قبضةِ يدِي، وَسَأُنَفِّذُ فيكم ما أشاءُ من وَعِيدِي الذي قلتُ:{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 646 - 649).

ص: 309

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: الآية 135].

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا شعبةَ عن عاصمٍ:{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} بالإفرادِ، وقرأه شعبةُ - وحدَه - عن عاصمٍ:{اعملوا على مكانتكم} بمدّ النونِ جمعِ مكانةٍ. وكذلك قرأَ شعبةُ في جميعِ القرآنِ. وقرأ عامةُ القراءِ أيضًا ما عدا حمزةَ والكسائيَّ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بالتاءِ الفوقيةِ في قولِه: {مَنْ تَكُونُ} وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: {فسوف تعلمون من يَكونُ له عاقبةُ الدار}

(1)

.

ولا إشكالَ في قراءةِ شعبةَ، ولَا في قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ؛ لأن قراءةَ شعبةَ أن كُلَّ واحدٍ له مكانةٌ يَعْمَلُ عليها، فَجُمِعَتِ المكاناتُ اعتبارًا بتعددِ المخاطَبين. وعلى قراءةِ الجمهورِ:{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} فالمكانةُ أُضِيفَتْ إلى مُعَرَّفٍ وهي مفردٌ فَعَمَّتْ جميعَ المكاناتِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أن المفردَ إذا أُضِيفَ إلى مُعَرَّفٍ صَارَ صيغةَ عمومٍ يشملُ جميعَ الأفرادِ

(2)

، كقولِه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل: الآية 18] أي: نِعَمَ اللَّهِ. وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: الآية 63] أي: عن أوامرِه {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: الآية 68] أي: ضُيُوفِي كما هو معروفٌ. فَكِلْتَا القراءتين

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 203، وانظر توجيه هذه القراءات في حجة القراءات ص 272، البحر المحيط (4/ 226)، الدر المصون (5/ 158).

(2)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

ص: 310

معناهما واحدٌ، وكذلك قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ:{مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} يجوزُ فيه التذكيرُ بأمرين:

أحدُهما: أن العاقبةَ تأنيثُها مَجَازِيٌّ، والتأنيثُ المجازيُّ إذا كانت (الفَاعِلَة) تأنيثُها مَجَازِيًّا جَازَ في الفعلِ التذكيرُ والتأنيثُ

(1)

.

الثاني: أنه فَصَلَ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه فَصْلٌ، وهو قولُه:{مَنْ تَكُونُ لَهُ} والفَصْلُ بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه يُسَوِّغُ تذكيرَ الفعلِ، ولو كان فاعلُه مؤنثًا حَقِيقِيًّا، كما هو معروفٌ في علمِ النحوِ

(2)

.

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن الله (جل وعلا) أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يهددَ الكفارَ تَهْدِيدًا عظيمًا بأُسلوبٍ لطيفٍ في غايةِ الإنصافِ واللطافةِ، مع اشتمالِه على أعظمِ التهديدِ، وأشنعِ التخويفِ، وهو قولُه:{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} . {يَا قَوْمِ اعْمَلُوا} أصلُه: (يَا قَوْمِي) حُذِفَتْ ياءُ المتكلمِ، وحَذْفُ ياءِ المتكلمِ اكتفاءً بالكسرةِ لغةٌ فُصْحَى مُطَّرِدَةٌ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ

(3)

.

وقد قَدَّمْنَا

(4)

أن (القومَ) اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِنْ لَفْظِهِ، وأن معناه في لغةِ العربِ: جماعةُ الرجالِ دونَ النساءِ، وأن النساءَ رُبَّمَا دَخَلْنَ في اسمِ (القومِ) تَبَعًا. أما الدليلُ على أن لفظَ (القومِ) في النطقِ العربيِّ يختصُّ بالرجالِ دونَ النساءِ: فقولُه تعالى في الحجراتِ: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}

(1)

انظر: حجة القراءات ص 272، الكليات 818.

(2)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

(3)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(4)

مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام.

ص: 311

ثم قَالَ: {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} (

)

(1)

[الحجرات: الآية 11].

(

)

(2)

فيها الربا إِجْمَاعًا، التي هي: القمحُ والشعيرُ والتمرُ والزبيبُ، قالوا: كُلُّ واحدةٍ من هذه الأربعِ مُقتاتةٌ مُدَّخَرَةٌ، معناه أنها قوتٌ يَتَقَوَّتُ به الإنسانُ، وأنه يَدَّخِرُهَا أَزْمَانًا فلا تضيعُ، فكل مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ من الحبوبِ والثمارِ تجبُ فيه الزكاةُ عندَ مالكٍ والشافعيِّ

(3)

. وأنهما اتَّفَقَا أيضًا على أن الأشجارَ ليس في ثمارِها شيءٌ مُقتاتٌ مُدَّخَرٌ إلا الزبيبَ والتمرَ خاصةً، ولم يُوجِبْ مالكٌ والشافعيُّ الزكاةَ إلا في التمرِ والزبيبِ خاصةً، أما غيرُهما من ثمارِ الأشجارِ فليست عندَهما مِمَّا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ

(4)

، ولم يُوجِبَا فيها شَيْئًا إلا الزبيبَ والتمرَ. وأما الحبوبُ فإن مَالِكًا والشافعيَّ اتَّفَقَا أيضًا على أن كُلَّ ما يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ من الحبوبِ أنه تَجِبُ فيه الزكاةُ، وهي الْعُشْرُ ونصفُ الْعُشْرِ على ما قَرَّرْنَا، والحبوبُ الْمُقْتَاتَةُ المُدَّخرةُ: كالقمحِ والشعيرِ اللذين - مثلاً - دَلَّ الإجماعُ والنصُّ عليهما، ونحوهما من السُّلْتِ

(5)

،

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتمام الآية لا يخفى، ويمكن استدراك باقي النقص فيما يتعلق بمعنى القوم بمراجعة ما ذكره الشيخ رحمه الله في الموضع السابق.

(2)

هذا المقطع يتعلق بتفسير الآية رقم (141) ولاستدراك ما ذهب من التسجيل عليك بمراجعة ما كتبه الشيخ رحمه الله في الأضواء (2/ 213 - 246).

(3)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، المهذب (1/ 163).

(4)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، المهذب (1/ 160).

(5)

السُّلْت: قيل: نوع من الشعير ليس له قشر. وقيل: نوع من الشعير رقيق القشر، صغار الحب. وقيل: حب بين الحنطة والشعير، ولا قشر له كقشر الشعير، فهو كالحنطة في ملامسته وكالشعير في طبعه وبرودته. وهي أقوال متقاربة. انظر: المصباح المنير (مادة: سلت) ص 108 حلية الفقهاء ص 105.

ص: 312

والعَلَسِ

(1)

،

والأرزِ والذرةِ، وأنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ

(2)

: كالبَسِيلَةِ

(3)

، والجُلُبَانِ

(4)

، والحِمَّصِ، والتُّرْمُسِ

(5)

، والفولِ إلى غيرِ ذلك من أنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ؛ لأن القطانيَّ ثمانيةُ أنواعٍ. وضابُطها: ما يَثْبُتُ فيه الربا من الفولِ والحِمَّصِ والتُّرْمُسِ واللوبيا والجُلُبَانِ والْجُلْجُلَانِ

(6)

، والبَسِيلَةِ. أما الكِرْسِنَّةُ

(7)

: فالمشهورُ في مذهبِ مالكٍ أنها لا زكاةَ فيها لأنها عَلَفٌ، خلافًا لأشهبَ من أصحابِ مَالِكٍ، إلا أن مشهورَ مذهبِ مَالِكٍ أن الكِرْسِنَّةَ

(1)

العَلَس: قيل هو نوع من الحنطة، يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة أو ثلاث. وقيل هو حبة سوداء تؤكل في الجدب. وقيل: مثل البر إلا أنه عسر الاستنقاء. انظر: المصباح المنير (مادة: علس) ص 161، حلية الفقهاء ص 105 ..

(2)

القطاني: اسم جامع للحبوب التي تُطبخ، كالعدس، والباقلاء، واللوبياء، والحمص، والأرز، والسمسم ويقال لها - أيضا -: القِطْنِيَّات، واحدتها قِطْنِيَّة. انظر: المصباح المنير (مادة: قطن) ص 194 حلية الفقهاء ص 105.

(3)

قال في اللسان: «والبسيلة: الترمس» ا. هـ. (مادة: بسل)(1/ 215).

(4)

هو حب أغبر أكدر على لون الماش، إلا أنه أشد كدرة منه وأعظم جرمًا. انظر: اللسان (مادة: جلب)(1/ 478).

(5)

هو حَمْلُ شجر له حب مضلَّع محزَّر. أو الباقلاء المصري. انظر: القاموس (مادة: الترمس) ص 688.

(6)

يطلق على السمسم في قشره قبل أن يُحصد، وعلى ثمرة الكزبرة. انظر: المعجم الوسيط (مادة: جلجل)(1/ 128).

(7)

قال في القاموس: «شجرة صغيرة لها ثمر في غُلف، مُصدع مُسهل مُبول للدم، مُسمن للدواب، نافع للسعال، عجينه بالشراب يُبرئ من عضّة الكلب والأفعى والإنسان» ا. هـ. القاموس: (مادة: الكرسنة)1584.

ص: 313

من أنواعِ القطانيِّ في بابِ الربا لا في بابِ الزكاةِ

(1)

. وَزَعَمَ قومٌ أن الكِرْسِنَّةَ هي البَسِيْلَةُ من أنواعِ القطانيِّ.

هذه الحبوبُ هي التِي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ، وتجبُ فيها الزكاةُ: القمحُ والشعيرُ والسُّلْتُ والعَلَسُ والذرةُ والأرزُ والدخنُ، وأنواعُ القطانيِّ: كالتُّرْمُسِ والحِمَّصِ والبَسِيلةِ والفولِ والجُلُبَانِ والجُلْجُلانِ وَاللُّوبْيَا إلى غيرِ ذلك، هذه الحبوبُ التي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ تجبُ فيها الزكاةُ عندَ مَالِكٍ والشافعيِّ. وإنما اخْتَلَفَا في شيئين: أحدُهما: أن مَالِكًا يقولُ

(2)

: إن القطانيَّ يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ في الزكاةِ، وإن القمحَ والشعيرَ والسُّلْتَ يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، فَمَنْ حَصَدَ عند مَالِكٍ وَسْقًا من فولٍ، وَحَصَدَ وَسْقًا من جُلُبَان، وحصد وسقًا من بَسِيلَة، ووسقًا من لوبيا، ووسقًا من حِمَّص فإنه تَجِبُ عليه الزكاةُ؛ لأنها خمسةُ أَوْسُقٍ من جنسٍ واحدٍ. وإن اخْتَلَفَتْ أنواعُها يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ ويُخرج من كلِّ نوعٍ بحسبِه.

والشافعيُّ يقولُ

(3)

: لا يُضَمُّ شيءٌ منها إلى شيءٍ، فلَا يُضَمُّ فولٌ إلى لوبيا، ولا تُرْمُسٌ إلى حِمَّصٍ؛ بل كُلٌّ فِي جِرَابِهِ، وإذا حصدَ خمسةَ أوسقٍ من واحدٍ وَجَبَتِ الزكاةُ، وإلا فَلَا. كما أن الشافعيَّ يقولُ: لَا يُضَمُّ قَمْحٌ إلى الشعيرِ، ولا الشعيرُ إلى القمحِ، ولا السُّلْتُ إلى واحدٍ منهما. ومالكٌ يقولُ: إنه إذا قَطَعَ وَسْقَيْنِ من قمحٍ، وَوَسْقَيْنِ من شعيرٍ، وَوَسْقًا من سُلْتٍ، أنها تكونُ

(1)

انظر: المنتقى للباجي (2/ 168)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 447)، أضواء البيان (2/ 192).

(2)

انظر: المدونة (1/ 348)، الكافي في فقه أهل المدينة 103، القرطبي (7/ 107)، الأضواء (2/ 215 - 216).

(3)

انظر: المجموع (5/ 505 - 513).

ص: 314

خمسةَ أوسقٍ، يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، فتجبُ فيها الزكاةُ، فَيُخْرِجُ عَنْ كُلٍّ بحسبِه.

أما العَلَسُ عند مالكٍ فلا يُضَمُّ إلى هذه الثلاثةِ.

والحاصلُ أن مَالِكًا لا يُضَمُّ عندَه إلا أنواعُ القطانيِّ الثمانيةُ. يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ، وَيُضَمُّ عندَه القمحُ والشعيرُ والسُّلْتُ، هذه الثلاثةُ بعضُها إلى بعضٍ. وأما غيرُ هذا فَلَا ضَمَّ، فلا يُضَمُّ تمرٌ إلى قمحٍ، ولا سُلْتٌ إلى ذرةٍ، ولا ذرةٌ إلى أُرْزٍ، بل كُلٌّ بِحَسَبِهِ. والشافعيُّ لا يرى ضَمَّ شيءٍ من هذا إلى شيءٍ. هذا حاصلُ مذهبِ مَالِكٍ والشافعيِّ.

وقد اخْتَلَفَا في أشياء: منها الزيتونُ هل فيه زكاةٌ أو لا؟ فمشهورُ مذهبِ الإمامِ مَالِكٍ رحمه الله أن الزيتونَ تجبُ فيه الزكاةُ إذا بَلَغَ حَبُّهُ خمسةَ أَوْسُقٍ، ولكنه لا يُخْرَجُ إلا مِنْ زَيْتِهِ، فإذا كان حَبُّ الزيتونِ خمسةَ أوسقٍ وَجَبَتْ الزكاةُ فيه، ولكن الإخراجَ من زيتِه، وهو الْعُشْرُ أو نصفُ الْعُشْرِ. فالوجوبُ في الْحَبِّ، والإخراجُ من الزيتِ. هذا مشهورُ مذهبِ مَالِكٍ، ومثلُ الزيتونِ عندَ مَالِكٍ في هذا - من أنه يُنْظَرُ نصابُ الأَوْسُقِ من الْحَبِّ، ثم يُخْرَجُ من الزيتِ مثلُ الزيتونِ عندَه - السمسمُ، وبذرُ الفجلِ الأحمر، والقِرْطمُ. والقِرْطمُ: حَبُّ الْعُصْفِرِ. هذه الأربعةُ التي هي: الزيتونُ والسمسمُ والقِرْطمُ وبذرُ الفجلِ الأحمر خاصةً، هي عند مَالِكٍ إذا كانت حُبُوبُهَا تبلغُ النصابَ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ، وَأُخْرِجَ العشرُ أو نصفُه من زَيْتِهَا، هذا مشهورُ مذهبِه رحمه الله

(1)

، ولا زكاةَ

(1)

انظر: المدونة (1/ 294، 349)، الكافي في فقه أهل المدينة ص 100، الاستذكار (9/ 252)، القرطبي (7/ 103، 104)، أضواء البيان (2/ 215).

ص: 315

عند مَالِكٍ في كتانٍ ولَا في غيرِه مما ذَكَرْنَا.

ومذهبُ الإمامِ الشافعيِّ مختلفٌ - أيضا - في الزيتونِ

(1)

، فقال في القديم: إن الزيتونَ فيه زكاةٌ إِنْ صَحَّ أَثَرُ عُمَرَ الذي وَرَدَ فيه. وقد وَرَدَ عَنْ عُمَرَ

(2)

وَابْنِ عَبَّاسٍ

(3)

أثرانِ أن في الزيتون زكاةً، والأثرانِ ضعيفانِ لَا تقومُ حجةٌ بواحدٍ منهما؛ وَلِذَا كانَ مذهبُ الشافعيِّ في الجديدِ: أن الزيتونَ لا زكاةَ فيه

(4)

. والخلافُ عندَه في القِرْطُمِ

(5)

- أيضا - كالخلافِ في الزيتونِ، فيه الزكاةُ في القديمِ، وفي الجديدِ لا زكاةَ فيه، وهذا معروفٌ عِنْدَهُمْ

(6)

.

واختلاف العلماء في زكاة العسل معروف، يُذكر في هذا المحل عند الآيات الدالة على هذا، وإن كان العسل ليس في نفسه مما تنبته الأرض، ولكن نَحْله تَرْعَى فيما تنبته الأرض فتُخْرِجه.

(1)

انظر: المجموع (5/ 452)، أضواء البيان (2/ 217).

(2)

أخرجه البيهقي (4/ 125 - 126). وعقبه: بقوله: «حديث عمر رضي الله عنه في هذا الباب منقطع، وراويه ليس بقوي» ا. هـ. وقال الحافظ في التلخيص (2/ 166): «رواه البيهقي بإسناد منقطع، والراوي له: عثمان بن عطاء، ضعيف» ا. هـ. وضعفه النووي في المجموع (4/ 453)، وانظر ابن أبي شيبة (3/ 141).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 141). وقال الحافظ في التلخيص (2/ 167): «وفي إسناده ليث بن أبي سُليم» ا. هـ. وضعفه أيضا: النووي في المجموع (4/ 453).

(4)

انظر: المجموع (5/ 452 - 455)، أضواء البيان (2/ 217 - 218).

(5)

هو حب العُصْفُر، كما في المهذب (1/ 161)، القاموس (مادة: القرطم) ص 1482.

(6)

انظر المجموع (5/ 452 - 453، 456)، أضواء البيان (2/ 218).

ص: 316

وزكاة العسل الخلاف معروف فيها بين العلماء

(1)

، فعند مالك: لا زَكَاةَ في العسل، والخلاف عَنِ الشَّافِعِي؛ في القديم: يُزكَّى العسل، وفي مَذْهَبِهِ الجديد: لا يُزَكَّى، ومذهب الإمام أحمد: زَكَاة العَسَلِ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن كان في أرض العُشر زُكِّيَ وإلا فَلَا.

وقَدْ وَرَدَتْ في زكاة العسل أحاديث متعددة، كحديث بني شبابة، وهم بطن من بني فهم، أنهم كانوا يؤدون زكاة عَسَلِهِمْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال البخاري وغير واحد من المحدثين: إِنَّ زكاة العسل لم يثبت فيها حديث واحد قائم، ولم يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

انظر: بدائع الصنائع (2/ 61)، الاستذكار (9/ 484 - 287)، المجموع (5/ 452، 453 - 455، 456)، المغني (2/ 577)، أضواء البيان (2/ 220 - 222).

(2)

ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 141)، وأبو عبيد في الأموال ص 444، وأبو داود في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم:(1585 - 1587)، (4/ 488 - 491)، وابن ماجه في الزكاة، باب زكاة العسل، حديث رقم:(1824)، (1/ 584)، والنسائي في الزكاة، باب زكاة النّحل، حديث رقم:(2499)، (5/ 46)، والبيهقي (4/ 126 - 127).

قال ابن عبد البر في الاستذكار (9/ 286): «فأما حديث عمرو بن شعيب فهو حديث حسن» اهـ. وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 51): «رواه ابن ماجه بإسناد جيد» اهـ.

والحديث له طرق وشواهد متعددة، انظر ذلك في: تنقيح التحقيق (2/ 1413)، التلخيص (2/ 167، 168)، الدراية (1/ 264)، نصب الراية (2/ 391 - 392)، إرواء الغليل (3/ 284 - 286)، صحيح ابن ماجه (1/ 306)، صحيح النسائي (2/ 526).

ص: 317

وجميع الأحاديث الواردة في زكاة العسل لا يخلو إسناد شيء منها من قادح وكلام

(1)

. قالوا: والأصل براءة الذمة، وعَضَّدُوا عدم الزكاة في العسل بالقياس على اللبن، قالوا: إن العسل واللبن كلاهما مائِع خارج من حيوان، واللبن لا زكاة فيه، والعسل كذلك.

والحاصِل أن العسل وردت في الزكاة فيه أحاديث متعددة. قال بعضهم: بعضها يشدّ بعضًا. وأخذ بمضمونها الإمام أحمد في طائفة من العلماء، فأوجب الزكاة في العسل، والجمهور: منهم الشافعي في الجديد، ومالك، قالوا: لا زكاة في العسل؛ لأنه لم يثبت فيه شيء، والأصل براءة الذمة، وليس هو مما تنبته الأرض مباشرة حتى يدخل في عموم:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267].

أيضًا كذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الزيتون

(2)

، وروى عنه بعض أصحابه أن فيه الزكاة، وروى بعضهم أنه ليس فيه الزكاة.

وليس عند الإمام أحمد زكاة في العُصْفُر، ولا في

(1)

وقال الترمذي (السنن 3/ 16): «ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء» اهـ. وقال ابن المنذر: «ليس فيه شيء ثابت» اهـ.

انظر: التلخيص (2/ 168)، تنقيح التحقيق (2/ 1412)، وللوقوف على كلام العلماء على الأحاديث الواردة في هذا الباب، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1411 - 1414)، التلخيص (2/ 167 - 168)، الدراية (1/ 264)، نصب الراية (2/ 390 - 393)، الإرواء (3/ 284 - 287).

(2)

انظر: المغني (2/ 553).

ص: 318

الكتان

(1)

، وإنما الزكاة عند أحمد رحمه الله بما استوجب ثلاثة أشياء؛ لأن علّة الزكاة عنده مركبة من ثلاثة أوصاف، وهي: أن يكون الشيء مكيلاً، وأن يكون ييبس، لا يبقى مبلولاً دائمًا، وأن يكون يبقى ويجوز ادِّخاره لبقائه، فكل ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة، بأن كان يُكال وييبس ويبقى، ففيه الزكاة عند الإمام أحمد

(2)

؛ ولذا قال: إن بعض الأشجار ثمارها تُكال وتَيْبَس وتبقى، ولا يُشترط كونها قوتًا، سواء كانت قوتًا أو غير قوت؛ ولذا أوجب الإمام أحمد الزَّكاة في بعض ثمار الأشجار التي لم يُوجِبْهَا مَالِك والشافعي؛ لأن مالكًا والشافعي اشْتَرَطَا الاقتيات والادِّخَار، وأحمد لم يشترط الاقتيات، قال: إن كان الشيء يُكال وييبس ويبقى وجبت فيه الزكاة؛ ولذا أوجب الزكاة في بعض ثمار الأشجار؛ لأنها تيبس وتبقى، وإن كانت لا يمكن أن تكون قوتًا، فأوجبها في بعض ثمار الأشجار؛ كالفستق، والبندق، وما جرى مجراهما. هذا مذهب الإمام أحمد. وكذلك أوجب الزكاة في كل حبّ ييبس ويَبْقى ويكال، وإن كان لا يُقتات، وتجب الزكاة عنده في الأبازير التي تُصلح الطعام؛ كالكمون بنوعيه: الأحمر والأسود، والكراويا، واليانسون، وما جرى مجرى ذلك. وتجب عنده في كل بذر يزرع، وتجب عنده الزكاة في بذر الكتان، وفي بذر الخيار والقثاء، وكل ما جرى مجرى ذلك؛ لأنها حبوب تيبس وتُكال وتبقى، هذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله

(3)

.

(1)

انظر: المغني (2/ 552).

(2)

انظر: المصدر السابق (2/ 549).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 549).

ص: 319

وهؤلاء الأئمة الثلاثة لا تجب عندهم الزكاة إلا فيما بلغ الخمسة الأوسق

(1)

-أعني: مالكاً والشافعي والإمام أحمد- لأن عموم: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاء العُشر»

(2)

وعموم: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267] يخصصه عندهم حديث: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقة»

(3)

فأقل نصاب الحبوب والثمار أن يبلغ خمسة أوسق.

والوسْقُ - بالفتح والكسر- ستون صاعاً بإجماع العلماء

(4)

.

والصاع الشرعي النبوي بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين

(5)

،

(1)

انظر: المدونة (1/ 339)، الكافي لابن عبد البر (1/ 101، 103)، المجموع (5/ 456، 457، 458، 459)، المغني (2/ 553)، القرطبي (7/ 107)، أضواء البيان (2/ 225، 229).

(2)

مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

(4)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، المجموع (5/ 458)، المغني (2/ 560)، حلية الفقهاء ص 103، المحلى (5/ 240)، القرطبي (7/ 107).

(5)

في الكافي لابن عبد البر ص 103، والمحلى (5/ 240)، والأضواء (2/ 230) وغيرها من المصادر:«والصاع: أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام» اهـ. ولعل الشيخ رحمه الله أراد المد فسبق لسانه إلى الصاع. ويدل على ذلك قوله في الأضواء (2/ 230): «واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم والمد بالتقريب: ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وتحديده بالضبط: وزن رطل وثلث بالبغدادي. فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمدد: ألف مد ومائتا مد، ومن الصيعان: ثلاثمائة، وهي بالوزن: ألف رطل وستمائة رطل. والرطل: وزن مائة وثمانية وعشرين درهمًا مكيًّا، وزاد بعض أهل العلم: أربعة أسباع درهم، كل درهم وزن خَمْسِين وخُمُسَي حبة من مطلق الشعير

» اهـ.

ومما يدل أيضًا على أن مراده (المد): أنه ذكر مقداره بعده بقوله: «وهو بالضبط

» إلخ.

ص: 320

وهو بالضبط

(1)

: وزن رطل وثلث بالبغدادي

(2)

، فوزن الرطل وثُلث الرطل بالبغدادي هو الصاع النبوي

(3)

.

فعدة الأوساق بالأمداد: ألف مُدّ ومائتا مدّ

(4)

، وبالصيعان: ثلاثمائة صاع، وبالأرطال: ألف وستمائة رطل

(5)

، هذا هو نصاب الحبوب والثمار.

والرطل عندهم عندما حققه مالك وأصحابه -وهم أدرى الناس بقدر الصاع والمدّ؛ لأنهم في محل الصاع والمد، قَدْرُه عندهم يعني بالوزن- ألف وستمائة رطل.

ووزن الرطل عندهم مائة وثمانية وعشرون درهمًا

(1)

أي (المد) المشار إليه.

(2)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، حلية الفقهاء ص 104، القرطبي (7/ 107).

(3)

هذا سبق لسان، والصواب:(المد النبوي) كما في المحلى (5/ 245)، والكافي لابن عبد البر (ص 103)، والمغني (2/ 561)، القاموس الفقهي (ص 337). وإنما الصاع: خمسة أرطال وثلث من الحنطة.

وقد نقلت لك كلام الشيخ رحمه الله في أضواء البيان.

(4)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، القرطبي (7/ 107).

(5)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 103، المجموع (5/ 458)، المغني (2/ 561)، القرطبي (7/ 107).

ص: 321

مكيًّا

(1)

؛ لأن وزن الذهب والفضة وزن مكة، والكيل كيل أهل المدينة

(2)

، ووزن الرطل: مائة وثمانية وعشرون درهمًا مكيًّا، ووزن الدرهم المكّيّ: خمسون وخمُسا حبة من مطلق الشعير

(3)

وزيادة ابن حزم خمسة أسباع حبة

(4)

ردّها المحققون من علماء المالكية، هذا هو النصاب، وهو خمسة أوسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة» .

والمُزَكَّيَات فيها -عندهم - تفصيل، فيها نوعان يُخرصان قبل إخراج الزكاة بلا نزاع

(5)

، وهما: التمر والزبيب، والزبيب: العنب اليابس، فإنه إذا بدا صلاح التمر وتهيأ العنب للأكل يُخرصان، فيرسِل السلطان إليهما خارصاً حازراً يخرصهما، بشرط أن يكون أمينًا عدلًا، عارفًا بالخرص، صادق الحزر غالباً، فيأتي لهذا البستان ويخرصه نخلة نخلة، فيقول: في هذه النخلة الآن كذا من البلح من الزهو، ثم يكون فيها من الرطب كذا، فإذا يَبِسَتْ وجَفّ رطبها نقص بكذا. فيحصل منها من التمر اليابس قدر كذا وكذا، ثم إذا خرصوا ذلك وحزروا قَدْر ما يحصل منه من التمر اليابس قيَّدُوه على

(1)

انظر: المجموع (1/ 122)، (5/ 458)، المغني (2/ 561).

(2)

انظر: المحلى (5/ 244 - 245).

(3)

انظر: الأضواء (2/ 230).

(4)

في المحلى: (5/ 246): «فوزن الدرهم المكي: سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة» اهـ.

(5)

انظر: المدونة (1/ 339)، التمهيد (6/ 469 - 472)، الاستذكار (21/ 213)، المجموع (5/ 477، 478)، القرطبي (7/ 105)، المغني (2/ 567 - 572)، فتح الباري (3/ 344)، أضواء البيان (2/ 231).

ص: 322

صاحبه، وقالوا لصاحبه: بينك وبين بُسْتَانِكَ، فَكُلْ ما شِئْتَ، وَبِعْ ما شئت، وتصَرَّفْ فيه كيْفَ شِئْتَ، ولكنه عند الجذاذ أدِّ قدر هذا الخرص تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً

(1)

. وهذا لم يخالف فيه إلا القليل من العلماء، فجماهير العلماء على الخرص، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك لما مرّ بِوَادِي القرى نزل بحائط امرأة، فقال لقومه: اخرصوا كم يخرج منه؟ فخرصوا، وخرصه النبي صلى الله عليه وسلم مع الخارصين، وقال لها: في خرصه: «أرى أن تحصُلَ منه عشرةَ أوْسُقٍ من التَّمْرِ اليَابِس، واحْفَظِيهِ حتى نرجِعَ من سَفَرنا» فلما رجعوا من غزوة تبوك سألوا المرأة فقالت: خرج منه عشرة أوسق مطابقة لحزره صلى الله عليه وسلم

(2)

. مضمون هذا الحديث ثابت في صحيح مسلم والبخاري، وهو يَدُلّ على أن الخرص حَق، وأنه سُنَّة.

والظاهر أنهم ما خرصوه إلا ليأخذوا زَكَاتَهُ إذا كانوا قافلين، والأحاديث الكثيرة في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث الخارصين، كعبد الله بن رواحة وغيره إلى يهود خَيْبَر، فيخرص عليهم النخل، ويقول لهم: إن شئتم خذوه بهذا الكيل، وإن شئتم دعوه لنا بهذا الكيل

(3)

، هذا معروف.

(1)

انظر: المجموع (5/ 477)، المغني (2/ 569)، القرطبي (7/ 105).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: خرص التمر، حديث رقم:(1481)(3/ 343 - 344)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(1872، 3161، 3791، 4422). ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم:(1392)(4/ 1785).

(3)

في بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خارصاً ورد عدة أحاديث منها:

1 -

حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد (6/ 163)، وعبد الرزاق (4/ 129)، وأبي عبيد في الأموال ص 432، وأبي داود في الزكاة، باب متى يخرص التمر. حديث رقم:(1591)(4/ 495) وفي البيوع، باب في الخرص. حديث رقم:(3396)، (9/ 276)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص (3/ 28)، والبيهقي (4/ 123)، والدارقطني (2/ 134)، وابن خزيمة (4/ 41). وقال الألباني:«إسناده صحيح على شرط مسلم» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 171)، والإرواء (3/ 280).

2 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما. عند ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم:(1820)(1/ 582). وانظر: الإرواء (3/ 282)، صحيح ابن ماجه (1/ 305).

3 -

حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد (2/ 24)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 38)، وانظر: الإرواء (3/ 281).

ص: 323

وشذّت طائفة من العلماء

(1)

،

فقال الشعبي: الخرص بدعة

(2)

. وقال سفيان الثوري: لا يجوز الخرص؛ لأنه ظَنٌّ وتَخْمِينٌ، والظنّ أكْذَب الحديث

(3)

. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله

(4)

- قال: الخرص ظن وتخمين لا يثبت به حكم أبداً، وإنما كان النبي يأمر بخرص النخيل تخويفاً للقائمين عليه من أن يخونوا، فالمقصود به عنده تخويفهم من الخيانة. وقالوا: لا يُعمل بالخرص، ولا يثبت به حكم؛ لأنه ظَنّ وتَخْمِين، والظن لا يُغني من الحق شيئًا.

وجمهور العلماء على أن الخرص حق، ولكن اختلفوا: هل هو واجب أو سنة؟

(5)

فبعضهم يقول: واجب؛ لئلا يُضيَّقَ على أهل النخيل في ثمارهم؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكْلِ مِنْهَا، ولا تضيع حقوق الفقراء؛ إذ لو أكلوها قبل الخرص، ولم يُعلَمْ قدر ما فيها لضاع هؤلاء، والخرص يجمع مصلحة الطرفين، بأن يُخلى بين أهل البساتين وبساتينهم، وتُحفظ للفقراء حقوقهم.

(1)

4 - حديث جابر رضي الله عنه عند أحمد (3/ 296، 367)، وعبد الرزاق (4/ 124)، وابن أبي شيبة (3/ 194)، وأبي داود في البيوع، باب الخرص، حديث رقم:(3397 - 3398)(9/ 280 - 281)، والدارقطني (2/ 133)، والبيهقي (4/ 123)، والطحاوي (1/ 38 - 39). وانظر الإرواء (3/ 281)، صحيح أبي داود (2/ 654).

5 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه. عند الدارقطني (2/ 134). وانظر: الاستذكار (21/ 196).

6 -

عامر بن عبد الرحمن، مرسلًا، عند عبد الرزاق (4/ 124).

7 -

عبد الله بن عبيد بن عمير، مرسلًا، عند عبد الرزاق (4/ 123).

8 -

الشعبي، مرسلًا، عند أبي عبيد في الأموال ص 432، وابن أبي شيبة (3/ 194).

9 -

سليمان بن يسار، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم:(1388) ص 494، والبيهقي (4/ 122)، وانظر: الاستذكار (21/ 196).

10 -

سعيد بن المسيب، مرسلاً، عند مالك في المساقاة، باب ما جاء في المساقاة، حديث رقم:(1387) ص 494، والبيهقي (1/ 122).

11 -

عطاء، مرسلاً، عند عبد الرزاق (4/ 122 - 124).

12 -

الزهري، مرسلاً، عند عبد الرزاق (4/ 122، 123).

() انظر: الأموال لأبي عبيد ص 439 - 441، التمهيد (6/ 470)، القرطبي (7/ 105)، فتح الباري (3/ 344)، أضواء البيان (2/ 232).

(2)

انظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 127)، ابن أبي شيبة (3/ 194)، الاستذكار (21/ 214).

(3)

انظر: الاستذكار (21/ 214).

(4)

انظر: شرح معاني الآثار (2/ 41).

(5)

انظر: الأضواء (2/ 235).

ص: 325

وقال بعض العلماء: الوجوب لا يلزم إلا بدليل جازم، وبعضهم يقول: هو سُنَّة.

والدليل على الخَرْص: هو حديث عَتَّاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ أن يُخْرَص العنب كما يُخرص النخل، فتُؤدَّى زكاته زبيباً عند الجذاذ، كما تُؤدى زكاة النخل تمراً

(1)

. هذا الحديث من مراسيل سعيد بن المسيب، ورواه سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد، وسعيد لم يُدرك عتاب بن أسيد رضي الله عنهما؛ لأن سعيدًا وُلِدَ في خلافة عمر، وعَتَّاب بن أُسيْد توفِّيَ في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر رضي الله عنهما فَلَمْ يُدْرِكْه، إلا أن مراسيل سعيد بن المسيب معروف حكمها في علوم الحديث

(2)

. وقد أقرّ علماء الشافعية أن هذا النوع من مرسل سعيد يتفق الشافعية على قبوله؛ [18/ب] /ولأنه شاع عن الشافعي أنه يَقْبَل جميع مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنها تُتُبِّعَتْ كلها فَوُجِدَتْ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 195)، وأبو داود في الزكاة، باب في خرص العنب، حديث رقم:(1588 - 1589)، (4/ 491 - 492)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في الخرص، حديث رقم (644)، (3/ 27)، وقال:«حسن غريب» اهـ. وأخرجه ابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب، حديث رقم:(1819)، (1/ 582)، والنسائي في الزكاة، باب شراء الصدقة، حديث رقم:(2618)، (5/ 109)، والدارقطني (2/ 132 - 133، 134)، والبيهقي (4/ 121 - 122)، والحاكم (3/ 595)، وابن خزيمة (4/ 41)، وابن الجارود (غوث المكدود 2/ 17)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 39)، وابن حبان (الإحسان 5/ 118)، والطبراني في الكبير (17/ 162)، وقد ضَعَّفَهُ كثير من العلماء. انظر: تلخيص الحبير (2/ 171)، إرواء الغليل (3/ 282، 283).

(2)

انظر: جامع التحصيل ص 99، تدريب الراوي (1/ 199).

ص: 326

مَسَانيد.

وقال النووي في شرح المهذب وغيره: إن الشافعي لم يَقُلْ بالعمل بمراسيل سعيد مطلقاً بل بِقَيْدٍ، وهو أن يرِد الحديث مرسلًا من جهة أُخْرَى، أو مسنداً من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة، أو يعمل به أكثر العلماء

(1)

. وهذه الشروط موجودة هنا؛ لأن الخرص عمل به بعض الصحابة، وعمل به أكثر العلماء، فمرسل سعيد هذا اتفق الشافعية على قبوله، مع أن المشهور في مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة ومذهب أحمد: الاعتداد بالمرسل مطلقاً، فظهر إجماع الأئمة الأربعة على الاحتجاج بمرسل سعيد هذا في خرص التمر والعنب

(2)

.

ولا يخرص غير التمر والعنب من الأشجار، ولا من الحبوب على التحقيق الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن النص إنما ورد بخرص التمر والعنب فقط، ولم يرد في خرص شيء غيرهما. والثاني: أن خرص التمر ممكن لأن أعذاقه تجتمع في رأس النخلة في محل متقارب، فيمكن خارصها أن ينظر جميعها حتى يحزر ما فيها، وكذلك العنب تجتمع عناقيده وتَتَمَيَّز ويمكن خرصها، أما غير ذلك من الأشجار فإن ثِمَارَهُ تَتَفَرَّق في كل الشجرة وتختلط بأوراقها، والحب مستتر في سُنْبُلِهِ، فلا يمكن الخرص فيه

(3)

.

(1)

في تحقيق مذهب الشافعي في المرسل انظر: الأم (3/ 188)، مختصر المزني ص 78، المجموع للنووي (1/ 60 - 63)، إرشاد طلاب الحقائق للنووي (1/ 171، 175 - 179)، الكفاية للخطيب 404 - 405، اللمع ص 74، التبصرة ص 329 (كلاهما للشيرازي).

(2)

انظر: أضواء البيان (2/ 233).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 237).

ص: 327

وكأن الأئمة الثلاثة: مالكًا والشافعي وأحمد، اتفقوا على أن التين لا زكاة فيه

(1)

وهذا من الغَرِيب؛ لأن التين ييبس ويُقْتَات ويُدخر. وكان ابن عبد البر يقول: أظن أن مالكًا رحمه الله ما كان يعرف التين، ولا يظن أنه ييبس ويُقتات ويُدَّخَر، ولو كان يظن ذلك لجعله كالزبيب ولم يعُدّه مع الفواكه.

أما الفواكه؛ كالرُّمَّان، والتّفّاح، والفِرْسِك - وهو الخوخ - والإجَّاص

(2)

، والكمثرى، وما جرى مجرى ذلك، والخَضْراوات: كالقثاء والخيار وأنواع البقول المعروفة من: كَرَفْسٍ ونعناع وما جرى مجرى ذلك، فهذا لا زكاة فيه عند الأئمة الثلاثة

(3)

، وقد جاء بعض الآثار وبعض الأحاديث في وجوب الزكاة في الخَضْراوات ولم يصح فيها شيء

(4)

.

ودليل الجمهور أن الفواكه جميعها، والخَضْراوات جميعها لا زكاة فيها: أنه لم يؤخذ عن أحد من المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في المدينة شيئًا من زكاة الخَضْراوات ولم يتعرض لها أبدًا، ولمَّا

(1)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، الاستذكار (9/ 272)، المجموع (5/ 452، 453)، المغني (2/ 549).

(2)

نوع من الثمر حلو، شجرته من الفصيلة الوردية، ويطلق في بعض البلاد على الكُمثرى. انظر: المعجم الوسيط (1/ 7).

(3)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص 100، الاستذكار (9/ 270 - 275)، المجموع (5/ 452)، المغني (2/ 549).

(4)

للوقوف على كلام العلماء على الأحاديث والآثار الواردة في هذا الموضوع، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1402 - 1407)، تلخيص الحبير (2/ 165 - 169)، الدراية (1/ 263)، نصب الراية (2/ 386 - 389)، إرواء الغليل (3/ 276 - 279).

ص: 328

فَتَحوا الطائف كانت الفواكه فيه بكثرة من غيرها؛ مِنْ رُمَّان وفِرْسِك وغير ذلك، ولم يُنْقَل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه أن أحداً منهم تَعَرَّضَ لِلْفَوَاكِهِ أو الخَضْراوات وأخذ منها شيئًا.

ومعلوم أن أبا حنيفة يوجب الزكاة في الجميع نظراً للآية التي ذكرنا

(1)

.

فبهذا تعلمون أن مالكاً والشافِعِيَّ يُوجِبَان الزكاة في كلِّ مُقتات مُدَّخر، وليس مُقتاتاً عندها من الأشجار إلا التمر والزَّبِيب، وأن الإمام أحمد يوجب الزكاة في كل ما ييبس ويُكالُ ويَبْقَى.

وكان داود بن علي الظاهري يقول: ما تُنْبِتُهُ الأرض إن كان مكيلاً فلا يُزَكَّى حتى يبلغ الخمسة أوسق، وإنْ كَانَ غير مكيل وَجَبَتِ الزكاة في قليلِهِ وكَثِيرِهِ

(2)

.

والحق أن هذا المذهب لولا أنه عُورض بما هو أقوى منه كان أقرب المذاهب إلى ظاهر النصوص؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»

(3)

يدل على أن الزكاة تَخْتَصُّ بما هو موسّق، والوسق يختص بالْكَيْلِ بإجماع العلماء؛ لأن الوسق معيار كيلي بلا نزاع؛ لأنه ستون صاعاً، والصاع معيار كيلي، وهذا معروف، وإن كان ليس مكيلًا يدخل في عموم:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: الآية 267] إلا أن مذهب داود هذا مع اتجاهه وجَمْعِهِ

(1)

انظر: المبسوط (3/ 2).

(2)

انظر: المحلى (5/ 212).

(3)

مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

ص: 329

للنصوص يَرِدُ عليه ما ذكرناه الآن من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَتَعَرَّضْ هو ولا أحَدٌ من أصحابه إلى أخْذِ الزكاة من الفَوَاكِهِ والخَضْراوات، ولا شيء من ذلك.

وهذا الذي ذكرنا يُعلم منه أن أبا حنيفة رحمه الله لا يَشْتَرِطُ النِّصَاب، ولا خمسة أوسق، ولا كون النابت في الأرض قوتًا أو غير قوت، ييبس أو لا ييبس، مدخراً أو لا، وأن الأئمة الثلاثة اشترطوا كما ذكرنا.

وهذا معنى قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: الآية 141] على أن المراد بها الزكاة.

وهذا الذي ذكرنا يعرف به الإنسان مذاهب العلماء في كل ما يخرج من الأرض، وقد بَيَّنَّا خلافهم في عين ما تجب فيه الزكاة، وبَيَّنَّا أنه عند الشافعي ومالك: كل ما يُقتات ويُدَّخَر، وأنه عند أحمد: كل ما يَيْبَس ويُكَالُ ويبقى، وأنه عند أبي حنيفة: لا يُشْتَرَطُ فيه شيء، هذا عين الذي تجب فيه الزكاة، وقد بينا أنها عند الجميع القدر الذي تجب فيه هو: خمسة أوسق فصاعدًا، وأن أبا حنيفة يوجبها في القليل والكثير، وأن القدر اللازم إخراجه هو العُشر فيما لا يُسقى بِكُلْفَة، ونصف العُشر فيما سُقي بهذا

(1)

. هذا هو حاصل كلام العلماء في هذه المسائل الثلاثة. وإذا عرفت عين ما تجب فيه الزكاة، وقدر النصاب الذي تجب فيه، وقدر الزكاة التي تخرج منه، فقد عرفت المسألة.

وقوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} فيه للعلماء إشكال -على أنه

(1)

انظر: القرطبي (7/ 109)، الأضواء (2/ 230).

ص: 330

الزكاة

(1)

- لأنه يوم الحصاد لم يكن تمراً يابساً، ولم يكن زبيباً يابساً، والزكاة إنما تُخرج منه بعد أن يكون تمراً يابساً، أو زبيباً يابساً. قالوا: المراد بيوم الحصاد: أن المراد به عند حصاده، ويراد: أن زمن الحصاد قد يطول إلى أن يصح يُبْسه من زبيب وتمر، ونحو ذلك، وهذا يوجد في كلام العرب، يقول: افعله عند كذا، ويريد به الاتساع في الوقت، كما تقول: لقيت زيداً سنة كذا، وتقول: لقيته في يوم أول منها، ويكون جميع السنة بعده لم تلقه فيه، هذا يمكن في كلام العرب، وهذا معنى قوله -على هذا القول-:{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

(2)

. قرأه أبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:{يَوْمَ حَصَادِهِ} وفَتْح الحاء في (الحصاد) هي لغة التميميين وغيرهم من قبائل نجد. وقرأ الآخرون: {يَوْمَ حِصَادِهِ} بكسر الحاء. وهي لغة الحجازيين، وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مشهورتان

(3)

: كالحَصاد والحِصاد، والجَذاذ والجِذاذ، والقَطاف والقِطاف

(4)

.

وقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُواْ} في هذه الآية أوجه معروفة متقاربة من التفسير

(5)

:

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 158) فما بعدها.

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 238)، الدر المصون (5/ 190)، التحرير والتنوير (8/ 122).

(3)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 204.

(4)

انظر: حجة القراءات ص 275، القرطبي (7/ 104)، أضواء البيان (2/ 246).

(5)

انظر: ابن جرير (12/ 173)، القرطبي (7/ 110)، ابن كثير (2/ 182).

ص: 331

أحدها: كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه، ولا تسرفوا في الإعطاء حتى تتركوا عائلتكم وأولادكم فقراء ليس عندهم شيء يأكلونه. والذين قالوا هذا قالوا: نزلت هذه الآية في المدينة في ثابت بن قيس بن شَمَّاس، كان عنده خمسمائة نخلة فجذَّها، وقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فلم يزل يُطعم الناس حتى راح وليس عنده ثمر، فنزل:{وَآتُواْ حَقَّهُ}

(1)

.

{وَلَا تُسْرِفُواْ} في الإيتاء حتى لا تتركوا لأنفسكم ولعيالكم ما يأكلون، وهذا التفسير كقوله:{وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: الآية 29]، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: الآية 67].

وقال بعض العلماء: لا تسرفوا في شيء من الأعمال؛ لأن الإسراف كله مذموم.

وقال بعض العلماء: إنه راجع إلى قوله: {وكُلُواْ} أي: كلوا من ثمره ولا تسرفوا في الأكل، كما قال:{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ} [الأعراف: الآية 31] وهذا أظهرها؛ لأن الإسراف في الأكل معروف معهود النهي عنه في الكتاب والسنة.

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} المسرفون: جمع المُسرف، اسم فاعل الإسراف، وأصل الإسراف: مجاوزة الحَدّ. تقول: أسْرَفَ فِي الشَّيْءِ: إِذَا جَاوَزَ بِهِ حَدَّهُ، وهو مُسْرِفٌ على نفسه: إذا كان يَتَعَدَّى

(1)

أخرجه ابن جرير (12/ 174) عن ابن جريج مرسلاً. وعزاه في الدر (3/ 49) لابن أبي حاتم. والرواية التي أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1399) إنما هي عن معاذ لا ثابت بن قيس. والله أعلم.

ص: 332

حدود الله إلى ما حَرَّمَه الله (جل وعلا)

(1)

. وهذا معنى قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} .

وهذه الآية كأنّا ذكرنا عندها نوعاً من أنواع الزكاة، وهو ما تنبته الأرض، وسيأتي في سورة براءة زكاة النقود: الذهب والفضة، وما جرى مجراهما من التجارات والمعادن والحُلي المباح، وغير ذلك، وسنذكره - إن شاء الله - عند محله

(2)

، وسيأتي في بعض المواضع في آيات الزكاة المطلقة ما تدخل فيه زكاة الحيوانات، وسنتكلم عليه - إن شاء الله - في موضعه. أما هذه الآية فهي خاصة بما تنبته الأرض، وقد تكلمنا على زكاة ما تنبته الأرض عند الأئمة الأربعة، ومع كل واحد منهم موافقون من فقهاء الأمصار، والله (جل وعلا) نسأل أن يوفقنا جميعاً إلى ما يرضيه.

يقول الله جل وعلا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام: الآية 142].

قوله: {حَمُولَةً} معطوف على {جَنَّاتٍ} مما قبله

(3)

. وتقرير المعنى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا، فهو منصوب بالعطف على منصوب؛ أي: وهو الذي أنشأ جنات معروشات، وأنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام،

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 176)، القرطبي (7/ 110، 111)، المفردات (مادة: سرف) 407.

(2)

انظر: الأضواء (2/ 434) فما بعدها.

(3)

انظر: القرطبي (7/ 111)، البحر المحيط (4/ 238)، الدر المصون (5/ 190).

ص: 333

والمعنى: هو الذي رزقكم أنواع النباتات والحبوب، وأنواع الأنعام، فما كان لكم أن تقولوا:{هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} ولا أن تجعلوا لشركائه من الأنعام والزروع شيئًا. أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشًا.

التحقيق أن الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم بأصنافها الثلاثة

(1)

، والحمولة: هي ما يُحمل عليه الأثْقَال، ويُسَافَرُ عليها -بها- من بلد إلى بلد

(2)

، كما قال:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل: الآية 7]{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: الآية 72] ومن نقل عن ابن عباس أن الحمولة: الإبل، والبغال، والخيل، وكل ما يُحمل عليه من الدواب

(3)

؛ فهو قول لا يصح؛ لأن الأنعام لا تطلق إلا على الإبل، والبقر، ونوعي الغنم، فلا تطلق على الخيل، ولا على البغال؛ ولذا فسَّر الله الأنعام في هذه السورة بقوله:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: الآية 143] كما يأتي إيضاحه؛ أي: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة؛ أي: مراكب تحملون عليها أمْتِعَتِكُم، وتركبون عليها، كالإبل. قال بعض العلماء: وكالبقر في بعض البلاد، وهو صادق؛ لأنَّا شاهدنا بعض الأقطار يحملون الأحمال الثقيلة على ذكور البقر من بلاد بعيدة إلى

(1)

انظر: القرطبي (7/ 111)، (10/ 68).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 178) فما بعدها، القرطبي (7/ 111 - 112)، ابن كثير (2/ 182).

(3)

أخرجه ابن جرير (12/ 180) من طريق علي بن أبي طلحة، وهو إسناد جيد، وقول ابن عباس هذا هو الذي رجحه ابن جرير رحمه الله في تفسيره (12/ 181).

ص: 334

بلاد بعيدة، وقد يكون عندهم ذكور البقر يحمل الواحد منهم فوق ما يحمله البعير

(1)

، ويسافرون عليها من بلاد إلى بلاد، وإن كان بعض علماء المالكية أفتى بأن البقر لا يجوز ركوبه، ولا الحمل عليه، ظنًّا منه أن ركوبه والحَمْلَ عليه من تَكْلِيفِهِ ما لا يطيقه

(2)

، ونحن شاهدنا ذي الأيام في بعض الأقطار ذكور البقر تكون معروضة تحمل الأثقال العظيمة من بلاد إلى بلاد رَأْيَ العين، وبذلك نعلم أنها داخلة في قوله:{حَمُولَةً} أي: ما يحملون عليه أثقالهم كالإبل، وربما دخل البقر في بعض الأقطار.

وقوله: {وَفَرْشاً} الفرش هنا فيه أقوال متقاربة للعلماء

(3)

: حكى الفراء إجماع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، وهي الفصلان

(4)

. وقال بعض العلماء: الفرش: الغنم.

والتحقيق: أن الآية تشمل كل ذلك، وأن الأنعام منها ركوبة كالإبل، ومنها فرش، وهو ما يؤكل، ويُشرب مِنْ لَبَنِهِ، مع أنه ليس صالحًا لِلرّكُوبِ، فيدخل في الفرش: الغنم، وفِصال الإبل، وعَجَاجِيل البقر؛ لأن ولد البقرة يُقال له: عِجل. ويُجمع على:

(1)

انظر: الحيوان للجاحظ (7/ 195).

(2)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1143)، القرطبي (10/ 72، 77)، إكمال إكمال المعلم للأُبي (6/ 197).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 178) فما بعدها، القرطبي (7/ 112)، ابن كثير (2/ 182).

(4)

لم يرد ذكر لهذا الإجماع عند تفسير الفراء لهذه الآية في كتابه: (معاني القرآن 1/ 359) وإنما الذي نقل الإجماع في ذلك هو الزجاج في معاني القرآن (2/ 298) فلعل الشيخ عناه لكن سبق لسانه إلى الفراء.

ص: 335

عجاجيل، على غير قياس

(1)

، فالغنم، وفِصَال الإبل، وعجاجيل البقر كلها يدخل في الفرش.

قيل: وإنما سُميت هذه الصغار: (فرشاً) لقربها من الفراش والمهاد الذي هو التراب؛ لأنها صغيرة قصار قريبة من الأرض. هكذا قالوا، والله أعلم

(2)

.

وعلى كل حال فجميع الأقوال راجعة إلى أن الله أنشأ الأنعام، وجعل فيها منَّة الركوب والأكل.

أما قول من قال: (فرشاً) فإنه لا يتناول إلا ما يُصنع منه الفِرَاش، كالضأن الذي يُصنع من صوفها الفراش، والمعز الذي يصنع من بعض شعرها الفراش ونحو ذلك، وأن الفرش هو ما يستمده الخلق من جلود الأنعام، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها

(3)

- كما يأتي في سورة النحل - فهذا قول غير متجه؛ لأن المنة تكون بمجرد الأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود، لا بنفس الأنعام، والمعروف في القرآن - وإنْ ذَكَر المِنَّة بالأصواف، والأوبار، والأشعار، والجلود في قوله:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: الآية 80] وفي قوله: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} الآية [النحل: الآية 80] إلا أن المراد هنا: - الامتنان بها جميعًا، وأعظم أنواعه: الأكل منها، وهذا المعروف في القرآن، كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

(2)

انظر: القرطبي (7/ 112).

(3)

انظر: القرطبي (7/ 112)، البحر المحيط (4/ 239)، الدر المصون (5/ 191).

ص: 336

أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} [يس: الآيتان 71، 72]{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: الآية 5]{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: الآية 79] إلى غير ذلك من الآيات، فتبيّن أن المنة في الركوب، وغيره من الأكل، وغير ذلك من النعم، يعني: هذا الذي أنشأ لكم الأنعام -حمولتها وفرشها- هو الله جل وعلا.

ثم قال: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} أي: هذا الذي خلقته لكم، وهي: الأنعام، والفرش، كلوا من الذي رزقكم الله من الأنعام، والفرش، والزروع، المعطوف عليها في قوله:{أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: الآية 141] فهذا رزق الله كلوا منه، ولا تُحرِّموا منه شيئاً على أنفسكم افتراء على الله، ولا تجعلوا منه شيئًا للأوثان، كما قال:{وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني: كلوا من رزقي ونعمتي، ولا تتبعوا في نعمتي ورزقي تشاريع الشيطان وقوانينه، بأن تُحلّوا هذه وتُحرموا هذه، فتُحرموا البَحِيرة والسائبة، والوصيلة، والحام، وتقولوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وتقولوا: هذه أنعام وحرث حجر، كل هذا اتباع خطوات الشيطان.

والآية نص صريح في أن مَنْ مشى على تشريع جَعَلَه الشيطان، يُحل فيه ما لا يُحله الله، ويحرم فيه ما لا يحرمه الله، أنه اتبع خطوات الشيطان.

ص: 337

والخُطوة - بضم الخاء - هي ما بين قَدَمَيِ المَاشِي

(1)

، فكما بين قدمي الماشي من المسافة:(خُطوة)، والمرّة من خَطْوِهِ تُسمى (خَطْوَه) بالفتح، وفيه قراءتان سبعيتان: قرأه ابن عامر، والكسائي، وقُنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم:{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} بضم الطاء إِتباعاً للخاء، وقرأه باقي السبعة: نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والبَزِّي عن ابن كثير، وشعبة عن عاصم:{خُطْوات الشيطان} بسكون الطاء

(2)

.

والشيطان - قبحه الله - معروف، وهو هنا: الشيطان الذي سنّ المعاصي، وقد قدمنا مرارًا

(3)

أن كل مُتَمَرِّدٍ عاتٍ شَيْطان، وذكرنا أن الشيطان فيه قولان للعلماء: هل اشتقاقه من (شَطَنَ الشيء) بمعنى بعُد، أو اشتقاقه من (شَاطَ الشيء) إذا هَلَكَ؟ قال بعض العلماء: الشيطان من (شَطَن) تقول العرب: «شَطَنَ، يشطن، فهو شطين» ، أي: بعيد، ومنه قول الشاعر

(4)

:

نَأَتْ بِسُعَادَ عنكَ نَوى شَطُون

فَبَانَت والفُؤادُ بِهَا حَزِينُ

وهذا القول جاء في شعر العرب ما يدل عليه، فقد قال أُمية بن أبي الصلت الثقفي - وهو عربي قُح - يمدح سليمان

(5)

:

أيما شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ

ثم يُلْقَى في السِّجْنِ والأكْبَالِ

(1)

انظر: المفردات (مادة: خطو) ص288.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص139.

(3)

مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة.

(4)

السابق.

(5)

مضى عند تفسير الآية (43) من هذه السورة.

ص: 338

فقوله: «أيما شَاطِن» : يعني: أيما شيطان، والشَّاطِن: اسم فاعل من (شَطَنَ) بلا نزاع، فدل هذا البيت على أن أصله من (شَطَن) فالعرب تقول: شَطَنَ قَعْرُ البير: إذا بعدت مسافة عمقها.

وعلى هذا القول فاشتقاق الشيطان من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) أي: لشدة بُعده عن رحمة الله -والعياذ بالله- وعلى هذا القول: فوزن الشيطان بالميزان الصرفي: (فَيْعَال) والياء زائدة، والنون أصلية، بناء على أنه من (شَطَنَ) بمعنى (بعُد) ذكر هذا سيبويه في موضع من كتابه، ثم ذكر القول الآخر في موضع آخر من كتابه، أن أصل الشيطان من (شَاطَ يشيطُ) إذا هلك، تقول العرب: شَاطَ الفارسُ يَشِيطُ: إذا هلك

(1)

. وهو معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس

(2)

:

قد نَخْضِبُ العيرَ من مكْنُونِ فَائِلِه

وَقَدْ يَشِيطُ على أرْمَاحِنَا البَطَلُ

أي: يهلك عليها.

وعلى أنه من (شَاطَ يَشِيطُ) فوزنه بالميزان الصرفي (فَعْلان) لأن الألف والنون زائدتان؛ لأن أصل حروفه الأصلية على هذا: (شَيَط) فاؤها شين، وعينها ياء، وطاؤها لام، والألف والنون زائدتان، فعلى القول الأول فوزنه:(فَيْعَال) وعلى الثاني فوزنه (فَعْلَان) وكل متمرد عات شيطان، سواء كان من الإنس أو الجن أو غيرهما، ومن شعر جرير

(3)

:

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 339

أَيَامَ يَدْعُونَني الشَّيْطَان مِنْ غَزَلٍ

وَكنَّ يَهْوَيْنَني إذْ كُنْتُ شيطاناً

ثم قال: {إِنَّهُ} أي: الشيطان {لَكُمْ} يا بني آدم {عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: بيّن العداوة ظاهرها؛ لأن الشيطان هو عدو بني آدم؛ لأن زَعْمَ الخبيث أن سبب شقائه هو آدم، حيث امتنع من السجود له، وقال: ما دام آدم هو سبب شقاء البعيد فسيبذل كل مجهود حتى يُشقي أولاد آدم، وقد أظهر العداوة لله لبني آدم مجاهرًا بها، ولم يكتمها، ولم يوارِ حيث قال:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: الآيتان 16، 17]{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} الأظهر في تفسيرها أن معنى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: الآية 62] لأقودنهم إلى المهالك بتزييني، من قول العرب: احْتَنَكَ الرجل البعير: إذا جعل الحَبْلَ على حَنَكَيْهِ فَقَادَهُ بِالحَبْلِ على حنكيه حيث شاء، وقال هذا مرارًا:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: الآية 39]{وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: الآية 119] فقد أظهر العداوة، فربنا يقول: كونوا عقلاء، واعرفوا عدوكم من صديقكم، واعرفوا أن الشيطان عدوكم، فلا تتبعوا خطوات الشيطان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: الآية 6] {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: الآية 50] وهذا قد قاله للأب والأم الكبيرين، ولكن الله لم يشأ أن ينفعهما بذلك، حيث قال لآدم: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ

ص: 340

الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: الآية 117] بين له

عداوته، وحذره منها، ولكن قضاء الله غالب، وقدره نافذ، فعلينا معاشر المسلمين أن نعلم أن الشيطان عدونا فنعاديه، ولا ننجرّ معه إلى ما يريد أن يجرَّنَا إليه من المعاصي والهلكات؛ لأنه عَدُوٌّ طَالِبُ ثَأْرٍ، يريد أن ينتقم منا، فالمسلم الفاهم إذا قَرَأَ آية في سورة سبأ - إن كان يَفْهَم عن الله - عرق جبينه من الخَجَل إن كان يتبع الشيطان؛ لأن الشيطان احتقرنا معاشر الآدميين احتقاراً عظيماً لا مثيل له، حيث إنه عدونا، واعتقد فينا أن عندنا من سَذَاجة العقول، وعدم الفهم، وعدم عمق العقل أنه إذا أراد أن يجرنا إلى المَهْلَكة بوساوس، وتزيينات وزخارف فاضية أننا نبلغ من سذاجة العقول وعدم التفكير وسوء النظر أننا ننجَرُّ معه حتَّى يُدْخِلَنَا في المهلكة، ويشفي غَيْظَهُ مِنّا، وينتقم منا، ظن هذا في بني آدم اعتقاداً منه سوء عُقُولهِم، وعدم نظرهم، إلا القليل منهم؛ لأن قوله:{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ظَنٌّ منه؛ ولذا قال: {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [الحجر: الآيتان 39، 40] زعموا أنه خاف أن يَظْهَرَ عليه الكذب. ومن هنا قال بعض العلماء: لا خصلة أقبح مِنَ الكَذِب؛ لأن الشيطان تحرَّزَ عنها حيث قال: {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} وما قال هذا إلا ظنّاً ببني آدم ضَعْفَ العقول، وضَعْفَ النظر، وعدم التفكير، ومع هذا يقول الله في سورة سبأ، وهي الآية التي تُحزن المؤمن المتبع للشيطان:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ: الآية 20] هذه الآية إذا تَأَمَّلَها المسلم الذي يعلم من نفسه أنه يتبع الشيطان عرق جبينه من الخجل، حيث يكون الشيطان يعتقد فيه من السذاجة وضعف العقل، وعدم النظر والتفكير أن عدوه إذا أراد أن يقوده حتى يوقعه

ص: 341

في مَهْلَكَة ويشفي غيظه منه ويأخذ بثأره وينتقم انقاد معه، قال هذا ظنًّا، ومع هذا يصدق هذا الظن!! فهذا شيء يُحْزِن المؤمن، وينبغي التنبّه له:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} وفي القراءة الأخرى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً}

(1)

هم الذين قال فيهم: {إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [الحجر: الآية 40]. وكان حُذّاق العلماء يقولون: علينا معاشر الآدميين أن نعتقد أن الشيطان عدونا، وأنه سبانا من دار الكرامة التي كان فيها الأبوان: الجنة، التي قيل لآدم فيها:{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119)} [طه: الآيتان 118، 119] فأخرجنا الشيطان من دار الكرامة، فنحن سبي الشيطان، أخرجنا من تلك الدار إلى هذه الدار، التي هي دار الشقاء والمصائب والأحزان والبلابل، لا يكاد إنسان يسلم يوماً ولا ليلة من أذيّة من أذاياها، وكان العلاّمة ابن القيم رحمه الله يقول في هذا الموضوع

(2)

:

ولكنَّنَا سَبيُ العدوِّ فهل تُرَى

نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ

فعلينا أن نجاهد العدو ونعاديه، حتى يمكننا الرجوع إلى الوطن الأول؛ لأنه لما وقعت الزلة من الأبوين - آدم وحواء - حكم الله أنه لا يُدخل أحداً من ذريتهما جنته إلا بعد الامتحان في الأوامر والنواهي، وهذا معنى قوله:{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فلا تتبعوا خطواته.

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 363 ..

(2)

طريق الهجرتين ص51، شرح القصيدة الميمية ص34، وأول الشطر الثاني:«نعود» .

ص: 342

والمبين: اسم فاعل (أبان) و (أبان) تأتي في العربية على لُغَتَيْنِ:

أحدهما

(1)

: (أبان) اللازمة، تقول العرب: أبان الشيءُ يُبين، فهو مُبين: إذا كان بيناً ظاهراً لازماً غير متعد للمفعول، وهذه لغة فصحى معروفة في كلام العرب، وفي القرآن العظيم، ومن إطلاقها في كلام العرب قول جرير

(2)

:

إذا آباؤُنَا وأبوكَ عُدُّوا

أبَانَ المُقْرِفَات من العِرَابِ

أبان: أي: ظهر المُقْرِفَات من العِرَاب. وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي

(3)

:

لو دبَّ ذرّ فوقَ ضاحي جلدِهَا

لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدورُ

يعني: لظهر من آثار دبيب النمل ورم لشدة رقة بشرة الجِلْد. فـ (أبان) هنا لازمة لا مفعول لها.

ومن إتيان (المُبين) لازماً من اسم فاعل (أبان) اللازمة: قول كعب بن زهير في (بانت سعاد)

(4)

:

قَنْوَاء في حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا

عِتْقٌ مُبينٌ وَفِي الخَدَّينِ تَسْهيلُ

عِتْقٌ مُبِيْن؛ أي: كرم ظاهر.

وعلى أن (مبيناً) هنا من (أبان) اللازمة، والمعنى: إن الشيطان لكم عدو مبين؛ أي: بَيِّنٌ العَدَاوَةِ ظاهرها واضحها، من أبان يُبِينُ، فهو مبين، لازماً، وقد يحتمل أن يكون من (أبان) المتعدية،

(1)

مضى عند تفسير الآية (55) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(3)

مضى عند تفسير الآية (55) من هذه السورة.

(4)

السابق.

ص: 343

والمفعول محْذُوف، أي: مُبِين عداوته ومظهرها، حيث صرح بذلك في قوله:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ} [الأعراف: الآية 16]{لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: الآية 62]{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: الآية 39] فهنا أبان عداوته. وعلى أنه من (أبان) المتعدية: فالمفعول محذوف، وحَذْفُ المفعول إذا دل المقام عليه جائز كما هو معروف في كلام العرب.

في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: الآية 143] أوجه معروفة من الإعراب

(1)

: أظهرها وأصحها: أنها بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: الآية 142] أي: أنزل لكم من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بيّن الحُمُولة والفرش ما هي؟ فبينها بالإبدال منها فقال:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} .

والمراد بالأزواج هنا: الأصناف، وكل شيء يحتاج إلى أن يجتمع مع واحد من جنسه تُسميه العرب: زوجًا

(2)

؛ كالخُفّ فإنه يحتاج إلى خُفٍّ آخر فهو زَوْجُه، وكأحد مصراعي الباب فإنه يحتاج إلى مِصْرَاعٍ آخَرَ فَهو زَوْجُه، وكالذَّكَر فإنه يحتاج إلى الأنثى فهي زَوْجُه؛ لأنهما مُزْدَوْجَان.

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} الضَّأْن معروف، وهو نوع الغنم الذي فيه الصوف، ومُقَابِله: المعز، وقرأه عامة القراء:{مِّنَ الضَّأْنِ} بتحقيق الهمزة، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو:

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 183)، القرطبي (7/ 113)، البحر المحيط (4/ 239)، الدر المصون (5/ 191).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 113).

ص: 344

{مِّنَ الضَّاَنِ اثْنَيْنِ}

(1)

.

وقوله: {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} قرأه نافع والكوفيون الثلاثة -وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، قرؤوا:- {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} بسكون عين المعْزِ، وقرأه الباقون - وهم: ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو - {وَمِنَ المَعَزِ اثْنَيْنِ} بفتح عين المعز

(2)

. وهما لغتان في (المَعَز، والمَعْز)، وكذلك (الضأَن، والضأْن)

(3)

ولكن (الضأَن) لم يُقرأ بها، إنما قرأوا بـ (الضأْن) بالسكون، وأبدلها السوسي عن أبي عمرو، وأظهر اللغتين:(المَعْز) بالسكون؛ لأن (الفَعْل) قد يُجمع على (فَعِيل) والمعز يجمع على مَعِيز، كالعبد، والعبيد، والمعز، والمعيز، ومِنْ جَمْعِه على (المَعِيز) قول امرئ القيس

(4)

:

أَبَعْدَ الحَارِثِ المَلِكِ ابْنِ عَمْرٍو

لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ

وَيَمْنَعُها بنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ

مَعِيْزَهمُ حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ

(1)

انظر: الإقناع (1/ 408، 425)، النشر (1/ 390).

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 204.

(3)

انظر: القرطبي (7/ 114)، الدر المصون (5/ 194).

(4)

ديوان امرئ القيس ص 169. وبين البيتين المذكورين بيت لم يذكره الشيخ رحمه الله، وهو قوله:

مُجَاوَرَةً بَنِي شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ

هَوَانًا مَا أُتيحَ مِنَ الَهوَانِ

وقوله: (الحارث) هو: الحارث الأَكرم بن عمرو بن معاوية.

وقوله: (بنو شمجى) حي من طيئ، قال ذلك حينما نزل بهم فلم يحمد نزلهم.

وقوله: (حنانك) أي: تحننك وترحمك. يتهكم بهم.

وقوله: (ويمنعها) يرويه بعضهم: (يمنحها).

ص: 345

{مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} أي: زوجان، ذكر الضأن وأُنثاه، وهما: الكبش والنعجة {وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} ذكره وأنثاه، وهو: التَّيْس والمعزة. ويقال لها: المعزى والعنز. والمعزى تطلق على جنس المعز أيضًا، ومنه قول امرئ القيس

(1)

:

أَلَا إلَّا تكُنْ إبلٌ فمِعْزَى

كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا الْعِصِيُّ

فهذه أربعة أصناف من الغنم، وهي: الكبش، والنعجة، والتيس، والمعزة - التي هي العنز - هذه أربعة في الغنم من الأزواج الثمانية.

ثم قال بعد هذا: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ} وهما: الجمل والناقة.

{وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} ذكر البقر وأنثاه، البقرة والثور. فهذه هي الأصناف الثمانية، التي هي الأنعام، التي يُباح أكلها من الحيوانات، كما سيأتي في قوله:{وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: الآية 6] وهي هذه الثمانية. وهذا معنى قوله: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} {ءَآلذَّكَرَيْنِ} الهمزة الأولى همزة استفهام، والثانية همزة الوصل. والقاعدة: أن همزة الوصل إذا كانت همزة (أل) وجاءت قبلها همزة الاستفهام، أن همزة الوصل تُبدل مدّاً بهمزة الاستفهام

(2)

، ويجوز تسهيلها بين بين، وبعضهم

(1)

ديوان امرئ القيس ص171.

وقوله: (جلتها) أي: كُبراها. والمعنى: إذا لم يكن في اليد إبل مقتناة فإن الاجتزاء بالمعزى فيه سداد من عوز.

(2)

انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 551)، الإقناع لابن الباذش (1/ 359)، المُوضح لابن أبي مريم (1/ 191)، النشر (1/ 362) فما بعدها، الكليات ص 20 - 21، 956، معجم الإعراب والإملاء ص 28، الهمزة في الإملاء العربي ص 22 - 24.

