المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سِلسِلة إصدارات ومَنْشُورات مَرْكَز البَصَائِر للبَحْث العِلْمِي (11)   القَوَاعِدُ الكُلِيَّةُ في - القواعد الكلية في باب القدر - جـ ١

[ربيع بن أحمد البيطار]

فهرس الكتاب

سِلسِلة إصدارات ومَنْشُورات مَرْكَز البَصَائِر للبَحْث العِلْمِي (11)

القَوَاعِدُ الكُلِيَّةُ في بَابِ القَدَرِ

في ضَوْءِ مَنْهجِ السَّلَفِ

تَألِيفُ

رَبيع بن أحمَد البيطار

مَركز البَصَائِر للبَحثِ العِلْمِي

ص: 1

‌نبذة تعريفية بـ مَركز البَصَائِر للبَحثِ العِلْمِيِّ

هو مركز للبحث العلمي في الدراسات الإسلامية يعتني بتحقيق كتب التراث، والتأليف، والترجمة، وغير ذلك، بواسطة مجموعة من الباحثين فى العالم الإسلامي، وفق أعلى معايير الجودة العلمية، - مع إتاحة العمل عن بعد من بلادهم -، ثم نشرها بأسعار مناسبة.

‌* الأهداف الرئيسية للمشروع:

1 -

تحقيق كتب التراث الإسلامي، بعناية تليق بها، بالإضافة للمؤلفات، والكتب المترجمة.

3 -

بيع كتب التراث بأسعار مناسبة.

4 -

إعانة المؤلفين الراغبين في إخراج أعمالهم العلمية مع الاحتفاظ بالحقوق، ومساعدتهم في توزيعها.

5 -

خدمة كتب التراث، والمشاريع الموسوعية بشكل أكبر لكثرة عدد الباحثين الذين يمكن الإفادة من جهودهم في هذا المجال، - لاستخدام نظام العمل عن بعد - بما يمكن المركز من إخراج أعمال كبيرة لا يتيسر إخراجها في كثير من الجهات العاملة في خدمة الدراسات الإسلامية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد

وآله وصحبه أجمعين

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن الله عز وجل قد أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين قويم لا اعوجاج فيه، ومَنَّ على هذه الأمة بأن أكمله لهم، قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، و"هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حقٌ وصدقٌ لا كذبَ فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي"

(1)

.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 107).

ص: 5

فما فارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا وقد بيَّن لأمته كل ما تحتاجه في كل باب من أبواب الدين، وقرَّر هذا صلى الله عليه وسلم قولًا في مواطن، منها قوله صلى الله عليه وسلم:(قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم)

(2)

.

وقد تقرر هذا الأصل في كلام الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك قول سلمان الفارسي رضي الله عنهم لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"

(3)

، وقول أبي ذر رضي الله عنه:"تركَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم"

(4)

.

وكمال الدين شاملٌ له كله، عقائده وشرائعه.

ومن ذلكم باب القدر، فقد بيَّنه الله ورسوله أعظم البيان، وأوضحاه

(1)

أخرجه أحمد (28/ 367) ح (17142)، وابن ماجه: المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (1/ 16) ح (43)، والحاكم (1/ 175) ح (331)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (937).

(2)

أخرجه الطبراني (2/ 155) ح (1648)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (1803).

(3)

أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 223) ح (262).

(4)

أخرجه ابن حبان: كتاب العلم، باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها (1/ 267) ح (65)، والطبراني (2/ 155) ح (1648)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (1803).

ص: 6

غاية الإيضاح، فإنه باب عظيم، "الإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان"

(1)

.

وقد رأيت بعد استشارة واستخارة أن يكون موضوع رسالتي لنيل درجة الماجستير بعنوان:

"القواعد الكلية في باب القدر في ضوء منهج السلف"

(2)

.

*‌

‌ أهمية الموضوع:

ومن كمال هذا الدين أنه جارٍ على أصولٍ مستقيمة وقواعدَ مطَّردة، لا تنخرم ولا يشذ عنها شيء، وهذا من رحمة الله سبحانه بالأمة؛ إذ الإحاطة بكل نصٍ وجزئيةٍ أمرٌ متعذرٌ أو ممتنعٌ، فإذا أمكن وجود أصول عامة تُرَدُّ إليها الجزئيات كان هذا نعمة عظيمة تجعل الأمة في مأمن من الضلال بإذن الله؛ وهذا من وجوه امتنانه سبحانه بإكمال الدين.

فالعناية بالأصول العامة والقواعد الكلية أمر لا تخفى أهميته، فإنه السبيل إلى ضبط العلم وإحكامه، إذ الجزئيات - كما تقدم - مردُّها إلى أصول، فإذا خفي حكم الجزئية رُدَّت إلى أصلها وأُعطيت حكمه.

(1)

شفاء العليل (1/ 44).

(2)

مع التنبيه على أني أمشي على طريقة المتقدمين في عدم التفريق بين القواعد والضوابط؛ إذ أنَّ أول من عُرف عنه التفريق بين القواعد والضوابط: تاج الدين ابن السبكي ت (771 هـ)، وتابعه على ذلك الزركشي ت (794 هـ)، والسيوطي ت (911 هـ)، وابن نجيم ت (970 هـ)، والفتوحي ت (972 هـ)، والكفوي ت (1049 هـ)، والبناني ت (1198 هـ) وأغلب المعاصرين. انظر:"القواعد الفقهية" للدكتور يعقوب بن عبد الله الباحسين ص (59 - 61).

ص: 7

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب، لهم ولسائر الأمة فنقول: لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولَّد فساد عظيم"

(1)

.

وهذا الأمر يتأكد في باب العقائد أكثر من غيره من الأبواب لأمورٍ منها:

أولًا: أن هذا الباب أجلُّ قدرًا وأعلى منزلةً من غيره.

ثانيًا: أن الخطأ فيه ليس كالخطأ في غيره.

هذا عمومًا، ولباب القدر أهمية خاصة تكمن فيما يلي:

1) كونه ركنًا من أركان الإيمان.

2) أنه محل عناية عظيمة في نصوص الكتاب والسنة.

3) كونه من الأبواب التي اشتد فيها الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم.

4) أن له أثرًا كبيرًا ومباشرا في سلوك المسلم في كافة أحواله.

*‌

‌ أسباب اختيار الموضوع:

اخترت هذا الموضوع لأسباب عدَّة، هي:

1) ما تقدم من أهميته، فهو موضوع جدير بالعناية به والكتابة فيه.

2) جمع القواعد المتعلقة بهذا الباب في كتاب واحد ليسهل الرجوع إليها والاستفادة منها.

(1)

منهاج السنة (5/ 83).

ص: 8

3) بيان عقيدة أهل السنة في هذا الباب من خلال شرح هذه القواعد، والرد على المخالفين لهم.

4) أن هذا الموضوع لم يفرد بتأليف مستقل.

5) الرغبة في الاستفادة الخاصة من البحث.

*‌

‌ الدراسات السابقة:

لم أقف - فيما اطَّلعت عليه - على مؤلَّف في هذا الموضوع، نحى هذا المنحى نفسه، من جمع القواعد وشرحها، والرد على المخالفين فيها.

وإنما وقفت على مؤلفات:

- إما في باب القدر عمومًا، ككتاب:"القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه" للشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود، نشرة دار النشر الدولي، (1414 هـ)، وكتاب:"الإيمان بالقضاء والقدر" للشيخ محمد إبراهيم الحمد، نشرة دار ابن خزيمة، الرياض، (1416 هـ).

- أو في مسائل جزئية فيه، ككتاب:"أفعال العباد بين أهل السنة ومخالفيهم" عبد العزيز بن أحمد الحميدي، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، قسم العقيدة، وكتاب:"الهدى والضلال: دراسة قرآنية" أماني عبد الله الطويلي، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود.

- أو في جهود إمام من الأئمة في تقريره، ككتاب:"جهود شيخ الإسلام في توضيح الإيمان بالقدر" تامر محمد محمود متولي، رسالة دكتوراه، الجامعة الإسلامية، قسم العقيدة.

ص: 9

*‌

‌ خطة البحث:

سرت في هذا البحث وفق خطة اشتملت على: مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة، ثم فهارس فنية.

المقدمة: اشتملت على الافتتاحية، وأهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهجه.

التمهيد: مقدمات مهمة في القدر، وضمنته أربعة مباحث:

المبحث الأول: تعريف القدر في اللغة وفي الشرع، والفرق بينه وبين القضاء، وتحته ثلاث مطالب:

المطلب الأول: تعريف القدر في اللغة.

المطلب الثاني: تعريف القدر في الشرع.

المطلب الثالث: الفرق بين القدر والقضاء.

المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر من الإيمان، والأدلة على وجوبه.

المبحث الثالث: ثمرات الإيمان بالقدر.

المبحث الرابع: ما ورد في النهي عن الخوض في القدر وتوجيهه.

الفصل الأول: القواعد العامة المتعلقة بالقدر، وتحته تسعة مباحث:

المبحث الأول: "القدر سِرٌّ حجبه الله عن خلقه، فلا يُتَعَمَّق فيه"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

ص: 10

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثاني: "الكلام في القدر نفيًا وإثباتًا موقوف على الخبر عن لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثالث: "الإيمان بالقدر متوقف على إثبات العلم لله والكتابة والمشيئة والخلق"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الرابع: "علم الله سبحانه شامل لكل شيء"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

ص: 11

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الخامس: "علم الظهور لا ينافي علم لله السابق"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث السادس: "من العلم ما هو سبب في وجود المعلوم، ومنه ما ليس كذلك"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث السابع: "ما كتب في اللوح المحفوظ ثابت لا يتغير وما كتب في صحف الملائكة يقع فيه المحو والإثبات"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 12

المبحث الثامن: "ما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة وكذلك العكس، وما لا فلا"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث التاسع: "الفطرة لا تنافي تقدير الشقاوة والضلال"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

الفصل الثاني: القواعد المتعلقة بأفعال الله عز وجل، وتحته خمسة مباحث:

المبحث الأول: "الله سبحانه جَبَل العباد على ما شاء"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 13

المبحث الثاني: "كل ميسر لما خلق له"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثالث: "الله سبحانه منزَّه عن الظلم، مع قدرته عليه"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الرابع: "قدر الله - الذي هو فعله - لا شَرَّ فيه بوجه من الوجوه"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الخامس: "أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة لأجلها فعل"،

ص: 14

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

الفصل الثالث: القواعد المتعلقة بأفعال العباد، وتحته مبحثان:

المبحث الأول: "العبد له قدرة على فعله وله مشيئة"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثاني: "الله سبحانه خالق أفعال العباد وخالق قدرتهم وإرادتهم"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 15

الفصل الرابع: قواعد متعلقة بمسائل متفرقة، وتحته عشرة مباحث:

المبحث الأول: "الأمر يستلزم الإرادة الشرعية لا الكونية"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثاني: "الاستطاعة استطاعتان: سابقةٌ للفعل، وهي التمكُّن وسلامة الآلات، ومقارنةٌ للفعل، وهي حقيقة القدرة"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثالث: "ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز التكليف به"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

ص: 16

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الرابع: "الله سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الخامس: "للسبب تأثير في مسبَّبه، وليس علامة محضة، ولا علة تامة"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث السادس: "الله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله، وكل ذلك عن علم وحكمة"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

ص: 17

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث السابع: "لله على عبده المطيع نعمة دينية، خصه بها دون غيره، أعانه بها على الطاعة"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث الثامن: "لا حجة للعبد في القدر على معاصيه"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث التاسع: "الرضا بالقضاء منه ما يجب ومنه ما لا يجب"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

ص: 18

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

المبحث العاشر: "من الأفعال ما يكون حسنه وقبحه مدرَكًا بالعقل، ومنها ما لا يكون كذلك"، وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

الخاتمة: لخصت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.

الفهارس: وهي كما يأتي:

1) فهرس الآيات القرآنية.

2) فهرس الأحاديث النبوية.

3) فهرس الآثار.

4) فهرس الأعلام.

5) فهرس الأشعار.

6) فهرس الفرق.

7) فهرس المصطلحات والكلمات الغريبة.

8) فهرس المصادر والمراجع.

9) فهرس الموضوعات.

ص: 19

*‌

‌ منهج البحث:

اتبعت في هذا البحث المنهج الآتي:

1) الرجوع إلى المصادر الأصيلة في جمع مادة البحث.

2) التقيد بالألفاظ الشرعية.

3) الحرص على تدعيم البحث بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم.

4) الحرص على استيعاب القواعد في هذا الباب، بذكر كل ما نص عليه أهل العلم أنه قاعدة، باللفظ أو بالمعنى.

5) عزو الآيات القرآنية، بذكر اسم السورة ورقمها، مع كتابتها بالرسم العثماني.

6) عزو الأحاديث النبوية، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بعزوه، وإلا عزوته إلى مظانِّه من كتب السُّنة، مع ذكر حكم أهل العلم عليه.

7) الترجمة للأعلام غير المشهورين الواردة أسماؤهم في البحث ترجمة موجزة.

8) التعريف بالفرق والطوائف والأماكن والبلدان والقبائل، وكل ما يحتاج إلى تعريف.

9) شرح المصطلحات العلمية والكلمات الغريبة.

10) الالتزام بعلامات الترقيم، وضبط ما يحتاج لضبط.

11) تذييل البحث بفهارس فنِّيَّة تُسهِّل الاستفادة منه، على النحو المبين في الخطة.

ص: 20

‌شكر وتقدير

أحمد الله سبحانه وأشكره أولًا، إذ هو مولى كل نعمة، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، حمْدَ من حمْدُه نعمةٌ منه تستوجب حمدًا جديدًا، أحمده حمدًا مزيدًا وشكرًا مديدًا.

ثم أثنِّي بالشكر لوالدي الكريمين، ممتثلًا أمر الرب سبحانه:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وفقهما الله لكل خير، وصرف عنهما كل شر، وختم لهما بالصالحات من الأعمال.

ثم أشكر شكرًا كبيرًا شيخي الدكتور صالح بن عبد العزيز سندي، الذي تفضَّل بالإشراف على هذه الرسالة - وذلك من عظيم مِنَّة الله تعالى عليَّ -، والذي لم يبخل علي بعلم ولا وقت ولا جهد ولا خبرة ولا تجربة، مع ما هو عليه من خلق رفيع وأدب جمٍّ، فجزاه الله عني كل خير، ولست أقول هذا مبالغة ولا تقليدًا، بل هو ما علمته عنه وشاهدته منه.

كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية لما يسر الله سبحانه على أيديهم من الانتساب لهذه الجامعة العريقة، ثم ما يسره من إتمام مرحلة الماجستير من الدراسات العليا.

وأخص بالشكر: كلية الدعوة وأصول الدين، التي أتممت في قسم العقيدة منها هذه المرحلة، ووجدت فيها العون على طلب العلم.

وليس يفوتني أن أشكر كلية الحديث والدراسات الإسلامية، التي تخرجت منها في المرحلة الجامعية.

كما أشكر الشيخين الكريمين: الأستاذ الدكتور عبد القادر محمد عطا

ص: 21

صوفي، والدكتور صالح بن محمد العقيل، اللذين تفضَّلا مشكورين بمناقشة هذه الرسالة.

وأشكر أيضًا كل من أعانني على إتمام الرسالة من مشايخي وإخواني، جزاهم الله عني خيرًا، والحمد لله أولًا وآخرًا.

* * *

ص: 22

‌التمهيد

مقدمات مهمة في القدر

وتحته أربعة مباحث:

المبحث الأول: تعريف القدر في اللغة وفي الشرع، والفرق بينه وبين القضاء.

المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر من الإيمان، والأدلة على وجوبه.

المبحث الثالث: ثمرات الإيمان بالقدر.

المبحث الرابع: ما ورد في النهي عن الخوض في القدر وتوجيهه.

ص: 23

‌المبحث الأول: تعريف القدر في اللغة وفي الشرع، والفرق بينه وبين القضاء

‌المطلب الأول: تعريف القدر في اللغة:

القَدَر: مصدر قَدَرَ يَقْدُرُ قَدَرًا، وقد تُسكَّن دالُه، وقَدَرتُ الشيء أَقْدِرُه وأَقْدُرُه، وقدَّرته أُقَدِّره: بمعنى، من التقدير.

ومادة (قَدَرَ) ترجع إلى أصل واحد يدلُّ على مَبْلَغ الشيء وكُنهه ونهايته؛ فالقَدَر: مبلغُ كلِّ شيء

(1)

.

ويأتي القدر في اللغة على معان كثيرة منها: موافَقَة الشيء الشيء، وتهيئته، وتدبير الأمر، وقياس الشيء بالشيء، والقضاء، والحكم، والطاقة، والملك، والغنى واليسار والقوة، والعظمة، والشرف، والتزيين، وتحسين الصورة.

قال الأزهري: "قال [الليث]: وإذا وافَقَ الشيء الشيء، قلت: جاء قَدَرُه"

(2)

.

وقال: "وقال الليث: قدَّرتُ الشيء، أي: هيَّأته"

(3)

.

وقال: "والتقدير على وجوه من المعاني: أحدِهما: التروِيَة والتفكير في تسوية أمرٍ وتهيئته، والثاني: تقديره بعلاماتٍ تقطِّعه عليها، والثالث: أن تنويَ

(1)

انظر: مقاييس اللغة (5/ 62).

(2)

تهذيب اللغة (9/ 18)، مادة:(قدر).

(3)

المصدر السابق (9/ 23).

ص: 25

أمرًا بعَقدك؛ تقول: قدَّرتُ أمرَ كذا وكذا، أي: نويته وعقدتُ عليه.

ويقال: قَدّرْتُ لأمر كذا وكذا أقدُرُ له وأقدِرُ له قَدْرًا، إذا نظرتُ فيه ودبَّرتُه وقايَستُه. . . وقال شمِر: يقال: قدَرتُ، أي: هيّأت، وقدَرتُ، أي: أطقْتُ، وقَدَّرْتُ، أي: وقَّتُّ وقدَرتُ: ملكْتُ"

(1)

.

وقال ابن سيده: "القَدْر: القضاء والحكم؛ قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]: أي الحكْم"

(2)

.

وقال الفيروزآبادي: "القَدَر محرَّكة: القضاء والحكْم ومَبْلَغ الشيء، ويُضَمُّ كالمقدار والطاقة كالقَدْر فيهما. . . والقَدْر: الغنى واليسار والقوّة"

(3)

.

وقال الزَّبيدي: "والقَدْر: التعظيم، وبه فُسِّر قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، أي: ما عظَّموا الله حق تعظيمه. والقَدْر: تدبير الأمر، يقال: قدَرَه يقدِره - بالكسر - أي: دبَّرَه. والقَدْر: قياس الشيء بالشيء يقال: قدَره به قدْرًا، وقدَّره، إذا قاسه. ويقال أيضًا: قَدَرت لأمر كذا أقدِرُ له: بهذا المعنى. . . والقَدْر: الشرف، والعظمة، والتَّزيين، وتحسين الصورة"

(4)

.

هذه هي المعاني اللغوية التي ذكرت لكلمة "القدر".

(1)

المصدر السابق (9/ 24).

(2)

المحكم والمحيط الأعظم (6/ 183)، مادة:(قدر)، وابن سيده هو: أبو الحسن، علي بن إسماعيل المرسي الضرير، إمام اللغة وأحد من يضرب بذكائه المثل، ولد بمرسية في شرق الأندلس، من كتبه:"المخصص"، و"المحكم والمحيط الأعظم"، مات سنة (458 هـ).

انظر: وفيات الأعيان (3/ 330)، وسير أعلام النبلاء (18/ 144).

(3)

القاموس المحيط (2/ 112 - 113)، مادة:(قدر).

(4)

تاج العروس (13/ 374 و 380)، مادة:(قدر).

ص: 26

‌المطلب الثاني: تعريف القدر في الشرع:

تنوعت عبارات أهل العلم في بيان معنى القدر في الشرع.

- فقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهو علم الله وكتابه وما طابق ذلك من مشيئته وخلقه"

(1)

.

- وقال النووي رحمه الله: "ومعناه: أن الله تبارك وتعالى قدَّر الأشياء في القِدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى"

(2)

.

- وقال ابن القيم رحمه الله: "فإنه علم الله وقدرته وكتابه ومشيئته"

(3)

.

- وقال ابن كثير رحمه الله: "هو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها"

(4)

.

- وقال ابن حجر رحمه الله: "المراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجَدَ ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدَثٍ صادرٌ عن علمه وقدرته وإرادته"

(5)

.

- وقال السَّفاريني رحمه الله: "القدر عند السلف: ما سبق به العلم وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من

(1)

جامع الرسائل (2/ 355).

(2)

شرح صحيح مسلم (1/ 109).

(3)

شفاء العليل (2/ 733).

(4)

تفسير ابن كثير (13/ 304).

(5)

فتح الباري (1/ 118).

ص: 27

الأشياء قبل أن تكون في الأزل"

(1)

.

وهذه التعريفات متقاربة فيما بينها، إلا أن بعضها أشملُ من بعضٍ وأكثرُ دقةً وتفصيلًا، وأشملُها وأدقُها - مع الإيجاز - تعريف شيخ الإسلام رحمه الله، فإنه اشتمل على مراتب القدر الأربع، مع التنبيه على مطابقة المقضي الواقع بمشيئته سبحانه وتعالى للعلم السابق والكتابة المتقدمة، وأن المرتبتين الأولتين سابقتان للمقدور، وأن الأخيرتين مقارنتان له

(2)

، والله أعلم.

(1)

لوامع الأنوار (1/ 348).

(2)

سيأتي بيان مراتب القدر في مبحث مستقل إن شاء الله.

ص: 28

‌المطلب الثالث: الفرق بن القدر والقضاء:

قبل بيان الفرق بينهما يحسُن أن يُعرَّف معنى القضاء لغةً.

فالقضاء: مصدر قَضى يَقْضي قَضَاءً، بالمدِّ ويُقصر؛ وهو في اللغة على ضروب من المعاني؛ كلُّها تَرجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامِه، فكل ما أحكم عمله أو أتم أو ختم أو أدي أو أوجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضي فقد قضي.

ومن معانيه كذلك: القطع والفصل والصنع والتقدير والحتم والأمر والوصية والعهد

(1)

.

وأما الفرق بينه وبين القدر:

فقبل تحرير الفرق بينهما لا بد من التنبيه على أمرين:

1) أن الخلاف في هذه المسألة يسير ولا يترتب عليه كبير أثر.

2) أن مجال البحث إنما هو القضاء الكوني القدَري، لا الدِّيني الشرعي.

قد اختلف أهل العلم في الفرق بينهما على قولين:

القول الأول: أنه لا فرق بينهما، أي هما مترادفان، فالقضاء هو القدر، والقدر هو القضاء؛ فإن القدر في اللغة مرجعه إلى مَبْلَغ الشيء وكُنهه ونهايته، والقضاء مرجعه إلى انقطاع الشيء وتمامِه كذلك.

وأيضًا هما كذلك في لسان الشرع؛ فإن الشارع يستعمل أحدهما مكان الآخر، فقد استعملهما جميعًا في التقدير السابق، كما سيأتي في أدلة القول الثاني.

وهما كذلك في كلام السلف، ومن ذلك:

(1)

انظر: تهذيب اللغة (9/ 211)، ولسان العرب (20/ 46)، والكليات (705).

ص: 29

- قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: "قُضي القضاء، وجف القلم، وأمور بقضاء في كتاب قد خلا"

(1)

.

- قول الحسن البصري رحمه الله: "جفَّ القلم، ومضى القضاء، وتمَّ القدر، بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وبسعادة من عمل واتقى، وبشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتَّبْرئة من الله عز وجل للمشركين"

(2)

.

فهذان الإمامان قد عبَّرا بالقضاء مكان القدر؛ مما يدل على أنه لا فرق بينهما عندهم.

وأيضًا هما كذلك في لسان الناس؛ فإنهم ما يزالون يقولون: هذا قدر الله، وهذا قضاء الله، وهذا قضاء الله وقدره.

القول الثاني: أن بينهما فرقًا، وقد اختلف أصحاب هذا القول في ماهية هذا الفرق، فقال بعضهم: الفرق هو أن القدر سابق على القضاء؛ فالقدر هو ما قدَّره الله عز وجل في الأزل أن يكون على ما سبق به علمه، والقضاء هو وقوع ذلك المقضي على وفق ما قُدِّر سابقًا.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "والقضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع"

(3)

.

وقال مرعي الكرمي رحمه الله: "القدر عبارة عن سبق علم الله تعالى

(1)

رواه عبد الله في السنة (2/ 405) رقم (881)، والفريابي (88) رقم (99).

(2)

رواه الفريابي (88) رقم (100)، وابن بطة (2/ 194) رقم (1705).

(3)

المفردات (675).

ص: 30

بالمقدور. . . والقضاء عبارة عن خلق الله تعالى لذلك المقدور"

(1)

.

ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3].

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وكقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]. أي: قدَّر قدرًا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمُه الأشياء قبل كونها، وكتابتُه لها قبل برئها"

(2)

.

وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، أي: فرغ من خلقهن سبعَ سمواتٍ في يومين

(3)

.

وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم: 22]، أي: فُرِغ منه؛ فأُدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ

(4)

.

وقيل العكس، أن القضاء سابق على القدر.

قال الكَفوي رحمه الله: "القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي على أعيان الموجودات بأحوالها من الأزل إلى الأبد. . . والقدر هو تفصيل هذا

(1)

إتحاف ذوي الألباب (ق 21/ أ).

(2)

تفسير ابن كثير (13/ 304).

(3)

تفسير الطبري (20/ 392).

(4)

تفسير البغوي (4/ 345).

ص: 31

الحكم"

(1)

.

وقال الجُرجَاني رحمه الله

(2)

: "والفرق بين القدر والقضاء: هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها"

(3)

.

وقال: "القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحدًا بعد واحد مطابقًا للقضاء، والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال"

(4)

.

وقال ابن حجر رحمه الله: "وقالوا - أي العلماء -: القضاء هو الحكم الكلِّي الإجمالي في الأزل، والقدَر جزئياتُ ذلك الحكم وتفاصيلُه"

(5)

.

ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: " {أَجَلًا}: الدنيا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: الآخرة"

(6)

.

(1)

الكليات (706)، والكَفَوي هو: أبو البقاء، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، من أهل بلدة (كفه) التركية، له كتاب:"الكليات"، مات في اسطنبول سنة (1094 هـ).

انظر: الأعلام للزركلي (2/ 38)، ومعجم المؤلفين (1/ 418).

(2)

هو: أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الحسيني الحنفي، المعروف بالشريف الجرجاني، من كتبه:"التعريفات" و"شرح مواقف الإيجي"، مات في شيراز سنة (816 هـ).

انظر: الضوء اللامع (5/ 328 هـ)، والأعلام (5/ 7).

(3)

التعريفات (180).

(4)

المصدر السابق (181).

(5)

فتح الباري (11/ 477).

(6)

رواه ابن جرير (9/ 151).

ص: 32

وهذا في القدر السابق بلا إشكال، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله بعد حكاية هذا القول عن ابن عباس وغيرِه:"وقول الحسن في رواية عنه: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: ما بين أن يموت إلى أن يبعث: وهو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص؛ وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام؛ وهو عمر الدنيا بكمالها، ثم انتهائها وانقضائها وزوالها، وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة"

(1)

.

وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].

قال ابن كثير رحمه الله: "يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدَّر أمرًا وأراد كونه، فإنما يقول له: كن، أي: مرةً واحدةً فيكون، أي: فيوجد على وفق ما أراد"

(2)

.

والأظهر في ذلك والله أعلم أن القضاء والقدر من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت

(3)

، وهذا هو جواب ما جاء في النصوص من إطلاق القضاء مكان القدر.

فإذا اجتمعا؛ فيراد بالقدر: التقدير السابق، ويراد بالقضاء: وقوع المقضي على وفق ذلك التقدير.

ومع ذلك فهما متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر.

قال الخطابي رحمه الله: "وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك

(1)

تفسير ابن كثير (6/ 9).

(2)

المصدر السابق (2/ 39).

(3)

انظر: فتاوى ابن عثيمين (2/ 79 - 80).

ص: 33

أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه"

(1)

.

(1)

معالم السنن (4/ 323)، وانظر: النهاية في غريب الأثر (4/ 78).

ص: 34

‌المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر من الإيمان، والأدلة على وجوبه

الإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان، وأصلٌ عظيمٌ من أصوله التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، كما في حديث جبريل عليه السلام الطويل وفيه: قال فأخبرني عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقَدَر خيره وشره)

(1)

.

وقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ثبوت القدر ووجوب الإيمان به.

فمن أدلة الكتاب:

- قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

قال القرطبي رحمه الله: "أي قدَّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوٍ وغفلةٍ، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة، فهو الخالق المقدِّر"

(2)

.

- وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3].

(1)

رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى (1/ 36)، ح (8).

(2)

تفسير القرطبي (15/ 366 - 367).

ص: 35

قال ابن كثير رحمه الله: "وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، أي: قدَّر قدرًا، وهدى الخلائق إليه"

(1)

.

- وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدَّرناه وقضيناه"

(2)

.

وسبق قول ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وكقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]. أي: قدَّر قدرًا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمُه الأشياء قبل كونها، وكتابتُه لها قبل برئها"

(3)

.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.

ومن أدلة السنة:

- حديث جبريل المتقدم

(4)

.

- حديث جابر رضي الله عنهما أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما

(1)

تفسير ابن كثير (14/ 322).

(2)

تفسير الطبري (22/ 160).

(3)

تفسير ابن كثير (13/ 304).

(4)

ص (12).

ص: 36

أخطأه لم يكن ليصيبه)

(1)

.

- حديث علي رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع؛ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر)

(2)

.

- حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شيء حقيقة؛ وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه)

(3)

.

- حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني)

(4)

.

(1)

رواه الترمذي: أبواب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، (4/ 22) ح (2144)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (2439).

(2)

رواه الترمذي: أبواب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، (4/ 22 - 23) ح (2145)، وابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، (1/ 105) ح (81)، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (7584).

(3)

رواه أحمد: (45/ 482) ح (27490)، والبزار:(10/ 45) ح (4107)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (3019).

(4)

رواه أبو داود: كتاب السنة، باب في القدر (5/ 52) ح (4700)، والترمذي أبواب القدر، =

ص: 37

- عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشِيت أن يُفسِد عليَّ ديني وأمري، فأتيت أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه فقلت: أبا المنذر! إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر فخشِيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني به فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أُحُد ذهبًا أو مثل جبل أُحُد تنفقه في سبيل الله ما قُبِل منك حتى تؤمن بالقدر؛ فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن متَّ على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أُبَيٌّ، وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة.

فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قال، وقال: ائت زيد بن ثابت فاسأله.

فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أُحُد ذهبًا أو مثل جبل أُحُد تنفقه في سبيل الله ما قبِله منك حتى تؤمن بالقدر كله؛ فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار)

(1)

.

= باب، (4/ 29) ح (2155)، وصححه الألباني في الصحيحة تحت ح (2439).

(1)

رواه أبو داود: كتاب السنة، باب في القدر (5/ 51) ح (4699)، وابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، (1/ 100 - 101) ح (77)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (62).

ص: 38

إلى غير ذلك من الأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر، وأما الأحاديث في إثبات القدر عمومًا فكثيرة جدًا

(1)

، وكذا الآيات والأحاديث الخاصة بكل مرتبة من مراتب القدر، بل كل دليل على التوحيد فهو دليل على القَدَر؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد، ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبُه التوحيدَ

(2)

"

(3)

.

وذلك أن الإيمان بالقدر له مساسٌ بأقسام التوحيد الثلاثة

(4)

، فـ "من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه"

(5)

.

وأما الإجماع:

فقد حكاه غير واحد من أهل العلم؛ ومنهم:

- اللالكائي رحمه الله، فقد قال - بعد حكاية قصة عمر رضي الله عنه مع الجاثَليق

(6)

مستدلًّا بها على الإجماع وفي آخرها: "فتفرق الناس وما يختلف في

(1)

انظر: العواصم والقواصم (6/ 212) وما بعدها.

(2)

سيأتي تخريجه ص (41).

(3)

شفاء العليل (1/ 228)، وقد قال رحمه الله في تهذيب السنن (4/ 2136):"وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والرد على القدرية المجوسية؛ فإذا هي تقارب خمسمائة دليل".

(4)

انظر: القول المفيد (2/ 429).

(5)

طريق الهجرتين (1/ 179).

(6)

الجاثَلِيق: بفتح الثَّاء المثلَّثة؛ رئيس للنصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام، ويكون تحت =

ص: 39

القدر اثنان" - قال: "فإن كان في الدنيا إجماع بانتشار من غير إنكار فهو في هذه المسألة، فمن خالف قوله فيها فهو معاند مشاقق يلحق به الوعيد، وهو داخل تحت قوله:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] "

(1)

.

- النووي رحمه الله، قال:"وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى"

(2)

.

- وقال شيخ الإسلام: "أهل السنة متفقون على إثبات القدر وأن الله على كل شيء قدير"

(3)

.

- ابن حجر رحمه الله، قال:"ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى"

(4)

.

وأما آثار السلف في هذا فكثيرة أيضًا، ومنها:

- أثر علي رضي الله عنه قال: "إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير ظانّ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن

= يد بِطريق أنطاكية، ثم المَطران تحت يده، ثم الأَسْقُف يكون في كل بلد من تحت المَطران ثم القسِّيس ثم الشَّماس. القاموس المحيط (3/ 210 - 211).

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 725 - 726).

(2)

شرح صحيح مسلم (1/ 110).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 428).

(4)

فتح الباري (11/ 478).

ص: 40

ليصيبه، ويؤمن بالقدر كله"

(1)

.

- أثر ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لن يجد رجل طعم الإيمان - ووضع يده على فيه - حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث"

(2)

.

- أثر ابن عباس رضي الله عنهما قال: "القدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله عز وجل وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحَّد الله تعالى وكذب بالقدر نقضَ التوحيد"

(3)

.

- أثر الحسن رحمه الله قال: "من كفر بالقدر فقد كفر بالإسلام"

(4)

.

- أثر زيد بن أسلم رحمه الله قال: "القدر قدرة الله، فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله عز وجل"

(5)

.

- أثر مالك رحمه الله قال: "ما أضل من كذب بالقدر، لو لم يكن عليهم فيه حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] لكفى بها حجة"

(6)

.

والحاصل أن الإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان، دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف رضي الله عنهم.