ص: 346

يُجيز إبدالها هاء. وزعم بعض علماء القراءات أن الذين مدّوها هنا قالوا: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} أنهم جاءت عنهم قراءات بتسهيلها بين بين {ءَآلذَّكَرَيْنِ} وعلى تسهيلها لم يكن بينهما أَلِف الإدخال؛ لأن الأَلِف في التسهيل بين بين إنما يأتي بالهُمَز المحققة. ومن تسهيل العرب لهمزة الوصل بعد همزة الاستفهام قول الشاعر

(1)

:

أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ

وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ

هي تمدها العرب وتسهلها، فشاهد مدها - كقوله هنا {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ} - قول الشاعر:

أَيَا ظَبيةَ الوَعْساء بين جُلاجلٍ

وبين النقا آأنتِ أَمْ أُمُّ سالمِ

الأصل: (ءأنت) ولكنها هنا ليست همزة وصل، بل همزة أُخرى، وتسهيلها وهي همزة وصل شاهده قول الشاعر

(2)

:

أَأَلْحَقُّ إنْ دارُ الرَّبابِ تباعَدَتْ

أو انْبَتَّ حبْلٌ أنَّ قَلْبَكَ طائِر

قوله: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} ، {ءَآلذَّكَرَيْنِ}: مفعول {حَرَّمَ} مقدم عليه. والمعنى: أحرم الله الذكرين، ذكر المعز والضأن {أَمِ الأُنثَيَيْنِ} أم حرم أُنثيي الضأن والمعز {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} حرم الذكور والإناث كُلاًّ، كأنه يقول: تفريقكم بين بعض الذكور وبعض الإناث، وبعض ما في بطون الأنعام بأن تُحِلُّوا بعض هذا، وتُحرموا بعضه، إن كانت العلة في تحريم الذكر الذكورة، فكان

(1)

البيت لذي الرمة. وهو في الكتاب (3/ 551)، الأمالي (2/ 58)، الدر المصون (1/ 110).

(2)

البيت لعمر بن أبي ربيعة. وهو في الكتاب لسيبويه (3/ 136)، النشر (1/ 377).

ص: 347

اللازم أن يحرم كل ذكر لاطراد العلّة، وإن كانت الأنوثة لزم أن تحرم كل أنثى لاطراد العلّة، وإن كان كونه في البطون - مشتملة عليه الرحم - لزم أن يحرم كل مولود من ذكر وأنثى، وكل لبن؛ لأن الكُلّ اشتملت عليه الرحم!! فكأنه يقول: تفريقكم هذا باطل؛ لأنه لو كانت العلة الذكورة لحرم ذكر الضأن والمعز معًا وأنثاهما كُلاًّ، ولو كانت التخلق في الرحم لحرم ما اشتملت عليه الرحم مطلقًا، فَلِمَ حَرَّمْتُم بعض هذا، وحللتم بعض هذا؟ وما الفارق بين ما حللتم وحرمتم؟

ثم قال: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ} الجمل والناقة، {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} البقرة والثور، ثم أعاد القضية {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} عجّزهم في الأول، فقال:{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أخْبِرُونِي عن هذا الذي حَرَّمْتُمْ، وهذا الذي حللتم، ما وجه تحريمكم لهذا وتحليلكم لهذا مع استواء الجميع؟! وقال في الثاني:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ} ؟

وآية الأنعام هذه مثال معروف لِعُلَمَاءِ الجَدَلِ للدليل الذي يسميه الجدليون: (الترديد والتقسيم)

(1)

، ويسميه المنطقيون:(الشَّرْطي المُنْفَصل)

(2)

ويسميه الأصوليون: (السبر والتقسيم)

(3)

،

(1)

انظر: الكافية في الجدل ص 394، علم الجذل في علم الجدل للطوفي ص60، الإيضاح لابن الجوزي ص80، الجدل لابن عقيل ص 19، البحر المحيط للزركشي (5/ 225)، القبس لابن العربي (3/ 1070) وفي المصدرين الأخيرين تجد النص على هذه الآية.

(2)

انظر: إيضاح المبهم للدمنهوري ص90، تسهيل المنطق ص43.

(3)

انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 142)، المذكرة في أُصول الفقه ص257.

ص: 348

فكأنه يقول: حرمتم بعض هذه الإناث، وحللتم بعضها، وحرمتم بعض الذكور، وحللتم بعضها، وفرقتم بين ما في بطون الأنعام فقلتم: إنه خالص للذكور، محرم على الأزواج، فرقتم بين هذه الأحكام، فلا يخلو تفريقكم بينها من أحد أمرين في التقسيم الصحيح: إما أن يكون مُعَلّلاً بعلة معقولة، وإما أن يكون تعبديًّا.

وهذا الحصر هو المُعَبَّر عنه بالتقسيم في اصْطِلَاح الأصوليين والجَدَلِيين، والمُعَبَّر عنه بالشرطي المنْفَصِل في اصطلاح المنطقيين، فكأنه يقول: لا يخلو الحال من أمرين: إما أن يكون مُعَللاً، وإما أن يكون تعبديّاً. ثم قال - مثلًا - بناءً على أنه مُعلل: إما أن تكون العلة في الذكور: الذكورة، وفي [الإناث]

(1)

: الأنوثة، أو التخلق في الرحم، فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر، ولم يحرم الحَامَ دون غيره من الذكور، ولو كانت العلة الأنوثة لحرمت كل أنثى، ولم يختص بالبحيرة والسائبة والوصيلة، ولو كانت العلة اشتمال الرحم، لحرم الجميع، وحرم اللبن أيضًا الذي فَرَّقْتُمْ فيه، فحرم الجميع.

ثم قال بناء على أنه تعبُّدِيٌّ أبطله بقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} أم كنتم حاضرين حتى قال لكم الله: هذا حلال وهذا حرام؟ فهذا باطل أيضًا، فبين أن جميع دعاويهم أنها باطلة كلها بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم، وقد بَيَّنَّا أن هذا الدليل من أمهات الجدل العظام،

(1)

في الأصل: «الأنوثة» .

ص: 349

حيث حصر جميع الأوصاف، ثم أبطلها كلها، ولا يكون بهذا المعنى إلا عند الجدليين؛ لأنه عند الأصوليين لا يكون إلا في مسالك العلّة، ولا بد أن يبقى وصف صحيح هو العلّة. كأن تقول: العلّة في تحريم البر: إما أن تكون الطَّعْم، أو الكيل، أو الاقتيات والادخار، فلا بد أن تُبطل بعض الأوصاف، وتترك وصفاً صالحاً في زَعْمِكَ، تقول: إنه علّة.

وقد ذكرنا في كثير من المناسبات

(1)

وفي بعض ما كتبنا في الكتب

(2)

أشياء كثيرة عن هذا الدليل، وذكرنا له آثاراً تاريخية في العقائد، وآثاراً تاريخية في الآداب، وذكرنا له أمثلة قرآنية.

فمن أمثلته القرآنية: هذه الآية، ومن أمثلته القرآنية قوله:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: الآية 35] فكأنه يقول: لا يخلو حالهم من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكونوا خَلَقُوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، أو خَلَقَهم خالق، فهذه ثلاثة أقسام، اثنان منها باطلان بلا نزاع، وهو كونهم خلقوا أنفسهم، أو خُلقوا من غير خالق، فتغلب القسم الثالث أن لهم خالقًا هو رب السماوات والأرض، تجب عليهم طاعته وعبادته، ولا نطيل من أمثلته في القرآن، ونقتصر على أن نذكُر له أثراً تاريخيّاً في العقائد، وأثراً تاريخيّاً في الآداب.

(1)

راجع ما تقدم عن تفسير الآية (115) من سورة الأنعام، وما سيأتي عند تفسير الآية (30) من سورة التوبة.

(2)

انظر: نثر الورود (2/ 485)، مذكرة أصول الفقه ص 257، آداب البحث والمناظرة (1/ 47)، (2/ 7 - 20) أضواء البيان (4/ 365 - 384).

ص: 350

أما أثره التاريخي في العقائد، فما جاء عن بعض المؤرخين من أن هذا الدليل هو أول مصدر لكبح المحنة العظمى التي قُتل فيها العلماء وعُذّب فيها أفاضلهم وقُتلوا، وهي محنة القول بِخَلْقِ القُرْآن؛ لأن محنة القول بخلق القرآن نشأت في الدولة العباسية أيام المأمون، واستحكمت أيام المأمون وأيام المعتصم وأيام الواثق، فهؤلاء الخلفاء الثلاثة العباسيون مضت مدتهم ومحنة القول بالقرآن قائمة على ساق وقدم، يُمتحن العلماء، فمنهم من قُتل، ومنهم من عُذّب، ومنهم من وافق مداهنة خوفاً على نفسه من الموت، وكان القائم بهذه الدعوة: الخبيث أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المشهور، الذي يقدسه العباسيون، وهو العالم الوحيد في نَظَرِهِمْ، وهي التي ضُرب فيها سيد المسلمين في زمانه: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل - غمده الله برحمته الواسعة، وجزاه خيراً - لأنه هو الذي بقي وحده صامداً، وضُرب في أيام المعتصم ضربًا مُبَرِّحاً، حتى يُرفع من محل الضرب لا يدري ليلاً من نهار، وكلما أفاق وقالوا له: قل القرآن مخلوق!! يقول: لا، القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى جاء المتوكل على الله بعد الواثق، فأزال الله هذه المحنة على يديه -جزاه الله عن هذه الحسنة خيراً- وأظهر السنة

(1)

.

ومقصودنا ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وذكره غير واحد

(2)

، وإن كانت القصة ذكر ابن كثير في تاريخه أن في إسنادها

(1)

انظر: البداية والنهاية (10/ 316).

(2)

انظر: تاريخ بغداد (4/ 151 - 152)، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (الكتاب الثالث)(2/ 269 - 277)، الشريعة للآجري ص91، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص431 - 437، محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص 167 - 175، سير أعلام النبلاء (10/ 307 - 311)، (11/ 312، 313 - 316) وأشار إلى ضعفها، وفي تاريخ الإسلام في حوادث (231 - 240هـ) في ترجمة الواثق.

ص: 351

عند الخطيب بعض من لا يُعرف

(1)

، فهي قصة مشهورة، تلقاها العلماء بالقبول في أقطار الدنيا، وهي مشهورة، والاستدلال بها صحيح بلا شك، وهو بهذا الدليل، وذلك أنه في أيام الواثق جيء بشيخ من أهل السنة من الشام

(2)

، مقيد بالحديد، يُمتحن في القول بخلق القرآن، وَرَدَ الامتحان على أنه عُزم على قتله. روى هذه القصة محمد المهدي ولد الواثق، قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرني، فلما أراد قتل هذا الشيخ الشَّامِي أحْضَرَنِي، وقال: ائذنوا لأبي عبد الله. يعني: أحمد بن أبي دؤاد، فجاء، فقال الشيخ الشامي المُكَبَّل بالحديد، السني: السلام عليك يا أمير المؤمنين!!

فقال له الواثق بالله - وهو غضبان -: لا حَيَّاكَ الله، ولا سَلَّمَك!!

فقال له: بئس ما أدَّبَكَ مُؤَدِّبُك يا أمير المؤمنين! الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: الآية 86] والله ما حييتني بأحسن منها ولا رددتها!!

قال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!!

فقال الواثق: ناظره، وفي بعض روايات القصة: أن الشيخ

(1)

انظر: البداية والنهاية (10/ 321).

(2)

وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الجزري الموصلي الأذرمي.

ص: 352

الشامي قال: هو أحقر من أن يُناظرني!! فازداد غضب الواثق عليه، ثم إن ابن أبي دؤاد قال للشيخ الشامي: ما تقول في القرآن؟

فقال الشيخ الشامي: ما أنصفتني!! يعني: ولي السؤال، إن المقيد الذين يريدون أن يقدموه للموت أولى بالسؤال!

فقال: سل!

فقال: ما تقول أنت يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟

فقال: مخلوق.

قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، ويقتل الخلفاءُ العلماءَ بسبب دعوتك إليها، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الرَّاشِدُون، وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان عالمين بها أو لا؟

قال ابن أبي دؤاد: لم يكونوا عالمين بها.

فقال الشيخ الشامي: سبحان الله! جَهِلَهَا رسول الله، وعلمها أحمد بن أبي دؤاد!

فقال ابن أبي دؤاد: أَقِلْني، والمناظرة على بابها.

فقال له: لك الإقالة.

ثم قال: ما تقول في القرآن؟

قال: مخلوق.

قال: هل كان رسول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بدعوتك هذه التي تدعو الناس إليها أو جاهلين؟

قال: كانوا عالمين بها، ولكن لم يدعوا الناس إليها.

ص: 353

فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد، ألم يسعك في أمة رسول الله ما وسع رسول الله؟ ولم يسعك في أمة رسول الله ما وسع خلفاءه الراشدين؟! ففهم الواثق الحقيقة، وقام من مجلسه، واضطجع في محل خلوته واستلقى، وجعل رِجْلَه على رجْلِه ثم قال: جهلها رسول الله وعلمتها أنت يا ابن أبي دؤاد؟! ثم قال: علمها رسول الله وخلفاؤه الراشدون ولم يدعُوا الناس إليها، ألم يسع ابن أبي دؤاد في أمة محمد ما وسع رسول الله وخلفاءه الراشدين؟! وعلم أن ابن أبي دؤاد مُبْطِلٌ.

قالوا: فَمِنْ ذَلِكَ اليوم لم يَمْتَحِن أحداً بَعْدَهَا، ولم يُقَدَّم عالم ليُمْتَحَن في القول بخلق القرآن.

وذكر الخطيب: أن الواثِقَ مَاتَ بعد أن تاب منها

(1)

بسبب قصة هذا الشيخ.

وهذا الشيخ إنما استدل بهذا السبر والتقسيم، كأنه يقول: مقالتك هذه لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن يكون النبي وخلفاؤه عالمين أو جاهلين؟ فلا قِسْم إلَاّ هذان القسمان، ثم نرجع إلى القسمين فنسبرهما ونختبرهما، ونظنك يا ابن أبي دؤاد ضالّاً على كل [19/أ] تقدير، إذا كان عالماً ولم يَدْع الناس إليها فقد يسعك ما وسعه،/وإن كان غير عالم بها وأنت عالم بها فهذا لا يمكن أن يُقال! فأنت ضال مبطل على كل تقدير.

ومن آثار هذا الدليل الأدبية: ما ذكره المؤرخون: أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واشٍ إلى عبيد الله بن زياد

(1)

انظر: تاريخ بغداد (14/ 18).

ص: 354

المعروف -زياد ابن أبيه، الذي يقولون له: زياد بن أبي سفيان؛ لأنه استلحقه معاوية بعد موت أبي سفيان، وهو معروف- قال لعبيد الله بن زياد واشٍ من الوشاة: إن ابن همام السلولي يعيبك ويقول فيك كذا وكذا، فأحضر ابنُ زياد الواشي، وجعله في غرفة قريبةٍ، وأحضر السلولي، وقال: لِمَ تعيبني وتقول فيَّ كذا وكذا؟ قال: أصلح الله الأمير، ما قلت شيئاً من ذلك! ففتح وأخرج الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت كذا وكذا! فسكت ابن همام هُنيهة ثم قال يخاطب الواشي:

وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا

فَخُنْتَ، وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمِ

فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا

بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ

(1)

فكأنه يقول: لا يخلو الحال بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن أكون قلت لك سرّاً واستَكْتَمْتُكَ إيَّاهُ، أو قلتَ عليَّ بهتاناً وكذباً، ثم نرجع إلى القسمين فنجدك - أيها الواشي - مُبْطِلاً على كليهما! إن كنتُ أفشيت لك سرّاً وطلبت منك الستر فما سترتني، فأنت خسيس خائن، وإن كنتَ قُلتَه عليّ افتراءً فهذا أظهر وأظهر!

ففهمها ابن زياد، وقال للواشي: اخرج عنّي. ولم يتعرَّض لابن همام السلولي بسوء.

وهذا هو الذي ذكره الله هنا، بأن حصر الأوصاف بالذكورة والأنوثة، والتخلق في الرحم، وبيَّن بطلان كلها؛ إذ لو كانت الذكورة لحرم كل ذكر، ولو كانت الأنوثة لحرَّم كل أنثى، ولو كانت التَّخَلُّق

(1)

انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (14/ 127).

ص: 355

في الرحم لحرّم الجميع، فتبين كذبهم وبطلانهم، ثم أتبع هذا بقوله:{فَمَنْ أَظْلَمُ} ؛ لأنهم لما أعيتهم الحجة، ذكر المؤرخون أن رئيسهم الذي ناظر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا مالك بن عوف الجُشَمي الهوازني، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«إذا كنتم تحرمون الذكور فَلِمَ فرقتم بين ذَكَرٍ وذَكَرٍ؟ وإذا كنتم تحرِّمون الإناث فما العِلَّة التي فَرَّقْتُمْ بِهَا بَيْنَ أنْثَى وأُنْثَى، أو الله أمَرَكُمْ بهذا؟» {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} [الأنعام: الآية 144] فَبُهِتَ وسكت

(1)

.

وكانوا إذا عجزوا وغُلِبُوا بالدليل قالوا: وجدنا عليها آباءَنَا والله أمرنا بها، فقطع الله دابر ذلك أيضًا فقال:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً} وقال: إنه أمره بالباطل {قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف: الآية 28] لأجل أن يضل الناس بغير علم، أي: بتشريع جاهلي بغير علم {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذه الآية يدخل فيها كُلّ مَنْ قَال بأمورٍ لا توافق الشرع، ودعا خلقاً يتبعونه إليها فإنه يدخل في عمومها.

وقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فيه سؤال معروف؛ لأن

(1)

هذه الرواية أوردها البغوي في التفسير (2/ 137)، وأبو حيان في البحر (4/ 239) دون عزوٍ لمن خرّجها.

ولمالك بن عوف مع النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه حديث له تعلق بهذه الآية لكنه بسياق آخر غير هذا. وقد أخرجه أحمد (3/ 473)، (4/ 136، 137)، والطيالسي ص 184، وابن جرير (11/ 121، 122)، والبيهقي في السنن (10/ 10)، وابن أبي حاتم (4/ 1220)، وعزاه السيوطي في الدر (2/ 337) لعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات.

ص: 356

الله ربما هدى بعض الظالمين، كَمْ مِنْ كافرٍ ظالمٍ يهديه الله؟ وللعلماء عنها جوابان

(1)

:

أحدهما: أنها في خصوص الظالمين الذين سبق لهم في الأزل الشقاء، الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: الآيتان 96، 97].

القول الثاني: لا يهدي الظالمين ما داموا مصرّين على ظلمهم، فإن رزقهم الله التوبة والإنابة زال اسم الظلم عنهم، ولم يدخلوا في عداد الظالمين، فصار لا إشكال في هدايتهم، وهذا معنى الآية الكريمة.

يقول الله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: الآية 145].

تكلمنا بعض الكلام على هذه الآية

(2)

، وذكرنا حُكْمَ الميتات البرية والبحرية، وذكرنا بعض ما زادَتْهُ النصوص من المحرَّمَات على هذه المحرمات الأربع، وذكرنا خلاف بعض العلماء في أشياء منه، وسنتَكَلّم - إن شاء الله - الآن بعض الكلام على بقية الآية.

(1)

انظر: البحر المحيط (2/ 289)، (4/ 240)، التحرير والتنوير (8/ 135 - 136).

(2)

الدرس المشار إليه لم أقف عليه، وللوقوف على كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسائل انظر: الأضواء (2/ 246) فما بعدها.

ص: 357

والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان المشركون في زمانه يحرمون بعض ما أحلّ الله، وأقام عليهم الحجج الواضحة، وأفحمهم بالمناظرة في قوله:{قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: الآية 143] كما بينا وجه إفحامهم بالسبر والتقسيم في الآية، أخبرهم أنه لا تحريم إلا بالوحي، لا بالاجتهاد والهوى، فإنما الذي يحرم: الله، والطريق التي يُعرف بها تحريم الله وتحليله هي الوحي، لا اتباع الهوى، أُمِرَ أن يقول:{لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} شيئاً من هذه المحرمات التي تزعمون أنها حرام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكما في بطون تلك الأنعام التي قلتم هو محرَّم، وما حرمتم من الحروث والزروع والأنعام كل هذا لا أجده حراماً علينا فيما أوحى الله إلينا، وإنما أجد فيما أُوحي تحريمه: هذه الأربعة.

{لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لطالب العلم أن يقول: لمَّا قال: {عَلَى طَاعِمٍ} لِمَ لا تكفي عنه قوله: {يَطْعَمُهُ} ؟ وهو أسلوب عربي معروف تذكره العرب في لغتها، وهو كثير في القرآن، كقوله:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: الآية 38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بهما. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: الآية 79] ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم

(1)

.

{إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} قدمنا فيه أوجه القراءات

(2)

، وأحكام أنواع الميتة

(3)

.

(1)

انظر: التحرير والتنوير (8/ 138) ومضى عند تفسير الآية (142) من سورة البقرة، (48) من سورة الأنعام.

(2)

انظر القراءات الواردة في الآية في المبسوط لابن مهران ص 204.

(3)

انظر: أضواء البيان (1/ 90) فما بعدها.

ص: 358

وقوله: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} عطف على قوله: {مَيْتَةً} . أما على قراءة الجمهور

(1)

فهو منصوب معطوف على منصوب {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً} ، فهو معطوف على {مَيْتَةً}

(2)

المنصوب على أنه خبر كان.

وأما على قراءة ابن عامر {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن تَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} فَعَطْفُ المنصوب على المرفوع قد يُشكل على طالب العلم، والجواب

(3)

: أن قوله: {أَوْ دَماً} بالنصب في قراءة ابن عامر معطوف على المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: {إِلَّا أَن يَكُونَ} إلا كونه ميتة أو دمًا، هكذا قاله بعض المُعْرِبين.

والدم المسفوح: المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) إذا صبّه

(4)

، وتقول العرب: سفح الماءُ فهو سافح، وسَفَحَه بولُه يَسْفَحه فهو سافح، والمفعول: مسفوح. وقد يستعمل متعدياً ولازماً؛ فمن استعماله متعدياً قوله هنا: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} لأن المسفوح اسم مفعول (سَفَحَه يَسْفَحه) فالفاعل سافِح، والمفعول مسفوح: إذا أراقه وصبّه، ومن إتيان (السافح) اسم فاعل (سَفَحَ) اللازمة قول ذي الرمة

(1)

وهي: {إِلَّا أَن يَكُونَ} بالياء {ميْتةً} بالنصب. انظر: المبسوط لابن مهران ص 204.

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 197)، البحر المحيط (4/ 241)، الدر المصون (5/ 197).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 241)، الدر المصون (5/ 197).

(4)

انظر: القاموس (مادة: السفح) 287، عمدة الحفاظ (مادة: سفح) ص 242، الدر المصون (5/ 198).

ص: 359

غيلان بن عقبة

(1)

:

أَمِنْ دِمْنَةٍ جَرَّتْ بِهَا ذَيْلَهَا الصَّبَا

لِصَيْدَاءَ - مَهْلاً - مَاءُ عَيْنِك سَافِحُ

أي: جارٍ مُنْصَبّ. وهو هنا من (سَفَحَ) اللازمة.

والدم المسفوح: هو المَصْبُوبُ مِنْ شَيْء حَيٍّ، كما كان يفعله العرب، أو يكون خارجاً من أجْلِ الذَّكَاةِ أو العقر. كانت عادة العرب إذا جاعوا أن يفصد الواحد منهم عِرْقاً من جَمَله، ثم يجعل تحت الدم إناء، حتى يجتمع من عِرْق الجمل دمٌ في الإناء، ثم يطبخه بالأبازير ويأكلونه، فحرم الله عليهم أكْلَ الدَّمِ، وهو حرام، والانتفاع به حرام.

وأصل الدم: أصله (دَمَيٌ) بالياء على التحقيق، فلامه المحذوفة ياء، وغلط من علماء العربية من زعم أن لامه المحذوفة واو

(2)

ووزنه بالميزان ( .... )

(3)

.

فتكون بالعين (يَدْمَى) والألف مبدلة من الياء، أصله (يَدْمَي) كما هو معروف.

فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا

وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا

(4)

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيْتِ

وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ

(5)

(1)

ديوان ذي الرمة (2/ 859).

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 109، وقد ذكر في أصل (الدم) ثلاثة مذاهب للعلماء.

(3)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك ذلك بمراجعة أضواء البيان (1/ 104 - 105).

(4)

البيت للحصين بن الحمام المري. وهو في اللسان (مادة: دمي)(1/ 1017)، الفروسية لابن القيم ص493، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (12/ 197).

(5)

عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: «دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال

» وذكره. وهو في البخاري (2802، 6146)، ومسلم (1796)، وساق الذهبي بإسناده إلى جندب بن سفيان رضي الله عنه وفيه أن الذي قاله إنما هو أبو بكر رضي الله عنه حينما دخل الغار فأصاب إصبعه شيء (السير 9/ 528).

ص: 360

هذا أصل الدم، وهو من الكلمات التي حذفت العرب لامها ولم تُعَوِّض عنها شيئاً، وأعربتها على العين كدمٍ، وغدٍ، ويدٍ، وثدٍ، كما هو معروف

(1)

، فلامه محذوفة لم يُعَوَّض عنها شيء.

والدم المسفوح: هو الذي صُبَّ من شيءٍ حي، كفصد عرق الدابة، أو جرحها فيسيل منها دَمٌ، أو هو الذي يَسِيلُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، كأن تُذْبَح فَيَسِيل من عروقها، أو عند العقر كأن يرميها بالنبل فيسيل الدم، هذا هو الدم المسفوح.

واعلموا أن الدم نزلت في تحريمِهِ أرْبَعُ آيَاتٍ من كتاب الله، ثلاث منها مطلقة لا قيد فيها، وهي قوله في النحل:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [النحل: الآية 115]، وقوله في سورة البقرة:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: الآية 173] وقوله في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: الآية 3] فقد أُطلق الدم عن قيد المسفوحية في النحل والبقرة والمائدة، وجاء مقيداً في الأنعام بكونه مسفوحاً، وجماهير العلماء على أن المطلق يحمل على المقيد، ولا سيما إن اتَّحَد سَبَبُهما وحكمهما كما هنا

(2)

، سواءً كان المقيد هو الأول في النزول، أو هو الآخر؛

(1)

انظر: أضواء البيان (1/ 104 - 105).

(2)

مضى عند تفسير الآية (88) من سورة الأنعام.

ص: 361

لأن المقيد هنا هو المتقدم في النزول؛ لأن سورة الأنعام نازلة قبل السور الأُخر الثلاث التي حرم فيها الدم، التي هي النحل، والبقرة، والمائدة

(1)

.

أما كون الأنعام قبل البقرة والمائدة فهو واضحٌ لا يخفى؛ لأن الأنعام مكية بالإجماع، والبقرة والمائدة مدنيتان بالإجماع، فهذه قبل الهجرة، وهاتان بعدها، فكونهما بعدها لا إشكال فيه، أما النحل فالتحقيق أنَّهَا مكية، وزعم بعضهم أنها مدنيَّة، وهو غلط ممن زعمه، والذي سبَّب هذا الغلط: أن خواتيم سورة النحل نزلت في المدينة في شهداء أُحد لما مثَّل المشركون بحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعبد الله بن جحش وغيره من شهداء أُحد، فقد قطّعوا آنافهم وآذانهم، وأخذت هند بنت عتبة بن ربيعة - وهي يوم أُحد كافرة - نظمت قلادة من آذان الصحابة وآنافهم، كما هو معروف في السيرة، وتقلدتها، وأخذت قلادتها وجعلتها في عنق الوحشي عبد جبير بن مطعم بن نوفل بن عدي النوفلي؛ لأنه هو الذي قتل حمزة، ثم رقيت على صخرة من صخرات أُحُدٍ وبَكَتْ؛ لأنهم كانوا اشترطوا يوم بدر ألَّا يبكي أَحدٌ منهم على قتيله حتى يقتصوه، فلما قُتل حمزة وعبد الله بن جحش، هذا عم النبي وهذا ابن عمته، وقتل شماس بن عثمان من المهاجرين، ومن الأنصار سبعون من خيارهم، رقيت على صخرة من صخرات أُحدٍ وبكت تقول:

نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ

وَالحَرْبُ بَعْدَ الحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ

مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ

وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وبِكْرِي

شَفَيْتُ نَفْسِي وقَضَيْتُ نَذْرِي

شَفَيْتَ وَحْشِيٌّ غَلِيلَ صَدْرِي

(1)

السابق.

ص: 362

فَشُكرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي

حَتَّى تَرُمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي

(1)

يذكرون في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على عمه حمزة رضي الله عنه قتيلًا وقَدْ مُثِّل به، أنه قال: لئن أظفرني الله بقريشٍ لأُمَثِّلَنَّ بكذا وكذا رجلاً منهم، وأن الله أنزل في ذلك خواتيم سورة النحل:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: الآية 126] هكذا ذكره بعض العلماء

(2)

،

(1)

انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 872 - 873).

(2)

ورد في هذا المعنى أحاديث وروايات متعددة لا تخلو من ضعف إلا أن الحديث يَتَقَوَّى بها. والله أعلم.

ومن ذلك:

1 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عند الواحدي في أسباب النزول ص 282، 284، والدارقطني (4/ 116)، (118)، والطبراني في الكبير (11/ 62)، والبيهقي في الدَّلَائل (3/ 288) وعزاه في الدر (4/ 135) لابن المنذر، وابن مردويه، وانظر: مجمع الزوائد (6/ 120)، تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني للغساني ص 304 - 305، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (2/ 250) تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (4/ 97).

2 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند الواحدي في أسباب النزول ص 283، والبيهقي في الدلائل (3/ 288)، والحاكم (3/ 197)، وابن سعد في الطبقات (3/ 7)، والبزار كما في (كشف الأستار 2/ 326 - 327)، وعزاه في الدر (4/ 135) لابن المنذر وابن مردويه، وانظر: مجمع الزوائد (6/ 119)، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (2/ 251)، ولابن حجر (4/ 97)، الفتح السماوي (2/ 760 - 761).

وقد ورد في هذا المعنى جملة من المراسيل، انظر: ابن جرير (14/ 195 - 196)، دلائل النبوة للبيهقي (3/ 286)، الدر المنثور (4/ 135).

ص: 363

والمشهور عند المفسرين في أسباب النزول أن خواتيم (النحل) هذه مدنية، أما نفس سورة النحل فهي مكية.

وقد نزلت سورة النحل في مكة بعد سورة الأنعام، ودلّ القرآن في موضعين على أن النحل نازلة بعد الأنعام، أحد الموضعين: أن الله قال في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النحل: الآية 118]، والمحرم المُحال عليه المَقْصُوص من قبل هو المذكور في الأنْعَامِ إِجْمَاعاً في قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} الآية [الأنعام: الآية 146].

الموضع الثاني من الموضعين الدَّالين على نزول الأنعام قبل النحل: أن الله قال في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: الآية 148] فبيَّنَ أنهم سيقولونها في المستقبل، فَعُلم أنهم لم يقولوها فعلاً في ذلك الوقت، وبَيَّنَ في سورة النحل أن ذلك القول الذي كان موعوداً بأنه يُقال: أنه قيل ووقع في سورة النحل، حيث قال في النحل:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: الآية 35]، فدلّ هذا على أن النَّحْلَ بَعْدَ الأنْعَامِ

(1)

، وأن السور الثلاث -أعني النحل، والبقرة، والمائدة- جاء فيها تحريم الدم مطلقًا من غير قَيْدٍ، وجاء في السورة النازلة أولاً وهي الأنعام تقييده بكونه مسفوحاً بقوله هنا:{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} .

فجماهير العلماء من الصحابة وفقهاء الأمصار على أن تلك الآيات المطلقة في النحل والمائدة والبقرة تُقَيَّد بقيد (الأنعام)

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 248).

ص: 364

هذه

(1)

، فلا يحرم الدم غير المسفوح؛ ولذا أطبق العلماء على أن الحُمْرة التي تَعْلُو القِدْر مِنْ أَثَرِ تقطيع اللحم وهي من الدم أنها مَعْفُوٌّ عنها وليست بنجس؛ لأنها ليست من الدم المسفوح. ويدخل في غير المسفوح: الكبد والطِّحال

(2)

.

والحاصل أن الذي يظهر من الدم عند تَقْطِيعِ اللحْم وفصل الأعضاء بعضها عن بعض أن جمهور العلماء على أنه ليس بحرام، وليس من المسفوح، وأن الخارج عند الذَّكَاة، أو المُخْرَج من شيءٍ حي، أو عند العقر أنه هو الدم المسفوح.

واختلف العلماء في الدم الذي يَتَجَمَّد في القلب عند ذبح الشاة، والذي ينقع في جوفها خلاف معروف، ومنهم من يقول: هما حلالان، ومنهم من يقول: هما مسفوحان، وفَصَّل علماء المالكية قالوا: الذي يَتَجَمَّد في القلب طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح، والذي ينقع في الجوف مَسْفُوح؛ لأنه منعكس إليه من العُرُوقِ التي سُفِحَ منها وقت الذبح، وهذا أظهر، والله تعالى أعلم.

هذا معنى قوله: {إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} جميع هذه الآيات إنما صرحت بتحريم لحم الخنزير، والخنزير حيوانٌ معروف خسيس قَبَّحَهُ الله. ولم تَتَعَرّض آية من كتاب الله إلى حكم شحم الخنزير، والعلماء مُجْمِعُونَ على أنَّ شَحْمَ الخنزير حكمه حكم لحم الخنزير

(3)

.

(1)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 53)، القرطبي (2/ 222).

(2)

انظر: القرطبي (2/ 221)(7/ 124).

(3)

انظر: مراتب الإجماع ص 149، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 222).

ص: 365

واستُدِلَّ بهَذَا على بطلان دَعْوَى ابن حزم أنه لا يحرم شيءٌ إلا ما نَصّ الله على تحريمه؛ لأن ابن حزم تَوَسَّع توسعاً شنيعاً اجتنى به على الشرع، مع عِلْمِه وقوة ذهنه، وزعم أن كل ما [لم ينص]

(1)

الله على أنه حرام أنه لا يمكن أن يكون حرامًا، ومن هنا حمل على الأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم- مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من فقهاء الأمصار، وتكلم عليهم كلاماً شديداً شنيعاً غير لائق، وزعم أنهم مشرعون، يشرعون من تلقاء أنفسهم، ولما احتُج عليه بإجماع العلماء على أن شحم الخنزير حرام، والله لم يذكره في كتابه قياساً على لحْمِهِ الذي نُصَّ على تَحْرِيمِهِ، أجاب ابن حزم عن هذا بأن قال: الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير، فيدخل فيه شحمه ولحمه

(2)

.

وخالف في هذا القاعدة العربية المعروفة؛ لأن الضمائر في الأصل إنما تَرْجِعُ للمضاف لا المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المُحَدَّث عنه

(3)

، فلو قلت: جاءني غلامُ زيدٍ فأكْرَمْتُه، يتبادر أن المُكْرَم هو الغلام لا نفس زيد، وكذلك قوله:{لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي: لحم الخنزير؛ لأنه هو المُحَدَّث عنه.

وربما رجع الضمير على المضاف إليه نادراً

(4)

، وجاء في

(1)

في الأصل: «ما نص» وهو سبق لسان، والصواب: أن كل ما لم ينص

إلخ.

(2)

انظر: المحلى (7/ 390 - 391).

(3)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان (4/ 241)، البرهان للزركشي (4/ 39)، الإتقان (2/ 284)، الكوكب الدري 202، مختصر من قواعد العلائي 101، الكليات 134 - 135، 569، قواعد التفسير (1/ 402).

(4)

انظر قواعد التفسير (1/ 403).

ص: 366

القرآن رجوع الضمير إلى المضاف إليه لكن مع قرائن تدل على ذلك، كقوله:{لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} [غافر: الآيتان 36، 37] أي: موسى، وهو المضاف إليه هنا، فهذا قد يقع، وجاء في القرآن قليلاً، إلا أن القرينة تُعَيِّنُه، أما الأصل اللغوي العَرَبِي فهو رجوع الضمائر والإشارات إلى المُضَاف لا المضاف إليه، وإتيان الأحوال من المضاف لا المضاف إليه، إلا إذا كان عاملاً فيه، أو جزءاً منه، أو كجزءٍ منه، كما هو معروف في النحو.

والحاصل أن القرآن سكت عن شحم الخنزير وحَرَّمَ لحْمَهُ، وأجمع العلماء على تحريم شَحْمِهِ قياساً على لحمه، وفيه أمور كثيرة يغلط فيها ابن حزم ومن وافقه من المتشددين؛ لأنه في الآونة الأخيرة صار يطلع طلبة علم صغار قليلة بضاعتهم من العلم، ينظرون شيئاً قليلاً من الحديث، ويطعنون في الأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم- ويقولون: قال في الحديث الفلاني، وشرعوا من أنفسهم اعتماداً على كتب ابن حزم، وكل هَذَا غَلَطٌ، وكثير من الأشياء يَدَّعِي ابْنُ حَزْمٍ أنَّ اللهَ سَكَت عنها، وأن الوحي لم يَتَعَرَّضْ لها، ويستدل بحديث:«إن اللهَ أبَاحَ أشْيَاء، وحَرَّمَ أشْيَاء، وسَكَتَ عَنْ أشْيَاء لا نِسْيَاناً، فَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عفْوٌ»

(1)

فيدعي أنه سكت

(1)

ورد في هذا المعنى عدة أحاديث، وهي وإن كانت لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها يتقوى بغيره، والله أعلم، فمنها:

1 -

حديث سلمان رضي الله عنه (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم:(1726)، (4/ 220)، وابن ماجه في الأطعمة باب أكل الجبن والسمن، حديث رقم:(3367)، (2/ 1117)، والحاكم (4/ 115)، والبيهقي (9/ 320)، (10/ 12). وانظر: صحيح الترمذي (2/ 145)، وصحيح ابن ماجه (2/ 240)، غاية المرام ص 15، المشكاة (2/ 1220).

2 -

حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه (مع الخلاف في رفعه ووقفه) عند الدارقطني (4/ 184)، والحاكم (4/ 115)، والبيهقي (10/ 12 - 13)، وانظر مجمع الزوائد (1/ 171)، وهو أضعف هذه الأحاديث.

3 -

حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند الدارقطني (4/ 297 - 298) والبزار كما في (كشف الأستار (3/ 85، 325)، والحاكم (2/ 375)، والطبراني في الصغير (2/ 122). وانظر: مجمع الزوائد (1/ 171)، (7/ 55، 208)، وقد حَسَّنَهُ الألْبَانِي في غاية المرام ص14.

ص: 367

عنه

(1)

، وهو قد يكون لم يسكت عنه. وسَلَفُهُ الذي هو داود بن عَلِيّ الظاهري ما كان يبالغ هذه المبالغة، ولا يغلو هذا الغلو.

والحاصل أن ما يسميه علماء الأصول: (الإلغاء بنفي الفارق)، ويسمونه نوعاً من تنقيح المناط، وهو المعروف عند الشافعي في كتبه القديمة بـ (القياس في معنى الأصل)

(2)

أجمع جميع العلماء على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنصوص؛ لأنه لا فرق بينهما يؤثر، وما كان داود ينكر هذا.

ومعروف أنه عند علماء الأصول ينقسم إلى أربعة أقسام

(3)

؛ لأن المسكوت عنه: إما أن يكون أولى بالحكم من المنطوق به، وإما

(1)

انظر: الإحكام 1058 - 1070.

(2)

انظر: الرسالة للشافعي 512 - 516، شرح الكوكب المنير (3/ 481)، (4/ 207 - 209)، المذكرة في أصول الفقه 237، 271، نثر الورود (1/ 102 - 103)، (2/ 522 - 523، 558).

(3)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 486)، المذكرة في أصول الفقه ص 237، نثر الورود (1/ 104).

ص: 368

أن يكون مساوياً له، وبكل منهما إما أن يكون وجه الفرق بينهما مُحَقَّقاً يقيناً، وإما أن يكون مظنوناً ظنّاً غالباً مزاحماً لليقين، فالمجموع أربعة، من ضرب اثنين في اثنين:

الأول: ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، ونفي الفارق بينهما في الحكم مُحَقَّق لا شك فيه. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى:{فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: الآية 23]، فالمنصوص عنه هنا النهي عن التأفيف أمام الوالدين، والمسكوت عنه ضرب الوالدين، وهذا المسكوت عنه- الذي هو الضرب- أولى بالحكم الذي هو التحريم من هذا المنطوق به الذي هو التأفيف؛ لأن الضرب أشد أذيةً من التأفيف، فابن حزم يقول هنا: إن الضرب مسكوت عنه، ولم يؤخذ حكمه من هذه الآية

(1)

. ونحن نقول: لا، الضرب ليس مسكوتاً عنه في هذه الآية، بل هو مفهوم من باب أولى من النهي عن [التأفيف]

(2)

.

ونظيره قوله تعالى في الرجعة والطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فالمنطوق: شهادة العَدْلَيْنِ، والمسْكُوتُ عَنْهُ: شَهَادَةُ أرْبَعة عدول، فلو أشهد رجل أربعة عدول على رجعته أو طلاقه فلا شك أن ذلك نافذ، ولا نقول: إن المنصوص عليه الاثنين، والأربعة غير منصوصة؛ لأن هذا المسكوت عنه الذي هو الأربعة أولى بالحكم من هذا المنطوق به الذي هو الاثنان، ونفي الفارق هنا مُحَقَّق لا شك فيه.

ومن أمثلته في القرآن: قوله تعالى في الزلزلة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)} [الزلزلة: الآيتان 7، 8]،

(1)

انظر: الإحكام ص 891.

(2)

في الأصل: «التحريم» وهو سبق لسان.

ص: 369

فالمنطوق به المجَازَاةُ بمثقال ذرة، والمسكوت عنه المجازاة بمثقال الجَبَل، ولا شك أن هذا المسكوت عنه أولى بالحكم -الذي هو المجازاة- من المنطوق به، ونفي الفارق مُحَقَّق.

الثاني: أن يكون المسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِياً للمنطوق به في الحكم، ونفي الفارق بينهما مُحقَّق؛ كالتنصيص على لحم الخنزير، والسكوت عن شحمه، ولا فرق بين لحمه وشحمه؛ لأنه كله رجس، وحكم شحمه حكم لحمه.

ومن أمثلته في القرآن: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: الآية 10] فالمنطوق به أكل مال اليتيم، والمسكوت عنه إغراقه في البحر، وإحراقه بالنار، ولا شك أن إحراق مال اليتيم، وإغراقه أنه حرام، لا فارق بينه وبين أكله، ونفي الفارق هنا مُحَقَّق.

وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور: الآية 23] فإن الآية إنما نَصَّتْ عَلَى أن يكون القاذِفُونَ ذكوراً، والمقذوفات إناثاً؛ لأنه قال:{الَّذِينَ يَرْمُونَ} بصيغة الذكور، ثم قال:{المُحْصَنَاتِ} بصيغة الإناث، فمنطوق الآية: أن يكون القاذف ذكراً، والمقذوف أنثى، وقد أجمع العلماء على أنه لا فرق في ذلك بين قذف الذكر للذكر، وقذف الأنثى للأنثى، وقذف الأنثى للذكر، وقذف الذكر للأنثى، فهذا المسكوت مُلْحَقٌ بهذا المنطوق به إجماعاً، ومحاولة ابن حزم أن يجيب عن هذه الآية، قال: قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور: الآية 23]، أي: يرمون الفروج المحصنات، فشمل فروج الرجال والنساء، فلم يكن فيه إلحاق، مردودٌ؛ لأن المحصنات في لغة القرآن لم تطلق على الفروج قط، وإنما تطلق على النساء، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ} [النور: الآية 23] فهل يمكن قائلاً

ص: 370

أن يقول: إن الفروج مؤمنات غافلات؟ هذا مما لا يقوله أحد.

ومن هذا: أن الله تبارك وتعالى نَصَّ في سورة البقرة على أن الرَّجُلَ إِنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً بعده -وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراط أن يجامعها ذلك الزوج- ثم طَلَّقَهَا هذا الزوج الثاني بعد أن جَامَعَهَا حَلَّت على الأول، وإنما نصَّ على الطلاق وحده، ولم يتكلم على ما لو مات عنها إذا كانت مطلقة ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً جامعها وأحلَّها، ثم مات الزوج الأخير ولم يطلقها، فإن الله لم يقل: إنه إذا مات تحل للأول، ولكن قال:{فَإِن طَلَّقَهَا} يعني: الزوج الثاني بعد أن جامعها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: الآية 230] أي: على المرأة المبتوتة التي كانت حراماً، والزوج الأول الذي بَتَّهَا أن يَتَرَاجَعَا؛ لأنها حلت لوطء الثاني، وطلقها الثاني، ولم يتكلم هنا على ما إذا مات عنها الزوج الثاني بعد أن جامعها، وقد أجمع العلماء أن موته عنها كطلاقه، وأمثال هذا كثيرة.

الوجه الثالث: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، ولكن نفي الفارق بينهما مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ومن أمثلته في السنة: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التضحية بالعوراء

(1)

، فالمنطوق به هنا منع التضحية بالعَوْرَاءِ، والمسكوت عنه مَنْع التضحية بالعمياء التي هي عمياء العينين؛ لأنها أولى بالحكم من المنطوق بها؛ لأن العوراء عميت لها عين واحدة، والعمياء عميت عيناها معاً، فالعمياء مسكوت عنها في الحديث، وهي أولى بالحكم من المنطوق به التي هي العوراء، ونفي الفارق هنا مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، وقد يظهر لطالب العلم أن نفي

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

ص: 371

الفارق هنا قطعي، ونحن نقول: ذكر غير واحدٍ من علماء الأصول أن نفي الفارق هنا ظَنِّيٌّ، وإنما قالوا: إنه ظني؛ لأنَّ الغالب على الظن غَلبةَ مُزَاحمَةً لليقين أَنَّ عِلَّة منع التضحية بالعوراء أن العَوَرَ عَيْب ناقصٌ لثمنها وقيمتها وذاتها، وهذه العلة موجودة في العَمْيَاءِ بِلَا خِلَاف فهي مثلها، ولكنْ هُنَالِكَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ مَرْجُوحٌ هو الذي مَنَعَنَا مِنْ أَنْ نَجْزِمَ باليقين أن علة مَنْعِ التَّضْحِيَةِ بالعوراء أن العور مظنة الهزال؛ لأن العوراء لا تَرَى مِنَ المَرْعَى إلا ما يقابل عينها المُبْصِرة، وما يقابل عينها العوراء لا تراه، فناقصة البصر ناقصة الرَّعْي، ونقص الرعي مَظِنة لنقص السّمَن، وعلى أن العلة هذه فلا تشاركها العمياء؛ لأن العمياء يعلفها ذو عينين فيختار لها أحسن العلف وأجوده، فهي مظنة السِّمَن، فلا تكون كالعوراء، إلا أن هذا الاحتمال ضعيف.

الرابع: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق في الحكم، ولكنه مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ومثاله في السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَبْدٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ

» الحديث المشهور

(1)

. أي: إن النبي نصَّ في سراية العتق هنا على العبد الذكر، وسكت عن الأمَة الأنْثَى، ولم يقل: من أعتق شِرْكاً له في أَمَة، فالأَمَة مسكوتٌ عنها هنا، وعامة العلماء على أن العِتق يسري في الأَمَة كما يسري في الذكَر، إلحاقاً للمسكوت عنه بالمنطوق به، ونَفْي الفارق هنا مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين؛ لأن الذكورة والأنوثة في باب العتق أوصاف طردية، أعني لا يُفرق بينهما

(1)

أخرجه البخاري في الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء، حديث رقم:(2491)، (5/ 132)، ومسلم في العتق، حديث رقم:(1501)، (2/ 1139).

ص: 372

في الأحكام، ولا يُعَلَّلُ بهما أحكام مختلطة في باب العتق، مع أن هنالك احتمالاً ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على العَبْدِ، وجعل سراية العتق فيه دون الأَمَةِ؛ لأن عتق الذكور يحصل به مِنَ الْفَوَائِدِ ما لا يحصل في عتق الإناث؛ لأن الذَّكَرَ إذا عُتِقَ فَهُوَ شهادته شهادة عدل عند من لا يَقْبَل شهادة العبيد، وصار يُزَاوِلُ مَنَاصِبَ الرِّجَالِ؛ كالإمامة، والجهاد، وغير ذلك مما يَخْتَصّ بِمَنَاصِبِ الرِّجَالِ التي لا تَصْلح لها الإناث، ولكن هذا يَبْقَى احْتِمَالاً ضَعِيفاً.

فمثل هذه الأشياء يزعم ابن حزم أن الوَحْيَ سَكَتَ عنها، ونحن نقول: لا، لم يسكت الوحي عنها، ولكنه دل عليها، وكذلك ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان»

(1)

هذا حديث صحيح ثابت في الصحيحين، نهى به النبي صلى الله عليه وسلم القاضي أن يحكم بين الخَصْمَيْنِ في حالة غضبه؛ لأن الغضب يُشَوِّش فِكْرَهُ، فيمنعه من أن يَسْتَوْفي النظر في دعاوي الخصوم، وفي الأحكام المترتبة على دعاويهم، وقد أجمع العلماء على أن كل مشوش للفكر كتَشْويش الغضب أو أشد غير مسكوت عنه، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بين الخصمين في حالة العطش والجوع المُفْرِطَين، ولا في حالة الحزن والسرور المُفْرِطَين، ولا في حالة الحَقن والحَقب المُفْرِطَين، والحَقْن: مدافعة البول، والحَقْب: مدافعة الغائط، فكل هذه الأمور التي تُشوِّش فِكْرَهُ لا نقول هي مسكوت عنها، بل هي منطوقة؛ ولأجل هذا كان العلماء أجمعوا على إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به إذا تحقَّقْنَا وغلب على ظننا أنه لا فرق بينَهُما.

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

ص: 373

فعُلِمَ أنَّ دَعْوَى ابْنِ حزم على العلماء أنهم حرموا هذا مِنْ تِلْقَاءِ أنفسهم وشرعوه من غير دليل أنه ليس بصحيح، وأن الأئمة رضي الله عنهم ما فعلوا إلا شيئاً واقعاً في موقعه؛ لأن هذا المنطوق به والمسكوت عنه لا فرق بينهما البَتَّةَ.

فالنبي صلى الله عليه وسلم ربما نَبَّهَنَا بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وقد أجمع العلماء على أن نَظِيرَ الحق حق، ونظير الباطل باطل، فإِلحَاقُ النَّظِيرِ بالنَّظِير من الحق الذي شهد له القرآن والسنة والعقل الصحيح، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث مُتَعَدِّدَة على أن إلحاق النظير بنظيره من الحق لا مِنَ البَاطِلِ؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن سأله رجل، وثبت في الصحيحين أنه سألته امرأة عن حج كان على أبيها أو أمها هل تقضيه عنها؟ قالت: أمي ماتت وعليها حج أفأقضيه عنها؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟» قالت: نعم. قال: «فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أَنْ يُقْضَى» والحديث ثابت في الصحيح في رجل، وثابت في الصحيح في امرأة

(1)

، وهي قصص متعددة لا اضطراب في الحديث؛ لأنه ثابت في الصحيحين، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم بإلحاق دَيْن الله بدَيْن الآدميين بجامع أن الكل دَيْن ينفع صاحبه قضاؤه

(1)

أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، حديث رقم:(1852)، (4/ 64). وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الحديثين رقم:(6699، 7315) وهو من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (في سؤال المرأة الجهنية)، وقد ورد عنه وعن أخيه الفضل وعن غيرهما أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما من غير موضع الشاهد هنا. وقد تكلم الحافظ على هذه الأحاديت والروايات المتعددة بكلام طويل راجعه- إن شئت- في الفتح (4/ 65 - 66، 68 - 70).

ص: 374

عنه ويؤدى بدفعه لمستحقه، وهو تنبيه بأن النظير له حكم النظير، وقد ثبت في الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، هذا الرجل كان أبيض، وكانت امرأته بيضاء، فولدت له غلاماً أسود، ففزع من سواد الغلام، واعتقد أن امرأته زنت بأسود، وجاءت بهذا الغلام، فجاء للنبي فَزِعاً، والظاهر أنه كان يريد اللعان لِيَنْفِي عنه هذا الولد الأسود، فأخبر النبي أن امرأته ولدت أسود!! فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لهذا الرجل:«أَلَكَ إِبِلٌ؟» قال: نعم.

قال: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حمر، قال:«هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟» قال: نعم -والأوْرَق: الذي لونه الوُرْقة، وأشبه شيء بلون الوُرْقَة هو لوْنُ حَمَامِ الحرَمِ هَذَا؛ ولذاكم تسمى الواحدة منه بالوَرْقَاء، ويسمى جمعه بالوُرْق، أي: أخضر اللون- قال: نعم، إن فيها لَوُرْقاً، قال:«مِنْ أَيْنَ جاءَتْها تلك الوُرْقَة والسَّواد؟» مع أن أباها أحمر وأمها حمراء، قال: لعل عِرْقاً نَزَعَها. يعني جَدّاً بعيداً كان أسود نزعها، قال له:«وهَذَا الغُلَامُ لعَلَّ عِرْقاً نزَعَهُ»

(1)

. لَعَلَّ أحَدَ أَبَوَيْهِ كان عِنْده جد أسود من بعيد فنزَعَهُ، فاقتنع الأعرابي لما جعل له النبي -قاس له- النظير بالنظير، فَكَمَا أن أولاد الإبل تنزعها عروق فتصير بها سوداً، فكذلك أولاد الآدميين قد تنزعها عروق بعيدة، وهو إلحاق النظير بالنظير.

ومن هذا المعنى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصائم يُقَبِّل امرأته؟! فقال له: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضَ؟» وهذا الحديث في سنن أبي داود بسندٍ أقل درجاته

(1)

أخرجه البخاري في الطلاق، باب إذا عرَّض بنفي الولد، حديث رقم:(5305)، (9/ 442)، ومسلم في اللعان، حديث رقم:(1500)، (2/ 1137، 1138).

ص: 375

القبول

(1)

. فقال له: «أرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضَ؟» . فكأن النبي يشير إلى أن التقبيل إذا لم يُنْزِل منه صاحبه، ولم يخرج منه شيء أنه كالمَضْمَضَة، بجامع أن كلًّا منهما مقدمة الإفطار، وليس في واحدٍ منهما إفطار؛ لأن المضمضة مقدمة الشرب، والتقبيل مقدمة للجماع، فألحق النظير بنظيره، وأمثال هذا كثيرة جدّاً.

ومن هنا نعلم أن قَوْلَ ابْنِ حَزْمٍ: إن الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائدٌ إلى الخنزير كله -ليكون الشحم داخلاً في النص، لا مسكوتاً عنه ملحقاً بالمنطوق به- أنه غير صحيح، وأن الضمير راجع إلى لحم الخنزير الذي هو المُحدَّث عنه، وأن الشحم مسكوت عنه، ولكنه أُلحق به، والشحم هو واللحم قد يفترقان في الأحكام، كما سيأتي فيما حُرِّمَ على اليهود: أنه قد يُحْرَمُ عَلَيْهِمْ هذا دون هذا.

[19/ب] وقد يُجاب في خصوص آية لحم الخنزير هذه جواب آخر،/هو معروفٌ عند العلماء، لكن ابن حزم لم يهتد للاحتجاج به، أن اللحم أعم من الشحم، فإن العرب تقول: اكْتَل لي لحم هذه الشاة. وقد يكون لحمها معه شحم كثير وهو داخل فيه، فهذا

(1)

أخرجه أحمد (1/ 21، 52)، وابن أبي شيبة (3/ 60 - 61)، والدارمي (1/ 345)، وأبو داود في الصوم، باب القُبلة للصائم، حديث رقم:(2368)، (7/ 11)، والنسائي في الكبرى كتاب الصيام، باب المضمضة للصائم، حديث رقم:(3048)، (2/ 198 - 199)، وابن خزيمة (1999)، (3/ 245)، وابن حبان (الإحسان 5/ 223)، والحاكم (1/ 431)، والبيهقي (4/ 218، 261)، والطحاوي في شرح المعاني (2/ 89). وانظر: صحيح سنن أبي داود (2/ 453).

ص: 376

الجواب لو أجاب به ابن حزم لكان مقبولًا

(1)

، وهو مذهب مالك -أن [اللحم] أعم من [الشحم]

(2)

- ولذا لو حلف في مذهب مالك لا يأكل اليوم لحماً فأكل شحماً فإنه يحنث، بخلاف ما لو حلف لا يأكل شحماً وأكل لحماً أحمر غير شحم فإنه لا يحنث

(3)

؛ لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، كما هو معروف

(4)

.

والحاصل أن العلماء مُجْمِعُونَ على إلحاق النَّظِير المسكوت عنه بالنظير المنطوق به، وأنه من الحق، وأنه غير مسكوت عنه، بل النص يدل عليه، فمن قال لك: لا تقل لوالديك أف. فكأنه قال لك من باب أولى: لا تضربهما. ومن قال -مثلاً- لك: لا تُضَحِّ بِعَوْرَاء، فكأنه قال لك: لا تُضَحِّ بالعَمْيَاءِ مِنْ بَابٍ أوْلَى، وهكذا، وهذا معنى قوله:{أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} .

الله (جل وعلا) حرم هذه الأشياء التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير. ومعروف أن الله لا يحرم شيئاً إلا لحِكمَة، ولا يحرم شيئاً إلا للضرر، فقد يهتدي بعض الناس إلى حِكْمَة ذلك الشيء، وقد يعجز البشر عن إدراكها، فالله (جل وعلا) محيط علمه بكل شيء، ولا يُحَرِّمُ إلَّا لحِكْمَةٍ، لا يحرِّم شيئاً إلا وهو متضمِّنٌ أضْرَاراً عظيمة، وهذه الأضرار قد يتحَصَّلها البشر، وقد يعجز عنها إدراك البشر؛ لأن علم الخالق (جل

(1)

انظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 54)، القرطبي (2/ 222).

(2)

في الأصل: «أن الشحم أعم من اللحم» . وهو سبق لسان.

(3)

انظر: القرطبي (2/ 222).

(4)

انظر: البرهان للزركثسي (3/ 402)، الإتقان (3/ 232)، الكليات 889، قواعد التفسير (2/ 521).

ص: 377

وعلا) محيطٌ بكل شيء، يَعْلَمُ أَشْيَاءَ يَتَقَاصَرُ عنها فَهْمُ الْبَشَرِ.

وَتَحْرِيم هذه الأشياء بعضهم يقول: إنه يفهم علته، وقال بعض العلماء: تحريم الميتة من جهة الطب

(1)

؛ لأن الدم الذي يسيل عنها بالذكاة يطيِّب لحْمَهَا ويُصَحِّحُهُ، فإذا ماتَتْ فَسَدَ ذلك الدَّمُ واخْتَلَطَ في اللحم، بدليل أنَّكَ لو فصدت عِرْقاً مِنَ الميتة لا يقطر منه دم، فذلك الدم قد يختلط بذلك اللحم، واختلاطه به فيه نوع من السلب له، يسبب بعض الأمراض، ولذا لم يُبِحْهُ الله إلا للمضْطَرِّ، قالوا: لأن شدة حرارة الجوع وألمه وشِدَّتِهِ قد يُقَاوِمُ تلك الأضرار فلا تهْلكه، ولم يبحه إلا عند الضرورة التي يخاف صاحبها الموت.

وزعموا

(2)

أن تحريم الدم؛ لأنه لا فائدة فيه ألبتة، لا يستفيد الإنسان من أكل الدم في جوفه شيئاً؛ لأنه إما أن [يستقر]

(3)

في المعدة فيضرها، ولا يَتَسَرَّب في العروق، ولا يستفيد صاحبه منه شيئاً عن طريق الفم.

قالوا: وتحريم الخنزير

(4)

؛ لأن الخنزير قد تكون فيه مضار جدِّية، قالوا: ومن نتائج أكله أن صاحبه يصير ديوثاً غالباً، تُنزع منه غيرة الرجال، وغيرة الإنسانية التي تكون في الرجال، وهذا كالمشاهد، فإن الذين يأكلون لحم الخنزير لا تكاد تجد فيهم غيرة الرجال المعروفة، كالشهامة المعروفة عند العرب، فتجد زوجة

(1)

انظر: تفسير المنار (6/ 134).

(2)

انظر: تفسير المنار (6/ 134).

(3)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

(4)

المصدر السابق (6/ 135).

ص: 378

الرجل تمشي من عنده مع الذكور، وتنفرد معهم!! هكذا قاله بعضهم، والله تعالى أعلم.

والله (جل وعلا) كأنه علَّله، قال:{إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وقَدْ تَقَرَّر في الأصول، في مَسْلَكِ النص وفي مسلك الإيماء والتنبيه: أن الفاء من حروف العلة

(1)

، كقولهم:«سَهَا فسجد» أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، «سرق فقُطعت يده» أي: لعلة سَرِقَتِهِ، «حُرِّم لحم الخنزير فإنه رجس» أي: حرم لكونه رجساً.

والرجس في لغة العرب: النجس القَذِر الذي تَعَافُهُ النُّفُوس، الذي هو بالغٌ في غايَةِ الاستقذار الغاية القصوى

(2)

. وقال بعض العلماء: أصله من (الرِّكْس) والعرب ربما بادلت بين الحروف، و (الرِّكس) بالكاف في لغة العرب: عَذرة الناس وفضلاتهم -أكرمكم الله

(3)

- هذا معنى قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} .

وقوله: {أَوْ فِسْقاً} أو فسقاً: منصوب قبله مرفوع، إلا أنه عَطْفٌ على المنصوبات قبله. {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً}. فهو معطوف على قوله:{مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا}

(4)

.

والمراد بهذا الفسق: هو ما ذبح لغير الله، وسماه الله (فسقاً) جعله كأنه بعينه هو عين الفسق؛ لتَوَغُّلِه في الفسق الذي هو: الخروج

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(2)

انظر: المفردات (مادة: رجس) 342، المصباح المنير (مادة: رجس) 83.

(3)

انظر: المصباح المنير (مادة: ركس) ص 90.

(4)

انظر: الدر المصون (5/ 198).

ص: 379

عن طاعة الله؛ لأن النَّحْرَ وإِرَاقَةَ الدم من أعظم القربات التي يُتَقَرّب بها إلى الله (جل وعلا)، وهي من الحِكَم التي نادى فيها للحج:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: الآية 27] ثم بين الحِكَم فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: الآية 28]، ذكرها عند التذكية تقَرُّباً بها إلى الله، وقَدْ بَيَّنَ الله (جل وعلا) أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ بالدِّمَاءِ يريد وَجْهَ اللهِ أن ذلك من التَّقْوَى الذي يرضي الله:{لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: الآية 37] ولذا كان الشيء إذا ذُبِحَ لِغَيْرِ الله كان ذلك من أكْبَرِ الكُفْرِ، وكانت تلك الذَّبِيحَةُ مِنْ أخْبَثِ الخبث، وذلك الفعل من أفْسَقِ الفِسْقِ؛ ولذا سَمَّاهُ اللهُ فِسْقاً.

وأصل الإهلال في لغة العرب هو رفع الصوت

(1)

، تقول: اسْتَهَلَّ المولُودُ صارخاً: إذا رَفَعَ صَوْتَهُ عند الولادة، وإنما سُمِّيَ الشهر (هلالاً) لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته، وإنما قيل له:{أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} لأنهم كانوا إذا ذبحوا لغير الله رفعوا أصواتهم باسم الأصنام، فصار يُطلق على كل ما ذُبِحَ لغير الله:(أهل لغير الله به).

ثم بَيَّنَ (جَلَّ وَعَلَا) أن هذه المحرمات الأربع، التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، أن مَحَلَّ تَحْرِيمِهَا ما لم تَدْعُ الضرورة الفَاحِشَةُ إلَيْهَا، أما إن دَعَتِ الضرورة إليها فإنَّها تُبَاحُ لِلضَّرُورَاتِ؛ لأن هذا النبي الكريم -سيد الرسل،

(1)

انظر ابن جرير (3/ 319)، المفردات (مادة: هلل) 843، القرطبي (2/ 224).

ص: 380

الذي اختاره الله لهذه الأمة، وجعلها به خير أمةٍ أخرجت للناس- بُعث بالحنيفية السمحة، ورُفعت عنه التكاليف والآصار والأثْقَال التي كانت على مَنْ قَبْلَهُ، فَجَاءَ بها سهلة حنيفيَّةً سَمْحَة، إذا اضطر الإنسان إلى هذا الحَرَامِ رُخِّصَ له فيه، كَمَا قَدَّمْنَا إيضَاحَهُ، وأنَّهُ عام في كل ما دعت الضرورة الملْجِئَة إليه في قوله في هذه السورة الكريمة:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: الآية 119].

قرأَهُ بَعْضُ السبعة في جميع القرآن: {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون، كما قرأه عاصم وأبو عمرو وغيرهما، وأكثر القراء:{فمنُ اضْطُرَّ} وهذا في كل ساكنين بعدهما ثالث مضموم، فإنه في جميع القرآن يُقْرَأ بالْكَسْر، على عادة التخلص من التقاء الساكنين بكسر الأول، والضم إتْبَاعاً للضَّمَّة بضمة الطاء في قوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ}

(1)

.

والطاء في قوله: {اضْطُرَّ} أصلها مُبدَلَة مِنْ تَاء الافتعال، وأصل حروف الكلمة الأصلية:(ضَرَرَ). ففاؤها ضاد، وعينها راء، ولامها راء:(ضَرَرَ)، فدخل عليها تاء الافتعال، كما تقول في قرب: اقترب. وفي كسب: اكتسب، وفي ضرر: اضْترر

(2)

، والمُقَرَّر في علم النَّحْوِ: أن تاء الافْتِعَال إذا جاءت بعد حرف من حروف الإطباق؛ كالصاد، والطاء، والضاد أنها تُبْدل طاءً

(3)

، فأبدلت تاء الافتعال

(1)

انظر: السبعة لابن مجاهد 174 - 176، الكشف لمكي (1/ 274 - 280).

(2)

مضى عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

ص: 381

طاءً، وبُني الفعل للمفعول، فقيل:{فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: فمن أُلجِئَ.

ولم يُبَيِّنْ هنا هذه الضرورة المُلْجِئَة، وقد بين في موضع آخر أنَّهَا الجوع، كما قال:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: الآية 3] والمَخْمَصَة: الجوع

(1)

. والقرآن يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضاً، يعني: فَمَنْ أَلجَأَتْه الضرورة إلى أكل الميتة، أو ما أُهِلَّ به لغير الله، أو لحْمِ الخنزير، فإن ذلك يُبَاحُ.

والضرورات المُلْجئة عند العلماء هي: أن يخاف على نفسه الموت، أو يظن ذلك ظنّاً قويّاً

(2)

.

وقد قدمنا في سورة البقرة مسائل متعددة من الاضطرار إلى الميتة، منها: إذا اضطر إلى الميتة بأن خاف على نفسه الهَلَاك إن لم يأكل، هل يجوز له أن يشبع؟ أو لا يأكل إلا قدر ما يَسُد الرَّمَق ويُمْسِك الحياة؟

(3)

فذهب جماعة من العلماء إلى أن له أن يشبع ويتزود، وهو المشهور المعروف من مذهب مالك

(4)

.

أما قول خليل في مختصره: «وللضَّرُورَةِ ما يَسُدّ» فذلك مشهور مذهب مالك، ولَيْسَ هو المَرْوِي عن مالك، وإنما هو قول لبعض أصحابه، فَمَذْهَب مالك المعروف، أنه يأكل ويشبع ويَتَزَوَّد، فإن

(1)

انظر: المفردات (مادة: خمص)299.

(2)

انظر: أضواء البيان (1/ 109)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: السابق (1/ 107)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (119) من سورة الأنعام.

(4)

انظر: الموطأ ص 334، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 55)، القرطبي (2/ 227).

ص: 382

وجد عنها غِنىً طرحها، ووجه هذا القول: أنه لما اضطر إليها صارت حلالاً بالنسبة إليه، والحلال يشبع صاحبه ويَتَزَوَّد.

وقالت جماعة أخرى من أهل العلم من الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار

(1)

: لا يجوز له أن يأكل إلا قَدْرَ ما يَسُدّ الرَّمَق ويُمسِك الحياة؛ لأنه إذا أكل ما يسد الرَّمق ويُمسك الحياة فقد زال الضَّرَر الذي هو خوف الموت، والميتة إنما أبيحت لخوف الهلاك، وقد زال بِأَكْلِ ما يسد الرَّمَق، فلا يشبع ولا يتزود، وهي أقوالٌ معروفةٌ في فروع المذاهب.

ومن هذا: إذا تَيَسَّرَتْ لك ميتَةٌ ومالُ غَيْرٍ وأنْتَ مضطر، فهل تتعدى وتأكل مال الغير أو تُقَدِّم الميتة؟ اختلف العلماء في هذا

(2)

؛ فذهب جماعة إلى أنه يقدم مال الغير، وهو مذهب مالك إذا كان يَأْمَن من أن يجعله سارقاً ويقطع يده، أما إذا كان يخاف أن يجعله سارقاً وتُقطع يده فإنه يأكل الميتة، فإن أَمِنَ أن يجعله سارقاً قدم مال الغير على الميتة، وكثير من العلماء يقدمون الميتة على مال الغير [ونظير]

(3)

هذه المسألة ما إذا كان مُحْرِماً، واضطر إلى الميتة، وخاف الهلاك من الجوع، ووجد صيداً وهو مُحرِم: هل يصطاد الصيد ويقدمه على الميتة؟ أو يأكل الميتة؟ في هذا خلاف

(1)

انظر: المحلى (7/ 426)، الاستذكار (15/ 351) فما بعدها، المغني (11/ 73)، أضواء البيان (1/ 107).

(2)

انظر: الاستذكار (15/ 357)، القرطبي (2/ 225)، المغني (11/ 78)، أضواء البيان (1/ 112).

(3)

في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

ص: 383

معروف

(1)

. وأكثر أهل العلم على أنه يقدم الميتة على الصيد؛ لأنه إن قَتَل الصيد وهو مُحْرِم صار ميتة، ورجعت المسألة في حافرتها

(2)

، واجتمع عليه أنه قاتل صيد وآكل ميتة، أما إن أكل الميتة فقد أكل الميتة ولم يقتل صيداً، وفي قولٍ عن الشافعية: أنه يقدم الصيد، بناءً على أن المضطر إذا قتل صيداً لم يكن ميتة، والأكثر على خلافه، وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة في الكلام على قوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة: الآية 173].

وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} دل القرآن في موضع على أن الاضطرار هنا: الجوع، وأن الباغي والعادي هما المائلان لإثم يخالف الشرع، وذلك في قوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: الآية 3] أي: غير مائل للحرام، وهكذا قَدْرُ بيان القرآن.

واختلف العلماء في ذلك الإثم الذي يُتجانف إليه الذي استُثني بقوله هنا: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}

(3)

فذهبت جماعة من أهل العلم -وهو القول المشهور عند الفقهاء والمفسرين- أن معنى الباغي: الخارج عن طاعة إمام المسلمين، والعادي: الذي يعدو على الناس

(1)

انظر: المغني (11/ 78)، أضواء البيان (1/ 114).

(2)

يشير إلى المثل «رجع على حافرته» أي: إلى حالته الأولى، أو الطريق الذي جاء منه. انظر: المجمل ص 178، المفردات 244.

(3)

انظر: الاستذكار (15/ 354)، ابن جرير (3/ 222)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 57)، القرطبي (2/ 231، 232)، المغني (11/ 75) أضواء البيان (1/ 105).

ص: 384

فيقطع عليهم الطريق، ويخيفها عليهم، وعلى هذا القول فالبَاغِي: الخارج عن طاعة الإمام، والعادي: الذي يخيف الطريق، ويقطع الطريق على الناس، لا يباح لهم أكل الميتة؛ لأن هؤلاء غالباً هم الذين يضطرون إلى الميتات؛ لأنهم لا يقدرون أن يخالطوا الناس فيشتروا منهم زاداً ولا طعاماً، فيضطرون غالباً إلى الميتات، وعلى هذا فمن كان خارجاً عن طاعة إمام المسلمين، أو قاطعاً طريق المسلمين، مخيفاً لها، لا يجوز له الأكل من الميتة إلا أن يتوب، فإن لم يتب فلا يجوز له الأكل ولو مات، فلو قيل: كيف تبيحون له ترك الأكل ولو مات؟ قالوا: لأنه قادر على أن يبيح ذلك بالتوبة، وهو الذي أصرَّ وامتنع أن يتوب إلى الله، فلو تاب إلى الله أجاز له ذلك.

وأجاز الإمام مالك وأصحابُهُ أكْلَ الميتة للمضْطَرِّ، ولو كان قاطع طريق، أو خارجاً على الإمام، لأنهم فسَّرُوا الباغي والعادي بتفسير غير هذا، قالوا:{غَيْرَ بَاغٍ} أي: غير باغٍ: مُتَشَهٍّ لأكل الميتة وهو قد يجد غِنىً عنها، {وَلَا عَادٍ} أي: جاوز إلى الحرام، وهو في غِنىً عنه بالأكل بالحلال، وعلى هذا التفسير فهي كالتكميل لقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ} والقول الأول أولى؛ لأن التأسيس مقدم على التأكيد

(1)

.