(1)

رواه ابن بطة (2/ 58) رقم (1459)، واللالكائي (4/ 738) رقم (1214).

(2)

رواه عبد الرزاق (11/ 118) رقم (20081).

(3)

رواه الفريابي (143) رقم (205)، وعبد الله في السنة (2/ 422) رقم (925).

(4)

رواه الفريابي (188) رقم (295)، وعبد الله في السنة (2/ 425) رقم (934).

(5)

رواه الفريابي (144) رقم (207)، وابن بطة (2/ 222) رقم (1805).

(6)

رواه الفريابي (186) رقم (290)، وابن بطة (1/ 280) رقم (1302)، و (2/ 256) رقم (1858).

ص: 41

‌المبحث الثالث: ثمرات الإيمان بالقدر

للإيمان بالقدر ثمراتٌ جليلةٌ، تعود على المؤمن بأعظم المنافع، وأكبر المكاسب.

ويمكن تقسيمها إلى قسمين:

الأول: ثمرات أخروية؛ هي غاية مطلوب المؤمِن، وأسمى مقاصده.

الثاني: ثمرات دنيوية؛ هي من عاجل ثواب الله للمؤمن، وكلتاهما محف فضل الله ومنته سبحانه وتعالى.

أما الثمرات الأخروية: فهي الفوز برضا الله عز وجل، ودخول جنته، ولذَّة النَّظر إلى وجهه الكريم، وهذه ثمرة تتحصَّل - بإذن الله - من الإيمان بالأركان السِّتة مجتمعة؛ التي منها الإيمان بالقدر.

وأما الثمرات الدنيوية فكثيرة جدًا، ومنها:

1) تحقيق صحة الإيمان، لأن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة التي لا يتحقق إلا بها - كما تقدم -.

2) تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى والاجتهاد في طاعته، يدلُّ على ذلك:

ما رواه جابر رضي الله عنه أن سُرَاقة بن جُعشُم رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أخبرنا عن أمرنا كأنا ننظر إليه؛ أبما جرَت به الأقلام وثبتت به المقادير، أو بما

ص: 43

يستأنف؟ قال: (لا بل بما جرَت به الأقلام وثبَتَت به المقادير). قال: ففيمَ العمل إذًا؟ قال: (اعملوا فكل ميسر).

قال سُرَاقة رضي الله عنه: فلا أكون أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العمل مني الآن

(1)

.

بيان ذلك: أن المقدور إنما يُنال بالسَّبب الذي نصَبَه الله عز وجل ليوصَل به إليه، فإذا أتى العبد بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبَق له في أم الكتاب، وكلما زاد اجتهاده في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا يدل على جلالة فقه الصحابة، ودِقَّة أفهامهم، وصحَّة علومهم

(2)

.

وما رواه أبو نعامة السعدي قال: "كنا عند أبي عثمان النَّهدي، فحمدنا الله تعالى وذكرناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا منِّي بآخره، فقال: ثَبَّتَك الله! كنا عند سلمان فحمدنا الله تعالى وذكرناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره، قال سلمان: ثَبَّتَك الله تعالى، إن الله تعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج ما هو كائن إلى يوم القيامة، خلق الذكر والأنثى، والشقاوة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، فَمِن عَلَم السعادة فعلُ الخير ومجالسُ الخير، ومن عَلَم الشقاوة فعلُ الشر ومجالسُ الشر"

(3)

.

قال ابن القيم رحمه الله: "وذلك لأنه إذا كان قد سبَق له من الله سابقة وهيَّأه ويسَّره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظمَ من فرحه بالأسباب التي تأتي بها، فإنها سبَقت له من الله قبل الوسيلة منه وعلمها

(1)

رواه ابن حبان: كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها، (2/ 49) ح (337)، وأصله - بدون جملة سراقة الأخيرة - عند مسلم ح (2648).

(2)

انظر: شفاء العليل (1/ 119 - 120).

(3)

رواه الفريابي (60) رقم (51)، وابن بطة (2/ 169) رقم (1652).

ص: 44

الله وشاءها وكتبها وقدرها، وهيَّأ له أسبابها لتوصله إليها، فالأمر كله من فضله وَجوده السابق فسبَق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحًا بذلك من كون أمره مجعولًا إليه"

(1)

.

3) تحقيق التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضارِّ، إذ يوْقِن المؤمن بالقدر بأنه سبحانه وتعالى مقدِّر الأسباب والمسبَّبات.

4) تحقيق شكر الله عز وجل وعدم الإعجاب بالنفس عند حصول المطلوب، لأنه إنما حصل بتوفيق الله سبحانه وتعالى وفضله بما يسَّره ووفَّق له من أسباب ذلك المراد، كما قال عز وجل عن أهل الجنة:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، أي: الحمد لله الذي وفَّقنا للعمل الذي أَكسَبَنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه عنَّا، وما كنا لنرشُد لذلك لولا أن أرشَدَنا الله له ووفَّقنا بمنِّه وطَوْله

(2)

.

5) دوام انشراح الصدر وطمأنينة القلب في كل حال يكون عليها المرء، سرَّاءَ كانت أم ضراء، فالمؤمن بالقدر في السَّراء شاكر، وفي الضراء صابر، كما بَيَّن ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:(عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأَحَد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبَر فكان خيرًا له)

(3)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 121).

(2)

انظر: تفسير الطبري (10/ 200).

(3)

رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، (4/ 2295)، ح (2999). عن صهيب رضي الله عنه.

ص: 45

6) تسلية النفس وعدم القلق والضَّجر عند فوات المراد أو وقوع المكروه، لأن ذلك إنما كان بقضاء الله وقدره

(1)

، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال علقمة رحمه الله:"هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسَلِّم"

(2)

.

إلى غير ذلك من الثمرات النافعة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، إنه خير مسؤول.

(1)

انظر: الإبانة (2/ 250).

(2)

رواه البيهقي: كتاب الجنائز، باب الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله تعالى به من الصبر والاسترجاع (4/ 66).

ص: 46

‌المبحث الرابع: ما ورد في النهي عن الخوض في القدر وتوجيهه

جاء النهي عن الخوض في القدر في عدة أحاديث مرفوعة، منها:

- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقِئ في وجنتيه الرُّمَّان، فقال:(أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه)

(1)

.

- حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حبُّ الرُّمَّان من الغضب، فقال:(بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض! بهذا هلكت الأمم قبلكم) قال فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ما غَبَطْت نفسي بمجلس تخلَّفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غَبَطْت نفسي بذلك المجلس وتخلُّفي عنه

(2)

.

- حديث ثَوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذُكِر أصحابي

(1)

رواه الترمذي: أبواب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر (4/ 11) ح (2133)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح (2133).

(2)

رواه ابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، (1/ 107) ح (85)، وقال الألباني:"حسن صحيح": صحيح ابن ماجه ح (69).

ص: 47

فأمسكوا، وإذا ذُكِرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذُكِر القدَر فأمسكوا)

(1)

.

- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر هذه الأمة موائمًا أو مقاربًا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر)

(2)

.

- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُخِّر الكلام في القدر لشرار هذه الأمة)

(3)

.

فهذه الأحاديث وما جاء في معناها يُفهم من ظاهرها النهي عن الكلام في القدر، وهذا مشكلٌ لأمور:

الأول: أن القدر باب من أبواب العلم الشرعي الذي تُطلب المعرفة به وجوبًا أو استحبابًا، بل هو من أجلِّ أبوابه، فكيف يُنهى عن تعلُّمه؟

الثاني: أنه قد جاء في كثير من النصوص بيان كثير من مسائل القدر، تارة تقريرًا للمعتقد الحق، وأخرى ردًا على المخالفين.

الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القدر، وخاضوا في معرفته وفي وجوب الإيمان به، فلم يزجرهم عن ذلك القدر، ولم

(1)

رواه الطبراني (2/ 96) ح (1427)، ورواه بلفظه أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (10/ 243) ح (10448)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (34).

(2)

رواه ابن حبان: كتاب التاريخ، باب إخباره صلى الله عليه وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث (15/ 118) ح (6724)، والحاكم (1/ 33)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (1515).

(3)

رواه الحاكم (2/ 473)، وابن أبي عاصم (1/ 251) ح (359)، وحسنه الألباني في الصحيحة ح (1124).

ص: 48

يترك الجواب عليهم بالقدر الواجب على بيان ذلك

(1)

.

الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أفهم الناس لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّنوا هذا الباب للتابعين وأزالوا عنهم الشُّبَه فيه، كما تقدم في قصة ابن الديلمي

(2)

.

الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر في نصوص كثيرة بافتراق أمته، بل رويت عنه صلى الله عليه وسلم نصوص خاصة في خروج من يكذِّب بالقدر وذمِّهم والتحذير منهم

(3)

، وهذا يقتضي البحث في مسائل القدر لأن الرد عليهم واجب، ولا يتم إلا بذلك.

لذا؛ فقد وجَّه أهل العلم ما ورد في الأحاديث السابقة من نهي بعدة توجيهات:

الأول: أن النهي محمول على الكلام في القدر بغير علم؛ بل بالظنون والتخرُّصات، وهذا - عدا كونه مفضيًا إلى التنازع والضلال - أمر محرم كما لا يخفى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذ الخوض في ذلك [أي: القدر ومجامعته للشرع] بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر: العواصم والقواصم (6/ 176).

(2)

انظر ص (38).

(3)

عقد الأئمة أبوابًا خاصة لما ورد من الأحاديث في ذم المكذبين بالقدر، انظر: السنة لابن أبي عاصم (1/ 229 - 247) ح (330 - 354)، والشريعة (2/ 801 - 814) ح (381 - 395)، الإبانة (2/ 95 - 123) ح (1509 - 1554).

ص: 49

أصحابه عن التنازع فيه"

(1)

.

وقال رحمه الله: "وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بيَّنه الله ورسوله مأمور به، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه، وأما الكلام بلا علم فيذم، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم، وقد تكلم بما يظنه علمًا إما برأي رآه، وإما بنقل بلغه ويكون كلامًا بلا علم"

(2)

.

الثاني: أن النهي محمول على ضرب النصوص بعضها ببعض، ومعارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق.

ويشهد لهذا: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم، وفي لفظ آخر: أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج كأنما فُقئ في وجهه حب الرمان، فقال:"بهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ها هنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا"

(3)

(4)

.

الثالث: أن النهي محمول على التنازع المفضي إلى التفرق والفتنة، ويشهد لهذا

(1)

مجموع الفتاوى (18/ 137).

(2)

درء التعارض (8/ 408).

(3)

رواه بهذا اللفظ: أحمد (11/ 434) ح (6845 و 6846)، وابن أبي عاصم (1/ 289) ح (415).

(4)

انظر: درء التعارض (8/ 404).

ص: 50

حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد كرِه النبي صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق؛ فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان. . ."

(2)

.

الرابع: أن النهي محمول في طائفة من تلك الأحاديث على مجاراة المبتدعة في القدر، والكلام فيه على أصولهم، على وجه يؤدي إلى إثارة الشر والشك، كأن يقال: كيف خلق الله المعاصي ونهى عنها وعذَّب عليها؟

ويشهد لذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم: (أُخِّر الكلام في القدر لشرار هذه الأمة)

(3)

(4)

.

الخامس: أن النهي محمول على التألِّي على الله عز وجل والتكلف في تعيين قدره بغير وحي منه، كأن يقال: يغفر الله لفلان ولا يغفر لفلان، ويرزق الله فلانًا ولا يرزق فلانًا، ونحو ذلك

(5)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب كراهية الخلاف (9/ 111) ح (7365)، ومسلم: كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الخلاف (4/ 2053) ح (2667).

(2)

مجموع الفتاوى (24/ 171).

(3)

انظر ص (48).

(4)

انظر: العواصم والقواصم (6/ 176 و 178)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 142)، وأقاويل الثقات (212)، وإكمال المعلم (8/ 135).

(5)

انظر: حز الغلاصم (1/ 121 - 122).

ص: 51

السادس: أن النهي محمول على تكلُّف البحث عما طوى الله عنا علمه ولم يخاطبنا به

(1)

، كتكلُّف البحث في تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وكونه أحيا وأمات، وأضل وهدى، ونحو ذلك، قال شيخ الإسلام في تائيته

(2)

:

وأصل ضلال الخلق من كل فرقة

هو الخوض في فعل الإله بعلةِ

فإنهمُ لم يفهموا حكمة له

فصاروا على نوع من الجاهليةِ

ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟)

(3)

.

السابع: أن النهي محمول على من ليس من أهل العلم بهذا الشأن، فلا يؤمن على من هذا حاله أن ينحرف إذا خاض فيه

(4)

.

والذي يظهر - والله أعلم - أنه لا تنافيَ بين هذه الأقوال، ولا مانع من حمل النهي عليها جميعًا.

وأما الخوض في القدر بحق على جهة التعلم والتعرُّف لما جاءت به الشريعة، ثم الإيمان به بعد معرفته على الوجه المشروع؛ فإن هذا لم ينهَ عنه الشرع

(5)

؛ بل هو مطلوب مأمور به؛ لأن ما يبحثه أهل العلم - من أهل السنة والجماعة - في هذا الباب مستفاد من نصوص الكتاب والسنة؛ وعليه فالبحث فيه هو من جملة تدبر النصوص والتَّفقُّه فيها؛ ولا ينازع أحد في مشروعية ذلك.

(1)

انظر: العواصم والقواصم (6/ 178).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 246).

(3)

تقدم هذا اللفظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ص (47)، وتقدم نحوه من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا ص (47) و (50).

(4)

انظر: إكمال المعلم (8/ 135).

(5)

انظر: العواصم والقواصم (6/ 176).

ص: 52

قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال سبحانه:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68].

وكذا تعلمه ردًا على المخالفين ودفعًا لشبهاتهم.

ويؤيد ما سبق - مع ما تقدم إيراده على ما يُفهم من ظاهر أحاديث النهي -:

- أثر ابن عباس رضي الله عنهما في خروج عمر رضي الله عنه إلى الشام؛ وفيه: "فنادى عمر في الناس: إني مُصَبِّح على ظهر فأصبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدَر الله؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفِرُّ من قدَر الله إلى قدَر الله. أرأيت لو كانت لك إبِل هبطت واديًا له عُدْوَتان؛ إحداهما خَصِبة، والأخرى جَدْبة أليس إن رعيت الخَصِبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجَدْبة رعيتها بقدر الله؟ "

(1)

.

فأنكر أبو عبيدة على عمر رضي الله عنهما إرادته الانصراف رغبة في نجاته ومن معه من المسلمين محتجًّا عليه بأن الوباء لا يصيب إلا من قدَّر الله عز وجل أن يصيبه، وأنه لا ينجو منه من قدَّر له أن لا يصيبه، وأجاب عمر رضي الله عنه بأن انصرافه ليس هروبًا مما قد قُدِّر عليه، وإنما رجوعًا عما يخاف أن يكون قد قُدِّر عليه من الوباء إن وصل، إلى ما يرجو أن يكون قد قُدِّر له من السلامة إن رجع

(2)

.

فهذه المناظرة بينهما في القدر والأسباب دليل على جواز ذلك، ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله: "وفيه دليل على إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في

(1)

رواه البخاري: كتاب الطب، باب ما يُذكر في الطاعون (7/ 130) ح (7529)، ومسلم: كتاب الطب، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (4/ 1740) ح (2219).

(2)

انظر: المنتقى شرح موطأ مالك (9/ 262).

ص: 53

النوازل والأحكام، ألا ترى إلى قول أبي عبيدة لعمر رحمهما الله تعالى: تفر من قدر الله؟ فقال: نعم أفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، ثم قال له: أرأيت، فقايسه وناظره بما يشبه في مسألته"

(1)

.

- ويدل عليه كذلك: ما رواه مسلم عن أبي الأسود الدِّئَلي قال: "قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم، قال فقال: أفلا يكون ظلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا وقلت كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي: يرحمك الله! إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزُر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم". . . الحديث

(2)

.

ففي هذا الحديث يناظر عمران رضي الله عنه أبا الأسود رحمه الله في هذا الباب ليعلمه، وليمتحن عقله وفهمه.

قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه جواز كلام أهل العلم في هذا الباب، وتحاججهم ومناظرتهم لإظهار الحجج، لا للجدل، والمراد المغالبة

(3)

"

(4)

.

(1)

التمهيد (8/ 368).

(2)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2041) ح (2650).

(3)

كذا في المطبوع، ولعل الصواب:"ومراد المغالبة".

(4)

إكمال المعلم (8/ 135).

ص: 54

- ويدل عليه كذلك: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتج آدم وموسى؛ فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى)

(1)

.

قال ابن عبد البر رحمه الله: "في هذا الحديث من الفقه إثبات الحِجاج والمناظرة، وإباحة ذلك إذا كان طلبًا للحق وظهوره"

(2)

.

ومع ذلك فلا بد للباحث في هذا الباب من تقديم النية الحسنة واستحضار الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن يكون القصد من البحث الوصول إلى الحق، مع التمسك الشَّديد بأصول أهل السنة والجماعة في الاستدلال، والحذر من القول على الله بغير علم.

وهذا وإن كان مطلوبًا من الباحث في كل ما يدرسه من مسائل الاعتقاد إلا أنه في هذا الباب أشد تأكدًا.

ومن نفيس كلام ابن الوزير رحمه الله قولُه - بعد أن تعرض لهذه المسألة ووجَّه ما ورد فيها من النهي -: "ولا خفاء على العاقل أن الخوض في هذه اللُّجَّة التي هابها فضلاء العقلاء لا يكون إلا مصحوبًا بحسن النية، وشدة الرغبة إلى الله في الهداية، والتوقف على القول بغير دراية، والفكر الطويل،

(1)

رواه البخاري: كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله (8/ 126) ح (6614)، ومسلم: كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام (4/ 2042) ح (2652).

(2)

التمهيد (18/ 14)، وانظر: العواصم والقواصم (6/ 176).

ص: 55

وتحري الإنصاف، والجمع بين أطراف الكلام التي يظهر تنافيها وتطَلُّب المحامل الحسنة، وعدم المؤاخذة بظاهر العبارة متى دلت القرينة على صحة المراد فيها، فإنها مسألة صعبة تقصر فيها العبارات الطويلة، فكيف بالإشارات الخفيَّة"

(1)

.

وبهذا يتبين أن ما جاء في النصوص من النهي عن الخوض في القدر ليس على إطلاقه، وإنما هو محمول على أحوال وأوصاف خاصة، والله أعلم.

(1)

العواصم والقواصم (6/ 182).

ص: 56

‌الفصل الأول: القواعد العامة المتعلقة بالقدر

وتحته تسعة مباحث:

المبحث الأول: "القدر سِرّ حجبه الله عن خلقه، فلا يُتَعَمَّق فيه".

المبحث الثاني: "الكلام في القدر نفيًا وإثباتًا موقوف على الخبر عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم".

المبحث الثالث: "الإيمان بالقدر متوقف على إثبات العلم لله والكتابة والمشيئة والخلق".

المبحث الرابع: "علم الله سبحانه شامل لكل شيء".

المبحث الخامس: "علم الظهور لا ينافي علم الله السابق".

المبحث السادس: "من العلم ما هو سبب في وجود المعلوم، ومنه ما ليس كذلك".

المبحث السابع: "ما كتب في اللوح المحفوظ ثابت لا يتغير وما كتب في صحف الملائكة يقع فيه المحو والإثبات".

المبحث الثامن: "ما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة وكذلك العكس، وما لا فلا".

المبحث التاسع: "الفطرة لا تنافي تقدير الشقاوة والضلال".

ص: 57

‌المبحث الأول: "القدر سِرّ حجبه الله عن خلقه، فلا يُتَعَمَّق فيه"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 59

المبحث الأول: "القدر سِرٌّ حجبه الله عن خلقه، فلا يُتَعَمَّق فيه"

مضى في المبحث السابق - آخر مباحث التمهيد - إشارة إلى بعض ما يتعلق بهذه القاعدة كوجه من الوجوه التي يحمل عليها ما ورد في النهي عن الخوض في القدر

(1)

، وفي هذا المبحث أتعرض لدراسة هذا الأمر بصفته قاعدة مستقلةً من القواعد في باب القدر.

وكان البدء بهذه القاعدة المهمة والتي تليها لأنه لا بد للباحث من استصحابهما معه في دراسته لكل مسائل القدر.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

جاءت هذه القاعدة مقرَّرة في كلام السلف بنحو هذه الألفاظ.

فعن علي رضي الله عنه أنه قال لمن سأله عن القدر: "سِرّ الله فلا تكَلَّفه"

(2)

.

وعن طاووس رحمه الله أنه قال لرجل: "إن القدر سِرّ الله فلا تدخلن فيه"

(3)

.

(1)

انظر ص (47) وما بعدها.

(2)

رواه الآجري (2/ 844) رقم (422)، وابن بطة (2/ 140) رقم (1583)، واللالكائي (4/ 695) رقم (1122).

(3)

رواه الآجري (2/ 940) رقم (535)، وابن بطة (2/ 313) رقم (1993).

ص: 61

بل قد رُوِي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرُوي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:(لا تكلَّموا بشيء من القدر فإنه سِرّ الله، فلا تفشو سِرّ الله)، ولكنه ضعيف

(1)

.

ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه:(لا تُفشوا في الكلام - يعني القدر - فإنه سِرّ الله)، وهو ضعيف أيضًا

(2)

.

ومن حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه:(القدر سِرّ الله، من تكلم به يسأله عنه يوم القيامة ومن لم يتكلم به لم يسأل عنه)، وهو ضعيف كذلك

(3)

.

وهذا المعنى - وهو كون القدر سِرّ الله فلا يُتَعمَّق فيه - معنى صحيح، تتابع أهل العلم عليه سواء بهذا اللفظ أو بما يقاربه من المعاني.

قال عليُّ بن المدِيني رحمه الله

(4)

: "والكلام في القدر وغيره من السنة

(1)

رواه اللالكائي (4/ 695) رقم (1122)، وأبو نعيم (6/ 182)، وضعفه العراقي في المغني (2/ 1125) ح (4072)، لكنه عزاه لابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عنده من حديث عائشة رضي الله عنها، انظر الكامل (7/ 191)، وضعفه كذلك الألباني في ضعيف الجامع ح (4131).

(2)

رواه الخطيب في تاريخ بغداد (3/ 675 - 676) وحكم عليه بالوضع؛ قال بعد سياقه له ولحديث آخر من طريق محمد بن عبد بن عامر التميمي: "وهذان الحديثان لا أصل لهما عند ذوي المعرفة بالنقل - فيما نعلمه - وقد وضعهما محمد بن عبد إسنادًا ومتنًا".

(3)

رواه ابن عدي في الكامل (7/ 191)، وضعفه العراقي في المغني (2/ 1125) ح (4072) - كما تقدم - وانظر: فيض القدير (4/ 534).

(4)

هو: الشيخ الإمام الحجة، أمير المؤمنين في الحديث، أبو الحسن، علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح بن بكر بن سعد السعدي، مولاهم البصري، المعروف بابن المديني، مولى عروة بن عطية السعدي، أحد أئمة الحديث فِي عصره، والمقدم على حُفَّاظ وقته، =

ص: 62

مكروه، ولا يكون صاحبه - وإن أصاب السنة بكلامه - من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم ويؤمن بالإيمان"

(1)

.

وقال الطحاوي رحمه الله: "وأصل القدر سِرّ الله تعالى في خلقه، لم يَطَّلع على ذلك ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك، نظرًا وفكرًا ووسوسةً، فإن الله تعالى طوَى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال الله تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب؛ كان من الكافرين"

(2)

.

وقال البربهاري رحمه الله: "والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق لأن القدر سِرّ الله"

(3)

.

وقال الآجري رحمه الله: "لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث عن القدر؛ لأن القدر سر من سر الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به"

(4)

.

وقال أبو المظَفَّر السَّمعاني رحمه الله: "القدر سِرّ من سِرّ الله وعلم من

= ولد بالبصرة سنة (161 هـ)، وتوفي بسر من رأى سنة (234 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (13/ 421)، وسير أعلام النبلاء (11/ 41).

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (186).

(2)

العقيدة الطحاوية مع الشرح (1/ 320).

(3)

شرح السنة له (80).

(4)

الشريعة (2/ 697 - 698).

ص: 63

علمه، ضربت دونه الأستار، وكُفَّت عليه الأزرار، واختص الله به علام الغيوب"

(1)

.

وقال البغوي رحمه الله: "والقدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يُعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلًا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلًا"

(2)

.

فهؤلاء الأئمة أطلقوا هذه الكلمة أصلًا كُلِّيًا في باب القدر، مُنَزَّلًا منزلة الدليل على وجوب ترك الخوض فيه - على ما سبق توجيهه -

(3)

والله أعلم.

(1)

انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 30)، وأبو المظفر هو: الإمام العلامة، مفتي خراسان، شيخ الشافعية، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي السمعاني المروزي الحنفي ثم الشافعي، ولد سنة (426 هـ)، كان شوكًا في أعين المخالفين، وحجة لأهل السنة، من كتبه:"الانتصار لأصحاب الحديث"، و"المنهاج لأهل السنة" مات سنة (489 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 114)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 335).

(2)

شرح السنة له (1/ 144).

(3)

انظر: ما تقدم ص (49) وما بعدها.

ص: 64

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

يمكن تقسيم الأدلة على هذه القاعدة إلى قسمين: عامة وخاصة.

أما الخاصة: فقد سبق في المبحث الرابع من التمهيد سياق ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة والكلام عليها بما أغنى عن إعادته هنا

(1)

.

وأما العامة: فهي الآيات والأحاديث الواردة في النهي عن الخوض فيما لا علم للإنسان به، ومن ذلك، قوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. . . ويدخل فيه كل قول بلا علم، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم"

(2)

.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

قال السعدي رحمه الله: "في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها الله، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتَّجَرِّي على الله، والاستطالة على عباد الله، وتغيير دين الله وشرعه"

(3)

.

(1)

انظر ما تقدم ص (47 - 48).

(2)

أضواء البيان (3/ 682).

(3)

تفسير السعدي (2/ 543).

ص: 65

وأولى ما يدخل في ذلك الكلام في أصول الدين عمومًا بغير علم، وفي القدر على وجه الخصوص لارتباطه الوثيق بأقسام التوحيد الثلاثة، وللنهي الوارد فيه على وجه الخصوص.

ص: 66

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

هذه القاعدة تقرر أصلًا مهمًّا وهو النهيُ عن التكلف والتعمق في باب القدر، وتركُ إعمال العقل فيه بمعزل عن نصوص الشرع.

وتضمنت أيضًا التنبيه على أن الطمع مقطوع عن إدراك حقيقته، لأن الله أخفاها عنا، فلا سبيل لنا لمعرفتها وقد أخفاها الله عز وجل.

ومعنى كون القدر سِرّ الله: أي الجانب الخفي منه هو السِّر لا كله، إذ القدر له جانبان:

الجانب الأول: جانب ظاهر أمرنا بتعلمه ومعرفته، وهو ما خوطبنا به في الشرع إيمانًا به؛ علمًا وعملًا، وهو أن نعلم ونؤمن أن الأمور كلها بتقدير الله سبحانه وتعالى وأن الله سبحانه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، وأنه عز وجل خالق كل شيء وربه ومليكه.

ونعلم كذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذه الأصول؛ كأن نعلم أن الخير والشر من الله، وأن الطاعة والمعصية بقضاء الله وقدره وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا علمهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ووفقهم لأعمال صالحة رضيها؛ أمرهم بها فوفَّقهم لها وأعانهم عليها وشكرهم بها وأثابهم الجنة عليها، تفضُّلًا منه ورحمة، وخلق النار وخلق لها أهلًا، أحصاهم عددًا، وعلم ما يكون منهم، وقدَّر عليهم ما كرهه لهم، خذلهم بها وعذبهم لأجلها، غير ظالم لهم ولا هم معذورون فيما حكم عليهم به.

ص: 67

فكل هذا وأشباهه من علم القدر الذي لزم الخلق علمه والإيمان به، والتسليم لأمر الله وحكمه وقضائه وقدره، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

الجانب الثاني: جانب خَفِيٌّ أمرنا بالإيمان به والتسليم لله فيه، وعدم الخوض فيه نظرًا وفكرًا ووسوسةً.

فهذا الجانب مما اختص به سبحانه ولم يطلع عليه أحدًا، لا ملَكًا مقرَّبًا ولا نبيًا مرسَلًا

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا قال بعض علماء السلف: (إن الله علم علمًا علَّمه العباد، وعلم علمًا لم يعلِّمه العباد، وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد)

(2)

، ورووا في قصة سؤال موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن سِرّ القدر، وأنه لو أراد أن يُطاع لأطيع، وقد أمر أن يطاع وهو مع ذلك يُعصى.

ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعا لأنك قادر عليه، فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه، فهلا كان المحبوب المطلوب قد أُريد وقوعه، فأوحى الله تعالى إليهم: أن هذا سِرّي فلا تسألوني عن سِرّي، وأن المسيح قال للحواريين: القدر سِرّ الله فلا تكلَّفوه

(3)

"

(4)

.

(1)

انظر: الإبانة (1/ 246 - 247).

(2)

رواه بنحوه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 945) رقم (1804) بسنده عن رجل من فقهاء أهل المدينة.

(3)

رواه الطبراني (10/ 317 - 318) ح (10606)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(4)

بيان تلبيس الجهمية (2/ 7 - 8).

ص: 68

والخوض في كُنْه حقيقته خوض في كُنْه حقيقة صفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن مبناه على صفات الله: العلم والمشيئة والخلق والحكمة وغيرها.

فإذا لم يمكنا الاطلاع على علم الله سبحانه وتعالى ومشيئته وخلقه وحكمته فكيف يمكننا الاطلاع على القدر؟

قال علي بن المديني رحمه الله: "وقال لي عبد الرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء، ثم عرضت كلام عبد الرحمن هذا على يحيى بن سعيد فقال: لم يبقَ بعد هذا قليل ولا كثير"

(1)

.

وهذا كلام متين جدًا، يظهر فيه ما اختص الله سبحانه وتعالى به السلف من مزيد الفهم وعمق العلم وكثرة البركة في الكلام، فهذه الثلاثة من باب واحد، فإذا امتنع العلم بعلم الله وكتابته امتنع العلم بالقدر، لأن القدر مبناه عليهما - مع صفات أُخَر -.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلامه السابق -: "والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كُنْه الغاية المقصودة بالأفعال، كما تعجز عن كُنْه إدراك حقيقة الفاعل"

(2)

.

والبحث في هذا الجانب هو البحث في تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى على التفصيل، أي تكلف البحث عن العلة فيما يقدره الله سبحانه وتعالى، وكونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيى، وأضل وهدى

(3)

، ونحو ذلك.

(1)

التمهيد (6/ 67).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (2/ 8).

(3)

انظر: شرح الطحاوية (1/ 320).

ص: 69

ويدخل تحت هذا: الخوض في مسائل القدر الأخرى، كمسألة خلق الأفعال، والإرادة، والتحسين والتقبيح ونحوها، ومن هنا يعلم أن سائر المخالفين لأهل السنة في القدر خائضون في القدر الخوض المنهي عنه.

ولهذا الخوض صور، منها:

أولًا: ضرب النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض، وتفسيرها بمعزل عن النصوص الأخرى المفسرة لها، وعن فهم السلف، والأصول الثابتة المقررة عند أهل العلم، فيأتي الخائض فينتزع آية من كتاب الله أو جملة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم بدون النظر فيما يفسرها من سياق أو نص آخر ونحو ذلك، ثم يصادم بها أصلًا شرعيًّا، أو معنى صحيحًا.

ثانيًا: إعمال الأقيسة العقلية الفاسدة في فهم هذا الباب، وتقديمها على النصوص وفهم السلف، كمنطق اليونان.

وإنما الواجب في هذا الباب وغيره: الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح رحمهم الله، كما قال السمعاني رحمه الله:"سبيل معرفة هذا الباب: التوقيف من قبل الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد المعقول، فمن عدل عن التوقيف في هذا الباب؛ ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا وصل إلى ما يطمئن به القلب"

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى. ويقع التجادل في ذلك. . .

(1)

انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 30).

ص: 70

ومنها الخوض في القدر إثباتًا ونفيًا بالأقيسة العقلية: كقول القدرية لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالمًا، وقول من خالفهم إن اللهَ جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك"

(1)

.

ومعنى التعمُّق: التنطُّع والتكلُّف، والمُتَعَمِّق: المُبالِغ في الأمر المتشَدِّد فيه، الذي يطلب أقصى غايته

(2)

.

والتعمق في هذا الجانب والخوض فيه كان السبب في ضلال من ضل في هذا الباب وانحرافه، قال شيخ الإسلام رحمه الله في تائيته في القدر

(3)

:

وأصل ضلال الخلق من كل فرقة

هو الخوض في فعل الإله بعلةِ

فإنهمُ لم يفهموا حكمة له

فصاروا على نوع من الجاهليةِ

فأصل ضلال الفرق جميعها هو طلبهم للعلة في أفعال الله سبحانه؛ لِمَ خلق كذا، ولِمَ يخلق كذا؟ ولمَ أفقر فلانًا، وأغنى فلانًا؟ ونحو ذلك.

وقال الزهري رحمه الله: "القدر رياض الزندقة؛ فمن دخل فيه هَمْلَج

(4)

"

(5)

.

والخوض في القدر - مع كونه منهيًّا عنه - لا يُجدي على صاحبه شيئًا، بل لا يزيده إلا ضلالًا وتحيُّرًا وتهوُّكًا.

(1)

فضل علم السلف على الخلف (16 - 17).

(2)

انظر: النهاية (3/ 299)، تاج العروس (1/ 117).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 246).

(4)

الهَمْلَجَة: حُسْن السير في سرعَة وبَخْتَرَة، انظر: تهذيب اللغة (6/ 514)، ولسان العرب (3/ 217)، مادة:(هَمْلَج).

(5)

رواه اللالكائي (4/ 784).

ص: 71

قال ابن بطة رحمه الله: "والناظر فيه [أي الجانب الخفي] كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد فيه نظرًا ازداد فيه تحيُّرًا، ومن العلم بكيفيتها بُعدًا"

(1)

.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: "والقدر سِرّ الله، لا يُدرك بجدال، ولا يشفى منه مقال، والحِجَاج فيه مُرتَجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسرِ شيء وغَلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار، بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] "

(2)

.

وهو كذلك سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى وجرأة عليه، إذ كيف يليق بالمخلوق الضعيف القاصر في علمه وحكمته أن يتطَلَّب ما اختص به الرب الكامل في ذاته وصفاته؟!

وهو كذلك انشغال عن المأمور به إلى أمر نُهي عنه.

قال المناوي رحمه الله: "وطلب سِرّ الله تعالى منهي عنه، لما فيه من سوء الأَرَب وعدم الأدب، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سِرّ ما لا يجوز سِرّه"

(3)

.

ثم ليُعلم أن جَعْل الله سبحانه هذا الجانب سرًّا هو رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده ولطف بهم، ليستقيم لهم التكليف، ولئلَّا يفتتنوا ويفتروا عن العمل، ويتكلوا على مصير الأمر في العاقبة؛ فيكونوا بين أمن أو قنوط، فرحمهم الله،

(1)

الإبانة (1/ 247).

(2)

التمهيد (6/ 13 - 14)، وانظر:(3/ 139 - 140) منه.

(3)

فيض القدير (4/ 534).

ص: 72

وعلَّقهم بين الخوف والرجاء ليمتحنهم، وليميز خبيثهم من طيبهم، ولله الحجة البالغة

(1)

.

ولهذا قال بعض أهل العلم: سِرّ الله ينكشف للخلائق إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها

(2)

.

والحاصل أن للقدر جانبًا خفيًّا اختص الله بعلمه، فلا يجوز لنا البحث عنه ولا الخوض فيه، وهذا هو محل القاعدة وموضوعها، والله أعلم.

(1)

انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 31)، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 200).

(2)

انظر: فتح الباري (11/ 477).

ص: 73

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

هذه القاعدة - كما تقدم - أصل عظيم من الأصول التي يجب القيام بها حتى يستقيم الاعتقاد الحق في باب القدر، وهذه القاعدة مبناها على مسألة الحكمة؛ إذ الخوض في القدر هو البحث في تعليل أفعال الله، فمن أثبت الحكمة وآزر هذا الإثبات بالعمل بمقتضى هذه القاعدة نجا وأفلح، ومن خاض في القدر فقد ركب المحظور، فإذا انضم إلى ذلك نفي الحكمة والتعليل فهي الحالقة.

ولم يجتمع هذان الأصلان إلا لأهل السنة والجماعة بخاصة، وأما سواهم فهم مخالفون فيهما بين مستقل ومستكثر.

ولما كانت مخالفتهم جميعًا من نفس الباب، وهو الخوض في القدر؛ فسأعرض وجه مخالفة كل طائفة، ثم أتبع ذلك برد عام عليهم.

فقد خاض الأَشَاعرة

(1)

في القدر، وتشعبت بهم الطرق في باب الحكمة والتعليل، وخلصوا إلى إنكار حكمة الله سبحانه، وأنه تعالى يفعل لمحض

(1)

الأشاعرة هم: فرقة من فرق أهل الكلام، تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري في طوره الثاني لما انتحل قول ابن كلاب، من أشهر عقائدهم: نفي الصفات إلا صفات سبع، فهم معطلة جهمية، والقول بالإرجاء، والقول بالجبر، وهم في جملة مقالاتهم يتذبذبون بين المعتزلة وأهل السنة، وهم أقرب فرق الضلال إلى أهل السنة وليسو منهم، تطور المذهب الأشعري بعد أبي الحسن وانحرف عن جادة الصواب أكثر، ومن روَّاد هذا الانحراف: الجويني والرازي، فأُدخل عليه أشياء محدَثة، كتقديم العقل على النقل، ومذهب الأشاعرة متذبذب مضطرب.

انظر جملة من عقائدهم في: الملل والنحل (1/ 106)، وانظر بحثًا عن نشأتهم وعقيدتهم في: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 437) وما بعدها.

ص: 74

المشيئة وصرف الإرادة، وأنكروا الأسباب، وبناءً على هذا أنكروا ثبوت صفات في الأفعال بها تحسُن وتقبُح، وجوزوا أن يأمر الله سبحانه وتعالى بالكفر والشرك والفسوق وأنواع المخالفات، وأن ينهى عن الإيمان والتوحيد وصنوف الطاعات، وهذا مبني عندهم أيضًا على إنكار ما دلت عليه النصوص من انقسام الإرادة إلى كونية وشرعية

(1)

.

وخاض المعْتَزلة

(2)

ومن وافقهم في القدر بالباطل، وكان من ثمار هذا الخوض أن أنكروا أن تكون لله سبحانه حكم يرجع إليه منها وصف ويشتق له منها اسم، بل لم يثبتوا إلا حكمة مخلوقة منفصلة عنه سبحانه، وقالوا باستحقاق المكلفين للثواب والمدح على فعل ما حسن في العقل، واستحقاقهم للذم والعقاب على فعل ما قبح في العقل ولو لم يرد بذلك نص.

ثم وقعوا نتيجة خوضهم هذا فيما هو أشد، إذ قاسوا الله سبحانه بخلقه، فأوجبوا اللطف والصلاح والأصلح ونحو ذلك، فاجتمع فيهم نوعان من الخوض المحرم:

- الخوض في أفعال الله سبحانه في التعليل.

(1)

سيأتي الكلام على هذه المسائل في مواضعها من البحث بعون الله.

(2)

هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، من عقائدهم: القول بالقدر، ونفي الصفات والقول بأن أسماء الله أعلام محضة، والقول بخلق القرآن، والقول بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، والقول بتخليد عصاة الموحدين في النار، والقول بالخروج على الأئمة، مُضَمَّنة تحت أصول خمسة هي: العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم فرق كثيرة. انظر: التنبيه والرد (36)، ومقالات الإسلاميين (1/ 235)، والفرق بين الفرق (104).

ص: 75

- قياس أفعال الله سبحانه على أفعال خلقه، فيحسن منه ما يحسن منهم، ويقبح منه ما يقبح منهم، فالمعتزلة مشبهة في الأفعال جهمية في الصفات

(1)

.

وهذا النوع الثاني وقع فيه الأشاعرة أيضًا، فإنهم ما جوزوا أمر الله بالقبيح ونهيه عن الحسن إلا لما انقدحت في أنفسهم مقالة المعتزلة، فأخذت من نفوسهم مأخذًا، فهرعوا إلى إنكارها، على طريقتهم في مقابلة المعتزلة بالضد، فهما طرفا نقيض في هذا الباب.

وخاض الصُّوْفية

(2)

هذا الخوض المحرم، وكان من ثمراته عليهم أن أخذوا من معين الأشاعرة نفسه، وهو معين الجَهْم بن صَفْوان

(3)

الذي غلا في

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 125)، وحادي الأرواح (1/ 24)، وسيأتي الكلام على هذه المسائل في مواضعها من البحث بإذن الله.

(2)

الصوفية: نسبة إلى الصوف، وهي الآن فرقة من الفرق المخالفة لطريقة السلف، من أبرز وجوه هذه المخالفة: جعلهم توحيد الربوبية غاية السالكين، مع قولهم إن الأولياء يملكون تصرفًا في الكون، والغلو في المشايخ، وتقديس القبور والأضرحة، والدعاء والاستغاثة بغير الله، وتجويزهم رؤية الله سبحانه في الدنيا، ورفعهم الأولياء فوق الأنبياء، وفريق منهم قال بالقدر، ولم يسلم أحد منهم من مخالفة في القدر، وهم فرق؛ وهم دركات؛ فمنهم القريب إلى أهل السنة ومنهم الغلاة كابن سبعين وابن عربي.

انظر نشأتهم وأطوارهم وحكاية عقائدهم في: موقف ابن تيمية من الصوفية، لمحمد العريفي (1/ 215) وما بعدها.

(3)

هو: أبو محرز، الجهم بن صفوان الراسبي مولاهم السمرقندي، أسُّ الضلالة ورأس الجهمية، قيل: إن سلَم بن أحوز قتله سنة (128 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 26)، ولسان الميزان (2/ 501).

ص: 76

الجبر فزعم أن العبد مجبور على فعله، وهو كالريشة في مهب الريح، وأنكر الحكمة، بل هو أول من أنكرهها، وزعم أن المشيئة هي عين الإرادة، فكل ما شاءه فقد أحبه.

وستأتي حكاية مذاهب المخالفين لأهل السنة في كل مسألة من هذه المسائل في محلها من البحث إن شاء الله، وإنما المقصود التنبيه على أن الخوض المحرم في القدر جرَّهم إلى مقالات باطلة ومذاهب منحرفة عن مراد الله والرسول؛ فها هنا أمران أصل وفرع، فالأصل هو الخوض المحرم، والفرع هو آحاد تلك المسائل.

وأما الرد على هذا الأصل وبيان بطلانه فمن وجوه:

أولها: أن الأدلة من الكتاب والسنة دلت - كما تقدم - على أن الخوضَ في القدر على هذا النحو محرمٌ.

الثاني: أن أقوال السلف من الصحابة والتابعين - كما تقدم أيضًا - دلت على حرمة هذا الخوض أيضًا، فاجتمع الكتاب والسنة مع فهم السلف على ذلك، فماذا بعد ذلك من حجة.

الثالث: أن الخوض في القدر على هذا النحو هو خوض فيما ليس للعقل فيه مدخل، وما ليس للعقل فيه مدخل، ولا للشرع فيه مدخل؛ فالطرق إليه مسدودة، والخوض فيه تهوُّر وتهوُّك.

الرابع: أن انخرام مذهبكم في القدر كله وكذا في أبواب أخرى من الدين إنما كان بسبب هذا الخوض المحرم، في حين أن من سلم منه سلم له مذهبه واطرد، فهذا يدل على بطلان هذا الخوض، إذ هذا فرع عن ذاك كما تقدم.

ص: 77

‌المبحث الثاني: "الكلام في القدر نفيًا وإثباتًا موقوف على الخبر عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم

-"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 79

المبحث الثاني: "الكلام في القدر نفيًا وإثباتًا موقوف على الخبر عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم"

هذه القاعدة تمثل منهجًا مؤصَّلًا للكلام في باب القدر، وأنه ليس بالظنون والتخرُّصات؛ بل إنما يتلقى من مشكاة الوحي المبين، ومن كلام رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولما كان الكلام في هذا الباب [يريد باب القدر]- نفيًا وإثباتًا - موقوفًا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره؛ كان أسعد الناس بالصواب فيه من تلقَّى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهَوِّكين، وتشكيكات المتكلِّمين، وتكلُّفات المتنطِّعين، واستمطر دِيَم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين؛ فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفَتْ وشفَتْ وجمعَتْ وفرَّقَتْ وأوضحَتْ وبيَّنَتْ وحلَّتْ محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن"

(1)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 45 - 46).

ص: 81

وكون الكلام في القدر موقوفًا على نص الشارع أمرٌ متقررٌ عند أهل العلم من أهل السنة والجماعة.

قال أبو المظفَّر السمعاني: "قد ذكرنا أن سبيل معرفة هذا الباب [أي باب القدر] التوقيف من قبل الكتاب والسنة؛ دون محض القياس ومجرد المعقول، فمن عدَل عن التوقيف في هذا الباب؛ ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا وصل إلى ما يطمئن به القلب"

(1)

.

فتوقيف هذا الباب هو أصل كُلِّي يستصحبه الناظر فيه حتى يكون - بإذن الله - في مأمن من الضلال والقول فيه بغير علم.

(1)

الحجة في بيان المحجة (2/ 30).

ص: 82

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الأدلة العامة على النهي عن القول والجدال في الدين بغير علم، وكذا الأدلة على وجوب اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.

فمن أدلة النوع الأول:

- قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

قال ابن كثير رحمه الله: "ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلَّل شيئًا مما حرَّم الله، أو حرَّم شيئًا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه"

(1)

.

- وقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169].

فنهى سبحانه وتعالى عباده عن اتباع خطوات الشيطان، مبينًا لهم أن من مكائده في إغوائهم أن يأمرهم بالقول على الله بغير علم، فدل على تحريمه.

قال ابن كثير رحمه الله: "أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا"

(2)

.

- وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8].

(1)

تفسير ابن كثير (8/ 363 - 364).

(2)

المصدر السابق (2/ 146).

ص: 83

يخبر سبحانه وتعالى في هذه الآية عن حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع؛ أنهم يخاصمون في الدين بلا عقل صحيح، ولا نقل صحيح صريح، بل بمجرد الرأي والهوى

(1)

، وهذا على سبيل الذم لهم.

ويدل كذلك لما نحن بصدده - دلالة أظهر - ما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

(2)

.

ومما لا شك فيه أن أولى ما يدخل في النهي عن القول بغير علم الكلام في مسائل الاعتقاد، ومن أولى ذلك الكلام في القدر لأمور:

الأول: النهي الخاص عن الخوض فيه كما تقدم.

الثاني: الارتباط الوثيق بين باب القدر وسائر أبواب الاعتقاد الأخرى، وكذلك الارتباط بين الشرع والقدر.

الثالث: خطورة باب القدر؛ فالزلل فيه هُوَّة عميقة ضلَّ فيها خلق لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل واقعي على أن الخوض فيه بلا مستند من الوحي لا يؤدي إلى خير؛ ينضم إلى الأدلة الشرعية في النهي عن ذلك.

وقد تقدم شيء من هذا لكن اقتضى المقام إعادة الكلام فيه، وبالله التوفيق.

(1)

انظر: المصدر السابق (10/ 19 - 20).

(2)

انظر ص (65).

ص: 84

ومن أدلة النوع الثاني:

- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].

قال السعدي رحمه الله: "وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعيَّن على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحِل مخالفته، وأن نصَّ الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله"

(1)

.

- وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة"

(2)

.

ويدخل في هذا: الآيات التي فيها الأمر برَدِّ النزاع إلى الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].

وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

ويدخل في هذا كله: الكلام في القدر؛ يحرُم الخروج فيه عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يجب رد النِّزاع فيه إلى الله ورسوله، والله أعلم.

(1)

تفسير السعدي (4/ 1803).

(2)

رواه ابن جرير (21/ 335).

ص: 85

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

القدر - كما تقدم - باب من أبواب الدين التي يطلب العلم بها وجوبًا أو استحبابًا، وهو داخل في ضمن ما أُمرنا بتدبره وتفهمه، كما قال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

بل العلم به من أشرف العلوم وأجلِّها، لأن الإيمان به ركن من أركان الإيمان، ولأنه يسلك مسائل الدين كلها ولا انفكاك له عنها.

فإذا تبيَّنَت أهميته وتقرَّرت مشروعية البحث فيه؛ فلا بد إذن من وجود منهج يسلكه الباحث ليأمن غوائل الضلال فيه، وليجتنب ما يجرُّه إلى الخوض فيما نُهي عن الخوض فيه.

وهذه القاعدة هي لبيان هذا المنهج - أو لبيان الأهم فيه - وهي تركز على بيان مصدر التلقي والاستدلال، ووجوب الوقوف على النص وعدم تجاوزه.

ومعنى الكلام في القدر: أي البحث فيه ودراسته وبيان مسائله، ومحاججة الخصوم فيه؛ أي: تقريرًا وردًا.

وفي القدر: أي الجانب الظاهر منه الذي يجوز لنا البحث فيه؛ لا الجانب الخفي الذي نُهينا عن الخوض فيه.

نفيًا وإثباتًا: أي سواء كان الكلام في إثبات مسألة أو نفيها، فالإثبات محتاج إلى الدليل وكذا النفي.

وهذه الكلمة إنما هي للتأكيد على المراد، وإلا فواضح أن الإثبات والنفي هنا من نفس الباب؛ كلاهما متوقف على الدليل.

متوقف على الخبر عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم: أي لا تثبت مسألة

ص: 86

من مسائله إلا بالدليل الصحيح من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يَصلُح أن يستدل في هذا الباب - ولا في غيره من أبواب الدين - بالرأي المجرد والأهواء والظنون.

والدليل الصحيح يتضمن شيئين:

الأول: صحة الدليل من جهة النقل؛ فكما يُمنع الاستدلال بالرأي المجرد والهوى؛ فكذلك يُمنع الاستدلال بما لم يثبُت من الأحاديث.

الثاني: صحة الاستدلال، فلربما صح الدليل نقلًا، ولكن الاستدلال به غير صحيح.

ومن الآثار عن السلف في توقيف باب القدر:

- قول طاووس رحمه الله: "اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم"

(1)

.

فقوله رحمه الله: "اجتنبوا الكلام في القدر": أي الكلام بمجرد الرأي بلا علم، لأنه علل ذلك بعدُ بقوله:"فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم"، ومراده: لا تكونوا كالذين يتكلمون في القدر بظنون وأوهام، لأن الكلام فيه لا يجوز إلا بعلم.

- قول القاسم بن محمد رحمه الله لما مرَّ بقوم يذكرون القدر -: "تكلموا فيما سمعتم الله ذَكَر في كتابه، وكُفُّوا عما كّفَّ الله عنه"

(2)

.

ومقصوده - والله أعلم - أن الواجب ألا يتكلم أحد في القدر من عنده،

(1)

رواه ابن بطة (2/ 214)، رقم (1774).

(2)

رواه الهروي في ذم الكلام وأهله (4/ 67)، رقم (802).

ص: 87

بل يتبع في ذلك ما جاء في النصوص، وليس مراده النهي عن الكلام في القدر على الإطلاق، لأنه قال بعد ذلك:"تكلموا فيما سمعتم الله ذَكَر في كتابه. . ."؛ والقدر مما ذكره الله في كتابه.

فالمقصود أن البحث في مسائل القدر موقوف على الدليل الشرعي، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والآراء، والله أعلم.

ص: 88

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

لما كانت هذه القاعدة مرتبطةً بما قبلها، ومتممة لها - إذ الأولى في بيان حرمة التنقير والبحث في مسائل القدر، وهذه في بيان الأصول التي يستمد منها الباب، وهي الكتاب والسنة - فالرد على المخالفين هنا سيكون كما في القاعدة السابقة مجملًا، مع عرض وجه المخالفة عند كل فرقة.

وخصومة أهل السنة هنا مع المتكلمة من معتزلة وأشاعرة وجهمية، إذ أن وصف الكلام إنما أُخذ من اتباع الكلام والعقول والأقيسة المنطقية في مقابل النصوص الشرعية والآثار السلفية

(1)

، وذلك أن المتكلمين بنوا مقالتهم على تقديم العقل على النقل، وجعلوه أصلًا كليًّا عنه تفرع منهجهم في التلقي والاستدلال

(2)

.

فمع تعظيمهم الغالي للعقل؛ أهملوا العناية بالنقل، وأعرضوا عن كتب الأحاديث والآثار، واشتغلوا عنهما بفلسفة الهند ومنطق اليونان، لذلك فهم من أجهل الناس بهما، وقد اعترف بذلك كبراؤهم، كاعتراف الغَزالي

(3)

بأن

(1)

قال الإيجي معرِّفًا علم الكلام: "والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية، بإيراد الحجج ودفع الشبه" وقيد الدينية بكونها منسوبة إلى دين النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن هذه النسبة صحيحة في نفس الأمر، لأن الخطأ في تقرير مسألة لا يخرج المتكلم عن هذا الوصف. المواقف (7)، وانظر: لوامع الأنوار (1/ 7).

(2)

انظر: درء التعارض (1/ 4 - 6).

(3)

هو: أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي الصوفي الأشعري المتكلم، ولد سنة (450 هـ)، من كتبه:"الاقتصاد في الاعتقاد"، و"إحياء علوم الدين"، له هفوات وزلَّات عظيمة، كانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة =

ص: 89

بضاعته في الحديث مزجاة

(1)

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونهما هم أبعد عن معرفة الحديث وأبعد عن اتباعه من هؤلاء، هذا أمر محسوس بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيرًا من العامة أعلم بذلك منهم"

(3)

.

وسلكوا فيما وصلهم من أحاديث تعارض أصولهم، وتناقض مذاهبهم، مسالك شتى مرجعها إلى مسلكين خطيرين

(4)

:

- مسلك الرد، فيطعنون في صحة النص من جهة ثبوته.

- مسلك التأويل، ويلجأ إليه إذا لم يمكن إعمال المسلك الأول، وهذا المسلك فرع عن أصلهم المعتمد؛ ألا وهو ظنية الأدلة النقلية في مقابل قطعية الدليل العقلي.

أما المسلك الأول فأدرجوا تحته أصولًا فاسدة منها:

أولًا: الرد الصريح للنصوص، كما صرح بذلك أئمتهم، كأبي منصور

= الصحيحين"، مات سنة (505 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 322)، وطبقات الشافعية الكبرى (6/ 191).

(1)

كما في قانون التأويل له (30).

(2)

انظر: لسان الميزان (6/ 318).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 95).

(4)

انظر: منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة (63 - 91).

ص: 90

البَغْدادي

(1)

حيث قال: "فإن روى الراوي ما يحيله العقل ولم يحتمل تأويلًا صحيحًا؛ فخبره مردود"

(2)

.

ومثاله ما وقع من عمْرو بن عُبيد

(3)

- أخزاه الله - حيث قال في حديث الرجل الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه ثم يذروه في يوم عاصف

(4)

، قال:"ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وإن كان قاله؛ فأنا به مكذب، فإن كان التكذيب به ذنب؛ فأنا عليه مصر"

(5)

.

ثانيًا: الإيمان ببعض النصوص دون بعض، وله صور، منها:

- رد أخبار الآحاد، زعمًا منهم أنها لا تفيد العلم، بل تفيد الظن، وما كان كذلك فلا يؤخذ منه اعتقاد، وبهذا يكونون قد ردوا أكثر السنة، إذ أن أخبار الآحاد أكثر عددًا من المتواتر.

(1)

هو: أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي الإسفراييني البغدادي نزيل خراسان، من كتبه:"أصول الدين"، و"فضائح القدرية"، و"الفرق بين الفرق"، مات بإسفرايين سنة (429 هـ)

انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 572)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 137).

(2)

أصول الدين (23).

(3)

هو: أبو عثمان، عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء، القدري رأس المعتزلة، دخل مع واصل الغزال، فأعجب به وزوجه أخته، من كتبه:"التفسير"، و"الرد على القدرية"، مات بطريق مكة سنة (144 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (14/ 63)، وسير أعلام النبلاء (6/ 105).

(4)

رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب (4/ 176) ح (3481)، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (4/ 2109) ح (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه الدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (92) رقم (7).

ص: 91

قال الرَّازِي

(1)

: "أما التمسك بخير الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز"، وجعل من وجوه الدلالة على ذلك:"أن أخبار الآحاد مظنونة، فلا يجوز التمسك بها في معرفة الله تعالى وصفاته"

(2)

.

وقال التَّفْتازاني

(3)

: "خبر الواحد -على تقدير اشتماله على جميع الشرائط المذكورة في أصول الفقه - لا يفيد إلا الظن، ولا عبرة بالظن في باب الاعتقادات"

(4)

.

وقال أبو الحُسيْن البَصري

(5)

: "لا يجوز الاقتصار في التوحيد والعدل على الظن دون العلم"

(6)

.

(1)

هو: أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، فخر الدين الرازي الشافعي الأشعري، ولد سنة (544 هـ)، قال الذهبي:"وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر"، من كتبه:"مفاتيح الغيب"، و"معالم أصول الدين"، مات بهراة سنة (606 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 500)، وطبقات الشافعية الكبرى (8/ 81).

(2)

أساس التقديس (215).

(3)

هو: مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني الشافعي، سعد الدين، ولد بتفتازان سنة (712)، من كتبه:"تهذيب المنطق"، و"مقاصد الطالبين"، مات بسمرقند سنة (791 هـ).

انظر: الدرر الكامنة (4/ 350)، وبغية الوعاة (2/ 285).

(4)

شرح العقائد النسفية (89).

(5)

هو: أبو الحسين، محمد بن علي بن الطيب البصري من أئمة المعتزلة، ولد في البصرة، من كتبه:"المعتمد في أصول الفقه"، و"تصفح الأدلة"، مات ببغداد سنة (436 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (4/ 168)، وسير أعلام النبلاء (17/ 587).

(6)

المعتمد في أصول الفقه (2/ 578 - 579).

ص: 92

وذهب النَّظَّام

(1)

من المعتزلة إلى إنكار خبر الواحد كذلك، بل أنكر حجية التواتر كذلك والإجماع والقياس

(2)

.

- التشهي في اعتماد النصوص، فما وافق هواهم أخذوا به، وما لا ردوه، فالنصوص عندهم للاعتضاد لا للاعتماد.

قال ابن أبي العز رحمه الله في وصف حال المعتزلة: "وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية؛ إنما يذكرونها للاعتضاد بها لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا نثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبين موافقة السمع للعقل ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها، والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغن عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه واتفق أن الشرع ما يهواه"

(3)

.

ثالثًا: كتمان النصوص، فطريقة هؤلاء القوم أنهم لا يظهرون من النصوص إلا ما يوافق أهواءهم، وما يخالفها فإنهم لا يذكرونه، بل يكتمونه،

(1)

هو: أبو إسحاق، إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم المعتزلي، من كتبه:"الطفرة"، و"النبوة" وأشياء كثيرة لا توجد، اتهم بالزندقة، وكفره جماعة من أهل العلم، مات سنة (231 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (6/ 623)، وسير أعلام النبلاء (10/ 541).

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (143 - 144)، وقد قال البغدادي عقب سياقه لهذه الفضيحة من فضائحه:"فكأنه أراد إبطال أحكام فروع الشريعة لإبطاله طرقها".

(3)

شرح الطحاوية (2/ 793 - 794).

ص: 93

وهذه سمة عامة لأهل الأهواء، كما قال وكيع بن الجراح رحمه الله:"أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم"

(1)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "فلا تجد قط مبتدعًا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحدٌ بدعة إلا نُزعت حلاوة الحديث من قلبه"

(2)

.

رابعًا: الطعن في نقلة الحديث لإسقاط رواياتهم، فتراهم ينقمون من أهل الحديث نقلهم لما يخالف أهواءهم، فتارة يرمونهم بقلة الفهم، وتارة بأنهم حشوية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى السب الصريح، حتى للصحابة، كما قال يحيى:"قلت لعمرو بن عبيد: كيف حديث الحسن عن سمرة - يعني في السكتتين -؟ قال: ما تصنع بسمرة؟ قبَّح الله سمرة"

(3)

.

وقال الرازي: "إن أجلّ طبقات الرواة قدرًا وأعلاهم منصبًا: الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنا نعلم أن رواياتهم لا تفيد القطع واليقين"

(4)

.

وأما المسلك الثاني: فهو في حقيقته تحريف، وإنما سمَّوه تأويلًا ليلبسوا به على العوام، إذ لفظ التحريف لفظ منفِّرٌ منكرٌ عند الناس، وهذا التحريف

(1)

رواه الدارقطني (1/ 27) ح (36)، ومن طريقه: الهروي في ذم الكلام وأهله (2/ 270) رقم (346).

(2)

درء التعارض (1/ 221).

(3)

رواه الدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (103) رقم (19).

(4)

أساس التقديس (216)، وقد استدل له بما حدث من خلاف بين الصحابة، وما روي من طعن بعضهم في بعض!

ص: 94

عندهم على صورتين

(1)

:

- تحريف اللفظ: وهو تبديله، كنصب لفظ الجلالة من قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ليكون المتكلم موسى عليه السلام.

- تحريف المعنى، وهو صرف اللفظ عنه إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ، كتفسير الغضب بإرادة الانتقام، وتفسير اليدين بالنعمة والقدرة.

وقد كان لهذا المنهج الذي سلكه المتكلمون أثره العظيم في باب القدر، فالمعتزلة ومن وافقهم من نفاة القدر جنحوا إلى تعظيم العقل وإضفاء صفة التشريع عليه، وقد برز هذا في باب القدر جليًّا واضحًا في مسائل كثيرة، كمسألة التحسين والتقبيح، فإنهم غلوا في منزلة العقل من كونه آلة يفهم بها النص، ويفهم بها ما أودعه الله في الأشياء من صفات تحسن وتقبح بها، إلى جعله مشرعًا للأحكام، قاضٍ بالمدح والذم والثواب والعقاب الشرعيين.

فلم يقف المعتزلة في فهمهم واعتقادهم في باب القدر على ما جاء في النصوص الشرعية، وما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، بل جرَوا مع أهوائهم حيث سارت ركابها.

وبنحوهم فعل الأشاعرة، فاعتاضوا في كثير من المسائل عن الأدلة الشرعية بما يقابل عقيدة المعتزلة، فجنحوا إلى سلب دور العقل وغلوا في إثبات الشرع وتعظيمه، وسلبهم للعقل كان سلبًا لكونه وسيلةً لفهم النص، وليس سلبًا لكونه بديلًا للنصوص الشرعية، بدليل أنهم لم يفزعوا إليها، وهذا ظاهر في مقالاتهم وآرائهم، ففي مسألة التحسين والتقبيح التي ذُكرت

(1)

انظر: الصواعق المرسلة (1/ 201).

ص: 95

آنفًا؛ قابلوا تعظيم المعتزلة للعقل بسلبه خصيصته في تمييز حسن الأشياء وقبحها، وجعلوا الشرع حاكمًا بذلك، لكنهم لم يلجؤوا له على سبيل التحاكم، بل فرارًا من مذهب المعتزلة، بدليل استقلالهم بعقولهم في تجويزهم على الله الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن، مع كون النصوص الشرعية قطعية الدلالة على تنزيه الله عمَّا ذكروا.

فقابلوا ضلال المعتزلة بضلال، ومع كلتا الطائفتين شيء من الحق، لكن لم يوفقوا لاستكماله، وإنما استكمله أهل السنة؛ فأخذوا بالحق الذي عندهما، واطرحوا ما عندهم من الباطل، والله الموفق والهادي.

ص: 96

‌المبحث الثالث: "الإيمان بالقدر متوقف على إثبات العلم لله والكتابة والمشيئة والخلق"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 97

المبحث الثالث: "الإيمان بالقدر متوقف على إثبات العلم لله والكتابة والمشيئة والخلق"

تشتمل هذه القاعدة على ما يسميه أهل العلم: "مراتب القدر"، وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وعلى وجوب الإيمان بها كلها.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

ورد النص على هذه المراتب ووجوب الإيمان بها في كلام أهل العلم، ومن ذلك:

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "شفاء العليل": "الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر؛ التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر، وهي أربع مراتب:

المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.

المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.

المرتبة الثالثة: مشيئته لها.

الرابعة: خلقه لها"

(1)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 133)، وانظر: طريق الهجرتين (1/ 193).

ص: 99

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والإيمان بالقدر على درجتين؛ كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون؛ بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق. . . وأما الدرجة الثانية: فهو

(1)

مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة؛ وهو (1) الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات؛ فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه، سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه"

(2)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: "والإيمانُ بالقدرِ على درجتين:

إحداهما: الإيمان بأنَّ الله تعالى سبقَ في علمه ما يعمله العباد من خيرٍ وشر وطاعةٍ ومعصيةٍ قبل خلقهم وإيجادهم، ومَنْ هو منهم من أهل الجنة، ومِن أهل النَّار، وأعدَّ لهم الثَّواب والعقاب جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنَّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.

والدرجة الثانية: أنَّ الله تعالى خلق أفعال عباده كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم"

(3)

.

(1)

كذا في المطبوع والمناسب أن تكون "فهي".

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 148 - 149).

(3)

جامع العلوم والحكم (58).

ص: 100

وممن نص عليها أيضًا من أهل العلم: الشيخ حافظ حكمي

(1)

، والسعدي - رحمهما الله -

(2)

.

(1)

انظر: معارج القبول (3/ 1086) وما بعدها.

(2)

انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد (178).

ص: 101

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

تقسيم القدر إلى مراتب لم يأتِ في الشرع منصوصًا عليه، وإنما عرَفه أهل العلم بالاستقراء والتتبع للنصوص الشرعية الواردة في القدر، وكذا توَقُّف الإيمان بالقدر على إثباتها لم يرد بخصوصه النص، وإنما وردت هذه المراتب في غضون النصوص، وورد معها وجوب الإيمان بها، فدل على أن الإيمان بالقدر متوقف على إثباتها.

فمن الأدلة على المرتبة الأولى "مرتبة العلم":

من القرآن:

قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].

وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

ومن السنة:

حديث علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسًا وفى يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال:(ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار). . . الحديث

(1)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (6/ 170 - 171) ح (4945 - =

ص: 102

حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)

(1)

.

حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رجل: يارسول الله! أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: (نعم) قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: (كل يعمل لما خلق له أو لما يُسِّر له)

(2)

.

ومن الأدلة على المرتبة الثانية "مرتبة الكتابة":

من القرآن:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 7].

وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51، 52].

ومن السنة:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم

= 4945)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2039) ح (2647).

(1)

رواه البخاري: كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين (8/ 122) ح (6597)، ورواه مسلم بلفظه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ح (2659).

(2)

رواه البخاري: كتاب القدر، باب جف القلم على علم الله (8/ 122) ح (6596)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2041) ح (2649).

ص: 103

يومًا فقال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف)

(1)

.

وحديث جابر رضي الله عنه قال: جاء سُراقة بن مالك بن جُعشُم؛ قال: يا رسول الله! بَيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجَرَت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:(لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال: ففيم العمل؟ قال: زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت: ما قال؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر)

(2)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَا، والقلب يهوى ويتمنى؛ ويصدِّق ذلك الفرج ويكذِّبه)

(3)

.

(1)

رواه الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب (4/ 285) ح (2516)، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (316).

(2)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2041) ح (2649).

(3)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (4/ 2046) ح (2657).

ص: 104

ومن الأدلة على المرتبة الثالثة "مرتبة المشيئة":

من القرآن:

قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 29، 30].

وقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29].

وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54 - 56].

ومن السنة:

حديث حذيفة بن أَسيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة؛ بعث الله إليها ملكا فصوَّرها، وخلق سمعها وبصرها وجِلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يَزيد على ما أُمِر ولا يَنقُص)

(1)

.

وحديث أبي قتادة رضي الله عنه حين ناموا عن الصلاة؛ وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء)

(2)

.

(1)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2037) ح (2645).

(2)

رواه البخاري: كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة (9/ 139) ح (7471).

ص: 105

وحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى، ثم ينشئ الله تعالى لها خلقًا مما يشاء)

(1)

.

ومن الأدلة على المرتبة الرابعة "مرتبة الخلق":

من القرآن:

قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

ومن السنة:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهبَ يخلُق كخَلْقي! فليخلقوا ذرَّة، أو ليخلقوا حبَّة أو شَعِيرة)

(2)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك؛ تحيَّتُك وتحيَّةُ ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك

(1)

رواه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2046) ح (2657).

(2)

رواه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (9/ 161) ح (7559)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان. . . (3/ 1671) ح (2111).