وقال بعض العلماء: {غَيْرَ بَاغٍ} أي: باغٍ مُتَشَهٍّ في نيل الحرام {وَلَا عَادٍ} أي: مجاوز قَدْر سَدِّ الرَّمَقِ إلى الشبع، إلى آخر الأقوال التي قَدَّمْنَاهَا في البقرة. هذا معنى:{غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} .

(1)

في هذه القاعدة انظر: البحر المحيط للزركشي (2/ 117، 120)، شرح الكوكب المنير (1/ 297) شرح مختصر الروضة (3/ 747 - 748)، أضواء البيان (3/ 355)، (5/ 759)، (6/ 244 - 245، 692)، (7/ 414، 821).

ص: 385

قال بعض العلماء: يَلْحَقُ بِالبَاغِي والعَادِي كل مسافر سَفَراً حراماً، فإنه لا يترخص في أكْلِ الميتة، كالذي يُسَافِرُ لقطيعة الرَّحِم، أو يسافر ليقتل رجلاً مُعَيَّناً مسلماً، ونحو ذلك من السفر الحرام، فإنه لا يباح له أكل الميتة وإن ألجَأَهُ الجوع

(1)

. والذين يقولون هذا يقولون: كذلك لا يترخص بِقَصْرِ الصلاة، فَعَلَيْهِ أن يصليها رباعية؛ لأن الرخصة وُجِدَت من باب التسهيل فكأنه إعانة له على ظُلْمِهِ، والله (جل وعلا) يقول:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: الآية 2] فكأن إباحة الميتة له والتسهيل له بقصر الصلاة إعانَة له على ظُلْمِهِ، وهذا معنى قوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} {فَإِنَّ رَبَّكَ} أي: خالقك وسيدك {غَفُورٌ} ومن مغفرته أنه يبيح له الأكل عند الضرورات {رَّحِيمٌ} بِعِبَادِهِ، ومِنْ رَحْمَتِهِ: أنه أباح لهم ما اضطروا إليه، وألجأتهم إليه الضرورات، وهذا معنى قَوْلِهِ جل وعلا:{فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

يقول الله جل وعلا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: الآية 146].

لما بيَّن الله (جل وعلا) أشياء حَرَّمَها على هذه الأمة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان حرمها عليهم لمصالح مَعْلُومة عنده (جل وعلا)، بيّن أنَّهُ حَرَّمَ على اليهود بعض الأشياء مؤاخذة لهم وجزاءً لهم باجترامهم

(1)

انظر: المغني (11/ 75)، القرطبي (2/ 232)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 58).

ص: 386

السيئات، قال:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} المراد بالذين هادوا هنا: اليهود، والعرب تقول:«هاد يهود» إذا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ ورجع إلى الصواب، وهذا معروفٌ في كلام العرب، ومنه قول الله في الأعراف عن نبيه موسى:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: الآية 156] أي: تبنا ورجَعْنَا منيبِين إليك. فمعنى (هاد، يهود): إذا رجع تائباً إلى الحق، مُتَنَصِّلاً مِنْ ذَنْبِه

(1)

، واسم فاعله:(هائد)، ويُجمع على (هُوْد)، ومنه:{كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: الآية 135] وجَمْعُ (الفاعل) على (فُعْل) مسموعٌ في أوزانٍ قليلة، كهائدٍ وهُود، وحائلٍ وحُول، وعَائِذٍ وعُوْذ، وبَازِلٍ وبُزْل

(2)

. وقد قال بعض الأدباء

(3)

:

يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ

وَاسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُدْ

فقوله أولاً: «هُدْ، هُدْ» معناه: تُبْ، تُبْ. «واسجد كأنك هُدْهُدْ» وهو الطائر المعروف. يعني: وإنما قيل لليهود: {الَّذِينَ هَادُواْ} لأنه في تاريخهم توبة عظيمة سَجَّلَهَا لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العِجْلِ، لما رَجَعَ موسى مِنَ المِيقَاتِ من الطور، ووجدهم يعبدون العجل، جاء الوحي بأنَّ اللهَ لا يقبل توبة أحدٍ منهم

(1)

انظر: الدر المصون (1/ 405).

(2)

انظر: السابق (2/ 69)، والحائل: الأنثى التي لم تحمل (المصباح المنير، مادة: حول، ص60). والبازل: البعير الذي فَطَرَ نابُه بدخوله في السنة التاسعة (المصباح المنير، مادة: بزل، ص 19).

(3)

نسبه المرزوقي للزمخشري كما في شواهد الكشاف ص 29. وهذه النسبة غير صحيحة؛ لأن الزمخشري حينما أورده في الكشاف (2/ 96) قال: «ولبعضهم» وذكره. وأوله: «يا راكب

».

ص: 387

حتى يُقَدِّمَ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ، كما قدمنا إيضاحه

(1)

في البقرة في قوله: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: الآية 54] أي: فَقَدَّمْتُمْ أنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، هذه التوبة التي تجر الإنسان إلى أن يقدم نفسه صابراً محتسباً على الموت توبة عظيمة سَجَّلَها لهم القرآن؛ ولذلك ربما أُطلق عليهم اسم:(الذين هادوا): تابوا؛ أي: بتلك التوبة المعروفة، وإن كانت هذه حسنة فخسائسهم المذكورة في القرآن لا تكاد أن تُحْصَر.

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} معناه: أن كل حيوانٍ له إصبع فيها ظفر حرام على اليهود، ومن ذلك: الإبل، والنعام، والإوَز، والبط، وما جرى مجرى ذلك؛ لأن كل هذه من ذوات الظفر، فكل حيوانٍ ذي ظفر كان محرَّماً على اليهود جِميعه؛ شحمه ولحمه، كالنعام، وكالإبل، وكالبط، والإوَزّ، وما جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ

(2)

.

وقول بعض العلماء: الظّفُر: الحافر، فإنه يحرم عليهم كل ذوات حافر

(3)

، غير صحيح؛ لأنهم يعدّون أظلاف البقر والغنم من ذوات الحوافر، ولحومهما مباحة لهم كما سيأتي.

وقول بعضهم: المراد بذات الظفر هي: ذات المخالب، أو ذات السباع من الطير

(4)

. لا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، فالصَّحِيحُ أنَّهُ مَا

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 198)، القرطبي (7/ 125).

(3)

انظر: القرطبي (7/ 125).

(4)

المصدر السابق. ولفظه: وقيل: يعني كل ذي مخلب من الطير، وذي حافر من الدواب. اهـ.

ص: 388

كالبعير، وما كَالنَّعَامَةِ، وما كالْبَطِّ، وما كالإوَز، وما جرى مجْرَى ذلك.

وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} أي: حَرَّمْنا عليهم شحوم البقر والغنم لا لحومهما.

والتحقيق: أن الشحوم المحرمة عليهم من البقر والغنم مقصورة على الثروب، وشحم الكليتين

(1)

.

والثُّرُوب: جمع ثَرْب؛ وهو الغِطَاءُ -الغِشَاءُ- من الشَّحْمِ الرَّقِيقِ الذي يغطي الجوف فيكون على الكَرِشِ والمصَارِين

(2)

، هذا وشحم الكُلَى هو الحرام عليهم، أما غيره فيدخل في الاسْتِثْنَاءَاتِ الآتية؛ ولذا قال:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} قرأ بعض السبعة: {إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} بإظهار التاء، وقرأ بعضهم:{إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} بالإدغام -الإدغام الصغير

(3)

- يعني: أن ما عَلق بظهر البقر والغنم من الشحوم، كالشرائح التي تكون على الظهر من الشحم، فإنها مباحة لهم

(4)

.

وقوله: {أَوِ الْحَوَايَا} التحقيق أن {أَوِ الْحَوَايَا} في محلِّ رَفْعِ مَعْطُوفٍ عَلَى الظهور

(5)

، يعني: إلا ما حملت ظهورُهُمَا أو ما

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 201)، القرطبي (7/ 125).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 125)، المصباح المنير (مادة: ثرب) ص 31.

(3)

انظر: السبعة لابن مجاهد ص 124، الكشف لمكي (1/ 135).

(4)

انظر: ابن جرير (12/ 202).

(5)

انظر: ابن جرير (12/ 203)، القرطبي (7/ 125)، البحر المحيط (4/ 244)، الدر المصون (5/ 203).

ص: 389

حملته الحَوَايا، فهو مستثنى بالتَّحْرِيمِ، خلافاً لمَنْ زَعَمَ أنَّ الحَوَايَا يعني منصوباً معطوفاً على شحومهما، حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا، فهي محرَّمَة، فهذا القول ضعيف مرجوح

(1)

، والمعنى: أن ما حملته الظهور من الشحوم حلالٌ لهم، وما حملته الحوايا.

والحوايا: تختلف فيها عبارات المفسرين بألفاظٍ متقاربة، معناها راجعٌ إلى شيء واحد

(2)

، منهم من يقول: هي المبَاعِر؛ أي: المَحَال التي يجتمع فيها البَعْر والزّبل. ومنهم من يقول: هي بنات اللَّبن، ويسمونها بأسماء، والتحقيق: أنها كل ما كان مُدَوَّراً في البطن مما يُسَمَّى: الدُّوارَة، والمصارين، ومحل البعر الذي يخرج منه، ما تَعَلَّق بذلك الجوف من الشحوم غير الثُّرُوب التي هي غشاء فوق الجوف، كل ما تعلق بذلك فهو حلال لهم، وهذا معنى:{أَوِ الْحَوَايَا} وهو جمع (حاوية)، كقَاصِعَة وقَاصِعَاء

(3)

. وقيل: جمع (حويَّة) كـ: (فَعِيْلَةٍ) و (فَاعِلَة)

(4)

وهي ما احْتَوَتْ عَلَيه البطن من الأمْعَاءِ، وما جرى مجراها من الدُّوَّارَة والمَبَاعِر، ونحو ذلك، فالمتعلق بهذا من الشَّحْمِ لا يَحرم عليهم، وإنما يحرم عليهم الثُّرُوب، وهي الغشاء الذي فوق الكرش والأمعاء من الشحم، وشحم الكُلَى. وهذا معنى قوله:{أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} .

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 203).

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 203)، القرطبي (7/ 126)، الدر المصون (5/ 206).

(3)

في القرطبي (7/ 126): «وواحد الحوايا: حاوياء، مثل: قاصعاء وقواصع. وقيل: حاوية. مثل: ضاربة وضوارب. وقيل: حويَّة، مثل: سفينة وسفائن» اهـ، وانظر: الدر المصون (5/ 206).

(4)

نفس المصدر السابق.

ص: 390

والتحقيق أن: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} معطوف على المستثنى الحلال

(1)

، أي: فما اختلط بالعظم فهو حلالٌ لهم، فكل شحم مختلط بعظم كالشحم الذي يكون في عظام البقرة والشاة فكله حلَالٌ لهم.

ويدخل فيه الذَّنَبُ الكبير السمين الذي يسمى الألية فإنه مختلط بعظم؛ لأنه مختلط بعظم العصعص، وهو عجب الذنب المعروف، ويدخل في {مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}: شحم العينين، وشحم الأذنين، وكل شحم اختلط بعظم فإنه حلالٌ لهم، وهذه الاستثناءات تبين أن الحرام عليهم إنما هو الثُّروب، وشحم الكُلَى فقط، وهذا معنى قوله:{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} .

ثم بيَّن الله أنه حرَّم عَلَيْهِمْ بعض هذه المحرمات بسبب ظلمهم، فضَيَّقَ عليهم بالتحريم لمخالفتهم واجترامهم، كما بَيَّنَهُ في النساء بقوله:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: الآيتان 160، 161] أي: وقتلهم الأنبياء، وتحريفهم للكتب، كل هذه الذنوب حُرِّمَ عليهم بسببها بعض الطيبات؛ ولذا كان نَبِيُّ الله عيسى ابن مريم (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) بُعث بأن يكون جميع عَمَلُهُ وأحكامه في الغالب عملاً بالتوراة، ولا يزيد إلا أن يُحلل لهم بعض ما حُرِّمَ عليهم بسبب ذنوبهم، كما سيأتي في قوله عن عيسى ابن مريم:{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: الآية 50] فجاء تخفيف وتحليل على لسان عيسى ابن مريم، ولكنهم -قبحهم الله- لعداوته

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 205)، القرطبي (7/ 125)، البحر المحيط (4/ 244 - 245)، الدر المصون (5/ 207).

ص: 391

لم يقبلوا منه شيئاً، وزعموا أنه ابن زانية!!

وقد يُشْكِلُ على كثير من الناس أنَّ مَنْ يزعمون أنهم على دين النصرانية دائماً يَفْصِلُون الدين من السياسة، ويزعمون أن الدين مقتصر على الكنيسة، وأنه لا دخل له في تنظيم العلاقات البشرية والأعمال الدنيوية!! وسبب ذلك: أن النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى ابن مريم، ودين عيسى ابن مريم جُلّ شريعته التي فيها الحلال، والحرام، والحدود، وإقامة صلاح المجتمع إنما هو بالكتاب الذي هو التوراة، وفي الإنجيل زيادات ليس فيها شرعٌ قائمٌ مستقل، فالنصارى لشدة بغضهم لموسى كذبوا بكتابه، ولم يأخذوا من شريعة عيسى إلا ما اختص به الإنجيل، وتركوا ما في التوراة مما بُعث عيسى بالعمل به، وصارت ليس في الإنجيل شريعة كاملة وافية يُفَصَّل فيها الحلال والحرام وأحكام علاقات الدنيا، فاضطروا إلى أن يجعلوا تشريعاً سموه (الأمانة الكبرى) وهي الخيانة العظمى!! كما هو معروف في تاريخهم

(1)

. أما التوراة فهو كتابٌ فيه شرعٌ واضح تُبيَّنُ فيه العقائد، والحلال والحرام، وكل شيء، كما قال الله (جل وعلا) عن التوراة:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: الآية 145] مع أن الإنجيل جاء به بعض الأحكام: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ} [المائدة: الآية 47]. وكثيرٌ من أحكام الإنجيل يُحال فيها على ما أنزل الله على موسى في التوراة، كما قال الله في التوراة:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: الآية 44]، وهذا معنى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (1/ 366).

ص: 392

هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}.

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} ذلك التحريم والتضييق جزيناهم بسبب بغيهم، أي: كفرهم وظُلْمِهم وعُدْوانِهِمْ، كما بَيَّنَهُ بقوله:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآيتان 156، 157]، وقوله:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: الآيتان 160، 161] وكقوله: {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ} [النساء: الآية 155]، وقوله:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: الآية 21] هذا الظلم والبغي حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بسببه بعض ما كان حلالاً عليهم، كما قال هنا:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} .

وفي إعراب (ذلك) وجهان معروفان

(1)

:

أحدهما: أنها في محل رفع، الأمر ذلك الذي قصصنا عليك جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء ببغيهم.

الثاني: أنها في مَحلِّ نَصْبٍ بِمَصْدَرٍ، أي: جزيناهم ذلك الجزاء، وهذا الإعراب اختاره غير واحدٍ، ولكن ابن مالك قال: إن اسم الإشارة لا يكون منصوباً على المصدر إلا إذا ذُكر بعده المصدر، كأن تقول: قمت هذا القيام، وقعدت ذلك القعود. أما لو لم تَذكر بعده المصدر كأن قلت: قمت هذا، تعني: القيام، أو جلست هذا،

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 245)، الدر المصون (5/ 207).

ص: 393

تعني: الجلوس، يزعم ابن مالك أن هذا لا يجوز

(1)

. وقال بعض العلماء: هي مفعول أول لـ (جزيناهم)؛ لأن (جزى) تتعدى لمفعولين، تقول: جزيت عمراً خَيْراً، وجزيته شرّاً، فتكون (ذلك) أحد مفعولي (جزى)، أي: جَزَيْنَاهُمْ ذلك الجزاء بِبَغْيهِمْ، فتكون مفعولاً به مقدَّماً، وعليه فلا إشكال.

والبغي: أصله الإرادة

(2)

، وكثيراً ما يستعمل في إرادة الظّلم.

وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} صيغة الجمع للتعظيم، والله يقول: إني لصادق. معظماً نفسه، ومعلوم أن الله صادق على كل حال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: الآية 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النساء: الآية 87]. والسبب في هذا أن اليهُودَ زعَمُوا أن هذا الذي حُرِّمَ عليهم لم يكن جزاءً ولا عُقُوبَة، بل إنما كان حَرَاماً على إسرائيل، حَرّمَه إسرائيل على نفسه فاقتدوا به

(3)

، وقد تقدم أن الله أكذبهم في هذه الدعوى وألقمهم فيها حجراً في سورة آل عمران، في قوله:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: الآية 93] فلما أفحمهم وقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خجلوا ولم يأتوا بالتوراة، وعلموا أن القرآن مهيمنٌ على الكتب، كما قال:{وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: الآية 48] ولذا قال هنا: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيما ذَكَرْنَا مِنْ أنَّا حَرَّمْنَا عليهم ذلك لظلمهم، لا أنه حَرَّمَهُ إسْرَائِيل على نفْسِه،

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 245)، الدر المصون (5/ 208).

(2)

انظر: المفردات (مادة: بغى)136.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 206).

ص: 394

والذي حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه قد قدمنا في سورة آل عمران أن المفسرين يذكرون أن نَبِيَّ الله يعقوب أصابه المرض المسمَّى بعرق النسا وآلمه جِدّاً، فنذر لله إن شفاه الله ليُحَرِّمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، وكان هذا النذر سائغاً في شرعهم إذ ذاك، فشَفَاهُ الله، فإذا أحب الشراب إليه لبن الإبل، وأحب الطعام إليه لحم الإبل، فَحَرَّمَهما على نفسه لذلك النذر

(1)

،

وأن هذا معنى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: الآية 93] أي: وهو لبن الإبل ولحمها، وقد قدمنا في تفسير البقرة أن سيد اليهود المسلمين عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه لمَّا أسلم فحَسُن إسلامه كان يتقي [أكل] لحم الإبل

(2)

لِمَا كان متمرناً عليه من تحريمِهِ، فنزل فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}

(3)

[البقرة: الآية 208]. أي: ادخلوا في فُرُوعِ الإسلام وأحكامه بجميعها، لا تحرِّمُوا شيئاً أحَلَّهُ الإِسْلَام، ولا تَمْتَنِعُوا مِنْ أكْلِ شيء أحله الإسلام، وإن كان محرَّماً في شرع قَبْلَهُ، وهذا معنى قوله:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} .

ومن أعظم بغيهم: افتراؤهم على مَرْيَم البتول، ودعواهم عليها أنها زانية؛ حيث قالوا لها:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28)} [مريم: الآية 28] يعنون: لم يكن أبوكِ فاحِشاً زانِياً، ولم تكن أمك بَغِيّاً زانية، فمِنْ أَيْنَ أتَيْتِ بهذا الغلام؟! يعنون رميها

(1)

مضى عند تفسير الآية (92) من سورة الأنعام ..

(2)

في الأصل: «لحكم أكل» وهو سبق لسان.

(3)

أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 67 عن ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده ضعيف. وذكره الحافظ في العُجَاب منبهاً على ضعفه (1/ 529).

ص: 395

بالفاحشة، كما بَيَّنَهُ الله بقوله:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156)} [النساء: الآية 156] ومِنْ أعْظَمِ بَغْيِهِمْ -قَبَّحَهُمُ الله! - زَعْمُهُمْ أنَّهُمْ قَتَلوا المسيح ابن مريم، وأنهم صلبوه، وتصْدِيق الجَهَلَةِ النَّصَارى لهم في ذلك؛ ولذا كان شِعَارُهُمْ الصَّليب، يزعمون أنَّها الخشبة التي صلب عليها عيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- والله -هو أصدق من يقول- يقول:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآية 157].

واعلموا أن كثيراً مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ مِنَ المسلمين استحْوَذَتْ عليهم آراء الإفرنج، فزَعموا أن عيسى مات، وأن اليهود قَتَلُوه، وأنه ليس حيّاً الآن، وأنه لا يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وكل هذه أكاذيب إنما حمل عليها ضعافَ طلبة العلم اغترارُهم بآراء الكفرة، وظواهر بعض النصوص، والحق الذي لا شَكَّ فِيهِ أن الأخبار متواترة

(1)

عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسَلَامُهُ عليه- أنَّ اللهَ رَفَعَ عِيسى إليه حيّاً، وأنه حَيٌّ عند الله، وأنه يَنْزِل في هذه الأمة في آخر الزمان، وأن الله ينسخ على لسانه بعض الأحكام التي كانت مشروعة على لسان النبي، وهو أنه لا يقبل الجزية من أحد، فلا يبقى في زمنه إلا السيف أو الإسلام، ويقتل جميع الخنازير، ويضع الجزية، والتحقيق أن القرآن دلَّ على أنه حيٌّ، وأنه سينزل، وأن أهل الكتاب يؤمنون به؛ لأن الضمير في قوله:{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}

(1)

انظر: إتحاف الجماعة بما جاء من الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/ 128)، إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان ص 7، أشراط الساعة للوابل ص 272، وقد نقل عن جماعة من أهل العلم القول بتواتر هذه الأحاديث ..

ص: 396

[النساء: الآية 159] التحقيق أنه عيسى، والمعنى: أنهم يؤمنون بعيسى قبل موت عيسى بعد نزوله، هذا التفسير هو الصحيح، وسياق القرآن يدل عليه، والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم تَدُلّ عليه، والدليل على أنه سياق القرآن: أن الله قال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ} أي: عيسى {وَمَا صَلَبُوهُ} أي: عيسى {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي: عيسى {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: عيسى {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} أي: عيسى {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: الآيات 156 - 159] أي: عيسى، لتكون الضمائر على نسقٍ واحد

(1)

.

أما الرواية الأخرى التي جاءت عن ابن عباس أن المعنى: لا أحَدَ مِنْ أهْلِ الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل مَوْتِ أحَد أهل الكتاب، لا قبل موت عيسى، وأنهم قالوا لابن عباس: إذا قُطع رأسه غفلة فأين له أن يؤمن به قبل موته؟ وأنهم زعموا أنه قال: ينطق لسانه بعد أن فارق رأسُهُ جُثَّتَه بالإيمان بعيسى

(2)

.

هذا لا يخفى ضعفه وبطلانه، وعدم مساعدته على سياق القرآن، وكم من كِتَابِيٍّ يموت فجأة لا يؤمن بعيسى؟! فالتحقيق هو الأول، وقد دلت عليه الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: أضواء البيان (7/ 263 - 265)، قواعد التفسير (1/ 415).

(2)

هذا القول ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما من وجوه وطرق متعددة. وقد أخرج جملة منها ابن جرير في التفسير (9/ 382 - 386)، وابن أبي حاتم (3/ 1113 - 1114) وذكرها ابن كثير (1/ 576 - 577).

وقال: «فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس. وكذا صح عن مجاهد، وعكرمة، ومحمد بن سيربن، وبه يقول الضحاك، وجويبر» اهـ.

ص: 397

[20/أ] نعم يبقى لطالب العلم هنا سؤال معروف وهو أن يقول:/ إن الله قال: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عمران: الآية 55] فيقول: إن الله قال: إنه مُتَوَفِّيك، وقال بعد ذلك:{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فهذا دليل على أنه توفاه، وقوله:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: الآية 117]. أما قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فلا يستدل به إلا جاهل؛ لأن هذا من كلام عيسى يوم القيامة، ومعلوم أنه لا يأتي يوم القيامة إلا وقد مات عيسى، وإن كان حيّاً إلى آخر هذه الأمة؛ لأن ذلك يوم القيامة، يقول الله له:{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} إلى أن قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة: الآيتان 116، 117] كل هذا قوله يوم القيامة، ومعلوم أنه يوم القيامة لا بد أن يكون تَوَفَّاهُ الله، بَل آية المائدة هذه تدل على أنّ توفيه الذي توفاه به ليس قبض روح؛ لأنه لم يقابله بالحياة؛ لأنه قال:{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ولم يقل ما دمت حيًّا، وقابل ديمومته فيهم بقوله:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فَعَلِمْنَا أنها وفاة جسد وروح لا وفاة روح فقط، إذ لو كانت وفاة روح لما قابلها بقوله:{مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ولقابلها بقوله: «ما دمت حيًّا» ؛ لأن الذي يُقابل بوفاة الروح إنما هو الحياة كما قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: الآية 31] ولم يقل: ما دمت فيهم.

والجواب عن قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: الآية 55] من أوجه متعددة

(1)

:

(1)

انظر: ابن جرير (6/ 455)، القرطبي (4/ 99)، ابن كثير (1/ 366)، أضواء البيان (1/ 280).

ص: 398

أولها: أنه أجمع أهل اللسان العربي الذي نزل به القرآن أن العرب تقول: «توفَّاه، يتوفاه» إذا قَبَضَه إليه كاملاً تامّاً، كما تقول العرب: توفيتُ دَيْني من فلان؛ أي: قبضته، ولكن إطلاق التوفي على خصوص قبض الروح دون البدن اصطلاح عُرْفِيّ لا لغوي، فالاصطلاح اللغوي: يطلق على التوفي وقبض الشيء ببدنه ورُوحِهِ جميعاً

(1)

، وإطلاقه على الروح دون البدن إطلاق عُرْفِيّ لا لُغَوِي، ومع أن المعروف في الأصل عند أكثر العلماء أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللّغَوية

(2)

، وأن الله إذا قال: توفى الله فلاناً. أن الأغلب الذي يسبق إلى الذهن أنها الروح دون الجسم؛ لأن هذا هو العُرْف، والعُرف ينسخ الحقيقة اللّغَوِيَّة، ولكن الحقيقة اللغوية هنا التي هي:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ؛ أي: قابِضك إليَّ كاملاً، ورافعك إليَّ بروحك وجسمك، هذه الحقيقة اللغوية وإن كانت تقدم عليها العُرْفِيَّة التي هي (قبض الروح دون البدن) إلا أنها اعتضدت بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت حقيقة لغوية معتضدة بأحاديث متواترة، ولا إشكال في ذلك.

الثاني: أن الله لما أراد قَبْضَ عِيسَى إِلَيْهِ ألْقَى عليه النوم لئلا يزعجه الارتفاع إلى العالم العلوي، فقال:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: مُنِيمُكَ وقابِضُكَ في نَوْمَه، والعرب تطلق الوفاة على النوم، وجاء في القرآن إطلاق الوفاة على النَّوْمِ في مَوْضِعَيْنِ:

(1)

انظر: اللسان (مادة: وفى)(3/ 961).

(2)

انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 473 - 476)، شرح الكوكب المنير (3/ 433 - 436)، المذكرة في أصول الفقه 174 - 175، أضواء البيان (3/ 100)، (6/ 522)، (7/ 268)، نثر الورود (1/ 156)، قواعد التفسير (1/ 151).

ص: 399

أحدهما: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} أي: يعني في النوم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام: الآية 60].

الثاني: قوله في الزمر: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: الآية 42].

الجواب الثالث: أن الله نعم قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: الآية 55]، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما، ولكنه لم يبين وقت ذلك التوفّي هل هو فيما مضى أو سيأتي بعد آلاف السنين؟ والتَّحَكُّم على الله بأنه أوقعه تَحَكُّم بلا دليل، والله متوفيه قطعاً وليس بمخلده، ولكن لم يُعَيِّن ذلك التوفي.

فإن قال قائل: هذا التوفي قبل الرفع؛ لأنه قال بعده: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .

فالجواب: أن جماهير علماء العربية أن الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي التشريك

(1)

فيجوز بإجماع أهل اللسان العربي أن يكون المعطوف بها سابقاً على المعطوف عليه، تقول:«جاء زيدٌ وعمرو» ويكون عمرو هو الأول؛ لأن الواو إنما تقتضي التشريك فقط؛ ولذا قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: الآية 7] فقدم النَّبِي، وعطف عليه نوحاً بالواو، ونوح قبل النبي، وهذا لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ العلماء.

(1)

انظر: الصاحبي 156، البحر المحيط للزركشي (2/ 253)، شرح الكوكب المنير (1/ 229)، مجموع الفتاوى (16/ 77)، أضواء البيان (7/ 269).

ص: 400

فإن قال قائل: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث يدل على أن الواو تقتضي الترتيب، وهو تفسيره للواو في قوله:{إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} [البقرة: الآية 158] فبدأ بالصفا، وقال:«نبدأ بما بدأ الله به»

(1)

وفي بعض رواياته: «ابدَؤُوْا بما بدأ الله به»

(2)

.

فالجواب عن هذا هو ما أجاب به غير واحد من علماء العربية: أن الواو من حيث وضعها العربي لا تقتضي تقديماً ولا تأخيراً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، سواء كان المعطوف بها هو الأول أو هو الآخر، أو كانا مجتمعين في وقت واحد، كقوله:{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: الآية 15] لأن إنجاءهما في وقت واحد، إلا أنه إذا دلّ دليل خارجي على أنها يراد بها الترتيب فلا مانع، ولكن الترتيب بذلك الدليل الخارجي لا لأصل الواو في نفسها، ومنه قول حسّان، على من رواه بالواو

(3)

:

هَجَوْتَ مُحمداً فأجَبْتُ عَنْهُ

وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ

لأن الإجابة إنما هي بعد الهجاء لا مانع من أن تقتضي الترتيب إذا دل عليه دليل خارجي، وهنا لم يدل عليه دليل خارجي، وجماهير المفسرين - كما قاله كبير المفسرين أبو جعفر الطبري- أن معنى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: قابضك إليّ كاملاً وافياً بِجَسَدِكِ وروحك،

(1)

أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1218)(2/ 886).

(2)

الحديث بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (3/ 394)، الدارقطني (2/ 254)، والبيهقي (1/ 85). وقد حكم بعض العلماء على هذه اللفظة بالشذوذ. انظر: التلخيص الحبير (2/ 250)، خلاصة البدر المنير (2/ 11)، نصب الراية (3/ 54)، إرواء الغليل (4/ 316).

(3)

انظر: ديوان حسان ص 20.

ص: 401

وإنما كانت الحقيقة اللغوية هنا مقدمة على العُرْفِيَّة -التي هي قبض الروح-[لأمرين]

(1)

:

أحدهما: أن الله قد ثبت أنه رفع جسم عيسى إليه، والأحاديث الدالة المتواترة عن النبي أن الله رفع عيسى.

وعلى كل حال فالمعروف عن الذين قتلوه أنهم قتلوه بأن صلبوه، والله نفى هذا الصلب نفياً باتّاً، قال:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: الآيتان 157، 158] فنفى أنهم قتلوه نفياً يقيناً، وهم معذورون؛ لأنهم ظنوا أنهم قتلوه، والله بَيَّنَ السبب الذي جاءهم منه الكذب والغلط؛ لأنه قال:{وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: الآية 157] لأن الله ألقى شبهه على رجل فصار مَنْ نظر إلى ذلك الرجل يجزم بأنه عيسى؛ لأن الله ألقى شبه عيسى عليه، فصار الناظر إليه لا يشك في أنه عيسى، فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه، واعتقدوا أنه عيسى، فبَيَّنَ الله سَبَبَ كَذِبِهِم، وعُذْرهم في غلطهم فقال:{وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أما هو نفسه فَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ إليه، وهو عند الله (جل وعلا)، وسينزل في هذه الأمة آخر الزمان، ويقتل الدَّجَّال، وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه، وإن أحْيَا الله مَنْ أدْرَكَهُ من هذه الأمة سيجد أخبار الصادق المصدوق حقّاً، وسيجد خرافات الكذابين من أتْبَاعِ الإفرنج باطلاً؛ لأن الله أصدق من يقول، وهو يقول:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ويقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء: الآيتان 157، 158]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: الآية 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النساء: الآية 87] الله أصدق من يقول.

(1)

في الأصل: أمران.

ص: 402

{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ (147)} [الأنعام: الآية 147].

الواو في قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ} قال بعض العلماء

(1)

: راجعة إلى اليهود؛ لأنهم أقرب مَنْ ذُكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} فإن كذبوك وقالوا: لم تُحرم علينا هذه الأشياء جزاءً ببغينا، بل ما كان حراماً علينا إلا ما حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} .

الوجه الثاني: أنه راجع إلى كفار مكة الذين أُرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبَيَّنَ لَهُم أن شركهم بالله باطل، وأن تشريعهم الحلال والحرام بالكذب باطل، فإن كذبوك وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، والبَحِيْرَة حق، والسائبة حق، وما جرى مجرى ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة.

وقال بعض العلماء: يرجع إلى الجميع، فإن كذبك الكفرة المعادون المعاندون من مشركين ويهود فقل لهم: ربكم الذي أنشأكم وأوجدكم ذو رحمة واسعة، إلا أن هذه الرحمة الواسعة ذكر الله في سورة الأعراف أنها مخصوصة بالمتقين حيث قال:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: الآية 156] لا لكل كافر وفاجر.

وقد قَدَّمْنَا فِي تَفْسِير (البسملة) و (الفاتحة) أن (الرَّحْمَةَ) صفة من صفات الله، اشتق لنفسه منها اسم (الرحمن) و (الرحيم)، وأن

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 207)، البحر المحيط (4/ 245 - 246)، الدر المصون (5/ 209).

ص: 403

(الرحمن) هو: ذو الرحمة الشاملة في الدنيا لجميع المخلوقين [في الدنيا، و (الرحيم): هو الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة]( .... )

(1)

.

{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: الآية 144]{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: الآية 6] ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: الآية 54] وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس: الآية 65] ولا شك أن لله كلاماً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بَيْنَ ذات الخالق والمخلوق.

هذه صفات المعاني السبع

(2)

التي أقرّ بها من جحد كثيراً من الصفات.

(1)

في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وجرت عادة الشيخ رحمه الله في مثل هذا الموضع أن يذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات، وأنها تنبني على ثلاثة أسس، ثم يذكر عقيدة المُتَكَلِّمِينَ في هذا الباب وتقسيمهم الصفات قسمة سُداسية، ثم يرد عليهم، وهو كلام طويل أكتفي بالإحالة عليه في أحد المواضع، وذلك عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام، وكذا محاضرة الشيخ رحمه الله في الأسماء والصفات، وهي مطبوعة بعنوان:(منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات). انظر ص 13 - 16، 19 - 22 من المطبوع.

تنبيه: ما بين المعقوفين زيادة تم بها استدراك بعض النقص المتعلق بالكلام على صفة (الرحمة) وقد نقلته من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (133) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: شرح المواقف ص 75 فما بعدها، الاقتصاد في الاعتقاد ص 53 فما بعدها، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص13.

ص: 404

كذلك الصفات التي يسمونها السَّلْبية، والصفة السَّلْبِية في اصطلاح المتكلمين: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودِيٍّ، وإنما تدل على سَلْبِ ما لا يليق بالله عن الله، وهي عند المتكلمين خمس صفات

(1)

، وهي: البقاء، والقِدَم، والغِنَى المطلق- الذي يسمونه: القيام بالنفس، يعنون به: الاستغناء عن المحل والمُخَصَّص- والمخالفة للخلق، والوحدانية. أما القِدَم والبقاء: فالمتكلمون أثبتوهما لله، وقد قال بعض العلماء: إنه ورد في مثل ذلك حديث، وبعضهم ينفي صِحَّتَهُ، والمتكلمون يقصدون بهما معنىً صحيحاً؛ لأن القِدَمَ عِنْدَهُمْ: هو سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ، والبقاء: هو سَلْب العدم اللاحق، زَاعِمِينَ أن الله أثبتهما لِنَفْسِهِ في قوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: الآية 3] أي: الأول الذي لا ابتداء لأوَّلِيَّتِهِ، والآخِر الذي لا انتهاء لآخِرِيَّتِه. قالوا: هذا معنى القِدَمِ والْبَقَاءِ.

فنقول: القِدَم وَصفَ الله به المخلوقين، قال:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: الآية 39]{إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: الآية 95]{أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: الآية 76] والبقاء وَصَفَ به الحادث؛ حيث قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: الآية 77]{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: الآية 96] والوحدانية وَصفَ بها نفسه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: الآية 163] ووصف بعض المخلوقين بها قال: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ} [الرعد: الآية 4] والغِنَى وَصَفَ به نفسه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8]،

(1)

انظر: شرح المواقف ص 29 فما بعدها، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 17.

ص: 405

{وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: الآية 6] وقال في بعض المخلوقين: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: الآية 6]{إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ} [النور: الآية 32]. ولا شك أن ما وُصِفَ به الله من هذه الصفات مخالف لما وُصف به المخلوق، كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بِحَسبِه، فصفة الله بالغة من الكمال والتَّنْزِيهِ ما تَتَعَاظَمُ أن تُشْبِه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تَتَعَاظَمُ أن تشبه ذوات المخلوقين.

وهذه الصفات الجامعة

(1)

؛ كالعُلُوِّ، والكِبَر، والعِظَمِ، والمُلك، والجَبَرُوتِ، كل هذا جاء في القرآن العظيم وَصْفُ الخالق والمخلوق به، فقَدْ وَصَفَ تعالى نفسه بالعلو والكِبَر والعِظَم، قال في وصف نفسه بالعلو والعِظَم:{وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: الآية 255]. وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: الآية 34]{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ (9)} [الرعد: الآية 9] (

)

(2)

فإن كذبوك وتمرَّدوا وكفروا فقل لهم، رغِّبْهُمْ ورهِّبْهُمْ، واجمع لهم بين الوعد

(1)

انظر الكلام على هذا النوع من الصفات في محاضرة الشيخ رحمه الله في الأسماء والصفات (ص 23 - 25).

(2)

في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، ويمكن استدراك النقص بمراجعة محاضرة الشيخ رحمه الله في الأسماء والصفات (ص 17 - 19) مع مراجعة كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة في هذا التفسير عند الآية (133) من سورة الأنعام وغيره من المواضع بالإضافة إلى محاضرة (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات).

ص: 406

والوعيد، فأخْبِرْهُمْ أن ربك واسع الرحمة لمن أطَاعَهُ، يرحمه ويدخله جنته، شديد العقاب والنكال لمن عصاه؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين: هما جلب النفع ودفع الضر، ومن أمثال العرب:(سَوْط وتمرة)

(1)

ليكون الخوف والرجاء جناحين يطير بهما الإنسان إلى امتثال أمر الله، هذا الملك الجبار الذي أدعوكم إليه رحيم عظيم الرحمة الواسعة لمن أطاعه، شديد النكال والبأس لمن عصاه، فعليكم أن تخافوا بأسه ونكَالَهُ، وتَطْمَعُوا فِي رَحْمَتِهِ فتطيعُوهُ.

قال بعض العلماء: ومن معاني قوله: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: الآية 147] حيث أمهلكم، وأغدق عليكم نعمه، وأعطاكم العافية والإمهال، وأنتم تكذبون رسله، وترتكبون مساخطه، وتتمردون عليه، فما أرحمه! وما أعظم لطفه (جل وعلا)! إلا أنه قال:{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ} إذا أراد بطشاً بقوم مجرمين لا يُرد بأسه عنهم، {بَأْسُهُ} أي: عذابه ونكَاله، لا يقدر أحد أن يَرُدَّهُ، لا بقوة ولا بشفاعة، ولا بغير ذلك، كبأس غيره من مُلُوكِ الدُّنْيَا الذي يُرَدّ بأسه بالقوة، ويُردّ بالشفاعة مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فهو إذا أراد بقوم سوءاً فلا مردّ له.

وكثيراً في القرآن أن يجمع اللهُ بَيْنَ الْوَعْدِ والوَعِيدِ، يَجْمَعُ بَيْنَ الخَوْفِ والطَّمَعِ، كقوله هنا:{ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ} وقوله في آخر هذه السورة: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: الآية 165]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)} [الحجر: الآيتان 49، 50]

(1)

الذي وقفت عليه في كتب الأمثال: «تمرة وزنبور» . كما في المستقصى في الأمثال للزمخشري (2/ 32)، معجم الأمثال العربية (1/ 270)، (2/ 311).

ص: 407

{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: الآيتان 2، 3] وقوله جل وعلا: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: الآية 6] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً أن لفظ (القوم) قال بعض العلماء: إنما سُمِّي قوم الرجل (قوماً) لأنه يرجع إليهم فيكونون قواماً له؛ لأنه لا يستغني الإنسان عن جماعة يستند إليهم فيُسَاعِدُوه في أمورِهِ.

وقد قدمنا مراراً

(1)

أن القوم في الوضع العربي مُختص بالذكور، وأنه ربما دخل فيه الإناث بحكم التَّبَع، وبيَّنَّا أن الدليل على اختصاص القوم بالذكور: قول الله في الحجرات: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: الآية 11] فعطفه النساء على القوم يدل على المُغايرة، ونظيره قول زهير

(2)

:

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي

أَقَوْمٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

والدليل على دخول النساء في القوم بحكم التبع: قوله في بلقيس ملكة اليمن: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: الآية 43].

وقوله: {بَأْسُهُ} أي: عذابه ونكاله.

وقوله: {المُجْرِمِينَ} هو جمع تصحيح للمجرم، والمجرم: اسم فاعل الإجرام، والإجرام: ارتكاب الجريمة،

(1)

مضى عند تفسير الآية (80) من هذه السورة.

(2)

السابق.

ص: 408

والجريمة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه العذاب

(1)

كالذين كفروا بالله وجعلوا له الشركاء وسَاوُوا به شركاءه، وحَرَّموا ما رزقهم افتراء عليه، وحرَّموا وحلَّلوا بالباطل، وفعلوا الفواحش، وقالوا: الله أمرنا بها، هؤلاء كلهم من القوم المجرمين.

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: الآية 148].

هذه الآية الكريمة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر فيها عن أمر غيب، ثم تحقق ذلك الغيب طبقاً لما ذكر، قال:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ذكر أنهم سيقولونه في المستقبل، وهو أمر غيب، ثم بَيَّنَ الله أن إخباره عن ذلك الغيب وقع كما قال، بيّنه في (النحل) و (الزخرف)، حيث قال في (النحل):{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل: الآية 35] وقال في (الزخرف): {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} [الزخرف: الآية 20] فتحقق ما قال: إنهم سيقولونه

(2)

.

وهذه شبهة جاء بها الكفار -عليهم لعائن الله- وتمسّك بها المعتزلة، فهذه الآية محطّ رِحَال عند المعتزلة في أن العَبْدَ يخلق عمل نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها

(3)

سبحانه وتعالى عن قولهم وافترائهم- وكلام الزمخشري في هذه الآية في غاية الخبث والقبح؛

(1)

مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: أضواء البيان (2/ 277).

(3)

مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

ص: 409

لأنه يزعم أن هذه الآية تُبَرِّئ الله وتنَزِّهُهُ من أن يكون شيء من الشرّ بإرادته أبداً، وأن جميع الشرّ بإرادة العباد، في كلام قبيح خبيث

(1)

.

ولما أفْحَم القرآن الكفار في تحريم ما حَرَّمُوه بالأدلة والمناظرات، حيث قال:{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: الآية 143] وأفحمهم بالحجة في أنه لم يحرِّمْ هذا، وأفحمهم أنه ليس له شركاء، قال:{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: الآية 141] وهو الخالق الصانع المدبر الذي لا حرام إلا ما حَرَّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّهُ، ولا مَعْبُودَ إلا هو، لما أفحمتهم الأدلة، وألْقَمَتْهُمُ البراهينُ الحجر [قالوا كلمة]

(2)

حق أرادوا بها باطلاً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الكفر والتحريم، وتحريم البحائر والسوائب، وهذه الأنعام والحرث التي قلنا: إنها حِجْر، وهذا جَعْل النصيب لغير الله، هذا الكفر وهذا التحريم كله بمشيئة الله؛ لأن الله لو شاء أن يَمْنَعَنَا منه فهو قادر؛ لأنه قوي ونحن ضعفاء، فهو قادر جدّاً على أن يَمْنَعَنَا، فلما كان قادراً على مَنْعِنَا ولم يمنعنا عرفنا أنه راضٍ بفعلنا؛ لأنه إنْ رَآك تفعل شيئاً قبيحاً وهو قادر على أن يمنعك وتركك تفعله ولم يمنعك منه معناه أنه راضٍ بفعلك، وأنه حَسَنٌ عِنْدَهُ! هذا مقصودهم -قَبَّحَهُمُ الله! - كما أنهم لما قيل لهم: تصدقوا على المساكين! قالوا: الرِّزْق أكثر عند الله، وهو الذي خَلَقَهُ، والطعام أكثر عنده، فلو كان يُحِبّ أحداً أن يطعمه لأطعمه هو! كما يأتي في (يس) في قوله:{أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يس: الآية 47] فقد

(1)

انظر الكشاف (1/ 46).

(2)

في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 410

احتجوا بهذه الحجة الباطلة، والكلام الذي هو من جهة حق أُريد به الباطل {لَوْ شَاء اللهُ} قالوا: نعم، إنّ شِرْكَنَا كُفْرٌ، وأنه مودي للنار، وإن ما حرمنا تحريمٌ افتراءٌ على الله، وأنَّا ندخل به النار، هذا الذي فعلنا بمشيئة الله، لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشْرَكْنَا، ولو شاء أنْ لم نُحَرِّمْ شيئاً ما حرَّمْنَا شيئاً، فلما كان قادراً على مَنْعِنَا ولم يمنعنا دلّ ذلك على أنه راضٍ بفعلنا؛ ولذا قالوا:{لَوْ شَاء اللهُ} عدم إشراكنا {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} يعني: ولا أشرك آباؤنا، وإنَّمَا سَوَّغَ العطف هنا على ضمير الرفع المنفصل: الفصلُ بين العطف والمعطوف بـ (لا)، وهو مذهب الكوفيين، وهو صحيح؛ لأن القرآن جاء بمذهب الكوفيين هُنَا، وفي مذهب البصريين في (النحل)؛ لأن مذهب البصريين: أنَّ ضَمِيرَ الرفع المتصل لا يُعطف عليه إلا في الإتيان بضمير رفع منفصل كـ (نحن) في قوله في (النحل): {لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل: الآية 35] والكوفيون يقولون: يكفي أي فاصل

(1)

و (لا) هنا فاصلة، فهي تكفي، وهو الحق؛ لأن القرآن نزل به.

{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 148] يعني هذا التحريم الذي فعلنا، والشرك الذي فعلنا هو بمشيئته، ولو شاء لمنَعَنَا، فلما لم يمنعنا عرفنا أنه راضٍ بفعلنا، وهذه الجُمل، قولهم منها:{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام صحيح لا شك فيه، ولكنه كلام حق أُريد به باطل؛ لأنهم يزعمون أنه لما كان قادراً على منعهم ولم يمنعهم أن ذلك رضاً منه، والله يقول:

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 246)، الدر المصون (5/ 210)، التوضيح والتكميل (2/ 184)، النحو الوافي (3/ 630).

ص: 411

{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7] فهو لا يَرْضَى بذلك الفِعْلِ، فهو أنْذَرَكُمْ وحَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ، وإن ارْتَكَبْتُمُوه فلا يَرْضَى بذلك الفعل، بل يدخلكم به النار، وحاصل هذا: أن الكفَّارَ احْتَجّوا بأن الله قادر على أن يمنعَهم [من الوقوع فيما وقعوا فيه]

(1)

من الشرك وتحريم ما حَرّموا، دلَّ ذلك على أنه راضٍ بذلك، فالله كَذَّبَهُمْ فِي هذه وقال: إن عدم منعه لهم مع قدرته على ذلك لا يدل على رضاه؛ لأن الله (جل وعلا) يأمر خَلْقَهُ جميعاً بالدعوة، ويُوَفِّقُ مَنْ شَاءَ، وَيَخْذِلُ مَنْ شَاءَ، فالذي وفّقَه للخير يرضى بفعله، والذي لم يُوَفِّقْه للخير لم يرض الله (جل وعلا) بالكفر، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا

(2)

،

فالله (جل وعلا) قد أراد كوناً وقدراً كُفْرَ الكَافِرِين؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: الآية 107]{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13]{وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: الآية 35] وهذا الكفر بمشيئته ولكنه ليس يرضاه، والإرادة الكونية القدرية لا تستلزم الرضا، وإنما يستلزم الرضا: الإرادة الشرعية الدينية، فما أحَبَّهُ الله شرعاً ورضيه ديناً وأراده ديناً هذا هو الذي يلازم الرِّضَا، أمَّا الإرَادَة الكونية القدرية فإنها لا تَسْتَلْزِم الرضا، فقد يريد الله كوناً وقدراً ما يَرْضَاهُ؛ كإيمان المؤمنين، وقد يريد كوناً وقدراً ما لا يرضاه ككفر الكافرين، وقد بَيَّنَّا احتجاج المعتزلة بهذا، وذكرنا بعض المناظرات التي توضح هذا

(3)

، والحاصل أن الله تبارك وتعالى

(1)

في هذا الموضع وُجد مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 475)، شرح الطحاوية ص 324 ..

(3)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 412

خلق خلقه، وسبق في سابق أزله أنَّ قَوْماً صائرون إلى الجنة، وقوماً صائرون إلى النار، ثم إن الله صرف بقدرته وإرادته قُدَرَهُم وإراداتهم إلى ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ الأزَلِيُّ، فأتَوْهُ طَائِعِينَ:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

(1)

.

وقَدْ بَيَّنَّا أنَّ عَبْدَ الجَبَّارِ المعتزلي لما جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب ويقول: «سبحان من تنزه عن الفحْشَاء!» يعني: أن الله لا يشاء السرقة والزنا؛ لأنهم يزعمون -في زَعْمِهِمُ البَاطِل- أن الله أكرم وأنْزَه وأجَلّ من أن تكون هذه القبائح بمشيئته؛ ولذا قال مُعَبِّراً عن هذا: «سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!» .

فناظره أبو إسحاق الإسفراييني فقال: «سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!» .

فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟» .

فقال أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟» .

فقال عبد الجبار: «أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليَّ بالرَّدَى، دعاني إلى الخير، وأوضح لي طريق الخير، ولكن سدّ بابه دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!» .

قال: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلكه المحض فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل» فَبُهِتَ عَبْدُ الجَبَّارِ. وقال الحاضرون: «والله ما لهذا جواب»

(2)

.

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 413

وهذه المَسْأَلة بعينها هي التي ذكرنا أن البَدَوِيَّ الجاهل أسكت بها كبير المعتزلة عَمْرو بن عبيد المشهور الذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه لما سُرقت له دَابَّة كان يعمل عليها، فجاء لعمرو بن عبيد فقال: ادع الله أن يردّها لي. قالوا: إنه قَامَ يَتَقَرَّبُ بهذا المذهب فقال: اللهُمَّ إِنَّها سُرقت، ولم تُرد سَرِقَتَها؛ لأنك أكْرَم وأجلّ وأَنْزه من أن تريد هذه الخسيسة القَبِيحَةَ! فالبدوي الجاهل قال له: نَاشَدْتُكَ الله يا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائك الخبيث، إن كانت سُرقت ولم يُرِدْ سَرِقَتَها فقد يريد ردّها ولا تُرَدّ

(1)

! فهم حاولوا أن يُنَزِّهُوا الله عن أن تكون القبائح بمشيئته فَقَدَحُوا في قُدْرَتِهِ وإرَادَتِهِ، وجعلوا الخلق يفعلون شيئاً بلا قدرة الله ولا إرادته، أرادوا أن يُنَزِّهُوه فَقَدَحُوا في ربوبيته -والعياذ بالله- فمن كان منهم حسن الظن فقد وقع في أمر عظيم، ومن كان سيِّئَ الظن فهو سيِّئُ الظن، والإنسان قد يُحسن الظن ويريد البرّ ويقع في آثام عظيمة كبيرة، وقد قال الشافعي رحمه الله

(2)

:

رَامَ نفعاً فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ

وَمِنَ البِرِّ ما يكُونُ عُقُوقاً

والحاصل أن الله تبارك وتعالى أعْلَمُ بخلقه، فخلق خلقه، وقدّر مقادير الكائنات قبل أن يخلقها، ثم إِنَّهُ خَلَقَ قَوْماً جَبَلَهُمْ على القبح والخساسة والخُبْثِ -عياذاً بالله! - وخلق قوماً جبلهم على الطهارة، ويسر كُلًّا لما خَلَقَهُ لهُ، فصَرَفَ الطَّيِّبينَ -صرف قدرتهم وإرادتهم- بقدرته وإرادته إلى ما شاء مِنْ خَيْر، فأتوه طائعين، فأدخلهم جَنَّتَهُ، وصرف قدرة قوم آخرين وإرادتهم بمشيئته وقدرته

(1)

السابق.

(2)

ديوان الشافعي ص 67.

ص: 414

إلى ما سبق به علمه فأتَوْهُ طائعين فدخلوا النار {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية30] فالله (جل وعلا) يَصْرِفُ قُدر الخلق وإراداتهم حتى يأتوا ما سبق به العلم الأزلي، يأتوه طائعين؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

(1)

.

ولا شك أن الجاهل يقول هنا: ما الحكمة عند الله وهو الرءُوفُ الرَّحِيم الكريم أن يخلق قوماً ويجبلهم على الخبث، ويصرف إراداتهم إلى ما يستوجبون به العذاب الأليم مع أنه الرّحْمَن الرحيم؟!

هذا سؤال إلحادي قد يقع في قلوب كثير من الملاحدة.

والجواب عن هذا: أن خالق السماوات والأرض الجبار (جل وعلا) غَنِيٌّ عن جميع الخلائق، غَنِيٌّ بذاته الغِنَى المطلق {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: الآية 8] وإنما خلق الخلق ليُظهر فِيهِمْ بَعضَ أسرار عظمته، وأسرار أسمائه وصفاته، فلو لم يخلق إلا المُطِيعينَ، ولم يكن -أبداً- إلا الثواب كان ذلك إدلالاً عليه، وسبباً للجراءة على الجناب الكريم؛ لأن الذي لا يخاف يدل بمحبته، وقد يقع في الجناب الأعظم بما لا يليق، ولما خلق قوماً أشقياء ظهر فيهم ما عنده من الإنصاف والحكمة البالغة، وظهر فيهم بعض أسرار أسمائه كالجبار، والقهار، وظهر فيهم عظمته وقوته وشدة عقابه ونكاله؛ ليحصل الخوف من جانب، وخلق قوماً آخرين ووفقهم إلى الخير؛ ليظهر فيهم بعض أسرار أسمائه وصفاته؛ من الرأفة، والرحمة، والحلم، والكرم، والجود؛ ليجمع بين المَحَبَّةِ

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

ص: 415

والخَوْفِ، فلو كانت محبَّة لا خوف فيها لكان لا عظمة في القلوب، ولوقع الناس في الجناب الإلهي؛ لأنهم لا يخافون من شيء، ولو كان خوفاً محضاً لا مَحَبَّةَ معه ولا رحمة لكان الكل يمقتون الله ويكرهونه، وكان ذلك غير لائق، فاقتضت الحكمة أن يقسم الخلق إلى صنفين؛ ليظهر في هؤلاء بعض أسرار أسمائه وصفاته؛ من الرَّأْفَة والرَّحمة والكرم والجود، وجبل قوماً آخَرِين على خلاف ذلك؛ ليُظهر فيهم بعض أسرار صفاته وأسمائه؛ من القوة والبطش والقهر والعظمة والجلال سبحانه وتعالى وله الحكمة البالغة في ذلك، وقد خلق خلقاً، وقال: هؤلاء للنار ولا أُبالي، وخلق قوماً وقال: هؤلاء للجنة ولا أُبالي.

يقول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: الآية 148].

قد ذكرنا أن الكفار- قبحهم الله- لما أفحمتهم براهين القرآن وحججه في إشراكهم بالله، وتحريمهم ما أحل الله، وأفحمتهم براهين القرآن التجَؤوا إلى شبهة كافرة ضالة مُلْحِدَة، وقالوا: هذا الإشراك الذي تَنْهَانَا عنه يا نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التحريم الذي نحرِّمُه؛ كالبحيرة والسائبة، الذي تنهانا عنه، وتُقيم الحجج أنه حرام، نحن ما فعلناه إلا بمشيئة ربنا، فهو قادر على أن يمنعنا منه، لو شاء لمنعنا، ولمَّا تركنا عليه وهو قادر على مَنْعِنَا عرفنا أنه راضٍ عنَّا، وأن هذا الذي نفعل يرضيه؛ إذ لو كان لا يرضيه لمنَعَنَا منه؛ لأنه قادر على منعنا منه؛ إما مَنْعَ قَهْر، وإما منع لطف وتوفيق،

ص: 416

فيلطف بنا ويوفقنا! فصارت هذه المقالة شبهة فيها كلام حَقٍّ أُريد به باطل، فقولهم:{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام حق لا شك فيه؛ لأنه لا يقع في الكون خير ولا شر، ولا تحريكة ولا تَسْكينة إلا بمشيئة الله {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: الآية 35]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13]، {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: الآية 149]، فقول الذين أشركوا:{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} هذا كلام صدق وحق لا شَكَّ فِيه.

فَلِطَالِبِ العِلْمِ أنْ يَقُولَ: ما دام كلامهم حقّاً، وهم صادقون في قولهم:{لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} -أي: ولا أشرك آباؤنا- {وَلَا حَرَّمْنَا} أي: نحن ولا آباؤنا شَيْئاً لم يحرمه الله؛ كالبحيرة والسائبة، وهذا الكلام الذي ذكر هنا أن الكفار سيقولونه في المستقبل صرح بأنهم قالوه في (النحل) و (الزخرف)، هو بالنظر إلى ذاته كلام حق لا شك فيه؛ لأن الله لو شاء ألا يشركوا ما أشركوا، ولو شاء ألا يحرموا شيئًا ما حرموا شيئًا.

لطالب العلم أن يقول: إذا كان كلامهم هذا حقّاً، فَلِمَ قال:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} وفي بعض القراءات -وقد تَمَسَّكَ بها المعتزلة لمذهبهم- قال: (كذلك كَذَبَ الذين من قَبْلِهِمْ) بالتخفيف

(1)

، فما وجه هذا التكذيب؟ وما قالوا إلا حقّاً.

الجواب: أنَّهَا كَلِمَة حق أُريد بها باطل؛ لأنهم قالوا ذلك يستدلون به على أن الله راضٍ عنهم بفعلهم هذا، وهذه المقالة الكاذبة الكافرة هي التي أرادوها بكلامهم، فصار التكذيب مُنْصَبّاً عليها.

(1)

وهي قراءة شاذة. انظر: البحر المحيط (4/ 247)، الدر المصون (5/ 211).

ص: 417

المعنى عندهم: لو شاء الله أن لا نشرك ما أشركنا، فلما تَرَك بيننا وبين الشرك دلّ على رضاه به عنَّا! فادِّعَاؤُهُمْ أنَّ ذلك دال على الرضا هو محل الكَذِبِ، وهو الباطل الذي أرادوه بهذا الحق، وهو الذي يَنْصَبّ عليه التكذيب؛ ولذا قال لما قال:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} قدمنا أن هذه من المعجزات؛ لأنه أخبر عن غيب أنه سيقع قبل أن يقع جازماً بذلك ثم وقع كما قال، فتبين أنه لو لم يكن عالماً أنه وحي من الله لما تجرأ أن يقول: إنه سيقع، خوفاً من أن لا يقع فيقولون: كذاب، فلما أخبر بأنه سيقع جازماً بذلك غير مُحجم، ووقع فعلاً دَلَّ ذلك على أنه نبي صحيح، وأن الله أوحى إليه أن هذا الأمر سيكون فكان، وبَيَّنَ أنه كان بالفِعْلِ في سورة النحل في قوله عنهم:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} الآية [النحل: الآية 35] وقال في (الزخرف): {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} [الزخرف: الآية 20] فبيّنَ أن ذلك الذي ذكر أنه سيقع أنه وقع بالفعل.

وحاصل الآيات أن الكفار استدلوا بأن كفرهم واقع بمشيئة الله على أنه راضٍ به منهم

(1)

، وهذا الاستدلال باطل، وكونه واقعاً بمشيئته حق، وكون ذلك يدل على رضاه به هو مَحَل الكفر، فالله لا يرضى الكفر، كما قال:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7]، والله قد يريد بإرادته الكونية القدرية ما لا يرضى؛ لأنه لا يُرْضِيهِ إلا العمل الصالح، مع أنه خلق الخلق أزَلًا، وقدّر عليهم أعمالهم التي هم سيعملونها {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: الآية 63] ثم يسّر كُلاًّ لما خلقه له، فَصَرَفَت قُدْرَتُهُ وإرادتُه أَهَلَ الجنة- صَرَفَت قُدَرَهُم وإراداتهم- إلى فعل

(1)

مضى قريباً.

ص: 418

الخير، طبقاً لما سبق به العلم الأزلي، وصَرَفَت إرادات وقُدر غيرهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فوجّهت قدرةُ الله وإرادتُه كلَّ مخلوق لما سبق له به العلم الأزلي، فأتاه طائعاً {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30].

[20/ب] /ومن هنا يظهر سقوط استدلال المعتزلة بهذه الآية

(1)

؛ لأن هذه الآية عندهم هي محل خصب عظيم لدعواهم أن الإشراك ليس بمشيئة الله؛ لأنهم زعموا أن الكفار لما قالوا: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} كذبهم الله في أن الشرك بمشيئته وقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} ولم يتفطنوا؛ لأن المنفي في الحقيقة هو استلزام تلك المشيئة بالرضا، هذا هو المنفي حقّاً، وقد قدمنا حل هذه الشبهة مراراً، فالمعتزلة -قبحهم الله- أرادوا أن يُنَزِّهُوا الله عن شيء فقدحوا في ربوبيته (جل وعلا)، فوقعوا في أعظم مِمَّا فَرُّوا مِنْه، أرادوا أن يجعلوا القبائح؛ كالشرك، والردة، والزنا، والسرقة أنها ليست بمشيئة الله وأنها بمشيئة العبد، يزعمون أنهم ينزهون الله عن غير اللائق، فَقَدَحُوا في ربوبية الله، وجَعَلُوا خَلْقه وكونه يقع فيه شيء من غير مشيئته، فوقعوا في أعظم مما فرُّوا مِنْهُ بِأَضْعَاف.

والتحقيق الذي لا شك فيه: أنه لا يمكن أن يقع في العالم تَحْرِيكَة ولا تَسْكِينَةٌ، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله (جل وعلا)، وادِّعَاء المعتزلة أن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لِقُدْرَةِ اللهِ فيها لا يخفى أنه قدح في ربوبية الله؛ إذ لا شيء أعْظَم مِنْ أن يكون خالق الكون يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته، هذا أعظم الكفر والقدح بالله

(1)

مضى قريباً عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

ص: 419

-عياذاً بالله- ففروا من شيء فَوَقَعُوا في أعظم مما فَرّوا مِنْهُ، والله (جل وعلا) يقدر الأشياء ويخلقها، وتضاف لمكتسبيها، فالسرقة والزنا لا تكون إلا بمشيئة الله، وكل شر لا يكون إلا بمشيئة الله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: الآيتان 1، 2] لأن كل ذلك الشر إنما خَلَقَهُ الله، فالله (جل وعلا) خالق، والعبد كاسب وفاعل، فلا تُضَافُ السَّرِقَةُ إلى الله، فلا يجوز أن تقول في حقه: سارق -سبحانه جل وعلا عن ذلك علوّاً كبيراً! - وإنما السارق مَنْ أَوْجَدَ الله منه الفعل وقَدَّره عليه، فالله (جل وعلا) يُوَجِّهُ إرادات المخلوقين وقدرتهم إلى مَا سَبَقَ به علمه الأزلي مما هم صائرون إليه، فيَتَوَجَّهون إليه بمشيئة الله طائعين فيعملونه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30] وهذه المسألة قد سأل عنها الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما أنهم سألوه: هذا العمل الذي نعمل أنعمله لأمر مُؤْتَنَف، ونُحْدِث به سعادة لم تكن سابقة، أو شقاوة لم تكن سابقة؟ فأخبرهم بأن الأمر ليس بأُنف، وأنه مفروغ منه، وأن القَلَمَ جَرَى بما هو كائن، وأن السَّعِيدَ مَنْ كُتِبَ عِنْدَ الله سعيداً، والشقي من كُتب شقيّاً، فسألوه: لِمَ لا يَتَّكِلُونَ على الكتاب الذي كَتَبَهُ الله، ويتركون الأعمال، فمن كُتبت له الجنة فهو داخلها، ومن كتبت له النار فهو داخلها؟ فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن كلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له، فالذين سبقت لهم السعادة يستعملهم الله بقدرته وإرادته في فعل الخَيْرات، ويوجه قدرتهم ومشيئتهم إلى الخير بقدرته وإرادته، والعكس بالعكس

(1)

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30].

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام ..

ص: 420

وقد بَيَّنَّا مِرَاراً

(1)

القصص والمناظرات التي تدل على إفحام المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الأعمال السيئة بمشيئة العبد لا بمشيئة الله، وهذا تلزم عليه محاذير عظيمة:

أحدها: القدح في علم الله؛ لأن الله (جل وعلا) عالم بما سيفعله خلْقُهُ، وما هم عاملون إلى يوم القيامة، مقدِّر ذلك في أزَلِهِ، فلو فرضنا -والعياذ بالله- قول مجوس هذه الأمة -المعتزلة- أن العبد يستقل بِعَمَل فعله، فلو كان سبق علم الله أن هذا العبد لا يزني يوم كذا وكذا، وأراد العبد بمشيئته أن يخترع ذلك الزنا، فإذا فعله بدون مشيئة الله فقد انقلب علم الله جهلاً سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً- بل هو المحيط علمه بكل شيء، المقَدِّر كل شيء في الأزَلِ، الذي يقضي الأمور في أوقاتها التي قَدَّرها لها {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: الآيتان 49، 50].

فالمُجبِرَة ضُلَاّل؛ حيث ينفون عن العبد أن له فعلاً، والقدرية ضُلَّال؛ حيث ينفون أن هذا بمشيئة الله، ومذهب أهل السنة والجماعة خارج مِنْ بين المذهبين خروج اللبن من بين الدم والفرث لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فهو لا كما تقوله الجبرية، ولا كما تقوله المعتزلة، فكل شيء بمشيئة الله، والله يصرف مشيئات الخلق إلى ما سبق به علمه الأزلي، فيأتونه طائعين {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: الآية 30] والمعتزلة يقولون: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح، وإذا فَعَلَ لِلْعَبْدِ غير الأصلح فقد أَخَلَّ بالْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ ولذا عندهم لا يفعل للعبد إلا الأصلح، وسبب ترك أبي الحسن الأشعري لمذهبهم؛ لأنه كان على مذهب المعتزلة زمناً طويلاً، وألّف فيه مئات الكراريس، ينصر مذهب المعتزلة،

(1)

السابق.

ص: 421

وكان شيخه الجبائي كبيرَ المعتزلة؛ لأنه كان زوج أمه، والأشعري ربيب الجبائي، وكان يوماً معه يُقَرِّر أن الله يجب عليه فعل الأصلح، فقال الأشعري للجبائي: إذا كان يجب عليه فعل الأصلح فَلِمَ قَتَلَ الغلام صغيراً؟ ولِمَ لا تركه يكبر حتى يعمل كثيراً من عمل الخير فينال الدرجات العالية في الجنة؟

فقال له الجبائي: يقول له الله: قد سبق في علمي أني لو تركتك تكبر كنت كافراً فمت على الكفر، فكان الأصلح لك أن قتلتك صغيراً.

فقال له الأشعري: إذاً يحتج عليه الكافر الكبير الذي مات، ويقول له: يا رب لمّا سبق علمك أن البعيد سيموت كافراً لِمَ لا تفعل له الأصلح فتقتله صغيراً قبل أن يكتب عليه، كما فعلت الأصلح لذلك الصغير؟ فانقطع الجبائي، وقال للأشعري: أبِكَ جُنون؟ قال: لا، ولكن وَقَف حمار الشيخ في العَقَبَة. ثم ترك مذهب المعتزلة، ورجع إلى مذهب أهل السنة

(1)

، وهذا من مذاهب المعتزلة الباطلة.

وقد قَدَّمْنَا مراراً، وكرَّرْنَا بعض المناظرات الدالة على إدحاض مذهبهم، كمناظرات الإسفراييني لعبد الجبار، كررناها مراراً

(2)

؛ لأن العاقل إن نظر فيها يعلم أن أبا إسحاق الإسفراييني اهْتَدَى إلى مذهب أهل الحق فأفْحَم به مذهب أهل الباطل على لسان عبد الجبار مِنْ كِبَارِ المعتزلة المشهورين، جاء يَتَقَرَّب بهذا المذهب كما يقوله الزمخشري هنا: إن الله قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} يعني: أن شركهم بمشيئته، وأنه كذَّبَهُمْ في هذا وقال:

(1)

انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 89).

(2)

مضى قريباً.

ص: 422

{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} وقال- ولا سيما القراءة الأخرى

(1)

-: (كذلك كَذب الذين من قبلهم) فجعل أن مَنْ قال: إن الشرك بمشيئة الله أنه كاذب عند الله، وأن الله نص على كذبه!! وهذا تحريف في آيات الله، وقَدْح في ربوبية خالق السماوات والأرض سبحانه أن يقع في ملكه شيء دون مشيئته (جل وعلا)؛ لأن من يقع في ملكه شيء بغير مشيئته صار ليس برب، ناقص القدرة الكاملة، والله يَتَعَالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلما جاء عبد الجبار يَتَقَرَّب بهذا المذهب في مجلس الإسفراييني أبي إسحاق الشافعي المعروف، فقال عبد الجبار: سبحان مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفحشاء! يعني أن السرقة والزنا والشرك ليست بمشيئته.

فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُرِيدَ بها باطل. ثم قال: سُبْحَان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!

فقال عبد الجبار: «أتراه يشاؤه ويعاقبني أنا عليه؟» .

فقال له أبو إسحاق: «أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟» .

فقال عبد الجبار: «أرأيْتَ إنْ دَعَانِي إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّدَى، بَيَّن لي الخير ودعاني إليه، وسد الباب دوني، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟!» .

قال: أرى أن الذي منعك إن كان حقّاً واجباً لك عليه، فقد ظلمك وقد أساء، وإن كان مُلْكه المحض، فإن منعك فَعَدْل وإن منَحَكَ فَفَضْلٌ.

فبُهِتَ عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب!

(1)

مضى قريباً.

ص: 423

وذكرنا مراراً أن رئيسهم الكبير عَمْرو بن عبيد -الذي يطريه الزمخشري غاية الإطراء، والذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه توفي في خلافته، وهو من رؤساء وكبراء المعتزلة المشهورين- أفحمه بدوي جاهل، لا يعرف شيئاً؛ لأن الكبير العالم من أهل الإلحاد والضلال قد يُفْحِمُه العامِّي من أهل الحق، لظهور دلالة الحق؛ ذلك لأنه لما سُرقت دابته، وجاءه يسأل منه الدعاء أن يَرُدَّها الله عليه، وأراد التقرب بهذا المذهب، وقال: اللهم إنها سُرقت ولم تُرِدْ سَرِقتها، ولم تكن سَرِقَتُهَا بمشيئتك؛ لأنك أنزه وأعْظَم وأكْرَم وأجَلّ من أن تكون هذه الخسيسة بمشيئتك، ففهم البدوي الجاهل، وقال له: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يُريد رَدَّها ولا تُرَدّ! فإن كان أول الأمر ليس بمشيئته فَلَسْتُ بواثق منه في آخر الأمر؛ لأن الرَّبَّ لا بد أن يكون كل شيء بمشيئته أولًا وآخراً، فأَفْحَمَه وألْقَمَهُ الحَجَرَ

(1)

.

والحاصل أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام أخْبَرَ الله فيها أن الكفار سيقولون: إن كُفْرَهُمْ وتَحْرِيمَهُم للحلال بمشيئة الله، وأن وقوعه بمشيئة الله دليل على رضاه به! فكذّبهم القرآن، والتكذيب مُنْصَبٌّ على أن كون ذلك بمشيئته لا يدل على رضاه، فلا يقع شيء إلا بمشيئته، ولا يرضيه إلا ما كان طاعة له، كما قال:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7] لأنه صرف قُدَر الخلق وإراداتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فأتوه طائعين، فما كان إيماناً وطاعة فهو مرضي عند الله، وما كان كفراً وعصياناً فهو غير مرضي عند الله، وإن

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

ص: 424

كان كل شيء من خير أو شر بإرادته الكونية القدرية، فالله (جل وعلا) يعم جميع الخلق بدعوتهم إلى الدين، ثم يخصص من شاء للتَّوْفِيق، فالدعوة إلى الخير عامة، والتوفيق خاص {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: الآية 25]. وهذا معنى قوله: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} يعني: ولا أشرك آباؤنا من قبْلِنَا، والذي سوَّغ العطف هنا على الفاعل الذي هو ضمير الرفع المتصل: الفصل بلفظة (لا) وكل فاصل مسوِّغ، وهو مذهب الكوفيين، وهو الصواب، خلافاً لمذهب البصريين القائلين: لا بد من ضمير منفصل مُسَوِّغ للعطف، كما في آية النحل

(1)

. وهذا معنى قوله: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} أي: ولا أشرك آباؤنا من قبلنا، ولا حرمنا من شيء؛ أي: لا مِنْ بَحِيرَة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام، ولا من أنعام، ولا من حرث، إلى غير ذلك.