ص: 106

ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)

(1)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، وهو يَكتُب على نفسه، وهو وَضْعٌ عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي)

(2)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (4/ 131) ح (3326)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (4/ 2183) ح (2841).

(2)

رواه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (9/ 120) ح (7404)، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (3/ 2107) ح (2751).

ص: 107

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

هذه القاعدة تقرِّر مراتب القدر، ووجوب الإيمان بها لتحقيق صحة الإيمان بالقدر.

ولها ارتباط وثيق كذلك بإثبات صفات الله سبحانه وتعالى؛ إذ مبنى هذه المراتب على صفات الله سبحانه: العلم والكتابة والمشيئة والخلق وغيرها.

ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "القدر قدرة الله عز وجل على العباد"

(1)

.

وقال زيد بن أسلم رحمه الله: "القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله عز وجل"

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله تعالى. يشير إلى أن من أنكر القدر؛ فقد أنكر قدرة الله تعالى، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وقال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابنُ عَقِيل

(4)

هذا الكلام جدًا، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين.

(1)

رواه الخلال في السنة (3/ 544).

(2)

رواه الفريابي في القدر (144) رقم (207).

(3)

منهاج السنة (3/ 254).

(4)

هو شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري، الحنبلي المتكلم، صاحب التصانيف، ولد (431 هـ)، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، ثم تاب منه، من كتبه:"الفنون" وهو في أربعمئة جزء، و"الجدل على طريقة الفقهاء"، مات سنة (513 هـ).

انظر: طبقات الحنابلة (3/ 482)، وذيله (1/ 316)، وسير أعلام النبلاء (19/ 443).

ص: 108

وهو كما قال أيو الوفاء؛ فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابها وتقديرها"

(1)

.

وقال رحمه الله معرِّفًا القدر: "فإنه علم الله وقدرته وكتابته ومشيئته"

(2)

.

وفيما يأتي شرح مجمل للمراتب الأربع:

مرتبة العلم: وهي "الإيمان بعلم الله عز وجل المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات، والممكنات والمستحيلات، فعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار، من قبل أن يخلقهم، ومن قبل أن يخلق الجنة والنار، علم دِقَّ ذلك وجليله، وكثيره وقليله، وظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، ومبدأه ومنتهاه، كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير، عالم الغيب والشهادة علام الغيوب"

(3)

.

وهذه المرتبة اتفق عليها رسل الله سبحانه وتعالى وكذا الصحابة والتابعون لهم بإحسان من هذه الأمة وأول من خالفهم فيها مجوس هذه الأمة

(4)

؛ وهم القدرية الأوائل الذين خرجوا في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، فتبرأ منهم الصحابة

(1)

شفاء العليل (1/ 130).

(2)

شفاء العليل (2/ 733).

(3)

معارج القبول (3/ 1086 - 1087).

(4)

انظر: شفاء العليل (1/ 133).

ص: 109

وردوا بدعتهم وأعظموا الشناعة عليهم، كما سيأتي الكلام على ذلك

(1)

.

والمراتب الثلاثة الأخرى تدل على هذه المرتبة؛ فكتابة الله سبحانه وتعالى للمقادير لم تكن ولا تكون إلا عن علم بما سيُكتب

(2)

، وكذلك مشيئته عز وجل إنما تكون بعد علمه تعالى بهذا الذي سيشاؤه، وكذا خلقه سبحانه وتعالى إنما يحصل بعد العلم بما سيخلق.

قال ابن أبي العز رحمه الله: "فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم؛ لا يُتصور إيجادها إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] "

(3)

.

مرتبة الكتابة: وهي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، فما من شيء صغير ولا كبير إلا وقد سُطِر في أم الكتاب.

وهذا شامل لما يقوله الرب سبحانه وتعالى وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وشامل أيضًا لمقتضى أسمائه وصفاته وآثارها؛ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي)

(4)

(5)

.

(1)

انظر ما يأتي ص (124 و 157).

(2)

انظر: شفاء العليل (1/ 133).

(3)

شرح الطحاوية (2/ 353).

(4)

رواه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (4/ 104) ح (3191)، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (4/ 2107) ح (2751).

(5)

انظر: شفاء العليل (1/ 170).

ص: 110

ويدخل في الإيمان بكتابة المقادير أربعة تقادير

(1)

:

الأول: التقدير الأزلي قبل خلق السماوات والأرض عندما خلق الله تعالى القلم؛ وكُتب حينذاك كل شيء كائن على وجه التفصيل حتى تقوم الساعة.

وهذا التقدير أول التقادير وأقدمها، وهو الأصل وما بعده تفصيل منه، وهو كذلك لا يتغير ولا يتبدل. ومن أدلته:

قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].

وقوله سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميم فقال:(اقبلوا البشرى يا بني تميم)، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا - مرتين - ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن فقال: (اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم)، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال:(كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)، فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها

(2)

.

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 55 - 115)، ومعارج القبول (3/ 1095 - 1108).

(2)

رواه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (4/ 106) ح (3191).

ص: 111

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء)

(1)

.

حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)

(2)

.

الثاني: التقدير حين أخذ الميثاق؛ وفيه قدر الله سبحانه وتعالى أعمال بني آدم، وأرزاقهم وآجالهم، وسعادتهم وشقاوتهم، عقيب خلق أبيهم، ومما يدل عليه:

قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173].

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام بنعْمَان

(3)

- يعني بعرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبلًا؛ وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ

(1)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام (4/ 2044) ح (2653).

(2)

تقدم تخريجه ص (37).

(3)

نَعْمان: كسَحْبان؛ واد وراء عرفة، بين مكة والطائف يصب في ودان، وقيل: لهذيل على ليلتين من عرفات وهو نعمان الأراك. انظر: معجم البلدان (5/ 293)، والنهاية (5/ 85).

ص: 112

قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ})

(1)

.

وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال "خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم"

(2)

.

عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم؛ أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك)

(3)

.

(1)

رواه أحمد (4/ 268) ح (2456)، وابن أبي عاصم (1/ 159) ح (208)، والحاكم (2/ 544) كلهم من طريق: الحسين بن محمد المروذي، حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به مرفوعًا، وصححه الحاكم ووافقه عليه الذهبي، والألباني في الصحيحة ح (1623).

وقد قال الشيخ صالح المقبلي في "الأبحاث المسددة": "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك". انظر: الصحيحة (4/ 159).

(2)

رواه الفريابي (67) رقم (57)، وابن جرير (1/ 159)، وابن أبي حاتم (5/ 1613)، وابن بطة (1/ 319) رقم (1341) و (2/ 164) رقم (1634) من طرقٍ عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا إسناد حسن لحال المسعودي؛ فإنه صدوق، ولا يضر اختلاطه؛ لأن ممن روى هذا الحديث عنه: وكيع ويحيى بن سعيد القطان، وقد سمعا منه قبل الاختلاط. انظر: التهذيب (6/ 210).

(3)

رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (4/ 133) ح (3334)، ومسلم: كتاب صفة القيامة =

ص: 113

حديث هشام بن حكيم رضي الله عنه: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنبتديء الأعمال أو قد قُضي القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم نَثَرهم في كفَّيْه أو كفِّه فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار؛ فأما أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار)

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق جملة من الآثار في هذا: "فهذه الآثار وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدَّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم"

(2)

.

الثالث: التقدير العمري عند تخليق النطفة في الرحم، فيكتب إذ ذاك ذكوريتها وأنوثتها، والأجل والعمل، والشقاوة والسعادة، والرزق وجميع ما

= والجنة والنار، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا (4/ 2107) ح (2751).

(1)

رواه ابن أبي عاصم (1/ 137) ح (174)، والطبراني (22/ 169) ح (435)، والبزار (كشف الأستار)(3/ 20) ح (2140). كلهم من طريق بقية بن الوليد، حدثني الزبيدي، حدثني راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، عن أبيه، عن هشام بن حكيم به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 387):"رواه البزار والطبراني، وفيه بقية بن الوليد وهو ضعيف ويحسن حديثه بكثرة الشواهد، وإسناد الطبراني حسن". قلت: ضعف بقية إنما هو لتدليسه وقد صرح بالتحديث في شيخه وشيخ شيخه، وباقي رجاله ثقات. ثم إن بقية قد توبع وذلك فيما رواه الطبراني أيضًا (22/ 168) ح (434) من طريق معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد به؛ بإسقاط قتادة السلمي بين عبد الرحمن وهشام، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة ح (168).

(2)

شفاء العليل (1/ 78).

ص: 114

هو لاق، ويدل عليه:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:(إن أحدكم يُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا؛ فيؤمر بأربع كلمات؛ ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وأجَله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة)

(1)

.

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكل الله بالرحم ملكًا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه)

(2)

.

عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره، فأتى رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود؛ فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من

(1)

رواه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 111) ح (3208)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2036) ح (2643).

(2)

رواه البخاري: كتاب القدر (8/ 122) ح (6595)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2038) ح (2646).

ص: 115

ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة؛ بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أُمر ولا ينقص)

(1)

.

الرابع: التقدير السَّنَوي في ليلة القدر؛ يُقدَّر فيها كل ما يكون في السنة إلى مثله، من رزق وموت وحياة وصحة ومرض وعافية وابتلاء ونحو ذلك، ويدل عليه:

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].

عن مجاهد رحمه الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال: "ليلة الحكم"

(2)

.

وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: "يؤذن للحجاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم"

(3)

.

وعن قتادة في قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قال: "يقضى فيها ما يكون في السنة

(1)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه. . . (4/ 2037) ح (2645).

(2)

رواه ابن جرير (24/ 544).

(3)

رواه ابن جرير (24/ 544).

ص: 116

إلى مثلها"

(1)

.

وقوله تعالى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3 - 5].

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} يعني: ليلة القدر، ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل"

(2)

.

عن قتادة رحمه الله قال: "هي ليلة القدر، فيها يقضى ما يكون من السنة إلى السنة"

(3)

.

وعن ربيعة بن كُلثوم رحمه الله

(4)

، قال:"قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها لَلَيلة يفرق فيها كل أمر حكيم، يقضي الله كل أجل وعمل وخلق ورزق إلى مثلها"

(5)

.

وقد ذكر الإمام ابن القيم - وتبعه على ذلك حافظ الحكمي - رحمهما الله -

(1)

رواه ابن جرير (24/ 547).

(2)

رواه البيهقي في الشعب (5/ 254) ح (3388)، والحاكم (2/ 448) وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(3)

رواه ابن جرير (21/ 9).

(4)

هو: ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري.

انظر: الجرح والتعديل (3/ 477)، وتهذيب التهذيب (1/ 600).

(5)

رواه ابن جرير (21/ 7).

ص: 117

تقديرًا خامسًا وهو:

التقدير اليومي؛ وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قُدِّرت لها فيما سبق، وإنفاذ المقدور على العبد في وقته الذي قُدِّر له، وذكر من أدلته:

قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: (من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويخفض آخرين)

(1)

.

(1)

رواه ابن ماجه: المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/ 198) ح (202)، وابن أبي عاصم (1/ 215) ح (308) كلاهما عن هشام بن عمار، حدثنا الوزير بن صبيح، حدثنا يونس بن حلبس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، وفيه علتان:

الأولى: هشام متكلم فيه، لكنه قد توبع؛ تابعه صفوان بن صالح الدمشقي؛ فرواه عن الوزير بن صبيح به، كما عند ابن عساكر (52/ 334)، وتابعه أيضًا: الوليد بن شجاع كما عند ابن عساكر أيضًا (63/ 32).

الثانية: ضعف وزير بن صبيح. قال دُحيم: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ. انظر تهذيب التهذيب (4/ 307)، وقال الحافظ في التقريب ص (1036): مقبول. أي حيث يتابع، وقد توبع؛ تابعه إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به كما عند ابن عساكر (64/ 60) قال الألباني في الظلال (1/ 130):"رجاله ثقات لكنه مرسل"، وكما عند البيهقي في شعب الإيمان (2/ 361) ح (1067) لكن في إسناده هشام بن يحيى الغساني، كذبه أبو حاتم وأبو زرعة. انظر: ميزان الاعتدال (1/ 73) فلا يصلح للمتابعة.

والحديث حسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 193)، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (301).

ص: 118

قال البغوي رحمه الله في هذه الآية: "قال المفسرون: من شأنه أن يحيي ويميت، ويرزق، ويعز قومًا، ويذل قومًا، ويشفي مريضًا، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويغفر ذنبًا إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء"

(1)

.

ونقل عن الحسين بن الفضل رحمه الله

(2)

قوله فيها: "هو سوق المقادير إلى المواقيت"

(3)

.

وعن سفيان بن عيينة قوله: "الدهر كله عند الله يومان؛ أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فالشأن الذي هو فيه اليوم - الذي هو مدة الدنيا -: الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، وشأن يوم القيامة: الجزاء والحساب، والثواب والعقاب"

(4)

.

والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه هذا التقدير لا يدخل فيما نحن بصدده من تقديرات الكتابة، إذ لا كتابة فيه، وإنما هو إنفاذ لما قُدر سابقًا - كما ذُكر في تعريفه -.

ثم إن هذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير السَّنَوي، والسَّنَوي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة ومن الأزلي، والعمري تفصيل من

(1)

تفسير البغوي (7/ 446).

(2)

هو: أبو علي، الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي ثم النيسابوري، المفسر عالم عصره، ولد قبل (180 هـ)، مات بنيسابور سنة (282 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 414)، وطبقات المفسرين للسيوطي (48).

(3)

المصدر السابق (7/ 447).

(4)

المصدر السابق (7/ 446)

ص: 119

التقدير العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه القلم في اللوح المحفوظ

(1)

.

وليس معنى كون كل تقدير تفصيلًا مما قبله أن ما قبله مجمل، بل المراد أنه تخصيص من عموم أعم، فاللوح المحفوظ كُتب فيه كل شيء صغير وكبير، فهو شامل لكل ما يقوله الرب سبحانه وتعالى وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وشامل أيضًا لمقتضى أسمائه وصفاته وآثارها

(2)

.

والتقدير العمري الأول عند أخذ الميثاق هو تخصيص منه، والمخصوص به هم بنو آدم كلهم.

والتقدير العمري عند تخليق النطفة هو تخصيص من التقدير العمري الأول، والمخصوص به أفراد بني آدم كل فرد بعينه على حِدَة.

والتقدير السَّنَوي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة، فيما يتعلق بكل شخص؛ إذ يقدر له في التقدير العمري رزقه وعمله وأجله وسعادته وشقاوته مدة حياته، وفي التقدير السَّنَوي يقدر له ما يكون في تلك السنة بخصوصها.

وهو أيضًا - أي السَّنَوي - تفصيل من اللوح المحفوظ فيما يتعلق بعموم الحوادث في السنة المعيَّنة؛ ما تعلق منها ببني آدم أو غيرهم.

والتقدير اليومي تفصيل من التقدير السَّنَوي، يخصص منه ما يتعلق بهذا اليوم بخصوصه من بين أيام السنة.

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 113 - 114).

(2)

انظر ما تقدم ص (110).

ص: 120

وليس معنى كون أي تقدير تفصيلًا لما قبله أنه كُتب ونُسخ منه، بل المراد أنه أخص منه؛ إما من جهة متعَلَّقه، أو من جهة زمانه، والله أعلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والتقدير والكتابة تكون تفصيلًا بعد جملة"

(1)

.

وقال رحمه الله: "وهذا التقدير - التابع لعلمه سبحانه - يكون في مواضع جملةً وتفصيلًا؛ فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ونحو ذلك"

(2)

.

مرتبة المشيئة: وهي الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فليس في الوجود موجب تام إلا مشيئة الله وحده فلا يكون شيء إلا بمشيئته، ولا يخرج عن مشيئته شيء، وهذا هو عمود التوحيد الذي لا يقوم إلا به

(3)

.

وقد دل على هذه المرتبة إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقول والعيان، وأجمع عليها المسلمون من أولهم إلى آخرهم.

وقد تنوعت أدلة القرآن على إثبات هذه المرتبة، وهي متضمنة لأمرين:

- الأول: أن ما وقع إنما وقع بمشيئته سبحانه وتعالى.

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 387).

(2)

المصدر السابق (3/ 149).

(3)

انظر: شفاء العليل (1/ 171)، ومدارج السالكين (3/ 105)، ودرء التعارض (10/ 115).

ص: 121

- الثاني: أن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته سبحانه وتعالى.

وهذه هي حقيقة الربوبية؛ فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدى ولا سعادة ولا شقاوة إلا بعد إذنه وكل ذلك بمشيئته وتكوينه وحده لا شريك له

(1)

.

ومما يدخل في هذه المرتبة: الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى الشاملة، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته عز وجل، كما قال تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].

وما لم يشأ كونه فليس لعدم قدرته عليه؛ بل لعدم مشيئته لوجوده، كما قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].

فأخبر أن هداية كل نفس أمر مقدور له، لكنه لم يرده، معللًا سبحانه وتعالى بذلك عدم وقوعه.

مرتبة الخلق: وهي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء؛ فما من مخلوق في السموات والأرض إلا الله خالقه، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السموات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها، سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه

(2)

.

وهذه المرتبة متفق عليها بين الرسل عليهم السلام، واتفقت عليها الكتب الإلهية

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 163).

(2)

انظر: معارج القبول (3/ 1108).

ص: 122

والفطر والعقول والاعتبار

(1)

.

وسيأتي في مباحث الرسالة - إن شاء الله - الكلام على المسائل المندرجة تحت هذه المراتب، وإنما المقصود هنا هو بيان هذه المراتب إجمالًا.

وأما عن وجوب الإيمان بهذه المراتب لتحقيق الإيمان بالقدر؛ فكما تقدم: لم يرد هذا التقسيم في نص من النصوص الشرعية لا قرآنًا ولا سنةً، وإنما عرفه أهل العلم بالتتبع والاستقراء، والناظر في هذه المراتب وأدلتها يدرك قطعًا وجوبها لأمرين:

الأول: أن هذه المراتب هي في الحقيقة صفات لله عز وجل، فالعلم والكتابة والمشيئة والخلق والقدرة، كلها صفات لله سبحانه، والإيمان بصفاته سبحانه وتعالى واجب؛ لا ينازع أحد في ذلك.

الثاني: أن مسائل القدر كلها مندرجة تحت هذه المراتب.

فالخلاصة أن للقدر أربع مراتب هي: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأنه لا بد من الإيمان بها لتحقيق صحة الإيمان بالقدر، وبالله التوفيق.

(1)

شفاء العليل (1/ 193).

ص: 123

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

مراتب القدر الأربعة هي الدعائم التي يقوم عليها الاعتقاد الصحيح في هذا الباب العظيم الشريف، فمن أتى بها كاملة فاز وأنجح، ومن لا؛ خسر وهلك، ولا يقتصر تحقيقها على مجرد الإثبات دون تحقيق ما حوته من معان ودلالات.

وإثباتها كاملة على الوجه الصحيح لم يتحقق لغير أهل السنة والجماعة، وسواهم ما بين ناف لها كلها، أو ناف لبعضها، أو مثبت لها على هواه ورأيه دون ما دلت عليه في حقيقة الأمر، على ما سيأتي بيانه.

فذهب القدرية الأوائل إلى إنكار مراتب القدر كاملة؛ فأنكروا العلم السابق وزعموا أن الأمر أُنُف، وهم الذين ظهروا في أواخر عهد الصحابة فتبرؤوا منهم وردُّوا بدعتهم.

وكان أول من قال بهذا القول: معبد الجهني بالبصرة، كما في قصة يَحيى بن يعمر

(1)

مع ابن عمر، وفيها قوله:"أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف"، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما:"فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه؛ ما قَبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"

(2)

.

(1)

هو: أبو سليمان ويقال أبو عدي، يحيى بن يعمر الوشقي العدواني البصري، من علماء التابعين، مات سنة (129 هـ) وقيل غير ذلك.

انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 441)، وتهذيب التهذيب (4/ 401).

(2)

رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى (1/ 36) ح (8).

ص: 124

وممن رد عليهم من الصحابة كذلك: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى، وجابر، وأنس، وأبي هريرة، وعقبة بن عامر الجهني، وأقرانهم رضي الله عنهم، وكانوا يوصون الناس بأن لا يسلموا عليهم، ولا يعودوهم إن مرضوا، ولا يصلوا عليهم إذا ماتوا

(1)

.

وهؤلاء هم غلاة القدرية، وقد اتفق سلف الأمة على تكفيرهم

(2)

.

وإنكارهم للعلم متضمن لإنكارهم للمراتب الأخرى، إذ لا كتابة بدون علم، ولا مشيئة ولا خلق.

أما الكتابة فإنما تكون لشيء معلوم، فإذا عدم عدمت من باب أولى.

وأما المشيئة فإنها لا تكون إلا بعد العلم بالمراد، فإذا لم يكن المراد معلومًا فلا مشيئة له عندئذ.

وأما الخلق، فإن الخلق يستلزم العلم بكيفية المراد، وإرادة الخالق له، فإذا انتفى العلم انتفى الخلق لانتفاء العلم به ولانتفاء إرادته أيضًا، فنفي العلم نفي للكتابة ونفي للمشيئة وهو نفي للخلق من باب أولى

(3)

.

ولذلك قال وكيع بن الجراح رحمه الله: "القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وإن الله لم يقدر الكتابة والأعمال"

(4)

، فجمع رحمه الله بين إنكارهم للعلم،

(1)

انظر: التبصير في الدين (21).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 491)، درء التعارض (9/ 396)، شفاء العليل (1/ 130) و (2/ 786).

(3)

وانظر ما تقدم ص (110).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (7/ 385)، ورواه ابن بطة في الإبانة (2/ 261) رقم (1878) بلفظ:"القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وإن الله لم يقدر المصائب".

ص: 125

وإنكارهم للكتابة وخلق الأعمال.

ويؤيد هذا أن في حكاية أصحاب المقالات كالبغدادي والإِسفْراييني

(1)

والشهْرسْتاني

(2)

(3)

لمذهبهم ما يتبين منه أنهم خالفوا في مسائل أخر هي أصول في باب القدر، سيأتي التنبيه عليها في موضعها.

فلم تنحصر مخالفتهم في إنكار العلم، بل شملت مسائل أخرى، فهذا يؤيد أن إنكارهم للعلم إنكار للمراتب الثلاث الأخرى، وإنكارهم للمراتب كلها نقض لباب القدر عن آخره، والله المستعان.

ويشبه مقالةَ هؤلاء - بل هي شر منها

(4)

-: مقالةُ الفلاسفة الذين ذهبوا إلى إنكار علم الله سبحانه بالجزئيات، وحصروا علمه بالكليات فقط، أو قالوا: علمه بالجزئيات كلي، وستأتي مقالتهم مع ردها مستوفاة في المبحث القادم إن شاء الله.

(1)

هو: أبو المظفر، طاهر بن محمد الإسفراييني، ثم الطوسي، الشافعي، من كتبه:"التفسير"، و"التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين"، توفي سنة 471 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 401)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 261).

(2)

هو: أبو الفتح، محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني الشافعي الأشعري، ولد سنة (467 هـ)، قال ابن أرسلان:"عالم كيِّس متفنن، ولولا ميله إلى أهل الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد، لكان هو الإمام"، من كتبه:"نهاية الإقدام في علم الكلام"، و"الملل والنحل"، مات بشهرستانة سنة (548 هـ).

انظر: وفيات الأعيان (4/ 273)، وسير أعلام النبلاء (20/ 286).

(3)

انظر: الفرق بين الفرق (35)، والتبصير في الدين (21)، والملل والنحل (40).

(4)

انظر: درء التعارض (9/ 397).

ص: 126

وأما القدرية المعتزلة ومن وافقهم؛ فهم في مقابل الأوائل متوسطة، وهم الذين يثبتون مرتبتي العلم والكتابة، وينفون مرتبتي المشيئة والخلق.

فأنكروا أن يكون الله سبحانه خالقًا لشيء من أفعال الأحياء، من البشر أو الدواب أو الهوام أو غير ذلك، هذا مما اتفق عليه سائر المعتزلة

(1)

.

بل لم يكتفوا بذلك حتى أنكروا قدرته عليها

(2)

، وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها

(3)

.

وأنكروا كذلك إرادته لما وقع من المعاصي: فاجتمع عندهم فيها أمران: عدم خلقه سبحانه لها وعدم مشيئتها.

قال القاضي عبْد الجبَّار

(4)

: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه خالقها ومحدثها؛ فقد عظم خطؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلَيْن"

(5)

.

(1)

وهذا في الأفعال المباشرة، وأما في الأفعال المتولدة فاختلفوا فيما بينهم، وسيأتي تقسيمهم هذا في موضعه من البحث إن شاء الله.

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (104)، والفصل (5/ 57).

(3)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 274).

(4)

هو: أبو الحسن، عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل الهمذاني الشافعي، شيخ المعتزلة، ولي قضاء القضاة بالري، من كتبه:"المغني في أبواب التوحيد والعدل"، و"تنزيه القرآن عن المطاعن"، مات سنة (415 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (12/ 414)، وسير أعلام النبلاء (17/ 244).

(5)

المغني في أبواب التوحيد والعدل (8/ 3).

ص: 127

وقال ابن المرتضى

(1)

: "وأجمعوا أن فعل العبد غير مخلوق فيه"

(2)

.

وقال القاضي عبد الجبار في بيان أن الله لم يشأ ما وقع من العباد من المعاصي: "فصل في أنه تعالى يريد جميع ما أمر به ورغَّب فيه من العبادات، ولا يريد شيئًا من القبائح بل يكرهها"

(3)

، وذلك أن إرادة القبائح قبيحة، والله منزه عن القبيح؛ فوجب ألا يشاءه

(4)

.

فلما كانت المشيئة عندهم مرادفةً للمحبة، لم يمكنهم القول بأن الله شاء المعاصي، إذ معلوم أن الله لا يحب المعاصي، فنفوا مشيئته لها.

ونفيهم لمشيئته لها نفي - في حقيقة الأمر - لخلقها؛ إذ لا خلق بلا مشيئة؛ فلو خلقها لكان شائيًا لها - أي محبًّا بزعمهم -، والله لا يحب المعاصي، وبالعكس؛ فنفي الخلق نفي للمشيئة إذ لو شاءها الله لوجدت، فكل ما شاءه الله فلا بد أن يوجد، فنفي خلقها نفي لإرادتها.

فهذه جملة مقالتهم في هذا الباب، وهي تدور على أمرين:

الأول: نفي خلق الله سبحانه لأفعال العباد.

(1)

هو المهدي، أحمد بن يحيى بن المرتضى بن المفضل الحسني، من سلالة الهادي إلى الحق، من أئمة الزيدية باليمن، ولد في ذمار سنة (775 هـ)، من كتبه:"نكت الفرائد" و"الأزهار في فقه الأئمة الأخيار"، توفي سنة (840 هـ) في جبل حجة غربي صنعاء.

انظر: البدر الطالع (1/ 155)، والأعلام (1/ 269).

(2)

طبقات المعتزلة (8).

(3)

المغني في أبواب التوحيد والعدل (6/ 218).

(4)

المصدر السابق (6/ 220).

ص: 128

الثاني: نفي مشيئة الله للمعاصي منها، لأن المشيئة عندهم والمحبة مترادفتان.

وأما المرتبتان الأوليتان؛ فهم يثبتونهما من حيث العموم، ولهم مخالفات في ضمن هذا الإثبات.

وما يدل على إثبات العلم من كتبهم قول القاضي عبد الجبار: "وجملة القول في ذلك أنه يلزمه [أي المكلف] أن يَعلمَ أنه تعالى كان عالمًا فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تُعلم عليها"

(1)

.

وقال أبو الحَسن الأشْعري رحمه الله

(2)

: "وأجمعت المعتزلة على أن الله لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا"

(3)

.

وأما الكتابة؛ فقال القاضي عبد الجبار: "وقوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53]: يدل على أن كل ذلك يكتبه الحفظة، ثم يقع التمييز عند المحاسبة، ويحتمل أن يريد أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، كما كتب الله الآجال والأرزاق"

(4)

.

(1)

شرح الأصول الخمسة (160).

(2)

هو: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم الأشعري اليماني البصري، إمام الأشعرية، كان معتزليًّا، ثم تحول إلى مذهب ابن كلَّاب، ثم تركه وصار على مذهب السلف، من كتبه:"مقالات الإسلاميين"، و"اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع"، مات ببغداد سنة (324 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (13/ 260)، وسير أعلام النبلاء (15/ 85).

(3)

مقالات الإسلاميين (1/ 157).

(4)

انظر: تنزيه القرآن (408)، وانظر:(377) منه.

ص: 129

وممن قررها أيضًا: أبو بكر الأصَم

(1)

، والزمخشري

(2)

كما في مواضع عديدة من تفسيره

(3)

.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه روي عن عمرو بن عبيد في كتابة المقادير روايتان

(4)

، والرواية الثانية هي ما رواه الدارقطني عن معَاذ بن معَاذ

(5)

قال: "كنت جالسًا عند عمرو بن عبيد، فأتاه رجل فقال له: يا أبا عثمان، سمعت اليوم بالكفر! فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشم الأَوقص

(6)

يقول: إن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، وقوله:

(1)

انظر: مفاتيح الغيب للرازي (19/ 66 - 67)، وهو: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي، له "تفسير"، و"كتاب خلق القرآن"، مات سنة (201 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 402)، ولسان الميزان (5/ 121).

(2)

هو: أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي المعتزلي، ولد في زمخشر سنة (467 هـ)، كان داعية إلى الاعتزال، من كتبه:"الكشاف"، و"أساس البلاغة"، مات ليلة عرفة سنة (538 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 151)، وبغية الوعاة (2/ 279).

(3)

انظر مثلًا: (2/ 221 و 342)، و (3/ 356 - 357)، و (4/ 86).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (7/ 385).

(5)

هو: أبو المثنى، معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان التميمي العنبري البصري القاضي الحافظ، قال الإمام أحمد:"معاذ بن معاذ إليه المنتهى في التثبت"، مات بالبصرة سنة (196 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (15/ 165)، وسير أعلام النبلاء (9/ 54).

(6)

هو: هاشم الأوقص أو ابن الأوقص، كان موافقًا لعمرو بن عُبَيد في بدعته، قال البخاري والجوزجاني: ضال غير ثقة.

انظر: لسان الميزان (8/ 315).

ص: 130

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] ليسا في اللوح المحفوظ، والله تعالى يقول:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4] فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان؟ قال: فسكت عمرو بن عبيد ساعةً، ثم أقبل عليه فقال: لو كان الأمر على ما تقولون ما كان على أبي لهب من لوم، وما كان على الوحيد من لوم"

(1)

.

فهذه الرواية تظهر جليًّا إنكار عمرو بن عبيد للكتابة.

وبهذا يتبين أن المعتزلة ينكرون مرتبتي المشيئة والخلق، ويثبتون العلم والكتابة - على مخالفة لهم في حقيقة هذا الإثبات، والله أعلم.

وأما الأشاعرة؛ فيخالفون منهج السلف في كثير من التفصيلات المتعلقة بمراتب القدر، إلا أنهم يثبتون هذه المراتب على وجه العموم.

فنصوص الأشعري - إمام المذهب - وما حكاه من إجماعات للسلف تدل على هذا؛ يقول في رسالته "رسالة إلى أهل الثغر": "باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول:. . . وأجمعوا على أنه تعالى قد قدَّر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثبت في اللوح المحفوظ جميعَ ما هو كائن منهم إلى يوم يبعثون. . . وأجمعوا على أن الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم، وإرادته لهم. . . وأجمعوا على أنه خالق لجميع الحوادث وحده لا خالق لشيء منها سواه. . . وأجمعوا على أن جميع ما عليه سائر الخلق من تصرفهم قد قدره الله عز وجل قبل خلقه لهم، وأحصاه في اللوح المحفوظ لهم، وأحاط علمه به وبهم، وأخبر بما يكون منهم، وأن أحدًا لا يقدر على تغيير

(1)

أخبار عمرو بن عبيد (87) رقم (3).

ص: 131

شيء من ذلك، ولا الخروج عما قدره الله تعالى وسبق علمه به، وبما يتصرفون في علمه وينتهون إلى مقاديره، فمنهم شقي وسعيد"

(1)

.

فاشتمل كلامه على إثبات المراتب كلها.

ومن ذلك قول البَيجُوري

(2)

: "فالقضاء والقدر راجعان لما تقدم من العلم والإرادة وتعلق القدرة"

(3)

، وتعلق القدرة عندهم معناه الإيجاد

(4)

، فهذا نص منه على العلم والإرادة والخلق.

ونص الرازي على الكتابة بقوله في تقرير الدلائل الإخبارية على صحة القول بالقضاء والقدر: "الحجة الثلاثون: عن أبي ظَبْيان

(5)

عن ابن عباس قال: (أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)

(6)

، وجه الاستدلال به: أنه دخل في هذا المكتوب جميع أفعال العباد"

(7)

.

(1)

رسالة إلى أهل الثغر (247 و 252 و 254 و 265 - 266).

(2)

البيجوري: أو البيجوري،: إبراهيم بن محمد بن أحمد الأشعري، شيخ الجامع الأزهر، من فقهاء الشافعية، من كتبه:"تحفة المريد"، و"تحقيق المقام"، مات سنة (1277 هـ).

انظر: الأعلام (1/ 71)، ومعجم المؤلفين (1/ 57).

(3)

حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد (189).

(4)

انظر: المواقف للإيجي (152).

(5)

في المطبوع: "أبو طهمان" وهو خطأ، وأبو ظَبْيان هو حصين بن جندب بن الحارث الجَنْبي، أبو ظَبيان الكوفي، ثقة من الثانية. انظر: تقريب التهذيب (1375)، وتهذيب التهذيب (1/ 441).

(6)

رواه من هذا الطريق: البيهقي: كتاب السير، باب مبتدأ الخلق (9/ 3)، وقد تقدم تخريجه ص (37) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا.

(7)

المطالب العالية (9/ 244)، وانظر:(9/ 219) منه.

ص: 132

واستدل في الحجة العاشرة بحديث: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)

(1)

مقرًّا لما تضمنه من كتابة المقادير

(2)

.

لكنه ذهب إلى أن الإيمان باللوح المحفوظ وكتابة المقادير فيه غير واجب، فقال:"لأن المسلمين أجمعوا على أن العلم بوجود اللوح المحفوظ، وبأن الله أحدث فيه رقومًا خاصة دالة على أحوال هذا العالم؛ ليس من شرائط الإيمان، ولا من واجباته"

(3)

.

وما ذهب إليه واضح البطلان من وجهين:

الأول: أن النصوص دلت بطريق القطع على وجوب الإيمان بالقدر، ومن الإيمان بالقدر - باعترافه هو - الإيمان بأن الله سبحانه كتب في اللوح المحفوظ مقادير العباد، فهو واجب.

الثاني: أن الإيمان باللوح وكتابة المقادير فيه من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها والتصديق لها، والأشاعرة أنفسهم يجعلون باب السمعيات - الذي من جملته اللوح - مما يجب الإيمان به.

وأما الماتريدية؛ فقد ذهبوا إلى إثبات المراتب من حيث العموم دون التنصيص على أن هذه هي مراتب القدر، مع وجود المخالفة في حقيقة الإثبات لبعض المراتب.

ففي كلام أئمتهم إثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ومن ذلك قول أبي

(1)

تقدم تخريجه ص (112).

(2)

المطالب العالية (9/ 230)، وانظر:(9/ 231) منه.

(3)

المصدر السابق (9/ 221).

ص: 133

منصور الماتريدي

(1)

في كتابه "التوحيد": "ثم إذا كان الله جل ثناؤه موصوفًا بالعلم والقدرة والجبروت والحياة لذاته، لإحالة احتماله الأغيار"

(2)

.

وكذلك هم ممن يثبت اسم الله سبحانه "العليم" وما تضمنه من صفة "العلم".

قال الكَمال بن الهُمام

(3)

: "ثم إنه سميع بسمع وبصير بصفة تسمى بصرا، وكذا عليم بعلمٍ، وقدير بقدرة ومريد بإرادة، لأنه تعالى أطلق على نفسه هذه الأسماء خطابًا لمن هو من أهل اللغة، والمفهوم من اللغة من عليم: ذات له علم، بل يستحيل عندهم عليم بلا علم، كاستحالته بلا معلوم، فلا يجوز صرفه عنه إلا لقاطع عقلي يوجب صرفه"

(4)

.

ولأبي منصور كلام طويل في تقرير خلق الأفعال في كتابه "التوحيد"

(5)

.

وقال البزدوي

(6)

: "قال أهل السنة والجماعة: إن الحوادث كلها من

(1)

هو: أبو منصور، محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، من أئمة المتكلمين إمام المذهب الماتريدي، من كتبه:"التوحيد"، و"تأويلات أهل السنة"، مات سنة (333 هـ).

انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 130)، والفوائد البهية (195).

(2)

التوحيد (300).

(3)

هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي ثم الإسكندري الحنفي، كمال الدين، المعروف بابن الهمام، ولد بالإسكندرية، من كتبه:"التحرير"، و"المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة"، مات سنة (861 هـ).

انظر: الضوء اللامع (8/ 127)، وشذرات الذهب (9/ 437).

(4)

المسايرة مع شرحها المسامرة (68 - 69).

(5)

انظر: (305 - 318) منه.

(6)

هو: أبو الحسن، علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي الماتريدي شيخ الحنفية، =

ص: 134

الأعيان والأفعال بمشيئة الله وإرادته وحكمه، خيرًا كان أو شرا"

(1)

.

وقال أيضًا: "قال أهل السنة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ومفعولة، والله تعالى هو موجدها ومحدثها ومنشئها"

(2)

.

وقال أبو المعين النَّسفي

(3)

في ذكر مرتبتي المشيئة والخلق: "وإذا ثبت أن الله تعالى هو الذي يتولى تخليق أفعال العباد خيرها وشرها، طاعتها ومعصيتها، والله تعالى مختار في تخليق ما يخلق غير مضطر فيه، ولا اختيار بدون الإرادة؛ ثبت أن ما يوجد من أفعال العباد كلها بإرادة الله تعالى، وما لم يوجد منها؛ لم يكن بإرادة الله تعالى، إذ لم يخلقه. ثم حاصل المذهب أن كل حادث حدث بإرادة الله تعالى على أي وصف كان"

(4)

.

= صاحب الطريقة في المذهب، ولد في حدود سنة (400 هـ)، من كتبه:"المبسوط"، و"أصول البزدوي"، مات سنة (482 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 602)، والجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 594).

(1)

أصول الدين (52)، وانظر:(51) منه أيضًا.

(2)

المصدر السابق (104).

(3)

هو: أبو المعين، ميمون بن محمد بن محمد بن معبد بن مكحول النسفي الحنفي، من كتبه:"بحر الكلام"، و"تبصرة الأدلة"، مات سنة (508 هـ).

انظر: تاريخ الإسلام (11/ 119)، والجواهر المضية في طبقات الحنفية (3/ 527).

(4)

التمهيد في أصول الدين (112)، وعقد لهذا الكلام وما بعده فصلًا بعنوان:"فصل في أن المعاصي بإرادة الله تعالى ومشيئته"، كما عقد فصولًا أخرى لبيان خلق أفعال العباد هي:"فصل في إثبات خلق أفعال العباد"، وفصل في أن المتولدات مخلوقة لله تعالى"، و"فصل في القضاء والقدر وثبوت كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى" و"فصل في الهدى والضلال وثبوت خلق الأفعال"، و"فصل في إبطال القول بالأصلح وثبوت خلق الأفعال وكون =

ص: 135

وفي جملة من كلام الكمال بن الهمام يجد القارئ إثباتهم للعلم والمشيئة والخلق، قال: "الركن الثاني: العلم بصفات الله تعالى، ومداره على عشرة أصول، حاصل ستة منها: العلم بأنه تعالى قادر حي مريد، لما ثبت وحدانيته في الألوهية

(1)

؛ ثبت استناد كل الحوادث إليه، وهو مشَاهَدٌ منها كمال الإحسان، ويستلزم ذلك قدرته تعالى وعلمه بما يفعله ويوجده، وينضم إلى هذا أنه هو الموجد لأفعال المخلوقات، فيلزمه علمه بكل جزئي جزئي"

(2)

.

وأما مرتبة الكتابة، فنصوا عليها أيضًا، ومن ذلك قول الناصري:"وقد كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ جميع ما يكون وجميع ما تفعل العباد قبل خلقهم"

(3)

.

وقال صاحب "مميزات مذهب الماتريدية": "وكون أفعال العباد بعلم الله تعالى وإرادته وتقديره وكتبه في اللوح؛ لا يستلزم كون صدورها من العباد بالجبر"

(4)

، وهذا نص منه على العلم والكتابة والمشيئة.

وبهذا يتبين أن الماتريدية يثبتون مراتب القدر من حيث العموم، ومخالفتهم هي في جزئيات تتعلق ببعضها، سيأتي الكلام عليها في مواضعها إن شاء الله.

= الكفر والمعاصي مخلوقة لله تعالى. . .".

(1)

هذا من خلط المتكلمين بين الربوبية والألوهية.

(2)

المسايرة مع شرحها المسامرة (58 - 60)، وقد نقل زين الدين قاسم الحنفي في حاشيته عليها اتفاق "جمهور العقلاء على أن الله تعالى عالم بما يجري في ملكه".

(3)

النور اللامع (ل 110)، بواسطة: الماتريدية دراسةً وتقويمًا لأحمد عوض الله اللهيبي.

(4)

مميزات مذهب الماتريدية عن العقائد الغيرية ضمن مجموع (ل 75)، بواسطة المصدر السابق.

ص: 136

‌المبحث الرابع: "علم الله سبحانه شامل لكل شيء"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 137

المبحث الرابع: "علم الله سبحانه شامل لكل شيء"

كان الكلام في القاعدة السابقة عن مراتب القدر - ومنها العلم - ووجوب الإيمان بها، وسيكون الكلام في هذه القاعدة في تفصيل ما يتعلق بالعلم من حيث شموله لكل شيء.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالعلم يتناول الموجود والمعدوم، والواجب والممكن والممتنع، وما كان وما سيكون، وما يختاره العالِم وما لا يختاره"

(1)

.

وقال رحمه الله: "وذلك أن الله يعلم الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه، وإحاطته بكل معلوم، وأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض؛ بل قد أحاط بكل شيء علمًا وأحصى كل

(1)

شرح الأصبهانية (679).

(2)

جامع المسائل (4/ 403).

ص: 139

شيء عددًا"

(1)

.

وقال أيضًا: "العلم أعم الصفات تعلقًا بمتعلقه وأوسعها؛ فإنه يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل، والجائز والموجود والمعدوم. . . فالعلم أوسع وأعم وأشمل في ذاته ومتعلَّقه"

(2)

.

وقال السفاريني رحمه الله: "فيجب شرعًا أن يُعلم أن علم الله غير متناه من حيث تعلقه. . . فهو شامل لجميع المتصوَّرات سواء كانت واجبة كذاته وصفاته، أو مستحيلة كشريك له تعالى، أو ممكنة كالعالم بأسره، الجزيئات من ذلك والكليات، على ما هي عليه من جميع ذلك"

(3)

.

(1)

شفاء العليل (2/ 528).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 300).

(3)

لوامع الأنوار (1/ 157).

ص: 140

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على شمول علم الله سبحانه وتعالى الكتاب والسنة وإجماع السلف.

فمن أدلة الكتاب:

قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين} [الأنعام: 59].

وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

ومن أدلة السنة:

حديث ربعي بن حراش رحمه الله عن رجل من بني عامر: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟. . . الحديث، وفيه قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: فهل بقى من العلم شيء لا تعلمه؟ قال: (قد علم الله عز وجل خيرًا، وإنَّ من العلم ما لا يعلمه إلا الله؛ الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ

ص: 141

اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34])

(1)

.

وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. . .) الحديث وفيه: (فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حَرْف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر)

(2)

.

حديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علَّام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. ويسمي حاجته)

(3)

.

فذكر علمه العلم مقرونًا بوصفه بأنه علام الغيوب، وهذا يعم كل ما

(1)

رواه أحمد (38/ 206) ح (23127) من طريق منصور عن ربعي به، وهذا إسناد صحيح. قال الألباني في الصحيحة (6/ 478):"وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين غير الرجل العامري، وهو صحابي فلا يضر الجهل باسمه".

(2)

رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام (4/ 154) ح (3401)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام (4/ 1847) ح (2380).

(3)

رواه البخاري: كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة (8/ 81) ح (6382).

ص: 142

صح أن يسمى علمًا، ثم ذكر علمه بالشيء المعين.

وأما الإجماع، فممن نقله:

- المزني رحمه الله، قال - بعد أن ذكر جُمَلًا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنها:"أحاط علمه بالأمور، وأنفذ في خلقه سابق المقدور، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، فالخلق عاملون بسابق علمه ونافذون لما خلقهم له من خير وشر" -: "هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضا"

(1)

.

- الأشعري رحمه الله، قال: "وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجَهمية

(2)

والمعتزلة والحرورية على أن لله علمًا لم يزل، وقد قالوا: علم الله لم يزل، وعلم الله سابق في الأشياء، ولا يمتنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث، ونازلة تنزل: كل هذا سابق في علم الله، فمن جحد أن لله علمًا خالف المسلمين، وخرج به عن اتفاقهم"

(3)

.

- شيخ الإسلام رحمه الله، قال - بعد أن ساق آيات في تعلق علم الله

(1)

شرح السنة (79 و 88).

(2)

هم أتباع جهم بن صفوان السمرقندي، من أبرز عقائدهم: تعطيل الأسماء والصفات، والقول بخلق القرآن، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار، والقول أن الإيمان هو المعرفة فقط، انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 214)، الفرق بين الفرق (186)، والفصل (5/ 73)، والملل والنحل (1/ 97)، إلا أن هذه التسمية صارت تطلق على كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة. انظر: مجموع الفتاوى (12/ 119)، و (14/ 352).

(3)

الإبانة عن أصول الديانة (42).

ص: 143

بالمخلوقات بعد وجودها -: "هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون"

(1)

.

هذه بعض أدلة العلم، وبالجملة فكل دليل على القدر بصفة عامة، أو على مرتبة من مراتبه؛ فهو دليل على العلم وشموله، لأن مراتب القدر كلها تدل على العلم كما تقدمت الإشارة إليه

(2)

.

(1)

درء المعارض (9/ 396).

(2)

انظر ما تقدم ص (110).

ص: 144

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

سبق الكلام على مرتبة العلم بصورة مجملة، وسيكون الكلام فيه في هذه القاعدة مفصلًا من حيث شموله لكل شيء.

والعلم صفة من الصفات الذاتية الفعلية لله عز وجل، وهي من الصفات المعنوية المعلومة بالعقل، وتتعلق بكل معلوم على التفصيل

(1)

، ومن أسمائه عز وجل العليم.

وعلم الله سبحانه وتعالى علم كامل يليق بكمال الله عز وجل، علم لم يُسبق بجهالة، ولا يلحقه نسيان، ولا يعتريه نقص بحال من الأحوال.

وشمول علم الله عز وجل يمكن ترتيبه في أمور:

الأول: شمول علمه سبحانه وتعالى لما يتعلق به عز وجل: فأسماء الرب وصفاته، وكذا ذاته؛ معلومة له.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره، وعلمه بنفسه مستلزم لعلمه بلوازم ذاته"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فذات الرب سبحانه وصفاته وأسماؤه معلومة له"

(3)

.

وقال السفاريني رحمه الله: "فهو شامل لجميع المتصورات؛ سواء كانت واجبة كذاته وصفاته. . ."

(4)

.

(1)

انظر: الصواعق المرسلة (4/ 1219).

(2)

درء التعارض (10/ 117).

(3)

مفتاح دار السعادة (1/ 300).

(4)

لوامع الأنوار (1/ 157).

ص: 145

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته، وبما سوى ذلك"

(1)

.

وقال أيضًا: "فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة. . ."

(2)

.

الثاني: شمول علم الله سبحانه وتعالى لما كان في الماضي: ومعناه أن الله عز وجل قد علم ما كان في الماضي من دقيق الأمور وجليلها، فلم تخف عليه منها خافية، سواء فيما يتعلق بهذا العالم وما جَرَى فيه، أو ما سبقه مما لا يعلمه إلا الله، وسواءٌ ما يتعلق بنفسه سبحانه وتعالى، أو ما يتعلق بمخلوقاته.

ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51، 52].

فقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} هو جواب من موسى عليه السلام لفرعون لما احتج عليه بشرك الأمم الماضية، أي: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم به.

وقوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، أي: لا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئًا؛ فأثبت له كمال العلم وإحاطته بكل شيء ابتداءً، ثم نفى عنه النقص والنسيان؛ فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان: أحدهما عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنَزَّه نفسه عن ذلك

(3)

.

(1)

فتاوى ابن عثيمين (8/ 139).

(2)

المصدر السابق (8/ 149 - 150).

(3)

انظر: تفسير ابن كثير (9/ 344).

ص: 146

الثالث: شمول علم الله سبحانه وتعالى لما سيكون في المستقبل: ومعناه أن الله عز وجل علم علمًا أزليًّا بما سيقع فيما سيأتي من أزمان؛ سواء فيما يتعلق بالدنيا وما تصير إليه، وما يقع فيها من أمور إلى حين انقضائها وزوالها، أو ما يتعلق بالآخرة، إلى ما لا نهاية له.

وسواءٌ في كل ذلك ما يتعلق بنفسه سبحانه وتعالى، أو ما يتعلق بمخلوقاته.

ويدل عليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].

يعني: إلا في أم الكتاب

(1)

.

فأخبر سبحانه وتعالى أن كتابته للمصيبة سابقة لوقوعها، والكتابة لا تكون إلا عن علم، فدل على أن علمه بها متقدم على وقوعها.

ويدل عليه كذلك حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)

(2)

.

وكل دليل على تقدُّم الكتابة فهو دليل على العلم السابق بما سيكون - لأن الكتابة لا تكون إلا عن علم كما تقدم آنفًا -، سواء كانت الكتابة الأزلية أو غيرها، مع كون الكتابة الأولى كافية في الدلالة على ذلك لأن ما بعدها تفصيل منها

(3)

.

ومما يدل عليه الآيات والأحاديث التي جاءت في وصف المغيبات

(1)

انظر: تفسير الطبري (22/ 418).

(2)

تقدم تخريجه ص (112).

(3)

انظر: ما تقدم ص (110).

ص: 147

المتعلِّقَة بيوم القيامة، وما يتبع ذلك من نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، ونحو ذلك، ومن ذلك:

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُم رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَة وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين} [الطور: 17 - 20].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 74 - 78].

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة آخر من يدخل الجنة

(1)

، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في قصة صاحب البطاقة

(2)

.

وكذا النصوص التي جاءت في وصف ما سيكون من الفتن وأشراط الساعة؛ كخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم ونحو ذلك

(3)

.

(1)

رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا (1/ 174) ح (310).

(2)

رواه الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (4/ 379) ح (2639)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (5/ 670) ح (4299) كلاهما من طريق الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهذا إسناد صحيح، وصححه الحاكم (1/ 6) وقال:"على شرط مسلم"، والألباني في الصحيحة ح (135).

(3)

قال شيخ الإسلام رحمه الله جامع الرسائل (1/ 183): "فأما إثبات علمه وتقديره للحوادث قبل كونها ففي القرآن والحديث والآثار ما لا يكاد يحصر بل كل ما أخبر الله به قبل كونه =

ص: 148

الرابع: شمول علم الله سبحانه وتعالى لما لا يقع: ويدخل فيه الجائز الذي علم الله أنه لا يقع، والممتنع.

فمن أدلة الأول:

قوله سبحانه وتعالى عن أهل النار: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].

فأخبر سبحانه وتعالى عن علمه بهؤلاء الكفار بأنه لو ردهم إلى دار التكليف مرة أخرى ليستدركوا ما فاتهم من الإيمان والعمل؛ أنهم لا يؤمنون، بل يرجعون إلى سالف عهدهم من الكفر والمخالفة

(1)

، مع أن رجوعهم إلى دار الدنيا أمر قد أخبر سبحانه وتعالى بأنه لا يقع، كما في قوله سبحانه وتعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37].

وكذا قوله عن المشركين: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].

أي: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فلن يؤمنوا، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه لو أفهمهم ذلك لتولوا عن الله وعن رسوله، وهم معرضون عن الإيمان به، معاندون للحق بعد العلم به

(2)

.

= فقد علمه قبل كونه".

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (3/ 250).

(2)

انظر: تفسير الطبري (13/ 463)، وانظر كذلك: شرح الطحاوية (1/ 132).

ص: 149

ومن أدلة الثاني:

قوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].

أخبر جل وعلا عن علمه بما ينتج عن هذا الأمر المستحيل فيما لو وقع، وهو فساد أهل السماوات والأرض

(1)

، مع كونه سبحانه وتعالى قد أخبر عن استحالة وقوعه، بإخباره سبحانه بتفرده بالإلهية وانتفاء الشريك معه، كما قال عز وجل:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65].

وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].

أي: لو كان مع الله سبحانه وتعالى آلهة كما يزعمه المشركون؛ - وهذا ممتنع غير واقع - إذن لابتغت تلك الآلهة القربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى إليه

(2)

.

الخامس: شمول علم الله سبحانه وتعالى للجُزئيَّات

(3)

: ومعناه أن علم الله عز وجل لا يقتصر على كليات الأمور؛ بل هو شامل للتفصيلات والدقائق أيضًا، فما من أمر عظيم ولا حقير، كبير ولا صغير؛ إلا والله يعلمه، ويعلم أدق تفصيلاته في ذاته وصفاته وأحواله، وجميع ما يتعلق به.

(1)

انظر: تفسير الطبري (16/ 246).

(2)

انظر: المصدر السابق (14/ 603).

(3)

الجُزْئِي: ما يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة كزيد، وبإزائه الكُّلِّيّ، وهو: ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه كالإنسان، انظر: التعريفات للجرجاني (79 و 195)، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا (1/ 400) و (2/ 239).

ص: 150

ويدل على ذلك: النصوص التي أخبرت بعموم علمه بالأشياء، وهذا العموم يقتضي علمه بالجزئيات، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].

وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

ويدل عليه كذلك: النصوص الواردة في كتابة المقادير؛ مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته؛ كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجُزئية المعيَّنة، فتقدير الله يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات

(1)

.

ومما يدل على علمه بالجزئيات: خلقه سبحانه وتعالى للأشياء، فإن الخلق يستلزم علمه بتفاصيل المخلوق.

قال عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79].

فأتبع سبحانه وتعالى احتجاجه بالنشأة الأولى على قدرته على الإعادة بإخباره بشمول علمه لأن الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه.

وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} عقِب ذلك فيه فائدة أخرى؛ وهي

(1)

انظر: شرح الطحاوية (2/ 359).

ص: 151

إخباره بعلمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال

(1)

، فبعلمه بتفاصيلها مع قدرته سبحانه وتعالى يعيدها مرة أخرى.

قال السعدي رحمه الله: "وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي على

(2)

ثبوت علمه؛ وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر، فإن في ذلك دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته"

(3)

.

وقال سبحانه وتعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذه الآية تدل على كونه عالمًا بالجزئيات من طرق:

أحدها: من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق.

والثاني: من جهة كونه في نفسه لطيفًا خبيرًا، وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وخفيها، ثم يقال: اللطيف الخبير عِلمه بنفسه أولى من علمه بغيره، وعلمه بنفسه مستلزم لعلمه بلوازم ذاته - كما تقدم - فقد تضمنت الآية هذه الطرق الثلاثة"

(4)

.

ومما يدل على ذلك أيضًا أن الله سبحانه سمى ووصف نفسه بما يدل على علمه بتفاصيل الأمور وخفاياها وخباياها.

ومن ذلك: تسميته نفسه باسم الخبير واللطيف، ووصفه نفسه بما

(1)

انظر: درء التعارض (1/ 33).

(2)

في المطبوع "إلى" وهو خطأ.

(3)

تفسير السعدي (1/ 497).

(4)

درء التعارض (10/ 117)، وانظر:(10/ 54) منه.

ص: 152

تضمناهما من المعاني وهي اللُّطف والخبرة.

ومعنى الخبير: "العالم بكُنْه الشيء، المطَّلع على حقيقته، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] "

(1)

.

والخبير بمعنى العليم، لكن إذا أضيف العلم إلى الأمور الباطنة الخفية سُمِّي خبرة، وسمي صاحبه خبيرًا

(2)

.

وقد يقرن الله عز وجل بينه وبين اسم "العليم"، كما في قوله سبحانه وتعالى:{قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]. فحينئذ يكون المعنى: "الذي أحاط علمُه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء"

(3)

.

وأما اللطيف فله معنيان:

أحدهما: ما نحن بصدده؛ وهو الذي لا تخفى عليه خافية، بل أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة، وهو بمعنى الخبير.

الثاني: اللطيف بعباده المؤمنين، الذي يوصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه، من طرق خفية عنهم لا يشعرون بها، وهو بمعنى الرؤوف

(4)

.

(1)

شأن الدعاء (63).

(2)

المقصد الأسنى (76).

(3)

تفسير السعدي (1/ 24).

(4)

انظر: المصدر السابق (1/ 26).

ص: 153

قال العلامة ابن القيم رحمه الله

(1)

:

وهو اللطيف بعبده ولعبده

واللُّطْف في أوصافه نوعانِ

إدراك أسرار الأمور بخبرةٍ

واللُّطْف عند مواقع الإحسانِ

فيُريك عزَّته ويُبدي لُطْفَه

والعبد في الغَفَلات عن ذا الشانِ

ويقرن الله سبحانه وتعالى بينه وبين الخبير، كما في قوله تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ومعناه عندئذ:"الذي لطف علمه بما في القلوب؛ الخبير بما تُسِره وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية"

(2)

.

ومن الأدلة على علمه سبحانه وتعالى بالجزئيات: إخباره سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة من كتابه بتفاصيل الأمور المعيَّنة، كإخباره عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، وما آل إليه حالهم.

ومن الأدلة أيضًا: أنه لو لم يكن عالمًا بها لكان جاهلًا، والجهل نقص يتنَزَّه الله عنه، فوجب أن يكون عالما بها

(3)

.

ومن الأدلة أيضًا: أن نفيَ علم الله سبحانه وتعالى بالجزئيات نفيٌ لعلمه بالأشياء؛ لأن الكليات لا وجود لها خارج الذهن؛ وإنما الموجود خارج الذهن: الجزئياتُ المعيَّنة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن لم يعلم المعيَّنات لم يعلم شيئًا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم

(1)

النونية (179) رقم (3300 - 3302).

(2)

فتح القدير (5/ 348).

(3)

بيان التلبيس (5/ 39)، وانظر لهذا المسلك في الاستدلال على صفات الكمال: التدمرية (151).

ص: 154

يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئًا من الموجودات"

(1)

.

ومن الأدلة أيضًا: أن من المخلوقات من يعلم بعض الجزئيات، والعلم بها صفة كمال؛ فوجب أن يكون الله سبحانه عالمًا بها، لأن كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه، لأمرين:

الأول: أنه سبحانه وتعالى أكمل من المخلوق، فيمتنع أن يوصف المخلوق بكمال ويكون الرب عز وجل عاريًا عنه؛ لأنه الأكمل.

الثاني: لأنه هو الذي أعطى المخلوق ذلك الكمال، فمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفًا به

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "بل مخلوقه له علم بالكلي والجزئيات، فالخالق أولى بذلك"

(3)

.

وإذا ثبت علمه ببعض الجزئيات؛ ثبت علمه بها كلها؛ إذ لا فرق بين جزئية وأخرى، ولأنه لم يقل أحد من الناس أنه يعلم بعض الجزئيات دون بعض، فهم إما مثبتون لعلمه بها كلها، وإما نافون. والله أعلم.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان شمول علم الله سبحانه وتعالى

(4)

:

وهو العليم بما يُوسوِس عبدُه

في نفسه من غير نطق لسانِ

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 595)، وانظر:(11/ 227) منه، ودرء التعارض (5/ 113) و (10/ 166)، وشفاء العليل (2/ 528).

(2)

انظر: درء التعارض (1/ 30)، ومجموع الفتاوى (16/ 357)، وشرح الأصبهانية (396 - 397).

(3)

درء التعارض (10/ 173).

(4)

النونية (44) رقم (526 - 529).

ص: 155

بل يستوي في علمه الداني مع الـ

ــقاصي وذو الإسرار والإعلانِ

وهو العليم بما يكون غدًا وما

قد كان والمعلوم في ذا الآنِ

وبكل شيء لم يكن لو كان كيـ

ـف يكون موجودًا لدى الأعيانِ

والحاصل أن علم الله سبحانه وتعالى شامل لكل شيء على وجه التفصيل، ولا يخرج عنه شيء، والله أعلم.

ص: 156

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

إثبات العلم لله سبحانه وتعالى، وشموله لكل شيء؛ شموله لما يتعلق به عز وجل، وشموله لما كان في الماضي، وشموله لما لا يقع، وشموله لما سيكون في المستقبل، وشموله للجُزئيَّات أمر لم يخالف فيه بالجملة أحد من المنتسبين للإسلام

(1)

، وإنما خالف في ذلك طائفتان:

الأولى: القدرية الأوائل الذين أنكروا علمه بالمستقبل، ومن تبعهم كالرافضة الذين قالوا بالبداء

(2)

.

الثانية: الفلاسفة الذين أنكروا علمه بالجزئيات.

وليس مع واحدة منهما دليل صحيح، بل أوهام ظنوها حقائق وأدلة.

أما القدرية الأوائل؛ وهم غلاة القدرية، وقد تقدم وصفهم وبيان اتفاق سلف الأمة على تكفيرهم

(3)

، وقد قال الشافعي رحمه الله:"ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا"

(4)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي رحمه الله وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافرًا؟ - قال: إذا جحد العلم؛ إذا قال إن الله عز وجل لم يكن عالمًا حتى خلق علمًا فعلم؛ فجحد علم الله عز وجل فهو كافر"

(5)

.

(1)

انظر: نهاية الإقدام (215).

(2)

سيأتي تعريفه ص (249).

(3)

انظر ما تقدم ص (125).

(4)

انظر: شرح الطحاوية (2/ 354).

(5)

السنة لعبد الله (2/ 385) رقم (835)، وانظر: السنة للخلال (3/ 529).

ص: 157

ومذهب هؤلاء واضح البطلان، جلي المخالفة لما علم بالدليل القاطع من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.

أما الكتاب والسنة؛ فالآيات والأحاديث الكثيرة المتتابعة على إثبات علم الله سبحانه وتعالى، كما سبق سياق بعضها، وسبق أيضًا سياق الإجماع

(1)

.

وأما العقل؛ فمن وجوه:

الأول: أن العلم صفة كمال، ونقيضه الجهل صفة نقص، والله سبحانه متصف بالكمال ومنزَّه عن النقص؛ فوجب أن يوصف بالعلم وينزه عن النقص.

الثاني: أن العلم مقتضى الربوبية، ولا ربوبية بغير علم؛ إذ كل صفات الربوبية، وعلى رأسها الصفات التي هي خصائص الربوبية: الخلق والرزق والتدبير والملك ونحوها، كلها مبناها على العلم، فنفي العلم نفي للربوبية من أصلها، يوضحه:

الثالث: أن نفي العلم يستلزم لوازم باطلة:

أولها: نفي الخلق، إذ الخلق مبني على العلم كما تقدم تقريره، ونفي الخلق نفي لأمر من أعظم المسلمات، وهو مكابرة لا تقع إلا من أحمق.

ثانيها: نفي المشيئة عن الله سبحانه لأن المشيئة لا تكون إلا عن علم كما تقدم.

ثالثها: إثبات شركاء لله سبحانه في ربوبيته، لأن العلم إذا عدم؛ تساوى الرب مع غيره في جهل الأشياء، بل يكون بعض المخلوقين أعلم ببعض الأشياء من الرب سبحانه وتعالى، وهذا كفر صريح وشرك بيِّن، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

(1)

انظر ما تقدم ص (143 - 144)، و (109 - 110).

ص: 158

ولكون هذا المذهب في منتهى البطلان؛ فقد قلَّ أو انقرض من ينكره اليوم وقيل، قال القرطبي رحمه الله عنه:"وقد تُرك اليوم، فلا يعرف من يُنسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين، والقدرية اليوم مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها"

(1)

.

وأما الفلاسفة، فالخلاف واقع بين فلاسفة الإسلام جراء اختلافهم في فهم مذهب الفلاسفة الأولين كأرسْطو

(2)

وأفْلاطون

(3)

ونحوهما، ويتمثل هذا الخلاف في رأيين:

أولهما: رأي الغزالي وغيره ممن ذهب إلى أنهم ينكرون علم الله سبحانه بالجزئيات، وصرح بكفرهم لثلاثة أمور هذا أحدها

(4)

، وجعل لهم في إنكار

(1)

المفهم (1/ 132 - 133)، وانظر: الواسطية (ضمن مجموع الفتاوى)(3/ 149).

(2)

هو: أرسطو بن نيقوماخس الفيثاغوري، يسمونه المعلم الأول، تلميذ أفلاطون المتصدر بعده، ولد في مدينة أسطاغيرا اليونانيّة سنة (384 ق. م)، كان كشيخه أفلاطون يُعلم الفلسفة ماشيًا، فسمي هو وأصحابه المشاؤون، انتهت إليه فلسفة اليونان، وكان مشركًا يعبد الأصنام، وهو أول من صرح بقدم الأفلاك، من كتبه:"الكون والفساد"، و"الأخلاق"، مات سنة (322 ق. م).

انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء (21)، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (86)، ومنهاج السنة (1/ 360).

(3)

هو أفلاطون - ويقال فلاطن وأفلاطن - بن أرسطون، من أهل مدينة أثينيا، رومي فيلسوف يوناني طبي؛ كان أبواه من أشراف اليونانيين، من كتبه:"السياسة المدنية"، و"احتجاج سقراط على أهل أثينيا"، مات سنة (384 ق. م) عن إحدى وثمانين سنة.

انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (79).

(4)

انظر: تهافت الفلاسفة (307 - 308)، وفيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ضمن =

ص: 159

علمه بالجزئيات سبحانه وتعالى مذهبين:

الأول: إنكار العلم بالجزئيات مطلقًا.

الثاني: الزعم بأنه يعلم الجزئيات علمًا كليًّا

(1)

.

ثانيهما: رأي ابن رُشْد

(2)

الذي ذهب إلى أن الفلاسفة لا ينكرون علمه بالجزئيات، وأن من حكى هذا عنهم؛ فقد غلط عليهم ولم يفهم مذهبهم، وأن صواب مذهبهم أنهم "يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها، وذلك لأن علمنا بها معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدًا وذلك غاية الجهل"

(3)

.

فهم - في نظره - يرون أن علمه تعالى مختلف عن علمنا، في كليات الأمور وجزئياتها، لأن الأمور كلياتها وجزئياتها معلولة عن علمه تعالى، وعلمه منزه

= مجموعة رسائل الغزالي) (264).

(1)

انظر: تهافت الفلاسفة (206).

(2)

هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي الفيلسوف، ولد سنة (520 هـ)، من كتبه:"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" و"تهافت التهافت"، مات سنة (595 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 307)، وتاريخ قضاة الأندلس (144)، وشذرات الذهب (6/ 522).

(3)

فصل المقال (39).

ص: 160

عن أن يوصف بأنه كلي أو جزئي

(1)

.

وابن رشد في فهمه لمذهبهم على هذا النحو مخالف لمن سبقه من أئمة الفلاسفة وعلى رأسهم ابن سيْنا

(2)

، ومخالف كذلك لأبي البركات ابن مَلكا

(3)

صاحب "المعتبر"

(4)

، والطُّوسي

(5)

.

وهذا المسلك من ابن رشد إنما كان لتعظيمه الشديد للفلاسفة الأولين، ومحاولته الجاهدة للتوفيق بين مقالاتهم وشرع الرب عز وجل، وبيان أن ما ذهبوا إليه هو من جنس ما ذهب إليه مبتدعة الإسلام، وليس كفرًا، وعلى ذلك بنى

(1)

انظر: المصدر السابق (40).

(2)

الإشارات والتنبيهات (3/ 295 - 296)، وابن سينا: هو أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي ثم البخاري الفيلسوف، كان أبوه كاتبًا من دعاة الإسماعيلية، وهو كذلك إسماعيلي من إخوان الصفا ولد سنة (370 هـ)، من كتبه: الشفاء"، و"أسرار الحكمة المشرقية"، مات بهمذان سنة (428 هـ).

انظر: وفيات الأعيان (2/ 157)، سير أعلام النبلاء (17/ 531).

(3)

هو: أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي الفيلسوف، من كتبه:"المعتبر"، و"رسالة في العقل وماهيته"، مات سنة نيف وخمسين وخمس مئة.

انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء (224)، وسير أعلام النبلاء (20/ 419).

(4)

انظر: درء التعارض (9/ 397).

(5)

كما في شرحه على الإشارات المطبوع معها (296 - 297)، وهو: أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الفيلسوف الملحد الزنديق، الملقب بنصير الدين، وهو في حقيقة الأمر نصير الشرك والكفر، ولد بطوس قرب نيسابور سنة (597 هـ)، من مؤلفاته:"تلخيص المحصل"، و"تجريد العقائد"، هلك ببغداد سنة (672 هـ).

انظر: تاريخ الإسلام (15/ 252)، والأعلام للزركلي (7/ 30).

ص: 161

كتابه: "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" كما يظهر من اسمه، وحمل على أبي حامد الغزالي لتصريحه بكفرهم حتى إنه نقض كتابه "تهافت الفلاسفة" بـ "تهافت التهافت"، بيَّن فيه وهم أبي حامد على الفلاسفة الأولين، وخطئه في حكاية مذهبهم وإكفارهم.

وليس الأمر كما قاله ابن رشد؛ بل مقالاتهم التي لم يذهب إليها أحد من طوائف المسلمين لا من أهل البدعة ولا من أهل السنة

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في طريقة ابن رشد هذه: "وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون إنه لا يعلم الجزئيات، بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزئيات العالم؛ فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل، وعدم معرفته بتحقيق مذهبهم؛ فإنه دائمًا يتعصب لأرسطو صاحب التعاليم المنطقية والإلهية"

(2)

.

وما احتج به ابن رشد في انتصاره للفلاسفة من أنهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم يحصل للإنسان في النوم من قِبَل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه

(3)

- يعني أن العلم عندهم سبب الإنذار بالجزئيات -؛ فباطل وذلك لأنهم يرون أن هذا العلم الحاصل لهم إنما هو فيض فاض من العقل الفعال

(1)

انظر: الرد على المنطقيين (568)، ودرء التعارض (9/ 397).

(2)

درء التعارض (9/ 397).

(3)

انظر: فصل المقال (40).

ص: 162

والنفس الفلكية، فهي المنذر به

(1)

.

فإذا تبين فساد ما ذهب إليه ابن رشد؛ فالأقوال في مذهب الفلاسفة هي ما حكاها الغزالي.

وقد ذكرها أيضًا الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام" حيث قال: "وذهبت قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات وهي غير معلومة عنده أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال.

وذهب قوم منهم إلى أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعًا على وجه لا يتطرق إلى علمه تعالى نقص وقصور"

(2)

.

فالأول والثاني هما ما حكاهما الغزالي، والثالث شبيه بما ذكره ابن رشد

(3)

(4)

.

(1)

انظر: درء التعارض (9/ 398) و (10/ 189).

(2)

نهاية الإقدام (215)، وانظر: المعتبر (3/ 69)، ولباب العقول للمكلاتي (234).

(3)

انظر: درء التعارض (9/ 400).

(4)

هذا هو المشهور من كلام الفلاسفة ومذاهبهم، وقد حكى شيخ الإسلام رحمه الله لهم قولًا رابعًا، وهو القول بأن الله يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات على اختلاف الحالات مما هو كائن وما هو آت، كما ذكر ذلك أبو البركات في "المعتبر"، قال شيخ الإسلام:"وهذا القول ينزع إلى قولين: أحدهما القول الذي اختاره ابن رشد الذي قربه من التغير ولم يجب عنه، والثاني: التزام هذا اللازم وبيان أنه ليس بمحذور، وهذا قد اختاره أبو البركات كما يختاره طوائف من المتكلمين كأبي الحسين والرازي وغيرهما وكما هو معنى ما دل عليه الكتاب والسنة وذكره أئمة السنة" درء التعارض (9/ 401 - 402). ومقصوده رحمه الله أن الفلاسفة منهم من نحا منحى إنكار لوازم العلم بالجزئيات، كابن رشد، ومنهم من التزم ذلك، وهو لازم حق دلت عليه الأدلة.

ص: 163

فخلاصة مذهبهم أنهم يرون أن الله سبحانه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون قولًا واحدًا

(1)

.

ثم منهم من ينكر علمه بالجزئيات مطلقًا، كما ذهب إليه أرسطو

(2)

، ومنهم من يقول يعلمها بعلم كلي، كما ذهب إليه ابن سينا، ومن ذلك قوله:"فالواجب الوجود يجب ألا يكون علمه بالجزئيات علمًا زمانيًّا حتى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل، فيعرض لصفة ذاته أن تتغير، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالي عن الزمان والدهر"

(3)

.

وبيان هذا المذهب أن يقال: إن الجزئيات المتغيرة يعلمها الله سبحانه، لكن علمه بها لا يدخل تحت زمان أو مكان، فالله عند هؤلاء عالم بذاته، وعلمه بذاته يقتضي أن يعلم أنه علة للموجودات كلها، فإذا علم ذاته وعلم كونه علة للموجودات؛ علم أنه عالم بالقوانين والأسباب الكلية التي تحكم العالم، وعلم ارتباطها بمسبَّباتها، فإذا علم وقوع السبب؛ علم وقوع المسبب، لكن لا في زمان معين ولا مكان معين، وهذا معنى إطلاقهم أن الله عالم بكل شيء.

مثال ذلك: الكسوف، فالله سبحانه يعلم أن كسوفًا سيكون، بعلمه بأسبابه، لكنه لا يعلم الزمن الذي سيكون فيه الكسوف، في أي سنة أو شهر

(1)

كما حكى الغزالي اتفاقهم على ذلك، انظر: تهافت الفلاسفة (206)، ونقل اتفاقهم كذلك: أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي في: "لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول"(233).

(2)

انظر: تفسير ما بعد الطبيعة (3/ 1707).

(3)

الإشارات والتنبيهات (3/ 295 - 296).

ص: 164

أو يوم أو ساعة، ولا يعلم المكان الذي سيكون فيه الكسوف، فعلمه بالكسوف علم كلي تابع لعلمه بأسبابه الكلية، لأنه علم ثابت لا يتغير، وأما علمه بزمانه ومكانه فهو متغير فلذلك لم يصح أن يوصف به.

ثم هذه الجزئيات يعلمها الباري علمًا واحدًا متجانسًا، ولا يعلم كل جزئي منها على حدة، قال ابن سينا:"إشارة: الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات من حيث تجب بأسباب منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه متخصص به، كالكسوف الجزئي؛ فإنه قد يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئية، وإحاطة العقل بها، وتعقلها كما تعقل الكليات، وذلك غير الإدراك الجزئي الزماني الذي يحكم أنه وقع الآن أو قبله أو يقع بعده"

(1)

.

وهذا القول راجع في حقيقته إلى إنكار علمه بالجزئيات من أصله - كما هو القول الأول - لأن العلم بالجزئيات مجردًا عن الزمان والمكان ونحوهما غير معقول، إذ هذه الجزئيات حاصلة في زمان ومكان ومختلفة شخصًا، فنفيها عنها نفي للعلم بها من أصله، إذ مجرد العلم بأسبابها وعللها دون العلم بحقيقتها علمًا محيطًا بها ليس علمًا بها، وإنما العلم الحقيقي بها هو العلم بأسبابها وعللها وأوصافها، ثم العلم بها بعد وقوعها على ما هي عليه.

فالفلاسفة جعلوا مجرد علم عللها وأسبابها علم بها، وهذا باطل، لأن من علم بأن زرعًا ينبت إذا سقي البذر، لكن لا يعلم أي زرع هذا الذي ينبت، ولا في أي أرض ولا في أي موسم أو يوم؛ لا يعلم حقيقة هذا الزرع.

وقد صرح ابن سينا بأن الله قد لا يعلم وقوع الجزئي فقال: "ثم ربما وقع

(1)

المصدر السابق (3/ 286 - 289).

ص: 165

ذلك الكسوف، ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع"

(1)

.

فالجزئي إنما كان جزئيًّا لأن تصوره مانع من وقوع الشركة فيه سواء، وإذا لم يمكن ذلك فليس بجزئي وإنما هو كلي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ففي الجملة؛ الجزئي لا يكون جزئيًّا إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه. . . فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين، وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف فهذا كلي وإن علم أنه لا بد أن يحصل فإنه كلي من حيث الزمان فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه"

(2)

.

ولما كان الأمر كذلك - أن مآل القولين واحد على التحقيق -؛ فسأسوق شبههما مساقًا واحدًا، إذ الشبه الحاملة لهم على ذلك واحدة، فقد استدلوا لمقالتهم بشبه باطلة منها:

أولًا: أنه لو تعلق علم الله تعالى بالجزئيات للزمه التغير والتجدد بتغير المعلوم وتجدده، فيلزم من ذلك التغير الكثرة في ذات الله تعالى، وهو الواحد الأحد.

قال ابن سينا: "فالواجب الوجود يجب ألا يكون علمه بالجزئيات علمًا زمانيًّا حتى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل، فيعرض لصفة ذاته أن تتغير، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالي عن الزمان والدهر"

(3)

.

(1)

المصدر السابق (3/ 287).

(2)

انظر: درء التعارض (10/ 163)، وانظر:(10/ 169) منه.

(3)

الإشارات والتنبيهات (3/ 295 - 296).

ص: 166

وقال: "لا يجوز أن يكون عاقلًا لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلًا زمانيًّا متشخصًا، بل على نحو آخر نبينه، فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات"

(1)

.

ثانيًا: أن العلم بالجزئيات يحتاج إلى حواس تُدرك بها، ومعرفة مقدمات توصل إليها، كما يحتاج إلى تصور وتخيل، والرب منزه عن هذا، ففي هذا الوصف ما يتضمن افتقار الله إلى غيره

(2)

.

وقبل الرد عليهما تجدر الإشارة إلى أن مذهب الفلاسفة في هذا المقام هو فرار من تشبيه الله بخلقه، فإنهم لما لم يعقلوا من هذا إلا ما يثبت للمخلوق؛ نفوه عن الرب سبحانه تنزيهًا له.

وللمتكلمين أجوبة على مذهب الفلاسفة هذا متنوعة بتنوع مشاربهم، إلا أنها لا تشفي عليلا ولا تروي غليلًا، ولهذا نازعهم فيها ابن رشد وأفسدها عليهم، وإن كان حاصل رده عليهم ليس له طائل، بل مآل كلامه هو نفس ما يؤول إليه كلامهم

(3)

.

وجواب هاتين الشبهتين مبني على مسألة مهمة، وهي التفريق بين علم الظهور وعلم الله السابق، مع بيان أن علم الظهور لا ينافي العلم السابق،

(1)

النجاة (2/ 103).

(2)

انظر: الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة للبطليوسي (35).

(3)

انظر: درء التعارض (9/ 382).

ص: 167

وستأتي هذه المسألة تحت قاعدة: "علم الظهور لا ينافي علم الله السابق".

أما الشبهة الأولى؛ فهي مبنية عند الفلاسفة على أصل من أصولهم، وهو منع قيام الحوادث بالرب عز وجل، لأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وبناءً على ذلك نفوا قيام الصفات به عز وجل، الذاتية منها والفعلية.

قال شيخ الإسلام: "ومعلوم أنه إنما دعاهم [أي الفلاسفة] إلى ذلك: القول بنفي الصفات والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه"

(1)

.

وجوابها من وجوه:

الأول: أن من يعلم الأشياء أكمل ممن لا يعلمها، فأن يعلم الجزئيات أكمل من أن لا يعلمها - وإن قدر لزوم التغير ونحوه عليه -

(2)

.

الثاني: أن الأدلة بأنواعها النقلية والعقلية دلت على اتصاف الله سبحانه بالصفات الذاتية والفعلية فيجب إثباتها له، وما لزم على ذلك من لوازم فهو حق؛ لأن لازم الحق حق.

الثالث: أن هذا لزوم غير صحيح لثبوت الفرق بين العلم القديم وعلم الظهور على ما سيأتي، وملخص ذلك: العلم السابق هو علم الله بكون الشيء ووجوده، وعلم الظهور هو علم بأنه سيكون، وعلم الله سبحانه وتعالى ليس كعلم المخلوقين، فلا يلزم من كونه عز وجل يخبر بحصول علم له سبحانه وتعالى بشيء بعد وقوعه أن ذلك العلم كان مسبوقًا بجهل، بل علمه سبحانه علم

(1)

درء التعارض (10/ 82)، وانظر: الرد على المنطقيين (508).

(2)

درء التعارض (9/ 412 - 413).

ص: 168

تام كامل لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان ولا تعتريه أي صورة من صور النقص، ومذهب أهل السنة في هذه المسألة مبني على أن العلم التابع لوقوع المعلوم أمر ثبوتي، وليس نسبة عدمية أو إضافية

(1)

.

الرابع: أن نفي العلم بالجزئيات - مباشرة كقول أرسطو، أو مآلًا كقول ابن سينا - أعظم نقصًا من إثبات هذه اللوازم - على فرض كونها نقصًا - فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذرًا من أدناهما

(2)

.

الخامس: أن لفظ "التغير" و"الكثرة" ألفاظ مجملة، فإن أريد بها أن علم الله السابق يتغير بحدوث هذه الجزئيات فهو باطل، وإن أريد بأن العلم التابع لوقوع المعلوم هو قدر زائد عن العلم السابق

(3)

، وأن حصوله مشروط بوقوع الجزئي فهذا حق دلت عليه الأدلة كما سيأتي.

السادس: أنكم تقولون الخلق لزم عن ذاته، والعلم لزم عن ذاته، فإن كان العلم يوجب التغير والكثرة؛ فالخلق يوجب ذلك من باب أولى، وإن لم يكن الخلق موجبًا لذلك؛ فألا يكون العلم موجبًا له من باب أولى، فإن الذي يلزم في العلم؛ يلزم في الخلق من باب أولى

(4)

، وإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له مما يوجب نقصًا له وكمالًا به؛ فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصًا

(1)

انظر ما يأتي ص (179).

(2)

انظر: درء التعارض (9/ 413).

(3)

انظر: المصدر السابق (10/ 185).

(4)

انظر: المعتبر لأبي البركات ابن ملكا (3/ 74)، وقد استحسن شيخ الإسلام هذا الرد فقال:"وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن" وزاده بسطًا وشرحًا، درء التعارض (9/ 415)، وانظر:(10/ 29 - 30) منه.

ص: 169

له وكمالًا به من باب أولى.

السابع: أن العلم لازم له سبحانه، لا ينفك عنه بحال، وليس شيئًا متجددًا، فليس كماله بغيره، بل بعلمه الذي هو من لوازم ذاته، فكونه متعلقًا بغيره لا يقدح فيه كما لا يقدح بالقدرة تعلقها بالمقدور من باب أولى، لأن العلم متعلق به وبغيره، وأما القدرة فلا تكون إلا على غيره

(1)

.

الثامن: أن هذه الجزئيات هي مخلوقات الله سبحانه، وليس في الوجود إلا الله ومخلوقاته، وهذه المخلوقات لا وجود لها إلا به، فتعلق ذاته بهم أعظم من تعلق صفاته بهم، وإذا لم يكن في تعلق ذاته بهم نقصٌ؛ فليس في تعلق صفاته بهم نقص، وصفاته من علم وقدرة وغيرها من لوازم ذاته، ووجود ذاته بدون لوازمها ممتنع باتفاق العقلاء

(2)

.

الشبهة الثانية: أن العلم بالجزئيات يحتاج إلى حواس تُدرك بها، ومعرفة مقدمات توصل إليها، كما يحتاج إلى تصور وتخيل، والرب منزه عن هذا، ففي هذا الوصف ما يتضمن افتقار الله إلى غيره.

جوابها من وجوه:

الأول: أن هذا القول مبني على تشبيه الخالق بالخلوق، وهذا باطل، فعلم الله سبحانه ليس كعلمنا، سواء العلم الأول، أو علم الظهور.

الثاني: أن القول بأنه بحاجة لحواس أو تخيل، هذا في حق المخلوق، وأما في حق الخالق سبحانه فتدرك الجزئيات بما اتصف به من صفات العلم

(1)

انظر: درء التعارض (9/ 420).

(2)

انظر: المصدر السابق (9/ 420).

ص: 170

والسمع والبصر ونحوها، يوضحهما:

الثالث: أن يقال: ماذا تريد بالحواس؟ فإن أردت بها أن يكون له سمع وبصر فهذا حق دلت عليه النصوص الشرعية، وإن أردت غير ذلك فبينه، فنفي السمع والبصر بذريعة كونهما حواسًّا باطل، مع التنبيه على أن إطلاق الحواس في حقه سبحانه غير جائز.

الرابع: أن غير الجزئيات كالسموات والأرض - ونحوهما مما لا يتغير - هي محسوسة أيضًا، فيلزم نفي علمه بها لحاجته إلى حواس ليدركها بها، وهذا باطل.

ص: 171

‌المبحث الخامس: "علم الظُّهور لا ينافي علم الله السابق"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 173

المبحث الخامس: "علم الظُّهور لا ينافي علم الله السابق"

لا يزال الحديث في هذه القاعدة موصولًا بمرتبة العلم؛ من جهة علاقة العلم القديم بعلم الظُّهور وأنه لا تنافي بينهما.

والمقصود بعلم الظُّهور هنا: "العلم الذي يتعلق بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم، الثواب والعقاب"

(1)

.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال ابن قتيبة رحمه الله: "إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا، ولأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا، وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنًا أن ما قدره فيهم يتم، وإنما قاله ظانًّا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدَّق عليهم ما ظنه فيهم فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكِّين يعني نعلمهم موجودين ظاهرين، فيحق القول ويقع الجزاء"

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 496).

(2)

انظر: إغاثة اللهفان (1/ 194).

ص: 175

وقال البغوي رحمه الله في قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 21]: "أراد علم الوقوع والظُّهور، وقد كان معلومًا عنده بالغيب"

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28]: "ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبًا"

(2)

.

وقال السعدي رحمه الله: "القاعدة الثامنة والأربعون: متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء. . . وقد ورد عدة آيات يخبر بها أنه شرع وقدر كذا؛ ليعلم كذا، فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وأما علمه بأعمال العباد وما هم عاملون قبل أن يعملوا، فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء، لأنه إنما يجازي على ما وجد من الأعمال، وعلى هذا الأصل نزل ما يرد عليك من الآيات"

(3)

.

وقال ابن عثيمين رحمه الله في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]: "المراد علم الظُّهور الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب"

(4)

.

(1)

تفسير البغوي (6/ 397).

(2)

تفسير القرطبي (21/ 312).

(3)

القواعد الحسان لتفسير القرآن (123).

(4)

تفسير القرآن؛ الحجرات إلى الحديد (424).

ص: 176

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل القرآن في مواطن كثيرة على إثبات علم الظهور، ومن ذلك:

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94].

وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].

وغير ذلك من الآيات.

ص: 177

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

مقصود هذه القاعدة بيان العلاقة بين العلم السابق وعلم الظُّهور، وأن ثبوت علم الظُّهور لله سبحانه وتعالى لا ينافي علمه السابق.

وقد تقدمت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على إثبات علم الله سبحانه وتعالى السابق، وأنه متعلق بكل شيء، كما تقدم كذلك تعريف علم الظُّهور

(1)

.

والعلم بصفة عامة ينقسم إلى قسمين:

- علم سابق على وقوع الشيء: وهو العلم بأنه سيكون، سواء كان أزليًّا كعلم الله سبحانه وتعالى، أو حادثًا كعلم المخلوق بما علَّمه ربه تبارك وتعالى.

- وعلم لاحق: وهو الذي يتعلق بالمعلوم بعد وجوده

(2)

.

والفرق بينهما أن العلم السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، ولا أي أثر من الآثار التي تقوم عليها الأحكام الشرعية؛ فلا يعاقب اللهُ سبحانه وتعالى لفضله وعدله الإنسانَ على مخالفةٍ علمها منه في الأزل - مع أنها ستقع منه حتمًا -، بل تتوقف المؤاخذة على وقوع مقتضيها في الشاهد، وكذا سائر الآثار المترتبة على المؤاخذة، كفراق الزوجة أو رد الشهادة ونحو ذلك، وكذا لا يثيبه إلا على ما وقع منه من الحسنات، وما تبعها من آثار إن كانت متعدية، كالصدقة الجارية.

وأما علم الظُّهور، فهو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وجميع الآثار

(1)

انظر ما تقدم ص (175).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 496).

ص: 178

المترتبة عليهما.

وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه القاعدة هو في مسألتين:

الأولى: في إثبات علم الظُّهور وأنه غير العلم السابق.

الثانية: في أن علم الظُّهور لا يقدح في العلم السابق.

أما الأولى: فهي مسألة كبيرة دقيقة

(1)

، وهي مبنية على مسألة أخرى في باب الصفات، وهي: هل هذا العلم التابع لوقوع المعلوم أمر ثبوتي؟ أم أنه نسبة عدمية وإضافة فقط بين العلم السابق والمعلوم؟

والذي عليه عامة السلف وأئمة السنة والحديث أنه أمر ثبوتي كما دل عليه النص؛ وهذا كما في قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، فقد أخبر بحصول الرؤية بعد وقوع المرئي

(2)

.

ومعنى هذا الأمر الثبوتي هنا: علم الله بكون الشيء ووجوده - وقت كَونه -، وهذا غير العلم بأنه سيكون - قبل كونه -

(3)

، فإذا ثبت وجود أمر ثبوتي هو غير العلم القديم؛ لم يعد هناك ما يُشْكل في إثبات علم الظُّهور.

يوضحه: أن الله سبحانه وتعالى لم يخبر بعلمه له بعد وجوده فحسب؛ بل أخبر سبحانه في مواطن كثيرة بأنه يراه بعد وجوده؛ كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وكذا أخبر بأنه يسمعه بعد وقوعه؛ كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي

(1)

انظر: درء التعارض (9/ 395 و 397).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 496).

(3)

انظر: المصدر السابق (8/ 496).

ص: 179

إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

قالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات؛ لقد جاءت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فكان يخفى علي كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} الآية"

(1)

.

ومعلوم قطعًا أن السمع والبصر إنما يتعلقان بالموجود بعد وجوده، فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم

(2)

، وإخباره سبحانه وتعالى عن رؤيته وسماعه إخبار عن العلم به كذلك، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما يفسرها بالرؤية فيقول:{إِلَّا لِنَعْلَمَ} : إلا لنرى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ففسر [أي ابن عباس] العلم المقرون بالوجود بالرؤية، فإن المعدوم لا يرى بخلاف الموجود، وإن كانت الرؤية تتضمن علمًا آخر"

(3)

.

وهذا كما لا يخفى تفسير باللازم، فرؤية الشيء بعد وجوده، وكذا سماعه بعد وقوعه من لازمها العلم به، فيلزم من الرؤية والسماع العلم بالمرئي

(1)

رواه النسائي: كتاب الطلاق، باب الظهار (6/ 480) ح (3460)، وابن ماجه: كتاب الطلاق، باب الظهار (3/ 457) ح (2063)، كلاهما من طريق الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري مجزومًا به عن الأعمش في: كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (9/ 117)، والحديث صححه ابن حجر في تغليق التعليق (5/ 339)، والألباني في ظلال الجنة ح (625).

(2)

انظر: الرد على المنطقيين (465).

(3)

درء التعارض (10/ 174).

ص: 180

والمسموع، ولا يلزم من العلم بالشيء رؤيته وسماعه؛ لأن الرؤية والسماع إنما يتعلقان بالموجود، والعلم أعم منهما؛ فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود

(1)

.

فالشاهد أنه سبحانه وتعالى أخبر بحصول الرؤية والسماع بعد الوقوع؛ فيلزم منه حصول علم به بعد الوقوع هو غير العلم السابق.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن في تفسير: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} خمسة أقوال

(2)

:

الأول: إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي؛ على عادة العرب في إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فُعل بهم إليه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.

الثاني: إلا لنميز أهل اليقين.

الثالث: إلا لنرى. وهذا والذي قبله رويا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

الرابع: إلا لنبين لكم أنا نعلم.

الخامس: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جهالًا به قبل أن يكون، فأضاف العلم إلى نفسه، على وجه الترفق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته.

والأقوال: الثاني والثالث والرابع متقاربة؛ إذ مرجعهما إلى إظهار العلم السابق بالشيء

(3)

، وكذا الأول والخامس مرجعهما إلى تأويله بعلم العباد.

فيتحصل من هذه الأقوال الخمسة قولان:

- أن المراد بذلك علم الظهور والوقوع، وهو اختيار ابن كثير رحمه الله

(4)

.

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (10/ 493)، وتفسير الطبري (2/ 644).

(2)

انظر: تفسير الطبري (2/ 641 - 645)، وزاد المسير (1/ 155).

(3)

انظر: زاد المسير (1/ 155).

(4)

انظر: تفسير ابن كثير (10/ 493) و (11/ 281) و (13/ 80).

ص: 181

- أن المراد به علم العباد.

ولا تنافي بينهما؛ إذ بوقوع المعلوم يعلمه الله سبحانه موجودًا، علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب، ويعلمه العباد أيضًا بعد أن لم يكونوا عالمين به، فيجتمع فيه الأمران، والله أعلم.

ومما يوضح هذا أيضًا: شمول علم الله سبحانه وتعالى للموجود والمعدوم، مع إجماع العقلاء قاطبة على الفرق بينهما، فهذا الشيء المعيَّن الذي كان معدومًا ثم وجد؛ لا شك أن تعلق علم الله سبحانه وتعالى به معدومًا غير تعلقه به موجودًا، مع التنبيه على أن تحقق وقوع المعلوم بالنسبة لله سواء؛ فلا فرق بين ما علم أنه يقع وما علم أنه وقع

(1)

.

وأما الثانية: - وهي محور القاعدة -، فيدل عليها أمور:

الأول: أن الله عز وجل هو الذي أخبر بثبوت علم الظُّهور مع إثباته سبحانه وتعالى للعلم السابق، فلو كان قادحًا فيه لكان كلام الله متناقضًا، والله سبحانه منَزَّه عن ذلك.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد أن يكون في بضعة عشر موضعًا في القرآن، مع إخباره في مواضع أكثر من ذلك أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، وقد أخبر في القرآن من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله"

(2)

.

الثاني: أن علم الله عز وجل ليس كعلم المخلوقين، فلا يلزم من كونه

(1)

تفسير القرآن، سورة الكهف لابن عثيمين (24).

(2)

الرد على المنطقيين (465).

ص: 182

سبحانه وتعالى يخبر بحصول علم له بشيء بعد وقوعه أن ذلك العلم كان مسبوقًا بجهل، بل علمه سبحانه علم تام كامل لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان ولا تعتريه أي صورة من صور النقص، ومن كمال علمه سبحانه: علمه بالشيء قبل وجوده، وعلمه به بعد وجوده، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوده، ثم لما خلقه علمه كائنًا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون؛ فهذا هو الكمال"

(1)

.

الثالث: أن علم الله عز وجل هو علم بالشيء على ما هو عليه، فإذا علم الله سبحانه وتعالى وقوع شيء على صفة ما؛ كأن يعلم أن زيدًا يقتل عمرًا بسيف؛ فلا بد أن يقع معلومه، بأن يَقتل زيدٌ عمرًا، على الصفة نفسها وبالسيف نفسه، ولا يمكن ألا يُقتل عمرو، أو أن يُقتل بسكين مثلًا.

فالقتل - على هذه الصفة - برز من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، بأن صار واقعًا بعد أن كان مقدرًا.

وبعلمه سبحانه به بعد وقوعه، لم يحصل له علم لم يكن موجودًا، وإنما هو العلم السابق، مع علم آخر هو علم بوقوع القتل في الوجود وخروجه إلى عالم الشهادة بعد أن كان مقدَّرًا، يوضحه:

الرابع: أن متعَلَّق العِلْمين مختلف، فالعلم السابق يتعلق بالمقدَّر، وعلم الظهور يتعلق بالموجود، فاختلاف متعلقهما يدفع تنافيهما ويردُّه.

فالحاصل أن علم الظهور لا ينافي علم الله السابق، والله أعلم.

(1)

المصدر السابق (465).

ص: 183

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

خالف أهلَ السنة والجماعة في هذه القاعدة طوائفُ من المخالفين

(1)

:

الطائفة الأولى: وهم القدرية الغلاة والفلاسفة الذين ينفون علمه بالمحدَثات إلا بعد حدوثها، وقد سبقت حكاية مذهبهم والرد عليها فأغنى عن إعادته هنا.

الطائفة الثانية: ما ذهب إليه الجهم بن صفوان، فقد ذهب إلى إثبات علوم حادثة لله سبحانه، وأن المعلومات إذا تجددت أحدث الباري سبحانه علومًا متجددة لا في محل، بها يعلم العلوم الحادثة، ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها، وكلها لا في محل

(2)

، ووافق جهمًا على هذا القول: هشَام بن الحَكم

(3)

.

واستدل جهم على مقالته هذه بأن العلم بأن الشيء سيقع غير العلم بأنه وقع، فالله سبحانه لو علم الشيء قبل حدوثه بالعلم القديم، ثم وقع فإنه لا يخلو: إما أن يبقى علمه بهذا الشيء على ما هو عليه، أو لا يبقى، فإن كان الأول فهو جهل، لثبوت الفرق بين العلم بالشيء واقعًا والعلم بأنه سيقع،

(1)

انظر: جامع الرسائل (1/ 177 - 179).

(2)

انظر: الإرشاد للجويني (96)، ونهاية الإقدام (215)، وانظر كذلك: الفرق بين الفرق (186)، والفصل (5/ 73)، والتبصير في الدين (108).

(3)

هو: أبو محمد، هشام بن الحكم الشيباني بالولاء، الكوفي الرافضي المشبه، ولد بالكوفة، له كتب منها:"الإمامة"، و"القدر"، مات بالكوفة سنة (190 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 543)، ولسان الميزان (8/ 334).

ص: 184

وإما أن لا يبقى فيلزم أنه تغير، وهو محال في حق الله سبحانه

(1)

.

وإذا ثبت أن علمه سبحانه محدث، فلا يخلو: إما أن يحدث في ذاته سبحانه، أو في محل، فإن كان الثاني فيلزم أن يكون المحل هو المتصف به دون الله سبحانه، وإن كان الأول: كان الباري محلًّا للحوادث، ولزم حدوث التغير فيه، وكلاهما باطل، فتعين أنه لا في محل

(2)

، فهروبًا من هذا وذاك: أثبت علمًا حادثًا، لكنه غير قائم به سبحانه، بل لا في محل!

واستدل هشام على قوله بأن الله إنما يعلم الأشياء بعد أن لم يكن عالمًا بها بشبهتين

(3)

:

الأولى: أنه لو كان لم يزل عالمًا لكانت المعلومات لم تزل لأنه لا يصح عالم إلا بمعلوم موجود.

الثانية: أنه لو كان عالمًا بما يفعله عباده لم يصح التكليف.

هذا بالإضافة إلى ما استدل به الجهم من شبه، إلا أنه عبر بالتجدد بدلًا من التغير

(4)

.

وقد حُكي هذا القول عن الزرارية أيضًا أتباع زرارة بن أعين الرافضي، حكاه عنهم الأشعري

(5)

والبغدادي

(6)

.

(1)

انظر: الملل والنحل (1/ 97).

(2)

انظر: الملل والنحل (1/ 98).

(3)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 112)، والفرق بين الفرق (66 - 67).

(4)

انظر: نهاية الإقدام (217 - 218).

(5)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 112).

(6)

انظر: الفرق بين الفرق (69).

ص: 185

وقول هذه الطائفة في غاية البطلان، وهو مخالف للأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع على تقدم علم الله سبحانه، وقد سبق سياق شيء منها

(1)

.

الطائفة الثالثة: وهم الذين يقولون: إنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم.

وهو قول الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة.

قال الشهرستاني: "قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه على طريقته -: لا يتجدد لله تعالى حكم ولا يتعاقب عليه حال ولا تتجدد له صفة، بل هو تعالى متصف بعلم واحد قديم متعلق بما لم يزل ولا يزال، وهو محيط بجميع المعلومات على تفاصيلها من غير تجدد وجه العلم أو تجدد تعلق أو تجدد حال له لقدمه، والقدم لا يتغير ولا يتجدد له حال"

(2)

.

وقال الغزالي: "الأصل الثامن: أن علمه قديم؛ فلم يزل عالمًا بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته، ومهما حدثت المخلوقات؛ لم يحدث له علم بها، بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي"

(3)

.

وقال الآمِدي

(4)

: "الباري تعالى عالم بعلم واحد قائم بذاته، قديم أزلي،

(1)

انظر ما تقدم ص (141) وما بعدها.

(2)

نهاية الإقدام (218).

(3)

إحياء علوم الدين (1/ 109)، وانظر: الاقتصاد في الاعتقاد (149 - 151).

(4)

هو: أبو الحسن، علي بن محمد بن سالم التغلبي، سيف الدين الآمدي الأشعري، ولد في آمد =

ص: 186

متعلق بجميع المتعلقات، غير متناه بالنظر إلى ذاته، ولا بالنظر إلى متعلقاته"

(1)

.

ومعنى التعلق عندهم: "اقتضاء الصفة أمرًا زائدًا على قيامها بالذات، كاقتضاء العلم معلومًا ينكشف به، واقتضاء الإرادة مرادًا يتخصص بها، واقتضاء القدرة مقدورًا، وهكذا. . ."

(2)

، وهو على قسمين:

- تعلق صلوحي، ومرادهم به: صلاحية تعلق الصفة بالشيء منذ الأزل.

- تعلق تنجيزي، وهو تعلق الصفة بالشيء بالفعل، فإذا كان في الأزل سمي تنجيزيًّا قديمًا، وإن كان بعد ذلك سمي حادثًا.

وهذا التعلق أمر اعتباري عندهم على التحقيق، أي غير وجودي، قال البيجوري:"فهو [أي التعلق] أمر اعتباري. وقيل هو أمر وجودي، وقيل واسطة بين الموجود والمعدوم فيكون حالًا، وقيل هو من مواقف العقول فلا يعلمه إلا الله تعالى، والتحقيق الأول"

(3)

.

والصفات المتعلقة عندهم تنقسم بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام

(4)

:

= آمد سنة (551 هـ)، من كتبه:"الإحكام في أصول الأحكام" و"أبكار الأفكار" قال شيخ الإسلام: "والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في عامة الأصول الكبار" مجموع الفتاوى (5/ 562)، مات سنة (631 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (22/ 364)، وطبقات الشافعية الكبرى (8/ 306).