وقوله: {مِن شَيْءٍ} أصله مفعول (حرّمنا) وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة (مِنْ) نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم

(2)

، وذكره الشيخ سيبويه في كتابه.

والنكرة في سياق النفي قد تُزاد قبلها لفظة (مِنْ) فتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، ويكون ذلك قياساً مطرداً في ثلاثة مواضع لا رابع لها

(3)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (148) من هذه السورة.

(2)

مضى عد تفسير الآية (38) من هذه السورة.

(3)

السابق.

ص: 425

أحدهما: أن تُزاد لفظة (مِنْ) قبل النكرة التي هي فاعل، كقوله:{مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: الآية 46] الأصل: ما أتاهم نذير.

أو أن تكون قبل المفعول، كقوله هنا:{وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 148] الأصل: «ما حرمنا شيئاً» . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} [الأنبياء: الآية 25] أي: ما أرسلنا قبلك رسولاً.

الثالث: أن تُزاد قبل المبتدأ، نحو:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: الآية 73] الأصل: وما إله إلا إله واحد، فزِيدَتْ قبلها (مِنْ) لتنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم.

قوله: {مِن شَيْءٍ} الشيء يطلق في اصطلاح الشرع على كل موجود حتى الله (جل وعلا) قد يطلق عليه اسم الشيء

(1)

، كما قال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]، وقال:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} [الأنعام: الآية 19] والمعتزلة يَزْعُمُون أن الشيء يطلق على المعدوم، ومناقشاتهم في هذا لأهل السنة معروفة

(2)

، والدليل على أن المعدوم ليس الشيء، ولا يطلق عليه اسم الشيء: آيات قرآنية كثيرة، كقوله:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 9] فنفى عن العدم أن يكون شيئاً، وكقوله:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 67] فنفى

ص: 426

عنه في حال عدمه اسم الشيء، والمعتزلة يزعمون أن الشيء يطلق على المعدوم، وبعضهم يقول: المعدوم قسمان:

معدوم ممكن، كإيمان أبي لهب، فإن إيمان أبي لهب معدوم قطعاً؛ لأن الله يقول:{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: الآية 3] مع أن هذا المعدوم يمكن عقلاً؛ لأن إيمانه يجوز عقلاً؛ إذ لو كان مستحيلاً عَقْلاً لكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بالمحال، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

الثاني: أن يكون الشيء المعدوم مستحيلاً عقلاً، كشريك الله جل وعلا سبحانه عن ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.

وبعضهم يقول: إن الشيء يطلق على المعدوم مطلقاً.

وبعضهم [يقول]

(1)

: يُطلق على المعدوم الممكن دون المعدوم المستحيل. واستدلوا بأدلة لا تنهض، منها: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس: الآية 82] قالوا: فسمَّاهُ (شيئاً) قبل أن يقول له: (كن)، وهو إذ ذاك معدوم، فدل على تسمية المعدوم (شيئاً). وهذا يناقضه قوله:{وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: الآية 9] وإنما أطلق عليه اسم الشيء نظراً إلى عادة العرب أنهم ينزلون الواقع المتحقق وقوعه كالواقع بالفعل، كما قال:{أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل: الآية 1] ذكر أنه أتى فعلاً وهو لم يأت بالفعل؛ لأن تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، وهذا كثير في القرآن -فقد ذكر الله منه في سورة الزمر- جدّاً:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} معناه: سيكون ذلك يوم القيامة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: يوم القيامة {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 427

وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: الآيات 69 - 73] كل هذه الأفعال الماضية إنما هي بمعنى المستقبلات التي ستقع يوم القيامة؛ لأن تَحَقُّقَ وقوعها نزّلها منزلة الواقع فعلاً، كما هو معروف في فن المعاني

(1)

. وهذا معنى قوله: {وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} .

ثم قال الله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} كما كذب هؤلاء الكفرة الفجرة رسولي محمداً صلى الله عليه وسلم في أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا حرام إلا ما حرمه الله، كما كذبوه وادّعوا أن وقوع ذلك بمشيئة الله دليل على رضاه، كما كذبوه بهذه الشُّبَه الكافرة الملحدة {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} الرسل، {كَذَلِكَ} التكذيب، ولم يزالوا مكذبين {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} [الأنعام: الآية 148] أي: ذاقوا أليم عقابنا وشديد نكالنا، وقد يكون ذلك بهم في الدنيا كما وقع لقوم نوح حيث استأصلهم الطوفان بالغرق، ووقع لقوم هود حين أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، قال الله فيهم:{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} أي: قتلى أمواتاً {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: الآيتان 7، 8] وكما فعلنا بقوم صالح حيث أُرسلت عليهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وكما أحرق قوم شعيب بالظلة، وكما رفع الأرض بقوم لوط وجعل عاليها سافلها، وكما أغْرَق فرعون وقومه في البحر، هذا من نكال العذاب الدنيوي، ويتلوه العذاب

(1)

انظر: تأويل مشكل القرآن 295، الصاحبي 364، فقه اللغة للثعالبي 301، البرهان للزركشي (3/ 372)، المزهر (1/ 335)، قواعد التفسير (1/ 292).

ص: 428

الأخروي -والعياذ بالله- كما قال تعالى في التنكيل بالمشركين يوم بدر مع اتصال العذاب الأخروي على ما ذكره بعض أهل العلم: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: الآية 21].

ومعنى: {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} لم يزالوا مُصِرِّين على تكذيب الرسل معاندين {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي: ذاقوا طَعْمَ ألم العذاب والنّكال الكائن مما في الدنيا، المتصل بعذاب الآخرة -والعياذ بالله- قل لهم يا نبي الله:{هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} دعواكم أن كل ما وقع بمشيئة الله هو راضٍ به حسن عنده؟ هل عندكم من علم بهذا أن الكفر الواقع بمشيئته أنه لما كان بمشيئته كان برضاه، وكان حسناً عنده؟ هل عندكم على هذه الدعوى الفاجرة من علم فتخرجوه لنا؟ أي: تبرزوه لنا، الفعل هنا منصوب، وأصله:(تخرجونه) إلا أن المقرر في علم النحو أن فَاءَ السَّبَبِيَّة إذا [جاءت] بعد طلب أو نفي محضين [فإن الفعل بعدها] ينصب بـ (أن) مضمرة

(1)

، والطلب هنا محض؛ لأنه استفهام {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: الآية 148]، ولو كان استفهام التقريع يقتضي النفي، فالنفي أيضاً مَحْض، فعلى كل حال فهو منصوب، كقوله:{فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف: الآية 53].

هَل مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فأَشْرَبَهَا

أَمْ هَلْ سَبِيلٌ إلى نَصْر بْنِ حَجَّاجِ

(2)

وما جرى مجرى ذلك.

(1)

انظر: التوضيح والتكميل (12/ 296)، مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة.

تنبيه: العبارة في الأصل هكذا: ((أن فاء السببية إذا جاء بعد طلب أو نفي محضين فإنه ينصب

))

(2)

البيت لفريعة بنت همَّام، وهو في اللسان (مادة: مني) (3/ 539).

ص: 429

وقوله: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} أصله مبتدأ جاءت قبله (مِنْ) والأصل: (هل عندكم علم)، فالعلم: مبتدأ استند على الظرف قبله، وهو خبره

(1)

، ويجب تقديم المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به: النكرة التي كانت خبراً

(2)

، إلا أنَّا ذكرنا -الآن- أن زيادة لفظة (مِنْ) قبل النكرة في سياق النفي -الذي ينقلها من الظهور في العموم- إلى التنصيص الصريح في العموم مطرد في ثلاثة مواضع

(3)

: تُزاد قبل الفاعل، وتزاد قبل المفعول، وقبل المبتدأ كما هنا، والأصل: هل عندكم علم فتخرجوه لنا؟ ولو قال: (هل عندكم علم) لأن الاستفهام هنا استفهام إنكار مشتمل على معنى النفي.

{فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: فتُبْرِزُوهُ لنا وتظهروه لنا، وهذا -مَثَلاً- إعجاز؛ لأن الله يعلم أنهم ليس عندهم علم، وإنما قالوه تخرُّصاً وكذباً.

ثم قال: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} والمعنى: لا علم عندكم ألبتة.

{إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} ما تتبعون في هذه الأمور إلا الظن، وأصل الظن في الاصطلاح: جُل الاعتقاد، والعرب تطلقه على الشك

(4)

، وجدتُم آباءكم يقولون شيئاً فاعتقدتموه، باطلاً وتقليداً أعمى من غير دليل.

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 211).

(2)

قوله: «ويجب تقديم المبتدأ، إلى قوله: التي كنت خبراً» هذه الجملة فيها اضطراب في المعنى، والصواب أن يُقال:«يجب تأخير المبتدأ هنا؛ لأن الذي سوَّغ الابتداء به -وهو نكرة- تقدم الخبر وهو شبه جملة» .

(3)

مضى عند تفسير الآية (38) من سورة الأنعام.

(4)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.

ص: 430

{وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} معناه: وما أنتم إلا تكذبون.

الخرص هنا معناه: الكذب، ومنه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات: الآية 10] لُعن الكذابون، وأصل اشتقاقه من الخَرْص الذي هو الحزر؛ لأن الكذاب لا يَتَحَرَّى حَتَّى يَتَحَقَّق وإنما يقول حَزراً وتخمينًا، ومن هُنَا أُطلق الكذب على الخرص

(1)

، وقوله:{وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} معناه: وما أنتم إلا تكذبون، كَذَبَة فَجَرَة؛ حيث زعمتم أن شرككم وإن كان واقعاً بمشيئة الله أن الله راضٍ به، وأنه حسنٌ عنده، كلا! لا دليل ولا علم بذلك، وإنما هو افتراء وكذب وتخرّص على الله، وهذا معنى قوله:{إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي: والظنّ لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: الآية 36] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»

(2)

، وهذا في الظن فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، فإن هذه أمور يقينية لا تختلجها ظنون.

وتمسك ابن حزم بظاهر هذه الآيات أن كل اجتهاد باطل، وأن كل اجتهاد ظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً

(3)

، فهذا ليس على بابه؛ لأن الأمور العملية إنما يُعمل فيها بالظنون، وقد يكون الظاهر قطعيّاً لا شك فيه وباطن الأمر مظنون لا ندري أحق هو أم كذب؟ وقد دلَّ القرآن في بعض المواضع أن الظاهر يكون قطعيّاً لا شك فيه، والباطن باطن

(4)

لا شك فيه، وهذا الشرع الكريم لا يأمر في نفس الواقع

(1)

مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة.

(3)

انظر: المحلى (1/ 68، 71).

(4)

يحتمل أن تكون: «باطل» .

ص: 431

بمعرفة الواقع، فنحن جميعاً هؤلاء موجودون، كل واحد منا يُقال له فلان بن فلان، يُنسب إلى أبيه، وتكون أخوات أبيه عماته، ويرث في أبيه، ونحن لا نجزم قطعاً بأن كل واحد منا مخلوق من ماء أبيه، فقد تكون بعض النساء فاجرة، وتدخل لزوجها ولداً من غيره، وهذا الظن يُحكم له بالقطع، والله أمرنا بالبيِّنَة، قال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فنحن نُشهد العَدْلَيْنِ، ونقتل المسلم بشهادة عَدْلَيْنِ، ولو سُئلنا: هل أنتم جازمون في نفس الأمر أنهما صادقان؟ لقلنا: لا والله، لا نجزم؛ لأنهما غير مَعْصُومَيْنِ، ويجوز في حقهما الكذب، ولكننا نظن ظنّاً غالباً لعدالتهما أنهما صادقان، فإن كانا صادقين فذلك، وإن كانا كاذبين فعليهما، ونحن نبْرَأُ من ذلك.

ومن هذا المعنى ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها هند بنت أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»

(1)

هذا حديث ثابت في الصحيحين، بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيّ أنه ليس على يقين أن ما يقضي به مطابق للواقع في نفس الأمر، بل هو يقضي على نحو ما يسمع من ظواهر الدعاوي والبيِّنَات، وقد يكون الأمر مخالفاً في باطن الأمر؛ ولذا قال:«فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» .

(1)

أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من خَاصَمَ في باطل وهو يعلمه، حديث رقم:(2458)، (5/ 107)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم:(1713)، (3/ 1337).

ص: 432

وقَدْ بَيَّنَ الله في سورة النور أن هذا التشريع الذي يُراعَى فِيهِ الظَّاهِر -ولو كان الظاهر باطلاً- أن الله إنما قَبِلَه رَأْفَةً بِهَذِهِ الأمة، وتسهيلاً عليها، أوضح ذلك في آية اللعان؛ لأنه لمَا جاء هلال بن أُمية

(1)

، وعويمر العجلاني

(2)

، ورمى كلّ منهما زوجته بالزنا لرجل، وقال هلال: رَأَتْ عَيْنِي وسمعت أذُنِي، وأنزل الله آية اللعان، قام الرجل فحلف أَيْمَانَه، وخمَّس باللعنة، يقول في الأَيْمَان الأربعة: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتُهَا به من الزنا، ثم خمَّس في الخامسة باللَّعْنَةِ، لعنة الله عليه إن كان كاذباً فيما رماها به من الزنا، ثم قامت المرأة فحلفت أَيْمَانَها، وخمَّست بغضب. تقول: أشهد بالله إنه لكاذب عليَّ فيما رماني به من الزنا، ثم قالت في الخامسة: غَضِبَ الله عليها إن كان صادقاً فيما رماها من الزنا.

فلما انتهت الأَيْمَان قال لهما الشرع الكريم: أنت مُصَدَّق، وأنتِ مُصَدَّقَة، ليس عليكَ أنْتَ قَذْفُ مُحْصَنَة، وليس عليكِ أنتِ حد الزنا، فصارت المرأة لا شيء عليها، والرجل لا شيء عليه، ونحن نَتَيَقَّن يقيناً جازماً أن باطن هذه القضية خراب!! لأنه لا بد أن واحداً منهما كاذب، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهُ أَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا

(1)

أخرجه البخاري في التفسير، باب:(ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) حديث رقم: (4747)(8/ 449) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في اللعان، حديث رقم:(1496)(2/ 1134) من حديث أنس رضي الله عنه مختصراً.

(2)

أخرجه البخاري في التفسير، باب:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حديث رقم: (4745)(8/ 448)، وانظر حديث رقم:(4746). ومسلم في اللعان. حديث رقم: (1492)، (2/ 1129) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وقد جاء نحوه عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 433

لَكَاذِبٌ» ولو لم يقلها صلى الله عليه وسلم فنحن نَعْرِفُهَا كل المعرفة، ونجزم كل الجزم أن الكاذب منهما في ظَهْرِهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، فإن كانت كاذبة فعليها حد الزنا، وإن كان كاذباً فعليه حد القذف، هذا لا محيص منه.

وهذا الحكم السماوي الذي أنزله خالق السماوات والأرض فيه هذا الحكم لهذه الأمة، صدّق الرجل، وصَدَّق المرأة، وذهبا مُصَدَّقَين، لم يثبت على أحدهما شيء. ونحن نعلم أن واحداً منهما خائن كاذب، ومحل الشاهد: أن الله لما فَصَّل هذا في آية اللعان أتبعه بقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} [النور: الآية 10] أي: لولا فضله عليكم، ورحمته بكم، وتوبته عليكم، وحكمته في تخفيف التشريع عليكم. وحذف جواب (لولا)، أي: لَمَا قَبِلَ منكم هذا، أو: لَفَضَح الكاذب على رؤوس الأشهاد، فهذا تسهيل، وهذا مما يدل على أنَّا في الشرائع العملية، لسنا مُكَلَّفِين بمعرفة الباطن في نفس الأمر، فالباطن عند الله، فعلينا أن نعمل بما ظهر من الظنون الغالبة على الظن، وإن كنا لا نجزم بالواقع في نفس الأمر، فتبين أن قوله:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: الآية 36] فيما يُطلب فيه اليقين، كعبادة الله (جل وعلا) وحده، وتنزيهه عن الأولاد والشركاء، وأنه لا حرام إلا ما حَرّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّه مما يجب فيه القطع والجزم اليقيني، أما المسائل العملية فما في باطن الأمر لا نجزم به، وكذا بأنّا نعمل بأخبار الآحاد بإجماع من يُعتد به من العلماء، ولو سُئلنا عنهم: أيجوز في حقهم الكذب؟ لقلنا: نعم؛ لأنهم غير معصومين!! وهذا معنى قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: الآية 148].

ص: 434

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] إن احْتَجَجْتُمْ بأمور باطلة وشُبَه كاذبة فلِلَّه الحجة البالغة على خَلْقِهِ، وليس لأحد حجة على الله. والبالغة معناه: هي التي يبلغ بها صاحِبُهَا غَرَضَه لإِفْحَامِ خَصْمِه، وإظهار الحق. والعلماء يقولون: هذه الحجة البالغة هي إرسال الرسل، وإقامة المعجزات، وبيان أنه (جل وعلا) واحد لا شريك له.

وظاهر القرآن يدل على أن هذه الحجة البالغة على مذهب الجبرية هي قوله جل وعلا: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فهذا داخل فيها دخولاً أوليّاً؛ لأن مُلْك التوفيق حجة بالغة على الخلق، وهذه الآية هي التي احتج بضمنها أبو إسحاق على عبد الجبار؛ لأنه كأنه قال له: مُلكه تعالى للتوفيق حجة بالغة على خلقه، فتمام الحجة البالغة أنك إذا قارنت بين سُنِّي- مثلاً- وجبري، فقال الجبري: إن كفره -والعياذ بالله- ومعاصيه كُتِبَ عليه في الأزل قبل أن يُولد، وإن الأقلام جفت، والصحف طُويت، وما كان فقد كان، ولم يبق شيء حادث إلا وقد سبق في الأزل، فيقول هذا الجبري الكافر: إن كفر البعيد قد كتبه الله عليه أزلاً، وإنه لو شاء أن يتخلص من ذلك المكتوب أزلاً لما كانت له القدرة؛ لأن علم الله الأزلي لا يَتَغَيَّر، فيقول البعيد: هو مقهور، وإذاً هو مجبور!! فله حجة في زَعْمِهِ على ربه، فكأن ربه يقول: جميع الأسباب التي اهتدى بها المهتدون أعطيتك إيَّاهَا، فالأعين التي أبصروا بها سمائي وأرضي وجبالي وبحاري وحدائقي وحيواناتي حتى عرفوا بها قدرتي، وأني رب كل شيء، وأني المعبود وحده، أعطيتك عيوناً مثلها، والآذان التي سمعوا بها مواعظي وآياتي وكتبي عن الرسل أعطيتك مثلها،

ص: 435

والقلوب التي عقلوا بها عن الله، وعرفوا مخالفة الخالق للمخلوق، وعرفوا بها عظمة جبار السماوات والأرض، وأنه جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى أعطيتك قلباً مثل قلوبهم، فكل ما أعطيت المهتدين من أسباب الهداية أعطيتك مثل ما أعطيتهم، إلا خصوصية التوفيق، فقد تفضلت به على قوم ولم أتفضل به على آخرين، فمن تفضلت به فهو فضل مني، ومن لم أتفضل به فهو عدل مني، كما قال أبو إسحاق:«إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان مُلكه المحض فإن منعك فَعَدْل، وإن مَنَحَك ففضل»

(1)

.

ولذا قال هنا: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} على خلقه، وهي ما أنذرهم به من الإنذار، وما أرسل لهم من الرسل، وما أعطاهم من العقول والأسماع والأبصار {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: الآية 78] {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] لأنه قطع عُذر عبده بأن أعطاه كل ما أعطى المهتدين: إلا خصوص التوفيق، فهذا الذي منعه، وبملكه للتوفيق قامت حجته البالغة؛ ولذا أَتْبَعَه بقوله:{فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فلو شاء لمَنَحَكُمْ التوفيق كُلاًّ، ولكنه تفضل به على بعض، ولم يتفضل به على الآخرين، فَمَنْ تَفَضَّل به عليهم فهو فضل، ومن منعهم إياه فهو عَدْلٌ لا ظُلْمَ فيه؛ ولذا قال:{فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ومفعول المشيئة محذوف، وقد ذكرنا مِرَاراً أن فعل المشيئة إن كان معلقاً بشرط فإنه يكفي عن مفعوله جزاء الشرط

(2)

. والأصل: فلو شاء

(1)

مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

ص: 436

هدايتكم أجمعين لهداكم أجمعين، ولكنه لم يشأ، كما قال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: الآية 13] وهذا معنى قوله: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: الآية 149].

وهذه تقضي على مذهب المعتزلة؛ لأن الله صرح بأنه لو شاء لهداهم أجمعين، فعُرف بأن شركهم بمشيئته، وأنه لو شاء أن لا يُشركوا ما أشركوا {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: الآية 13] {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: الآية 107] ونحو ذلك من الآيات.

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)} [الأنعام: الآية 150].

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا} قل يا نبي الله لهؤلاء الذين حرموا السائبة والبحيرة والوصيلة والحام {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: الآية 139]{وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: الآية 138] أي: حرام.

قل للمُحرِّمين هذه الأشياء، الزاعمين أن الله أمرهم بتحريمها، كما صرح به في (الأعراف) في قوله:{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: الآية 28] قل لهم يا نبي الله: هذا الذي ادَّعَيْتُمْ على الله من أنه حَرَّم هذا وأمركم بتحريمه هَلُمَّ شهداءكم الذين يَشْهَدُون لكم على الله أنه حَرَّم هذا.

و (هَلُمَّ) معناه: أحْضِرُوا وقَرِّبُوا. وهذه الكلمة -كلمة

ص: 437

(هَلُمَّ) - فيها خلاف، هل هي مفردة، أو مركبة؟ لا يعنينا بحثه الآن. وهي فيها لغتان

(1)

:

لغة الحجازيين التي نزل بها القرآن: أن لفظة (هَلُمَّ) اسم فعل لا فعل أمر؛ ولذا إذا خاطبوا الأنثى قالوا لها: «هَلُمَّ يا فلانة» . ولم يقولوا: «هَلُمِّي» بياء المؤنثة. فيقول الحجازيون للذَّكر الواحد: «هَلُمَّ» وللذَّكَرين: «هَلُمَّ» . وللذكور: «هَلُمَّ» . وللإناث: «هَلُمَّ» فهي اسم فعل، وهي لغة القرآن؛ لأن المخاطب هنا جماعة، والأصل لو مشى على لغة التميميين من النجديين لقال:«هَلُمُّوا شهداءكم» .

أما لغة التميميين، وبعض القبائل النجديين: فـ (هَلُمَّ) فعل أمر لا اسم فعل؛ لأنهم يقولون للجماعة: «هَلُمُّوا» وللاثنين: «هَلُمَّا» وللأنثى: «هَلُمِّي» فإذا قالوا لها: «هَلُمِّي» دخلتها ياء المؤنثة المخاطبة، وهي من علامات الأفعال، كما قال في الخلاصة

(2)

:

(بتَا فَعَلْتَ، وَأَتَتْ، وَيَا افْعَلِي)

.............................

فهي في لغة الحجازيين اسم فعل، وفي لغة التميميين وبعض القبائل النجديين فعل أمر، ويظهر الفرق في كونها اسم فعل، وبين كونها فعل أمر: أنها إن كانت فعل أمر اتصلت بها ضمائر المخاطبين، نحو:(هلموا) للرجال و (هَلُمُمْنَ) للنساء، و (هَلُمَّا) للاثنين، و (هَلُمِّي) للواحدة، والقرآن جاء فيها على لغة الحجازيين، أنها اسم فعل لا فعل أمر.

(1)

انظر: القرطبي (7/ 129)، الكليات: ص 959، القاموس (مادة الهليم) 1511، الدر المصون (5/ 211)، معجم الإعراب والإملاء ص 438.

(2)

الخلاصة ص 9.

ص: 438

وتأتي متعدية ولازمة، فمن إتيانها متعدية قوله هنا:{هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} [الأنعام: الآية 150] أي: أَحْضِرُوا شهداءكم وقَرِّبُوهم، ومن إتيانها لازمة قوله في الأحزاب:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: الآية 18] أي: اقربوا قريباً منا، ولم تكن هناك متعدية، والمعنى: أَحْضِرُوا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا الذي ادعيتم أنه حرام.

ثم قال لِنَبِيِّه: فإن تجرءوا على الشهادة الكاذبة الباطلة -شهادة الزور على الله- فلا تشهد معهم؛ لأنهم كلهم كَذَبَة فَجَرَة مُتَعَاضِدُون على الكذب، يُصَدِّق بعضهم بعضاً في {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} .

ثم قال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن النبي لا يتبع أهواء الذين كذبوا بآيات الله، هذا أمر لا شك فيه، كقوله:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: الآية 24]. ومعلوم أنه لا يطيع آثماً ولا كفوراً، هذا معروف، فالله (جل وعلا) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة السيد لعبده، ومراده بخطابه -في أشياء لا تقع منه صلى الله عليه وسلم أبداً- ليشرع على لسانه لأمته، كما بيناه مراراً

(1)

. ومن أمثال العرب: (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)

(2)

معناها: إياكِ أعْنِي، والمقصود عندي هي جارتك الأخرى، وهذا مَثَل مَعْرُوفٌ، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروس مراراً أن أصل هذا المثل من أبيات رَجَز لرجل من بني فزارة يُسمَّى: سهل بن مالك الفزاري، نزل في بيت حارثة بن لأْم الطائي المشهور فوجده غائباً،

(1)

مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (114) من سورة الأنعام.

ص: 439

فأنزلته أخت حارثة وأكرمته، وأُعجب بجمالها، فخاطب داية

(1)

من داياتها لا أهمية فيها؛ لأنها من خَدَمِها، وقال لهذه التي هي من الدايات والخدم قال لها:

يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالحَضَارَهْ

كَيْفَ تَرينَ فِي فَتَى فَزَارَهْ

أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ

إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ

ففهمت الطائية أنه يريد خِطَابها، فأجابته جوابها المعروف:

إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فزَارَهْ

لَا أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلَا الدّعَارَهْ

وَلَا فِرَاقَ أَهْلِ هَذِي الحَارَهْ

فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَهْ

ومن هنا صار بيت الرجز هذا مثلاً عند العرب (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)

(2)

.

[21/أ] والمعنى: إنك تخاطب واحداً ومقصودك/أن تُفْهِم ذلك الآخر. فالله يخاطب النبي ومقصوده إسماع أمته والتشريع لهم، والدليل القاطع على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم مات أبواه وهو صغير؛ لأن أباه مات وهو حَمْل في بطن أمه، وأمه ماتت وهو صغير، ومعلوم أنهما وقت نزول سورة بني إسرائيل ماتا منذ سنين كثيرة، والله يقول للنبي مخاطباً له ببر الوالدين:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثم قال مخاطباً للرسول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: الآيتان

(1)

الداية: المرضع الأجنبية والحاضنة والقابلة (المعجم الوسيط مادة: دوى)(1/ 306).

(2)

راجع ما تقدم في الحاشية قبل السابقة.

ص: 440

23، 24] كل هذا في الرسول صلى الله عليه وسلم وأبواه قد ماتا من زمان، فدل على أن قوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} أي: يبلغ عندك الكبر أحد والِدَيْكَ فبرّهما وقل لهما قولاً كريماً، أي: المراد خطابه ليُشرع لأمته، ومَنْ زَعَمَ من الناس أن هذا الخطاب -أي: قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} - أنه يخاطب به مطلق الإنسان المُخَاطَب وليس النبي؛ فهذا غلط محض؛ لأن كل هذه الخطابات للنبي صلى الله عليه وسلم {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [الإسراء: آية 28] والدليل عليه أنه قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: آية 39]، فدل أن الخطاب للمُوحَى إليه لا إلى مطلق الواحد من الناس.

وآية الإسراء هذه نص صريح في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُخاطَب بالخطاب ليس هو المراد به، بل المراد التشريع لأمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المشرِّع لهم بأقواله وأفعاله، وهذا معنى قوله:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ككفار قريش الذين كذبوا بآيات الله، لا تتبع أهواءهم في الشرك، ولا في تحريم ما أحل الله.

{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ظاهر العطف أنهما طائفتان، والتحقيق: أنهما طائفة واحدة

(1)

، إلا أن المعروف في علم العربية أن الشيء يُعطف على نفسه بألفاظ مختلفة إذا كانت الصفات مختلفة، نزَّلوا تَغَايُر الصفات منزلة تغاير الألفاظ، فعطَفوه على نفسه؛ نظراً إلى تَغَايُر الصفات

(2)

؛ لأن صفة التكذيب بآياتنا، وصفة عدم الإيمان بالآخرة متغايرتان، فصار الموصوف كأنه متغاير لتغاير

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 248).

(2)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

ص: 441

الصفات، ومن أمثلة هذا في كلام العرب: قول الشاعر

(1)

:

إِلَى السَّيِّدِ القَرْمِِ وِابْنِ الهُمَامِ

وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ

وهو واحد. ومن أمثلته الواضحة في القرآن -غير هذا الموضع- قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4] وهو واحد (جل وعلا)، وإنما عطف بعضها على بعض لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ، وهذا هو التحقيق، أنهما طائفة واحدة، تغايرت صفاتها فعُطفت على نفسها نظراً لتغاير الصفات، كما قَرَّرْنَا.

والأهواء: جمع (هوًى) بفتحتين، وألفه مبدلة من (ياء)؛ لأن أصله (هَوَيٌ) على وزن (فَعَل) والياء المتطرفة بعد ألف زائدة يجوز إبدالها همزة، كما هو معروف في فن التصريف

(2)

.

والهوى: ميل النفس، وأكثر ما يُستعمل في ميلها إلى ما لا ينبغي

(3)

، وهو المُراد هنا؛ أي: لا تتبع مهوياتهم الزائغة؛ من الإشراك بالله، وتحريم ما أحل الله، وجَعْل بعض الأرزاق التي خلقها الله للأصنام، لا تتبع مهوياتهم في شيء من ذلك.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} فهم جامعون بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث والآخرة -عياذاً بالله- وقد صرح (جل وعلا) بأن المكذب بالبعث أنه من أهل النار الذين يُجَرُّون بالسلاسل في أعناقهم في غير ما آية، مِنْ أصْرَحِهَا آية

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة. وصدره: «إلى الملك

».

(2)

مضى عند تفسير الآية (56) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

ص: 442

الرعد؛ لأن الله (جل وعلا) لما بَيَّنَ في سورة الرعد -في أولها- عظمته، وبراهين كماله وقدرته، وأنه المعبود وحده، وأبطل فيها أدلة الطبائعيين إبطالاً كليّاً لا شبهة فيه، حيث قال في السورة- في أولها:{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ} -وفي القراءة الأخرى-: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ}

(1)

{صِنْوَانٍ وَغَيْرِ صِنْوَانٍ} - وفي الأخرى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}

(2)

{تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} - وفي الأخرى -: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}

(3)

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أتبع هذا بقوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} -في البعث-: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} هذا تعجُّب منكري البعث من البعث الذي هو خلق جديد، ثم قال مُخْبِراً عن هؤلاء الذين شَكّوا في البعث وأنكروه:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: الآيات 1 - 5]، والعياذ بالله، فهؤلاء جمعوا بين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالبعث. ثم قال جل وعلا:{وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}

(1)

مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص251.

(3)

مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام ..

ص: 443

العرب تقول: عدل به، يَعْدِل به: إذا جعل الشيء عديلاً ونظيراً له يُمَاثِلُهُ ويُعَادِلُهُ، وهم يعدلون بالله؛ أي: يجعلون له العَدِيلَ والنَّظِيرَ والمثيل؛ حيث قالوا: {هَذَا لِلهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: الآية 136] فجعلوا له النظراء والعديلين بِسَبَبِ عبادتهم له مثله، وجَعْلهم له مثل ما جعلوا. والعرب تقول: أعَدَلْتَ بفلان فلاناً: إذا جَعَلْتَه عِدلاً ونظيراً له، وهو مشهور في كلام العرب، ومنه قول جرير

(1)

:

أَثَعْلَبَةَ الفَوَارِسَ أَمْ رِيَاحاً

عَدَلْتَ بِهِمْ طُهيَّةَ والخِشَابَا

أي: جعلتهم نظراء وأمثالاً لهم وليسوا كذلك.

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا

(1)

البيت في ديوانه ص 58، الكتاب لسيبويه (1/ 102)(3/ 183).

ص: 444

بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: الآيات 151 - 153].

يقول الله جل وعلا: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: آية 151] كان بعض السلف يقولون: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمد صلى الله عليه وسلم عليها خاتمها لم يُفك فليقرأ هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

(1)

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات الثلاث من سورة الأنعام هي المحكمات المذكورات في آل عمران {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}

(2)

[آل عمران: آية 7] لم ينسخ الله حكماً من أحكامها في شريعة من الشرائع قط، بل أحكامها مثبتة في جميع التشاريع السماوية منذ خلق الله الدنيا، فهي محكمات؛ ولذا قال ابن عباس: إنها المذكورة في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} كما قدمنا في آل عمران.

(1)

أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الأنعام، رقم:(3070)، (5/ 264)، والطبراني في الكبير (10/ 114)، والأوسط (2/ 43)، والبيهقي في الشعب (14/ 63 - 64)، وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1414)، وابن جرير في التفسير (12/ 227 - 228)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 54) وعزاه للترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من قول ابن مسعود رضي الله عنه. وقد أخرج ابن جرير (12/ 227)، نحوه عن الربيع بن خثيم. وذكره السيوطي في الدر (3/ 54) وعزاه لعبد بن حُميد، وأبي عبيد، وابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن جرير (12/ 226)، والحاكم في المستدرك (2/ 288) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضاً بإسناد آخر (2/ 317) وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي، كما أخرجه ابن أبي حاتم (5/ 1414) ..

ص: 445

وهذه الآيات تضمنت أصول الشرائع من عقائد ومعاملات واجتماعيات، كما سيأتي إيضاحه في محله.

قل لهم يا نبيّ الله، الظاهر أنه خطاب لجميع الخلق، وإن كان الكلام السابق مع المشركين، قل لجميع البشر الذين أُرسلت إليهم:{تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (تعال) التحقيق أن (تعال، وهات) فعلا أمر، وغلط فيهما جماعة من علماء العربية [فزعموا]

(1)

أنهما اسما فعل

(2)

، والدليل على أن (هات) و (تعال) فعلا أمر: أنهما تلحقهما ياء المؤنثة المخاطبة، وياء المؤنثة المخاطبة من علامات الأفعال، ولا تلحق أسماء الأفعال، فالعرب تقول للأنثى:«تعَالَيْ يا فلانة» بياء المؤنثة المخاطبة، ومنه قول نابغة ذبيان

(3)

:

فَقُلْتُ: تَعَالَيْ نَجْعَلِ اللهَ بَيْنَنَا

عَلَى مَا لَنَا، أَوْ تُنْجِزِي ليَ آخِرَهْ

وكذلك (هات) فالعرب تقول للذكر: (هاتِ) بلا ياء، وللأنثى:(هاتي) بياء المؤنثة المخاطبة، فدلَّ أيضاً على أن (هات) كـ:(تعال) فعل أمر لا اسم فعل، خلافاً لمن زعم ذلك، ومن دخول ياء المؤنثة المخاطبة على (هات) قول امرئ القيس

(4)

:

إِذَا قُلْتُ هَاتِي نَوِّليني تَمَايَلَتْ

عَلَيَّ هَضِيم الْكَشْحِ ريَّا المُخَلْخَلِ

وهذه الكلمة أصلها خاص، ثم صار استعمالها عامّاً؛ لأن أصل (تعال) يقولها الذي هو مرتفع إلى من هو أسفل منه، فيقول له:

(1)

في الأصل: «فزعما» .

(2)

انظر: التوضيح والتكميل (1/ 20).

(3)

ديوان النابغة ص (121) وصدره: «فقال» .

(4)

ديوان امرئ القيس ص (115).

ص: 446

تعال؛ أي: ارتفع حتى تحضر عندي، هذا أصلها، إلا أن العرب توسعت فيها فصارت تطلق (تعال) على: احضر عندي. ولو كان الآمر أسفل والمأمور أعلى، فيقول الرجل في الأرض لمن على السطح: تعال عندي، وهو في الحقيقة: تَسَافَلْ إليّ، إلا أن العرب صارت تطلق (تعال) بمعنى: احضر، من غير نظر إلى أصل العلو والسفل

(1)

. فمعنى {قُلْ تَعَالَوْاْ} احضروا عندي، وادنوا مني، واقربوا مني {أَتْلُ} عليكم {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} .

{أَتْلُ} معناه: أقْرَأُ وأَقُصّ، والمضارع مجزوم في جواب الأمر، وعلماء العربية يقولون: إن المضارع المجزوم في جواب الأمر أنه في الحقيقة مجزوم بشرط مقدر دَلَّ عليه الأمر، وتقديره: إن تَتَعالوا

(2)

، أي: إن تحضروا عندي أتل عليكم ما حَرَّم ربكم. و (أتل) معناه: أقرأ وأقص. وأصل (التلاوة) من (تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ؛ لأن (التلاوة) مصدر سيال لا تحصل إلا من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، وهكذا. فأصلها من:(تلاه يتلوه) إذا تَبِعَهُ، والعرب تسمي التابع: تالياً، والمتبوع: متلوّاً. والتِّبَاعَةَ تلاوة، ومنه سموا الجمل: تالياً؛ لأنه يتبع النوق فيشمها ليعرف منها المستعدة للقاح واللاقح كما هو معروف

(3)

. ومنه قول غيلان ذي الرمة

(4)

:

إِذَا الجَافِرُ التَّالِي تَنَاسَيْنَ عَهْدَهُ

وَعَارَضْنَ أَنْفَاسَ الرِّيَاحِ الجَنَائِبِ

(1)

انظر: القرطبي (7/ 131)، المصباح المنير (مادة: علو) ص (162).

(2)

مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة.

(3)

انظر: المفردات (مادة: تلا)(167)، القاموس (1634).

(4)

البيت في ديوانه ص (96). وفيه: «وصله» بدلاً من: «عهده» .

ص: 447

أصل (التلاوة) مصدر سيال؛ لأنها من مقاطع حروف يتلو بعضها بعضاً.

والمصادر قسمان: مصدر سيال، ومصدر غير سيال. فالمصدر الذي ليس بسيال هو الذي يحصل بأدنى مرة؛ كالضرب، فإنك لو ضربت شيئاً بشيء مرة واحدة حَصَلَتْ ماهية الضرب، فالضرب مصدر غير سيال، بخلاف التلاوة والكلام، فلو نطقت بحرف واحد لم تحصل التلاوة؛ لأنها مصدر سيال لا بد مِنْ بَعْض يتبع بعضاً حتى يتم معنى المصدر.

قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (ما) هنا: موصولة، وهي على التحقيق في محَلّ المفعول مفعول (أتل)، معناه: أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَهُ ربكم عليكم، وقيل: إنها استفهامية مُعَلَّقة للفعل، وهو ضعيف؛ لأن المعروف في علم العربية أن الاستفهام إنما يعلق أفعال القلوب، والتلاوة ليست من أفعال القلوب، فالتحقيق أن (ما) موصولة، وأنها في محل المفعول؛ أي: تعالوا أقرأ وأقص عليكم الذي حَرَّمَ رَبّكم عليكم

(1)

.

والتحريم في لغة العرب معناه: المنع، وهو يطلق في الشرع وفي اللغة؛ يطلق في الشرع على ما حرمه الله؛ أي: منعه على لسان نبيه، وتوعد مرتكبه بالعقاب

(2)

، ويطلق في اللغة على مَنْعِ الشيء، فكل شيء منعته بالقوة

(1)

انظر: القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213).

(2)

انظر: الكليات ص (400).

ص: 448

فقد حرمته

(1)

، ومن إطلاقه بمعناه الشرعي: قوله هنا: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فهو تحريم شَرْعِيٌّ، ومن إطلاق التحريم بمعناه اللغوي في القرآن: قوله في بني إسرائيل وهم في التِّيْه، قال:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: آية 26] فإنه تحريم كوني قَدَري؛ لأن الله منعهم إياه، لا تحريم شَرْعِيّ على التحقيق، ومن إطلاق العرب التحريم على التحريم بمعنى المنع لا بمعنى الشرع: قول امرئ القيس

(2)

:

جَالَتْ لتَصْرَعُنِي فقُلتُ لهَا اقْصُرِي

إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ

أي: لا تَقْدِرينَ عَلَيْه، ومنه:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} [الأنبياء: الآية 95] فهو من التحريم الكوني القدري لا الشرعي، ومنه قول الشاعر

(3)

:

حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَا الكَرَى

وَأَنْ تُرْقَآ حَتَّى أُلَاقِيْكِ يَا هِنْدُ

والتحريم هنا

(4)

شرعي.

{عَلَيْكُمْ} في قوله: {عَلَيْكُمْ} وجهان

(5)

:

(1)

انظر: المقاييس في اللغة (كتاب الحاء، باب الحاء والراء وما يثلثهما) ص (256)، المصباح المنير (مادة: حرم) 51.

(2)

ديوان امرئ القيس ص (157).

(3)

البيت في الكشاف (2/ 65)، مشاهد الإنصاف ملحق في آخر الكشاف ص (29)، البحر المحيط (4/ 305)، الدر المصون (5/ 335).

(4)

يعني في آية الأنعام.

(5)

انظر: القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط، (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213).

ص: 449

أحدهما: أنه يتعلق بـ {حَرَّمَ} ، (حرمه عليكم) أو يتعلق بـ {أَتْلُ} أتلو عليكم ما حرم ربكم.

والثاني: سيأتي في الجواب عن الأشكال الذي في لفظة (لا) من قوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ} .

و {رَبُّكُمْ} معناه: سيدكم وخالقكم المدبر لشؤونكم.

وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ} بدأ هذه الوصية بعدم الإشراك بالله؛ لأن إخلاص العبادة لله وعدم الإشراك به هذا رأس الأمر، وهو الذي بعث الله جميع الرسل من أجله، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل والأمم، والله قد أوضح في كتابه ذلك إجمالاً وتفصيلاً، قال على سبيل الإجمال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} بِمَ بعثنا؟ {أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: آية 36]، وقوله:{أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ} هو حظ الإثبات من (لا إله إلا الله)، {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} هو حظ النفي من (لا إله إلا الله)، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا يُوْحى إِلَيْهِ} ، وفي القراءة الأخرى:{إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ}

(1)

{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: آية 25]، وقوله:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف: آية 45] هذه الآيات الإجمالية ونظائرها في القرآن.

أما التفصيل: فإنَّا إذا نظرنا إلى دعاوى الرسل وقصصهم مع أممهم وجدنا هذا هو دعوة كل نبي

(2)

، فأول من بُعث بعد الكفر في الأرض: نوح، يقول الله فيه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ماذا قال

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 301.

(2)

مضى عند تفسير الآية (65) من سورة الأعراف.

ص: 450

نوح؟ {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 59] ثم قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا، ماذا جاءهم به؟ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ} [الأعراف: آية 65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} ماذا قال؟ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 73] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ماذا قال؟ {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: آية 85]، وهكذا على سبيل التفصيل. فالسماوات والأرض إنما قامت على أشرف كلمة، هي كلمة (لا إله إلا الله) هي التي خُلقت من أجلها الجنة والنار، وامتُحن الخلق فيها، ودخل من دخل الجنة بالعمل بها، ودخل من دخل النار بعدم العَمَلِ بها، وهي مركبة من جُزْأَين: نَفْي وإِثْبَات.

فمعنى نفيها: خَلْعُ جميع أنواع المعبودات في جميع أنواع العبادات غير خالق السماوات والأرض (جل وعلا).

ومعنى إثباتها: إفراده (جل وعلا) وحده بالعبادة التي هي التقرُّبُ إلى الله بما أمر أن يُتَقَرَّبَ إليه به على وجه الذل والخضوع والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع عن المحبة، ولا المحبة عن الذل والخضوع، وضابط هذا: من أراد أن يخلص هذه الكلمة لله فلينظر إلى كل شيء أمر الله أن يتقرب إليه به، وأن يتعبد به خلقه، وليخلص في هذا لله، فإنه يلقى الله مسلماً موحِّداً، وليحذر كل الحذر من أن يصرف شيئاً من حقوق الخالق للمخلوق؛ لأن مَنْ لَقِيَ الله لا يُشْرِك به شيئاً دَخَلَ الجنة، والأحاديث في ذلك في حكم المتواترة لكثرتها.

ص: 451

من أشهرها: حديث أبي ذر الثابت في الصحيحين: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةَ» ، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . حتى قال في الثالثة: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ» ، وكان أبو ذر إذا حدَّث بالحديث يقول:«وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»

(1)

.

والعبد إذا لقي ربه بقراب الأرض ذنوباً ولم يشرك به شيئاً لقيه بقرابها مغفرة. وهو يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48]، وفي بعض الروايات عن سبب إسلام الوحشي -وإن زعم قوم أنها غير ثابتة، إلا أنها ذكرها بعض العلماء- أن الوحشي عبد جبير بن مطعم لما قال له: إن قتلت عم محمد صلى الله عليه وسلم يعني حمزة- بعمي طُعَيْمَة بن عدي الذي قتله يوم بدر فأنت حر، وحضر الوحشي -وأصله عبد حبشي مملوك لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- أُحداً لا يريد إلا حمزة؛ لأجل أن يُعْتِقَهُ سَيِّدُهُ، فأخذ حربة حبشية ذات حدَّين، وكمن في صَخْرَة من صخرات سَفْح جبل أُحد، حتى رأى حمزة، فرماه فأصابه في ثُنَّتِه تحت السرة فخر صريعاً رضي الله عنه وأرضاه)، بعد أن قتل حمزة لم يف له سيده بوعده بالعتق، فغاضب سيده، وهَمَّ أن يأتي النبي ويُسْلم، زعموا في هذه

(1)

أخرجه البخاري في الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. حديث رقم:(1237)، (3/ 110) وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث:(1408، 2388، 3222، 5827، 6268، 6443، 7487). ومسلم في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. حديث رقم:(94)، (1/ 94).

ص: 452

القصة أنه كاتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- إني أردت الدخول في دينك فمَنَعَتْنِي آية مما أُنزل عليك، قَنَّطَتني من رحمة الله، وهي قول ربك:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69)} [الفرقان: الآيتان 68،69] قال: ربك صادق لا يكذب، وقد قال: إن من فعل هذه الثلاث إنه يلقى العذاب ويخلد فيه مهاناً، فإذاً لا فائدة لي في الإسلام، ولا طمع لي في الخير بعد أن فعلت الثلاثة -يعني نفسه البعيد- قالوا: فأنزل الله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: آية 70] زعموا أن النبي بعث بها إليه، وأنه لما نظرها رد إليه الجواب وقال: ربك يقول: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} فهذه علي شَرْط قوي، ومن يقدر على العمل الصالح؟ فقد لا أقوم بهذا الشرط، فأنزل الله: {إِنَّ

اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فأرسل إليه بها، فلما تأملها قال: هو يعلق على مشيئته، يقول:{لِمَن يَشَاءُ} ومن هو الضامن والكفيل لي أنه يشاء؟ فأرسل بها إليه، فأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: آية 53] قالوا: فتأملها، فقال: أما هذه فنعم، وأسلم

(1)

.

(1)

أخرجه بهذا السياق: الطبراني في الكبير (11/ 197)، ح (11481)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 413)، وانظر: مختصر ابن منظور (26/ 262 - 263) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعزاه الهيثمي في المجمع (7/ 101) للطبراني في الأوسط، وقال:«وفيه أبين بن سفيان ضَعَّفَهُ الذَّهَبِي» اهـ كما أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (336)، وقد أورده السيوطي في أسباب النزول ص (245) وأشار لضعفه.

كما ذكر نحوه (مختصراً) في الدر المنثور (5/ 78) عن سعيد بن جبير مرسلاً، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

وأخرج ابن جرير (24/ 14) نحوه مختصراً عن عطاء بن يسار مرسلاً.

ص: 453

هكذا قاله بعض العلماء، مَعَ أن غيره يقول: لم يثبت ترتيب النزول على هذا الوضع.

والحاصل أن هذه الآية من أعظم الآيات التي خاطب الله بها هذه الأمة؛ لأن الخطاب بها لخصوص المسرفين على أنفسهم، لم يقل:«يا عبادي الذين آمنوا» بل قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} وهذا يستثنى منه الشرك، فإن الله لا يغفره، كما صرح به في قوله:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فحقه في العبادة لا مسامحة فيه ولا مُهَاوَدة، ولا يقبل إشراك أحد معه فيه، وغير ذلك من الذّنُوب إنْ شَاءَ عفَاهُ عن صاحبه، وإن شاء أخذه به، كما هو معلوم.

فعلينا أن نتأمل هذه الآيات، ونَحْذَر كل الحذر مِنْ أنْ نَصْرِفَ شَيْئاً من حقوق الله لأحد مِنْ خَلْقِهِ، بل نفرق بين حقوق الخالق وحقوق المخلوق، ونُفْرِد الخالق بحقوقه، ونُعطي المخلوقين حقوقهم، ومن حقوق الله التي غَلِطَ فيها كثير من عوام المسلمين فصرفها لغير مستحقها ودخل بذلك أمراً هائلاً عظيماً: هو أنه قَرَّرَ الله في كتابه في آيات واضحة: أن الإنسان إذا أنزل الله به الكروب والشدائد التي لا يقدر على رَفْعِهَا

ص: 454

إلا الله فالالتجاء في هذا الوقت [إلى الله يُعَدّ]

(1)

من خصائص الربوبية، وحقوق خالق السماء الخالصة.

فنحن علينا معاشر المسلمين -ونسأل الله العافية- إذا نزل بأحدنا كرب أو مكروه أو داهية، أن يعلم أنَّ الِالْتِجَاءَ في ذلك الوقت من خصائص الربوبية، كخلق السماوات والأرض، وقد أوضح الله هذا في آيات كثيرة، ومِنْ أَصْرَحِ الآيات التي أوضح فيها أن الالتجاء وقت نزول الكروب والشدائد التي لا يقدر على كشفها إلا الله: آيات في سورة النمل؛ لأن الله بَيَّنَ ما يختص به، وما يلزم لربوبيته من الحقوق فقال:{قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ (59)} وفي قراءة أخرى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ}

(2)

ثم قال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} ثم قال وهو محل الشاهد: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} ثم قال: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ} يستحق هذه الحقوق؟ ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النمل: الآيات 59 - 64]، فهذه حقوقه الخالصة، وسيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه- لعلمه

(1)

مابين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 334 ..

ص: 455

بالوحي ونور بصيرته بالقرآن، كان إذا نزلت به الشدائد والكروب عرف مَنْ صاحب هذا الحق، وصَرَفَ هَذا الحق لمن هو له؛ ولذلك لما نَزَلَتْ به أعظم كُرْبَةٍ يَوْم بدر، وكانت معه طائفة قليلة من المسلمين، كما قال الله:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: آية 123] ولو قُتلت تلك الطائفة لم يُعْبَدِ الله في الأرض قَطّ، كما صَرَّحَ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة:«اللهُمَّ إن تَهْلِك هذه الطَّائِفة فإنك لن تُعْبَدَ في الأرْضِ»

(1)

والمشركون في قوة عَدَدِهِمْ وعُددهم، وهذا أعظم الكرب، ولا يَقْدِر على كشفه إلا الله، وهو صلى الله عليه وسلم على وَعْدٍ من الله أن يُعْطِيَهُ إحدى الطائفتين {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: آية 7] وهو يَتَضَرَّع إلى الله: «رَبّ أنجِزْ مَا وعَدْتَنِي، رب أنجِزْ مَا وعدْتَنِي» حتى يسقط رداؤه عن ظهره، فيأتي أبو بكر رضي الله عنه، ويجعل الرداء على ظهره ويقول: حسبك، فإن ربك لن يخلفك، وأنزل الله في هذا -كَما ثبت في الصحيح-:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}

(2)

[الأنفال: آية 9].

فعلينا -معاشر المؤمنين- أن نعلم حقوق خالقنا، وأن نكون لمحبة رسولنا وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واتباعه نقر عينه بإفراد خالق السماوات والأرض بحقوقه (جل وعلا)؛ فإن الشيطان يدخل لبني آدم من طرق خَفِيَّةٍ، فإذا قيل للجهلة: هذا حق خالص لله كخلقه

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا إن شاء الله ..

(2)

البخاري في الجهاد، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، حديث رقم:(2915)، (6/ 99)، وأخرجه في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث:(3953، 4875، 4877).

ص: 456

للسماوات والأرض وخلقه للبحار، وسيد الخلق كان يصرف هذا الحق لله، فنحن -اتباعاً له صلى الله عليه وسلم ومحبَّةً وتَعْظِيماً- نَصْرِفُ هذَا الحق لمن هو له، كما كان صلى الله عليه وسلم يصرفه فالشيطان يُردِيْه هذا الإخلاص لله، ويعلم أنه إقرار لعين الرسول، ومرضاة لله، وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة له واتباع، وهذا يغيظ الشيطان ويبغضه، فيقول: من يقول لك هذا فهو من الذين لا يعظمون الرسول ولا الصالحين، ويمنعونك من أن تصرف لهم هذه الحقوق، هذه فلسفة شيطانية، والقرآن يبيّن أن هذا الحق من خصوص الربوبية حق خالص لله، والرسل يصرفونه لله، فنحن إنما علينا -لمحبة الرسل وتعظيمهم- الاقتداء بهم، وأن نُخْلِصَ لله حَقَّهُ كما كانوا يخلصونه له، والكفار -مع جهلهم- صرحت عنهم الآيات التي لا تكاد تُحْصَى في المصحف أنهم كانوا يعرفون هذا، فإذا نَزَلَتْ بهم الكروب والشدائد العظام صَرَفُوا الحق في ذلك الوقت لمستحقِّه تَماماً، فإذا أمِنوا رجعوا يصرفونه لغيره! والآيات في المصحف الدالَّة على هذا لا تكاد أن تحصيها {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يعني: إذا ركبوا في السفن، واضطربت عليهم أمواج البحر ورَأوُا الكروب وخافوا الموت دعوا الله مخلصين له الدين {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: آية 65]، ويصرفون الحَقَّ لغير من هو له {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: آية 32]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا

تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى

ص: 457

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)} [الإسراء: الآيات 67 - 69]{وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: يصرفون الحق لغير صاحبه، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس: الآيتان 22، 23]، والآيات بمثل هذا لا تحصى في المصحف، وقد قَدَّمْنَا مراراً

(1)

أن المعروف في التاريخ أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه كان شديد العداوة في الجاهلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو مِنَ الجماعة الذين جاءوا من وراء الصحابة يوم أُحد -لما تركوا المركز في سفح الجبل، وبقي أميرهم عبد الله بن جبير وطائفة حتى قُتِلُوا- هو وصفوان بن أمية في الجماعة الذين جاءوا من وراء ظهور المسلمين حتى دارت رَحَى الحرب على المسلمين، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ حتى غاصت فيه حِلَق المغفر، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وشُقَّت شفته، ومُثِّل بعمه وابن عمته، وقُتل سبعون من خيار الأنصار، وكذلك هو يوم فتح مكة من أشد الناس [حماسة] للقتال

(2)

؛ ولذلك قال حِمَاس بن قيس الذي كان يقول لامرأته: سأجعل لك خدماً من نساء محمد، وإذا جئتك هارباً فأَغْلِقِي الباب دوني، فجاء هارباً يوم فتح مكة! فقالت له: أين ما كنت تقول؟ فقال رجزه المشهور

(3)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من سورة الأنعام.

(2)

في الأصل: «عداوة» وهو سبق لسان.

(3)

الأبيات في السيرة لابن هشام ص (1250)، معجم البلدان (2/ 393). وقد وقع هنا في الأبيات الثلاثة بعد الأول شيء من التقديم والتأخير، والذي في المصدرين السابقين.

وأبو يزيد قائم كالمؤتمه

واستقبلتهم بالسيوف المسلمه

يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نَهِيتٌ خلفنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

ص: 458

إِنَّكِ لَوْ شَهَدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ

إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وفَرَّ عِكْرمهْ

وأَبو يزيدَ قائمٌ كالمُؤْتِمَهْ

وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَهْ

لَهمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ

يَقطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمَهْ

ضَرْباً فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ

لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ

كان عكرمة بالغاً هذا من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وعرف عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَتَبَّ لَهُ الأمر في مكة، فرَّ هارباً إلى الحبشة بغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ في سفينة في البحر الأحمر ذاهباً إلى الحبشة، فلمَّا تَوَسَّطَتْ بهم بطن البحر الأحمر هاجت عليهم عواصف الريح، وهاجت عليهم الأمواج، وأيقنوا بالهلاك، فإذا جميع من في السفينة ينادي بعضهم بعضاً من أطراف السفينة؛ احذروا في هذا الوقت أن تدعوا غير الله لئلا تهلكوا؛ لأنه لا ينقذ من هذه الكروب والأهوال إلا هو وحده (جل وعلا)، فجاءت في رأس عكرمة، ثم قال: والله إن كان لا ينجي من ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي في كربات البر إلا هو، ثم قال: اللهم لَكَ عليَّ عهد إن أنْقَذْتَنِي من هذه فلأضَعَنَّ يَدِي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنَّه رؤوفاً رحيماً.

وعلى كل حال فإِخْلَاص حقوق الله لله مرضاة لله، ومرضاة للرسول، وإقرار لعين الرسول، واتباع له وتعظيم، وعمل بالعلم والقرآن. وهذا مما ننصح به أنفسنا وإخواننا على ضوء كتاب الله تعالى.

ص: 459

وقوله جل وعلا: {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام فيها إشكال معروف مشهور، وأجوبة العلماء عنه معروفة مذكورة مشهورة.

اعلموا أولاً: أن قوله هنا: {شَيْئاً} فيه وجهان من الإعراب

(1)

:

أحدهما: أنه ما ناب عن المصدر فهو مفعول مطلق في المعنى؛ أي: لا تشركوا بالله شيئًا من الإشراك، أي: لا إشراكاً صغيراً كالرياء، ولا إشراكاً كبيراً، فعليه يكون اسم (الشيء) واقعاً على الإشراك/ فيكون في معنى المصدر، [21/ب] ويُعرب ما ناب عن المطلق؛ أي: لا تشركوا بالله شيئاً؛ أي: لا تشركوا به إشراكاً؛ أي: شيئاً من الإشراك، قليلاً أو كثيراً.

الثاني: أنه مفعول به بـ {أَلَّا تُشْرِكُواْ} أي: لا تشركوا به شيئاً من الشركاء؛ لأن حقوقه الخالِصَة لا يُشْرَكُ معه فيها أحد كائناً ذلك الأحد من كان، سواء كان نبيّاً أو مَلَكاً أو غيرهما، وأكره ما يكره الأنبياء والملائكة أن يُشْرَكَ بالله غيره؛ كما قال تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: آية 80] وقد أمر الله سيد الخلق أن يصدع بذلك الأمر المؤسف العظيم

(2)

في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 218).

(2)

أي: يصدع في بيان بطلانه، ويعلن منابذته، أي: الشرك.

ص: 460

[آل عمران: آية 64] أي: مخلصون لله العبادة وحده، لا نتخذ غيره ربّاً، ولا نشرك به غيره.

أما محل السؤال والإشكال في الآية: فهو في لفظة (لا) لأنه يقول: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فمعناه: أن هذا الذي يتلوه مُحَرَّم، وقوله:{أَلَّا تُشْرِكُواْ} عدم الشرك ليس بمحرم بل هو واجب حَتم {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} بر الوالدين ليس بمحرم، بل هو واجب حتم، فصار الإشكال في لفظة (لا) وهو إشكال معروف عند العلماء.

وللعلماء عنه أجوبة كثيرة

(1)

: منها ما ذَكَرَهُ جماعة من العلماء أن مِنْ أسَالِيبِ اللغة العربية زيادة لفظ (لا) لتوكيد الكلام وتقويته إذا كانت القرينة تدل على أنها لا يُقصد بها نفي

(2)

، وزيادة لفظة (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أجمعَ عليها جميع علماء العربية في الكلام الذي فيه معنى الجحد -أعني الكلام المُشم برائحة النفي- لا خلاف في هذا بين العلماء، وهو كثير في القرآن، ومنه قوله:{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه: الآيتان 92، 93] يعني: ما منعك أن تتبعني، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: آية 12] أي: ما منعك أن تسجد. على أصح التفسيرين

(3)

، بدليل قوله في (ص):{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: آية 75]، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: آية 29] أي: ليعلم أهل الكتاب، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: آية 65] أي: فوربك

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 215)، القرطبي (7/ 131)، البحر المحيط (4/ 249 - 250)، الدر المصون (5/ 213 - 218).

(2)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: فتح القدير (2/ 191).

ص: 461

لا يؤمنون {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: آية 34] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 109] على أحد التفسيرين

(1)

، وهو كثير في كلام العرب معروف، ومن أمثلته في كلام العرب قول أبي النجم

(2)

:

وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا

لمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا

وقول الآخر، وأنشده ابن هشام لهذا المعنى في المغني

(3)

:

وتَلْحَيْنَنَي في اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ

وَلِلَّهوِ دَاعٍ دَائِبٍ غَيْرِ غَافِلِ

( .... )

(4)

وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر

(5)

:

مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ دِينَهُمُ

وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ

يعني: والأطيبان أبو بكر وعمر.

وأنشد الجوهري لزيادة (لا) في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول الراجز

(6)

:

فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ

بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ

(1)

انظر المصدر السابق (2/ 152).

(2)

مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة.

(3)

المغني (1/ 200).

(4)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وهو غير مؤثر هنا.

(5)

مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة وأورده الفراء في معاني القرآن (1/ 8).

(6)

البيت للعجاج، وهو في الخصائص (2/ 477)، معاني القرآن للفراء (1/ 8)، اللسان (مادة: حور) (1/ 750)، الصحاح (مادة: حور) (2/ 639)، الخزانة (2/ 95 - 98)، (4/ 490).

ص: 462

لأن الحور هو الهلكة معنى، والمقصود: في بير هلكة وقع، و (لا) زائدة، والكلام هنا ليس فيه معنى الجحد.

وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) لتقوية الكلام في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول ساعدة بن جؤية الهذلي

(1)

:

أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ

غَابٌ تَسَنَّمَهُ قِرَابٌ مُثْقَبُ

يعني: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ، كما هو معروف. وأنْشَدَ بعضهم له قول الآخر

(2)

:

تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ

وَكَادَ صَميمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ

أي: كاد يتقطع. قالوا: هذا أُسلوب معروف، و (لا) هنا صلة دل المقام عليها، وهي تفيد تقوية الكلام، والنهي عن الشرك. هذا قول بعض العلماء.

وقال بعض العلماء: (أنْ) هنا تفسيرية. وهو التحقيق، وهي مُفَسَّرَةٌ لـ {حَرَّمَ}

(3)

، وإذا فسرنا التحريم كان {أَلَّا تُشْرِكُواْ} هو معنى التحريم؛ لأن {أَلَّا تُشْرِكُواْ} هو معنى تحريم الشرك. وضابط (أنْ) التفسيرية عند علماء العربية: أن تتقدمها جملة فيها معنى القول وليس فيها حروف القول

(4)

، فتكون (أَنْ) مفسرة للتحريم، وما بعدها هو تفسير التحريم؛ لأن النهي عن الشرك هو معنى تحريم الشرك بعينه،

(1)

مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (109) من هذه السورة، وفيه: «وكاد ضمير

».

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 249)، الدر المصون (5/ 213).

(4)

انظر: البحر المحيط (4/ 250)، الدر المصون (5/ 213)، الكليات ص 193، معجم الإعراب والإملاء ص 88.

ص: 463

وعلى هذا فلا إشكال، فـ (أَنْ) يُفَسِّر ما بعدها ما قبلها، وهي (أَنْ) التفسيرية كما هو معروف.

وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} انتهى الكلام. وقوله: {عَلَيْكُمْ} ابتداء كلام، و {عَلَيْكُمْ} اسم فعل، كما قال في الخلاصة

(1)

:

والفعل من أَسْمَائِه عَلَيْكَا

والمعنى: عليكم ألا تشركوا بالله. {عَلَيْكُمْ} : الزموا واحتزموا، وعليكم ألا تشركوا بالله، وعليكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً، وعليكم ألا تقتلوا أولادكم من إملاق

إلى آخره.

وقال بعض العلماء -وهو ليس بوجيه-: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أتلوه عليكم لئلا تشركوا بالله شيئاً.

وأظهر الأوجه وأحسنها: هو ما دل عليه القرآن؛ لأن خير ما يُفَسَّر به القرآن: القرآن أن معنى قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي: ما حَرَّمَهُ عليكم فعلاً وتركاً، وأن التحريم فعلاً وتركاً هنا مُضَمَّن معنى:{وَصَّاكُمْ بِهِ}

(2)

فكأنه يقول: أتلو ما وصاكم ربكم به تحريماً وإباحة، والدليل على هذا: أن الله لما علم أن في الآية شِبْه إجمال أوضحه في آخرها فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فعرفنا أن ذلك التحريم هو معنى الوصية، فيكون معنى:{حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي: حرم عليكم فعلاً وتركاً؛ أي: وصاكم

(1)

الخلاصة ص 54، انظر: شرح الأشموني على الألفية (2/ 201).

(2)

وهو اختيار ابن جرير. انظر جامع البيان (12/ 215)، وانظر: أضواء البيان (2/ 278).

ص: 464

بأن تفعلوه أو تتركوه، كما فسره بقوله:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ونظيره في كلام العرب قول الراجز

(1)

:

حَجَّ وأوْصَى بِسُلَيْمَى الْأَعْبُدا

أَنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أَحَدَا

وَلَا يَزَلْ شَرَابُها مُبرَّدا

وهذا معنى قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، جرت العادة في القرآن أن الله يقرن بِرَّ الوالدين بتوحيده (جل وعلا) في عباداته كقوله هنا:{أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: آية 23]{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14] إلى غير ذلك من الآيات، ولا شك أن الله لم يجعل بِرَّ الوالدين مقروناً بتوحيده دائماً إلا لعظمة بر الوالدين، فإن بر الوالدين من أعظم الحسنات والقُرُبَاتِ عند الله، وعقوق الوالدين من أخْبَثِ الخبائث وأكبر الذنوب، فعلينا معاشر المسلمين أنَّ مَنْ كَانَ عنده إما والد أو والدة أن يتحمل أذاه ويبره ويحسن إليه، ويسارع في مرضاته الأيام القليلة من الدنيا، حتى يموت وهو عنه راض. واعلموا أن من أعطاه الله شائباً أو شائبة أباً أو أمّاً، فكأنه أعطاه وسيلة الجنة سهلة، ومن قَصَّر فيها فهو مُفَرِّط مُضَيِّع، مع أن عقوق الوالدين مع ما فيه من إسخاط الله وإغضاب خالق السماوات والأرض وسبب دخول النار، وفيه أيضاً القُبْح وعدم الإنسانية وخساسة فاعله.

فعلينا معاشر المسلمين أن نفهم هذا، وأن نعلم أن ربنا يجعل

(1)

وهو في ابن جرير (12/ 216).

ص: 465

بر الوالدين دائماً مع توحيده ومن كان منا عنده والد أو والدة فَلْيَسْعَ كل السعي في أن يبره، ولْيَعْلَم أن الكبير لا يتحمل على أذاه إلا من عنده تقوى؛ لأنه إذا شاب وكبرت سنه كان لا يُتَحَمَّل؛ لأنه يكثر سؤاله عن الأشياء التي لا تعنيه، وتكثر أغراضه فيما لا تعنيه، وهذا يستلزم صبراً، فعلى الولد أن يَتَحَمَّلَ، ويُثَابِر على أن يفتيه في كل ما سأل مما لا يعنيه، ويصبر على جميع أذاه، ويحسن إليه، ويبرّه حتى يَمُوت وهو عنه راضٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه الأحاديث التي لا تُحْصَى في الترغيب في بر الوالدين واسْتِجْلَابِهِ الجنة، والترهيب من عقوق الوالدين، وما فيه من العقوبات، ونحن لا نحتاج أن نُنَوِّه بشيء من هذا بعد أن نرى خالق السماوات والأرض يجعل بر الوالدين مقروناً بتوحيده في عبادته جل وعلا.

فعلينا جميعاً معاشر المسلمين أن نعتبر بهذا، وأن نبر أمهاتنا وآباءنا، ونصبر على أذاهما، ولا نُغلظ لهما القول، ولا نمنعهما من شيء يحبانه، بل نسارع في مرضاتهما بحسب الإمكان، ويكفيكم على هذا دليلاً هو نص القرآن العظيم على أن الوالد يبره ولده وإن كان الوالد كافراً؛ لأن آية العنكبوت نزلت في أُميمة والدة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه)

(1)

، فإنه لما أسلم حلفت أمه أُميمة أن لا تأكل، ولا تشرب، ولا تدخل الظل حتى يرجع عن دين الإسلام، فَمَكَثَتْ في الشمس ما شاء الله حتى خَرَّت مغشيّاً عليها، وجاءوه وقالوا له: أمك ستموت! فجاءها ثم قال لها: والله لو كانت

(1)

أمه هي حمنة بنت سفيان بن أُمية بن عبد شمس. انظر: الآحاد والمثاني (1/ 166)، (مختصر تاريخ دمشق لابن منظور)(9/ 253)، السير (1/ 96)، فتح الباري (7/ 84). وفي الآحاد والمثاني:«حمنة بنت أسد» .

ص: 466

لك مائة نفس ومتِّ مائة موتة بكل نفس من تلك الأنفس فإني لا أرجع عن دين الإسلام أبداً، إن شئت فكُلي وإن شئت فموتي! فأنزل الله:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: آية 8] ثم قال

(1)

: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}

(2)

[لقمان: آية 15] فأمره بأن يصاحبهما بالمعروف وهما كافران، فما بالك بالمُؤمِنَين؟!

وقد جاء عن بعض العلماء أن سبب نزول الآية التي في سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: آية 8] أن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنها ليست شقيقة عائشة وعبد الرحمن؛ لأن عائشة وعبد الرحمن شقيقان، أمهما أم رومان الفراسية من بني فراس، من بطون كنانة، وأسماء أمها امرأة أُخرى تسمى: قَيْلَة، وقد جاءت إلى المدينة زائرة ابنتها أسماء، والأم كافرة، فما رضيت أسماء أن تُنزل أمها حتى تستشير النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنها جاءت زائرة! ومعها هدايا من هدايا البادية، فأمرها النبي أن تنزلها وتحسن إليها

(3)

. قال بعض العلماء:

(1)

هذه ليست من آية العنكبوت كما لا يخفى، وإنما هي من سورة لقمان. وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على أن الآيتين نزلتا فيه.

(2)

أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم:(1748)، (4/ 1877).

(3)

البخاري في الهبة، باب الهدية للمشركين، حديث رقم:(2620)، (5/ 233)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(3183، 5978، 5979)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين

، حديث رقم:(1003)، (2/ 696).

ص: 467

وفيها نزلت: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}

(1)

.

فالحاصل أن على المسلم أن يبر والديه ولا يعقهما، فبِرّ الوالدين من أعْظَمِ الذّخَائر عند الله، ومن أعظم أسباب دخول الجنة، وعقوق الوالدين من كِبَائِرِ الذنوب الموجبة لسخط الله ولدخول النار مع قُبْحِهَا في الدّنيا.

وقوله: {إِحْسَاناً} مصدر، قال بعض العلماء: منصوب بفعل محذوف {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً

(2)

.

وقوله جل وعلا: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ} [الأنعام: آية 151] قال هنا في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ} وقال في سورة بني إسرائيل- وهي سورة الإسراء-: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: آية 31] قال بعض العلماء

(3)

: بين الآيتين فَرْق؛ لأن آية الأنعام تدل على أن الرجل يكون فقيراً في هذا الوقت ويقتل ولده للفقر الحاضر، وهو معنى قوله:{وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ} أي: من أجل الإملاق، وهو الفقر الحاضر.

الثانية: أن يكون غير فقير، ولكنه يخاف الفقر في المستقبل،

(1)

صرح بذلك سفيان بن عيينة عقب رواية الحديث، كما عند البخاري في كتاب الأدب (10/ 413). وقد ورد ذلك صريحاً من طريق آخر لا تخلو من ضعف.

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 215)، القرطبي (7/ 132).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 251)، الدر المصون (5/ 219)، أضواء البيان (2/ 278).

ص: 468

فيقتله لئلا يفتقر في المستقبل، وهي قوله:{وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} .

وجماهير علماء العربية على أن (الإملاق) أصله مصدر: (أملق الرجل، يُملِق، إملاقاً) إذا كان فقيراً، قال بعض العلماء: واشتقاقه من (المَلَقَات)

(1)

، و (المَلَقات): الحجارة الضخام

(2)

، وهو معروف [في كلام]

(3)

العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي

(4)

:

أُتيْحَ لَهَا أُقَيْدِر ذُو حَشِيفٍ

إِذَا سَامَتْ عَلَى المَلَقَاتِ سَامَا

فكما يقولون: تَرِبَتْ يداه: لم يَبْقَ عنده إلا التراب، يقولون: أملق: لم يبق تحت يده إلا الجبال والصخور العظام التي لا يقدر أن يحصل منها شيئاً.

وقال بعض العلماء: كانت لغة لخم من قبائل قحطان أنهم يطلقون (الإملاق) على الجوع

(5)

.

وقال بعض العلماء: الإملاق يطلق على الإنفاق، تقول العرب:«أملق ماله» . إذا أنفقه

(6)

، قالوا: ومنه: (التَّمَلُّق) في

(1)

انظر: اللسان، (مادة: ملق) (3/ 527).

(2)

انظر: المصدر السابق.

(3)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(4)

البيت لصخر الغي الهذلي، وهو في اللسان (مادة: ملق) (3/ 527)، القرطبي (10/ 252).

(5)

انظر: القرطبي (7/ 132)، الدر المصون (5/ 218)، أضواء البيان (2/ 278).

(6)

انظر: المصدر السابق.

ص: 469

الكلام؛ لأن الإنسان يعطي باللسان ما ليس عنده في قلبه في الحقيقة.

والمشهور الذي عليه جمهور المفسرين وعلماء اللغة: أن (الإملاق) هنا هو الفقر

(1)

، وكان العرب يئدون بناتهم خوف أن يفتقروا فتجوع بناتهم؛ لأن جوع بناتهم قد يسبب لهن أن يزوجوهن من غير الأكفاء، وأن يقعن في معرات لا تليق، وقد يخافون عليهن من السبي، فكانوا يقتلوهن لهذا السبب!! يقولون: إذا جاعت ابنته اضطرت إلى أن تتزوج غير كفء، وكانوا يتشددون في مصاهرة غير الأكفاء، ويقتلون البنات خوفاً من هذا، وإذا خاف الرجل أن يفتقر وتبقى ابنته في جوع وبؤس، فإنها إذا كانت في جوع وبؤس قد تضطر إلى أن تتزوج غنيّاً ليس بكفء لها فيئدونهن.

وقد ذكرنا مراراً أن عقيل بن عُلَّفة المري لما خُطِبَت عنده ابنته الجرباء أنشد رجزه المشهور

(2)

:

إنِّي وَإِنْ سِيقَ إلَيَّ المَهْرُ

عَبْدٌ وَأَلْفَانِ وَذَوْدٌ عَشْرُ

أَحَبُّ أَصْهَارِي إِليَّ الْقَبْرُ

وكانوا يقولون: إِنَّ الزَّوْجَ الذي يسترها ويكفي عارها تماماً إنما هو القبر، كما قال الشاعر وعنده ابنة تُسمى مودة

(3)

:

مودَّةُ تهوى عُمْرَ شيخٍ يسرُّه

لها الموتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لوْ أنَّها تَدْرِي

(1)

انظر ابن جرير (12/ 217)، القرطبي (7/ 132)، الدر المصون (5/ 218)، أضواء البيان (2/ 278).

(2)

مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

(3)

مضى عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

ص: 470

يَخَافُ عليْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ

وَلَا خَتَن يُرْجَى أَوَدّ مِنَ الْقَبْرِ

والخَتَن في اللغة: زوج البنت

(1)

.

يعني: لا زوج للبنت يُرجى أرجى من القبر؛ لأنه يستر عارها، ويمنعها من تزويج غير الأكفاء، ومن الإهانات على زعمهم الفاسد.

ولما كان صخر أخو الخنساء كل عام يُقاسم الخنساء ماله، ويجعله شطرين، ويعطيها الشطر الأوفى، وقالت له امرأته: تقاسم مالك كل سنة مع الخنساء وزوجها مِتْلَاف سفيه يُضيع مالك، أنشد راجزاً

(2)

:

وَكَيْفَ لَا أَمْنَحُهَا خِيَارَهَا

وَهْيَ حَصَانٌ قَدْ كَفَتْنِي عَارَهَا

ولو هلكتُ لَبِسَتْ إزارها

فعندهم الشهامة العربية والغيرة الكاملة على الحريم، إلا أن كل شيء إذا زاد عن قدره صار بلاء وخسيساً، فالأمور ينبغي أن لا تُزَادَ وَلَا تنقص عن حدودها.

فلا تَغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد

كِلَا طَرفي قَصْدِ الأمورِ ذميم

(3)

فالغلو في الغيرة جرَّهُم إلى أن دفنوا بناتهم خوف أن يجوعوا وتجوع البنات فَيَضْطَرِرْنَ بذلك إلى الوقوع فيما لا ينبغي، أو إلى

(1)

انظر: المصباح المنير (مادة: ختن) ص (63).

(2)

في الشعر والشعراء ص (220) هكذا:

والله لا أُمْنَحُها شرارَها

ولو هَلَكتُ مَزَّقَتْ خِمَارَهَا

وجَعَلَت من شَعَر صِدَارَها

وفي الإصابة (4/ 289):

والله لا أمنحُها شِرَارَهَا

وهي التي أَرْخَص عنى عارها

ولو هلكتُ خرقَت خِمارَها

واتَّخَذت من شَعَر صِدَارَهَا

(3)

البيت لمحمد بن مسلمة، وهو في الخزانة (1/ 281).

ص: 471

الزواج من غير الأكفاء، هكذا زعمهم الفاسد! وقد صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قيل: ثم أي؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قال: ثم أي؟ قال: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

(1)

. وهذا مأخوذ من قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} فالحديث كأنه مطابق لآية الفرقان، ثم إن الله قال هنا:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} كأنه يقول لهم: يا سفهاء العقول، يا مجانين، تقتلون أفلاذ أكبادكم خوفاً من الفقر؟! فرزقهم علينا، نحن نرزقكم ونرزقهم، ورزق الجميع علينا، قال هنا:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأنهم فقراء في الحين حيث قال: {مِّنْ إمْلَاقٍ} أي: من فقر واقع، وقال هناك لما أرادوا أن يقتلوهم من خشية فقر مستقبل:{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ} بدأ بالأولاد {وَإِيَّاكُم} [الإسراء: الآية 31].

وهذه الآيات تدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يستثقل كثرة أولاده خوفاً من الجوع والفقر؛ لأن خالق السماوات والأرض يرزق الجميع، وهذه من أوضح الآيات على أن ما يَتَلَاعَب به الشيطان على المتسمين باسم الإسلام مما يسمونه (تحديد النسل) وأن يمتنعوا من أن تكثر أولادهم، أن هذا جهل واقتفاء -في الجملة- للجاهلية

(1)

أخرجه البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حديث رقم: (4477)، (8/ 163)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم:(4761، 6001، 6811، 6861، 7520، 7532)، ومسلم في الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، حديث رقم:(86)، (1/ 90).

ص: 472

الذين يقتلونهم؛ وذلك لأنهم مشتركون في العلة، والعلة قد تُعَمَّم معلولها؛ لأن الله صرح بأن الجاهلية إنما قتلوهم من خشية الإملاق، وهؤلاء يريدون من تقليل عددهم من خشية الإملاق، فالعلة هي العلة، وكأن قوله:{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لم يطرق أسماعهم -أبداً- ضمان خالق السماوات والأرض لأرزاق الجميع، كأنهم لم يسمعوه، وكأنهم في جاهلية جهلاء، وظُلمة ظلْمَاء؛ لأن الله ضامن رزق الجميع، وكلما كثر النسل، وكثرت الأيدي العاملة كثر الإنتاج، وكثرت خيرات الله وأرزاقه؛ لأن الله ينزل رزقه بعدد خلقه، وصرح بهذا وهو لا يخلف الميعاد {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فهذه الآيات تدل على أن القائلين بتحديد النسل أنهم شاركوا الكفار في العلة، وإن لم يشاركوهم في الحكم، والعلة تكون واحدة وتكون لها أحكام متعددة، كما تقرر في الأصول

(1)

،

فالسرقة علة واحدة، وقد تتعدد أحكامها؛ لأن من أحكامها ما هو قطع اليد، ومن أحكامها ما هو غُرْم المال -عند من يقول بِغُرْم المال- فعلة الجميع واحدة، وهي خوف الفقر وضيق المعاش، هذه هي علة الكفار التي قَتَلُوا مِنْ أجْلِهَا أوْلَادَهُمْ، وعلة التابعين لأذناب الإفرنج في تقليلهم عددهم وعُددهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ»

(2)

(1)

انظر: نثر الورود (2/ 473) ..

(2)

أخرجه أحمد (3/ 158، 245)، وابن حبان (الإحسان 6/ 134)، والبيهقي (7/ 81) من حديث أنس رضي الله عنه، وأبو داود في النكاح، باب النهي عن تزويج مَنْ لَمْ يلد من النساء، حديث رقم:(2035)(6/ 47)، والنسائي في النكاح، باب كراهية تزويج العقيم (6/ 65)، حديث رقم:(3227)، والحاكم (2/ 162)، والبيهقي (7/ 81)، والطبراني في الأوسط (5742). وانظر: صحيح النسائي (2/ 680)، صحيح أبي داود (2/ 386) آداب الزفاف (89، 132)، إرواء الغليل (6/ 195)، المشكاة (3091).

ص: 473

والكثرة خَيْرٌ مِنَ القلة، والله (جل وعلا) بارئ لكل ذي نسمة شق فاها بارئ لها رزقها كما صَرَّحَ بقوله:{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: آية 6] فهؤلاء شاركوهم في العلة وخالفوهم في الحكم، مع أن هناك بعض المقاربة.

فعلينا معاشر المؤمنين أن نعلم أولًا أن كُلَّ ما أراد الله أن يخلقه من النسمات لا بد أن يخلقه، ولو حاول الخلق ما حاول من تقليل النسل، ثم إن كل نَسَمَة خلقها الله فهو رازِقُها إلى أن تموت، وإلى أن تستكمل رزقها، وأن دَعْوَى تَحْدِيد النسل خوف الفقر أنها أذهان الكفار وأقوال الكفار وعقول الكفار التي لم تستضئ بضوء القرآن العظيم؛ لأن الله يقول يفند هذا الرأي:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: آية 151]{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: آية 31]، فلا تضق أذهانكم يعني من الرزق، فالرزق عندنا كثير، ونحن سنرزق الجميع من خزائن رزقنا، ولذا لما أراد المنافقون أن يحاصروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حصاراً اقتصاديّاً وقالوا:{لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} قال الله: {وَلِلهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: آية 7] أي: ومن كانت عنده خزائن السماوات والأرض لا يُضَيِّقُ رزق أحد شاء أن يرزقه، وهذا معنى قوله:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .

ص: 474

والرزق عند الجمهور: هو ما رزقه الله للإنسان، سواء كان حلالاً أو حراماً

(1)

. فالله يرزق الإنسان بالحلال الطيب الهنيء، ويرزقه بالحرام، ثم يؤاخذه عليه، خلافاً للمعتزلة القائلين: إِنَّ الرزق من الله إنما هو الحلال، وإن الحرام لا يُسمى رزقاً؛ لأن العبد أخذه بمشيئته لا بمشيئة الله، كما كنا نقرر ونوضح، وبَحْثُ المتكلمين في الرزق هل يختص بالحلال أو الحلال والحرام معروف ومن يخصه بالحلال فهو مبني على مذهب الاعتزال؛ لأن الله تبارك وتعالى كما يشاء من العباد أن يقعوا في المعاصي وتذهب إرادتهم ومشيئتهم إلى المعاصي، كذلك إلى أن يرتزقوا بالحرام فذلك بمشيئته وجّه قدرتهم ومشيئتهم إليه، وهو مؤاخذهم عليه بأعمالهم، وكل مُيَسَّر لما خُلق له. وهذا معنى قوله:{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .

{وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} هذا من وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي لم يُفك عنها خاتمه هي هي كما أُنزلت مما أوصى به صلى الله عليه وسلم مبلغاً تلك الوصية عن الله نهي جميع الخلائق عن أن يقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَا تَقْرَبُواْ} فيه سر عظيم، وتعليم كبير؛ لأنه لم يقل: وَلَا تفعلوا الفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ لم ينه عن فعلها فحسب، بل نهى عن قربانها؛ لأن من قرب من الشيء قد يقع فيه، والراتع حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، فبيَّن في هذه الآية أن الفواحش -وسَنُبَيِّن معناها- أن الإنسان مَنْهِيٌّ عن أن يقربها؛ لأن

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 132، 541 - 546).

ص: 475

القرب منها مظنة للوقوع فيها، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه

(1)

، وهذه الآية الكريمة من الأدلة القرآنية على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه، فإذا نُهي عن القرب منه كان ذلك سَدّاً لذريعة الوقوع فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ في الجملة، ودل عليه في الجملة الكتاب، والسنة، والإجماع

(2)

.

وتفصيل ذلك: أن الذرائع عند علماء الأصول ثلاثة أقسام: قسم يجب سَدُّه بِإِجْمَاعِ المُسْلِمين، وقسم لا يجب سده بإجماع المسلمين، وواسطة هي محل الخلاف، هي المعروفة عند أهل الأصول بـ (الذريعة الوسطى) التي لم تبلغ درجة المُجْمَع على سَدِّهِ ولم تتنازل إلى درجة المُجْمَع على عدم سده، أما المُجمَع على وجوب سَدِّهِ فهو الذي يكون ذريعة إلى الحرام، ويكون ارْتِكَابُهُ مظنة للوقوع في الحرام، وهذا ممنوع بإجماع العلماء، ومن أمثلة هذا القسم المجمع على سده: سب الأصنام إذا غلب على ظن مَنْ سَبَّهَا أن عَبَدَتَها يسبون الله، وقد قدمنا هذا في هذه السورة في قوله:{وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108] فسب الأصنام بالنظر إلى ذاته طيب حلال كماء المزن، إلا أنه إن كان ذريعة لِأَنْ يَسُبَّ عبدتُها اللهَ كان حراماً؛ لأنه ذريعة إلى أن يُسَبَّ الله، والذريعة إلى هذا المنكر الأكبر يجب سدها، ومِنْ هذا القسم: أن يشتم الرجل أبَا رَجُل أو أمه، وهو عالم أن ذلك الرجل يَنْتَقِم منه فيسب أباه -انتقاماً- وأمه؛ لأن هذه ذريعة إلى أن يتسبب الرجل في أن يُذم أبوه أو أن تُذم أمه، والواجب عليه برهما

(1)

انظر: فتح المجيد 389.

(2)

مضى عند تفسير الآية (108) من هذه السورة.

ص: 476

لا عقوقهما بالتسبب في ذمِّهِما، وقد ثبت في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنَّ مِنَ العقوق شَتْمَ الرجل والِدَيْهِ» . قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم، يَسُبّ أبَا الرَّجُلِ فيسبّ أبَاهُ، ويسبّ أمه فيسُبّ أمَّهُ»

(1)

فهذا حديث صحيح لا مطعن فيه، صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذريعة السب: الشتم، وسب الوالدين حرام، فالذريعة إليه حرام، ومن أمثلة هذا النوع من الذريعة التي يجب سدها بالإجماع: أن يحفر الرجل بئراً في طريق المسلمين ويغطي وجهه بغطاء ليتردى فيه المار، فنفس حفر البئر ليس هلاكاً لمسلم ولا لماله، ولكنه ذريعة للترَدِّي الذي فيه الإهلاك.

فهذا النوع من الذريعة يجب سَدّه بإِجْمَاع المسلمين؛ لأنه يؤدي إلى محذور تأْدِيَة معلومة أو غالبة على الظن، فهذا يجب سَدّه؛ لأن الراتع حول الحمى يُوشِكُ أن يقع فيه، ومنه: القرب من أسباب الذنوب، فإنه يكون ذريعة للوقوع فيها.

أما الذريعة التي أجمع العلماء على أنها لا يجب سدها، وأنها تُلغى وتُهدر: هي أن تكون الذريعة إلى المفسدة تُعارضها مصلحة عظمى أكبر منها، فإن المصالح العظام الكبار تُقدم على المفاسد الصغيرة، وتحرير هذا المقام: أنه إن تعارضت مفسدة أو مصلحة، فإن كانت المفسدة أكبر حُرِّم الفعل إجماعاً؛ لأن مفسدة سب الله أكبر من مصلحة سب الأصنام، وإن كانتا متساويتين وجب إلغاء المصلحة إجماعاً، أما إن كانت المصلحة راجِحَة هي أكبر وأرجح، والمفسدة صغيرة مرجوحة، ففي هذا تُلغى المفسدة، ويُلغَى سَدّ الذَّرِيعَة إليها؛

(1)

تقدم تخريجه عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

ص: 477

تقديماً لِلْمَصْلَحَةِ الكبرى، ومِنْ أمْثِلَةِ هذا النوع الذي لا يجب سده؛ لأن المصلحة فيه أعظم من المفسدة: غَرْسُ أشجار العِنَبِ، فإن غرس شَجَرِ العِنَب ذريعة إلى عصر الخمر منه، وهي أم الخبائث -قبحها الله- إلا أن هذه المفسدة أرجح منها عموم جميع الخلق بالزَّبِيب والعنب في أقطار الدنيا.

وانظر تَدلِّي دوَالي العِنَبِ

فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ

(1)

لأن العنب والزبيب منفعتان ينتفع بهما جميع الناس، وعصر الخمر من العنب إنما يفعله أفراد قليلة، فذلك الضرر القليل يُلغَى في جنب تلك المصلحة العامة العظمى، ومن أمثلة هذا النوع مِنَ الذَّرَائِعِ الذي أجمع العلماء على أن سَدَّهُ لا يجب؛ لأن المصلحة أرْجَحُ من المفسدة: مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد؛ لأن مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد بأن تكون هذه الدُّور متجاورة، هذه الدار فيها هذا الرجل وبناته وزوجاته وأخواته، وجاره الذي بجنبه معه أيضاً بناته وزوجاته وأخواته؛ لأن المعاونة بين الرجال والنساء مصلحة عامة لا يستغني عنها العالم، فإن المرأة تقوم بشؤون خدمات البيت في خدرها وبيتها، فترضع الرضيع من الأولاد، وتحنو على الفطيم، وتُؤَانِسُ المَرِيضَ، وتقوم على شؤون البيت، وتكنس، وتعجن، وتخبز، فيأتي الرجل من عمله، أو من جهاده فيجد قرينه الآخر الكريم -الذي هو امرأته- قام له بجميع مصالح الدنيا، فهم محتاجون إلى هذا التعاون والاجتماع، مع أن اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون ذريعة إلى وقوع الزنا من بعض الأفراد؛

(1)

هذا البيت من منظومة مراقي السعود، وهو في المتن ص (156).

ص: 478

لأن الرجل يمر من الطريق فتلقي إليه المرأة من الطاقة ورقة فيها موعد يجتمعان فيه، أو يعلو إلى السطح وهي على سطح فيتسايران، كما قال نصر بن حجاج السلمي

(1)

:

لَيْتَني في المُؤَذِّنِينَ نَهَارَا

إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِِ

فَيُشِيرُونَ أَوْ يُشَارُ إِلَيْهِمْ

حَبَّذَا كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ

فهذا قد يقع منه الوصول إلى الزنا من بعض الأفراد، إلا أن هذه المفسدة التي تنشأ من اجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد تنشأ من أفراد قليلة، وهي مغمورة في المصلحة العامة بمعاونة الجنسين التعاون الكريم كما بَيَّنَّا؛ ولهذا لم يَقُلْ أحَدٌ من العلماء في جميع الدَّهْرِ: إنه يجب سد هذه الذريعة، فَيَجِبُ أن يُعْزَل جميع الإناث من القرية، وأن يُعْزَلَ جميع الذكور إلى جهة، وأن يكون جميع الإناث في حصن من الحديد عليه أبواب حديد قوية وأسلاك شائكة، لا يستطيع أحد خَرْقَهَا، وتكون المفاتيح في يد رجل شائب ذي زوجات معروف بالتقى والعفاف، لم يقل هذا أحد من العلماء! فهذه الذريعة أُلْغِيَتْ لهذه المصلحة التي هي أعظم منها.

أما الذَّرِيعة الوسطى التي اختلف فيها العلماء: فَكَبيوع الآجال المعْرُوفَة في عرف أصحاب مذهب مالك ببيوع الآجال، ويسميها الشافعيون والحنبليون:(بيوع العينة) فإن العلماء اختلفوا فيها

(2)

، كأَنْ تَبِيعَ سلعة بعينها لرجل إلى أجل -كأن تبيع له السلعة بأجل إلى شَوَّال- ويكون الثمن عشرة مثلاً، ثم تشتري عين السلعة من ذلك

(1)

مضى عند تفسير الآية (108) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام.

ص: 479

الرجل بدين وأجل مسمى إلى جمادى مثلاً، فإن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فالسلعة رجعت ليد صاحبها، فكأنه آل الأمر أنه يأخذ عشرة في شوال، فإذا كان جمادى أخذ عشرين عن العشرة التي أخذ في شوال

(1)

، فهذا بالنظر إلى ما يؤول إليه عين الربا، وهو عشرة بعشرين مؤجلة، أما بالنظر إلى ذات العقدين فالعقد الأول عقد على سِلْعَة بِأَجَل دَيْن إلى أَجل مسمى، والعقد الثاني عقد أيضاً على سلعة بأجل إلى أجل مسمى، وكان الشافعي رحمه الله يجيز مثل هذا ويقول: إن هذا مباح؛ لأن كلا العقدين مباح في ذاته، وكان غيره يحرمه؛ سدّاً للذريعة؛ لئلا يقصد ببيع السلعة وشرائها أن تكون السلعة أداة لأن يأخذ عشرة ويأخذ بعدها عشرين، وكانت عائشة ترى أن هذا حرامًا، وكان زيد بن أرقم رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى -رأي الشافعي في هذا- أنه حلال، قالت عائشة لامرأته: قولي لزيد: إن لم يرجع عن هذا الربا فإنه يبطل جهاده مع رسول الله

(2)

،

وكان الشافعي رضي الله عنه يقول: اختلف زيد وعائشة، والقياس يؤيد قول زيد؛ لأن كلا العقدين سلعة بيعت بثمن إلى أجل معين. وغيرهم من العلماء -وهم الأكثر- يقولون: هذا قد يكون ذريعة إلى الربا فيجب سدها؛ لأن بيع السلعة

(1)

في المثال المذكور هنا شيء من الاضطراب، وقد ذكر الشيخ رحمه الله هذه المسألة عند تفسير الآية رقم (151) من سورة (الأنعام) ومثَّل لها بقوله:«كما لو باع إنسان سلعة إلى أجل معين بعشرة دراهم مثلاً، ثم اشتراها بثمن أكثر لأبعد من الأول، أو بثمن أقل من الثمن الأول بدون الأجل» اهـ. والعلماء مختلفون في تفسير العينة، والمشهور في معناها: أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. انظر: نيل الأوطار (5/ 207)، القاموس الفقهي ص 270.

(2)

مضى عند تفسير الآية (108) من سورة الأنعام ..

ص: 480

بعشرة إلى شوال، ثم شراءها بعشرين إلى جمادى، فترجع السلعة إلى موضعها، فكأنها لم تخرج، فيؤول الحال إلى أن يستلم عشرة في شوال، ثم يأخذ عوضاً عنها عشرين في جمادى، فهذا ذريعة إلى الربا يجب أن تسد، فهذه هي الواسطة المُختَلَف فيها، فالشافعي وأصحابه وزيد بن أرقم من الصحابة يرون جواز مثل هذا، وأن هذه ذريعة لا يجب سدها، ومالك وأحمد وعائشة وطوائف من العلماء يرون وُجُوب سد هذه الذريعة، فهذا هو الكلام باختصار على أنواع الذرائع، وما يجب سده منها بالإجماع، وما لا يجب بالإجماع، وما اختُلف فيه.

ومن الأدلة على سد الذريعة في الجملة: هذه الآية الكريمة؛ لأن الله لما قال: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ} ولم يقل: لا تفعلوا الفواحش. علمنا أنه أراد سد الطريق إليها بعدم القرب منها؛ لأن القرب من الشيء ذريعة إلى الوقوع فيه، [22/أ] /والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والخطاب لعامة الناس.

والفواحش: جمع فاحشة، وقد تقرر في علم النحو أن (الفَاعِلَة) تُجمع جمع كثرة -جمع تكسير- على (فَوَاعِل) بقياس مطرد

(1)

، والواو في (الفواحش) مُبْدَلَة من الألف التي في مفرد الفاحشة

(2)

. فـ (الفَاعِلَة) تُجمع على (فَوَاعِل) بقياس مطرد.

ومعنى الفاحشة: أصل الفُحْش في لغة العرب: هو كل شيء

(1)

انظر: الأشموني (2/ 449).

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (212).

ص: 481

بلغ نهايته تسميه فاحشة

(1)

.

والفاحشة في اصطلاح الشرع: الخصْلَة المُتَنَاهِيَة في القُبْحِ

(2)

، فكل خصلة تناهت وبلغت غايتها في القبح [تُسميها]

(3)

العرب فاحشة، ومن قال: إن أكثر إطلاقها في القرآن على الزنا ودلالة اللسان

(4)

، فهو خلاف التحقيق؛ لأن الفاحشة تطلق على كل خصْلَةٍ رديئة بالغة في القُبح والفحش، هذه هي الفاحشة، وكل بالغ غايته في الشيء فهو فاحش، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته

(5)

:

أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي

عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَدِّدِ

يعني بقوله: (الفاحش) البالغ غاية الحرص على ماله، و (الفواحش) هنا: هي السيئات العظام المتناهية في القبح، نهى الله خلقه عن أن يقربوا من كل خصلة سوء قبيحة يحرمها الشرع ويحذر الله منها، ثُمَّ عَمَّمَ هذا تعميماً عظيماً فقال:{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: آية 151] فقوله: {مَا} بدل من (الفواحش) و {وَمَا بَطَنَ} عطف عليه، والمعنى: احذروا كل الحذر، وتجنبوا كل التجنب جميع الفواحش، سواء في ذلك ما هو ظاهر

(1)

انظر: المصباح المنير (مادة: فحش) ص (176)، المفردات (مادة: فحش) (626).

(2)

انظر: الكليات ص (675).

(3)

في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(4)

انظر: الكليات ص (674).

(5)

شرح القصائد المشهورات (1/ 83).

ص: 482

منها، وما هو باطن منها، كما قدمنا في قوله:{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: آية 120].

اعلموا أن في {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} تفسيرات خاصة لبعض السلف، ليس المراد بها الحَصْر، وإنما المراد بها التمثيل للظاهر والباطن

(1)

، كقول بعض العلماء: إن العرب كانوا على قسمين فيهم أراذل أنذال يزنون بالنساء في الحواري، من غير محافظة من مرأى الناس، وفيهم ناس لهم نخوة، يجتنبون الزنا بمرأى من الناس، فيتخذون الصديقات والخدينات، ويزنون بهن سرّاً من غير أن يطّلع الناس، فنهى الله عن باطن الزنا وعن ظاهره، وكقول بعض السلف: إن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : هو ما تفعله الجوارح؛ مِنْ سَرِقَة وزنا وغصب وغير ذلك، و {وَمَا بَطَنَ} هو ما يحتوي عليه القلب من الكبائر القلبية؛ كالعُجْب والرياء والكبر والحسد، وما جرى مجرى ذلك من أمراض القلوب كل هذا من الأمثلة.

والتحقيق: أن الآية الكريمة عامة، والخطاب بها عام، فيجب على كل مُكَلَّف أن يَتَباعَدَ من كل معصية خسِيسَةٍ، سواء كان ذلك ظاهراً بمرأى الناس، كالذي يزني والناس ينظرون، أو يقتل والناس ينظرون، أو يرتكب محرَّماً ظاهراً علناً يراه الناس، وكالذي يفعل الفواحش سرّاً من غير اطلاع الناس، سواء الذي يزني من غير أن يراه الناس، والذي يسرق خفية من غير أن يراه الناس، وهذا لا يفعله إلا مَنْ هو في غاية الجهل؛ لأنه إذا خاف أن يطّلع الناس عليه، وترقّب للفاحشة أن تكون باطنة لا يراها الناس، أليس هو يعلم أن خالقه

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 218 - 220).

ص: 483

يَرَاهُ؟ وأن الحفظة الملائكة الكرام حاضرون معه، يُسَجِّلُون عليه ما فعل؟! فَعَلَى المسلم إذا خلا بالأمر، وسَوّلَ له الشيطان أن يفعل تلك الفاحشة؛ لأن الناس لا يرونه، وأنه لا يطّلع عليه أحد، كالذي يخلو بامرأة في محل مقفول، يأمن عيون الناس فيه، فيُخَوِّل له الشيطان الريبة معها، عليه أن ينظر أن الله رقيب عليه، وأن الملائكة الكرام معه {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7]، وعلى الشخص أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: الآيات 10 - 12] فالذي يستحيي من البشر الضعاف الذين لا يقدرون أن يضروه، ولا يستحيي من خالق السماوات والأرض، فهو مجنون جاهل.

واعلموا أولاً أنَّا نذكر أشياء في ضوء آيات القرآن عامَّة، على سبيل النصيحة والإرشاد لعموم إخواننا المسلمين، في ضوء القرآن العظيم، من غير أن نقصد التعريض بشخص معين، ولا بجهة معينة.

وإذاً فإنَّا نعلم أن من الفواحش الباطنة أكل الرُّشَا، فهذا الإنسان الخسيس الذي يخاف أعين الناس، ثم يأخذ الرّشوة بحيث لا يراه أحد ظلماً وعدواناً، خيانة لولي أمر المسلمين، الذي ولاه المركز على أنه يكون ناصحاً في غاية النصح والنزاهة والأمانة، وخيانة لربه المطّلع عليه، حيث يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله!

وعلى هذا فاعلموا أن الرشوة أقسام: منها ما يُرادُ بِهِ إبطال حق أو إحقاق باطل، كالذي يَدْفَعُ مالاً لمسئول بيده الأمر، ولّاه إياه ولي أمر المسلمين، ليُبطل له حقّاً أو يُحق له باطلاً، فهذا النوع من أخبث الرُّشَا وأخسّها، وصاحبه من أهل النار؛ لأنه أخذ هذا الأخذ الخسيس

ص: 484

الخبيث الخائن، وهذه الفاحشة الباطنة، يريد أن يحقق بها ما أبطله الله، ويبطل بها ما أحَقَّهُ الله، فعَلَيْنَا جميعاً أن نعلم أن مثل هذه الأفعال بالغة من الخساسة والانحطاط ما ينبغي لمن كان له [عقل]

(1)

حتى ولو لم يكن له دين وله نخوة وإنسانية وضمير أن يتباعد عن هذا الخلُق الخسيس المنحطّ؛ لأن أكبر نعمة في الدنيا يراها الإنسان أن يكون إذا راجع نفسه فيجد نفسه مرضياً ضميره، لم يرتكب خسيسة، ولا شيئاً يفضحه، هذه أكبر نعمة، وأخس الأشياء: الذي يرتكب الخسائس والفواحش الباطنة مسْتَخْفِياً بها من الناس ولم يستخف بها من الله، يتجرأ على خالق السماوات والأرض، ويستخفي من الناس [وكان الواجب عليه أن يراقب ربه، ويجتهد في أن يُقدم للناس]

(2)

خدمة نزيهة إنسانية، يلقى بها ثوابه عند الله، ويرضي بها ضميره، ويرضي بها الحَفَظَة الملازمين له، مع أنه يتقاضى من بيت مال المسلمين على ذلك شيئاً يسد أَوَدَه وخَلَّتَه، لئلا يضطر إلى ما لا ينبغي، فعلى هذا المسلم أن يُنَزِّهَ ضَمِيره، ويكرم ربه، ويكرم الملائكة الذين مَعَهُ، وأن يُكْرِمَ وَلِيَّ أمر المسلمين الذي حَطّه في ذلك الموضع، ولا يخون؛ لأن الإنسان إذا كان يَجِيئه مِسْكين ضعيف، له حق ثابت له شرعاً، سواء كان إداريّاً أو قضائيّاً، ثم إنه يُسوِّفه ويقول له: بعد بُكرَة، ثم بعد بُكْرَة، ثم بعد أسبوعين!! وهو حقه جاهز لا شيء دونه ولا عقبة، ولم ينقصه إلا

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

(2)

في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى ..

ص: 485

التوقيع، يريد بذلك أن يضطر المسكين إلى أن يعتصر منه فلوساً ظلماً بسطوة الحكومة وسلطتها، خيانة ومكراً وغدراً!! فهذا الشيء الذي يعرق منه الجبين، فعلى الإنسان أن يتجنبه كل التجنب؛ لأنه مما بَطَنَ من الفواحش، ومع شدة حرمته عند الله، وخساسته من جميع الوجوه، وأن صاحبه لم يتق الله، بل خاف الناس، ولم يفعله أمام الناس خوفاً من الناس، ولم يتق خالقه الذي شق عينيه، وفتح فمه وأنفه، ولم يتق الحَفَظَة الكاتبين معه، فهذه أمور فظيعة شنيعة، نرجو الله أن ينقذنا وإخواننا المسلمين من الوقوع في أمثالها من السفالات التي تربأ الحمير عنها بأنفسها؛ لأن هذا أمْرٌ قَبيح، والأمر إذا كان جامعاً بين شدة القبح وشدة التحريم عند الله فلا ينبغي للعاقل أن يرتكبه.

إِنَّ لِلْعَارِ فَاخْشَهَا مُوبِقَاتٍ

تُتَّقَى مِثْلَ مُوبِقَاتِ الذُّنُوبِ

(1)

وعلى كل حال فهذه الآية الكريمة -من سورة الأنعام- نهى الله فيها جميع خلقه عن أن يقربوا من خصلة خسيسة محرمة، أن يقربوا منها فضلاً عن أن يرتكبوها، سواء كان في الظهور والعلن بحيث يراه الناس، أو في الباطن بحيث لا يطلع عليه إلا الله والحفظة الكرام الكاتبون معه، والله (جل وعلا) يقول:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: آية 18]{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16] فعلى كل مسلم إذا قام بخدمة لأمته أن يخدم أمته بشرف وكرامة ونزاهة؛ ليرضي بذلك الله، ويرضى عنه الحفظة الذين معه، ولا يرفعوا عنه في ليله ونهاره إلى

(1)

لم أقف عليه.

ص: 486

السماء إلا عملاً يبيض وجهه، ويرضي الله، ثم يكون مُرضياً ضميره، أما الذي يُلغي هذه الأوامر، ويتنازل إلى هذه الخسة لينال عرضاً قليلاً من الدنيا فهذا ساقط المروءة والدين، وهو عند الله في شرّ مكانة -والعياذ بالله- ألا ترون أن عنترة بن شداد كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولم يأته نذير، بل هو جاهلي، إلا أن عنده ضميراً حيّاً وشيمة عربية، يقول في معلقته

(1)

:

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ

حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَأْكَلِ

فالذي يكون غير محتاج، وهو يقع في هذه المآثم الخسيسة، هذا لا ينبغي، فنحن نُحَذِّرُ منه إخواننا، ونرجو الله لنا وللجميع أن يوفقهم إلى ما يرضيه من نزاهة تليق، ومعاملة سليمة، والقيام بالخدمة على الوجه اللائق الذي يرضي الله، ويرضي الضمير الإنساني، ويُرْضِي وَلِيَّ الأمْرِ الذي جعل الشخص ممثلاً له في ذلك المحل، والآية عامَّة.

هذا معنى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} [الأنعام: آية 151] لا شك أن قتل النفس التي حرم الله أنه داخل في (الفواحش) إن فعله علناً أمام الناس فهو داخل فيما ظهر، وإن قتله غيلة من حيث لا يراه الناس فهو داخل فيما بطن؛ لأن قتل النفس من الفواحش، والله (جل وعلا) خصّه مع أنه داخل في العموم، وفي ذلك حكمتان

(2)

:

أحدهما: تفظيع القتل وتهويل أمره؛ لأن الله يقول: {وَمَن

(1)

ديوان عنترة ص (98).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 252)، الدر المصون (5/ 219).

ص: 487

يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)} [النساء: آية 93].

النكتة الثانية: أن القتل منه ما هو بحق، فلا بد أن يُستثنى بقوله:{وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: آية 151] والاستثناء الذي هو {إِلَّا بِالْحَقِّ} لا يمكن حتى يُخرج القتل من عموم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} أي: التي حرم الله قتلها بأن جعلها معصومة، والنفس المعصومة: هي المعصومة بـ (لا إله إلا الله) من أنفس المسلمين. والمعصومة بأداء الجزية كالذميّين الذين يُؤَدُّون الجزية عن يد وهم صاغرون، فَعِصْمَة دمائهم وأموالهم كالمسلمين، وكذلك المعاهدون الذين يعطيهم الإمام أو غيره من المسلمين عهداً؛ لأن المسلمين يقوم أدناهم -يعني- بعهدهم، فلو أعطى الإمام عهداً لمعاهد يدخل (

)

(1)

فهو إذاً من النفس المحرمة. وجاء في قتله أحاديث مشددة أن صاحبه لا يشم ريح الجنة.

فالنفس التي حرم الله: إما بالإسلام، وإما بالذمة، وإما بالمُعَاهَدَة.

فقوله: {إِلَاّ بِالْحَقِّ} أي: لا تَقْتُلوهَا إلا بالطريق الحَقِّ الموجبة لقتلها

(2)

شرعاً عند الله، وهذه الطريق حصرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود المتَّفَقِ عليه في ثلاث حيث قال: «لَا يَحِلُّ دَمِ

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والمعنى مستقيم بدونها.

(2)

انظر: ابن جرير (12/ 220)، القرطبي (7/ 133).

ص: 488

امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»

(1)

يعني: المرتد؛ لأن في الحديث الصحيح: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(2)

هذا الحديث الصحيح حَصَرَ قتل النفس بالحق في ثلاثة أشياء، وزاد العلماء على هذه الثلاثة أشياء أخرى دَلَّتْ عليها نصوص

(3)

، منها ما هو مختلف فيه.

زاد بعضهم على هذا: المحاربين، على قول مالك ومن وافقه أن آية المحاربين لم تتنزل على أحوال؛ لأن مالكاً لا يقول {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ} [المائدة: آية 33] أي: إذا قتلوا {أَوْ يُصَلَّبُواْ} إذا قتلوا وأخذوا المال {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} إذا أخافوا الطريق ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً. التنزيل على هذه الأحوال، يقول مالك وجماعة من فقهاء الأمصار

(4)

: إن هذا ليس بصحيح، وإن القرآن العظيم لا يجوز أن تُزاد فيه قيود لم يدل عليها كتاب ولا سنة. وهذه القيود التي عليها جماهير من العلماء لم يأتِ بها نص صحيح، وإنما جاء فيها حديث

(1)

أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حديث رقم: (6878)، (12/ 201)، ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، حديث رقم:(1676)، (3/ 1302) من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما.

وقد جاء نحوه من حديث عائشة وعثمان رضي الله عنهما مع تغاير في الألفاظ، وليس شيء منها في أحد الصحيحين.

(2)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 323 - 335)، الفتح (12/ 202 - 204).

(4)

انظر: القرطبي (6/ 152).

ص: 489

عن أنس ضعيف، لم يقل أحد بصلاحيته للاحتجاج

(1)

. فقولٌ عند مالك ومن وافقه في التخيير يقولون: إن الإمام مُخيَّر بين هذه الثلاثة، إن شاء قتلهم وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء قطع أيديهم وأرجُلَهم من خلاف وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً، وإن شاء نفاهم من الأرض، وعلى هذا القول فقتل النفس بالحرابة جائز على الثلاثة.

ومما يزداد على الثلاثة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا»

(2)

هذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الناس إن بايعت خليفة، ثم جاء واحد آخر فبويع له فإنه يُوجب شق العصا وإراقة دماء المسلمين، فيُقتل الأخير ليستتب الأمن، وتتفق كلمة المسلمين على الأول الذي بايعوه.

وفي صحيح مسلم من حديث عرفجة رضي الله عنه: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ وَاحِدٌ، عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ شَقَّ عَصَاكُمْ وَتَفْرِيقَ جَمَاعَتِكُمْ فَاقْتُلُوهُ» وفي رواية: «فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ»

(3)

، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «مَنْ بَايَعَ إِمَاماً وَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ

(1)

وفيه: «قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله

» أخرجه ابن جرير، وأشار لضعفه في التفسير (10/ 250، 267) وفي سنده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف. وانظر النسائي (7/ 98).

(2)

أخرجه مسلم في الإمارة، باب إذا بُويع لخليفتين، حديث رقم (1853)، (3/ 1480).

(3)

مسلم في الإمارة، باب حكم من فَرَّق أمْر المسلمين وهو مجتمع، حديث رقم:(1852)، (3/ 1479).

ص: 490

الْآخَرِ»

(1)

، هذه أحاديث ثابتة عن صحابة بِقَتْل هذه النفس، زيادة على الثلاث المذكورة.

وزَاد جمهور العلماء عليها: تارك الصلاة

(2)

، فإن جمهور العلماء -منهم مالك، والشافعي، وأحمد- على أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَل، واستدلوا على قتله بمفاهيم كثيرة من أحاديث كثيرة وآيات، كقوله:{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: آية 5] وكقصة الرجل الثابتة في الصحيح، الذي تكلم في النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قِسْمَة ما أُريد به وجْه الله!! فقال بعض الصحابة: دَعْنِي أضرب عنقه. قال: «أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟! قال: يُصلي ولا صلاة له!! قال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ»

(3)

يعني: المصَلِّين، فدل

(1)

مسلم في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، حديث رقم:(1844)، (3/ 1472).

(2)

انظر: التمهيد (4/ 224) فما بعدها، الاستذكار (5/ 341) فما بعدها، المغني (2/ 298 - 302)، (10/ 85)، نيل الأوطار (1/ 287)، كتاب الصلاة لابن القيم.

(3)

ما ذكره الشيخ رحمه الله هنا مُرَكَّب من حديثين وَهِم الشيخ رحمه الله فأدخل أحدهما في الآخر.

أما الأول: فمن حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قَسْماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال:«يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وقد أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخُمس ونحوه، حديث رقم:(3150)، (6/ 251)، وأطرافه في:(3405، 4335، 4336، 6059، 6100، 6291، 6336)، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث رقم:(1062)، (2/ 739).

وأما الحديث الثاني: فهو من حديث عبد الله بن عدي الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس بين ظهراني الناس جاء رجل يستأذنه أن يُسَارَّه، فأذن له فَسَارَّه في قتل رجل من المنافقين يستأذنه فيه، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه فقال:«أليْسَ يشهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال:«أليْسَ يَشْهَدُ أن محمَّداً رَسُولُ اللهِ؟» قال: بلى، ولا شهادة له. قال:«أَلَيْسَ يُصَلِّي؟» قال: بلى، ولا صلاة له. قال:«أولَئِكَ الَّذِين نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ» .

وهذا الحديث بعضهم يرويه موصولاً مسنداً، وبعضهم يرويه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار -وهو الذي رواه عن عبد الله بن عدي الأنصاري- مرسلاً.

وقد أخرجه مالك في الموطأ (119)، والشافعي في الأم (6/ 157)، وعبد الرزاق (10/ 163)، وأحمد (5/ 432 - 433)، وعبد بن حميد (1/ 177)، والبيهقي (3/ 367)، وابن حبان (الإحسان 7/ 584)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 912 - 914)، وللحديث شواهد، انظر: التمهيد (10/ 149).

ص: 491

بمفهومه على أن الذي لا يُصلي أنه يُقتل، وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أئمة السوء، وأنه سيلي عليكم قوم تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا له: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»

(1)

، فدل على أن المانع من قتلهم إقامة الصلاة.

والأحاديث في مثل هذا كثيرة، ولذا كان ثلاثة من الأئمة على أن تارك الصلاة يُقتل، ومشهور مذهب مالك ومذهب الشافعي أنه يقتل حدّاً لا كفراً، بناء على حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه:«إِنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ» -إلى أن قال في آخر الحديث-: «وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ

(1)

مسلم في الإمارة، باب: خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم:(1855)، (3/ 1481).

ص: 492

غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»

(1)

،

وكان الإمام أحمد في أصَحِّ الروايتين يرى أنَّ تَارِكَ الصلاة يُقْتَلُ كُفْراً

(2)

، وقَدْ دلَّت على ذلك أحاديث كثيرة:«مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» ، «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ تَرْكُ الصَّلَاةِ»

(3)

في أحاديث تُصَرِّحُ بأنه كافر، وأكثر العلماء على أنَّ قَتْلَهُ حد، وأصرح الأدلة تدل على أنه كافر، وهي أكثر وأشْهَر من حديث

(1)

أخرجه مالك في الموطأ، في صلاة الليل، باب الأمر بالوتر، حديث رقم (266) ص (90)، وعبد الرزاق رقم:(4575)، وأحمد (5/ 315 - 316، 319)، وابن أبي شيبة (2/ 296)، والحميدي رقم:(388)، والدارمي (1/ 371)، وأبو داود في الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، حديث رقم:(421)، (2/ 93) وفي باب: فيمن لم يوتر، حديث رقم:(1407)، (4/ 294)، والنسائي في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس، حديث رقم:(461)، (1/ 230)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، حديث رقم (1401)، (1/ 249)، والبيهقي (1/ 361)، (2/ 8، 215، 467).

والحديث صححه ابن عبد البر في التمهيد (23/ 288)، وساق طرقه في الاستذكار (5/ 261) وانظر: صحيح أبي داود (1/ 85، 266)، صحيح النسائي (1/ 100)، المشكاة رقم:(570).

(2)

الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَة رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم:(2621)، (5/ 13 - 14)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم:(463)، (1/ 231)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم:(1079)، (1/ 342)، والحاكم (1/ 7).

وانظر: صحيح الترمذي (2/ 329)، صحيح ابن ماجه (1/ 177)، المشكاة، رقم (574) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (46).

(3)

الجملتان من حديث واحد عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم:(2621)، (5/ 13 - 14)، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم:(463)، (1/ 231)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم:(1079)، (1/ 342)، والحاكم (1/ 7).

وانظر: صحيح الترمذي (2/ 329)، صحيح ابن ماجه (1/ 177)، المشكاة، رقم:(574) تخريج الإيمان لابن أبي شيبة (46).

ص: 493

عبادة بن الصامت، إلا أن الجمهور الذين قالوا: إن قتله ليس بكفر، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ كُفْراً، ولَكِنَّهُ قد يجيء في الشرع تسمية أشياء بالكفر وليست بمُخْرِجَة عن الإسلام، كقوله:«سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»

(1)

والمراد: أنه ليس بكفر حقيقي، وكقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي رَأَيْتُ النَّارَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء» . قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بِكُفْرِهِنَّ» هذا ثابت في الصحيح. فلما استُفسر عن كفرهن، قال:«يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ»

(2)

واسْتَدَلوا بعموم الآيات،

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم:(48)، (1/ 110)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديث:(6044، 7076)، ومسلم في الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:«سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» حديث رقم: (64)، (1/ 81).

(2)

روى هذا الحديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:

1 -

ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات، حديث رقم (79)، (1/ 86).

2 -

أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عند البخاري في كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، حديث رقم:(304)، (1/ 405)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(1462، 1951، 2658)، ومسلم في صلاة العيدين، حديث رقم:(889)، (2/ 605).

وراجع في حديث أبي سعيد أيضاً: البخاري، الأحاديث:(101، 1249، 7310)، ومسلم حديث رقم:(2633).

3 -

زينب امرأة ابن مسعود عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة الحُلِي، حديث رقم:(635، 636)، (3/ 19).

وأصله في الصحيحين: البخاري في الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، حديث رقم:(1466)، (3/ 328)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، حديث رقم:(1000)، (2/ 694).

ص: 494

كقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] فالحاصل أن جمهور العلماء وفقهاء الأمصار -منهم الأئمة الثلاثة- على أن تارك الصلاة يُقْتَل؛ لأن الله يقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: آية 5].

أما مانع الزكاة فإنه يقاتل، يُقال له: أخرج الزكاة، فإن أبَى أُخرجت قسراً عليه، فإن مَنَعَها قُوتل دونها

(1)

، والقتال غير القَتْل، وهو الذي فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزَّكَاة، قاتلهم، فالذي يُفعل بمانع الزكاة قِتال لا قتل؛ لأنه يُؤْمَر بإِخْرَاجِهَا، فإن أبَى أُخِذَت منه قَهْراً، فإن جاء دونها قُوتل حتى يُقْتَل، هذا هو المعروف.

وفي كون تارك الصلاة يُقْتَل عند الجمهور، عند من يقول إنه يُقْتَل كُفْراً، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، وهو رواية عن مالك، ودلت عليه أحاديث صريحة صحيحة في صحيح مسلم وغيره أنه كافر، وعلى قول مالك والشافعي: أنه يُقتل حدّاً، قالوا: لم يُعْرَف عن السلف أن الذي كان لا يصلي أنهم لا يَرِثُون بعده، ويجعلونه كالكافر المُرْتَدّ الذي يُرد نصف ماله إلى بيت مال المسلمين، هكذا قالوا، والخلاف مشهور، فبهذا نعلم أن تارك الصلاة: الشرع يقتله، وأن الحياة التي يعيش بها ليست حياة شرعية، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حسّاً، فمثال تارك الصلاة عند أرْبَابِ العُقُولِ مثال الميتة، الإنسان الميت الذي هو منتن في ريحه، فيمشي بين الناس يأكل

(1)

انظر: المغني (2/ 435 - 438).

ص: 495

ويشرب؛ لأن حياته التي يَعيشُ بها ليست حَيَاةً شَرْعِيَّة، وإنما هي حياة غير شرعية، والمعْدُوم شرعاً كالمعدوم حسّاً.

وخالف في هذا أبُو حَنِيفَةَ الجمهور، فقال: لا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ

(1)

، واستدل بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم حصر القتل في ثلاث:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» ، قال أبو حنيفة: هذا حصر من النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث، ولم يذكر فيها تارك الصلاة، فلا يمكن أن نخرق هذا الحصر، مع أن قتل تارك الصلاة أغلب أدِلَّتِهِ مفاهيم الأحاديث، وظواهر من آيات لا تكون مثل الصريح في قوله:«لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ»

(2)

هذا مذهب أبي حنيفة ووجهة نظره.

وزاد بعض العلماء أشياء أُخَر، منها: الساحر، فإنه يُقْتَل عند العلماء

(3)

، وجاء في بعض روايات البخاري من حديث بَجَالَة:«اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ»

(4)

وثبت عن ثلاثة مِنَ الصَّحَابَةِ قتل

(1)

مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.

(2)

مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.

(3)

انظر الفتح (10/ 236)، الاستذكار (25/ 237) فما بعدها.

(4)

هذا الأثر قطعة من كتاب عمر لبعض عُمَّالِهِ، فهو موقوف عليه، وقد أخرجه عبد الرزاق (9972، 9973، 18745 - 18746، 18748، 18756)، وأحمد (1/ 190 - 191)، وأبو عبيد في الأموال رقم:(77) ص (35)، وأبو داود في الخراج والفيء والإمارة، باب في أخذ الجزية من المجوس، رقم:(3027)، (8/ 294)، وأبو يعلى رقم:(861،860)، (2/ 166 - 163)، والبيهقي (8/ 136، 247 - 248)، وابن حزم في المحلى (11/ 394، 397)، وابن عبد البر في الاستذكار (37942 - 37943)، وقد أخرج البخاري أصل الحديث من غير موضع الشاهد، كما في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، رقم (3156)، (6/ 257)، كما أخرجه مختصراً من غير موضع الشاهد آخرون كالشافعي في الرسالة والأم، والدارمي، والترمذي، والطيالسي، وغيرهم.

ص: 496

الساحر؛ عن عمر بن الخطاب

(1)

، وحفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب

(2)

، وجندب رضي الله عنه في قتلته المشهورة للساحر الذي كان عند الوليد بن عقبة بن أبي معيط في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه

(3)

.

وزاد بعض العلماء: مَنْ زنى ببهيمة من البهائم، فإن بعض العلماء يقول: من وَقَعَ على بهيمة من البهائم قُتِلَ هو وقُتِلَتْ هي. وهذا ورد فيه حديث أخرجه أبو يعلى وابن ماجه، قال صاحب مجمع الزوائد في السند الذي أخرجه به أبو يعلى: فيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رواته ثقات، فهو صالح للاحتجاج

(4)

،

(1)

راجع الأثر المتقدم، وورد من فعله -أيضاً- عند عبد الرزاق، رقم:(18755)، وابن حزم في المحلى (11/ 397).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر، رقم:(1585) ص (628). عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بلاغاً، وقد جاء موصولاً عند عبد الرزاق رقم (18747، 18757)، والبيهقي (8/ 136)، وابن عبد البر في الاستذكار (37921 - 37924)، وابن حزم في المحلى (11/ 394، 395).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 181 - 182)، والبيهقي (8/ 136)، وابن عبد البر في الاستذكار (25/ 240)، وابن حزم في المحلى (11/ 396).

(4)

أخرجه أبو يعلى (5987)، (10/ 389) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ في التلخيص (4/ 55):«وفي إسناده كلام» اهـ. وقال الهيثمي (6/ 273): «رواه أبو يعلى» وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات» اهـ. وانظر: الإرواء (8/ 15).

ص: 497

أما حديث ابن ماجه، وهو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس

(1)

. وبعض علماء الحديث يقولون: داود بن الحصين ثقة في غير عكرمة، كما هو معروف في محله

(2)

. ففي ظاهر حديث ابن عباس هذا الذي أقلّ درجاته الحُسْن أخذ بعض العلماء، فقال: يُقتل الزاني بالبهيمة، وتُقتل البهيمة معه. ومن العلماء من يقول: لا يُؤكل لحمها، ومنهم من يقول: يُؤكل لحمها، كما هو معروف في الفروع

(3)

،

وأكْثَر العلماء يقولون: مَنْ زَنَى بِبَهِيمَةٍ لا يُقْتَل؛ لأن حديث ابن مسعود الذي حصر أكْثَر القتل في ثلاث لا يُنقَض حصْرُهُ بهذا الحديث الذي سَنَدُهُ أضْعَف منه

(4)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (13492)، وأحمد (1/ 269، 300)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن أتى بهيمة، حديث رقم:(4440)، (12/ 157) وقال:«ليس هذا بالقوي» اهـ. والترمذي في الحدود، باب ما جاء فيمن يقع على البهيمة، حديث رقم:(1455)، (4/ 56)، وابن ماجه في الحدود، باب من أتى ذات محرم، ومن أتى بهيمة، حديث رقم:(2564)، (2/ 856)، والبيهقي (8/ 232، 233، 234)، والحاكم (4/ 355)، والدارقطني (3/ 126 - 127)، وأبو يعلى (2462، 2743)، (4/ 346 - 347، 5/ 128 - 189) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال الحافظ في التلخيص (4/ 55): «وفي إسناد هذا الحديث كلام» اهـ. وانظر: الدراية (2/ 104)، نصب الراية (3/ 342)، الإرواء (8/ 13)، صحيح أبي داود (3/ 844)، صحيح ابن ماجه (2/ 83)، صحيح الترمذي (2/ 75).

(2)

انظر: تهذيب التهذيب (3/ 157)، التقريب ص (305).

(3)

انظر: المغنى (10/ 164 - 165) ..

(4)

المصدر السابق: (10/ 163 - 164).

ص: 498

وزادوا أيضاً: فاعل فاحشة اللواط، فإنه جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ»

(1)

وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وغيرهم، وصحَّحه بعض الحفاظ، وبه عمِل جماعة من العلماء، قالوا: إن من فعل فاحشة قوم لوط إنه يُقتل الفاعل والمفعول معاً، ففي هذا الحديث زيادة على الثلاثة، فهذه أشْيَاء دَلَّتْ عَلَيْهَا نصوص أُخَر اختلف فيها العلماء، فمن يقول: إن صاحبها يُقتل. يقول:

(1)

أخرجه عبد الرزاق (13492)، وأحمد (1/ 300)، وأبو داود في الحدود، باب فيمن عَمِل عَمَل قوم لوط، حديث رقم:(4438)، (12/ 153)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي، حديث رقم:(1456)، (4/ 57)، وابن ماجه في الحدود، باب من عَمِلَ عَمَل قوم لوط (2561)، (2/ 856)، والدارقطني (3/ 124)، والبيهقي (8/ 232)، والحاكم (4/ 355)، وأبو يعلى (2463، 2743)، (4/ 348، 5/ 128 - 129)، وابن الجارود (2/ 119 - 120) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وانظر: الدراية (2/ 103)، نصب الراية (3/ 339)، والإرواء (8/ 16 - 17)، صحيح أبي داود (3/ 844)، صحيح الترمذي (2/ 76)، صحيح ابن ماجه (2/ 82 - 83)، المشكاة (3575)، وضعفه الحافظ في الفتح (12/ 204).

وجاء نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي في الحدود، باب ما جاء في حَدِّ اللوطي (4/ 58). وقال:«هذا حديث في إسناده مقال، ولا نعرف أحداً رواه عن سهيل بن أبي صالح غير عاصم بن عمر العمري، وعاصم بن عمر يُضعف في الحديث من قِبَل حفظه» اهـ.

قال الحافظ في التلخيص (4/ 54): «وإسناده أضعف من الأول -يعني حديث ابن عباس- بكثير» اهـ. وقال أيضاً (4/ 55): «وحديث أبي هريرة لا يصح» اهـ. وكذلك ضعفه في الفتح (12/ 204).

وانظر: نصب الراية (3/ 340)، الدراية (2/ 103)، والإرواء (8/ 17).

ص: 499

هي داخلة في قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} . ومن يقول: إن صاحبها لا يُقتل. يقول: لم تدخل في قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} لأنها عارضها ما هو أقوى منها، وهو حديث ابن مسعود المتفق عليه: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ

» الحديث

(1)

، وهذا معنى قوله:{وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} .

ثم قال جل وعلا: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: آية 151]. الإشارة مفردة، والمُشار إليه كثير؛ لأن هذا شامل لـ {أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هذه الآية الأولى من هذه الآيات المحكمات تضمنت خمسة أحكام شرعها الله في جميع الأديان، ولم يَنْسَخ شيئاً منها في لسان نبي، والمعنى: ذلكم المذكور؛ لأن (ذا) إشارة إلى مفرد، والمشار إليه جماعة، وهذا معروف في كلام العرب أن يُشيروا إلى التثنية أو الجمع بإشارة المفرد؛ لأن المقصود:(ذلكم المذكور) وقد أوضحنا هذا في البقرة

(2)

، في الكلام على قوله:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: آية 68] أي بين ذلك المذكور من الفارض والبكر فرجع المفرد على الاثنين، ونظيره من كلام العرب: قول عبد الله بن الزّبَعْرى

(3)

:

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى

وَكِلَا ذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ وَقَبَلْ

(1)

مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.

(2)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 500

فأشار بـ (ذلك) إلى اثنين. ولمّا سُئل رؤبة بن العَجاج في رَجَزِيَّتِه القَافِيَّة المشهورة، قال فيها

(1)

:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي اللَّيْلِ تَوْليعُ البَهَقْ

فقال له قائل: لِم قلت: «كأنه» بإفراد الضمير المذكر، إن كنت تعني الخطوط كان اللازم أن تقول:«كأنها» وإن كنت تعني السواد والبلق كان اللازم أن تقول: «كأنهما» فمن أين جئت بقوله: «كأنه» ؟ قال: أعني (كأنه) أي: جميع ما ذُكر، ولذلك قوله:{ذَلِكُمْ} أي: جميع ما ذُكر من الأحكام الخمسة وصى به الله. وهذه الآية الكريمة فيها سرّ لطيف؛ لأن الذي يوصيك كأنه يعتني بك، ويجعل الأمر إليك.

والوصية في لغة العرب: هي الأمر المؤكد

(2)

. تقول: أوصيتُ فلاناً على كذا: أمَرْتُهُ بِهِ أَمْراً مُؤَكَّداً.

{ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ} الله {بِهِ} على لسان نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، أمركم به

{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (لعل) في القرآن فيها أقوال معروفة للعلماء

(3)

، أقربها وأشهرها قولان:

أحدها: أنها على بابها من التَّرَجِّي، والمعنى: ذلكم وصاكم به على رجاء أنكم تعقلونه عن الله، وهذا الرجاء مُنْصَرِف إلى الآدميين الذين لا يعرفون عواقب الأمور، أما هو (جل وعلا) فهو عالم عاقبة الأمور، وما يجري عليه معنى (لعل)، ولذا قال لموسى وهارون في

(1)

السابق.

(2)

انظر: القرطبي (7/ 134)، البحر المحيط (4/ 252).

(3)

مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

ص: 501

فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائكما أنه يتذكر، والله يعلم أنه لا يذكر ولا يخشى.

القول الثاني: هو ما قالته جماعة من علماء التفسير: أن كل (لعل) في جميع القرآن معناها التعليل إلا التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: آية 129] زعموا أنها بمعنى: (كأنكم).

والتحقيق: أن (لعل) تكون حرف تعليل، هذا لا شك فيه، وعليه فالمعنى: وَصَّاكُمْ به لأجل أن تعقلوا هذه الوصية عنه، فتمتثلوا أمره، وقال تعالى:{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: آية 78] أي: جعل لكم هذه الأسباب والنعم لأجل أن تشكروه، ومن إتيان (لعل) في كلام العرب بمعنى التعليل قول الشاعر

(1)

:

فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُروبَ لَعَلَّنَا

نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِق

فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكْمِ

كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالمَلَا مُتَأَلِّق

فقوله: (كفوا الحروب لعلنا نكف) أي: كفُّوا عنّا لأجل أن نكف عنكم. هذا معروف في كلام العرب.

وقوله: {تَعْقِلُونَ} معناه: تدركون بعقولكم؛ لأن العقل هو الذي فيه الإدراك، والعقل: نور روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، وقد ذكرنا فيما مضى أن مركزه القلب لا الدماغ

(2)

، كما صرح به الله، وصرح به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مَنْ

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

ص: 502

خَلَق العقل وأبْرَزَهُ مِنَ العدم إلى الوجود، أنه أعلم بموضعه من كَفَرَةِ الفَلَاسِفَة الذين يَتَحَكَّمُون على الله ويخالفونه من غير دليل ولا برهان، وهؤلاء الذين ينفون هذا؛ لأنهم يقولون -زعموا- أن بعض الناس صار يُجعل له قلبُ واحدٍ آخر، ولو أن هذا -لو فرضنا- صح، وأنه يدل على أن العقل ليس في القلب، فهذا لا دليل فيه؛ لأن العقل أصله نور روحاني -آلة للنفس- تُدْرِكُ بِهِ النَّفْسُ العُلُومَ الضَّرُورِيَّة والنظرية، ومحله القلب الذي في الصدر، كما قال:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] فَلَوْ فرضنا أن الله خرق العادة وأزال القلب، ولم يمت الإنسان، لم يمنع أن يكون العقل باقياً في محله الذي كان فيه، وقد زالت الأداة الذي كان فيها.

وكذلك لو جُعل قلب آخر، فقد دل القرآن في سورة النور أن القلب كأنه زجاجة، ونور الإيمان فيها الذي يُضاء به كأنه نور، وإذا انكسرت الزجاجة فلا مانع من أن تأتي زجاجة أخرى ويكون فيها النور الذي كان في الزجاجة التي قبلها، وعلى كل حال فلا أحَدَ أصْدَق من الله ولا مِنْ رَسُول الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: آية 140] والله يقول في نبيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] وقد صرح الله ونبيه أن العقل محله القلب، ومن خلق العقل أعلم بمحل العقل، ونحن نعرف أن جميع ما يُؤثِّر على الدماغ يُؤثِّر على العقل، وهذا لا يقتضي أن يكون محل العقل الدماغ؛ لأنه كَمْ مِنْ مَوْضِع من الجسد إذا اخْتَلَّتْ خَانَة من خانات الدماغ اختل ذلك الموضع، وليس يلزم أن ذلك الموضع المختل كان محلُّه في الدماغ، بل هو خارج عن الدِّمَاغ، مشروط بسلامة الدماغ، فالعقل محلّه القلب، ولكن سلامته مشروطة بسلامة

ص: 503

الدماغ، وقد ذكرنا ما ذكره بعضهم جمعاً بين القولين: أن مركزه في القلب، كما قال الله ورسوله، وأن شعاع نوره متصل بالدماغ، فمن قال: إنه في الدماغ قد يكون هذا سائغاً على هذا القول؛ بناء على أن شعَاعَ نُورِهِ متصل بالدماغ، ولكن هذا القول قد قدمنا أنهم لم يستدلوا عليه إلا بدليل استقرائي غير مُقْنِع، والدليل الاسْتِقْرَائِيّ: هو تتبُّع الأفراد، وهو حجة عند الأصوليين، قالوا: قد اسْتَقْرَيْنا نوع البشر، ووجدنا كل رجل أو امرأة إذا كان طويل العنق طولاً مُفْرِطاً خارجاً عن عادة أعناق الناس، لا بد أن يكون في عقله دَخَل. قالوا: وذلك لتباعد ما بين طرفي العقل؛ لأنه إذا بعُد طرف نوره الأعلى من طرفه الأسفل قد يَتَغَشَّى النور الروحاني المعلوم الذي به الإدراك وينقص الإدراك. هكذا زعموا، ولا دليل عليه، والله أصدق من يقول.

يقول الله (جل وعلا): {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: آية 152].

قوله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} كانت عادة العرب أن يأخذوا من اليتيم ماله الذي ترك أبوه، ويظلموه في حقه، ويظلموا المرأة، ويقولون: إن الذي يستحق المال هو من يحمي الذمار، ويُدافع عن الحريم، وهم الرجال الذين يستعينون بالمال على الدفاع، أما اليتيم والمرأة فإعطاء المال لهما ضياع له، وإذا كانوا يدفعون اليتيم عن حقه ويظلمونه كما في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)

ص: 504

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} [الماعون: الآيتان 1، 2] والدَّعُّ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ؛ أي: يدفعه بقوة عن حَقِّهِ ويَظْلِمُه

(1)

، والله (جل وعلا) أرسل هذا النبي الكريم (صلوات الله وسلامه عليه) بكمال الإنصاف، ومكارم الأخلاق، والمحافظة على حقوق الضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن نفسه؛ ولذا نهى عن قُربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ونهى عن ظلم المرأة، وبيَّن أنَّ مَنْ ظَلَمَ المَرْأَةَ تعرض إلى بطش ملك جبار عظيم، حيث قال في سورة النساء:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: آية 34] أي: لا تظلموهن إن أطعنكم وكُنَّ غير ظالمات، ثم أتبع ذلك بقوله:{إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} يعني: من يحافظ على حقوقهن وينتقم لمن ظلمهن عليَّ كبيرٌ عظيمٌ، يُرْهَب منه وتُخافُ سطْوَته.

كذلك قال هنا: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} تكلمنا على الحكمة في النهي عن قُرب الشيء، وأن المراد بها سدّ الذريعة والتباعد منه بالكلية، ومال اليتيم: هو ماله الذي هو ملك له، سواء ورثه من أبيه، أو حصل له بطريق أُخرى، واليتيم (فَعِيْل) من اليُتم، واليُتم في لغة العرب معناه: الانفراد، تقول العرب: هذه يتيمة عصماء، يعنون: ياقوتة منفردة لا نظير لها، وإنما قيل لليتيم (يتيم) لانفراده عن وَلِيِّهِ الذي من شأنه أن يَقُومَ بِأَمْرِهِ وهو أبوه

(2)

. واليتيم في بني آدم: هو مَنْ مَاتَ أبوه وإن كانت أمه حيّة، ولا يُتم بعد بلوغ بإجماع العلماء

(3)

، فالبالغ لا يُسمَّى يتيماً بإجماع العلماء. واليتيم: هو

(1)

انظر: المفردات (مادة: دع)(314).

(2)

انظر: المصباح المنير (مادة: يتم)(260)، المفردات (مادة: يتم) (889).

(3)

انظر: المغني (7/ 306)، القاموس الفقهي ص 392.

ص: 505

الصغير الذي لم يبلغ إذا كان أبوه قد مات، ولو كانت أمه حيّة، هذا هو اليتيم، ويُجمع على (يتامى)، ويستوي في الجمع ذكره وأُنثاه، تقول في جمع اليتيمة: يتامى، وفي جمع اليتيم: يتامى، كما تقدم في قوله:{فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: آية 127] والمعنى: إذا مات والد الإنسان، وبقي الطفل صغيراً مسكيناً لا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولا يقدر على حفظ ماله، فلا تأخذوا ماله وتظلموه لِضَعْفِهِ، بل لا تقربوا مَالَهُ إلا بالتي هي أحسن؛ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال وأنفعها لليتيم، وذلك بالمحافظة عليه وتَنْمِيته وتثميره بالتجارة في مواقع النَّظَرِ والسَّدَادِ، كما قالت عائشة:«اتجروا في [22/ب] أموالِ الْيَتَامَى لا تأكلها/ الزكاة»

(1)

،

(1)

الحديث بنحو هذا اللفظ جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بروايات متعددة (وكلها ضعيفة) ومنها:

1 -

من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم، حديث رقم (641)، (3/ 33)، وأشار عقبه إلى ضعفه، وأخرجه أيضاً الدارقطني (2/ 110)، وأبو عبيد في الأموال (1299)، والبيهقي (4/ 107).

2 -

عن يوسف بن ماهك مرسلاً عند عبد الرزاق (4/ 66)، والشافعي في الأم (2/ 29)، وأبو عبيد في الأموال (1300)، والبيهقي (4/ 107).

وفي الكلام على هذه الرواية والتي قبلها، انظر: تنقيح التحقيق (2/ 1380 - 1384، 1386)، نصب الراية (2/ 331 - 332)، تلخيص الحبير (2/ 157 - 158)، إرواء الغليل (3/ 258).

3 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عند الطبراني في الأوسط (4164).

انظر: نصب الراية (2/ 332)، التلخيص (2/ 158)، الإرواء (3/ 259).

وقد ورد موقوفاً على عمر رضي الله عنه، عند مالك في الموطأ -بلاغاً- في الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، حديث رقم:(588) ص (167)، كما أخرجه الشافعي في الأم (2/ 29)، وأبو عبيد في الأموال (1301)، وابن أبي شيبة (3/ 149 - 150)، والدارقطني (2/ 110)، والبيهقي (4/ 107).

وانظر: الاستذكار (9/ 82)، تنقيح التحقيق (2/ 1384)، نصب الراية (2/ 333) تلخيص الحبير (2/ 158)، إرواء الغليل (3/ 259).

وإنما الذي ورد عن عائشة رضي الله عنها في هذا الباب إنما هو من فعلها، والله أعلم.

ص: 506

فالتي هي أحسن: المحافظة عليه من الضياع، والتثمير: هو تنميته بالرِّبْح بالوجوه المأمونة، التي يغلب على الظن -بحسب العادة- أن فيها سلامة وربحاً لا ضياعاً، ومن التي هي أحسن: أن القائم على مال اليتيم -وإن اشتغل في حفظه والتجارة فيه- إن كان له مال لنفسه يأكل من مال نفسه، ويثمّر لليتيم ماله مجاناً

(1)

، كما تقدم في قوله:{وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ} [النساء: آية 6] وهذه من الدلالات على أن هذا الشرع الكريم شرع سَمَاوِي، يراعي حقوق الضعيف، ويحافظ على مكارم الأخلاق.

وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (حتى) حرف غاية بمعنى (إلى)، والمُغيَّا بها: النهي عَنْ قُرْبِ مَالِ اليتيم بغير التي هي أحسن، والمضارع بعد (حتى)، منصوب بـ (أن) محذوفة، وهو في محل جر بـ (حتّى) والمعني بـ (حتى): إلى، إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغ أشُده. وظاهر هذه الغاية ليس مراداً بإجماع العلماء

(2)

؛ إذ ليس

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 221)، القرطبي (7/ 134).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 252)، الدر المصون (5/ 220)، أضواء البيان (2/ 278 - 279).