(1)

أبكار الأفكار (1/ 322).

(2)

شرح الخريدة البهية (82)، وانظر: تحفة المريد (142).

(3)

تحقيق المقام على كفاية العوام (111).

(4)

انظر: تحفة المريد (142).

ص: 187

الأوّل: ما يتعلق بالممكنات، وهو القدرة والإرادة، ولكن القدرة تعلقها تعلق إيجاد وإعدام، والإرادة تعلقها تعلق تخصيص.

الثاني: ما يتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات وهو العلم والكلام، لكن تعلق العلم تعلق انكشاف، وتعلق الكلام تعلق دلالة.

الثالث: ما يتعلق بالموجودات، وهو السمع والبصر

الرابع: ما لا يتعلق بشيء وهو الحياة.

واختلفوا في العلم، هل له تعلقان، صلوحي وتنجيزي، أم أنه ليس له إلا تعلق واحد تنجيزي قديم، فممن ذهب إلى الأول: ابن عاشُور

(1)

، ووجهه أن تعلق الصفة: تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها؛ فلا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث.

وممن اختار الثاني: الأشعري

(2)

، والسَّنُوسي

(3)

، والبيجوري

(4)

،

(1)

التحرير والتنوير (20/ 205)، وابن عاشور هو: محمد الطاهر بن عاشور: رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، ولد بتونس وتوفي بها، من كتبه:"التحرير والتنوير"، و"الوقف وآثاره في الإسلام"، مات سنة (1393 هـ).

انظر: الأعلام للزركلي (6/ 174).

(2)

انظر: نهاية الإقدام (218).

(3)

انظر: شرح السنوسية (151 - 152)، وهو: أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن عمر بن شعيب السنوسي التلمساني الحسني الأشعري، من كتبه:"عقيدة أهل التوحيد" و"شرح صغرى الصغرى"، مات بتلمسان سنة (895 هـ).

انظر: الأعلام للزركلي (7/ 154)، ومعجم المؤلفين (3/ 786).

(4)

انظر: تحفة المريد (126).

ص: 188

والدَّرْدير

(1)

، ووجهه أن كل واجبٍ، وكلّ مستحيلٍ، وكلّ جائزٍ فهو منكشف له تعالى بعلمه، لا يخفى عليه شيء؛ لأنّ قول القائل: علم الله يَصلُحُ لكذا، ظاهر الفساد؛ إذ يقتضي أنّ شيئًا لم ينكشف له - تعالى عن ذلك -، فتعلقه تنجيزيٌّ قديم لا غير.

وأيًّا كان فهم متفقون على نفي تجدد علم غير العلم السابق.

وقال بهذا القول أيضًا: الماتريدية، فذهبوا - كالأشاعرة - إلى نفي تجدد شيء ثبوتي، وإنما جعلوا التجدد في التعلقات، قال السعد التفتازاني:"لا يلزم من قدم العلم والقدرة قدم المعلومات والمقدورات؛ لأنها صفات قديمة تحدث لها تعلقات بالحوادث"

(2)

.

وقال أيضًا: ". . . كالعلم والقدرة وسائر الصفات، فإن كلًّا منها صفة واحدة قديمة والتكثر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات، لما أن ذلك أليق بكمال التوحيد، ولأنه لا دليل على تكثر كل منها في نفسها"

(3)

.

وقال الفرهاري: "وحاصل الدفع أن للعلم تعلقين بالمعلومات، أحدهما قديم شامل لكل ما يمكن تعلق العلم به من الأزليات والحادثات والممكنات والمحالات وهذا التعلق بالحادث يكون باعتبار أنه سيوجد، ثانيهما: تعلقات

(1)

انظر: شرح الخريدة البهية (82)، وهو: أبو البركات، أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير، من فقهاء المالكية، ولد في بني عدي بمصر، من كتبه:"أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك"، و"منظومة الخريدة البهية في التوحيد"، مات بالقاهرة سنة (1201 هـ).

انظر: الأعلام للزركلي (1/ 244)، ومعجم المؤلفين (1/ 242).

(2)

شرح العقائد النسفية (41).

(3)

المصدر السابق (41 - 42).

ص: 189

فيما لا يزال مختصة بالمتجددات تحدث عند حدوثها. . . ولا يلزم من ذلك تغير في الصفة الإلهية بل في متعلقاتها وهي أمور إضافية لا يوجب تغيرها تغيرًا في الصفة القديمة"

(1)

.

وهذا القول أيضًا هو قول طوائف من المعتزلة لكن هؤلاء يقولون: يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم لا بين العلم والمعلوم.

وقول هؤلاء باطل من وجوه:

الأول: أن مآل كلامهم إلى نفي ما دل عليه القرآن صراحة من تجدد علم لله سبحانه بالشيء المتجدد غير العلم القديم، يوضحه:

الثاني: أن هذا التعلق الذي أثبتوه إما أن يكون أمرًا وجوديًّا أو أمرًا عدميًّا، فإن كان الثاني فقد بطل قولهم من أصله، وإن كان عدميًّا فلم يتجدد لله شيء، إذ العدم لا شيء، وهذا مناف لما أثبتته النصوص من حدوث تجدد

(2)

.

الثالث: أن حدوث التعلق الذي هو نسبة وإضافة فقط ممتنع، إذ وجود هذا التعلق مشروط بحدوث أمر وجودي يقتضي ذلك، فلا تكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية فإنها لا بد أن تستلزم أمورًا ثبوتية

(3)

.

الرابع: أن مجرى هذا العلم في هذا مجرى باقي الصفات من سمع وبصر ونحوها، فالمسموع والمبصر قبل وجودهما عدمًا، والعدم لا يتعلق به سمع

(1)

النبراس في شرح العقائد (135).

(2)

انظر: جامع الرسائل (2/ 18).

(3)

انظر: جامع الرسائل (2/ 18).

ص: 190

ولا بصر، ولكن إذا وجد الشيء سُمع وأُبصر، فكذلك العلم بالشيء موجودًا، لا يتعلق به إلا بعد أن يوجد، والله أعلم.

ولما كان التعلق بهذا التعقيد؛ فقد اعترف أكابرهم بصعوبة إدراكه وكونه مما لا يجب على المكلف معرفته.

قال البيجوري: "ومعرفة التعلقات غير واجبة على المكلف لأنها من غوامض علم الكلام، كما نقله الشيخ البرَّاوي

(1)

عن سيدي محمد الصغير، وذكره الشيخ الشنواني"

(2)

.

(1)

هو: عيسى بن أحمد بن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الأزهري المصري الشافعي، من كتبه:"التيسير لحل ألفاظ الجامع الصغير"، و"حاشية على شرح جوهرة التوحيد"، مات بالقاهرة سنة (1182 هـ).

انظر: سلك الدرر (3/ 273)، الأعلام للزركلي (5/ 100).

(2)

تحفة المريد (142).

ص: 191

‌المبحث السادس: "من العلم ما هو سببٌ في وجود المعلوم، ومنه ما ليس كذلك"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 193

المبحث السادس: "من العلم ما هو سبب في وجود المعلوم، ومنه ما ليس كذلك"

هذه القاعدة هي آخر القواعد المتعلقة بمسألة العلم بصفة خاصة، والبحث فيها هو في تأثير العلم في وجود المعلوم.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

ويكون في ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والتحقيق أن كلًّا من العِلمين علم الخالق وعلم المخلوق ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه وإلى ما لا يكون كذلك، فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه فإن هذا العلم ليس سببًا لهذا الموجود، فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقًا"

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والصواب أن العلم قسمان: علم فعلي؛ وهو علم الفاعل المختار بما يريد أن يفعله؛ فإنه موقوف على إرادته الموقوفة على تصوره المراد وعلمِه به، فهذا علم قبل الفعل متقدم عليه مؤثر فيه، وعلم انفعالي؛ وهو العلم التابع للمعلوم الذي لا تأثير له فيه، كعلمنا بوجود الأنبياء والأمم والملوك وسائر الموجودات فإن هذا العلم لا يؤثر في المعلوم

(1)

درء التعارض (9/ 390).

ص: 195

ولا هو شرط فيه"

(1)

.

وقال صديق حسن خان رحمه الله في ذكر تقسيمات العلم: "الخامس: إلى فعلي ويسمى كليًّا قبل الكثرة، وهو ما يكون سببًا لوجود المعلوم في الخارج، كما نتصور السرير مثلًا ثم نوجده، وانفعالي ويسمى كليًّا بعد الكثرة وهو ما يكون مسببًّا عن وجود العالم بأن يكون مستفادًا من الوجود الخارجي، كما نجد أمرًا في الخارج كالسماء والأرض ثم نتصوره فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها"

(2)

.

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 314 - 315).

(2)

أبجد العلوم (1/ 39).

ص: 196

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

تنقسم الأدلة على هذه القاعدة إلى قسمين: الأدلة على العلم السببي، والأدلة على العلم غير السببي.

‌الأدلة على العلم السببي:

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4].

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].

وكل آية يخبر الله سبحانه وتعالى فيها بعلمه بأفعال عباده فالعلم فيها من العلم السببي، لأنه سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد.

وكذا كل آية يخبر سبحانه وتعالى فيها بعلمه بخلقه هي كذلك، كما في قوله تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنما يكون فعليًا علمُه بخلقه؛ فإن علمَه له تأثير في فعل خلقه. . . ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فعلمه فعليٌّ لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار"

(1)

.

والعلم الفعلي - كما سيأتي - هو العلم السببي.

‌الأدلة على العلم غير السببي:

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255].

قال ابن عباس: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : يعلم ما قدموا من أعمالهم"

(2)

.

(1)

درء التعارض (10/ 112).

(2)

رواه ابن أبي حاتم (2/ 489).

ص: 197

قال مجاهد: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما مضى من الدنيا"

(1)

.

وقال ابن جريج: "قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ما مضى أمامهم من الدنيا"

(2)

.

وعلمه سبحانه بما مضى من أعمال بني آدم علم غير سببي، إذ لا تأثير له في المسبب، وهو غير العلم الذي كان سببًا في حصولها.

فكل نص يتضمن علمه سبحانه بما وجد من مخلوقاته فهو من العلم غير السببي، وكذا كل نص يتضمن الإخبار بعلمه بنفسه سبحانه، لأن نفسه سبحانه غير مخلوقة.

(1)

رواه ابن جرير (4/ 536)، وابن أبي حاتم (2/ 489).

(2)

رواه ابن جرير (4/ 536).

ص: 198

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المراد من هذه القاعدة بيان انقسام العلم إلى ما هو سبب في وجود المعلوم وما هو غير سبب فيه، وقد ذكر بعض أهل العلم هذه المسألة معبرين عنها بتأثير العلم، فذكروا أن العلم - باعتبار التأثير - ينقسم إلى قسمين:

الأول: العلم العملي؛ وهو ما كان شرطًا في حصول المعلوم، ووجود المعلوم بدونه ممتنع، وهو علم الفاعل المختار بما يريد أن يفعله، وهو شرط في إرادة المعلوم، لأن الإرادة مشروطة بتصور المراد، ويسمى كذلك: العلم الفعلي، وهذا العلم طلبي، ولا يكون إلا متقدمًا على الفعل، ولا يمكن أن يتأخر عنه، لأنه شرط فيه، وسبب له.

والثاني: العلم الخبري النظري المحض؛ وهو ما كان المعلوم فيه غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، وهو العلم بما لا يفعله العالم، وما ليس علمه به شرطًا في وجوده، ويسمى أيضًا: العلم الانفعالي، وهذا النوع قد يكون متقدمًا على المعلوم، وقد يكون متأخرًا عنه

(1)

.

وهذا التقسيم للعلم هو من حيث كونه علمًا، أي سواء تعلق بالله تعالى أو بالمخلوق.

فمن علم الله سبحانه وتعالى ما هو مؤثر في وجود المعلوم وشرط له، كعلمه سبحانه وتعالى بمخلوقاته؛ فإنه شرط في وجودها، ومنه ما ليس مؤثرًا فيه كعلمه

(1)

انظر: درء التعارض (1/ 88) و (9/ 390 - 392) و (10/ 112)، وجامع الرسائل (1/ 172) و (2/ 395 - 396)، ومجموع الفتاوى (19/ 129 - 130) ومفتاح دار السعادة (1/ 314 - 315).

ص: 199

سبحانه بنفسه وما يجب له من صفات الكمال.

وكذا من علم المخلوق ما هو مؤثر في معلومه، كعلمه بما يريد فعله من قيام أو صلاة أو كتابة ونحو ذلك، ومنه ما لا يؤثر، كعلمه بوحدانية الله وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة في نفسها سواء علمها أو لم يعلمها، فهي مستغنية عن علمه بها

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلامه عن انقسام علمنا إلى مؤثر وغير مؤثر -: "وهذا التقسيم ثابت في علم الله تعالى؛ فإنه يعلم نفسه، ويعلم مخلوقاته أيضًا، والأول علم بموجود، والثاني علم بمقصود"

(2)

.

وكل من هذين القسمين مستلزم للآخر؛ بمعنى أنهما يجتمعان في كل علم.

أما استلزام العلم الخبري النظري للعلم العملي؛ فلأن العلم لا بد أن يتبعه أثر ما وعمل ما على العالِم، من حب أو بغض أو غيرهما، فيكون - مع كونه تابعًا للمعلوم - متبوعًا مؤثرًا من هذه الجهة، لكن لا يجب أن يكون تأثيره في نفس المعلوم، بل يكون في أحوال تتعلق بالمعلوم من حب أو بغض أو إرادة ونحو ذلك.

مثاله: العلم بالله سبحانه وتعالى هو علم خبري تابع للمعلوم، فمن آمن بالله فأحبه؛ كان علمه مؤثرًا، لكن تأثيره ليس في نفس المعلوم، وإنما في محبته وإرادته، وكذا العلم بالشيطان؛ هو علم خبري تابع غير مؤثر فيه، لكنه مؤثر في بغضه وكراهيته لمن عرفه.

(1)

انظر: درء التعارض (1/ 88).

(2)

جامع الرسائل (2/ 396).

ص: 200

وأما استلزام العلم العملي للعلم الخبري النظري؛ فلأن العلم العملي لا يكون مؤثرًا في وجود المعلوم إلا إذا كان المعلوم متصَوَّرًا في ذهن العالم قبل وجوده في الخارج، فإن الفعل الاختياري يتبع الإرادة، والإرادة تتبع المراد؛ فلا بد أن يتصور الفاعل المراد قبل قصد الفعل الذي هو سبب إليه، فهو من هذه الحيثية علم نظري، فكل علم عملي فهو مسبوق بعلم نظري قائم في نفس العالم، فقد يكون ثبوت المعلوم في ذهن العالم سابقًا لوجوده في الخارج، وقد يكون وجوده في الخارج سابقًا لتصوره، أو بدون تصوره، وهذا هو مورد التقسيم.

ومن هذا يتبين أن لكل علم أثرًا في نفس العالم، وأن كل علم هو تابع مطابق للمعلوم، وإن كان بعضه سابقًا، وبعضه تابعًا تبع التأخر والتأثر

(1)

.

ولا ريب أن إثبات التأثير للعلم يقتضي كونه سببًا فيه، سواء عبر عن ذلك بلفظ السببية أو الشرطية أو نحو ذلك مما يقتضي توقف حصول المعلوم عليه، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله:"العلم أبدًا تابع للمعلوم مطابق له، ثم قد يكون سببًا في وجود المعلوم. . . وقد لا يكون سببًا"

(2)

.

وقال رحمه الله: "وقد يجوز أن يقال: كله علم فهو تابع للمعلوم مطابق، سواء كان سببًا في وجود المعلوم أو لم يكن"

(3)

.

وكل من القسمين صفة كمال وعدمه من أعظم النقص

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (19/ 130 - 132)، وجامع الرسائل (2/ 395 - 396).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 510).

(3)

مجموع الفتاوى (19/ 130).

(4)

انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 315).

ص: 201

ومن مسائل هذه القاعدة: إن إثبات سببية العلم لا يعني أنه مقتض للمعلوم موجب له بمجرده، بل هو شرط أو جزء سبب، فليس هو وحده موجبًا لوجود المعلوم بلا قدرة ولا إرادة وعمل، بل لا بد مع العلم به من إرادته والقدرة عليه، وإن كان العلم سابقًا عليهما

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعلومات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه، فمن ادعى أن مجرد العلم كاف في حصول المعلومات كان مكابرًا مباهتًا"

(2)

.

فالحاصل أن العلم قسمان: سبب في وجود المعلوم، وغير سبب، والله أعلم.

(1)

انظر: جامع الرسائل (1/ 172)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 511 - 512).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 512)، وانظر: درء التعارض (10/ 112).

ص: 202

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

الخلاف في هذه القاعدة مع طائفتين: المتكلمين والفلاسفة.

أما المتكلمون فذهبوا إلى أن العلم ليس سببًا لوجود المعلوم، بل هو تابع له على ما هو عليه ولا تأثير له فيه.

صرح بذلك عدد من أئمتهم، فقال الغزالي:"العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه، ولا يؤثر فيه ولا يغيره"

(1)

.

وقال الجُوَيني

(2)

: "وتعلق العلم بالمعلوم لا يغيره ولا يوجبه، بل يتبعه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يؤثر في المعلوم؛ لما تعلق العلم بالقديم سبحانه وتعالى"

(3)

.

وقال الرازي: "العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه"

(4)

.

وقال الزمخشري: "العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه"

(5)

.

بل قد حكى الشهرستاني اتفاق المتكلمين على ذلك، فقال: "ولذلك اتفق المتكلمون بأسرهم على أن العلم يتبع المعلوم فيتعلق به على ما هو به، ولا

(1)

الاقتصاد في الاعتقاد (101)، وانظر: المستصفى (1/ 290).

(2)

هو: أبو المعالي، عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني النيسابوري الأشعري، المعروف بإمام الحرمين، شيخ الشافعية، ولد سنة (419 هـ)، من كتبه:"العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية"، و"نهاية المطلب في دراية المذهب"، مات سنة (478 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 468)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 165).

(3)

البرهان (1/ 105).

(4)

مفاتيح الغيب (19/ 75)، وانظر: المحصول (2/ 216).

(5)

الكشاف (4/ 505).

ص: 203

يكسبه صفةً ولا يكتسب عنه صفةً"

(1)

.

وذهب الفلاسفة إلى أن علم الله سبحانه سبب في وجود المعلوم، وأن هذا العلم بمجرده هو الموجب لوجود المخلوقات، وليس للمشيئة والقدرة في ذلك مدخل.

قال ابن سينا: "الصور العقلية قد يجوز بوجه ما أن تُستفاد من الصور الخارجية، مثلًا كما تستفيد صورة السماء من السماء، وقد يجوز أن تسبق الصورة أولًا إلى القوّة العاقلة، ثم يصير لها وجود من خارج، مثل ما تعقل شكلًا ثم تجعله موجودًا، ويجب أن يكون ما يعقله واجب الوجود من الكلّ على الوجه الثاني"

(2)

.

وهذا تصريح واضح في أنّ علم الله سبحانه علم فعلي لا انفعالي، فقد قال الطوسي في شرحه:"فقسم المفعولات إلى ما تكون عللًا لوجود الأعيان الخارجية التي هي صورها، كتعقل الإنسان عملًا غريبًا لم يسبقه أحد إليه، وإيجاد ما يعقله بعد ذلك، ويسمى علمًا فعليًّا، وإلى ما تكون معلولات الأعيان الخارجية كتعقل الإنسان شيئًا شاهد صورته، ويسمى علمًا انفعاليًّا. ونفى المصنف الثاني عن الأول تعالى، لامتناع انفعاله عن غيره"

(3)

.

وقال الشهرستاني: "ومن مذهبهم [أي الفلاسفة] أنه ليس علم الباري تعالى علمًا انفعاليًّا - أي تابعًا للمعلوم -، بل علمه علم فعلي فهو من حيث هو

(1)

نهاية الإقدام في علم الكلام (70).

(2)

الإشارات والتنبيهات (3/ 275 - 276).

(3)

شرح الطوسي بهامش الإشارات والتنبيهات (3/ 276).

ص: 204

فاعل عالم وعلمه هو الذي أوجب الفعل"

(1)

.

والرد على هاتين المقالتين من وجوه:

الأول: أن تقسيم العلم إلى سببي وغير سببي أمر معلوم ببداهة العقل، فكل أحد يدرك أن العلم ببعض الأشياء كأخبار من سلف من الأمم ليس سببًا في وجود هذا المعلوم بضرورة العقل، إذ هو سابق في وجوده، ويدرك كذلك أن من العلم ما هو شرط في حصول المعلوم، كبناء دار؛ فلا يمكن لأحد أن يبني بيتًا وهو جاهل بصناعة البناء.

الثاني: أن الفلاسفة في نفيهم للعلم غير السببي، وكذا المتكلمون في نفيهم للعلم السببي كلاهما معترف ضمنًا بالقسمة، وإن عبَّر بنفيها، وإن أنكروها فهي لازمة لهم.

فمن يقر من الفلاسفة بأن الله سبحانه يعلم نفسه - وهم أكثر الفلاسفة

(2)

- يلزمه أن يقر بأن علمه سبحانه بها ليس سببًا فيها؛ لأن ذاته سبحانه غير مخلوقة.

وأما المتكلمون فإنهم يقرون بأن العلم بالشيء الذي سيفعله الفاعل شرط في حصول ذلك الشيء، وإذا كان شرطًا في حصوله فهو سبب مؤثر فيه، ولذلك فإنهم يستدلون على ثبوت العلم للرب سبحانه بدليل الإحكام والإتقان

(3)

، فلو لم يكونوا مقرين بوجود هذا القسم لما صحَّ لهم الاستدلال

(1)

الملل والنحل (1/ 82).

(2)

انظر: تلبيس إبليس (1/ 325).

(3)

انظر مثلًا: شرح الأصول الخمسة (156)، وشرح العقائد النسفية (36)، وشرح السنوسية (93)، وتحفة المريد (127).

ص: 205

كما لا يخفى.

ولذلك وُجد من علماء الكلام من نص على القسمين، كما فعل الإِيجِي

(1)

في "المواقف"، فقد قال:"العلم إما فعلي كما نتصور أمرًا ثم نوجده، وإما انفعالي كما يوجد أمر ثم نتصوره، فالفعلي قبل الكثرة، والانفعالي بعدها"

(2)

.

وأقره على ذلك الشارح الجرجاني، والسِّيَالكوتي

(3)

وحسَن جَلبي

(4)

في حاشيتهما عليه

(5)

، ولذلك قال شيخ الإسلام: "وما أظن العقلاء من الفريقين إلا يقصدون معنى صحيحًا؛ وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه؛ فينظر هؤلاء في أن العلم تابع لمعلومه مطابق له، ويشير هؤلاء إلى ما في حسن العلم في الجملة من أنه قد يؤثر في المعلوم وغيره ويكون سببًا له، وأن وجود الكائنات كان

(1)

هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد، عضد الدين الإيجي الشيرازي الشافعي الأشعري، من كتبه:"المواقف في علم الكلام"، و"شرح مختصر ابن الحاجب"، مات سنة (756 هـ).

انظر: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 46)، والدرر الكامنة (3/ 327).

(2)

المواقف (145).

(3)

هو: عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السيالكوتي البنجابي، من كتبه:"عقائد السيالكوتي"، و"زبدة الأفكار"، مات سنة (1067 هـ).

انظر: الأعلام للزركلي (3/ 283)، ومعجم المؤلفين (2/ 60).

(4)

هو: حسن جلبي بن محمد شاه بن حمزة، بدر الدين الرومي الحنفي، ويعرف بالفناري، من تصانيفه:"حاشية على شرح صدر الشريعة"، و"حاشية على شرح الشريف الجرجاني لمواقف الإيجي"، مات سنة (886 هـ).

انظر: الضوء اللامع (3/ 127)، الفوائد البهية (64).

(5)

شرح المواقف للجرجاني مع حاشيتي السيالكوتي والجلبي (6/ 43).

ص: 206

بعلم الله"

(1)

.

إلا أن إطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من إطلاق الفلاسفة

(2)

.

الثالث: أن كلا العلمين السببي وغير السببي متلازمان، ويجتمعان في العلم غالبًا أو دائمًا كما تقدم، وهذه القسمة الحاصلة إنما كانت نتيجة لكون ثبوت المعلوم في نفس العالم وتصوره قد يكون سابقًا لوجوده في الخارج، كتصور أحدنا لأقواله وأفعاله، وقد يكون وجوده الخارجي هو السابق، فلا يتأتى لأحد - والحال هذه - إنكار أحدهما، بل يلزم الإقرار بهما معًا.

وأما زعم الفلاسفة بأن العلم موجب لوجود المعلوم بدون القدرة والمشيئة فباطل، إذ يلزم عليه قدم المخلوقات؛ لأن علمه سبحانه أزلي، فإذا كان وجود المخلوقات غير مشروط بالقدرة والإرادة، والعلم أزلي؛ فالمخلوقات أزلية، وهذا باطل بالضرورة، ثم إن تأثير القدرة والمشيئة في وجود المراد أظهر من تأثير العلم

(3)

، فلا يصح نفي سببيتهما، وهذا معلوم لكل أحد، والله أعلم.

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 130).

(2)

انظر: درء التعارض (9/ 392)، ومجموع الفتاوى (19/ 130).

(3)

انظر: درء التعارض (9/ 391).

ص: 207

‌المبحث السابع: "ما كُتب في اللوح المحفوظ ثابت لا يتغير، وما كُتب في صحف الملائكة يقع فيه المحو والإثبات"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 209

المبحث السابع: "ما كُتب في اللوح المحفوظ ثابت لا يتغير، وما كُتب في صحف الملائكة يقع فيه المحو والإثبات"

تتضمن هذه القاعدة مسألة مهمة تتعلق بمرتبتي العلم والكتابة - وهي ألصق بمرتبة الكتابة -، وهي مسألة المحو والإثبات في المقادير

(1)

.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

ويكون في ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلًا في صحف الملائكة؛ فإذا وصل رحِمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب"

(2)

.

وقال ابن العربي رحمه الله: "الحكمة في كون الملك يكتب ذلك كونه قابلًا للنسخ والمحو والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى فإنه لا يتغير"

(3)

.

وقال البيهقي رحمه الله: "الله جل ثناؤه قد كتب ما يصيب عبدًا من عباده

(1)

في هذا الموضوع بحث مفرد هو: "المحو والإثبات في المقادير" للدكتور عيسى السعدي، وقد استفدت منه في مواضع من هذا المبحث.

(2)

مجموع الفتاوى (14/ 490 - 491).

(3)

فتح الباري (11/ 485).

ص: 211

من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يصبه ذلك البلاء، ورزقه كثيرًا وعمره طويلًا، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين، فالمحو والإثبات يرجع إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عباس

(1)

، والله أعلم"

(2)

.

وقال الذهبي رحمه الله: "فإن الدعاء بطول البقاء قد صح؛ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بطول العمر

(3)

، والله يمحو ما يشاء ويثبت، فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطًا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، و (لا يرد القضاء إلا الدعاء)

(4)

، والكتاب الأول فلا يتغير"

(5)

.

وقال الشوكاني رحمه الله: "تطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره؛ لأسباب تقتضي التطويل وأسباب تقتضي التقصير، فمن أسباب التطويل: ما ورد في صلة الرّحم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عز وجل، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلًا سبعين سنة؛ فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكلّ في كتاب مبين"

(6)

.

(1)

انظر ما يأتي ص (214).

(2)

القضاء والقدر (1/ 485).

(3)

سيأتي تخريجه ص (239).

(4)

سيأتي تخريجه ص (217).

(5)

سير أعلام النبلاء (8/ 219 - 220).

(6)

فتح القدير (4/ 451).

ص: 212

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

تضمنت هذه القاعدة مسألتين:

الأولى: أن ما في اللوح المحفوظ لا يقبل المحو والإثبات.

الثانية: وقوع ذلك في صحف الملائكة.

فأدلة الأولى: هي كل دليل دل على الفراغ من المقادير، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه:(يا أبا هريرة، جفَّ القلم بما أنت لاقٍ، فاختصِ على ذلك أو ذَر)

(1)

.

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف)

(2)

.

وحديث جابر رضي الله عنه قال: جاء سُراقة بن مالك بن جُعشُم؛ قال: يا رسول الله! بَيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجَرَت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:(لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت: ما قال؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر)

(3)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب النكاح، باب ما يُكره من التبتل والخصاء (7/ 4) ح (5076).

(2)

تقدم تخريجه ص (104)، وهو صحيح.

(3)

تقدم تخريجه ص (104)، وهو صحيح.

ص: 213

وأما أدلة الثانية؛ فيمكن تقسيمها إلى قسمين:

أدلة على ذات المحو والإثبات؛ وتتضمن إثبات المحو والإثبات:

كما في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فجمع سبحانه في هذه الآية بين وقوع المحو والإثبات فيما دون اللوح المحفوظ، وبين عدمه فيه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة رحمه الله:"كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب"

(1)

.

قال ابن أبي العز رحمه الله: "وقيل الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحُمل قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38، 39]، على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: اللوح المحفوظ. ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، ثم قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، أي: من ذلك الكتاب، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ"

(2)

.

وقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11]، على الراجح في تفسيرها، فيكون مرجع الضمير في قوله:{مِنْ عُمُرِهِ} إلى المعمر نفسه، أي وما ينقص من عمره على الحقيقة، فالمراد بالنقص: النقص من العمر المكتوب، كما يراد بالزيادة: الزيادة في العمر المكتوب.

قال الشوكاني رحمه الله: "والأولى أن يقال: ظاهر النظم القرآني أن تطويل

(1)

رواهما ابن جرير (13/ 562).

(2)

شرح الطحاوية (1/ 131 - 132).

ص: 214

العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره؛ لأسباب تقتضي التطويل وأسباب تقتضي التقصير.

فمن أسباب التطويل: ما ورد في صلة الرّحم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عز وجل، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلًا سبعين سنة؛ فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكلّ في كتاب مبين"

(1)

.

‌أدلة على أسباب المحو والإثبات:

كتقوى الله وطاعته، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، والدعاء، والبِرّ.

كما في قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 3، 4].

فجعل سبحانه عبادته وطاعته سببًا لزيادة العمر، والمعنى:"يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة، فوق ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان"

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: "قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم، ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا

(1)

فتح القدير (4/ 451)، وانظر: مجموع الفتاوى (14/ 490)، وقد شنَّع الشوكاني في قطر الولي (506 - 507) على من فسره بغير ذلك بعبارات شديدة لا يوافق عليها، ولكلتا هاتين الآيتين أقوال أخرى في تفسيرها؛ ستأتي مع مناقشتها.

(2)

فتح القدير (5/ 394).

ص: 215

عوجلوا بالعذاب"

(1)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والعمر يطول والرزق يبسط بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح، كما أن الهلاك والإغراق استحقه قوم نوح بالكفر والتكذيب"

(2)

.

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يُبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليَصِل رَحِمَه)

(3)

.

وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار)

(4)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلًا، وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر"

(5)

.

وقال أيضًا: "والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلًا في صحف الملائكة؛ فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص

(1)

تفسير القرطبي (21/ 251).

(2)

مختصر الفتاوى المصرية للبعلي (249).

(3)

رواه البخاري: كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (8/ 5) ح (5986)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/ 1982) ح (2557)، ورواه البخاري في الباب السابق (8/ 5) ح (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد (42/ 153) ح (25259)، وصححه الألباني الصحيحة ح (519).

(5)

مجموع الفتاوى (8/ 517).

ص: 216

نقص من ذلك المكتوب"

(1)

.

وحديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)

(2)

.

قال البيهقي رحمه الله بعد أن ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى -: "والمعنى في هذا أن الله جل ثناؤه قد كتب ما يصيب عبدًا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يصبه ذلك البلاء، ورزقه كثيرًا وعمره طويلًا، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين، فالمحو والإثبات يرجع إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عباس، والله أعلم"

(3)

.

وغير ذلك من الأدلة، وسيأتي شيء منها في غضون الشرح بإذن الله.

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 490 - 491).

(2)

رواه أحمد (37/ 68) ح (22386)، والترمذي: أبواب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/ 18) ح (2139)، وابن ماجه: المقدمة، باب في القدر (1/ 111) ح (90)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (154).

(3)

القضاء والقدر (1/ 485).

ص: 217

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

البحث في هذه القاعدة هو في مسألة المحو والإثبات في المقادير، وأن ذلك واقع في صحف الملائكة دون اللوح المحفوظ، ويتضمن البحث كذلك بيان متعلق المحو والإثبات.

ويحسُن قبل الخوض في شرح هذه القاعدة بيانُ المراد بالمحو والإثبات.

فالمحو: إزالة الشيء والذهاب به، والمحو لكل شيء يذهب أثره

(1)

.

والإثبات: ضده، وهو إقامة الشيء وإدامته، وعدم إزالته

(2)

.

وكل من المحو والإثبات من أفعال الله سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].

وكذا قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24].

وقوله: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].

وهما من الصفات الفعلية اللائقة بعظمته وجلاله سبحانه وتعالى.

ومذهب أهل السنة والجماعة أن المحو والإثبات واقعان في المقادير، والخلاف بينهم في مسألتين:

الأولى: محل المحو والإثبات.

الثانية: متعلق المحو والإثبات.

(1)

انظر: تهذيب اللغة (5/ 277)، ولسان العرب (20/ 139)، مادة:(محو).

(2)

انظر: تهذيب اللغة (14/ 267)، والمفردات (171)، مادة:(ثبت).

ص: 218

أما المسألة الأولى: - وهي المسألة الأساسية في القاعدة - فهم فيها على قولين:

القول الأول: أن المحو والإثبات واقع في صحائف الملائكة فحسب، وأما اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات.

القول الثاني: أن المحو والإثبات واقع في كليهما.

فاتفق الفريقان على وقوعه في الصحف واختلفا في وقوعه في اللوح.

والمراد بالصحف: صحف التقدير العمري، وصحف التقدير الحولي في ليلة القدر.

مع التنبيه على أن أهل السنة مجمعون على أن علم الله سبحانه لا محو فيه ولا إثبات.

أما وقوعه في صحف الملائكة؛ فيدل عليه ما تقدم من أدلة على وقوع المحو والإثبات.

وأما منع وقوعه في اللوح المحفوظ - وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول -؛ فيدل عليه:

أولًا: قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: "كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب"، ومثله عن عكرمة

(1)

.

وقال الربيع: " {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} : أي: أصل الكتاب، وهو

(1)

تقدم تخريجهما ص (214).

ص: 219

اللوح المحفوظ الذي لا يبدَّل ولا يغير".