ص: 507

المعنى: لا [تقربوا]

(1)

ماله إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده فاقربوه بغير التي هي أحسن، ليس هذا مراداً بإجماع العلماء، وإنما الغاية تتعلق بمحذوف دل المقام عليه، أي: فحتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده وآنستم منه رشداً فادفعوا إليه ماله.

وإنما كانت الغاية: لأنه إذا كان بالغاً أشده مستكملاً قوته وعقله، لا يقدر أحد على أن يغتصب منه ماله، فهو كسائر الرجال.

والأشُد هنا: التحقيق الذي لا شك فيه أنه بلوغ الحُلم مع إيناس الرشد

(2)

؛ لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد قال الله تعالى:{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: آية 6] فدلت آية النساء على أن الأشد في الغاية هنا: أنه أن يبلغ الحلم، ويُؤنس منه الرشد؛ لأن ببلوغ الحلم يتقوى بدنه ويكون في قوة الرجال، وبإيناس الرشد يتقوى عَقْلُهُ ونَظَرُهُ، فاجتمع أشده بدناً وفكراً ونظراً، فعند ذلك يُعطى ماله، وخير ما يُفَسَّرُ به القرآن القرآن.

أما الأشُد من حيث هو: فهو يطلق على خمس وعشرين، وعلى ثلاثين سنة، وعلى أربعين، وعلى ستين، وعلى خمسين

(3)

. ومن إطلاقه على الخمسين قول سحيم بن وثيل الرياحي

(4)

:

(1)

في الأصل: «تبلغوا» وهو سبق لسان.

(2)

انظر: أضواء البيان (2/ 279).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 222)، القرطبي (7/ 135)، البحر المحيط (4/ 252)، الكليات 540، الدر المصون (5/ 221)، أضواء البيان (2/ 279، 280).

(4)

البيت في القرطبي (7/ 135)، أضواء البيان (2/ 280).

ص: 508

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي

وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشّؤُونِ

فهذه الأقوال المرْوِيَّة عن العلماء في الأشُد -من خمس وعشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، إلى ستين- لا ينبغي أن تُذْكَرَ في هذا الموضع؛ لأن بلوغ اليتيم أَشُدَّه صرح القرآن بأنه بُلُوغُ الحُلُمِ مَعَ إيناس الرّشد، كما أوضحته آية النساء {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} [النساء: آية 6] أما أقوال العلماء في (الأَشُد) فينبغي أن تكون عند آية قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: آية 15] لأن بلوغ الإنسان الأَشُد بالنسبة إلى غير دفع ماله إليه هو الذي ينبغي أن تكون فيه الأقوال المعروفة

(1)

.

وكلام أهل اللغة في الأشُدّ معروف

(2)

، قال بعضهم: الأشُد واحد لا مفرد له من لفظه، وإتيان المفرد على وزن (أفْعُل) نادر جدّاً، ومنه قولهم:(آنُك) و (الآنُك) هو الرصاص، وهو مفرد على وزن (أفْعُل)، وقال سيبويه: الأشُد جمع (شِدَّة)، كنعمة وأَنْعُم، وشِدّة وأشْدُد، أصله:(أَشدُد)، وعلماء العربية يقولون: إن قول الشيخ سيبويه من قبيل اللغة معروف؛ لأن العرب يقولون: بلغ الغلام شِدته: إذا قَوِيَ واشْتَدَّ، إلا أن جمع (فِعْلة) على (أفْعُل) لم يُعرف في كلام العرب. أما قول سيبويه: إن النعمة تجمع على أنْعُم. فقد قالوا: ليس ذلك كذلك، وإنما الأنْعُم جمع نُعْم، كما تقول العرب: نُعْمٌ وأنْعُم، وبُؤْس وأَبْؤُس، و (الفُعْل) قد يُجْمَع على (أفْعُل)، وقال

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 280 - 281).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 220 - 221)، أضواء البيان (2/ 279).

ص: 509

بعض العلماء: الأَشْدُ جمع (شَدّ) -بالفتح- ككلب وأكلُب، وشَدّ وأشدُد.

والأشدّ: أصله (أشْدُد) حصل فيه الإدغام. وقال بعضهم: مفرده (شِدّ) بالكسر، كذئبِ وأَذؤُب، وهذه أقوال العلماء فيه، والمعنى صائر إلى شيء واحد.

والأَشُد هنا لا شك أنه بلوغ الحلم مع إيناس الرشد.

ومعنى (بلوغ النكاح) وهو بلوغ الحلم، وللبلوغ علامات معروفة عند العلماء

(1)

، منها السّن، وأكثر العلماء على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة

(2)

؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ردّ أبناء أربع عشرة سنة، وأذِن في الغزو لأبناء خمس عشرة سنة

(3)

، فدل ذلك أنهم صاروا رجالاً، وعن مالك: أن أقله بالسن ثمان عشرة سنة، وعن أبي حنيفة: تفريق بين الذكور والإناث معروف في فروع المذاهب، وليس فيه تحديد بنص من النصوص، وإنما هي اجتهادات في تحقيق المناط، كل يقول: إذا بلغ هذه السن فقد بلغ مبلغ الرجال، وكان بعض العلماء واللغويين يرى أنه إذا كان خمسة أشبار أنه بلغ مبلغ الرجال

(4)

، وهذا القول يُروى عن علي بن أبي طالب،

(1)

انظر: الفتح (5/ 277)، أضواء البيان (2/ 279).

(2)

أضواء البيان (2/ 279).

(3)

البخاري في الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، حديث رقم:(2664)، (5/ 276)، وأخرجه في موضع آخر، انظر الحديث رقم:(4097)، ومسلم في الإمارة، باب بيان سن البلوغ، حديث رقم:(1868)، (3/ 1490).

(4)

انظر: أضواء البيان (2/ 279).

ص: 510

واعتمده الفرزدق في شعره حيث قال

(1)

:

ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يداهُ إِزَارَهُ

فَسَما فأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأَشْبَار

يُدْنِي خَوافِقَ مِنْ خَوافِقَ تَلْتَقي

في ظِلِّ مُعْتَبطِ الْغُبَارِ مُثَارِ

فقوله ببلوغه: (خمسة الأشبار) يعني أنه بلغ مبلغ الرجال، وأسباب البلوغ كثيرة معروفة في الفروع، منها: إنبات العانة، وليس المراد به إنبات الشعر؛ لأن الشعر ينبت عليها من الطفل، وإنما المراد خشونة وغلوظة تعرض للمحل عند البلوغ، والعلماء يذكرون له أسباباً كثيرة، ومنها بلوغ الحلم، كما قال:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} [النور: آية 59]؛ أي: صاروا بالغين مبلغ الرجال {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ومعنى (بلوغ الحُلُم): أن الصَّبِيَّ إذا رأى في نَوْمِهِ أنه يجامع لا ينزل منه مني، بخلاف البالغ، إذا رأى في النوم أنه يجامع، فإنه ينزل منه المنيّ، وذلك معنى بلوغه الحلم؛ أي: إنزال المني بسبب ما يَرَاه في حلم النائم، وهذا معنى قوله:{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: فإن بلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن آنَسْتُمْ مِنْهُ رشداً، كما تقدم في سورة النساء.

وهذه الآية الكريمة تدل على أن ظلم اليتيم حرام، ولما أنْزَلَ الله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: آية 10] خاف الصحابة الذين عندهم أيتام، وعزلوا مال الأيتام عن مالهم، وطعامهم عن طعامهم، حتى صار ما فضل عن اليتيم من طعامه يبقى ولا يجد مَنْ يأكله؛ خوفاً منه، وربما فسد،

(1)

البيتان في اللسان (مادة: خمس)(1/ 901)، ضياء السالك (2/ 153)، أضواء البيان (2/ 279).

ص: 511

فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية البقرة المعروفة:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ}

(1)

[البقرة: آية 220]{لأعْنَتَكُمْ} أي: لحملكم العنت والمشَقَّة بحفظ أموالهم وطعامِهم معزولاً عن طعامكم؛ لأن ذلك فيه حرج ومشقة، إلا أنه خَوَّفَهُمْ بقوله:{وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} فمن خالط اليتيم، وخلط ماله بماله يريد مصلحة اليتيم والتوفير له، فالله يعلم نيته ويُثيبه، ومن كان يريد بمخالطة مال اليتيم وطعامه لطعامه أن يأكل مال اليتيم خديعة في غضون ذلك، فالله يعلم نيته، ويجازيه على ذلك، وهذا معنى قوله:{وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} وقال هنا: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وأتمها وأحوطها وأحفظها لمال اليتيم، بالمحافظة عليه وتثميره وتنميته بالطرق المأمونة، التي يغلب على الظن أنها لا خسار فيها ولا ضياع، وهذا معنى قوله:{إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}

(1)

أخرجه أبو داود في الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث رقم:(2854)، (8/ 73) والنسائي في الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه، حديث رقم:(3669، 3670)، (6/ 256)، والحاكم (2/ 103، 303، 318)، والبيهقي (6/ 284)، وابن جرير (4/ 349، 350، 351، 352، 353، 354)، والواحدي في أسباب النزول ص (72) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وانظر: صحيح أبي داود (2/ 554 - 555)، وصحيح النسائي (2/ 779) وقد جاء ذلك أيضاً في روايات مرسلة عن سعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد. انظر ابن جرير (4/ 350 - 352)، أسباب النزول للواحدي 71 - 72.

ص: 512

أي: يبلغ الحلم، وُيؤنَس منه رُشد، فادفعوا إليه ماله، وأشهدوا عليه إذا دَفَعْتُمُوه إليه.

ثم قال: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} هذه أوامر اجتماعية عظيمة، تدل على كمال تشريع الإسلام، ورعاية دين الإسلام لمصالح البشر، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها.

والمكيال والميزان هما الآلتان التي جعلهما الله (جل وعلا) لتُضبط بهما المبيعات، وهذا من فَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ بخلقه؛ لأن الله خلق الإنسان محتاجاً للغذاء، ومُفْتَقِراً للنِّسَاء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يَتْرُكْه سدًى، فَأَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى طَعَامِ أخيك، وأخوك محتاج إلى طعامٍ آخر عندك، فلو لم يجعل الله المقادير بمكيال وميزان تَعْرِف به قدر ما تدفع وقدر ما تأكل لتَهَارَشْتُمْ على ذلك تَهَارُشَ الحُمُر والكلاب، فالميزان والمكيال آلات جعلها الله (جل وعلا) لِخَلْقِهِ ليأخذ كل واحد منهم غرضه من أخيه طيبة نفسه، عارفاً قدر ما أَخَذَ، وقدر ما أُخذ منه، طيب النفس بذلك، بحيث ينتفع كلٌّ من أخيه، وتتبادل المصالح عن طيب نفس وسماحة وسخاء، ولذا قال:{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} قال بعض العلماء: الكيل هنا معناه المكيال، وإيفاء الكيل وإيفاء المكيال راجعان إلى شيء واحد

(1)

،

وكذلك إيفاء الميزان وإيفاء الوزن معناهما واحد، والله (جل وعلا) يعلم أن بعض الأخِسَّاء من الذين يتولّون الكيل والوزن عندهم حيل دقيقة، ينقصون بها حقوق الناس إذا كانوا يكيلون

(1)

انظر: القرطبي (7/ 136) ..

ص: 513

للناس، ويزيدون حقوقهم إذا كانوا يكيلون لأنفسهم، فحَذَّرَهُم الله من هذا الفِعْل الخسيس، وعظّم شأنه، وتوعد عليه التوعد العظيم الهائل بالويل؛ وذلك لأن المال هو شريان الحياة، والطعام الموزون المكيل هو الذي به حياة الدنيا وقوامها {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: آية 8] فالآلات التي نُصبت عدلاً لذلك ينبغي الاحتياط الكامل في إقامتها على وجهها، وعدم الغش والخديعة فيها؛ ولذا كثر في القرآن العظيم الإيصاء بإيفاء الكيل والوزن، كما قال جل وعلا:{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ (182)} [الشعراء: الآيتان 181، 182] وذكر الله عن نبيه شعيب مواضع متعددة من ذلك {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: آية 85] وفي آية أخرى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}

(1)

[الأعراف: آية 85]، والله جل وعلا يقول:{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: الآيات 7 - 9] ومن عصى هذه الأوامر ولم يتتبعها فيا ويله! ويا ويله! لأن خالق السماوات والأرض يقول في الذين يُخسرون الكيل والميزان: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)} ويكفيك من التهديد والوعيد لفظة (ويل) المتوجهة من الله إلى من يفعل هذا الفعل الخسيس الدنيء الرذيل، ثم فسَّر المطففين بأنهم {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: الآيتان 1، 2] يعني: إذا كان الكيل لهم من الناس كالوا كيلاً وافياً، وإذا كالوا من متاعهم للناس أو وزنوا للناس يخسرون؛ أي: ينقصون

ص: 514

بالحيل الخفية؛ لأن مَنْ تَمَرّن على الكيل والوزن يعلم حيلاً لا يعلمها غيره، يحسب الناظر أن المكيال تام، وأن الميزان بتمام، وهناك نقص خَفِيّ يعرفه أصحاب الصنعة بحيلهم الدقيقة، هذا معروف، فحذرهم الله من هذا، وهذا يدل على أن كل مَنْ تَوَلَّى مصلحة اجتماعية عليه أن ينصح إخوانه المسلمين فيها، فالقرآن يُذكر منه الآيات ليُنَبَّه بها على غيرها.

فهذه مصلحة اجتماعية عامة؛ لأن كل الناس يحتاج إلى طعام يكيله، أو إلى حاجة يزنها، وهذا به قوام الناس في حاجاتهم ومصالحهم المتبادلة، فالذي يغش فيه وينقص ويُخسر خسيس من أخبث خلق الله، ويكفيه خبثًا ورداءة أن خالق السماوات والأرض يهدده بالويل، وأي شيء أعظم من تهديد الله للعبد بالويل؟! {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} ثم قال:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: الآيات 1 - 6] ويُفهم من فحوى الآيات: أنهم إذا بُعثوا إلى ذلك اليوم العظيم وقام الناس لرب العالمين واجتمع الخلائق الأولون والآخرون في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، أن ذلك الخائن الناقص في الكيل والوزن يُنادى به على رؤوس الأشهاد، ويفتضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وفضيحة القيامة ليست كفضيحة الدنيا؛ لأن الإنسان يفتضح في الدنيا ويضيع عرضه ويبقى صحيح البدن سالماً يأكل ويشرب غير متألم، وإذا كان رذيلاً دنيّاً لا يُؤْلمُه ضياع العرض، إنما يتألم مِنْ ضياعِ الأعراض أصْحَابُ الشّؤون والهيئات والشرف، وقد ذكر العلماء أنَّ أعْظَمَ ما يصاب فيه الإنسان بعد نفسه إنما هو

ص: 515

-مثلاً- قُرباؤُه: كأولاده أو ماله أو عرضه أو دينه، فإذا أصيب في دينه فتلافيه سهل؛ لأنه إذا أناب إلى الله قد يتوب الله عليه، وقد يكون انكسار التوبة يبلغ به مرتبة عند الله أحسن مما كان قبل فِعْلِ الذَّنْبِ؛ لأن الإنابة إلى الله والتوبة والتذلل والخضوع والانكسار من الذنوب قد يكسب العبد درجة أعظم من درجته قبل أن يواقع الذنب، والمال قد يخلفه شيء بسيط، فصفقة واحدة قد يربح منها أضعاف ما خسر، والأنفس قد تُعَوَّض بالولادة، فيموت له ولد فيولد له عشرة أولاد، قالوا: أما العِرْض فإذا ضاع من الإنسان فلا شيء يخلفه؛ لأنه إذا ضاع عرضه، وعُرفت الفضيحة أمام الناس لم يمكن أن يداوي ذلك، ولو رجع إلى مكارم الأخلاق، فتلك الفضيحة بقيت فيه، لكن فضيحة الدنيا وإن كانت من أعظم

المصائب، ففضيحة الآخرة أعظم وأطَمّ؛ لأن المفتضح في الآخرة إنما يُفْضَح بذنوب تؤديه إلى العذاب والنكال يوم القيامة -والعياذ بالله- فَعَلَى مَنْ وَلَّاه الله الكيل أو الوزن أن يَحْذَرَ من الله، ويخاف من فضيحة الآخرة، ويوفي الكيل إيفاءً تامّاً، ويوفي الميزان، ولا يغش وينصب فيستوفي لنفسه وينقص للناس، وهذا معنى قوله:{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: آية 152] القِسْط في لغة العرب معناه: العدل، والقَسط -بالفتح- الجور

(1)

، فالمقسطون من أهل الجنة، والقاسطون من أهل النار، كما قال تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)} [الجن: آية 15] لأن القاسط اسم فاعل القَسْط -بالفتح- من قَسَط الثلاثية، وهو الجائر الحائد عن الهدى، والمُقْسِط: من القِسْط، وهو العدل.

(1)

انظر: المفردات (مادة: قسط)(670).

ص: 516

ومعنى كونه بالقسط؛ أي: بالعدل التام، بحيث لا يزيد ولا يَنْقُص، فلا يطلب المشتري زيادة على حَقِّهِ، ولا ينقص البائع المشتري عن حَقِّهِ، فليكن الحق كاملاً وافياً من غير [زيادة]

(1)

ولا نقصان، وهذا معنى إيفائه بالقسط. ولما كان الإنسان قد يبالغ جهده في أن يوفي المكيل، وقد يتفاوت ذلك؛ فبعض المكاييل يبني عليه المكيل، ويرتفع بعضه فوق بعض، حتى يكون وافياً، وبعض الناس يجتهد في أن يفعل ذلك، ويختل عليه شيء من غير قصد منه، إذا كان الله يعلم صلاح نيته وقصده للإيفاء، إلا أنه وقع تقصير أو نقص من غير قصده، فهذا معفوّ عنه، بدليل قوله:{لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: آية 152] فهذا الإيفاء في الكيل والوزن الذي كَلَّفْنَاكُمْ بِهِ إنما نعني به حسب ما تستطيعون، فمَنْ بَذَلَ مجهودَهُ في إيفاء الكيل والوزن ثم وقع نقص من غير قصده فهو معفوّ عنه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، هذا سبب نزول الآية

(2)

، وهي عامة؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، أي: طاقتها، وهو الشيء الذي في طاقتها وقدرتها لا تعجز عنه، ولا يشق عليها مشقة عظيمة، وهذا من التسهيل على هذه الأمة، لا يكلفها الله ما أخطأت فيه وما نسيت، وقد جاء في الذكر المحكم:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ من خواتيم سورة البقرة {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: آية 286] قال الله: نعم قد فعلت.

(1)

في الأصل: «تمام» وهو سبق لسان.

(2)

انظر: أضواء البيان (2/ 281).

ص: 517

(نعم) في رواية أبي هريرة، و (قد فعلت) في رواية ابن عباس، وكلتاهما ثابتة في صحيح مسلم

(1)

، والله (جل وعلا) يقول:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] فالخطأ والنسيان وما لا يقصده الإنسان مَعْفُوٌّ عنه؛ ولذا قال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} .

ثم قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: آية 152] وهذه الآية عظيمة جدّاً، وهي من الآداب الاجتماعية العامة، البالغة في العظمة، وهي تشمل أشياء كثيرة، إذا كنت تشهد بحق فلا تشهد عند القاضي إلا بعدل، واخش شهادة الزور لأجل قريب، أو رشوة أو غير ذلك، وإذا كنت قاضياً فلا تقل إلا الحق، واحذر أن تميل لقرابة أو لغرض أو رشوة {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: آية 58] وإذا كلمت أخاك المسلم فلا تقل إلا عدلاً، ولا تقل له شيئاً يُؤْذِيه، ولا تكذب عليه، وإذا حدثت عن قصة ماضية فلا تقل إلا عدلاً ولا تكذب، وإذا حدّثت عن الله فلا تقل في صفاته إلا اللائق الكريم، وإذا قلت في كل قول فلا تقل إلا أمراً كريماً عدلاً.

ومن حفظ لسانه وكان لسانه معتدلاً لا يقول إلا ما يرضي الله فإن هذا من أحكم الآداب الاجتماعية التي يُطفَأُ بها الشرر العظيم المتفشِّي في المجتمع؛ لأن أكثر الأضْرَار الاجتماعية هي جنايات اللسان، وعدم اعتداله في قوله، فيقول على هذا ما لم يفعل، ويلمز هذا بما يؤذيه، ويشهد على هذا بالزور، ويحكم على هذا بالباطل،

(1)

مضى عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام.

ص: 518

فإذا كان يزن قوله بميزان الشرع ولا يقول إلا عدلاً، كان هذا من أعظم الآداب الاجتماعية، وأكثر المنافع للمجتمع وأعظمها تفادياً لكثرة الأضرار الناشئة عن عدم العدل في القول؛ ولذا قال جل وعلا:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: لا تحملك قرابة أحد على أن لا تعدل في القول فتشهد له بباطل لِقَرَابَتِهِ، أو تشهد على خصمه بما يُؤْذِيه، أو تشهد على الشاهد لِخَصْمِهِ إن جرحه، أو نحو ذلك، فلا تحملنَّك القرابة أن تقول إلا عدلاً، ولا يصدر منك كلام إلا على الحق والعدل المطابق لما يرضي الله

(1)

، كما قدمنا في قوله:{كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ} [المائدة: آية 8] وفي الآية الأخرى: {كونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] أي: ولا يحملك أيضًا أن هذا فقير وهذا غني، فتشهد على الغني رحمة بالفقير، أو تكتم الشهادة على الفقير رحمة به للغني لا تفعل هذا، فَقُل الحق على بابه كائناً من كان على القريب وعلى الفقير وعلى الغني.

وآية النساء هذه: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} وما بعدها فيه سرّ أعظم وتعليم أكبر؛ لأن الله يعلم أنه سيأتي في آخر الزمان مذاهب هَدَّامة، تتصل إلى سلب حقوق الناس أموالهم بدعوى أن هذا فقير وأن هذا غني، وأن هذا الغني ابْتَزَّ ثروات الفقراء، وأنه ينبغي أن يُنْزَع مال الغنيّ ليستوي هو والفقير باسم العدالة الاجتماعية! فالله (جل وعلا) علم أن هذا سيقع، وبَيَّن حكمه قبل أن يقع، فقال: لا تتخذوا من كون هذا غنيّاً وكون هذا فقيراً طريقاً

(1)

انظر: أضواء البيان (2/ 281).

ص: 519

تتصلون بها إلى ظلم الناس، وأخذ أموال الناس؛ اتباعاً للهوى {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} [النساء: آية 135] وتتخذوا من ذلك طريقاً تأخذون بها أموال الناس من غير رضاهم {فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فعلى المسلم أن يعمل بقوله: {وَإذَا قُلْتُم فَاعْدِلوُا} فإذا أراد أن يَتَكَلَّم تأمل في الكلام الذي يقوله، فإذا كان حقّاً صواباً مرضياً لله فليقدم عليه، وإذا كان جوراً غير حق فليُحْجِمْ عَنْه، كأن يعيب الإنسان، أو يشهد بشهادة الزور أو يحكم بباطل، أو يقول عن إنسان ما ليس فيه، أو يحكي قصة فيحرِّفها، إلى غير ذلك، وهذا من المصالح العامة التي تدل على أن هذا الدين سماوي، وأن هذا كلام خَالِق الخَلْق {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: آية 152] أي: ولو كان المقول عليه من شهادة أو حكم أو أنه ظالم {ذَا قُرْبَى} أي: صاحب قرابة، حتى ولو كان على نفسك، كما بيّنته آية النساء.

ثم قال: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ} هذه أيضاً من الآيات العظام الشاملة للمسائل الاجتماعية والإلهية، فهي من غرائب التشريع؛ لأنها شملت أحكام دين الإسلام؛ لأن العهد المضاف إلى الله هنا هو على التحقيق يشمل أمرين:

أحدهما: عهد بين المخلوق والخالق، كالنذور التي ينذرها طاعة لله، والله يقول:{وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: آية 29] وقد مدح أهل الجنة بذلك حيث قال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)} [الإنسان: آية 7] وقد يكون عهد الله فيما بين عبيده؛ لأن العهد فيما بينك وبين أخيك هو عهد لله؛ لأنه أخذ على كل منكما العهد أن يفي لأخيه بما عاهده عليه، وأن لا يفعل معه إلا

ص: 520

خيراً، ومن عهود الله التي يجب الوفاء بها: وَصَايَاه التي أوْصَانَا بها في هذه الآيات المحكمات، وجميع أوامره ونواهيه، وامتثال أمر الله واجتناب نهيه، كل هذه عهود الله على خَلْقِهِ في جميع التشريع يجب الوفاء بها، وكذلك عهدك على أخيك، كأن تقول له: لك عَلَيَّ كذا، أو أشترط عليك كذا، أو أعْهَدُ إليك بكذا، فإنه يجب الوفاء في ذلك.

وفي هذه الآية تعليم عظيم؛ لأن كثيراً من الفقهاء غلطوا غلطاً فاحشاً في حديث، يرفع ذلك الغلط آيات من كتاب الله، منها هذه الآيات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث أنه قال:«مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ»

(1)

، فكان ابن حزم

(2)

ومَنْ غَرَّهُ كَلَامُه وكثير من الفقهاء الذين لم يتدبروا معاني القرآن يَظُنّون أن كل شرط لم ينص القرآن على عينه أنه باطل؛ ولذا أبطل بعض العلماء كثيراً من الشروط، كأن تَشْتَرِطَ عَلَى أخِيكَ كَذَا في البيع من أمر مباح، أو تشترط المرأة على الزوج في عقد النكاح أمراً مباحاً، ويقولون: هذه الشروط ليست في كتاب الله، فهي باطلة.

والتحقيق: أن كل شرط لا يُحل حراماً، ولا يحرِّم حلالاً فهو في كتاب الله؛ لأن الله أمر بالوفاء بالعهد أمراً عامّاً، كقوله هنا:{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: آية 1] فكل شرط اشترطه مسلم على

(1)

أخرجه البخاري في المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، حديث رقم:(2561)، (5/ 187)، ومسلم في العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم:(1504)، (2/ 1141).

(2)

انظر: المحلى (9/ 44).

ص: 521

مسلم، ولم يكن هذا الشرط يبيح حراماً حرّمه الله، أو يحرم حلالاً أحلّه الله، بل كان مشترطاً أمراً جائزاً، فهذا الشرط في كتاب الله؛ لأن الله أمر المسلمين بالوفاء بالعهود في آيات كثيرة، وهي شروط عامة، كقوله هنا:{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ} يعني: أن عهد الله هنا يشمل جميع الأمانات؛ من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ويدخل فيه الوفاء بالنذور، ويدخل فيه عهود المسلمين بعضهم على بعض، وشروط بعضهم على بعض؛ لأن المسلمين عند شروطهم، فكل شرط اشترطه مسلم على مسلم، وكان ذلك الشرط لا يحل حراماً حرَّمه الله، ولا يحرم حلالاً أحله الله، فهو في كتاب الله؛ لعموم الأدلة على وجوب الوفاء بالعهود، والشروط من أوكد العهود التي أمر الله بالوفاء فيها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه قال:«إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»

(1)

فما تشترطه المرأة على زوجها بالعقد إن كان لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً.

أما الشرط الذي أحل حراماً أو حَرَّمَ حلالاً فهو ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مئة شرط، وهذا معنى قوله:{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} .

ثم أعاد الله (جل وعلا) الوصية وكَرَّرَهَا علينا، ثم قال:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ذلكم المذكور في هذه الآية من التباعد من أكل مال اليتيم، ومن بخس المكيال والميزان، ومن عدم العدل في القول، ومن الإيفاء بالعهد، هذه الأمور التي أمَرَكم الله بها، وحذركم عن

(1)

البخاري في الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم:(2721)، (5/ 323)، وطرفه في (5151)، ومسلم في النكاح، باب: الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم:(1418)، (2/ 1035).

ص: 522

أضدادها وصاكم بها؛ أي: أمركم بها أمْراً مُؤَكَّداً، فعليكم أن تحتزموا بها، فلا تَقْربوا مال اليتيم بغير الأحسن، وَلَا تقولوا إلا ما هو عدل، ولا تنقضوا العهود، إلى غير ما جاء في الآيات.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قرأه هنا حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بتاء واحدة وذال مخففة، وأصله (تَتَذَكَّرُونَ) فحذفت إحدى التاءين، وقَرَأَهُ الجمهور، وهم الباقون:{لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ} بتشديد الذال وإدغام إحدى التاءَيْنِ في الذال، وعلى قراءة حفص وحمزة والكسائي:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

(1)

فقد حُذفت إحدى التاءين، والمضارع المبدوء بتاءين يجوز حذف إحداهما بقياس مطرد:

وَمَا بِتَاءَيْن ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ العِبَرْ

(2)

وعلماء العربية مختلفون اختلافاً لا طائل تحته ولا دليل عليه في التاء المحذوفة من التاءين هل هي تاء المضارعة أو التاء الأخرى؟

(3)

هذا الخلاف لا طائل تحته، ولا دليل عليه، والمدار على أن إحدى التاءين محذوفة، وهذا معنى قوله:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: آية 152].

كان بعض العلماء يورد في هذه الآيات سؤالاً، وهو أن يقول: عبّر في الآية الأولى بـ {وَلَا تَقْتُلُواْ اْلنَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالحَقِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: آية 151] وفي هذه الثانية

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران (204).

(2)

الخلاصة ص (79).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 223).

ص: 523

بـ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وأجابوا عن ذلك بأجوبة -الله أعلم بها-

(1)

منها: أن قالوا: إن المذكورات في الآية الأولى واضحة لا خفاء فيها؛ لأنها هي عدم الإشراك بالله، وعدم قتل الأولاد، والبر بالوالدين، وعدم قتل النفس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، وهذه أمور ظاهرة؛ ولذا قال لما كانت ظاهرة لا تحتاج إلى تفكر وتذكّر؛ لظهورها ووضوحها، قال: قلت لكم هذا لتُدْرِكُوهُ عنّي بِعُقُولِكُمْ؛ لأنه أمر واضح، وأن المذكورات في الآية الأخيرة تحتاج إلى تأمُّلٍ وإلى تفكّر، كإيفاء الكيل والميزان، وعدم بخس الناس أشياءهم، وكالتحرِّي في الأقوال لِيُعْلَمَ العدْل منها مِنْ غَيْرِ العدل، والوفاء بالعهود أن هذه أمور فيها خفاء، فعبّر بعدها بالتذكر؛ لأنها تحتاج إلى تذكر، هكذا يقولون، والله تعالى أعلم.

يقول الله جل وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: آية 155] ذكرنا أنه جرت العادة أن الله ينوّه بالتوراة والقرآن معاً؛ [23/أ] لأنهما أعظم الكتب المنَزَّلة؛ لأنه قبل/ نزول القرآن كانت التوراة أعظم الكتب المنزلة وأجمعها للأحكام، كما قال الله فيه:{وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء} [الأنعام: آية 154]، فلما نزل القرآن كان أشمل كتاب وأعظمه؛ لأنه جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وزاد فيه أشياء لم تنزل على غيره؛ ولذا لما نزلت التوراة في قوله:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} [الأنعام: آية 154] نوّه

(1)

انظر: ملاك التأويل (1/ 480)، درة التنزيل وغرة التأويل ص74، البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني ص69، فتح الرحمن بكشف ما يلْتبس في القرآن ص181 - 182، البحر المحيط (4/ 253)، الدر المصون (5/ 222)، فتح المجيد ص (41).

ص: 524

بالقرآن العظيم بعده فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: آية 155] ومثل هذا يَتَكَرر في القرآن، كقوله في التوراة:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: آية 91] ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: آية 92] فأتبع التنويه بالتوراة التنويه بالقرآن، كقوله:{وَمِن قَبله كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً وَهَذَا} يعني: القرآن {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [هود: آية 17] وكقوله: {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: آية 48] وفي القراءة الأخرى

(1)

: {سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا} [والجن]

(2)

الذين استمعوا القرآن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: آية 30].

ومعنى الآية الكريمة: وهذا الذي تُتْلَى عليكم آياته كهذه الآيات المحكمات: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

} إلى آخر الآيات [الأنعام: آية 151]، {وَهَذَا} الذي تُتلى عليكم آياته جامعة هذا من الأحكام والتشاريع، {كِتَابٌ} هو كتاب الله (جل وعلا) الذي هو آخر كتاب نَزَلَ من السماء، وهو أعظم كتاب سماوي على أعظم رسول أرْسَلَهُ الله في الأرض، فهو آخر الكتب السماوية، ونازلٌ على آخر الرسل وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، جمع الله فيه علوم الكتب السابقة، ولذا صار القرآن مهيمناً على الكتب السابقة، كما قدّمناه في سورة المائدة في قوله:{وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48]

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص341.

(2)

في الأصل: «واليهود» وهو سبق لسان.

ص: 525

ولذا ما حَرَّفَهُ اليهود بيَّن القرآنُ أنه محرَّف، وكان اليهود يختلفون في أشياء لا تعلم علماؤهم حقائقها من غوامض التوراة، فبيّنها لهم القرآن وأوضحها لهم، لهيمنته على الكتب قبله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} [النمل: آية 76] أي: ويوضحه لهم، ولمّا أنزل الله:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: آية 160] قال اليهود: ما حُرِّم علينا شيء بسبب ذنب، وإنما حُرِّم علينا ما كان محرَّمًا على أبينا إسرائيل من الأطعمة. وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلمَّا زعموا أن الله لم يحرم عليهم إلا ما كان محرَّماً من الطعام على إسرائيل كذّبهم القرآن، وألْقَمَهُم الحجر، فقال:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: آية 93] فلما قال لهم: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خافوا وخجلوا ولم يأتوا بها (1).

كذلك قصة اليهوديين الزانيين المشهورة (2)، بأنه زنى يهوديان

ص: 526

من يهود خيبر أو ما يقرب منها، فأرسلوا ليهود المدينة: سلوا لنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن حكم الزاني المحصن، فإن أتاكم بجَلد أو شيء غير القتل فاقبلوا حكمه، ونخرج من العُهدة أمام الله بأنهما حَكَمَ فيهما نبيٌّ كريم؛ لأنهم يعلمون أنه نبي كريم صلى الله عليه وسلم كما تقدم في قوله:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة: آية 41] يعنون: إن أعطاكم الحكم السهل من عدم رَجْمِ الزانيين فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا! وعلى كل حال ثبت في الصحيحين في قصة الزانيين المشهورة أنهما أتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحَكَّمه فيهم

(1)

، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«سَأَحْكُمُ فِيهِمْ بِالحُكْمِ الذي أنْزَلَ اللهُ في التَّوْرَاة» وهو الرَّجْم. وكان رئيسهم الديني في ذلك الوقت: عبد الله بن صُورِيَّا الأعور، فقال له: ليس في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بَلَى، إن في التوراةِ لآيَة تدلّ على الرجم، فأتوا بالتَّورَاة» . فجاءوا بالتوراة، فقرأ ابن صوريا ما قبل آية الرجم وما بعدها، وجعل يده على آية الرجم يخفيها إخفاءً للحق، فجاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه) وهو يهودي أصلاً من يهود بني قينقاع، وهو من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفاضل الصحابة الكرام، فهو الذي أنزل الله فيه في الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن

(1)

هكذا العبارة في الأصل، والصواب أن يقال: «أنهم أتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكموه فيهم

».

ص: 527

بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}

(1)

[الأحقاف: آية 10] هذا الشاهد: هو عبد الله بن سلام، وكان أعلمهم بالتوراة، فقال لابن صوريا: ارفع يدك!! وقرأ آية الرجم، فحكم النبي عليهما بالرجم، ورجمهما الصحابة. وفي الصحيحين: أن بعض الصحابة رأى الرجل يجنؤ على المرأة؛ أي: ينحني عليها ليقيها الحجارة، فَرُجِمَا وقُتِلَا

(2)

، وهذا من هَيْمَنَةِ القرآن على الكتب، وإنما سُمِّيَ هذا القرآن كتاباً؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22] ومكتوب في صحف عند الملائكة لما جُمع كله في بيت العزة في السماء الدنيا، كما في قوله:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14)} [عبس: الآيات 11 - 14] ولأنه مكتوب أيضاً عند المسلمين، كما قال:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: الآيات 1 - 3].

(1)

كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند البخاري، وكما جاء من حديث عبد الله بن سلام نفسه عند الترمذي وابن جرير وغيرهما، وكذا حديث عوف بن مالك عند أحمد، وابن حبان، والحاكم، والطبراني في الكبير، وأبي يعلى، وابن جرير. وحيث إن الشيخ رحمه الله لم يُورِدْ رِواية هنا فإني أكتفي بهذا الإجمال ..

(2)

البخاري في المناقب، باب قول الله تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} . حديث رقم: (3635)، (6/ 631)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(1329، 4556، 6819، 6841، 7332، 7543)، ومسلم في الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، حديث رقم:(1699)، (3/ 1326).

ص: 528

فلما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وبالصحف بأيدي المسلمين قيل له:(كتاب) وأصل الكتاب: (فِعَال) بمعنى (مفعول) وإتيان (الفِعَال) بمعنى (المفْعُول) مسموع في لغة العرب في كلمات غير كثيرة، ككتاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مَأْلُوه، أي: معبود، ونحو ذلك في أوزان غير كثيرة.

وأصل مادة الكتابة، مادة (الكاف، والتاء، والباء)(كتب) معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن: الضَّمّ والجمع، فكل شيء ضممت بعضه إلى بعض وجمعت بعضه إلى بعض فقد كَتَبْتَهُ، ومِنْ هنا قيل للخِيَاطة كتابة، وفي لُغَز الحريري

(1)

:

وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ

حَرْفاً وَلَا قَرَؤُوا مَا خُطَّ في الْكُتُبِ

يعني بالكاتبين: الخيَّاطين. ومنه قول عمرو بن دارة يهجو بني فزارة من قبائل غطفان كانت العرب تعيّرهم بالفاحشة مع إناث الإبل، يزعمون أنهم يزنون بالنوق، تعييراً لهم، فَعَيَّرهم هذا الشاعر فقال

(2)

:

لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ

عَلَى قُلُوصِكَ وَاكْتُبْهَا بَأَسْيَارِ

يعني: خِط فرجها بأسيار لئلا يزني بها، وهذا معنى معروف في كلام العرب.

ومنه قيل للرقعة التي تكون في السقاء، وقيل لها: كُتْبَة، وقيل للسَّيُر الذي تُخاط به الرقعة أيضاً:(كُتْبة)؛ لأنَّه يضم الرقعة إلى

(1)

مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة.

(2)

السابق.

ص: 529

السقاء، ومنه قول غيلان ذي الرمة

(1)

:

مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ

كَأَنَّهُ مِنْ كُلًى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ

وَفْرَاءَ غَرفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزَهَا

مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتُبُ

يعني: بـ (الكُتب): قيل: السيور التي تُخاط بها الرقع، أي: مَسْك الرقع، يُشَبَّه كثرة دموعه بماء السقاء إذا اتسع موضع السير الذي خيطت به؛ لأنها جماعة ينضمّ بعضها إلى بعض، ويتشكل مع بعض، فسُميت الخياطة كتابة؛ لأن الخيّاط يضم طرفي الثوب أو الأديم، ويجمع بعضها إلى بعضٍ بالخياطة، كذلك قيل للكتابة (كتابة) لأن الكاتب يضمُّ نقوشاً بعضها مع بعض، يضع حرفاً منقوشاً ثم حرفاً ثم حرفاً، حتى يتكون من ذلك كلام يدل على المعاني؛ فلأجل هذا فالكتابة مصدر سيّال.

أي: وهذا قرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي الصحف عند الملائكة، وفي صحف مطهرة بأيدي المسلمين.

{أَنْزَلْنَاهُ} يعني: هذا الكتاب أنزلناه من عندنا ومن كلامنا، وصيغة الجمع للتعظيم، وجملة الفعل وفاعله في {أَنْزَلْنَاهُ} في محل النعت للكتاب

(2)

؛ لأن النكرات تُنعت بالجُمل، كما هو معروف

(3)

، و (مبارك) نعت آخر

(4)

، والأصل أن يُقدم النعت بالمفرد ثُمَّ بشبه الجملة ثم بنفس الجملة كما في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ

(1)

السابق.

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 256)، الدر المصون (5/ 229).

(3)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

(4)

انظر: البحر المحيط (4/ 256)، الدر المصون (5/ 229).

ص: 530

فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: آية 28] فبدأ بالنعت بقوله: {مُّؤْمِنٌ} لأنه مفرد، ثم أتبعه بشبه الجملة، وهي:{مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ثم أتبعه بالجملة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} هذا هو الأصل المُقَرَّر في المعاني، ورُبَّما قُدِّم النعت بغير الجملة، وربما قُدم النعت بغير المفرد على النعت بالمفرد، فمثال تقديمه بشبه الجملة:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} فالجار والمجرور نعت قُدِّم على النعت المفرد في قوله: {عَظِيمٍ} [الزخرف: آية 31] ومثال تقديم الجملة على المفرد قوله هنا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فجملة {أَنزَلْنَاهُ} نعت قُدِّم على النعت بالمفرد، ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد

(1)

:

وَفِي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شَادِنٌ

مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ

فإن قوله: (شادن ومظاهر) مفردان، قدّم قبلهما النعت بالجملة في قوله:(ينفض المرد) وهذا معروف

(2)

.

وقوله: {مُبَارَكٌ} معناه: أن هذا الكتاب مبارك، أي: كثير البركات، والخيرات، فمن تَعَلَّمَهُ وعمل به غمرته الخيرات في الدنيا والآخرة؛ لأن مَا سَمَّاهُ الله مباركاً فهو كثير البركات والخيرات قطعاً، وكان بعض علماء التفسير يقول: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا؛ تصديقًا لقوله: {كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ مُبَارَكٌ} ونرجو أن يكون لنا مثل ذلك في الدنيا، وهذا الكتاب المبارك لا ييسر الله للعمل به إلا الناس الطيبين المباركين، فإنه كثير البركات والخيرات؛

(1)

البيت في معلقته. وقوله: (أحوى): هو ظبي في ظهره خُطتان خضراوان، و (المرد): ثمر الأراك، و (شادن): ظبي ليس بالكبير، و (مظاهر): قد جمع بين اللؤلؤ والزبرجد. انظر: شرح القصائد المشهورات (1/ 56).

(2)

انظر: النحو الوافي (3/ 496 - 497).

ص: 531

لأنه كلام رب العالمين، إذا قرأه الإنسان وتدبَّر معانيه ففي كل حرف عشر حسنات في القراءة، وإذا تدَبَّر معانيه عرف منها العقائد التي هي الحق، وعرف أصول الحلال والحرام، ومكارم الأخلاق، وأهل الجنة وأهل النار، وما يصير إليه الإنسان بعد الموت، وما يسبب له النعيم الأبدي، وما يسبب له العذاب الأبدي، فكله خيرات وبركات؛ لأنه نور ينير الطريق التي تميز بين الحسن من القبيح، والنافع من الضار، والباطل من الحق، فهو كله خيرات وبركات، من عمل به غمرته الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، وأصلح له الله الدارين.

ومن غرائب الأشياء وعجائبها أن أكثر أهل المعمورة ممن يؤمنون بأنه كلام الله الذي أنزله على رسوله يطلبون الهدى في غيره، ويطلبون التشاريع والتحليلات والتحريمات من غيره! فهذا من الغرائب! إذ كيف يعدل عاقل عن كلام خالق السماوات والأرض؟ فهو النور المبين، والحبل المتين الذي بينه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بسنته الصحيحة، يعدل عن هذا زاعمًا أنه ليس بصالح لهذا الوقت، وأن الحياة تطورت بعد نزوله تطوراً لا يلائم هذا القرآن! ومن أنزل القرآن عالمٌ بما يحدث من التطورات، وما يكون، فجعل القرآن ديناً خالداً لا ينسخه دين، باقٍ إلى يوم القيامة، وهو عالم بما ينزل وما يحدث في الدنيا، بل لو عملت الدنيا أجمعها بهذا الكتاب الكريم لأزال جميع مشاكلها، وأزال عنها كل ضرر، ونظّم علاقات حياتها على الوجوه الكاملة، وأراها الطريق الواضحة التي تحصل بها على خير الدنيا والآخرة، وهو دائماً يحث على التقدم والرُّقِيّ في جميع ميادين الحياة؛ لأنه كلام ربِ العالمين.

ص: 532

القرآن يحث الإنسان على أن يُعْطِي جسده حظه، وأن يعطي روحه حظها

(1)

. وإذا قرأ الإنسان القرآن فهم كيف يدعو الإنسانَ إلى الجَدِّ والكَدْحِ في هذه الحياة الدنيا، وإلى طاعة خالق هذا الكون، ونَحْنُ نُقَرِّرُ في المناسبات وفي الدروس دائماً أن هذا الحيوان الذي هو الإنسان، أنه حيوان مركب من جوهرين مختلفين بالذات اختلافاً جَذْرِيّاً حقيقيّاً، وأَصْلَاه اللَّذان تَرَكَّبَ منهما متنافيان كل التنافي -أعني بهما روحه وجسده- فحقيقة الروح من العالم العلوي، والجسد من العالم السفلي، وبين الروح والجسد تَبَايُن وتنافٍ تام بالجوهر والعنصر وجميع الصفات، والله رَكَّبَ الإنسان منهما، فالروح وَحْدَه ليس بإنسان، والجسد وحده ليس بإنسان، وإنما هو حيوان مركب منهما، ومعلوم أن الروحَ له متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الجسم، وأن الجسم له متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الروح، فللجسم متطلبات لا بد منها، كالقوة الجسمية، والله (جلّ وعلا) يحث على هذا كل الحث؛ لأن من أعظم أنواع تربية القوة الجسمية هو إعداد القوة الكافية، والوحدة حولها وحدةٌ حقيقية صحيحة، والله يقول:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فهذه الآية الكريمة بظاهرها تساير التطور مهما بلغ التطور من أنواع القوة؛ لأن الله يأمر بإعداد كل ما يدخل في طاقة الإنسان من إعداد القوة لِيَتَقَوَّى بها المسلمون، ويردوا بها الهجوم المسلّح، ويحافظوا بها على بيضة الإسلام، فهذا مِنْ أَعْظَمِ الأمر بأسباب القوة، وكذلك يأمر بالاجتماع؛ لأن البلايا كلها من المخايلات وعدم اتحاد القلوب، واختلاف القلوب وتباغضها، وهذا هو السبب

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 533

الأكبر للضعف، وهو السبب الذي يدخل منه العدو فيضرب بعضهم ببعض، ويبقون -مثلًا- لأن المختلفين لا ينجحون؛ ولهذا يقول الله في محكم كتابه:{وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: آية 46] ويقول (جل وعلا): {وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: آية 103] ويحض على الاجتماع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وقد بيّنَ القرآن في سورة الحشر أن اختلاف

القلوب ومعاداة البعض للبعض منشؤه إنما يكون من ضعف العقول، كما قال في قوم:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: آية 14] ثم كأن قائلاً قال: ما الموجب الذي صيّر قلوبهم شتى وهم أمة واحدة متفقة في الأهداف والأغراض، ما الموجب الذي صيّر قلوبهم شتى؛ أي: مختلفة متنافرة؟! فبيّن العِلة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} وليس المراد هنا نفي العقل من أصله، والمعنى:(أنهم لا يعقلون) نفي كمال العقل، يعني: أن عقولهم ليست ناضجة كما ينبغي، أمّا هم في الحقيقة فمن جملة العقلاء، وهذا يدل على أن هذه الفِرَق -التي تدّعي الإسلام- المختلفة، التي يبغض بعضها بعضاً، وإن تجاملت في ظاهر الأمر، أن سبب ذلك إنما هو ضعف العقول في بعضها، وقد يكون المختلفان أحدهما عنده عقل كامل، يدعو إلى الطريق المستقيم بعقله المستقيم، والآخر ضعيف العقل، يَفِرّ من تلك الطريق ويخالف، فهذا من ضعف العقل، وقد بيّنَّا في هذه السورة الكريمة أن ضعفَ العقول وموتها علاجه القرآن؛ لأنه يصير به الميت حيّاً، ويصير به الذي كان في الظلام في النور {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: آية 122] فبيّن أن اتباع القرآن حياة بعد الموت، ونور بعد الظلام؛ لأن تشريع خالق

ص: 534

السماوات والأرض ينوّر الأفكار ويضيء الطريق، ويدل الخلق على ما هم عاجزون عليه من مصالحهم، ولا شك أن هؤلاء الذين يعدلون عن القرآن، والله يقول:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: آية 153] ويسميه النور الذي يضيء، فيرى في ضوئه كل حق وكل باطل وكل حسن وكل قبيح وكل نافع وكل ضار؛ ولذا كثيراً ما يطلق على القرآن اسم النور، كما قال:{وَاتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: آية 157]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174)} [النساء: آية 174] {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: آية 8]{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء} [الشورى: آية

52]، فالآيات المصرحة بأن هذا الكتاب نور، والنور هو الذي يُرى في ضوئه الحق حقّاً والباطل باطلاً والنافع نافعاً، إلى آخره، فالذين يعدلون عن هذا النور -الذي هو كلام رب العالمين، المبيّن بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم زاعماً أن هذا لا هدى فيه، ويطلب الهدى في نُظُمٍ وَضْعِيَّة ألَّفَهَا خُبَثاء كفرة فجرة خنازير أبناء خنازير، أن هذا من طمس البصائر الذي يُؤسَف له ويُبكي العيون -والعياذ بالله- والحق الذي لا شك فيه أن الذي سَبَّبَ هَذَا إنَّمَا هو طمس البصائر؛ لأن البصيرة إذا ضعفت جدّاً كانت لا تتحمل النور العظيم، والنور العظيم يقضي على ذي البصر الضعيف {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: آية 20] فالذين يعدلون عن كتاب الله إلى نظم وضعية زَاعِمين أنها أحسن منه، وأبلغ في تنظيم الحياة في جميع ميادينها، فهم في الحقيقة بالحرف الواحد والكلام المطابق: خفافيش البصائر، أعماهم نور القرآن كما تعمي الشمس الخفافيش:

ص: 535

خَفَافيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ

وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

(1)

مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى

نُوراً وَيُعْمِي أَعْيُنَ الخُفَّاشِ

(2)

والدليل على هذا أن الله بيّن أن الذي لا يعلم أحقية القرآن، أن الذي منعه من ذلك عَمَاه، مع وضوح دلالة القرآن، قال:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فبيّن أن الذي منعه أن يعلم أنه الحق إنما منعه عَمَاه

(3)

.

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ

فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ

فلو حاولت أن تُري الشمس للأعمى لا تستطيع، فنور القرآن أعظم من نور الشموس، والذين يطلبون الهدى في غيره أضعف بصائر من الخفافيش، فمن هذا جاءت البلية، فعلينا جميعاً أن نعرف أن القرآن نور الله المبين وحبله المتين، المعتصم به ظافر؛ والمحتج به غالب، لا يخذل من تمسك به أبداً؛ لأنه كلام الله، ولذا قال:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: آية 155] أي: ولا تتبعوا غيره من السبل الزائغة الضالة.

ومعنى {فَاتَّبِعُوهُ} : أحِلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتقدوا عقائده، واعتبروا بأمثاله، وعاملوا أعداءكم بما فيه من الحِكَم؛ لأن القرآن يوضح جميع المرافق الحيوية من جميع مرافقها، وقد بيّناه مراراً، وسنضرب لذلك مثلاً بسيطاً؛ لأنه معروف أن جميع المصالح في الكتب السماوية، أنها تدور حول ثلاث، هي: دفع الضرر،

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من هذه السورة.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 536

المعروف بدرء المفاسد، الذي يُقال له في الأصول:(الضروريَّات)، وجلب المصالح، المسمى في الأصول بـ (الحاجيات)، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات. فجميع الشرائع السماوية إنما تدور حول هذه المصالح الثلاث؛ إمّا أن يتضمن التشريع نفي ضرر وإبعاد مفسدة، أو جلب مصلحة، أو جرياً على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

وإذا نظرنا في كتاب الله وجدنا فيه العَجَبَ العُجَابَ الذي يبهر العقول من المحافظة على هذه المصالح، ولو تكلمنا على هذا لما وسع الوقت شيئاً قليلًا منه، ولكن نضرب بعض الأمثال فنقول مثلاً: أطبق عامة العقلاء أن المظالم التي تتظالم بها الناس في دار الدنيا، ويكون بعضهم ظالماً بعضاً ومعتدياً على حق بعض، أنها هي السِّتُّ المعروفة بالضروريَّات: ستة أشياء

(1)

، وهي:

أولها: الدين: والعدوان على الدين مِنْ أعْظَم الجَنَايات وأكبرها، ومن ذلك أن تكون أولاد المسلمين على الفطرة الصحيحة، وهم في غاية الاستعداد لقبول ما كان عليه آباؤهم من الدين والصلاح، فيأتيهم قوم فيجعلون لهم مدارس يعلمونهم فيها العقائد الزائفة والإلحاد والفِكَر الهدامة، فيضيّعون دينهم، فهذا ظلم وعدوان على الدين، وهو من أعظم المظالم وأشنعها. هذا واحد من الستة: الدين.

الثاني: النفس: وهو الإنسان الذي يعدو على الإنسان فيقتله ويُذهِبَ نفسه.

الثالث: العقل: ومن يعدو على الإنسان فيضيّع عقله.

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 537

الرابع: النسب: وهو من يتجرأ على المجتمع فيضيّع بعض أنسابه.

الخامس: المال.

السادس: العِرض.

فإن جميع المظالم في دار الدنيا تدور حول هذه الأشياء، وهي العدوان على دين الإنسان، أو العدوان على نفسه، أو العدوان على عقله، أو العدوان على نسبه، أو العدوان على ماله، أو العدوان على عرضه، فهذه الجواهر الستة التي تدور حولها المظالم في دار الدنيا لا تجد نظاماً أحوط لها وأحصن لها، وأشد محافظة عليها من نظام السماء، الذي تضمنه هذا الكتاب المبارك، المنزّل مِنْ رَبِّ العَالَمين، فتراه يحافظ على الدين أشد المحافظة، فيقول:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: آية 193] أي: حتى لا يبقى في الدنيا شرك ولا فساد دين، ويقول:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(1)

ويقول: {يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: آية 217] يحثهم على أنهم يجاهدون كل المجاهدة من أراد أن يغيّر دينهم ويردهم عنه.

وأما النفس فقد جعل القرآن دونها حائطاً من حديد، وهو القصاص؛ لأن أعظم صيانة للنفوس ومحافظة عليها: شرع القصاص؛ لأن الله يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179] ومعنى أن كون القصاص لنا به الحياة: أن الرجل ينزغ فيه الشيطان فيغضب فينوي أن يقتل الذي أغضبه، فيأخذ الخنجر أو السكين، أو آلة القتل، ثم يذهب مصمماً على أن يقتله، فيتذكر أنه

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 538

إن قتله يتذكر صَلْبَه على الخشبة مقدماً لوليّ المقتول ليقتله أمام الناس، فإذا تذكر ذلك الموقف الذي يصير إليه أمره خاف، وارتعدت فرائصه، وهاب القتل، فحيي المقتول وحيي هو، وقَتْل نفس واحدةٍ قصاصاً يُحيي الله به ملايين الأنفس، وهذه حكمة القرآن وشرعه.

وهؤلاء الكفرة الذين تشبعوا بالآراء الإفرنجية، الذين يقولون إن القصاص من السفاهات، أن هذا الرجل قتل رجلاً ونقص به عدد المجتمع، فكيف نضايف بأن ننقص عدد المجتمع برجل آخر؟!! هذه فلسفة شيطانية، أصحابها لا يعرفون الحقائق، فإن الرجل الذي قَتَلْنَا أحيينا بقتله آلاف النفوس؛ لأن الشيطان ينزغ بين الناس، ويُغضِب السفهاء حتى يُقدموا على القتل، ولا يردعهم إلا القصاص، فإذا أراد أن يقتل تَذَكَّرَ مَوْقِفَهُ أمَامَ الناس مصلوباً على خشبة، أو ممسوكاً مجعولاً على عينيه غطاء ليقتله ولي الدم، فإذا تذكر موقفه أمام الناس ليُقتل خاف وحاسب، فحيي هو وحيي المقتول، ونحن نقول مثلاً -وقصدنا بيان دين الإسلام ومحاسنه وصيانته للحقائق، لا إطراء زيد ولا عمرو- أن هذه البلاد لمّا كانت تحكم بالقصاص، وتقطع يد السارق- نرجو الله أن يُسدد الحاكمين عليها للخير، ويديمهم على الحكم بحكم الإسلام- إذا وُجدت الإحصاءات العالمية في جنايات القتل أو السرقة تجد هذه البلاد أقل من جميع البلاد المتحضِّرَة المترقية حوادث وجنايات، فكل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذا النظام السماوي، الذي وضعه خالق السماوات والأرض؛ حياطة للنفوس وحياطة للأموال.

ثم إنا إذا وجدنا الأنساب، نجد الشرع الكريم حافظ على

ص: 539

أنساب المجتمع غاية المحافظة؛ ولذا حرم الزنا خَوْفَ أن يختلط ماء رجل بماء امرأة، وخَوفَ أن تحمل النساء من رجال غير معروفين، فتبقى الأولاد لا آباء لهم، فتضيع أنسابهم؛ ولأجل محافظته على الأنساب أوجب العدة، عندما يحصل فراق بموت أو طلاق يجب على المرأة العِدة، بأن تمكث عدة معينة {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228] وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: آية 4] بالغ في الصيانة حتى ألزم العدة للتي لا تحيض؛ مبالغةً في الصيانة جدّاً، حتى إنه من شدة محافظته على [الأنساب]

(1)

منع سقي الزرع بماء غيره؛ ولذا منع تزويج المرأة الحامل؛ لأن الرجل إذا تزوج امرأةً حاملاً كان يسقي بوطئه لها -كان ماؤه يسقي- ذلك الزرع الذي كان في بطنها قبله، فسقي الزرع بماء الغير كأن الولد يكون فيه حظ لهذا وحظ لهذا، فمنع سقي الزرع بماء الغير؛ حياطةً للأنساب، كما قال:{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: آية 4].

وإذا نظرنا العقول فلا نجد نظامًا يحافظ على العقل مثل نظام القرآن العظيم؛ ولذا حرّم شرب كل مُسكِر، كل شيء يضيع العقل حرَّم تعاطيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} إلى قوله:{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: آية 90] وأوجب الحد في شرب الخمر محافظةً على عقول المجتمع.

وكذلك الأعراض، منع القرآن وقوع المسلم في عرض أخيه،

(1)

في الأصل: «العقول» وهذا سبق لسان.

ص: 540

قال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: آية 12]{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: آية 11] إلى غير ذلك من الآيات، ثم بيّن للإنسان خبث عرض أخيه وقال له: كأنك إن أكلت عرض أخيك فأكلت لحمه، ووقعت في عرضه كأنك أكلته ميتاً بعد أن أنتن، وصار فيه الدود، وصرت تبتلع لحمه، في قوله:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: آية 12] وهذا غاية التقبيح من الوقوع في أعراض الناس، والكلام فيهم بالغيبة، ثم إن الله جعل حدّ القذف ثمانين جلدة، حفاظاً على أعراض الناس {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: الآيتان 4، 5] كل هذا محافَظَةً على أعْرَاضِ النَّاس.

وأوْجَبَ حَدَّ السَّرِقَةِ؛ محافظة على أموال المجتمع.

ونحن نذكر مرارًا

(1)

أن الذين طمس الله بصائرهم، ونظروا إلى التشريع السماوي بنظرة غير صحيحة، وصوّره لهم أعداء الدين بصورة مشوهة غير حقيقية، يزعمون أن قطع اليد أنه عمل وحشي، وأنه لا ينبغي أن يكون في النظم التي يُعامل بها الإنسان، وهو عمل عدالة اجتماعية من أحسن الأعمال في العدالات الاجتماعية، ومن أحسن الأعمال في الآداب الروحية أيضاً، فهو عمل جامع بين الجسم والبدن؛ ذلك أن الله خلق هذه اليد وفرق أصابعها وأبعد إبهامها من سبابتها، فلو كان الإبهام موضوعاً بقرب السبابة كقرب الوسطى منها لما قدر أن يعقد شيئاً ولا أن يحل شيئاً. وشدّ له رؤوس أصابعه

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 541

بالأظفار؛ لتكون هذه اليد خير أداة عاملة لبناء المجتمع، والمعاونة على الخير {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: آية 2] فلمّا مدت أناملها الخائنة الخسيسة الخائسة لتأخذ مال الغير على أقبح وجه وأردئِه وأخسه كانت هذه اليد في نظر الشارع الذي خلقها كأنها نجسة، فنجست هذا العضو بقذارتها وقذارة خستها وفعلها، فأمر الشارع بإزالتها كعملية تطهيرية، كعضو فاسد يفسد جميع البدن وينتنه، فهي عملية تطهيرية لإزالة عضو منتن فاسد؛ ليصح بقية البدن ويطهر؛ ولذا ثبت في حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين

(1)

ما يؤيد أنه إن أُقيم عليه الحد وقُطعت يده أن ذلك يطهِّره من تلك الخسيسة، فتطهر بقية البدن، مع أن المال هو شريان الحياة الذي به إقامة كل شيء؛ إذ لا عسكرية إلا بالمال، ولا اجتماع إلا بالمال، ولا ثقافة إلا بالمال، فهو شريان الحياة وأساس حجرها الأساسي الذي يَتَرَكَّز عليه كل شيء من مرافق الحياة.

والسرقة أخذه على وجه خبيث خسيس يعسر التحرز منه؛ لأن السارق ينظر الغفلاتِ، وأوقات الخلوات التي لا يُطَّلع عليه فيها غالبًا، فلو تركناه ولم نردعه ردعاً بالغاً لأمكن لليد السارقة الواحدة أن تبطل ملايين الأيدي، فتترك ملايين الأيدي عاطلة! فكيف نترك يداً واحدة تعيث وتفسد آلاف الملايين من الأيادي؟! فبقطعها يطهر بقية البدن، فيغفر الله للإنسان تلك الخسيسة، فيطهر من ذلك التنجيس والتقذير المعنوي، ثم إنه بعد ذلك ينزجر السفهاء عن سرقة أموال الناس، فتكون عدالةً اجتماعية، وتطهيراً سماويّاً من ذنب الخبيث، وهذه حكمة بالغة. فمعروف أن قطع السرقة فيه سؤال معروف، وهو أن

(1)

السابق.

ص: 542

الجنايات على المال أنواعها كثيرة، كأن يغصبه من إنسان أو يختطفه أو يتعدى عليه بعدوان غير السرقة، والله ما جعل القطع بِنَوْعٍ مِنَ العُدْوَان على المال إلّا في النوع الواحد الذي هو السرقة، فَمَنْ غَصَبَ مَالَ إِنْسَان مكابرة لا تُقطع يده، والعلماء أجابوا عن هذا

(1)

: بأن العدوان على المال بالأوجه غير السرقة أنه غالباً يكون ظاهراً لا يخلو من أن يجد عليه بيّنة تشهد له عند ولي الأمر، فيردع وليُّ الأمر الظالم، ويرد للمظلوم حقه.

أما السرقة فلا تكاد توجد عليها البَيِّنَة؛ لأن السارق يتحرى أوقات الغَفَلَات، وأوقات الخفاء الذي لا يطلِع عليها أحد، ولا توجد عليها بيّنة، فجعل الشارع الحد فيها أقوى وأجدى وأغلظ، لتبقى للمسلمين أموالهم، وليطهّر السارق أيضاً من رذيلته، وأمثال هذا كثيرة، فهذا هَدْيُ القرآن ومحافظته على الحقوق، ومساواته بين الناس في الحقوق، إذا قتل أكبرُ رجل أصغر رجل يُقتل به، وهو يساوي بين الناس في حقوقهم؛ فاتباع نظام السماء إذا اتبعوه انتشرت بينهم المؤاخاة والمحبة الصادقة، والعدالة الاجتماعية بمعناها الصحيح، والموادّة والمحبة والإنصاف، وإذا اعتدى بعضهم على بعض فالعمل السماوي النازل من عند الله (جل وعلا) في الردع عن ذلك الفعل هو أعظم الأشياء وأوقعها موقعها، ولكن من أعماه الله فلا مبصِّر له، من يُضِله الله فلا هادي له.

وعلى كل حال فالهدى كل الهدى في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقرآن كفيل بتنظيم الحياة بجميع أنواعها، بتنظيم حياة الرجل في نفسه، وما يأمره أن يكون عليه من الصفات الكريمة؛ من عدم الغش

(1)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 543

وعدم الخيانة، ومن السخاء والتضحية والمعاونة والشجاعة والصبر والشكر

إلى غير ذلك من أوصاف النفوس الحميدة، والنهي عن الأوصاف الخبيثة؛ كالعجب والرياء والحسد والكبر، وما جرى مجرى ذلك، فيأمره كيف يعامل زَوْجَهُ وأوْلَادَهُ أكمل معاملة، وَمِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ أنه يحذره أولاً من ضرِّهم؛ لأن أولاده وزوجته قد يضيعون دينه، والله يقول:{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ} [المنافقون: آية 9] فإن الأولاد قد يحملون الرجل على بعض المخالفات، والمرأة قد يحمله خاطرها على بعض المخالفات، والله يقول:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] فيأمرهم بالحذر أولاً من أن يوقعوهم فيما لا ينبغي، ثم إن الله يعلم أنه لا بد أن يقع منهم شيء يسوء الرجل، فبعد ذلك يأمره بالصفح والعفو عنهم، ويحذره أولاً منهم، ثم يأمره بعد الوقوع بالمعاملة الحسنة معهم:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

[23/ب] / أي: وإن وجدتم ما لا يليق فقابلوهم بالصفح والعفو والرحمة، يأمر أولاً بالحذر خوفاً منهم، وثانياً بمعاملتهم بالإحسان إذا وقع منهم بعض الشيء.

ويأمرنا بما نعامل به الأعداء، وما نعامل به الإخوان، يقول:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: آية 29] فالمسلم رحيم بالمسلم، شديد على عدو المسلم، وقال (جل وعلا):{فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: آية 54] فيبيّن أن صفات المسلم أن يكون ليناً هيّناً على أخيه المسلم، وأن يكون غليظاً فظّاً على أعدائه؛ ولذا يقول للنبي

ص: 544

في حق المسلمين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: آية 88]، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: آية 215] {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [الأعراف: آية 159] ويقول في غير المؤمنين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: آية 73]{قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: آية 123].

وجميع ما في القرآن والسنة هو الهدي الصحيح الذي ينير معالم الطريق للإنسان في جميع المصالح الدنيوية والأخروية، ويجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وإذا قَرَأْتُمْ آيتين من سورة النساء فيهما صلاة الخوف:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} [النساء: آية 102] إلى آخر الآيتين. هذا وقت التحام الكفاح المسلَّح، والمفروض أن الرجال يموتون، والقرآن في هذا الوقت يعلّم المسلمين وَجْه الخطة العسكرية، وكيف يكونون؛ ليمكنهم بذلك أن يؤدوا لله (جل وعلا) طاعة من طاعاته، وأدباً روحيّاً من آداب السماء، وهو الصلاة في الجماعة.

فهكذا يكفل القرآن المحافظة والقوة في الدنيا، والاتصال بخالق هذا الكون، وتهذيب الروح على ضوء تعاليمه، والاتصال به. ويقول في سورة الأنفال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ} [الأنفال: آية 45] فقوله: {فَاثْبُتُواْ} هذا تعليم سماوي عسكري، ومعنى:{فَاثْبُتُواْ} هو أمر العسكريين بالصمود في خطوط النار الأمامية في وجه العدو في الميدان، وهذا تعليم

ص: 545

عسكري قوي، وفي هذا الوقت بعينه يقول:{وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} فعاملوا الأعداء في الدنيا بالقوة والغلظة بجميع أنواعها، ولا تقطعوا صلتكم بمن خلقكم لتأكيد حظ أجسادكم وحظ أرواحكم، ومَنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الطرفين ظهر فيه ما ظهر، الآن

(1)

الكفرة كالكتلة الشرقية والغربية نجحوا في خدمة الإنسان من حيث كونه حيواناً جسديّاً، وأنتجوا من القوة المادية والتنظيمية ما كان لا يدخل في حسبان أحد حتى في النوم، ولكنهم أفلسوا كل الإفلاس في الناحية الرّوحية؛ لأن أرواحهم خبيثة كأرواح البهائم والسباع، ليست مُرَبَّاةً على ضوء نورٍ سماوي، ولا تعليم إلهي، فصارت هذه القوة الطاغية كأنها في يَدِ سَفِيهٍ جَاهِل لا يدري ماذا يفعل بها؛ ولذا تجد العالم كله في قلق مِنْ أَنْ تَنْفَجِرَ هَذِهِ القوة وتُفني كثيراً من الدنيا، وتراهم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر، والمجلس بعد المجلس ليتخلصوا من تلك القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس.

وأنا أؤكد لكم تماماً أنه لو كان أحد الطرفين يعلم أنه لو بادر فَدَمَّرَ ما عنده من القوة الفَتَّاكَة لفعل الثاني كما فعل، إنهم يبادرون ليتخلصوا من شَرها وخوفها والقلق بها، ولكن الكل يخاف إن بدأ بإتلاف ما عنده أن يحتفظ الثاني بالقوة التي عنده ويهلكه بها، في الوقت الذي ليس عنده قوة تدافعها، كل هذا إنما جاءهم من أنهم أهملوا ناحية الروح، واعتنوا بناحية الجسد.

والاهتمام بناحية الجسد لا ينفع ولا يصلح إلا إذا كان مزدوجاً مع الاهتمام بالروح، فلو كانت الأيادي التي صنعت هذه القوة مُرَبَّاة تربية سماوية على ضوء نور إلهي لكانت في غاية العدالة، وكان الناس في أمن تام أنهم لا يبطشون بها

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 546

إلا في أمر يرضي الله ويكون في مصلحة العَالَمِ البَشَرِي؛ ولذا فهم كأنياب الأسد وأظفاره، أنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية بهيمية فتاكة، ولكن النفس التي تديرها نفس بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والهدم، فلا مصلحة بها لبني الدنيا؛ لأن الذي يديرها يوجهها توجيهاً لا فائدة فيه، كذلك المسلمون عندهم تراث عظيم روحي، ضيعوا هذا التراث!

وكان الواجب على المسلمين أن يفهموا أن ما أنتجته الحضارة الغربية من خدمة جسم الإنسان أن فيه أشياء نافعة عظيمة يجب أخذها، وهو ما أنتجته من القوة من الناحية المادية والتنظيم، وأن فيها أضراراً عظيمة وسموماً قاتلة، وهي ما أحدثته من الإفلاس الخُلُقي والتمرد على نظام السماء، والكفر الصريح، والانْحِطَاط الخلقي في جميع ميادين الأخلاق والقيم الإنسانية الرّوحية، فهم مُفْلِسون في هذه الناحية، أغنياء في هذه الناحية، فكان على المسلم أن يعلم أن الحضارة الغربية أنتجت ماءً زلالاً نافعاً، وسمّاً فتاكاً قاتلاً، فيأخذ الماء الزلال، ويحذر من السمّ القاتل، فينتفع بتعلم ما أحدثته من القوة في سائر الميادين، وفي ذلك يأمر القرآن، ويحذر مما جَنَتْهُ من التمرد على نظام السماء، حتى إن بعض الكاتبين منهم لينفون خالق السماوات! وبعض طرقهم الهدامة مبناها على أنه لا خالق لهذا الكون ولا دين والعياذ بالله.

والمؤسف كل الأسف أن أغلب من يديرون الدفة -إلا من شاء الله- غالباً يعكسون الأمر فيأخذون من الحضارة سُمّها الفتاك، وهي الانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، ورمي القرآن وراء ظهورهم، في الوقت الذي لا يستفيدون فيه قوة.

ص: 547

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا

وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ

(1)

فعلينا أن نعلم أنه لا يكفي نصيب الروح دون نصيب الجَسد، ولا نصيب الجسد دون نصيب الروح، فلو بقي المسلمون في المساجد يصومون النهار، ويقومون الليل، ويتلون القرآن، ويعبدون الله، ولم يزاولوا شيئاً من القوة التي يردون بها الكفاح المسلح عن أوطانهم، كانوا لم يأتوا بمدلول القرآن ولم يطيعوا الله؛ لأن التكاسل والضعف وعدم إعداد القوة مخالفة للشرع السماوي، وتمرّد على نظام السماء، وكذلك الذين أعدوا جميع القوة، وخالفوا أوامر خالق السماء، فالكل من هؤلاء وهؤلاء ليس على هدى، والهدى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو إعداد القوة الكاملة في جميع الميادين، مع المحافظة على إرضاء خالق هذا الكون، والعمل بما شرّعه من تحليل وتحريم وآداب ونحو ذلك؛ ولذا قال الله:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} يعني: اتبعوا ما فيه [من الهدى والرشاد، فإنكم لو فعلتم ذلك

]

(2)

لَكَفَاكُمْ شَرَّ الدنيا وشر الآخرة، ولكنتم خير أمة وفقتم جميع البَشَر، وغلبتم جميع مَنْ فِي الدنيا؛ لأن من أطاع الله صار حِزْبَ الله، وحزب الله لا يُغلب، وطاعة الله والتمسك بكتابه هي جند لا يُغلب، فالله (جل وعلا) يأمر المؤمنين بالاستعداد، مع أن إيمانهم بالله قوة لا يغلبها شَيْء.

فنحن نعطيكم أمثلة قرآنية تدلكم على ذلك: ألا تعلمون غزوة الأحزاب، المعروفة بغزوة الخندق، التي قَصَّها الله في سورة الأحزاب، أن المسلمين كانوا في قلة عدد وفي جوع وفي ضيق

(1)

البيت لأبي العتاهية، وهو في ديوانه ص 174.

(2)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زياد يتم بها الكلام.

ص: 548

اقتصاد، وجميع مَنْ في الأرض من الناس يقاطعهم في السياسة والاقتصاد، لا روابط بينهم وبين أحد لا سياسية ولا اقتصادية، وجاءتهم تلك الجيوش جيوش الأحزاب ومعها اليهود وقريش، وجاءوا بعشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة ذلك الحصار العسكري التاريخي المشهور، الذي نوّه الله بشأنه، ووصف شدته البالغة في سورة الأحزاب بقوله:{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)} [الأحزاب: الآيتان 10، 11]{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} من الله أمر عظيم فظيع! هذا الحصار العسكري، المسلمون في ضعف من العَدَد والعُدَد والعتاد والمال، وجميع الناس يقاطعونهم، فما هذا السلاح الذي قابلوا به هذا الحصار العسكري، والقوة العسكرية الشيطانية؟! الجواب: هو سلاح الإيمان بالله (جل وعلا)، كما نص الله عليه بقوله:{وَلمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)} [الأحزاب: آية 22] هذا الإيمان الثابت الراسخ بالله والتسليم لله، كان هو السلاح القاضي على هذه الأعداء، صرّح الله بنتيجته بقوله:{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)} [الأحزاب: آية 25] يعني: إن كنتم ضعافاً أذلاء فهو قوي عزيز لا يذل من التجأ إليه، ولا من أخْلَصَ لَهُ حَقًّا.

ثم قال: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} ثم ختم وقال: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: الآيتان 26، 27] إن

ص: 549

كانت قدرتكم ضعيفة فقدرته ليست بضعيفة، فهو قويّ قادر لا يُغْلَب، ولا يُغلب من كان حزبه حقّاً.

ولما علم الله مِنَ الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الحديبية عَلِمَ مِنْ قلوبهم الإخلاص والإيمان الكامل، وَنَوَّه به بالاسم المبهم -الذي هو الموصول- بقوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: آية 18] يعني: إخلاصاً وإيماناً كما ينبغي، فكان من نتائج ذلك الإخلاص والإيمان التام بالله أن قال:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} فصرّح بأن إمكانياتهم العَدَدية والعُددية لا تقدرهم عليها، قال:{لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا} ؛ لأنه القادر، فأقدركم عليها بقدرته {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الفتح: آية 21]، فالمسلمون إذا استمسكوا بالدين غلبوا الأعداء، وهذا الذي ذكر الله يوم الخندق شيء ما كان في حسبانهم، وما كانوا يظنونه، فهو أمر إلهي من الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: آية 9] فالمسلمون إذا تمسكوا بالدين كما ينبغي، فالقرآن يأمرهم بإعداد القوة الكاملة، ولو باغتهم العدو قبل أن يستعدوا العدة الكاملة و (

)

(1)

للكفاح، فالنصر يأتي من السماء من حيث لا يَدْرُون، فَقَدْ يُسَلِّطُ الله على العدو الطاعون فيهلكه، وقد يسلط عليه عدوّاً آخر فيهلكه، وقد يخالف قلوب بعضه فيضرب بعضه بعضاً، والنصر يأتي من الله من الوجوه التي لا يعرفونها.

فالحاصل: أن القرآن لا يأمر بالتكاسُلِ والتواكل، بل إنما يأمر

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة والمعنى مستقيم بدونها.

ص: 550

بالقوة والاستعداد لكل هجوم، والمتمسك به أيضاً لو بُوغِتَ قبل أن يستعد، أو في حالة ضعف فإن الله يُقَوِّيهِ ويَنْصُره على عدوه بالطرق التي يعلمها هو وحده، وإن لم تكن في حسبان المسلمين، كما نصر أهلَ الأحزاب -النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بالريح وبجنود لم تَرَوْهَا نصرهم بالريح، كلما نصبوا خِباءً في البر نسفته الريح، وكلما وضعوا قدراً ليطبخوا فيه نسفته الريح، فبقوا مثلاً لا قرار لهم، لا كِنَّ يكنهم، ولا طعام يأكلونه، فاضطروا للفرار، حتى قال رئيسهم أبو سفيان بن حرب: ارتحلوا وأنا أول مرتحل.

وكان حذيفة بن اليمان العبسي رضي الله عنه معهم في ذلك الوقت عيناً من النبي صلى الله عليه وسلم، ذكروا عنه في السيرة أن أبا سفيان ركب على بعيره وهو معقول، قال: وأنا الذي فتحت عقال البعير، ولو لم يأمرني النبيّ بأني لا أُحْدِث شَيْئاً لكنْتُ قَتَلْتُ أَبَا سُفْيَان في ذلك الوقت

(1)

.

هذا دين الإسلام، وهذا شأن المتمَسِّكِينَ به، أما الذين ينصرفون عنه ويَتْرَكونه محتقرين إياه، زاعمين أنه لا ينظِّم الحياة، وأن الحياة تطورت، وأن تنظيم علاقات الدنيا يحتاج إلى أمور جديدة، كما يرتبه الكفرة الفجرة، هؤلاء عُمي البصائر، خفافيش البصائر، وإن سموا أنفسهم مسلمين، فالنصر لا يأتيهم من عند الله؛

(1)

أصل الخبر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، حديث رقم (1788)، (3/ 1414)، وانظر: السيرة لابن هشام ص 1043 - 1044، وما ذكره الشيخ رحمه الله هنا من أن حذيفة رضي الله عنه هو الذي حل عقال بعير أبي سفيان، لم أقف عليه في شيء من المصادر التي رجعت إليها.

ص: 551

لأن الله ميّز الذين وعدهم بالنصر، ميّزهم بصفاتهم الكاشفة، قال في الذين وعدهم بالنصر، ميّزهم في سورة الحشر تمييزاً كاشفاً:{وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} من هم الذين وعدهم الله بالنصر؟ {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: الآيتان 40، 41] أما الذين إذا مكن لهم في الأرض غيروا معالم الدين، وضيّعوا الشرع، ووضعوا المذاهب الهَدَّامَة، وأضاعوا ما في الإسلام من أخلاق، وغَيَّرُوا مَعَالم الدين، وجاءوا بالفساد والطرق الملحدة المستوردة، هؤلاء ليس عندهم وعد من الله بنصير ألبتّة، ومثالهم مثال العامل الذي عاقده رَجُل ليعمل له فامتنع مِنْ أَنْ يَعْمَل، ثم لما جاء الوقت جاء لصاحب العمل، وقال: أعطني أجرتي. قال: كيف تطلب مني أجرتك وأنت لم تعمل شيئاً؟ أنت رجل مجنون!! فهؤلاء مثل هذا يعصون الله ويناصبونه بالعداء، ويغيِّرُون مَعَالِمَ دِينِهِ، ويتحاكمون إلى الطاغوت، ثم يقولون: نحن مؤمنون ينصرنا الله!! هذا جنون وهَوَسٌ وقلب للحقائق، فالمؤمنون الذين ينصرهم الله هم الذين إن مكنهم الله في الأرض أقاموا دينه وشرعه، وعملوا بنور كتابه، كما قال هنا:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ} قال بعض العلماء: اتقوا تحريفه وحمله على غير معانيه، وقال بعض العلماء: اتقوا الله واجعلوا وقاية بينكم وبين سخطه وعذابه باتباع هذا القرآن العظيم

(1)

،

وعلى كل حال فمتبع القرآن مُتَّقٍ، فقوله:{وَاتَّقُواْ} كالعطف المؤكد لقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} ، وقوله: {لَعَلَّكُمْ

(1)

انظر ابن جرير (12/ 239)، القرطبي (7/ 143) ..

ص: 552

تُرْحَمُونَ} اتبعوه لأجل أن يرحمكم الله، أي: اتبعوه راجين أن يرحمكم الله.

ثم إن كفار قريش كانت لهم حجة قَطَعَهَا الله تبارك وتعالى خصوصاً لكفار قريش: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: الآيتان 156، 157] هذا قطع لحجة كفار مكة، وإلقام لهم الحجر، يعني: هذا كتاب مبارك أنزلناه بلغتكم الواضحة الفصحى.

أنزلناه {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} (أن) هنا: اختلف البصريون والكوفيون في المقدر قبلها

(1)

، فكان البصريون يُقدرونه مضافاً، يعني: أنزلنا عليكم هذا الكتاب بلغتكم كراهة أن تحتجوا حجة باطلة و {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وكراهة أن تقولوا: {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} ، والكوفيون يقولون:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} لئلا تقولوا كذا أو تقولوا كذا. فهو متعلق بـ {أَنزَلْنَاهُ} فـ (أن) متعلقة بـ {أَنزَلْنَا} ، بعضهم يُقدِّر:(أنزلناه كراهة أن تقولوا كذا) وبعضهم يقول: (أنزلناه لئلا تقولوا كذا)، وهذا جارٍ في كل ما يماثله في القرآن، نحو {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: آية 176] أي: لئلا تضلّوا، أو كراهة أن تضلوا {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: آية 6]، كراهة أن تصيبوا، أو: لئلا تصيبوا، وهو كثير في القرآن، وبعض العلماء يقول:{أَنزَلْنَاهُ} : العامل فيه محذوف؛ لأن {أَنزَلْنَا}

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 239)، البحر المحيط (4/ 256 - 257)، الدر المصون (5/ 229).

ص: 553

المذكورة حالَ بينها وبين المعمول أجنبيّ، والمعنى متقارب، والمعنى: كأنه يقول: يا كفار مكة: أنزلنا هذا الكتاب المبارك بلغتكم وبلسانكم كراهة أن تتعللوا بعلل فاسدة، وأن تقولوا:{إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ} وهم: اليهود والنصارى، وكتاب اليهود: التوراة، وكتاب النصارى: الإنجيل.

{وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} لأن الطائفتين كلاهما جماعة وخلق

(1)

، فقال:{عَن دِرَاسَتِهِمْ} ولم يقل: عن دراستهما.

{غَافِلِينَ} وإنما غفلنا عنها؛ لأن لسان هؤلاء أعجمي، ولساننا عربي، ولا نفهم كلامهم، ولا يفهمون كلامنا، فلو أردنا أن نعرف منه أوامر الله ما قدرنا؛ لأنه ليس بلغتنا ولا بلساننا، ولا نفهم ما يقول أهله، ولا يفهمون ما نقول، يعني: كراهة أن تقولوا هذه الدعوى، وتعتلوا هذا الاعتلال أنزلنا عليكم كتاباً سماويّاً واضحاً بلغتكم، لنقطع هذا العذر؛ أي: أنزلناه لئلا تقولوا، أو: كراهة أن تقولوا: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} اليهود، وهو: التوراة، والنصارى، وهو: الإنجيل.

{وَإِن كُنَّا} (إن) هي المخففة من الثقيلة

(2)

، وهي هنا مهملة لا عمل لها.

واللام في قوله: {لَغَافِلِينَ} لام الفرق، الفارقة بين (إنْ) المخففة من الثقيلة، و (إن) النافية

(3)

، وكونهم غافلين عنها

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 257).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 257)، الدر المصون (5/ 230).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 257)، الدر المصون (5/ 230 - 231)، الكليات ص 783.

ص: 554

لا يفهمونها؛ لأنها ليست بلغتهم، ولا يعرفون معانيها؛ لأنها ليست بلغتهم، يعني: فقد قطعنا هذا العذر، وأنزلنا إليكم كتاباً بلسانكم، أو تقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل التوراة على اليهود، أو كتاب كما أُنزل الإنجيل على النصارى، لعملنا بذلك الكتاب، وكنا أهدى منهم، ولكنا لنا عذر، وهو أنهم أنزل عليهم كتاب، ونحن لم ينزل علينا كتاب، هذا العذر، {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} فكأن الله يقول: إن ادعيتم هذه الدعاوي، واعتللتم بهذه العلل، فقد جاءكم كتاب منزل بلسانكم ولغتكم، تعرفون معناه فسمى القرآن (بيّنة) لأن البيّنة هي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وسُمي الشهود (بيّنة) لأنهم يبيّنون الحق بشهادتهم.

{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} هدى إرشاد للجميع، وهدى توفيق لمن اتبعه، ورحمة يرحم الله به مَنْ عَمِلَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ المؤمنين ووفَّقَه لذلك.

ثم إن الله قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ} وهم كفار قريش، بعد أن نزل عليهم الكتاب، وقطع به عذرهم، {كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ} وقال: هي سحر، شعر، كهانة، أساطير الأولين.

{وَصَدَفَ عَنْهَا} صَدَفَ تُسْتَعْمَل استعمالين

(1)

: صدف تستعمل

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 244) القاموس (مادة: صدف) 1068، البحر المحيط (4/ 258)، أضواء البيان (2/ 282)، مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

ص: 555

بمعنى: أعْرَضَ، تقول: صدفت عن الأمر أصدف عنه، بمعنى: أعرضت عنه، ومنه قول الشاعر

(1)

:

إِذَا ذَكَرْنَ كَلَاماً قُلْنَ أَحْسَنَهُ

وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ

أي: عن كل سوء معرضات، ومنه قول عبد الله بن رواحة أو غيره

(2)

:

عَجِبْتُ لِلُطْفِ اللهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا

لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ وَحْيٍ مُنزَّلِ

أي: إعراضنا، وعليه فـ (صَدَفَ) لازمة، بمعنى: أعرض، وتستعمل (صدف) متعدية، تقول: صدف زيدٌ عمراً؛ أي: صدّه عن طريقه، وجعله معرضاً عنها.

واختلف العلماء في (صدف) هنا، هل هي متعدية محذوفة المفعول؟ وهو قول السُدّي

(3)

، وهو الظاهر؛ لأنه يكون جامعاً بين الضلال والإضلال.

{كَذَّبَ بِآيَاتِ} أي: كفر هو بنفسه، وصدف الناس؛ أي: صدَّ الناس عن الإيمان بها، فهو جامع بين الضَّلَالِ والإِضْلَالِ، وعَلَى هذا القول لو قلنا: إن (صدف) لازمة، تتكرر مع قوله:{كَذَّبَ بِآيَاتِ} لأن المكذب بآيات الله صادف عنها، فيكون تكراراً، وروي عن ابن عباس أن (صدف) هنا لازمة

(4)

، أي: كذب بآياتنا وأعرض عنها، ووجهه: أنه كذب بها بلسانه وأعرض عنها

(1)

البيت لابن الرقاع، ولفظه في المصادر التي وقفت عليها، ومنها: أضواء البيان: «إذا ذكرن حديثاً» . وقد مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 244)، أضواء البيان (2/ 282).

(4)

المصدران السابقان.

ص: 556

بجوارحه، كقوله:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: آية 31] أي: لا صدق بلسانه ولا صَلَّى بِجَوَارِحِه.

وقوله: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} سنجازي الذين يصدفون؛ أي: يصدون الناس {عَنْ آيَاتِنَا} بناءً على أنَّ صَدَفَ مُتَعَدِّيَة، أو سنجزي الذين يُعْرِضُونَ {عَنْ آيَاتِنَا} بناءً على أنها لازمة.

{سُوءَ الْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: سنجزيهم العذاب السيئ، وهذا يدل على أنها متعدية؛ لأن {سُوءَ الْعَذَابِ} عذاب مضاعف لِضَلَالِهم وإضلالهم، كما قال:{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ} أي: كفروا في أنفسهم، وصدوا الناس عن سبيل الله {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: آية 88] أي: لإضلالهم وضلالهم.

{بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} وفي هذه الآية بعض الأسئلة المعروفة اللغوية:

أحدها: أنه قال: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} فأفرد الكتاب، ثم بيّن بقوله {عَلَى طَآئِفَتَيْنِ} أنهما كتابان، كيف يفرد الكتاب، وهما كتابان: التوراة والإنجيل؟ هذا سؤال وارد معروف.

والجواب عنه معروف، وهو أن المفرد إذا كان اسم جنس جاز استعماله مفرداً مراداً به الجمع أو التثنية؛ لأن المراد به الجنس في حالاته الثلاث، ونعني بحالاته الثلاث: أن يكون مُنَكَّراً، أو مُعَرَّفاً بالألف واللام، أو مضافاً، ونحو هذا كثير في القرآن

(1)

.

(1)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

ص: 557

فمن أمثلته معرَّفًا قوله هنا: {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ} وليس بكتاب واحد، وقوله:{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: آية 119] أي: بالكتبَ كلها، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: آية 45] أي: الأدبار. {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] أي: الغرف، بدليل:{لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20]، وقوله:{وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ} أي: والملائكة، بدليل قوله:{صَفّاً صَفّاً} [الفجر: آية 22] لأن المَلَكَ الواحد لا يكون صفّاً صفّاً، {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور: آية 31] أي: الأطفال، وهو كثير.

ومثاله واللفظ مُنَكَّر: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} [القمر: آية 54] يعني: وأنهار، بدليل:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: آية 15]{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5]؛ أي: أطفالًا. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً} [المؤمنون: آية 67] أي: سامرين. {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} [المائدة: آية 6] أي: أجناباً أو جنبين. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} [النساء: آية 4] أي: أنفساً. {وَالمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: آية 4] أي: مظاهرون، وهو كثير في القرآن.

ومن أمثلته واللفظ مضاف: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ} [النحل: آية 18] أي: نعم الله. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: عن أوامره. {إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي} [الحجر: آية 68] أي: أضيافي، وكان سيبويه رحمه الله في كتابه أَلَمَّ بهذا الموضع

(1)

،

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

ص: 558

وقال: إن إطلاق المفرد إذا كان اسم جنس مراداً به الجمع أنه يوجد في كلام العرب بغير كثرة، بقلة. ونحن نرى باستقراء اللغة العربية أنه كثير، وأنشد له سيبويه في كتابه بيتين: أحدهما قول علقمة بن عَبَدَة التميمي

(1)

:

بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا

فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

أي: وأما جلودها فصليبة.

والثاني قول الآخر

(2)

:

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعُفُّوا

فَإِنَّ زَمَانَكُم زمنٌ خَمِيصُ

أي: بعض بطونكم، ونحن نراه في كلام العرب وأشعارها بكثرة، فمنه قول عقيل بن علّفة المرّي

(3)

:

وَكَانَ بَنُو فزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ [أي: أعمام]

وَكُنْتُ لهُمْ كَشَرِّ بَنِي الْأَخينَا

وقول عباس بن مرداس السُلمي

(4)

:

فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أخُوكُمْ

وَقَدْ سَلِمتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ

أي: إخوانكم. وقول جرير

(5)

:

إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا

أَبَانَ المقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ

أي: وآباؤك، وهو كثير في كلام العرب كما بيّنَّا.

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

(5)

السابق.

ص: 559

فبهذا يعلم أن إطلاق الكتاب مراداً به جنس الكتاب الصادق بالتوراة والإنجيل واضح لا إشكال فيه، وهذا معنى قوله:{إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وقوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} بيّن أنهم كذبوا في هذه حيث قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} [فاطر: الآيتان 42، 43] وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ} إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قِبَلاً} وفي الأخرى: {قُبُلاً} {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} [الأنعام: الآيات 109 - 111]، وبهاتين الآيتين قطع الله حجة كفار قريش.

يقول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)} [الأنعام: آية 158]، هذا استفهام معناه النفي، والمعنى: أن هؤلاء الكفار، والذين يكذبون بآيات الله ويصدفون عنها، يكذبون بها ويصدفون الناس عنها، ويحملونهم على الإعراض عنها، ما ينظرون، أي: ما ينتظرون؛ لأن معنى قوله هنا: {هَلْ يَنظُرُونَ} هل ينتظرون، والعرب تطلق (نظر) بمعنى: انتظر، والدليل عليه هنا أنه بيّنه في آخر الآية فقال:{قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ونظيره من كلام العرب، من إطلاق (نظر) وإرادة:(انتظر) قول امرئ القيس (1):

ص: 560

خَليليَّ مُرَّا بي عَلَى أُمِّ جُنْدَبٍ

لتُقْضَى لُبانَاتُ الفُؤَادِ المُعذَّبِ

فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً

مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ

وقوله: «تنظراني» أي: تنتظراني، يعني: ما ينظر هؤلاء المكذبون إلّا إحدى الدواهي العِظام الآتية: {إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ} جمهور المفسرين على أن المراد بإتيان الملائكة: إتيان الملائكة لقبض أرواحهم (1)؛ لأن ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس له أعوان كثيرة يقبضون الروح. قال بعض العلماء: حتى يبلغوها الحلقوم فيأخذها ملك الموت (2). وقد قال جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: آية 61] فدل على أنها رسل متعددة أعوان ملك الموت؛ ولذا أسند التوفي لرسل متعددة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وأسنده مرة لملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: آية 11] وأسنده مرة لنفسه {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: آية 42] وإسناده لنفسه واضح؛ لأن كل شيء واقع بمشيئته، وإسناده لملك الموت؛ لأنه الملك الموكل بقبض الأرواح، وإسناده لرسل متعددة؛ لأن لملك الموت أعواناً كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح. قال بعض العلماء: ينزعونها إلى الحلقوم فيأخذها هو؛ أي: ملك الموت (3).

والمعنى: ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة فتقبض أرواحهم على الشقاء والكفر، فيخلدون في النار تخليداً مؤبَّداً.

ص: 561

{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: يأتيهم الله لفصل الخطاب يوم القيامة، فيعذبهم العذاب الأكبر عندما يأتي ليحاسب الناس على أعمالهم، وإتيان الرب هنا هو معنى قوله جل وعلا (4):{وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)} [الفجر: آية 22] وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: آية 210].

وهذه الآيات ونحوها من الآيات، كمجيء الرب في هذه الآيات، الذي أخبر به عن نفسه، كنزوله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر يقول:«هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيب لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِر لَهُ» (1)، كل هذه من آيات الصفات وأحاديثها أشكلت على آلاف الخلق، وضل فيها ملايين الناس من حذاق النظار، الفحول العلماء؛ لأن التوفيق بيد الله.

ونحن نُحَرِّرُ لكم هذا المقام تحريراً شافياً واضحاً على ضوء نور القرآن العظيم، بحيث يَتَيَقَّن العاقل أنَّ مَنْ مَاتَ عليه لقي الله سالماً، اعلموا أيها الإخوان أنا نوصيكم وأنفسنا بهذا الذي نقوله لكم في الخروج من هذا المأزق الأكبر، ومزلة الأقدام التي زلت فيها أقدام الآلاف ممن ينتمي للعلم، في آيات الصفات، فمن مُعَطِّلٍ نافٍ لها، ومن مُشَبِّه مُجَسِّم، ومن مغير لها آت بغيرها، والحق الفصل في هذا: هو أن البيان بالقرآن، والله أوضح هذه المسألة إيضاحاً شافياً

ص: 562

لا لبس في الحق معه، ولكن الله يهدي من يشاء، أما الذين يؤولون صفات الله، ويقولون: لها ظاهر غير مراد؛ لأنه ظاهر يُفهم غير اللائق بالله! فيصرفونها ويأتون بشيء بدل ذلك من عند أنفسهم! فهم كما قال الشافعي رحمه الله -لأنهم يقصدون الخير، ولكنهم غلطوا ووقعوا في شرٍّ مما فرّوا منه، وقول الشافعي المذكور- بيته المشهور (2):

رَامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ

وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقاً

والمخرج من هذا المأزق: هو الاعتماد على ثلاثة أصول كلها من كتاب الله، فمن لقي الله معتقداً لها ومات عليها لقي الله سالماً على المحجة البيضاء التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن أخل بواحدٍ منها دخل في مهواة وبلايا قد لا يتخلص منها، فأوصيكم بهذه الأصول الثلاثة القرآنية؛ لأنها هي المخرج الإلهي القرآني من هذا المأزق العظيم

(1)

.

الأول من هذه الأصول الثلاثة: هو أساس التوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله معرفة على الوجه الصحيح، وهو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خَلْقِهِ، هذا هو الأصل الأكبر، والحجر الأساسي لمعرفة الله على الوجه الصحيح اللائق، تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة شيء من خلقه في صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم. ومن هم الخلق يا إخوان؟ من هم الخلق؟! أليسوا أثراً من آثار قدرته وإرادته، وصنعة من صنائعه؟

(1)

مضى عند تفسير الآية (52) من هذه السورة.

ص: 563

وكيف يخطر في ذهن العاقل أن الصنعة تشبه صانعها؟ لا، وكلا!! فمن رزقه الله علم هذا الأساس، وهذا الأصل الأكبر، وأساس العقيدة الصحيحة الذي هو تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يشبه شيئاً من خلقه في شيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم فقد رزقه الله أساس التوحيد، وحجره الأساسي، وهذا إذا امْتَلَأَ منه قلب المؤمنِ، وعرف أن صفة الله عندما تُسند إلى خالق السماوات والأرض تمتلئ القلوب من الإجلال والإعظام والإكبار، وتنزيه صفة الله عن أن تشبه شيئاً من صفات خلقه، هذا هو الأصل الأول وهو في ضوء قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11]{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: آية 4]{فَلَا تَضْرِبُواْ لِلهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74]{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: آية 65] أي: مسامياً يساميه في المكانة والقوة والفضل.

إذا استحكم هذا الأساس في قلب العبد، وكان قلبه طاهراً من أقْذار تنجيس التشبيه منزِّهًا لله، عالماً أن وَصْفَ الله أجَلُّ وأعْظَمُ وأكبر وأنْزَهُ من أن يُشْبِهَ صِفَة المخلوق/ فإذا استحكم هذا الأصل في قلبه

... [24/أ]

فالأصل الثاني: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، إيماناً مبنيّاً على أساس هذا التنزيه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: آية 140] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله، الذي قال فيه:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] فهذا الذي قلت لكم في هذين الأصلين - أن الأول: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به نبيه إيماناً مبنيّاً على أساس ذلك التنزيه- ما قلته لكم من تلقاء

ص: 564

نفسي، ولا رواية عن زيد ولا عمرو، بل في ضوء نور المحكم المنزل، الذي هو آخر الكتب السماوية عهداً بالله، وهذا تعليم رب العالمين، وذلك الإيضاح السماوي في قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]، فاعلموا أيها الإخوان أن الإتيان بقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سرّ أعظم، ومغزى أكبر، وتعليم سماوي، لا يترك في الحق لبساً؛ لأن السمع والبصر صفتان هما أشد الصفات توغّلاً في التشبيه، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر؛ ولذا جاء بقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: لا تتنطع يا عبدي، وتشبِّه صفتي بصفة مخلوقي، وتنفي عني سمعي وبصري، بدعوى أنك إن أثْبَتَّ لِي السمع والبصر شَبَّهْتَنِي بالحَمِير والآدميين وغيرهم من الحيوانات التي تبصر!!

لا يا عبدي، أثبت لي سمعي وبصري، ولكن لَاحِظْ في ذلك الإثبات قولي قبله متصلاً به:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] فإثبات السمع والبصر على أساس نفي المماثلة.

فأول الآية الكريمة فيه النفي التام للتشبيه والتمثيل، وآخرها فيه الإيمان بالصفات من غير تكييف ولا تعطيل على أساس التنزيه عن التشبيه والتمثيل.

فعلينا أن نعمل بأول الآية، فننزه ربنا، وذلك هو الأساس، فإذا نزهناه عن مشابهة خلقه وحملنا أوصافه في القرآن والسنة على الأوجه الكريمة اللائقة، كان من السهل علينا أن نؤمن بالصفات؛ لأننا نؤمن بها على أساس التنزيه عن مشابهة الخلق.

ص: 565

فالأصل الأول: وهو أساس التوحيد: تنزيه الله عن مشابهة شيء من خلقه بشيء من صفاتهم، أو ذواتهم، أو أفعالهم.

والأصل الثاني: عدم جحد شيء مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، بل يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله إيماناً مبنيّاً على أساس ذلك التنزيه، على غرار:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11].

الأصل الثالث: هو أن نعْلَمَ أنَّ العقول مخلوقة واقفة عند حدِّها، لا تحيط علماً بخالقها، فهي عاجزة عن إدراك كيفية الاتِّصَاف بالصِّفَات، والله يقول:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110].

فمعلوم أن المتكلمين الذين نفوا كثيراً من صفات الله بالأدلة العقلية المفرغة في قوالب أقيسة منطقية قسموا الصفات قسمة سداسية، قالوا: منها صفة نفسية، ومنها صفة معنى، ومنها صفة معنوية، ومنها صفة فعل، ومنها صفة جامعة، كتقسيمهم المعروف (1).

ونحن نبيّن لكم أن كل هذه الصفات جاءت الآيات القرآنية بوصف الخالق بها، وبوصف المخلوق بها، والكل من ذلك حق، فالخالق حق، وصفاته حق، والمخلوق حق، وصفاته حق، ولكن صفة المخلوق ملائمة لذات المخلوق، وصفة الخالق لائقة بذات الخالق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، لا مناسبة ألبتة بين الذات والذات، ولا بين الصِّفَةِ والصِّفَةِ.

ص: 566

هذه صفات المعاني السبعة، الذي يقر بها من ينكر أكثر الصفات الوجودية غيرها، وهي عندهم: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. جاءت في القرآن.

هذا السمع والبصر يقول الله فيه عن نفسه: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: آية 75] في وَصْف نفسه وَصَف نفسه بأنه سميعٌ بصير، ووَصَف بعض خلقه أيضاً بالسمع والبصر، قال:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: آية 38] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)} [الإنسان: آية 2] ولا شك أن لله سمعاً وبصراً حقيقيين لائقين بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر حقيقيان مناسبان لعجزه وفنائه وافتقاره، وبين سمع الخالق وبصره وسمع المخلوق وبصره من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.

وقال (جل وعلا) في وصف نفسه بالحياة: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: آية 255]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: آية 58]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر: آية 65].

ووصف بعض خلقه بالحياة، قال:{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15)} [مريم: آية 15]، {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: آية 30]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: آية 31].

فنحن نقطع أن لله حياة عظيمة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين الصفة والصفة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات.

ص: 567

ووصف نفسه بالعلم، قال:{وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 282]، {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: آية 166]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7)} [الأعراف: آية 7].

ووصف بعض خلقه بالعلم، قال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: آية 28]، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68]، {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: آية 12].

ولا شك أن لله علماً حقيقيّاً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوق علماً مناسباً لعجزه وفنائه وافتقاره، فصفة الله حق، وصفة المخلوق حق، وكل بحسبه؛ فصفة الله لائقة بذاته، وصفة المخلوق مناسبة لذاته، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كما بين ذات الخالق والمخلوق.

ووصف نفسه بالإرادة، فقال:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: آية 16]، {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: آية 28].

ووصف بعض خلقه بالإرادة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: آية 67]، {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: آية 13].

ولا شك أن لله إرادة حقيقية لائقَةٌ بكَمالِهِ وجلاله، وللمخلوق إرادة حقيقية مناسبة لحاله وعجزه وافتقاره وفنائه، فبين الإرادة والإرادة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات.

ووصف نفسه بأنه متكلم: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: آية 164]، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: آية 144]، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: آية 6].

ص: 568

ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: آية 54]، وقال:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس: آية 65].

ولا شك أن لله كلاماً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بين ذات الخالق والمخلوق.

هذه صفات المعاني السبع التي أقَرَّ بها مَنْ جَحَدَ كثيراً من الصفات، كذلك الصفات التي يسمونها السلبية، والصفة السلبية في اصطلاح المتكلمين: هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله. وهي عند المتكلمين خمس صفات:

وهي البقاء، والقدم، والغنى المطلق، الذي يُسمونه: القيام بالنفس، يعنون به الاستغناء عن المحل والمُخَصّص، والمخالفة للخلق، والوحدانية

(1)

.

أما القِدَم والبقاء: فالمتكلمون أثبتوهما لله، وقد قال بعض العلماء: إنه ورد بمثل ذلك حديث، وبعضهم ينفي صحته، والمتكلمون يقصدون بهما معنىً صحيحاً؛ لأن القِدَم عندهم: هو سلب العدم السابق، والبقاء: هو سلب العدم اللاحق، زاعمين أن الله أثبتهما لنفسه بقوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: آية 3] أي: الأول الذي لا ابتداء لأوليَّتِهِ، والآخر الذي لا انتهاء لآخرِيَّتِهِ. قالوا: هذا معنى القِدَم والبَقَاء.

فنقول: القِدم وصف الله به المخلوقين قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (147) من هذه السورة.

ص: 569

الْقَدِيمِ} [يس: آية 39]، {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95]، {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: آية 76]، والبقاء وَصَف به الحادث حيث قال:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: آية 77]، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96].

والوحدانية وصف بها نفسه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: آية 163].

ووصف بعض المخلوقين بها قال: {يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ} [الرعد: آية 4].

والغنى وصف به نفسه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: آية 8]، {وَاللَهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6].

وقال في بعض المخلوقين: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: آية 16]، {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ} [النور: آية 32].

ولا شك أن ما وُصف به الله من هذه الصفات مخالف لما وُصف به المخلوق كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بحسبه، فصفة الله بالِغة من الكمال والتنزيه ما تتعاظم أن تشبهه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تتعاظم أن تشبه ذوات المخلوقين.

وهذه الصفات الجامعة

(1)

كالعلو، والكِبَر، والعظم، والملك،

(1)

مضى عند تفسير الآية (147) من هذه السورة.

ص: 570

والجبروت، كل هذا جاء في القرآن العظيم وَصْف الخالق والمخلوق به، فقد وصف تعالى نفسه بالعلو، والكِبَر، والعظم، قال في وصف نفسه بالعلو والعظم:{وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: آية 255].

وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: آية 34]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ (9)} [الرعد: آية 9].

ووصف المخلوقين بالعظم، والكِبَر، والعلو، فقال في وصف المخلوق بالعظم:{فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: آية 63]، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: آية 40] {وَلَهاَ عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: آية 23]، {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: آية 129].

وقال في وصف المخلوق بالكِبَر: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: آية 31]{لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: آية 11]، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: آية 63].

وقال في وصف المخلوق بالعلو: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: آية 50]، {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57)} [مريم: آية 57].

وقال في وصف نفسه بالملك: {يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة: آية1]، {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: آية 23].

ووصف بعض خلقه بالملك فقال: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}

ص: 571

[يوسف: آية 50]، {وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: آية 43]، {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: آية 79]، {تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاء} [آل عمران: آية 26].

ولا شك أن ما وُصف الله به من العلو، والكِبَر، والعظم، والملك مخالف لما وُصف به الخلق من العظم، والكِبَر، والعلو، والملك، فصفة المخلوق لائقة بعجزه وفنائه وافتقاره، وصفة الخالق لائقة بجلاله وكماله، فصفة كلٍّ بحسبه.

ووصف نفسه بأنه متكبِّر جبَّار، قال:{هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إلى أن قال: {الْجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: آية 23].

ووصف بعض خلقه بالجبار والمتكبر كما قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: آية 60]{وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} [الشعراء: آية 130]{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: آية 35].

ووصف نفسه بأنه يغفر، قال:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: آية 173]، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} [آل عمران: آية 129]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: آية 6].

ووصف بعض خلقه بالمغفرة، قال:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: آية 43]، {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللهِ} [الجاثية: آية 14]، {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: آية 263].

ص: 572

ووصف نفسه بأنه حليم، قال:{وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: آية 59].

ووصف بعض خلقه بأنه حليم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: آية 114]، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: آية 101].

ووصف نفسه (جل وعلا) بالعزة، قال:{يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: آية 1].

ووصف بعض خلقه بالعزة قال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: آية 51]، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: آية 23].

ووصف نفسه بالقوة فقال: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ (58)} [الذاريات: آية 58].

ووصف بعض خلقه بالقوة، وجمع المثالين قوله:{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: آية 15]، {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: آية 54]، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: آية 52].

ووصف نفسه بأنه رؤوف رحيم، قال:{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 7].

ووصف بعض خلقه -وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: آية 128].

وإذا نظرنا إلى صفات الأفعال فنجده (جل وعلا) يصف نفسه بالفعل، ويصف عباده بالفعل، وجميع ما وصف الله به نفسه لائق

ص: 573

بكماله وجلاله، وجميع ما وصف به خلقه مناسب لحال خلقه وفقرهم وعجزهم وفنائهم، وبين الصفة والصفة من المنافاة كما بين الذات والذات.

فمن صفات الأفعال: أن الله وصف نفسه بأنه يفعل رزْق عباده، قال:{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ (58)} [الذاريات: آية 58]، وقال:{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: آية 39]، {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: آية 11].

ووصف بعض خلقه بأنه يفعل الرّزق أيضًا، قال:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: آية 8]، وقال:{وَعلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: آية 233].

ورَزْق الله لخلقه ليس كَرَزْق الناس بعضهم لبعض، فبين الفعل والفعل من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات.

ووصف نفسه بأنه يعمل، قال جل وعلا:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: آية 71].

ووصف نفسه بالفعل الذي هو العمل.

ووصف خلقه بالعمل، قال:{جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: آية 17].

ووصف نفسه بأنه يُعلِّم خلقه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: الآيات 1 - 4]، {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: آية 65].

ص: 574

ووصف خلقه بأنهم مُعَلّمُون، كقوله:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: آية 129]، وجمع المثالين قوله:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} [المائدة: آية 4].

ووصف نفسه بأن يُنبئ، ووصف بعض خلقه بأنه يُنبئ، قال:{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: آية 3].

وأمثال هذا في القرآن لا تكاد تحصى، وقصدنا أن نُمثّل بجميع الصفات أن الله وصف بها نفسه، ووصف بها خلقه، وأن لله صفات حق، وللمخلوقين صفات حق، وصفة الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفة المخلوق مناسبة لحاله وعجزه وفنائه وافتقاره.

وكذلك وصف نفسه بالاستواء على العرش بسبع آيات من كتابه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: آية 54]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: آية 5].

ووصف بعض خلقه بالاستواء على مخلوق كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: آية 13]، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: آية 44].

واستواء الخالق ليس كاسْتِوَاء المَخْلُوق، فبينهما من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، وهكذا في جميع صفات الله، إذا وصف نفسه بإتيان أو مجيء فإتيانه أو مجيئه لائق بكماله وجلاله، كسمعه وبصره، وقدرته وإرادته، منزه عن مشابهة إتيان الحوادث ومجيئهم، فكلّ ما يخطر في المعاني من إتيان الخلائق ومجيئهم، فصفة الخالق (جل وعلا) منزهة عنه كسائر صفاته.

ص: 575

فعلينا أولاً أن نُنَزِّهَ الله، ثم نثبت لَهُ مَا أثْبَتَ لنفسه على أساس التنزيه، ثم نقطع طمعنا عن إدراك الكيفية.

ونحن نقول لكم: إن هذه الأيام والليالي سائرة بنا بسرعة إلى القبور، ثم إلى عَرَصَاتِ القيامة، فعن قريب ونحن أمام الله في عرصات القيامة، والله يقول:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: الآيتان 92، 93] ومما يوشك أن يسألنا عنه: ماذا كنتم تقولون في صفاتي التي مدحت بها نفسي؟ هل كنتم تنفونها وتكذبونني وتدّعون عليَّ أني أمدح نفسي بشيء لا يليق؟ أو كنتم تنزهونني وتثبتون لي صفاتي، وتعلمون أني لا أمدح نفسي إلا بوصف كمال وجلال، وأن صفتي لا تشابه صفة خلقي؟

فهذه الأسس الثلاثة من مات عليها مات على دين محقَّق وعقيدة سلفية صحيحة، وأنا أضْمَن له أنه لا تأتيه بليّة من واحدة من هذه الأصول الثلاث، ولا يأتيه من قِبلها لَوْم ولا توبيخ ولا عذاب بهذه الأسس الثلاث، فلا يقول الله له: لِمَ تُنَزِّهني عن مشابهة خَلْقِي في صفاتهم وأفعالهم وذَوَاتِهِمْ؟ لا، وكلا، هذه طريق سلامة محقَّقَةٍ.

ولا يقول له ربه: لِمَ تصدقني فيما أثنيت به على نفسي، وتصدق نبيي فيما أثنى عَلَيَّ به تصديقاً مبنيّاً على أساس التنزيه؟ لا، وكلا، هذه طريق سلامة محققة.

ولا يقول له: لِمَ لا تَدَّعِي أن عقلك محيط بي؟ فلا يقول له ذلك أبداً، فكل هذه الأسس الثلاث طريق سلامة محققة في ضوء

ص: 576

القرآن، وكل البلايا وكل الشر من أن يسبق في الذهن تفسير الصفة بما لا يليق، فإذا سبق في الذهن تفسير الصفة بتفسير قذر نجس فيه تشبيه اضطر الإنسان المسكين إلى أن ينفيها، فإذا وضعتم مثلاً مقارنة بين مذهب السلف الذي كان عليه السلف الصالح، من الإيمان بالصفات إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، والتصديق بها، كما قال الإمام مالك لما قال له الرجل:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف اسْتَوَى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأمر أن يُخرج عنه

(1)

.

فالسلف الصالح رضي الله عنهم من القرون المشهود لهم بالخير، قبل أن يظهر في الوجود الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ما كان في الدنيا ولا في العلماء أحد ينفي شيئاً من صفات الله، ولا يفسرها بمعنى غير لائق، بل جميع الأمة إذا سمعوا الوصف مسنداً إلى الله امتلأت قلوبهم من الإجْلَالِ والإعْظَامِ، وعَلِمُوا أَنَّ ذلك الوصف لا يُشْبِه شيئاً من صفات المخلوقين، وأنه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فَهَانَ عليهم الإيمان به؛ لأن إثبات الأوصاف الكريمة لله هَيِّنٌ على كل مسلم.

أما إذا فسر الصفة بتفسير خبيث يرمي إلى التشبيه، ويُدَّعَى أن ظاهره التشبيه، فمن هنا تأتي البلايا وتأتي الويلات، ويقع الإنسان في مَشَاكل؛ لأنه إذا تنجس القلب بِقَذَرِ التشبيه اضطر إلى أن ينفي الصفة. ونضع -مثلاً- مقارنة: الله تعالى- مثلاً- قال:

(1)

مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

ص: 577

{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5]، وقال:{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: آية 158]، وقال:{وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: آية 284]، فالسَّلَفي يقول: هذه القدرة منزهة عن قُدر المخلوقين وشبهها، وهذا الاستواء منزه عن استواء المخلوقين، لا يشبهه في شيء من المشابهة، وهذا الإتيان إتيان لائق بكمال الله وجلاله، مُنَزَّه عن كل ما يخطر في العقول من إتيان البشر، فإذا كان قلبه ممتلئًا من الإعظام والإجلال، وحمل هذه المعاني على المعاني اللائقة الكريمة الجليلة اللائقة بالله، المنزهة عن كل ما لا يليق، كان أولاً: مُنَزِّهًا، وكان ثانيًا: مؤمناً غير جاحد ولا مُعَطّل.

مثلاً كان السلف الصالح إذا سمعوا {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5]، يقول: هذا الاستواء بالغ من غايات الكمال والجلال والعظمة واللياقة بالله ما يقطع جميع أوهام علائق المشابهة بَيْنَهُ وبَيْنَ صفات المخلوقين، ومن هم المخلوقون حتى يُشبه استواء الله باستوائهم؟ وهم أثر من آثار قدرته، وصنعة من صنعته، والصنعة لا تشبه صانعها! فإذا حملوا الاستواء على المعنى العظيم اللائق بجلال الله المُنَزَّه عن كل استواء للمخلوقين يخطر في ذِهْن الإنسان، كان الإيمان بذلك الاستواء سهلًا عليهم؛ لأنهم يحملونه على معنى شريف كريم لائق بجلال الله، وإذا سُئل أدنى الناس عقلاً، سُئل مُطْلَق عاقلٍ، وقيل له: يا إنسان، إذا وصف الله نفسه بوصف يمدح به نفسه فما الظاهر المتبادر من ذلك الوصف؟ أظاهره المتبادر منه أنه في غاية الكمال والجلال والتنزيه واللياقة بالله حتى نقرّه على ظاهره الكريم إيماناً وتنزيهاً؟ أو ظاهره أنه يشبه صفات الخلق، وأنه قذر نجس حتى نحتج إلى أن ننفيه بالتأويلات، ونثبت

ص: 578

شيئاً بدله؟! فلا شك أن أطرف مؤمن يقول: كل وصف أُسند لله فهو بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين.

والأعراب البدو في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا إذا سمعوا صفة من هذه الصفات، كالاستواء والنزول، وكصفة اليد ونحوها لا يخطر في أذهانهم صفة المخلوق؛ لأنهم يعرفون أن مخالفة الرازق للمرزوق، ومخالفة الخالق للمخلوق، ومخالفة المُحيي للمُحْيَا، ومخالفة المُميت للمُمات تجعل بين صفاتهم مخالفات هائلة لا يعلمها إلا الله، فلا يفهمون من صفة هذا أنها تميل إلى شيء من صفة ذلك؛ إذ لا مناسبة بين الخلق وخالقه، وهم أثر من آثار قدرته وإرادته.

إذاً فنعرف أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح؛ لأن صاحبه أولاً: كان قلبه ممتلئاً من تعظيم الله وإجلال الله، سالماً من أقذار التشبيه، يحمل استواء الله، ونزول الله وإتيان الله على أكمل المعاني وأجْمَلِهَا وألْيَقِهَا وأنْزَهِهَا عن مشابهة المخلوقين، ثم إنه يؤمن بها على أساس هذا التنزيه، على غرار:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11]، ويكون أولاً: منزّهاً، وثانيًا: مؤمناً مصدقاً، ثم يقطع طمعه عن إدراك الكيفية؛ لأن الله يقول:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110].

فلو تنطع متنطع وقال: نحن لا نعقل نزولاً، ولا مجيئاً، ولا استواء، ولا قدرة إلا يشابه صفات المخلوقين، فبيّنوا لنا كيْفِيَّةً مُنَزَّهة لنعقلها! فنقول: فلا نقول كما قال مالك

(1)

: السؤال عن هذا بدعة،

(1)

مضى عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

ص: 579

بل نتنَزَّل معه ونقول له: يا مسكين، أعرفت كيفية الذات الكريمة المقدَّسة، المتصفة بهذه الصفات؟! فلا بد أن يقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الاتصاف متوقفة على معرفة كيفية الذات! فسبحان من تَعَاظَمَ وتَكَبَّرَ وتنَزَّه عن كل ما لا يليق، وعن كل مشابهة الحوادث من جميع وجوهها، وهو (جل وعلا) متصف بصفات الكمال والجلال.

أما الذي يسمونه مذهب الخلف مثلاً -ويزعم كثير أنه أعلم وأحكم- فإنه إذا خطر في قلب الواحد: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5] قال: هذا الاستواء ظاهره تشبيه الخلق، كاستوائي على هذا السرير، فيكون أولاً: قد ظلم نصوص القرآن، وحملها على محامل غير شريفة وغير لائقة بالله؛ لأن كون النص ظاهره التشبيه فهذا معنى بالنسبة إلى الله معنى قذر نجس وسخ؛ لأن خالق السماوات والأرض لا يشبه شيئاً من خلقه، فكان هذا أول الضرر وأول السوء. وهو الفهم من النصوص أنها تدل على معانٍ غير لائقة، ثم إذَا تَقَرَّرَ في ذِهْنِهِ أن ظاهر هذا النص أنه كاستواء المخلوق، اضطر المسكين إلى أن يَنْفِيَهُ؛ لأنه لا أحد يقول:(لا إله إلا الله) يرضى أن يَثْبُتَ لله وصف غير لائق، فينفي الاستواء عن نفسه، فيكون الوصف الذي مدح الله به نفسه قد ظلم هذا الإنسان القرآنَ، وجعل أن ظاهره قذر وسخ نجس، وهو مشابهة المخلوقين، ثم يجرّه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي الاستواء، ويقول: الاستواء ممنوع، ولا يمكن أن يكون؛ لأن فيه نقصاً لله، ومشابهة للمخلوقين! فيكون قد ظلم أولاً القرآن، وحمل ما مدح الله به نفسه على الذم، وهذا لا يليق بالله، بل الاستواء الذي مدح الله به نفسه في غاية الكمال والجلال، والبعد عن مشابهة المخلوقين، والنزاهة

ص: 580

الكاملة عن أي تشبيه كائناً ما كان، ثم إنه إذا نفى الاستواء يريد أن يأتي ببدل من تلْقَاء نفسه، فيقول: معناه: (استولى). فنقول له: يا مسكين، أولاً: ظلمت الوحي، وادَّعَيْتَ على نصوص الوحي أن ظاهرها التشبيه، والله يعلم أنها بريئة من ذلك، بل ظاهرها التنزيه، ثم نفيتها من تلقاء نفسك بلا دليل من كتاب وسنة، ثم جئت بمعنى من عند نفسك وهو (استولى)، فنقول لك يا مسكين: قد شبهت الله باستيلاء خلقه؛ لأنك إذا وصَفْتَهُ بالاستيلاء فقد شبهته باستيلاء العرفجي على حماره، وباستيلاء الأمير على جيشه، وباستيلاء بِشْرٍ على العراق، الذي أنشدوا له البيت

(1)

:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ

فنقول: قد ماثلْتَ استواء الله باستواء بِشْر! فرجعت إلى التمثيل! فإذا قال: استواء الله منزه عن استواء بِشْر، فنقول: كذلك يا مسكين كان ينبغي أن تقوله في الأول، وتعلم أن نفس الاستواء الذي مدح الله به نفسه أنه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين.

فعلينا معاشر المؤمنين أن نعرف الحق، ونعرف من ضوء القرآن عقيدة السلف، ونعلم أن الله لا يمدح نفسه إلا بوصف كريم، وأن الاستواء الذي مدح به نفسه بالغ من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فهو في غاية النزاهة والكمال وعدم المشابهة، فنقرّه على ظاهره مِنَ الْكَمَال واللياقة بالله، ونعلم أن وصف الله لا يمكن أن يُشبه وصف مخلوق،

(1)

البيت في البيت في تفيسير قاتل (5/ 103، 192)، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي صـ36، اللسان، مادة:(سوى) 2/ 248).

ص: 581

وأن الله لا يمدح نفسه بوصف فيه تشبيه ولا فيه محذور، ولا يلزم منه مشابهة مخلوق، بل هو استواء لائق بالله، كقدرته وإرادته وعلمه وسمعه وبصره، مخالف لاستواء المخلوقين كمخالفة ذات الله لذوات المخلوقين، فنكون أولاً عَدَلْنَا وأقْسَطْنَا مع النصوص، فحملناها على معانيها الكريمة الشريفة اللائقة بالله، وآمنا بذلك التَّنْزِيه.

أما هؤلاء الذين يقولون: ظاهر الاستواء أنه كاستواء المخلوقين، فقد ابتدؤوا أولاً بظلم النصوص، وحملوها على معانٍ خبيثة غير لائقة، لا يمدح الله بها نفسه، ثم جرهم هذا التشبيه إلى أن نفوها وجاؤوا ببدلها.

وهذا الذي جاؤوا به فيه من التشبيه أكثر مما فرّوا منه أولاً، فالذي يقول: الاستواء ظاهره كاستواء المخلوق ثم ينفيه بهذا الظاهر المحذوف، ويؤوله بالاستيلاء، وأن معناه (استولى).

فنقول له: رجعت النتيجة في حافرتها، أن استواء بِشْر معناه: استيلاء بِشر على العراق. فنقول: قد شبهت استيلاء الله على عرشه باستيلاء بِشْر على العراق، والاستيلاء كذلك صفة من صفات الخلق، فالعرفجي يستولي على حماره، والأمير يستولي على الجيش، والمالك يستولي على دابته، فالاستيلاء الذي فسرت به الاستواء هو أوغل في التشبيه من الاستواء.

فإذا قال: هذا الاستيلاء الذي فسرت به الاستواء استيلاء مُنَزَّه عن استيلاء المخلوقين، قلنا له: كان مِنْ حَقِّكَ أن تقول هذا من أوَّلٍ، قبل أن تقع فيما وقعت فيه، وتقول: استواء الله مُنَزَّه عن مشابهة استواء المخلوقين.

ص: 582

فعلينا جميعًا أن نعلم أن الاعتقاد الذي كان عليه السلف الصالح قبل ظهور الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، هو على هذه الأسس الثلاث: أولها: وهو الحجر الأساسي العظيم: تنزيه خالق السماوات والأرض عن أن يُشْبِهَ شيئاً من خَلْقِهِ بشيء من ذَوَاتِهِمْ وصفاتهم وأفعالهم، وحمل معاني القرآن والسنة على المعاني الشريفة اللائقة بالله كل اللياقة، المناسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، ثم نؤمن بها إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، وكل هذا التعليم حصره الله لنا في قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فإنا لا نعلم في الدنيا سمعاً ولا بصراً إلا هما حادثان خسيسان، يموت صاحبهما ويأكلهما الدود! فإذا كنا نذهب بكل شيء فلقائل أن يقول: السمع والبصر ظاهره التشبيه بسمع الحمار وبصره، وسمع الإنسان وبصره، فَلْنَنفِه ونثبت غيره، ولا فرق بين الصفات.

والحاصل أن الله حق وصفاته حق، وأن المخلوقين حق وصفاتهم حق، وأن صفة الخالق لائقة بذات الخالق، وصفة المخلوق مناسبة لذات المخلوق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كَمِثْلِ ما بين ذات الخالق والمخلوق، فنحن نثبت الصفات لله مُصَدِّقِينَ رَبَّنَا، ومصدقين نبينا [صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، مراعين في ذلك الإثبات ما بيّنه الله (تعالى) في كتابه، ذلك البيان الأوضح]

(1)

والتعليم الأكبر، والمغزى الأعظم حيث جاء بقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] فإن

(1)

في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 583

{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} السمع والبصر صفتان هما أشد الصفات توغلاً في التشبيهِ بالمخلوقات، فالله مدح بهما نفسه بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: أثبِت لي صفاتي، وما مدحت به نفسي، ولكن راع في ذلك الإثبات قولي قبله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} واعلم أنه إثبات مُنَزَّه لا يُشابه إثبات المخلوقين، فلا يذهب قلبك إلى صفات المخلوقين.

فأساس الخير كله في هذا المقام هو أن يكون القلب أولاً مستولياً عليه تعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه، فهذا أساس الخير، وهو معنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فمن رزقه الله هذا العلم بمدلول {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعرف قداسة الله وعظمته، وعظمة أسمائه وصفاته، ونزاهتها عن مشابهة المخلوق، حمل ما مدح الله به نفسه على أكمل الوجوه وأتمها وأشرفها، وأبعدها مشابهة للخلق، وآمن بها على أساس ذلك التنزيه، أما الذي يزيغ به الشيطان إلى أن يحمل النصوص على أنها يُراد بها -ظاهرها- صفات المخلوقين، فمن أين للمخلوقين أن يُشَبِّهوا صفات خالقهم؟ وأين تُذكر صفة المخلوق عند صفة الخالق، وهو أثر مِنْ آثارِ قُدْرَتِهِ وإرادته وصنعة من صنائعه؟

وأنا أؤكد لكم كل التوكيد أن الواحد منا إذا مات على هذه الأسس الثلاثة:

أولًا: اعتقاده تعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه.

والثاني: الإيمان، وتصديق الله بما مدح به نفسه، أو مدحه به رسوله، إيماناً وتصديقاً مبنيّاً على أساس التنزيه عن مشابهة الخلق، على غرار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقطع الطمع عن إدراك الكيفيات،

ص: 584

أنه يلقى الله سالماً من هذه الورطات والبلايا، أما الذي يَدَّعِي على الله أنه مدح نفسه بالاستواء في قوله:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: آية 5] أن ظاهر هذا القرآن المتبادر منه التشبيه، وقذر ونجاسة لا تليق بالله، ثم يَتَجَرَّأ فينفيه، ثم يأتي بـ (استولى) فإن هذا لا يليق بكمال الله، والذين فعلوا هذا هم في الحقيقة أكثرهم مقصدهم حسن، لا يقصدون إلا تنزيه الله، إلا أنهم غلطوا أولاً في تفسير معاني الكتاب والسنة، وحملوا مداليل الآيات والأحاديث على أن ظاهرها التشبيه، فاضطروا إلى أن يَنْفوا، ولو فهموا منها أولاً معانيها الصحيحة الكريمة اللائقة المنزهة لما وقعوا في شيء من هذه المحاذير، فهم كما قال الشافعي رحمه الله

(1)

:

رَامَ نَفْعاً فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ

وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا

وطريق الحق واضحة لا شك فيها:

وَالحَقُّ أَبْلَجُ لَا تَزِيغُ سَبِيلُهُ

وَالحَقُّ يَعْرِفُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ

(2)

لأن مَنْ نَزَّهَ اللهَ كل التنزيه عن مشابهة الخلق، ثم صَدَّقَهُ فيما وصف به نفسه تصديقاً مبنيّاً على أساس التَّنْزِيهِ، ووقف عند حدِّه فَعَرَفَ أن عَقْلَهُ لا يدرك كُنْه الكيفيات، فهو مؤمن مَاشٍ في ضوء القرآن، لم يَتَكَلَّفْ شيئاً، لم يحمل مَعْنًى من معاني نصوص الكتاب والسنة محملاً خبيثاً، ولم يَنْفِ عَنِ الله شيئًا أثْبَتَهُ لنفسه، ولم يأتِ من نفسه ببدل، مع أن مَنْ أوَّلَ لا بد أن يَرْجِعَ إلى ما هو أوْغَل في

(1)

مضى عند تفسير الآية (148) من هذه السورة.

(2)

البيت في اللسان (مادة: خيل)(1/ 932). ولفظه:

والصدق أبلج لا يُخيل سبيله

والصدق يعرفه ذوو الألباب

ص: 585

التشبيه، فالذين فَسَّرُوا الاستواء بالاستيلاء، وقالوا: الاستواء ظاهره كاستواء المخلوقين فيجب صَرْفُهُ عن ظاهره، ويقال فيه:«اسْتَوْلَى» فقد وقعوا في ثلاثة محاذير:

الأول: أنهم قالوا على الله: إن ظاهر ما مدح به نفسه أنه غير لائق، وهذا افتراء على الله وعلى كتابه وعلى نبيّه؛ لأن الله لا يصف نفسه إلا بأكرم المعاني وأشرفها وأنزهها وأجلها، فما هنالك إلا المعنى الشريف اللائق بكمال الله، المنزه عن مشابهة المخلوقين.

المحذور الثاني: أنه اضطروا أن ينفوا ما وصف الله به نفسه فنفوا الاستواء، والله يثبته في سبع آيات من كتابه، ثم جاءوا بدله بالاستيلاء! قالوا: معنى استوى: استولى، فنقول: التشبيه الذي فَرَرْتُمْ منه في {اسْتَوَى} جئتم بأضعافه في قولكم: «استولى» لأن (استولى) أوغل في التشبيه، فالعرفجي يستولي على حماره، والمالك يستولي على ملكه، والرجل يستولي على امرأته، وبِشْر يستولي على العراق، وهذه الاستيلاءات خسيسة، قد شبهتم بها صفة الله! فإن اضطُر في الآخر أن يقول: هذا الاستيلاء مُنَزَّه عن استيلاء المخلوقين، قلنا له: الاستواء الذي وصف الله به نفسه لائق كريم جليل منزه عن أن يُشبه شيئاً من استواء المخلوقين.

هذه هي طريقة السلف، وهذا العلم القرآني هو المنَجِّي من هذا المأزق الذي ضلت فيه أقدام الآلاف من فحول الرجال، فعلى المسلم أن يستضيء بضوء القرآن، وأن يَتَنَبَّه لكتاب الله؛ لأن فيه حلّ كل معضلة، والمخرج من كل ويلة وبليّة، والله علمنا أولاً أن ننزهه عن كل ما لا يليق:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن نثبت له صفاته، وإن كانت المخلوقات يتصفون باسمها؛ ولذا قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ

ص: 586

البَصِيرُ} بعد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونعرف قدر عقولنا أنها لا تحيط بكيفيات صفات خالق الكون، كما نصّ عليه في طه:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: آية 110] فوالله لو مات الواحد منا وحُشِرَ، وجاءه السؤال يوم القيامة، لا تأتيه بليّة، ولا لوم، ولا توبيخ، ولا عذاب من واحد من هذه الأسس الثلاثة، والله لا يلومه الله ويقول له: لِمَ تنزهني يا عبدي عن صفات خلقي؟ ولمَ تحمل المعاني التي مدحت بها نفسي على المعاني الشريفة الجليلة الكريمة؟ لا والله أبداً؛ فهذه طريق سلامة محققة، ولا يقول له الله موبخاً له: لِمَ تصدقني فيما أثْنَيْتُ به على نفسي، وتثبت لي ما أثبتُّه لنفسي على أساس التنزيه؟! لا والله؛ فهذه طريقة محققة السلامة، ولا يقول له الله: لِمَ لا تدَّعي أن عقلك المسكين المخلوق محيط بإدراك كيفيات صفاتي؟ لا والله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} .

فعلينا معاشر المسلمين أن نأخذ قُلُوبنا أولاً بتعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه، فإذا اسْتَوْلَى التنزيه والتعظيم والإجلال على القلوب كان سهلاً عليها أن تؤمن بصفات الله إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، ثم تقطع الطمع عن إدراك الكيفية، فتسلم من جميع الورطات، فتكون ما حملت معنى القرآن إلا على المعنى الكريم اللائق، ولا نفيتَ شيئًا أثبته الله، ولا جئتَ بشيء من تلقاء نفسك، هذا المذهب الذي كان عليه السلف الصالح، ودرج عليه عامة المسلمين، ومن نظر في كتب فقهاء الأمصار، كالأئمة رحمهم الله، وأمثالهم من فقهاء الأمصار؛ كالسفيانَيْن، والليث، ووكيع، ومن جرى مجراهم، يجدهم كلهم على هذه العقيدة، يُنَزِّهُون الله عن

ص: 587

مشابهة خلقه، ويؤمنون بما وصف الله به نفسه إيماناً مبنيّاً على أساس التنزيه، ولا يشبهونه بخلقه، ولا ينفون شيئًا أثبته (جل وعلا) لنفسِه.

هذا هو الذي ينبغي أن يُعتقد في صفات الله: أولًا: تنزيه، ثم إيمان مبني على أساس التنزيه، ثم قطع الطمع عن إدراك الكيفيات {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)} [طه: 110] هذا الذي نعتقده ونوصي إخواننا به؛ لأنه طريق سلامة محققة؛ لأنه سالم من تشبيه الله بخلقه، وسالم مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الله، وتكذيب الله فيما أثْبَتَهُ لنفسه، وسالم من كل سوء، طريق سلامة محققة.

ولم يبقَ إلا لو قال القائل: هذه الصفات التِي تَزْعُمون أنها منزهة ما فهمنا كيفيتها، فما نَفْهَم كيفية إتيان مُنَزه عن إتيان المخلوقين، ولا كيفية مجيء منزه عن مجيء المخلوقين، ولا كيفية استواء منزه عن استواء [24/ب] المخلوقين، فبينوا لنا الكيفية؟ فنقول له:/ يا مسكين أعرفت كيفية الذات المقدسة التي اتصفت بهذه الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بهذه الصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، والله يجيء كما قال على الوجه اللائق بكماله وجلاله، على أشرف الوُجُوه وأليقها وأتمها كما قال، مع أن جميع الكائنات بيده (جل وعلا) أصغر مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فنحن نُقرّ بما جاء عن الله، ونؤمن بما قال الله، وننزه الله تعالى أكمل التنزيه وأتمّه عن مشابهة شيء من خَلْقِه، على ضوء القرآن، وعلى غِرَار:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11].

يقول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيهُمُ المَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ

ص: 588

مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)} [الأنعام: آية 158].

تكلمنا على أول هذه الآية، ونبدأ الكلام الآن من قوله:{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتيهم خالق السماوات والأرض لفصل الخطاب، عندما تشرق الأرض بنور ربّها {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: آية 69]، {وَجَاء رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)} [البقرة: آية 22] {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [البقرة: آية 210] وقد تكلمنا على ما دل عليه القرآن في آيات الصفات وأحاديثها.

وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي: يأتيهم بعض آيات ربك، والمراد بذلك البعض: البعض الذي إذا جاء لا يُقبل من كافر إيمان، ولا من مذنب توبة.

فهذه تخاويف وتهديدات عظيمة، تهديد بمجيء الملائكة لقبض الأرواح، وبإتيان خالق السماوات والأرض لفصل القضاء، وبإتيان الآيات التي يمتنع عند مجيئها إيمان الكافر، وتوبة العاصي {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} هذا البعض هنا كأنه مبهم، أبهمه هنا ثم فصّله بأنه البعض الذي إذا جاء لا يقبل من كافر إيمان، ولا يقبل من عاص توبة، بل يغلق باب التوبة بمصراعيه، حتى كأنه لم يكن بينهما فتح قط، وتختم الأعمال على ما كان، وتضع الحفظة أقلامها، ويبقى الناس إلى ذلك الوقت على ما قَدّموا، وهذا معنى قوله:{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .

ص: 589

وهذا البعض الذي هُدِّدُوا بإتيانه قال فيه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أي: بعض علاماته العظام الكبرى، فالآية هنا من معنى العلامة.

{لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} إذا أرَادَتْ أنْ تُجَدِّدَ الإيمان بعد إتيان بعض تلك الآيات لا ينفع منها ذلك الإيمان، وجماهير علماء التفسير، والأحاديث الصحيحة دلت على أن المراد ببعض الآيات التي إذا جاءت لا يُقبل إيمان من كافر، ولا توبة من عاص، أن المُراد به طلوع الشمس من مغربها

(1)

؛ لأن الشمس ستطلع يوماً من مغربها يقيناً، كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت في الصحاح، في الصحيحين وغيرهما، وفي صحيح البخاري: أنها إذا طلعت من مغربها فرآها الناس آمن جميع مَنْ عَلَى وَجْهِ الأرض، ولم يكن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت

(2)

.

وهذا فيه إشكالات معروفة؛ لأن الأحاديث الصحيحة هنا فيها إشكالات معروفة، ونحن في الحقيقة لم نر مَنْ حَرَّرَ المقام فيها تحريراً شافيًا

(3)

؛ لأن كون الآية التي إذا أتت هي طلوع الشمس مِنْ مَغْرِبِهَا، هذا ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو يدل على أن طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات، وأن مجيء الدجال يُقْبَل بعده إيمان الكافر وتوبة العاصي، ونزول عيسى يُقبل بعده إيمان

(1)

انظر: تفسير ابن جرير (12/ 245)، القرطبي (7/ 145).

(2)

أخرجه البخاري في الرقاق، حديث رقم (6506)، (11/ 352)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، حديث رقم:(157)، (1/ 137) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

انظر: فتح الباري (11/ 353 - 357)، التذكرة للقرطبي ص 707.

ص: 590

الكافر كما قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: آية 159]، وهذا يدل على أن طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات. ويُشكل عليه حديثان ثابتان في صحيح مسلم وغيره، فإنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَوَّلَ الآياتِ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(1)

وفي صحيح مسلم أنه قيل له

(2)

: إن مروان بن الحكم يقول: إن أول الآيات خروج الدجال. فقال: ما قال مروان شيئاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(3)

وهذا الحديث مُشْكِلٌ، إِذَا كان طلوع الشمس من مغربها قبل الدجال، والعلماء مجمعون على أنه لا إيمان يُقبل من كافر بعد طلوع الشمس مِنْ مَغْرِبِهَا، إذاً يكون زمن الدجال وعيسى ابن مريم لا تنفع فيه الأعمال، وهذا مخالف لِظَوَاهِرِ النصوص الكثيرة، ففي حديث عبد الله بن عمرو هذا أعظم إشكال.

ومن الأحاديث المشكلة أيضاً: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» ، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّلاث:«الدَّجَّالُ، والدَّابَّةُ، وطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(4)

وهذا يدل على أنه لا تَوْبَةَ تُقبل بعد مجيء الدجال، وهذا خلاف الظاهر المعروف من النصوص، فَحَدِيثَا مُسْلِمٍ هذان

(1)

مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: خروج الدجال ومكثه في الأرض

حديث رقم: (2941)، (4/ 2260).

(2)

أي: عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

راجع الحاشية التي قبل السابقة.

(4)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، حديث رقم:(158)، (1/ 138).

ص: 591

مشكلان جدّاً على قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} وعلى ما عليه جمهور العلماء من أنه طلوع الشمس، والإشكال في هذه الأحاديث لم نجد من حرَّر المقام فيه تحريراً شافياً يجب الرجوع إليه.

والذي يظهر لنا: أن الآيات العظام نوعان: فَقَدْ ثَبَتَ في صحيح مسلم أن الآيات الكبار عشر، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أُسيد الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ»

(1)

وهذه الآيات العشر عند العلماء هي العلامات الكبار، ثم عَدَّهَا النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه مسلم من حديث حذيفة بن أُسيد الغفاري رضي الله عنه، وعدّ منها ثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج دابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، والدخان. وهذا الدخان الذي ذكره مسلم في صحيحه هنا قال بعض العلماء: إنه هو المذكور في سورة الدخان، وأنه لم يأتِ إلى الآن، وأنه هو في قوله:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10)} [الدخان: آية 10] قالوا: وهو دخان يمكث أياماً يأخذ بنفس الكافر، ويأخذ المؤمن منه شبه الزكام، وأنه من العلامات التي ستأتي ولم يأتِ إلى الآن

(2)

، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: إن الدخان المذكور قد مضى، وهو ما أصاب ربيعة ومضر من الجوع لما دعا

(1)

مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: في الآيات التي تكون قبل الساعة، حديث رقم:(2901)، (4/ 2225).

(2)

انظر: ابن جرير (25/ 111 - 115)، ابن كثير (4/ 138 - 140).

ص: 592

النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ»

(1)

وأنهم جاءهم من الجوع ما أكلوا معه العِلْهِز، والعِلْهِز: شيء كانوا يصنعونه مِنَ الوَبَرِ والدَّمِ، يأكلونه عند شدة الحاجة، كأن الإنسان لشدة الجوع يُخيَّل له أن أمام عينيه شبه الدخان، وأن ذلك الذي يُخيل لعينيه مما يشبه الدخان من شدة الجوع أنه هو معنى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ} أي: فيما تظنه أعينهم لشدة القَحْطِ والجُوع، هذا تفسير عبد الله بن مسعود وطائفة من العلماء للدخان

(2)

. وفسّره جماعة آخرون بالدخان الذي عدّه مسلم في الآيات العشر العظام التي هي: الدخان، والدابة، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم وفي بعض الروايات بدل نزول عيسى ابن مريم: ريح تلقيهم في البحر، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، وآخرها: نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو ترحل الناس إلى المحشر

(3)

، هذه الآيات العشر.

(1)

أخرجه البخاري في الأذان، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد، حديث رقم:(803)، (2/ 290) وطرفه في:(797، 804، 1006، 2932، 3386، 4560، 4598، 6200، 6393، 6940)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، حديث رقم:(675)، (1/ 466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بالسنين عدة أحاديث من أشهرها حديث ابن مسعود رضي الله عنه المخرَّج في الصحيحين، وفيه وصف بعض ما وقع لهم من الشدة بعد دعائه صلى الله عليه وسلم.

(2)

راجع المصادر المدونة في الحاشية التي قبل السابقة.

(3)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

ص: 593

أما الأحاديث الصحيحة الثابتة في أنه تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى

(1)

، فهذه قد مضت بلا نزاع، وهي النار التي اشتعلت في الحرّة، واشتعالها وتأريخ اشتعالها معروف

(2)

، فقد فاتت، وهي من معجزاته. صلى الله عليه وسلم

وكان الشيخ ابن الجوزي يقول: إن الخسوف الثلاثة قد مضت، وأنه وقع في عراق العجم خسف عظيم، هو خسف المشرق، هلك فيه خلق عظيم، وأنه وقع كذلك في المغرب، ويزعم أنه وقع في جزيرة العرب

(3)

، فعلى كل حال هذه الآيات العشر هي التي ذكرها مسلم في صحيحه أنها الآيات العظام، العلامات الكبرى للقيامة، وقد بَيَّنَّا أن جلّ علماء التفسير، والأحاديث الصحيحة تبين أن بعض الآيات التي إذا أتى لا ينفع نفساً إيمانها: أنه طلوع الشمس من مغربها، وستطلع من مغربها يقيناً بلا شك؛ لأن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بيّن أنها ستطلع من مغربها بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وهو الصادق المصدوق، لا يقول إلا الحق، وطلوعها من مغربها أكبر دليل على تخريف وخرق أصحاب الهيئة الكذابين الذين

(1)

أخرجه البخاري في الفتن، باب: خروج النار، حديث رقم:(7118)، (13/ 78)، ومسلم في الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، حديث رقم:(2902)، (4/ 2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

وذلك ليلة الأربعاء بعد العشاء، ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة. انظر تفصيل ذلك: في التذكرة للقرطبي ص (636)، البداية والنهاية (13/ 187)، فتح الباري (13/ 79).

(3)

انظر: القرطبي (7/ 147).

ص: 594

يقولون: إن حالة الشمس والقمر دائبة لا تتغير ولا يعروها تغير، فسيرى الحاضرون منهم لذلك الوقت أنها تتغير، وأنها تطلع صباحاً من مغربها كما كانت تطلع مِنْ مَشْرقها، ويعلمون أن لها صانعاً حكيماً مُدَبِّراً، هو الذي يجريها كيف يشاء، على النحو الذي يشاء.

ووجه إشكال حديث مسلم: أن حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(1)

وطلوع الشمس من مغربها لا خلاف بين العلماء أنه من بعض الآيات التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمَنَتْ مِنْ قبل، فيلزم على هذا الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه لا إيمان ولا توبة أيام الدجال وعيسى، وهذا خلاف التحقيق، فالحديث مشكل.

والحديث الثاني: هو مَا ثَبَتَ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً» وذكر الثلاث فقال: «الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(2)

. فعلى مقتضى هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم أن العمل لا يقبل أيضاً بعد الدجال، وهو خلاف الظاهر والتحقيق، وقد ذكرنا أنا لَمْ نَرَ مِمَّنْ تكلموا على أحاديث مسلم من شفى الغليل في هذا شفاء واضحاً تتفق به الأحاديث مع الواقع، والذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن الآيات العظام الكبار على نوعين

(3)

:

(1)

مضى قريبًا.

(2)

مضى قريباً.

(3)

انظر الفتح (11/ 353).

ص: 595

أحدهما: آياتٌ أرْضِيَّة تَدُلّ على حدوث أمور عظام هائلة في العالم السُّفْلِي والأرض، وأول هذه: الدجال، كما كان يقولونه؛ لأن الدجال ينزل قبل نزول عيسى ابن مريم؛ لأن [عيسى ابن مريم] يدرك [الدجال]

(1)

فيقتله، وبعض العلماء يقول: إن عيسى ابن مريم ينزل قبل الدجال، ويصلي في إمام المسلمين المهدي، الذي ثبتت الأحاديث الصحاح به

(2)

، وعقد له أبو داود كتاباً باسم (المهدي)

(3)

وهو أيضاً آت لا محالة، وإن أنكره من أنكره؛ لأن الأحاديث الصحيحة ثابتة بمجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مَطْعَنَ فيه، فأول الآيات الأرْضِية العظام نزول الدجال؛ لأن الدجال أكبر حادث يقع في الأرض، وأعظم فتنة تقع في الأرض، وقد صرحت الأحاديث: أنه منذ خلق الله الدنيا لم تقع في الأرض فتنة أعظم من الدجال؛ لأن معه ناراً ونهراً، وناره ماء، ونهره نار؛ ولأنه يأتي القوم فيصدقونه، فيقول للسماء: أمطري، وللأرض: أنبتي، فتطيعه في ذلك، فتروح سارحتهم أعظم ما كانت ضروعاً، وأمَدّه خواصر، ويُحْيي للرجل أبَاه وأمَّه، ويشق الرجل نصفين حتى يروه نصفين، ثم يجمع بين نصفيه، فيرون أنه يحييه، وهو أعظم فتنة في الأرض

(4)

. كأن -مثلًا- من قال: إن أول الآيات خُرُوجاً

(1)

في الأصل: ((لأن الدجال يدرك عيسى ابن مريم فيقتله)).

(2)

انظر عقد الدرر في أخبار المنتظر للسلمي، والاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر للتويجري، والرد على من كذّب الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي للعباد.

(3)

عون المعبود (11/ 361).

(4)

انظر جملة من الأحاديث الواردة فيما سبق، في البخاري (13/ 89 - 91)، مسلم (4/ 2249 - 2258).

ص: 596

الدَّجَّال، يعني: أول الأحداث الأرضية، التي تكون في الأرض، تؤذن بأمور عظام، وقرب انقضاء الدنيا، وأن طلوع الشمس من مغربها أول الآيات التي هِيَ مِنَ العالم العلوي، المؤذنة بزوال العالم العلوي وانقضائه. فيكون كون الشمس أول الآيات يعني باعتبار ما هو من جِنْسِهَا، كتَغْيِير العالم العلوي، ويكون الدجال أول الآيات باعتبار العالم الأرضي.

وعلى كل حال فالشمس إذا طلعت من مَغْرِبها أُغلِق باب التوبة، وطلوع الشمس والدابة مترادفان بينهما قليل، جاء في بعض الأحاديث أن الشمس إذا طلعت مِنْ مَغْرِبِهَا خرجت الدابة ضحى

(1)

، والدابة هي التي يأتي ذكرها في النمل، في قوله:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ إنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} وفي القراءة الأخرى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا} الآية

(2)

[النمل: آية 82]، قال بعض العلماء

(3)

: والحكمة في إتيان الدابة بعد الشمس: أن الشمس إذا طلعت من مغربها خُتِم على الأعمال، ولم يقبل من كافر إيمان، ولم يقبل من عاص توبة، وانقطع تجديد إيمان جديد، أو توبة جديدة، فيرسل الله بعد ذلك الدابة، فتكتب على جبهة كل إنسان:(سعيد) أو (شقي) يعرفه من يراه، لتبين حال الناس عند انقطاع أعمالهم، من هو الكافر منهم ومن هو السعيد؟ والحاصل: أن أكثر أهل العلم، والأحاديث الصحيحة دَلَّتْ على أن الآية التي إذا جاءت لا يُقبل من أحد إيمان: هو طلوع الشمس من

(1)

وهو حديث عبد الله بن عمرو، وقد مضى قريباً.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص (335).

(3)

انظر: فتح الباري (11/ 353).

ص: 597

مَغْرِبها

(1)

، وفيها أحاديث كثيرة، وفيها حديث أبي ذر المشهور: أنها تسير كل يوم، فتسْجُد لمستقر لها تحت العرش، ثم تستأذن فيؤذن لها فترجع، فإذا كان اليوم الذي يريد الله طلوعها من مغربها تستأذن فلا يُؤذن لها

(2)

. ويقول المفسرون وبعض المحدثين

(3)

:

إن تلك الليلة تطول جدّاً، وينتظر الناس الصباح، فيطول عليهم الليل، فتستأذن الشمس فيقال لها: اطلعي من مغربك، فتصبح طالعة للناس من مغربهم، فإذا رَأَوْهَا آمن جميع مَنْ فِي الأرض، وعلموا أن للكون خالقاً حقّاً، ولم يبق أحد منهم إلا وهو مؤمن، وذلك الوقت {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وذهب بعض العلماء، ونصره أبو عبد الله القرطبي

(4)

: أنها بعد طلوعها من مغربها سترجع إلى عادتها وتطلع من مشرقها، وترجع الدنيا إلى حالها، وأنه إذا تَقَادَمَ عَهْدها، وصار الناس يسمعون بِخَبَرِهَا، أنه حينئذ تقبل توبة الكافر إذا تَابَ، والعاصي إذا تاب، وهذا قال به بعض العلماء، ولكنه خلاف التحقيق؛ لأن ظاهر الأحاديث الكثيرة، والآية الكريمة، أنه بعد إتيان الآية لا ينفع نفساً إيمانها، وهو نفي مطلق إلى يوم القيامة. وقال بعض

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 246)، ابن كثير (2/ 193 - 195).

(2)

أخرجه البخاري في التفسير، باب:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم (38)} حديث رقم: (4802، 4803)(8/ 541)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان حديث رقم: (159)(1/ 138).

(3)

انظر: التذكرة ص 705 فتح الباري (11/ 355)، الدر المنثور (3/ 57 - 61) ..

(4)

انظر: تفسير القرطبي (7/ 147، 148)، التذكرة ص (706).

ص: 598

العلماء

(1)

: تؤمر الحفظة بطي الصحف، وطرح الأقلام، ولا ينفع أحداً عمل، ويُخْتَم على كُلٍّ بِعَمَلِهِ.

وقوله: {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} يفهم منه أن النفس التي طلعت عليها الشمس من مغربها وهي مؤمنة من قبل أنها في خير، وعلى خير، وأن إيمانها نافع لها.

وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} يُفهم منه أن النفس المؤمنة التي كانت تعمل الخير أنها في خير وعلى خير، وأما النفس التي كانت مؤمنة ولم تَعْمَلْ في إيمانها الخير، بأن كانت ترتكب المعاصي وتخالف الله، ثم أرادت عند طلوع الشمس أن تتدارك ذلك بالتوبة فلا يُقبل ذلك منها؛ لقوله:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وكان بعض العلماء يقول: من طلعت عليه الشمس من مغربها وهو على الاستقامة وطاعة الله كُتب له ما كان يفعل دائماً

(2)

.

وهذا القول وإن كان ظاهر الآية لا يساعد عليه، إلا أنه غير بعيد؛ لأنه دلت نصوص أخر على أن الإنسان المواظب على الخير إذا عَاقَه عنه عائق كمرض أو سفر أنه يُكتب له ما كان يواظب عليه من الخير إذا عاقه عنه مرض، وهو أحد التفسيرين

(3)

في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: الآيتان 5، 6] فعلى أحد التفسيرين في الآية: أن الإنسان إذا رُدّ أسفل سافلين إلى أرذل العمر، وكان هرماً لا يعقل، أنه يُردّ إلى أسفل

(1)

انظر: فتح الباري (11/ 355).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 146) من التفسير، وفي التذكرة ص (705).

(3)

انظر: ابن جرير (30/ 246 - 247).

ص: 599

السافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم من الأجر ما كان يُكتب لهم، هذا وجه في الآية، ولكن الوجه الصحيح فيها عند المفسرين: أن معنى: {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: جعلناه إلى دركات النار {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} وهو الجنة، وهذا معنى قوله:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} ، {نَفْساً} لم تكن آمنت من قبل لا ينفعها إيمان جديد بعد طلوع الشمس من مغربها، وقد ثبت في الصحيح أنها إذا طلعت مِنْ مَغْرِبِهَا آمن كل مَنْ عَلَى وجه الأرض مِنَ البشر بالله (جلّ وعلا)

(1)

، ولكنه إيمان غير مقبول؛ لأنهم ما آمنوا حتى فات الوقت وانتهت المدة، وانقضت الفرصة {لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} ، ولا ينفع نفساً عاملة للخير لم تكن عملت في إيمانها السابق خيراً، فالذي ينفع: الإيمان السابق، وعمل الخير السابق في الإيمان، أما العمل الذي يُجَدّد بعد الطلوع، والإيمان الذي يُجَدّد بعد الطلوع فلا ينفع، واستثنى بعض العلماء من هذا مَنْ طَلَعت عليه الشمس وهو مستقيم على اجتناب نواهي الله، وامتثال أوامره، أنه يكتب له ما كان يعمل، وقال بعضهم

(2)

:

إن المؤمن تُقبل توبته لإيمانه السابق، وظاهر الآية خلاف ذلك، وأنها إذا جاءت خُتم لكل بما كان يعمل، وانقضى العمل، فمَنْ جَاءَتْه وهو على الإسلام والخير فهو إلى الجنة، ومن جاءته على الشَّرِّ والكفر -عياذاً بالله- فهو إلى النار، ولا تقال لأحد عثرة، ولا تقبل منه توبة بعد نزول الآيات، وهذا معنى قوله:{لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} .

(1)

مضى قريباً.

(2)

انظر: التذكرة للقرطبي ص (706) ..

ص: 600

ثم إن الله لما قال للكفار المكذبين لرسوله: ما تنتظرون إلا بلايا تأتيكم، إما أن تأتيكم الملائكة لقبض أرواحكم، أو يأتي خالق السماوات والأرض لفصل الخطاب فيحكم بتعذيبكم، أو يأتيكم بعض الآيات المانعة من قبول العثرة والتوبة، إذا كان يهددهم هذا التهديد، فقد أتبعه بقوله:{قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} فإنكم تنتظرون السوء ونحن ننتظر الخير؛ لأنا إذا جَاءَتْنَا الملائكة فقبضت أرواحنا ونحن على الاستقامة كان فيه أعظم البشارة لنا، وأحسن العُقبى، وإذا أتَانَا ربنا لفصل القضاء حكم لنا بأحسن الحكم وأكرم النعيم لطاعتنا واستقامتنا، وإذا جاء بعض الآيات المانعة مِنَ التوبة وجدتنا على هدى وتوبة وإنابة، فلم يضرنا مجيئها؛ ولذا قال:{قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} كقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ} [التوبة: آية 52].

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159)} [الأنعام: آية 159].

[قرأ الجمهور]

(1)

غير حمزة والكسائي: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بتشديد الراء، وعدم ألف بعد الفاء، وقرأه حمزة والكسائي:{إِنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً}

(2)

أما على قراءة حمزة والكسائي: {فَارَقُوا دِينَهُمْ} فالمعنى واضح؛ لأنهم ارتدوا -والعياذ بالله- عن الدين وفارقوه، وصاروا طوائف كافِرَة، كل طائفة مُلْحِدَة كافرة غير

(1)

في هذا الموضع وُجد مسح في التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 205.

ص: 601

الأخرى، وأما على قراءة الجمهور:{فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} فالمراد بتفريقهم الدين: أن كل طائفة تنتحل نحلة تزعم أنها هي الدين

(1)

، فهي في أهل الأهواء والبدع والضلالات، ويدخل فيهم اليهود والنصارى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: آية 113] فقد فرقوا دينهم، ومعناه: أن كل طائفة وفِرْقَة انْتَحَلَتْ نِحْلَةً تَزْعُمُ أنها هي الدين الحق، وأن ما سواه باطل، والجميع كله ضلال وبدع وأهواء، كما ذكرنا في الحديث: أن النبي بين هذا التفريق، وأن اليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، وهذه الإحدى والسبعين فرقت دينها، وجعلته إحدى وسبعين فرقة، كل واحدة تَدّعِي أنَّهَا عَلَى الحَقِّ، وأَنَّ غيرها ضال، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، كل فرقة تزعم أنها على الحق، وأن غيرها ضال، وستَفْتَرِق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، تَزْعُمُ كل واحدة أنها على الحق، وجَمِيعُ الفِرَقِ في النار إلا فِرْقَة واحدة

(2)

.

(1)

انظر: حجة القراءات ص 2780

(2)

أخرجه أحمد (2/ 332) وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة، حديث رقم:(4572)، (12/ 340)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث رقم:(2640)، (5/ 25)، وقال الترمذي:«وفي الباب عن سعد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث صحيح» اهـ.

وأخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: افتراق الأمم، حديث رقم:(3991)، (2/ 1321)، وابن حبان (الإحسان 8/ 48)، والحاكم (1/ 128)، وأبو يعلى (10/ 5910)، والآجُرِّي في الشريعة ص (15)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد جاء في هذا المعنى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة؛ كأنس بن مالك، وعوف بن مالك، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم.

وانظر: صحيح أبي داود (3/ 869)، صحيح الترمذي (2/ 334)، صحيح ابن ماجه (2/ 364)، السلسلة الصحيحة رقم:(203)، التعليق على التنكيل (2/ 53)، صحيح الجامع رقم:(1083).

ص: 602

وعلامة هذه الفرقة الواحدة: هي الخالية مِنَ البِدَعِ والأهواء والمبتدعات بعد الرسول صلى الله عليه وسلم المخالفة لشرعه، بل هي التي تمشي على الجَادَّةِ والمحَجَّةِ البيضاء التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذه الفرقة هي الناجية: وهي المسماة بأهل السنة والجماعة، وإن كانوا قليلاً؛ لأن أكثر الأرض على الضلال، أكثر من في الأرض ضلال في النار، والذين هم على الهدى وأهل الجنة قلة جدّاً، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصيب الجنة من الألف واحد، ونصيب النار من الألف تسع وتسعون وتسعمائة، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، ولما شقّ هذا على أصحابه أخبرهم بكثرة المشركين، وأن هناك قَبِيلَتَيْنِ قد تكون الألف منهم والواحد منكم: يأجوج ومأجوج

(1)

، ويأجوج ومأجوج من العلامات العشر التي ذكرها مسلم لم نذكرها، وهذه الفِرَقُ كلها في النار، ونصيب الجنة واحد من الألف لكثرة الكفار، والله يقول:{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: آية 116]{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 8]، {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} [الصافات: آية 71] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف:

(1)

أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم:(3348)، (6/ 382)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث: (4741، 6530، 7483)، ومسلم في الإيمان، باب: قوله: «يقول الله لآدم: أخرج بعث النار

»، حديث رقم:(222)، (1/ 201).

ص: 603

آية 103] فالأكثرية أهل النار، وهي التي منها هذه البدع والأهواء والفِرَق الضَّالَّة الزائغة عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والهدى لا يخفى:

الَحقُّ أَبْلَجُ لَا تَزِيغُ سَبِيلُهُ

وَالَحقُّ يَعْرِفُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ

(1)

لأن من هو على هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ؛ لأنه خال من الابتداع، والدعاوى الكاذبة، والتضليلات، والتخريفات، والتَّهْرِيجات الزائفة، بل هو على صراط مستقيم، عامِل بهدي رسول الله، عارف أوَامِرَ القرآن ونَوَاهيه، عالم بسنة رسول الله وبأحكامها، متبع ما جاء عن الله، مؤتمر بأوامر الله، مُنْزَجِر عما زجر الله عنه، على المحَجَّةِ البَيْضَاءِ، سالم من الدَّعَاوى الخرافية، والضلالات المبتدعة التي لم يعرف لها عهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالفرقة الناجية: هي التي كانت على ما عليه النبي وأصحابه من العقيدة الصحيحة، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على الوجه الصحيح الكامل، فالصحابة رضي الله عنهم لم يدّعوا شيئاً مما يَدَّعِيهِ المضلِّلُون من أنهم يرون النبي يقظة ويجتمعون به دائما! لم يقولوا شيئاً من ذلك لصدقهم وعدالتهم، هذا أمير المسلمين في زمانه: عثمان بن عفان أعَزّ فتى في قريش، وهو أمير المؤمنين، والإسلام في شدة قوته، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يذهب بالهدايا إلى مكة لما حاصروهم في الحديبية قال له: أنا لا أستطيع؛ لأن بني عدي لا يمكن أن يمنعوني مِنْ قُرَيْشٍ، ولَكِن أدلك على رجل أعز مني، وهو عثمان بن عفان، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم لعزته ومكانته في قريش، وأرسل معه الهدايا وتلقاه بنو

(1)

مضى عند تفسير الآية (158) من هذه السورة.

ص: 604

عمه يقولون:

أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَلَا تَخَفْ أَحَداً

بَنُو سَعِيدٍ أَعِزَّةُ الحَرَمِ

(1)

وهو بهذه العزة في قريش، وهو أمير المؤمنين، وصهر رسول الله على ابنتيه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ذُبح في داره ظلماً، والحجرة النبوية بجنبه، لم يأته النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحُل لهم المشكلة. وهذه عائشة رضي الله عنها ذهبت إلى العراق، ووقعت قصة الجمل، والنبي صلى الله عليه وسلم معها في الحجرة، لم تستطع أن تلقاه، ولم تأخذ رأيه: هل تفعل؟ بل قد ندمت كل الندم على ما صدر منها. ولما نزلت مسألة العول: ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها في خلافة عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن أعطيت الزوج النصف لم يبق ثلثان، وإن أعطيت الأختين الثلثين لم يبق نصف، فماذا أفعل؟ وأسفوا كل الأسف على أنهم لم يسألوا النبي

(2)

صلى الله عليه وسلم، فما قال أحد منهم: إنهم يسألونه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أرسله الله لمهمة وقد بلّغها على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنصحها، ثم تركها محَجَّة بيضاء ليلها كنهارها، ثم اختاره الله إلى ما عنده من الكرامة، ونقله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.

والشاهد أن الذين هم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سالمون من الدعاوى الكاذبة والخرافات المُضَلِّلَة، بل هم على صراط مستقيم، وهدي واضح لا دعاوى فيه ولا تضليل ولا تهريج، يقتفون

(1)

البيت لأبان بن سعيد بن العاص، وهو في تاريخ دمشق (6/ 134)، الاستيعاب (1/ 75)، الإصابة (1/ 14)، سير أعلام النبلاء (1/ 261).

(2)

انظر: المحلى (9/ 263)، وانظر ما سيأتي عند تفسير الآية (12) من سورة الأعراف.

ص: 605

آثار النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بكتابه وسنته، ومجالسهم كأن على رؤوسهم الطير فيها، فمن كان على هديه صلى الله عليه وسلم في الأعمال والأقوال والأفعال والسمت والعقيدة فهو الفرقة الناجية، وغيره هي الفرق الضالة المضلة التي فرقت دينها وجعلته شيعاً.

وقوله: {وَكَانُوا شِيَعاً} الشيع جمع شِيعَة، وكل قوم تشيعوا واجتمعوا على نصرة رجل، أو على نحلة ينتحلونها فهم شيعة، سواء كانت في الخير أو في الشر

(1)

، ومنه قوله في نوح:{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات: آية 83] أي: من جماعته الذين هم على دينه وهديه، ومنه قول الكُمَيْت

(2)

، وهو من الشيعة الذين يَتَشَيَّعُون لِآلِ النبي صلى الله عليه وسلم:

وَمَا لِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ

وَمَا لِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الحقِّ مَذْهَبُ

{شِيَعاً} أي: فرقاً مختلفة، كل فرقة تَنْصُر صاحب بدعة مثلاً، أو رأس ضلالة يشيعونه وينصرونه.

{لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} معناه: أنت بريء منهم، وهم بُرَءَاء منك، لست على دينهم وليسوا على دينك، والعرب إذا كان الإنسان بريئاً من الإنسان يقولون: لستُ منك ولستَ مني، ومنه قول نابغة ذبيان

(3)

:

إِذَا مَا رُمْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً

فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي

(1)

انظر: المصباح المنير (مادة: شيع) ص (126).

(2)

البيت في شذور الذهب ص 263، تلخيص الشواهد لابن هشام ص 82، قطر الندى (246).

(3)

البيت في ديوانه، ص (138). وروايته في الديوان: «إذا حاولت

».

ص: 606

يعني: أَنَا بريء منك، وأنت بريء مني.

ثم قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} إنما أمرهم ومصيرهم إلى رَبِّهِمْ، فالله هو الذي حَكَمَ عَلَيْهِمْ في دار الدنيا بذلك الشقاء والخذلان وطمس البصيرة، وهو الذي يجازيهم يوم القيامة على ما كان منهم، وذلك معنى قوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} .

{ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} يوم القيامة؛ أي: يخبرهم إذا جاءُوه بالذي كانوا يعملونه في الدنيا، فيجدون كل ما عملوه في كتاب لا يُغَادِرُ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال للإنسان:{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)} [الإسراء: آية 14]، فيجد الإنسان كُلَّ مَا قَدَّمَ وَأَخَّر {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: آية 30] وهذا معنى قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} والمراد بالتنبئة هنا ليس مجرد الإخبار، ينبئهم ليقرّوا ويعترفوا فيعلمون أنه إنما عاقبهم على عدل وليس بظلم، والنبأ في لغة العرب أخص من مُطْلَقِ الخَبَر؛ لأن كل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ؛ لأن العرب لا تطلق النبأ إلا على الخبر الذي له شأن وخطب، فيقولون: جاءنا نبأ الجيوش، ونبأ الأمير، وخبر الجيوش، وخبر الأمير. أما لو قال قائل: تلقّينا اليوم نبأً عن حمار الحجام، فإن هذا لا يكون من كلام [25/أ] العرب

(1)

؛ لأن/ حمار الحجام لا أهمية له، وإطلاق النبأ عليه وضع للنبأ في غير موضعه، فاللائق أن يقول: خبر حمار الحجام؛ لأن النبأ لا يُطلق إلا على ما له شأن

(2)

، وكون التنبئة هنا لها شأن لعظمة الله

(1)

مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام

(2)

السابق.

ص: 607

بإحصائِه إياها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرَّة، ولِعَظَمَةِ الخَطْبِ عَلَيْهِمْ، كما قالوا:{يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: آية 49].

يقول الله جل وعلا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: آية160].

لما أمر الله الخلق بسلوك صراطه المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل لئلا تتفرق بهم عن سبيله، ثم بَيَّنَ أن بعضاً منهم لم يمتثلوا ذلك، بل اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيله في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} [الأنعام: آية 159] بيّن أنه (جل وعلا) بالنسبة إلى من عصاه فاتبع تلك السبل الضالة، وبالنسبة إلى من أطاعه فاتبع ذلك الصراط المستقيم، أن معاملته للمحسنين في غاية الإكرام والتمام والكمال، وللمسيئين في غاية الإنصاف والعدالة، فقال:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} يعني: من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة التي كان يعملها في دار الدنيا، فقول بعض أهل العلم هي:«لا إله إلا الله» كالتمثيل؛ لأن المراد بالحسنة: كل خصلة تُرضي الله (جل وعلا)، سواء كانت (لا إله إلا الله) أو غيرها من العقائد وأفعال الجوارح وأعمال القلوب

(1)

، كل مَنْ جَاءَ إلى الله يوم القيامة بالخصلة الحسنة من طاعة الله من [كل]

(2)

خصلة ترضي الله (جل وعلا)، فالله (جل وعلا) يُضاعفه على أقل التقديرات عشر أمثالها، أي: فله عشر حسنات، كل حسنة مثلها، فأقل المضاعفة للمحسنين

(1)

انظر: ابن جرير (12/ 275)، البحر المحيط (4/ 261).

(2)

في الأصل: ((جميع)).

ص: 608

عشرة. ثم إنه بيّن في بعض المواضع أنه يضاعف إلى سبعمائة، وفي بعضها أنه يضاعف حسب مشيئته بحيث لا يعلمه إلا هو حيث قال في المضاعفة إلى سبعمائة:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فجاءت الحبة بسبعمائة حبة، وهي مضاعفة الحسنة بسبعمائة.

ثم قال: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: آية 261] أي: يضاعف لمن يشاء من الأضعاف ما شاء، فأقَلّ المضاعفة عشر حسنات، إلى سَبْعِمِائة، إلى ما شاء الله. فتوضع الحسنة في الميزان بعشر حسنات.

ثم قال: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} أي: بالخصلة السيئة التي تسوء صاحبها إذا رآها في صحيفته يوم القيامة {فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا} فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحاده عشراته فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك؛ لأن هذه الحنيفيَّة السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام هَيَّأَ الله فيها طريق الجنة ويَسَّرَها تيسيراً عجيباً، رفع فيها الأثقال والآصَار والتَّكَالِيفَ، من شقّ عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة

(1)

، ومن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات كل حسنة مثلها، والسيئة إنما تكتب عليه سيئة واحدة مثلها، ومن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة، إن كان تركه لها

(1)

معلوم أن القصر والفطر في السفر لا يتوقفان على وجود المشقة.

ص: 609

لأجل ابتغاء مرضاة الله، فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين؛ لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: آية 8] إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تُجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات. ومن الحِكَم العظيمة وجوامع الكلم قوله صلى الله عليه وسلم:«أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا»

(1)

يعني: إن صدرت منك سيئة فأتبعها بحسنة؛ لأن السيئة تُجعل في كفة الميزان سيئة واحدة؛ وتجعل الحسنة في الكفة الأخرى عشر حسنات فيثقل وزنها عليها، وهذا معنى قوله:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: آية 160] أصل الحسنة: هي الصفة المشبهة من حسُن يحسن، فهو حسَن، والأنثى حسنة، وقد جَرَتْ عادة العرب بأن يجعلوا لفظ الحسنة والصالحة كأنهما اسما جنس للخصلة الطيبة والفعلة الكريمة، حتى كادوا يتناسون الوصفية فيهما، ومنه هنا:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} أي: بالخصلة الحسنة، فَحُسْنها هو كونها تُرضي الله (جل وعلا)، وتطابق ما أمر به ونهى عنه، وقد وعد الثواب عليها، وكذلك قال:{وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: آية 25] فالصالحة كالحسنة؛ أي: هي الخصلة التي هي صالحة؛ لأن الله أمر بها، ووعد فاعلها الخير، وهذا معروف في كلام العرب، أما في الحسنة فمشهور، وأما

(1)

أخرجه أحمد (5/ 153، 158، 177)، والترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس، حديث رقم:(1987)، (4/ 355) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

وانظر: السلسلة الصحيحة (3/ 361 - 362)، صحيح الترمذي (2/ 191)، المشكاة رقم:(5083).

ص: 610

في الصالحة فمعروف في كلام العرب، ومنه قول الحطيئة

(1)

:

كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحةٌ

مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي

أي: خصلة طيبة.

وقول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

:

بِنْتُ الْأَمِينِ جَزَاهَا اللهُ صَالحةً

وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا

وسُئل أعرابي عن الحب ما هو؟ فقال

(3)

:

الحُبُّ مَشْغَلَةٌ عَنْ كُلِّ صَالِحَةٍ

وَسَكْرَةُ الحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الْوَسَنِ

فالصالحة، والحسنة، والسيئة كأنها أسماء أجناس، ثنتان للخصلة الطيبة، وواحدة للخصلة الخبيثة.

وأصل السيئة

(4)

: (سيوِئَة) ووزنها بالميزان الصرفي: (فَيعِلَة) فـ (ياء)(الفَيعِلَة) زائدة، اجتمعت هي والواو التي في مكان العين؛ لأن أصلها من (سَوَأ) فمادة الكلمة: فاؤها سين، وعينها واو، ولامها همز (سَوَأ)، فقيل في السيئة:(سيوِئة) على وزن (فَيْعِلة) اجتمعت ياء (الفَيعِلة) الزائدة، والواو التي في محل العين سكنت إحداهما قبل الأخرى سكوناً غير عارض، فأُبدلت الواو ياء على القاعدة التصريفية المشهورة، فقيل:(سيئة) فالياء الأولى زائدة، والثانية مُبْدَلة من الواو التي في محل عَيْنِ الكَلِمَة

(5)

.

(1)

البيت في شواهد الإنصاف ص 126، الدر المصون (1/ 211).

(2)

البيت في طبقات ابن سعد (8/ 21)، الاستيعاب (4/ 312)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (29/ 44)، أعلام النساء (2/ 110).

(3)

البيت في الأضواء (4/ 9).

(4)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 146.

(5)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم ص (146).

ص: 611

والسيئة: هي الخصلة التي تسوء صاحبها إذا رآها في صحيفته يوم القيامة

(1)

. {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران: آية 30].

{فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا} ومن هنا تعرفون أن ما يجري على ألسنة العامة: أن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات، أن ذلك الإطلاق لا يجوز؛ لأن مضاعفة السيئات ممنوعة قطعًا؛ لأن الله يقول:{وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا} وهو نص صريح قرآني في أن السيئات لا تُضَاعَف، ولكن السيئة في حرم مكة مثلا تعظم؛ لأن السيئة تعظم بحسب عظم الزمان والمكان، فإذا عظمت السيئة عظم جزاؤها؛ لأن الجزاء بحسب الذنب، إذا عظم الذنب عظم الجزاء، وإذا صَغُرَ الذنب صغر الجزاء، فهو من عظم الذنب، وعظم الجزاء تبعاً لعظم الذنب، لا من المضاعفة؛ لأن السيئات لا تضاعف، ولكنها تعظم وتكون أكبر في زمان من زمان، وفي محل من محل؛ ولذا قال في حرم مكة:{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: آية 25] وقال في الأشهر الحرم: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثم قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: آية 36] مع أن ظلم النفس في غيرهن حرام

(2)

.

وهذا معنى قوله: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أي: والجميع لا يظلمون، فلا يُزاد في سيئات المسيئ، ولا يُنقص من حسنات المحسن، بل حسنات المحسن تُزاد، وسيئات

(1)

انظر: المفردات (مادة: سوأ)(441).

(2)

انظر: زاد المعاد (1/ 51).

ص: 612

المسيئ إما أن يُعفى عنها أو يُتجاوز، وإن عُومل بها عُومِلَ بِوِزْرِهَا فَقَطْ عَدْلاً وإِنْصَافاً.

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: آية 161].

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} قرأه الجمهور: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفتح اثنان من السبعة منهما نافع: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

(1)

{دِيناً قِيَماً} قرأ أربعة من السبعة، وهم الكوفيون الثلاث: عاصم، وحمزة، والكسائي، والشامي- وهو ابن عامر-:{دِيناً قِيَماً} بكسر القاف وفتح الياء مخففة. وقرأ الحرميان، أعني: نافعًا وابن كثير، والبصري-وهو أبو عمرو- قرؤوا:{دِيناً قَيِّماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}

(2)

.

وقرأ جمهور القراء ما عدا هشاماً عن ابن عامر: {إِبْرَاهِيمَ} بكسر الهاء ممدودة بياء، وقرأ هشام عن ابن عامر:{إبراهام حنيفًا} بفتح الهاء ومدها بألف، وهما لغتان في إبراهيم صحيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان

(3)

.

لما بيّن الله انقسام الخلق إلى مُهْتَدٍ وضَالّ، ومفرقين دينهم شيعاً ومهتدين، أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُصَرِّحَ عَلَى رؤوس الأشهاد أنه لم يتبع السبل الزائغة، ولا الطرق الضالة، وأنه على الهدى المستقيم، والمحجَّة البيضاء التي هداه إليها ربه، قل يا نبي الله:

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص (206).

(2)

انظر: المصدر السابق ص (205).

(3)

انظر: السبعة لابن مجاهد 169، الموضح (1/ 299 - 301)، الإقناع لابن الباذش (2/ 602)، النشر (2/ 221)، البدور الزاهرة (113).

ص: 613

{إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} أي: أرْشَدَنِي ودَلَّنِي ووَفَّقَنِي لِلْعَمَلِ {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . الصراط في لغة العرب: الطريق الواضح

(1)

، ومنه قول جرير

(2)

:

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ

إِذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ

والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه، طرفه بيد المسلمين، وطرفه الآخر في الجنة.

وقوله: {دِيناً} أعربوه أعاريب مختلفة

(3)

، أجودها: أنه بدل محل من قوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لأنه مجرور في محل نصب، والأصل:(هداني ربي صراطًا مستقيماً) لأن (هدى) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها دون حرف الجر، كقوله:{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (118)} [الصافات: آية 118]{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6)} [الفاتحة: آية 6]{وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: آية 20] وقد يتعدى بـ (إلى) كقوله هنا: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وقد يتعدى بـ (اللام) إلى المفعول الثاني، كقوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: آية 9] فهو وإن جُر بـ (اللام) أو بـ (إلى) فهو في محل نصب؛ لأن الفعل يتعدى إليه بنفسه، ومعروف أن مراعاة المحل في الإعراب أمر معروف:

(1)

مضى عند تفسير الآية (87) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 282)، القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262)، الدر المصون (5/ 238).

ص: 614

وَجُرَّ ما يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ

رَاعَى في الاتْبَاعِ المَحَلَّ فَحَسَنْ

(1)

كما قاله ابن مالك في الخلاصة، فقوله:{هَدَانِي رَبِّيَ إِلَى صِرَاطٍ} مجرور في محل نصب، إذ (هداني) تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، فكأنه قال:(هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً) فـ (الدين) بدل من (الصراط المستقيم) وهو بدل محل؛ لأنه منصوب أُبدل من مجرور، لكن المجرور في محل نصب.

وأعربه بعضهم حالاً من (الصراط) أي: إلى صراط مستقيم في حال كون ذلك الصراط المستقيم ديناً قيماً، والنكرة إذا نُعِتَت أو خُصصت جاز مجيء الحال متأخرة منها.

وبعضهم قال: هو منصوب بـ (هداني) بتضمينها معنى (عرفني)، ولا يخلو من بعد، وفيه أعاريب غير هذا أظهرها ما ذكرنا.

{هَدَانِي رَبِّيَ} أي: أرشدني وَوَفَّقَنِي إلى طريق واضح لا اعْوِجَاجَ فِيهِ.

{دينًا قيّماً} على قراءة: {قيّماً} فهو الصفة المشبهة من: قَامَ، يقوم، فهو قَيّم، بمعنى: اسْتَقَامَ، يَسْتَقِيم، فهو مستقيم، والعرب تطلق (قام) وتريد: استقام، ومنه:{لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} أي: مستقيمة على دين الحق {يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: آية 113]، فالقَيِّم هو الصِّفَة المشبهة من: قام، يقوم، بمعنى: استقام، يستقيم، فهو كالتوكيد لما قبله.

وقال بعضهم: هذا الدين (قيّم) معناه: أن اتِّبَاعه يقوم بشؤون الدين، وينظم علاقاتها ومصالحها في الدنيا والآخرة، من

(1)

الخلاصة ص (39).

ص: 615

قولهم: فلان قَيِّم على أهله، أي: قائم بمصالحهم وشؤونهم، ودين الإسلام جامع بين الوَصْفَيْنِ، هو قيِّم يعني بأحوال الدنيا والآخرة؛ لأن مُتَّبِعَه يصلح له جميع أموره من جميع الجهات في دنياه وأخراه.

وعلى أنه (فَيْعِل) من قام بمعنى: استقام، فهو أيضًا في غاية الاستقامة، وهو كالتوكيد لما قبله.

أما على قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر:{دِيناً قيّماً} فالقِيَمُ هنا مصدر قليل، كقولهم: كبُر كِبراً، وعَظُم عِظَمًا، وشَبعَ شِبَعاً، وقام قِيَماً، فهو مصدر بمعنى (القيام) نُعت به، و (قام) التي مصدرها (قِيَماً) هنا من (قام) التي بمعنى (استقام)، فهو راجع في المعنى إلى الأول، إلا أنَّه من النعت بالمصدر، والعرب إذا نعتت بالمصدر كقولهم: رجل كَرَم، وفلان عَدْل؛ لأن العدل مصدر، إذا نعتت بالمصدر فقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ذو قِيَم؛ أي: استقامة، زيد كَرَم؛ أي: ذو كَرَم، أو كأنهم بالغوا فيه حتى جعلوه عين القِيَم، بمعنى الاستقامة، وكأنهم بالغوا في كرم زيد حتى جعلوه عَيْنَ الْكَرَمِ.

الثاني: أن المصدر المُنَكَّرَ يؤول بالوصف، فيرجع معنى المصدر إلى معنى (قيِّماً)، الذي هو الصفة المشبهة من (قام)، فيرجع معنى الأقوال إلى شيء واحد؛ لأن النعت بالمصدر معناه: ذو قِيَم؛ أي: استقامة، أو هو استقامة بعينه، كأنه لشدة استقامته سُمِّيَ (استقامة) لشدة استقامته، أو لأنه مصدر أُريد به الوصف، فيكون (قِيماً) بمعنى: قيِّماً. هذه الأقوال الثلاثة معروفة في النعت

ص: 616

بالمصدر، كما قال في الخلاصة

(1)

:

ونَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيراً

فَالْتَزَمُوا الْإِفَرَادَ وَالتَّذْكِيرَا

فعلى قراءة (قِيَماً) فهو من النعت بالمصدر، فالقِيَم: مصدر كالشِّبَعِ، والصِّغَرِ، والكِبَر، وعلى قراءة من قرأ {قَيِّماً} فالأمر واضح

(2)

.

وقوله: {مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} هذه بدل من الدين

(3)

؛ لأن الدين القيم هو ملة إبراهيم، والملة: الشريعة والطريقة، قال بعض العلماء: اشتقاقها من (الإملال)، و (الإملال) بلامين، وهو ما يسمونه الإملاء -بالهمزة- أن تلقي على الكاتب جملة فيكتبها، ثم تُملي عليه جملة أخرى فيكتبها، ومنه قوله:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: آية 282]{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: آية 282] معنى أنه يملل، أي: يُلقي على الكاتب جمل عقد المداينة حتى يكتبها، أبدلوا اللام الأخيرة همزة، فجعلوه إملاء، وأصله (إملال) قالوا: لأن الملة -وهي الشريعة- تنزل جُمَلاً جُمَلاً جُمَلاً حتى تتم

(4)

كما وقع في ديننا، فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلاً قبل الهجرة، ثم فُرِضَتِ الزَّكَاةُ والصيام في عام اثنين من الهِجْرَة، وفُرِضَ الحَجّ في عام تسع على أصَحِّ الأقْوَال، شيئاً بعد شيء حتى تَتِمَّ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

(2)

انظر هذه القراءات وتوجيهها في: المبسوط لابن مهران ص 205، ابن جرير (12/ 282)، حجة القراءات ص 278، القرطبي (7/ 152).

(3)

انظر: الدر المصون (5/ 238).

(4)

انظر: المفردات (مادة: ملل)773.

ص: 617

وقوله: {إِبْرَاهِيمَ} هو نبي الله إبراهيم، الذي جعله الله للناس إماماً، وشهد له شهادته بالوفاء {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: آية 37] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: آية 124] وقيل لنبيّنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم} [النحل: آية 123] وقيل له هنا: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مِلَّة إبراهيم.

وهنا سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: دلت هذه الآيات على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر أن يتبع ملة إبراهيم، والمتبوع أفْضَل مِنَ التابع، فإذاً قد يكون إبراهيم أفضل من النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أمر باتباعه

(1)

؟

والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وأفضل البشر، وأفضل من خلق الله، وأفضل من إبراهيم، ومن عامة الرسل، وسيظهر فضله على الرسل يوم القيامة، وقد ظهر ذلك فيما مضى؛ لأنه (صلوات الله وسلامه عليه) ليلة الإسراء لما اجتمع بالرسل -أرْوَاحُهُمْ مُجَسَّدَة بصور أجسادهم- وخاطبوه وكَلَّمَهُمْ، ارْتَفَعَ حَتَّى بَلَغَ مقاماً أعلى من مقاماتهم، ولما نزل إلى الأرض في بيت المقدس، في محل مبعث الرسل وديارهم صار إماماً للجميع بإشارة من جبريل

(2)

،

(1)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (90) من سورة الأنعام.

(2)

حديث الإسراء والمعراج مستفيض مشهور مُخَرَّج في الصحيحين وغيرهما، وقد رواه جماعة من الصحابة، أما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء فذلك ثابت في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم، حديث رقم:(172)، (1/ 156 - 157).

وأما ما روي من تقديم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ليؤمهم في الصلاة فهو عند ابن سعد في الطبقات (1/ 143 - 144) وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور 2/ 129 - 130) من حديث ابن عمر، وأم سلمة، وعائشة، وأم هانئ، وابن عباس رضي الله عنهم (دخل حديث بعضهم في بعض). وانظر الدر المنثور (4/ 149).

وساق في الدر (4/ 154) عن علي رضي الله عنه بنحو هذا المعنى، وعَزَاه للبزار، وأورد (4/ 154) من رواية ابن الحنفية نحوه -أيضاً- وعزاه لأبي نعيم في الدلائل.

وقد ورد هذا المعنى في حديث أنس عند النسائي في الصلاة، باب: فرض الصلاة.

حديث رقم: (450)، (1/ 221 - 222)، قال ابن كثير (3/ 5 - 6) من التفسير:«وفيها -أي الرواية- غرابة ونكارة جدّاً» .

كما أورد ابن كثير (3/ 6 - 7) رواية عند ابن أبي حاتم تدل على ما سبق، وعقبها ابن كثير بقوله:«هذا سياق فيه غرائب عجيبة» اهـ.

ص: 618

فتبين أنه سيدهم في السماوات والملأ الأعلى، وسيدهم في الأرض (صلوات الله وسلامُه عليه).

والجواب عن هذا: أن أمره باتباع إبراهيم مما يدل على أفضليته عليه؛ لأن كل ما كان عند إبراهيم من الشرائع التي وَفَّاهَا وحَازَ بِهَا الفَضْل يُؤمر هو باتباعها، فيساويه فيها، ثم يُزَاد بِتَشَارِيع وأمور عظيمة لم تنزل على إبراهيم ولم تَكُنْ فِي شَرْعِهِ، فيأخذ ما عنده ثم يزيد عليه، ومن هنا يتبين الفضل، وأن أمره باتباع الرسل في هذه السورة الكريمة سورة الأنعام الذي قدمناه في قوله:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90] أنه يقتدى بما عندهم من الهدى، ثم يُزاد مِنْ أنْوَاع الهدى أشياء عِظاماً لم تكن عندهم ولم يُعْطوها، فيظهر فضله على الجميع (صلوات الله وسلامه عليه).

ص: 619

وقوله جل وعلا: {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} {حَنِيفاً} هنا حال من إبراهيم

(1)

، والمعروف أن الحال لا تكون من المضاف إليه إلا إذا كان المضاف هو عامل الحال، أو كان المضاف كأنه جزء من المضاف إليه كما هنا، أو شبه الجزء

(2)

، بدليل أنه لو حُذف لمَا ضَرَّ، لو قلت مثلاً: ديناً قيّماً مِلَّة إبراهيم، لو قلت: اتبعوا إبراهيم، لكفى عن: اتبعوا ملة إبراهيم.

والحنيف في لغة العرب: أصله الذي به حَنَف، وأصل الحَنَف في لغة العرب: هو أن يميل القدم الأيمن إلى جهة القدم الأيسر، والقدم الأيسر إلى جهة القدم الأيمن، فيكون في كلتا الرجلين اعْوِجَاجٌ، كل منهما تَعْوَج إلى الأخرى

(3)

، فيقال للرجل: أحْنَف، وللمَرْأة: حَنْفَاء، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم كذلك، وفيه سُمِّي الأحْنَف، وكانت أمه تُرقصُه وهو صبي، وهي تقول

(4)

:

واللهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ

مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ

هذا أصل الحَنَف، وصار أكثر ما يُستعمل الحَنَف في الميل عن الأديان الباطلة إلى الدين المستقيم

(5)

، فالحَنِيفُ: المَائِل عن كل دين بَاطِل لا يُرضي الله إِلَى الدين المستقيم الذي يرضي الله، فهذا معنى كون إبراهيم {حَنِيفاً} أي: مائلاً صَادّاً عن جميع الأديان الباطلة إلى

(1)

انظر: القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262).

(2)

انظر: ضياء السالك (2/ 229).

(3)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.

(4)

السابق.

(5)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.

ص: 620

الدين المستقيم الذي يُرْضِي اللهَ جَلَّ وَعَلَا.

{ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} نفي هذا الكون الماضي، بأن الله نفى عن إبراهيم الشرك في الكون الماضي، معناه: أنه لم يقع منه كَوْنُ الشِّرْكِ فيما مضى أبداً، وهذا حق لا شَكَّ فيه، والآيات الدالة عليه كثيرة، كقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (123)} [النحل: آية 123] وهذا يكثر في القرآن -نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم- وبهذه الآيات وأمثالها في القرآن من تَبْرِئَةِ إبراهيم من شرك ماض أبداً، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} [الأنبياء: آية 51] تعلمون أنه غَلِطَ كِبَارٌ مِنْ كِبَارِ العُلَمَاءِ، منهم كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري، والروايات المرْوِيَّة عن ابن عباس وغيره من أجلاء علماء التَّابِعِين، أنها كلها غلط لا شَكَّ فِيهِ؛ وذلك لأنهم زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ إبراهيم المتقدم في الأنعام:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] زَعَمُوا أنه كان يظن أنه ربه وقت قوله ذلك، ولو كان يَظُن ربوبية الكوكب لكان من أشد المشركين شركاً، والله ينفي عنه الشرك في الكون الماضي، فدَلَّ قَوْلُهُ:{وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} في آيات كثيرة، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء: آية 51] أن قوله في الكوكب: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} أنه ما كان يظن ربوبية الكوكب أبداً، إذ لو كان يظنها لكان سبق عليه شرك ماض، وظَنُّ ربوبيَّة غير الله هو أكبر أنواع الشرك وأكفرها، والله يقول:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [يونس: آية 66] فقول ابن جرير: إن إبراهيم كان يظن رُبُوبِيَّة الكوكب أولاً، وروايته لهذا عن ابن عباس وجماعة

ص: 621

غلط فاحش لا شك فيه

(1)

؛

لأن الله يقول عن إبراهيم: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} ونفي الشرك في الكون الماضي يدل على الاستغراق؛ لأنه من المعروف عند العلماء أن الفعل قسمان: فعل حقيقي، وفعل صناعي.

أما الفعل الحقيقي فهو الذي يسميه علماء النحو بالمصدر، وهو الحدث المتجدِّد، كالضرب والكلام والقعود، والفعل الصناعي: هو المعروف في صناعة النحو بالفعل، مما يسمونه: ماضياً، أو مضارعاً، أو فعل أمر، وهذا الفعل الصناعي عند عامة النحويين ينْحَلّ عن مصدر وزمن

(2)

، وبيَّنه في الخلاصة بقوله

(3)

:

المَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ

مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ

وعند المحققين من علماء البلاغة كما حَرَّرُوه في مبحث الاستعارة التبعية: أن الفعل الصناعي يَنْحلّ عن مصدر، وزمن، ونسبة، فالمصدر كامن في جوفه إجماعاً

(4)

. وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (كان) فعل صناعي، فعل ماض ناقص يكمن في جوفه مصدره قطعاً، ففيه نَفْيُ كَوْنِ الشِّرْكِ المَاضِي قطعاً، نفياً باتّاً من الله، فلم يكن من إبراهيم شرك ألبتة، كما صرح به الله في قوله:{وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} في آيات كثيرة.

ولا شك أن طالب العلم يخطر في ذهنه الآن أن يقول: برَّأْتُمْ

(1)

مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة ..

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(4)

انظر: جواهر البلاغة ص 310، الكليات (102).

ص: 622

إبْرَاهِيمَ من كل شرك ماض؛ لأن الله نَفَى كَوْنَ الشرك الماضي عنه، وهو يستغرق ماضي الزمن إلى الأزل، ولكن ماذا تقولون في قوله:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]؟

والجواب: قَرَّرْنَاهُ في محلِّهِ مِنْ هَذِهِ السورة

(1)

، وسنُلم بنموذج قليل منه، منه: أن هذا إنما قاله نبي الله إبراهيم على سبيل التنازل الجدلي، ليمكنه إفحام خصمه؛ لأن من أمهات الجدل أن تُسلم الكذب المحض لخصمك ليمكنك إفحامه؛ لأن إبراهيم لو قال أولاً: الكوكب لا يمكن أن يكون ربّاً. لقالوا: أنت رجل جاهل كذاب، الكوكب رب، ولم يحصل شيء، فكأنه قال: سلمنا على زعمكم الكافر الكاذب الباطل، هذا ربي! أي: على زعمكم الكافر الملحد الفاجر، فَلِمَ يأفل؟ وكيف يأفل الرب ويسقط؟! ولذا قال:{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فلو لم يتنازل ويُسلمهم التسليم الجدلي ويقل لهم: هذا ربي؛ أي: فرضاً على كُفْرِكُمْ وقَوْلِكُم البَاطِل، لو لم يتنازل هذا التنازل لما أمكنه إفحامهم كما يقول الله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: آية 22]{لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَّابْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: آية 42] أي: لو كان ربًّا لما كان آفلًا! ولو لم يُظهر لهم بعض الموافقة للكذب الباطل لما أمْكَنَهُ إفْحَامُهُم.

والوجه الثاني: أن همزة

(2)

الاستفهام الإنكاري محذوفة دل المقام عليها، والأصل: أهذا ربي؟! وهمزة الاستفهام إذا دل المقام

(1)

مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة.

(2)

السابق.

ص: 623

عليها جاز حذفها. والدليل عليها وعلى أن إبراهيم ما كان ظانّاً ربوبية الكوكب هو عظم إبراهيم، وشهادة الله له في القرآن أنه لم يكن مشركاً قط، وفي نفس الآية قرائن واضحة قاطعة على أنه ما كان يظن الكوكب ربّاً؛ لأن الله قال في أول الآيات:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: آية 75] فلما حكم له بأنه من الموقنين الذين لا يخالج يقينهم شك رتب على ذلك بالفاء قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] فكيف يظن أنه ربه والله يقول: {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ} فرتب على كونه من الموقنين قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} وهمزة الاستفهام حذفها مطرد إذا كان مع (أم) لا نزاع فيه. وزعم الأخفش الصغير -أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير- أن حذف همزة الاستفهام إذا دل عليه قرينة أنه مطرد في اللغة العربية قياسي لا يحتاج إلى سماع، ومن أمثلته في القرآن:{أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: آية 34] والمعنى: أفإن مِتَّ أفهم الخالدون؛ لأن محل استفهام الإنكار في قوله: «أفَهُمُ الخالِدُونَ» وهو كثير في كلام العرب دون (أم)، ودون ذكر الجواب، ومع (أم)، ومع ذكر الجواب

(1)

.

فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت

(2)

:

طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ

وَلَا لَعِباً مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة.

ص: 624

يعني: أوَذو الشيب يلعب؟ فحذف همزة استفهام الإنكار.

ونظيره قول الآخر واسمه خويلد

(1)

:

رَفوني وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ

فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ

يعني: أهُم هُم؟ فحذف همزة الاستفهام على التحقيق، وكما جزم به غير واحد.

ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب: قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي

(2)

:

ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا، قُلْتُ بَهْراً

عَدَدَ النَّجْمِ والحَصَى وَالتُّرَابِ

فقوله: «ثم قالوا: تحبها» يعني: أتحبها؟ فحذف همزة الاستفهام.

أما هو مع (أم) فهو مُطَّرِد لا يخالف فيه أحد، وأنشد له سيبويه قول ابن يعفر التميمي

(3)

:

لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً

شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ

يعني: أشعيث بن سهم؟ ومنه في كلام العرب قول ابن أبي ربيعة المخزومي

(4)

:

بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ

وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ

فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ

بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة

(4)

السابق.

ص: 625

يعني: أبسبع رميت الجمر أم بثمان؟ ومنه قول الخنساء السُلمية الشاعرة، الخنساء بنت عمرو بن الشريد المشهورة

(1)

:

قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ

أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ

تعني: أقذى بعينك؟ ومنه قول أُحيحة بن الجُلاح الأنصاري

(2)

:

وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْباً

لِغَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ

يعني: ألغيرك؟ وقول امرئ القيس

(3)

:

تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَوْ تَبتَكِرْ

وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ

وهو كثير في كلام العرب.

والحاصل أن قوله هنا: {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} يدل على نفي الشرك عن نبي الله إبراهيم في الزمن الماضي كله أبداً، وهذا معنى قوله:{مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} .

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: الآيتان 162، 163].

قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} بفتح ياء {وَمَحْيَايَ} وسكون ياء {وَمَمَاتِي} ، وقصر ألف {وَأَنَا} وعدم مدّها. وقرأ نافع وحده دون عامة القراء: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (76) من هذه السورة.

ص: 626

وَمَحْيَايْ} بخلاف عن ورش فيه، واتفاق عن قالون:{وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بفتح ياء {وَمَمَاتِي}

(1)

، وقرأ -مثلًا-:{وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} وهي لغة تميم مدّ لفظة {وَأَنَاْ} وقرأه عامة القراء غير نافع: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} بلا مدّ {وَأَنَاْ}

(2)

.

والمعنى: قل لهم يا نبي الله، إن جميع عباداتي مُنْصَرِفَة إلى مَنْ خَلَقَنِي لا أشرك فيها غيره معه، فأنا مُوَحِّد صِرْفاً، مخْلِص لِرَبِّي في عِبَادَتِي {إِنَّ صَلَاتِي} إذا صليت {وَنُسُكِي} أكثر العلماء على أن النسك هنا معناه: النحر في الضحايا والهدايا، ونحري إذا نَحَرْت {لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، كقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: آية 2] وعلى هذا فالنسك خاص بالذبح

(3)

. والمعنى: أنه لا يُنْحَر لِغَيْرِ اللهِ، ولا يُذْكَر عَلَى الذَّبِيحَة اسم غير الله، كَمَا لا يُصَلَّى لِغَيْرِ اللهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في قوله:{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} .

وقال بعض العلماء: {وَنُسُكِي} معناه: جميع عباداتي؛ لأن التنسك: التعبد، و (النسك) يطلق على جميع العبادات، ويدخل فيه دخولاً أَوَّلِيّاً: النحر والتقرُّب بالدم؛ لأن التقرب بالدماء في الضحايا والهدايا من أعظم القُرَب إلى الله، وصرفه لِغَيْرِ الله صَرْف لحقوق الخالق إلى المخلوق، وذلك معروف ما فيه، فعلى أن (النسك) خصوص الذبح فالآية كقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص (206).

(2)

انظر: السبعة لابن مجاهد 187، الموضح (1/ 338)، الإقناع لابن الباذش (2/ 610)، النشر (2/ 230 - 231)، البدور الزاهرة (114).

(3)

انظر: ابن جرير (12/ 283 - 285)، أضواء البيان (2/ 284).

ص: 627

فخص هاتين العبادتين وغيرهما من العبادة مثلهما، وعلى أن النسك جميع العبادة فقد شمل الذبح وغيره

(1)

. وهذا معنى قوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} .

{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} اختلف العلماء في معنى قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} قال بعض العلماء: إن الذي يستحق مني أن أخصه بصلاتي وبنحري وبجميع عباداتي هو الذي بيده روحي، يملك مَوْتِي ويَمْلِكُ حَيَاتِي، إن شاء أمَاتَنِي وإن شاء أحْيَاني، فالذي يملك إحيائي وإِمَاتَتِي هو رَبِّي ومَعْبُودِي الذي يَحِقّ لي أن أُخْلِصَ له حقه في عبادته. وقال بعض العلماء:{وَمَحْيَايَ} هو ما قَدَّمْتُ في حياتي مِنْ جَمِيعِ الأعمال الصالحة مخلصاً فيه لله وحده

(2)

.

{وَمَمَاتِي} قيل: هو ما أَوْصَيْتُ أَنْ يُفعل بعد مماتي من إجراء قُرُبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ تجري عَلَيَّ، كل ذلك مخلص فيه لله. أو {وَمَمَاتِي} أي: ما جَاءَنِي عليه الموت من الأعمال الصالحات التي أدْرَكَنِي المَوْتُ وأَنَا مُقِيمٌ عَلَيْهَا، كما قال نبي الله يعقوب:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: آية 132] كل ذلك مخلص فيه لله (جل وعلا) وحده لا أشرك معه غيره

(3)

.

[25/ب] وهذا تعليم لنا أننا نخلص [عبادة]

(4)

/ خالقنا له (جل وعلا) ولا نشرك معه فيه غيره؛ لأنه أغْنَى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل

(1)

انظر: القرطبي (7/ 152)، أضواء البيان (2/ 254).

(2)

انظر: القرطبي (7/ 152)، البحر المحيط (4/ 262).

(3)

انظر: المصدرين السابقين.

(4)

في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 628

من أحد أشرك معه غيره، وكل شيء يغفره إن شاء إلا الإشراك به {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: آية 48] وهذا معنى قوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك، لا شريك يُصلى له غيره، ولا شريك يُنحر ويتقرب إليه بالنحر غيره، ولا شريك يُميت ويُحيي غيره، ولا شريك يقام على الأعمال لرضاه مخلصاً له في الحياة غيره، ولا شريك يُوصَى بالأعمال الصالحة بعد الممات يُراد بها رِضَا شريك غيره، بل هو وحده الذي له الإخلاص في جميع ذلك كله، ثم قال:{وَبِذَلِكَ} الذي ذكرت لكم من إخلاص العبادة لله طول أيام الحياة، وما يُوصى به بعد الممات، وما يموت عليه الإنسان من الأعمال، إخلاص التوحيد والقُرَب لله في ذلك وحده {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} هكذا أمرني ربي، وأنا عبد مأمور، وقد أمرني بالإخلاص له في جميع عباداتي.

فعلينا أن نعلم أن هذا الذي أُمر به سيدنا صلى الله عليه وسلم من تحقيق العبودية لله، وإخلاص حقوق الله لله، وتحقيق معنى (لا إله إلا الله) علينا أن نتبع فيه نبينا صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} ، قوله:{وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} أي: أول المسلمين من هذه الأمة؛ لأنه هو الذي دَعَاها إلى الإسلام، فهو أول مَنْ أسْلَمَ؛ لأنه نزل عليه الوحي فآمَنَ به ثم قام يدعو الناس إليه، أي: من هذه الأمة لا مِنْ جَمِيع الناس. أما المسلمون قبله من الأمم الأخرى فهم كثير جدّاً، وكل الأنبياء قبله مسلمون، وهذا نبي الله إبراهيم يقول الله فيه:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: آية 131] وهذا نبي الله نوح

ص: 629

يقول: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (72)} [يونس: آية 72] وهذا نبي الله يوسف يقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: آية 101] والله يقول: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} [المائدة: آية 44] وأمثال هذا في القرآن كثيرة، فالمسلمون قبله كثير، ودين الإسلام قبله منتشر في شرائع الرسل. ومعنى {وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} أي: من هذه الأمة التي بعثني الله بشيراً ونذيراً إليها.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: آية 164].

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} يقول علماء التفسير: إن سبب نزول هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام: أن المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اعبد معنا آلهتنا مرة ونعبد معك إلهك مرات أُخرى، فأمره الله أن يُنكر عليهم هذا القول، ويقول لهم:{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً} والمعنى: أأبغي ربّاً غير الله حتى أعْبُدَ صنماً وأتخذه ربّاً؟ لا يمكن أن يكون هذا مِنّي، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} يعني: لا أبْغِي ربّاً غير الرب الذي هو الرب الحقيقي، الذي هو رب كل شيء، أي: خالق كل شيء، ومدبر شؤون كل شيء، إليه المرجع والمآبُ، هو وحْدَهُ الَّذِي هو رَبّي؛ لأن غيْرَهُ مخْلوق مربوب مملوك له (جل وعلا)، وهذا معنى قوله:{أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وإنما قدم المفعول؛ لأن محلّ الإنكار مُنْصَبٌّ على غيريّة الله، واتخاذ الربوبية إنكاره منصب على غيريّة الله؛ ولذا قَدَّم غير الله؛ لأنه محل مصب الإنكار، والحال

ص: 630

هو -أي: الله- {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فالذين تدعونني أن أعبدهم هم مخلوقون لله، ومربوبون له، فهو رب كل شيء، ومعبود كل شيء، فهو المعبود وَحْدَهُ، فلا أعبد غيره، ولا أتَّخِذُ غَيْرَهُ رَبّاً.

ثم قال: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا} والمعنى: لا تَكْسِبُ كل نفس ذنباً إلا عليها. {كُلُّ نَفْسٍ} يعني لا تكسب ذنباً إلا على نفسها، وأنا إن عبدتم أنتم الأصنام فضَرَرُ ذَلِكَ عليكم، وإنما يضرّنِي لو كنت وافقتكم؛ ولذا قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} العرب تقول: وَزَرَ الذنب: إذا تحمّلَهُ، أي: ولا تحمل نفس وازرة، أي: مُذْنِبَة متحمّلة للآثام، لا تحمل وِزْرَ ذَنْبِ نفس أخرى، بل كل نفس عليها ذنبها، وهذا كالتأكيد لقوله:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} وهذا بَيِّن، ولو كانت أقرب الأنفس إلى النفس لا تحمل عنها من وِزْرِهَا شيئاً، كما يأتي في قوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: آية 18] وكان بعض العلماء يقول: سبب نزول هذه الآيات: أنهم لما دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعبد معهم آلهتهم مرة ويعبدون معه إلهه مرات، وقنّطهم من ذلك، وأمره الله أن يقول:{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} قالوا له: أنت وأصحابك اتبعوا سبيلنا واعبدوا معبوداتنا ونحن نتحمل عنكم جميع الآثام، ونضمن لكم خير الدنيا والآخرة، فكل ما يهمّكم في ذِممنا وعلينا، كما قال: إنهم قالوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: الآيتان 12، 13] أي: أثقال ضلالهم، وأثقال إضلالهم؛ ولذا قال هنا:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} فكسبنا وآثامنا لا تكون عليكم، ولا يمكن أن تتحملوها لو أطعناكم

ص: 631

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس مذنبة -يعني- ذنب نفس أخرى، بل كل وعمله، والله لا يأخذ أحداً بعمل غيره، فالكل مؤاخذ بما عمل.

وهذه الآيات فيها موعظة عظيمة وسؤال؛ أما الموعظة العظيمة: فهي أن يعلم الإنسان أن حركاته في الدنيا وسكناته أن ما فيها من نفع فهو عائد إلى خصوص نفسه، وما فيها من ضرّ فهو عائد إلى خصوص نفسه، فليجتهد الإنسان وقت إمكان الفرصة أن يُسَلِّم نفسه من البلايا، وأن يُكسبها الخيرات، فحركات الإنسان في دار الدنيا إنما يبني بها بيته الذي إليه مصيره الأخير، وهو إما غرفة من غرف الجنة أو سجن من سجون النار، فعلى كل مكلف أن يتأمل في نور القرآن في الحياة الدنيا في صحته وفراغه، ويعلم أن حركاته من أقواله وأفعاله ونيّاته وقصوده إنما يبني بها مقرَّه الأخير النهائي: إما غرفة من غرف الجنة، وإما سجن من سجون النار.

الثاني: أن يُقال: في هذه الآية سؤال: لأن الله نص فيها أنه لا يؤاخذ أحداً بفعل أحد آخر، وقد جاءت مسألتان وقعت فيهما المؤاخذة بفعل الغير:

إحداهما: تحمّل العاقلة للديّة، فقد يقتل رجل إنساناً خطأ فتُجعل الديّة على عاقلة ذلك الرجل، فيُكلفون بغرم لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فهذه الأنفس قد أُخذت بذنب نفس أُخرى وهي لا ذنب لها فيه.

الثاني: ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر (رضي الله

ص: 632

عنهما) أنه قال: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»

(1)

وهذا كأنه عُذب بفعل غيره، والحديث ثابت في الصحيح، وتكذيب عائشة لابن عمر في هذا الحديث -توهيمها له، وأنه غَلِطَ نظراً لهذه الآيات- غلَطٌ منها هي رضي الله عنها، والصواب مع ابن عمر؛ لأنه حافظ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم غير شاك ولا متوهم

(2)

.

فهذان سؤالان: لِمَ وجبت الدية على العاقلة وهي من فعل غيرها؟ ولِمَ عُذِّب الميت ببكاء أهله وهو من فعل غيرِهِ؟

والعلماء أجابوا عن هذا بأجوبة، قالوا

(3)

: أما العاقلة: فإن الإنسان القاتل خطأ لا ذنب عليه؛ لأنه لا يقصد شيئاً ولا مؤاخذة عليه عند الله إجماعاً؛ لأن الله يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: آية 5] ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَئاً} [النساء: آية 92] والكفارة التي وجبت عليه قال بعض العلماء: إنما هي مؤاخذة لعدم شدة التحفظ والتحرز أولاً والتسبب في عدم وقوع الخطأ، أما بعد وقوع

(1)

البخاري في الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» إذا كان النوح من سنته، حديث رقم:(1286)، (3/ 151 - 152)، وطرفه في:(1287 - 1290، 1292، 3978).

ومسلم في الجنائز، باب: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، حديث رقم:(928)(2/ 640)، وانظر الأحاديث الأُخرى التي أخرجها في الباب نفسه.

(2)

انظر: فتح الباري (3/ 154)، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص (67).

(3)

انظر: المغني (9/ 489)، فتح الباري (2/ 246).

ص: 633

الخطأ فلا إثم فيه قطعاً. قالوا: هذا رجل مسلم لزمته دية، وهو لم يقصد سوءاً، ولم يقصد بها ذنباً ولا جريمة، فالله (جل وعلا) أمر عاقلته من أهل ديوانه -ممن يقول بالديوان- أو من عصبته- ممن يقصرها على العصبة- أمرهم أن يساعدوه، وخالق السماوات والأرض يُدبِّرُ على البعض من البعض، ويأمر البعض بمساعدة البعض؛ إكراماً وجرياً على مكارِمِ الأخلاق، كما أمر بأن تؤخذ الزكاة من أغنيائنا وتُرَدّ على فُقَرَائِنَا، فهذه إعانة محض، ومكارم أخلاق جاء القرآن بها معاونة لذلك الإنسان، كما أوْجَبَ الزَّكَاة؛ مساعدةً لِلْفَقِير، وما جرى مجرى ذلك.

أما حديث ابن عمر فَلِلْعُلَمَاءِ عنه أجوبة كثيرة

(1)

، منها: أنهم حملوه على الميت الذي أوصاهم أن يبكوا عليه؛ أي: عرف أنهم إذا مات يبكون عليه ولم ينههم، وكانت هذه عادة العرب، ويوضحه قول طرفة بن العبد في مُعَلَّقَتِهِ

(2)

:

فَإِنْ مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ

وَشُقِّي عَلَيَّ الجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ

فهذا إذا شقّت عليه الجيب وبكت عليه فلا إشكال في تعذيبه ببكائها؛ لأنه أمره بها في الدنيا وهو من فعله، وكذلك من علم أنه إذا مات يفعلونه ولم ينههم، فهو مُتَسَبِّب بِعَدَمِ نَهْيِهِمْ.

وقال بعض العلماء: تعذيبه ببكاء أهله أن أهله إذا بكوا عليه أن الله يُطلعه على ذلك ويأسف ويحزن من حزن أهله، إلى غير ذلك من الأقوال، وأظهرها الأول، وهذا معنى قوله: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ

(1)

انظر: فتح الباري (3/ 152 - 155)، أحكام الجنائز للألباني ص 41 - 42.

(2)

شرح القصائد المشهورات (1/ 92).

ص: 634

إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} المرجع هنا: مصدر ميمي، بمعنى: الرجوع، والمصدر الميمي إذا لم يكن من مادة واوية الفاء يكون قياسه (مفعَل) بفتح العين

(1)

، فالقياس أن يكون (المرجَع) بفتح الجيم، ولكن هذا سماع مانع للقياس، فهو مصدر ميمي على (مفعِل) سماعاً لا قياساً، ومعناه: إليه رجوعكم يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُم} أي: يخبركم إخبار مجازاة {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بالذي كنتم تختلفون فيه، يعني: أهؤلاء الذين كانوا شيعاً وفرقوا دينهم واتبعوا الأهواء والضلالات، وهؤلاء الذين كانوا على الصراط المستقيم، مرجعهم جميعاً إلى الله، فيخبرهم بالحقيقة، ويبيِّن لهم الضَّال من المُهْتدِ، ويعاملهم بحسب ما كانوا عليه من هدى وضلال، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)} [الأنعام: آية 165].

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ} قال بعض العلماء: هذه منّة تخص أمة محمد صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ} أي: الله {الَّذِي جَعَلَكُمْ} يا أمة محمد خلفاء الأرض؛ لأنه لا يأتي نبي بعد نبيكم، ولا شرع بعد شرعكم، فيكون الحكم في الأرض تبعاً لشرعه، بل شرعكم ودينكم هو الباقي الخالد في الأرض، المُحَكَّم في جميع مَنْ في الأرض؛ في دمائهم وأموالهم وأديانهم وأعراضهم وفروجهم فأنتم خير الأمم، وأنتم

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 635

خلفاء الأرض، لا يأتي شرع ينسخ شرعكم، ولا نبي بعد نبيكم، فأنتم خلفاء الأرض إلى يوم القيامة، وإن شرعكم باق، ونبيكم لا نبي بعده، ودينكم باق إلى يوم القيامة، وعلى هذا فالمنّة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الامتنان يقتضي أن تعطوا الخلافة في الأرض حقها، وتقتفوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخلِّفُوه خلافة حقّاً، فتُرضوا الله بأن تنفذوا أوامره في أرضه، وتضعوا العدالة في أرضه، وتجعلوا المحكّم في الدنيا نظامه الذي شرع، وتجعلوا كلمته هي العليا، وتستعدوا بكل قوة حتى تجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى، فعلى هذا القول فهو منّة على هذه الأمة. وقال بعض العلماء: (

(1)

).

(1)

ملحوظة: انقطع التسجيل بعد هذا الموضع.

ص: 636