وقال ابن زيْد

(1)

: " {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: لا يُغير ولا يُبدل"

(2)

.

وقال السُّدي: " {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: يقول: عنده الذي لا يُبدل".

قال الحافظ رحمه الله: "فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى؛ فلا محو فيه البتة"

(3)

.

وقال السعدي رحمه الله: " {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} : من الأقدار، {وَيُثْبِتُ}: ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه؛ فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله، أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع له وشعب، فالتغيير

(1)

هو أبو الشعثاء، جابر بن زيد الأزدي اليحمدي مولاهم، البصري، كان عالم أهل البصرة في زمانه، يعد مع الحسن وابن سيرين وهو من كبار تلامذة ابن عباس، ولد سنة (21 هـ)، قال عمرو بن دينار:"ما رأيت أحدًا أعلم من أبي الشعثاء"، وقال عزرة الكوفي:"قلت لجابر بن زيد: إن الإباضية يزعمون أنك منهم قال: أبرأ إلى الله منهم"، مات سنة (93 هـ). انظر: الطبقات الكبرى (9/ 179)، والتاريخ الكبير (2/ 204)، وسير أعلام النبلاء (4/ 481).

(2)

تفسير الطبري (13/ 567).

(3)

فتح الباري (10/ 416).

ص: 220

والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابًا ولمحوها أسبابًا، لا تتعدى تلك الأسباب ما رُسم في اللوح المحفوظ"

(1)

.

وهذا الاستدلال مستقيمٌ، سواء قيل إن {أُمُّ الْكِتَابِ} هو اللوح المحفوظ - كما هو الراجح وهو المأثور عن ابن عباس وعكرمة -، أو قيل إنه علم الله سبحانه، يوضحه:

ثانيًا: أنه قد وقع الإجماع على أن علم الله سبحانه وتعالى لا محو فيه ولا إثبات، والذي في اللوح المحفوظ هو من علم الله سبحانه وتعالى، وعليه فلا محو فيه ولا إثبات أيضًا.

دل على هذا حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل)، فلذلك أقول جف القلم على علم الله

(2)

.

فجعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله سبحانه وتعالى.

(1)

تفسير السعدي (2/ 836).

(2)

رواه أحمد (11/ 219) ح (6644)، والترمذي: أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (4/ 382) ح (2642)، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (241)، وبوَّب البخاري:"باب جف القلم على علم الله" أورد تحته حديث عمران بن حصين قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال:(نعم)، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: (كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له)(8/ 122) ح (6596).

ص: 221

ثالثًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بجفاف القلم وأن الأمر قد فُرغ منه، وإذا جف قلم اللوح فلا محو في اللوح ولا إثبات.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: (يا أبا هريرة، جفَّ القلم بما أنت لاقٍ، فاختصِ على ذلك أو ذَر).

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف).

وحديث سُراقة بن مالك بن جُعشُم رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله! بَيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجَرَت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:(لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير). وقد تقدمت قريبًا

(1)

. . . إلى غير ذلك من الأحاديث.

قال ابن رجب رحمه الله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها، والفراغ منها من أمدٍ بعيدٍ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ورفعت الأقلامُ عنه وطال عهده؛ فقد رُفعت عنه الأقلام، وجفت الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها"

(2)

.

رابعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر في أحاديث عدة أن القلم جرى

(1)

انظر ص (210).

(2)

جامع العلوم والحكم (362 - 363).

ص: 222

بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)

(1)

.

وفي لفظ: (اكتب القدر؛ ما كان وما هو كائن إلى الأبد)

(2)

، وفي لفظ:(فجرى بما هو كائن إلى الأبد)

(3)

.

وهذا المحو والإثبات الواقعين في القدر لا يخلو إما أن يكونا مما سُطر في اللوح المحفوظ، أو لا يكونا، والثاني باطل قطعًا لمخالفته للعموم الوارد في الأحاديث السابقة، فيلزم أنه موجود فيه.

وإذا تقرر وجوده فيه فأي شيء سيمحى أو يثبت فيه؟ فالموجود في اللوح المحفوظ: القدر المشروط، والقدر النهائي، وهو ما يعبر عنه بالقدر المعلق أو المقيد، والقدر المثبت أو المطلق أو المبرم كما سيأتي بيانه.

خامسًا: قوله سبحانه: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22]، على قراءة من قرأ {مَحْفُوظٍ} بالخفض على أنه صفة للوح

(4)

، فوصف اللوح بالحفظ، وهذا يعم الحفظ من التغيير والتبديل والمحو والإثبات.

قال ابن جرير رحمه الله: "في لوح محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما أثبته الله فيه"

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (37).

(2)

رواه الترمذي (4/ 29) ح (2155)، وانظر: صحيح الترمذي ح (2155).

(3)

رواه كذلك الترمذي (5/ 348) ح (3320)، وانظر: صحيح الترمذي ح (3319).

(4)

وهم الجميع سوى نافع، انظر: الحجة في القراءات السبع (368).

(5)

تفسير الطبري (24/ 286).

ص: 223

وقال ابن كثير رحمه الله: "أي هو في الملأ الأعلى؛ محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل"

(1)

.

سادسًا: أنه يلزم على القول بوقوع المحو والإثبات في اللوح المحفوظ لازم باطل، وهو نسبة البداء إلى الله سبحانه وتعالى

(2)

، إذ المكتوب في اللوح علمه سبحانه - كما تقدم -، فإذا جاز التغيير في علمه سبحانه وتعالى فهذا هو عين البداء.

وقد اعترض القائلون بوقوع المحو والإثبات في اللوح - وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني - على هذه الأدلة بثلاثة اعتراضات:

الاعتراض الأول: أن المكتوب في صحف الملائكة هو ما في اللوح المحفوظ، فصحف التقدير السنوي تنسخها الملائكة من اللوح المحفوظ، وصحف التقدير العمري تعرض على اللوح المحفوظ فتكون مطابقة لما فيه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، قال:"يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان"

(3)

.

وتقدم أن هذه المقادير تفصيل مما في اللوح المحفوظ

(4)

، كما هي دلالة تسميته بأم الكتاب، لأن أم كل شيء: أصله وعماده، ومنه قولهم لمكة: أم القرى

(5)

.

(1)

تفسير ابن كثير (14/ 314).

(2)

سيأتي تعريف البداء ص (249).

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3287).

(4)

انظر ما تقدم ص (119).

(5)

القاموس المحيط (4/ 75).

ص: 224

فإذا قلنا أن بوقوع المحو والإثبات فيها؛ لزمنا القول بوقوعهما فيه حتمًا.

والجواب عليه: أنه لا شك أن ما في صحف الملائكة موجود في اللوح المحفوظ، لأن اللوح المحفوظ كُتب فيه كل شيء على التفصيل، سواء ما يتعلق ببني آدم أو بغيرهم، بل قد كتب فيه ما يتعلق بما يقوله الرب سبحانه وتعالى وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وكتب فيه أيضًا مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها كما تقدم

(1)

.

لكن محل النزاع هنا: هل الذي في اللوح المحفوظ هو فقط ما في هذه الصحف، أم أن فيه زيادة عليها؟

هذه المسألة تتضح ببيان مسألة أخرى: وهي انقسام المكتوب في اللوح إلى قدر معلق، وقدر مبرم، فالقدر قدران:

الأول: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في اللوح المحفوظ دون غيره من الصحف، وهو ما علمه الله أنه يقع، وهو مستقر الأمر الذي يعلمه الله سبحانه وتعالى ولا تعلمه الملائكة، وهذا القدر ثابت لا يتغير؛ فلا محو فيه ولا إثبات.

الثاني: القدر المعلق، أو المقيد: وهو المعلق بالأسباب التي هي من جملة ما قدره الله وكتبه، وهو ما يوجد في صحف الملائكة - مع وجوده في اللوح -.

كأن يقال للملَك: إن عمر فلان مائة سنة إن وصل رحمه وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، وهذا هو الذي يدخله المحو والإثبات

(2)

.

(1)

انظر ما تقدم ص (110).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 488 - 492)، وفتح الباري (10/ 416)، وشرح صحيح مسلم (16/ 330 - 331).

ص: 225

فثبت بهذا أن ما في الصحف مطابق لما في اللوح، إلا أنه مقيد بأسبابه، وما في اللوح شامل لهذا ولما يستقر عليه الأمر، فلا إشكال حينئذٍ.

الاعتراض الثاني: أن القول بوقوع المحو والإثبات في اللوح قد روي عن بعض السلف.

كما روى ابن أبي شيبة

(1)

والبيهقي في القضاء والقدر

(2)

عن ابن مسعود رضي الله عنه: "ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: يا ذا المن فلا يُمَن عليك، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول لا إله إلا أنت، ظهر اللاجئين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا فامح عني اسم الشقاء، وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني في أم الكتاب مقتَّرًا عليَّ رزقي؛ فامح حرماني وتقتير رزقي، وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ".

والجواب عليه من وجوه:

الأول: ضعف سنده؛ فهو من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفيه علتان:

1) عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ابن سعد بن الحارث، أبو شيبة الواسطي الأنصاري ويقال الكوفي، متفق على ضعفه

(3)

.

(1)

المصنف (15/ 142) ح (30145).

(2)

(487) ح (188).

(3)

انظر: التهذيب (2/ 486 - 487).

ص: 226

2) الانقطاع بين القاسم وابن مسعود

(1)

.

وعليه فهذا الأثر لا يصح.

الثاني: على فرض ثبوته فهو معارَض بالنصوص التي دلت على أن اللوح المحفوظ لا محو فيه ولا إثبات، وقد سبقت.

الثالث: أنه مخالف لجمهور الصحابة، فإن هذا القول لم يؤثر عن أحد منهم.

وبهذا يتبين أن هذا الاعتراض غير متوجه، والله أعلم.

الاعتراض الثالث: أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة به، فيحتمل التبديل

(2)

.

والجواب عليه: أن لم يثبت في شيء من النصوص أن أحدًا من الخلق يطلع على اللوح المحفوظ لا الملائكة ولا غيرهم، بل قد ثبت خلاف ذلك من وجوه:

- منها وصفه سبحانه له بالحفظ.

- وكون المكتوب فيه علم الله الذي ليس لأحد الاطلاع عليه.

- وصفه بأنه عنده، وقد تقدمت بما أغنى عن إعادتها هنا

(3)

.

كما أنه يلزم عليه نفي اختصاص الله سبحانه وتعالى بالغيب وهذا باطل بالضرورة.

وأما استدلال من جوَّز اطلاع الملائكة عليه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]، على أن

(1)

انظر: جامع التحصيل (252) رقم (624)، والمصدر السابق.

(2)

انظر: تفسير القرطبي (12/ 94)، وقد نقله عن الغَزْنَوي.

(3)

انظر ما تقدم ص (219) وما بعدها.

ص: 227

الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، والضمير في {يَمَسُّهُ} راجع إليه، والمطهَّرون هم الملائكة.

فالجواب: أنه لا يسلم لهم صحة الاستدلال إلا بالبرهان على هذه المسائل الثلاث:

- أن المراد بالكتاب المكنون: اللوح المحفوظ.

- أن مرجع الضمير إليه.

- أن المراد بالمطهَّرين: الملائكة.

ولا سبيل لهم إلى ذلك، ففي كل منها خلاف كبير.

فقد اختلف في المراد بالكتاب المكنون، فقيل: كتاب في السماء، قاله ابن عباس.

وقيل: عند الله في صحف مطهرة، قاله ابن عباس ومالك.

وقيل هو اللوح المحفوظ، قال به جابر بن زيد وابن عباس.

وقيل: التوراة والإنجيل؛ فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه، قاله عكرمة.

وقيل: الزبور، قاله السدي.

وقيل: هو المصحف الذي في أيدينا، قاله مجاهد وقتادة

(1)

.

واختلف أيضًا في مرجع الضمير في قوله تعالى: {يَمَسُّهُ} ، فقيل يرجع إلى القرآن، والمراد: المصحف، ثم من هؤلاء من فسر المس بالمس المعنوي فقال: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون: أي المؤمنون بالقرآن، قاله الفراء وهو اختيار البخاري، أو لا يوفق للعمل به، أو لا يمس ثوابه إلا

(1)

انظر: تفسير القرطبي (20/ 220).

ص: 228

المؤمنون به، وإن كان أكثر المفسرين - كما قال الواحدي - على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون

(1)

.

فإن كان الأول هو الصواب فلا حجة لهم، وإن كان الثاني رجعنا إلى الخلاف في المراد بالكتاب المكنون.

واختلف كذلك في المراد بالمطهرين، فقيل: الملائكة، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وأبو العالية وغيرهم.

وقيل: الذين طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل، قاله ابن زيد وأبو العالية.

وقيل: لا يمسه عند الله إلا المطهرون.

وقيل: حملة التوراة والإنجيل، قاله عكرمة.

وقيل: كل من كان مطهرًا من الذنوب، رجحه ابن جرير

(2)

.

فإن كان غير الأول هو الصواب فلا حجة لهم، وإلا لزمهم القول بأن غير الملائكة تمسه كذلك، وهو باطل؛ وهم لا يقولون به، وإن كان الأول هو الصواب رجعنا إلى الخلاف في المراد بالكتاب المكنون أيضًا.

والقول بأن المراد بالكتاب المكنون: اللوح المحفوظ بعيد، لأنه مخالف للأدلة التي نصت على حفظ اللوح كما تقدم قريبًا، ولأن الأدلة على خلافه كما في قوله تعالى:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16].

(1)

انظر: فتح القدير (5/ 213)، وتفسير ابن كثير (13/ 390).

(2)

انظر: تفسير الطبري (22/ 364 - 367)، والدر المنثور (14/ 220 - 223).

ص: 229

قال مالك رحمه الله: "أحسن ما سمعت في هذه الآية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها بمنزلة الآية التي في عبس: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} إلى قوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} "

(1)

.

قال ابن العربي رحمه الله: "أما قول من قال: إن المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ فهو باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، فلو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه محل، وأما من قال: أنه الذي بأيدي الملائكة من الصحف فإنه قول محتمل، وهو الذي اختاره مالك"

(2)

.

وقد ذكر الألوسي في تفسيره أنه وقف على نسخة مؤلفة في هذه المسألة لبعض الأفاضل - كانت عنده وفُقدت في حادثة بغداد -، قرر فيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي

(3)

، فيفهم من كلامه أنه يقول بوقوع المحو والإثبات في اللوح المحفوظ.

واختار الشوكاني كذلك هذا القول في كتابه "قطر الولي"

(4)

.

واستدل كل منهما بأدلة ترجع - عند التأمل - إلى إثبات وقوع المحو والإثبات، وهذا القدْر لا شك فيه، لكن النزاع في محله، هل هو مقصور على الصحف، أم أنه شامل كذلك للوح.

وبعضها يرجع إلى عموم متعلق المحو والإثبات، وستأتي مناقشة هذه الأدلة إن شاء الله.

(1)

انظر: الدر المنثور (14/ 223).

(2)

أحكام القرآن (4/ 175).

(3)

انظر: روح المعاني (13/ 170).

(4)

انظر: (496 - 497).

ص: 230

وأما المسألة الثانية: متعلق المحو والإثبات.

فالمراد بمتعلق المحو والإثبات: أي ما الذي يمحى؟

اختلف أهل السنة في هذه المسألة على سبعة أقوال، ومجمل هذه الأقوال:

1) يمحى كل شيء إلا الموت والحياة، والشقاء والسعادة؛ فإنهما قد فُرغ منهما، وهو قول ابن عباس ومجاهد.

2) يمحى كل شيء إلا السعادة والشقاوة، وهو قول لابن عباس ومجاهد أيضًا.

3) يمحى كل شيء بدون استثناء، وهو قول عمر، وابن مسعود، وكعب الأحبار، والضحاك، وأبي وائل شقيق بن سلمة.

4) أن الذي يمحى ما ليس فيه ثواب ولا عقاب والذي يثبت ما فيه ثواب وعقاب، وهو قول الضحاك وأبي صالح.

5) أن الذي يمحى ويثبت هو الأجل؛ يمحو من قد حان أجله، ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله، وهو قول الحسن.

6) أن الذي يمحى ويثبت هي الذنوب؛ يمحوها بالمغفرة، ويثبتها بعدمها، وهو قول سعيد بن جبير.

7) أن الذي يمحى ويثبت هو الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن جريج، وقتادة، والقرظي، وابن زيد

(1)

.

(1)

انظر: تفسير الطبري (13/ 559 - 569)، وتفسير ابن كثير (8/ 163 - 168)، وزاد المسير (4/ 337 - 338).

ص: 231

والأقوال الخامس والسادس والسابع: حقيقتها نفي المحو والإثبات على المعنى المراد في هذا المبحث، وسيأتي التطرق لها في مناقشة مانعي المحو والإثبات.

وأما الأقوال الأُخَر فترجع إلى ثلاثة أقوال:

الأول: العموم بدون استثناء.

الثاني: العموم مع استثناء شيء محدد، إما السعادة والشقاوة، أو هما مع الآجال.

الثالث: أن المحو والإثبات لشيء خاص وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.

أما القول الأول، فممن ذهب إليه: الشوكاني.

وعند تأمل ما ورد من نصوص وآثار في ذلك - وسبق شيء منها - يلحظ أنها نصت على المحو والإثبات في ثلاثة أشياء:

- السعادة والشقاوة.

- الآجال.

- الأرزاق.

وما عداها فهو مفهومُ عموماتٍ، لا منطوقٌ صريحٌ، كالعموم في قوله سبحانه وتعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يرد القدر إلا الدعاء)

(1)

.

والذي يظهر قصر المحو والإثبات على هذه الكلمات الثلاث لوجوه:

أولها: النص عليها دون غيرها - كما تقدم آنفًا -.

(1)

تقدم تخريجه ص (217).

ص: 232

ثانيها: أن هذه الكلمات هي التي تتعلق بالمعين من الأشخاص دون غيرها، يدل على ذلك أنها هي التي يكتبها الملَك في التقدير العمري في الرحم، وهو التقدير الخاص بالمعينين من بني آدم، فلذلك يثبت فيها المحو والإثبات في حق المعين عند إتيانه بأسبابهما، يوضحه:

ثالثها: أنه لم يثبت المحو والإثبات في حق عموم الناس، وإنما ثبت في حق معينين، وكل ما يخص المعين إنما يدور على هذه الكلمات الثلاث.

ولا يعكّر على هذا التقرير ثبوته في حق قوم نوح كما في قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 3، 4]؛ لأن العموم إنما هو في الخطاب؛ تمامًا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سَرَّه أن يُبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليَصِل رَحِمَه)

(1)

، فإنه خطاب عام لكل الأمة، وأما المحو والإثبات فهو في حق المعين الذي أتى بالسبب، ولا يتوقف حصولهما في حق من أتى بسببهما على إتيان جميع المخاطبين بأسبابهم، لذلك تحقق هذا في حق قوم نوح، فمن آمن زيد في عمره وأُخِّر، ومن لم يؤمن عوجل بالعقوبة وأُهلك.

رابعها: أن تعميم متعلق المحو والإثبات ليشمل كل شيء يلزم عليه لازم باطل: وهو عدم الوثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر، وكذا لا يبقى وثوق بالإخبار بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (216).

(2)

انظر: روح المعاني (13/ 172).

ص: 233

وهذا يترتب عليه هدم الدين ومحو الشريعة كما لا يخفى.

وقد أورد القائلون بالعموم بدون استثناء على هذا القول عدة اعتراضات:

الاعتراض الأول: استعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء وطلب الحفظ منه، ولو لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه.

الاعتراض الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم شرع لأمته الدعاء، ولولا إمكان التغيير لألغاه.

وهذان الاعتراضان من باب واحد، وإنما يصلحان أدلةً على من ينكر المحو والإثبات، وليس فيهما أن المحو والإثبات يقعان في كل شيء، إلا أن يراد أن كلًّا من (القضاء) و (الدعاء) هنا عام في كل شيء، وهذا لا يصح، لأن القضاء وصف هنا بالسوء، فالمستعاذ منه هو القضاء السيء لا مطلق القضاء، والقضاء إنما يكون سيئًا في حق من وقع عليه من المعينين، ولا يخرج فيهم هذا عن الكلمات الثلاث كما تقدم.

الاعتراض الثالث: اعتذاره صلى الله عليه وسلم عن الخروج لصلاة التراويح بخشيته أن تفرض عليهم، ولا معنى لهذه الخشية - بعد سبق القضاء أنها ستكون خمسًا - لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير.

والجواب عليه: أن هذا خارج محل النزاع أصلًا، لأن محل النزاع هو القدر لا الشرع، فإن المحو والإثبات في الشرائع - المعبر عنه بالنسخ - واقعٌ بلا إشكال ما دام الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم.

الاعتراض الرابع: أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفًا من النار حتى أن منهم من كان يقول: ليت أمي لم تلدني.

ص: 234

والجواب عليه: أن خوفهم هذا راجع إلى المحو والإثبات في السعادة والشقاوة، وهذا لا إشكال في وقوع المحو والإثبات فيه

(1)

.

الاعتراض الخامس: أن العموم المستفاد من قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، شاملٌ لكل شيء؛ فما من شيء من المقادير إلا وهو قابلٌ للمحو والإثبات.

والجواب عليه: أن هذا عام مخصوص بالكلمات الثلاث، ووجه اختصاصه ما تقدم قريبًا في وجوه قصر المحو والإثبات على الكلمات الثلاث.

لكن لا يمنع هذا شموله للمحو والإثبات في الشرائع، ولا شموله أيضًا لمحو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب

(2)

.

وبهذا يظهر الجواب عن القول الثالث، وهو أن المحو والإثبات لشيء خاص وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.

وزيادة في تحريره يقال: في قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، المثبت عند أصحاب هذا القول: ما فيه ثواب وعقاب، والممحو: ما ليس فيه ثواب وعقاب، فكأن الله سبحانه قال: أمحو ما ليس فيه ثواب وعقاب، وأثبت ما فيه ثواب وعقاب.

وهذا لا يصح، لأن محو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب حتمٌ - تفضلًا من الله سبحانه وتعالى والله سبحانه علقه بالمشيئة؛ والشيء إذا كان حتمًا لا

(1)

انظر هذه الاعتراضات الأربعة في روح المعاني (13/ 171 - 172)، وانظر: قطر الولي (497 - 502) للاعتراضين الأول والثاني منهما.

(2)

انظر: قطر الولي (503 - 504).

ص: 235

يعلق بالمشيئة

(1)

.

فالخروج من هذا الإلزام يكون بالقول بإمكان كل من المحو والإثبات فيما فيه ثواب وعقاب، وما ليس فيه ثواب وعقاب ممحو على كل حال تفضلًا من الله سبحانه وتعالى.

فتفسير من فسر الآية بهذا من السلف هو تفسير بالمثال، وإلا فهو من جملة ما يمحى لا كله، والله أعلم.

وأما القائلون بالعموم مع استثناء شيء محدد؛ إما السعادة والشقاوة، أو هما مع الآجال، فيرد على تعميمهم بما تقدم في الرد على القول الأول.

وأما استثناؤهم الآجال فيُستدل له بأدلة:

الأول: قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

الثاني: وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].

الثالث: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي؛ أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سألت الله لآجال

(1)

قال شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]: "فمحو الباطل نظير إحقاق الحق ليس مما علق بالمشيئة بل لا بد منه، بخلاف الختم على قلبه فإنه معلق بالمشيئة ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم على قلبه، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه" الجواب الصحيح (1/ 447).

ص: 236

مضروبة وأيام معدودات وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله أو يؤخر شيئًا عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل)

(1)

.

ويؤيده

(2)

حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر)

(3)

، فحصر زيادة العمر بالبر دون غيرها.

والجواب عن الاستدلال بالآيتين: أنهما لا تعارضان وقوع المحو والإثبات في الآجال، لأنهما خاصتان بمن حضر أجله بالنص، بخلاف من لم يحضر أجله، فالمحو والإثبات في الأجل واقع ما لم يحضر الأجل، فإذا حضر لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.

قال الزهري رحمه الله في قول الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]: "نرى أنه إذا حضر أجله فلا يؤخر ساعة ولا يُقدم، وما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما شاء، ويقدم ما شاء"

(4)

.

وقال الشوكاني رحمه الله: "إذا حضر الأجل فإنه لا يتقدم ولا يتأخر، وقبل حضوره يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم أو بفعل الخير، ويجوز أن

(1)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر (4/ 2050) ح (2663).

(2)

انظر شرح الطحاوية (1/ 129).

(3)

تقدم تخريجه ص (216).

(4)

رواه ابن جرير (14/ 261).

ص: 237

يقدمه لمن عمل شرا أو قطع ما أمر الله به أن يوصل وانتهك محارم الله سبحانه"

(1)

.

وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الأمرين في قوله تعالى حكاية عن نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 3، 4].

وقد ثبت في السنة أن الله سبحانه وتعالى يزيد في الأجل وينقص منه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك فرأى رجلًا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال ستين سنة قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما قضى عمر آدم جاءه ملك الموت فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته)

(2)

.

ومثله ما تقدم من كون صلة الرحم وحسن الجوار يزيدان في الأعمار

(3)

.

فتبين بهذا أن هاتين الآيتين لا تعارضان دخول المحو والإثبات في الآجال.

(1)

قطر الولي (508).

(2)

رواه الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأعراف (5/ 159) ح (3076)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ح (3076) وظلال الجنة ح (206).

(3)

انظر ما تقدم ص (216).

ص: 238

وأما حديث أم حبيبة رضي الله عنها، فالجواب عليه من وجهين:

الأول: أن الحديث ليس فيه أن الآجال لا تتغير مطلقًا، وإنما الذي فيه أنها لا تزيد بالدعاء خاصة، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"ففيه أن العمر لا يطول بهذا السبب الذي هو الدعاء فقط"

(1)

.

وقال أيضًا: "وأما حديث أم حبيبة؛ ففيه أن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو، ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء؛ فالأعمار المقدرة لم يشرع الدعاء بتغييرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة فإن الدعاء مشروع له نافع فيه"

(2)

.

وعليه، فلا يكون دليلًا لمنع المحو والإثبات في الآجال مطلقًا، سيما وقد ثبتا فيها في أحاديث أخر وبأسباب أخر.

على أن منع تأثير الدعاء لا يُسلم، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأنس فقال:(اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له)

(3)

.

وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لنبيه، فعمر أنس وكثر ماله وولده، فقد قال

(1)

مختصر الفتاوى المصرية للبعلي (264).

(2)

الاستقامة (131).

(3)

رواه أبو يعلى (7/ 224) ح (4236)، والبخاري في الأدب المفرد: باب من دعا بطول العمر (1/ 342) ح (653)، من طريق سنان بن ربيعة عن أنس رضي الله عنه، وأصله في الصحيحين بدون ذكر طول العمر، وبوب له البخاري رحمه الله بقوله:"باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله"، وهذا منه إشارة لطريق سنان هذه التي فيها ذكر طول العمر كما ذكر الحافظ، انظر: فتح الباري (11/ 144 - 145).

ص: 239

عقب هذا الحديث: "فدعا لي بثلاث؛ فدفنت مائة وثلاثة، وإن ثمرتي لتطعم في السنة مرتين، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس، وأرجو المغفرة"، فثبت بهذا جواز الدعاء بزيادة الآجال، وأنه مؤثر فيها.

وكذلك يرده ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في قصة آدم وداود عليهما السلام.

الثاني: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا من باب الإرشاد إلى ما هو أنفع وأولى، خصوصًا أن مجرد طول العمر ليس محمودًا إلا مع الصلاح، ودعاؤها رضي الله عنها كان - فيما يظهر - مجردًا عن الفائدة الأخروية.

لذلك شرع الدعاء بتغيير الآجال لما تضمن نفعًا أخرويًا، كما في حديث أنس المتقدم، وكما في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي. . .)

(1)

.

وأما حديث ثوبان رضي الله عنه فلا دلالة فيه على منع المحو والإثبات في الآجال، وإنما فيه حصر لسببهما، والجواب عليه من وجهين:

الأول: ما تقدم من ثبوت الدعاء بطول العمر.

الثاني: أن الدعاء من البر، لأن البر إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به

(2)

، والدعاء مما أمر الله به.

(1)

رواه أحمد (30/ 264) ح (18325)، والنسائي: كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 62) ح (1304 - 1305)، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (1301).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 165).

ص: 240

وأما استثناء السعادة والشقاوة فيُستدل له بأدلة:

الأول: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصرة، فنكَّس فجعل ينكُت بمخصرته، ثم قال:(ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا وكتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)، قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال:(أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء)، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10]

(1)

.

الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: (إن أحدكم يُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين

(1)

رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (6/ 171) ح (4948)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه. . . (4/ 2039) ح (2647)، ومن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، رواه: البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (9/ 159) ح (7551)، ومسلم في الموضع السابق (4/ 2041) ح (2649)، ومن حديث سراقة بن مالك بن جُعشُم رضي الله عنه، رواه مسلم في الموضع السابق كذلك (4/ 2040) ح (2648)، وقد تقدم ص (104).

وروي في غير الصحيحين من حديث عدد من الصحابة: أبي بكر، وعمر، وأبي حميد الساعدي، وذي اللحية الكلابي رضي الله عنهم.

ص: 241

يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا؛ فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجَله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة)

(1)

.

الثالث: حديث عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال:(أتدرون ما هذان الكتابان)؟ قال قلنا: لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال للذي في يده اليمنى:(هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا)، ثم قال للذي في يساره:(هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا)، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء إذن نعمل إن كان هذا أمرًا قد فرغ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار ليختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال:(فرغ ربكم عز وجل من العباد)، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال:(فريق في الجنة)، ونبذ باليسرى فقال:(فريق في السعير)

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (104).

(2)

رواه أحمد (11/ 121) ح (6563)، والترمذي: أبواب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتابًا لأهل الجنة وأهل النار (4/ 19) ح (2141)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (848).

ص: 242

فدلت هذه الأحاديث على أن السعادة والشقاوة قد فرغ منهما فلا محو ولا إثبات.

والجواب عليها من وجوه:

الأول: أن يقال: مما لا شك فيه أن إثبات الأسباب لا ينافي سبق القدر، لأن هذه الأسباب من جملة القدر.

والدعاء وصلة الرحم وغيرهما - مما ثبت تأثيره في المحو والإثبات -، إنما هي أسباب من جملة ما قدره الله سبحانه وتعالى من الأسباب، وحينئذ فإثباتها لا ينافي سبق القدر بمسبَّباتها.

فسبْق القدر بالسعادة والشقاوة لا ينافي الإتيان بأسبابهما، بل الإتيان بأسبابهما من جملة المقدور الذي ييسر به المرء لعمل أهلهما

(1)

، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتقدمة.

فالأسباب التي تؤثر في السعادة والشقاوة محوًا وإثباتًا هي من جملة السعادة والشقاوة.

الثاني: أن هذه النصوص وأمثالها محمولة على القضاء المبرم لا المعلق - وهذا واضح جدًا - والقضاء المبرم لا محو فيه ولا إثبات، وإنما ذلك في المعلق الذي بأيدي الملائكة كما تقدم بيانه

(2)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 272) وما بعدها.

(2)

وتجدر الإشارة إلى أنه قد روي في استثناء السعادة والشقاوة والآجال حديث مرفوع رواه الطبراني في المعجم الأوسط (9/ 179) ح (9472) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: (يمحو الله ما يشاء؛ إلا الشقاوة والسعادة، والحياة والموت)، ولا يصح؛ انظر: الضعيفة ح (5448).

ص: 243

الثالث: أن الدعاء بمحو الشقاوة وإثبات السعادة فعله أكابر السلف، كعمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وأبي وائل شقيق بن سلمة رحمه الله.

فعن أبي عثمان النَّهدي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال - وهو يطوف بالبيت ويبكي -:"اللهم إن كنت كتبت علي شِقوة أو ذنبًا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب؛ فاجعله سعادةً ومغفرة".

وعن أبي قِلابة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يقول:"اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني، وأثبتني في أهل السعادة".

وعن الأعمش، عن أبي وائل، قال: كان مما يكثر أن يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب"

(1)

.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن في حديث عبد الله بن عمرو إثبات هذين الكتابين، كتاب السعادة وكتاب الشقاوة، وأنهما مشاركان للوح المحفوظ بكونهما مما لا محو فيه ولا إثبات، كما لا محو ولا إثبات في اللوح المحفوظ.

وبهذا يتبين أن المحو والإثبات واقعان في المقادير؛ فيما يتعلق بالكلمات الثلاث خاصة دون غيرها، وأن ذلك المحو والإثبات إنما يكون في صحف الملائكة، دون اللوح المحفوظ فإنه مصون عن التغيير والتبديل والمحو والإثبات، والله أعلم.

(1)

روى هذه الآثار ابن جرير (13/ 563 - 564).

ص: 244

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

مخالفو أهل السنة والجماعة في هذه القاعدة على ضربين:

الأول: من مخالفته غير خارجة عن مجمل الأقوال التي حكيت عن أهل السنة.

الثاني: من مخالفته خارجة عن الأقوال التي حكيت عن أهل السنة.

أما الصنف الأول،؛ فهم المعتزلة والأشاعرة والماتريدية.

أما المعتزلة؛ فعباراتهم في تفسير المحو والإثبات تدل على إثباتهم له، ومن ذلك قول القاضي عبد الجبار في تفسير {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]: المراد بذلك أنه جل جلاله يمحو عن المؤمن الصغائر لأنها مغفورة، ويحتمل أنه الناسخ والمنسوخ، ويحتمل أنه يمحو ما لا مدخل له في الثواب والعقاب، ويثبت ما له مدخل في ذلك، ويحتمل أنه يمحو ما كتب من آجال وأرزاق من مضى ويثبت ذلك فيمن يبقى ويحدث"

(1)

.

وبنحوه قول الزمخشري: " {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} : ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ، وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل، {وَيُثْبِتُ} غيره، وقيل يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ويثبت إيمانهم وطاعتهم، وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضًا من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: أصل كل كتاب وهو

(1)

تنزيه القرآن (204).

ص: 245

اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه"

(1)

.

ويظهر من هذين النقلين أن المعتزلة يقرون بالمحو والإثبات في المقادير في الجملة.

وأما الأشاعرة؛ فإنهم يثبتون المحو والإثبات كذلك، ومن ذلك قول البيجوري - في حديث زيادة العمر بصلة الرحم -:"فالزيادة - بحسب الظاهر - على ما في صحف الملائكة، وإلا فلا بد من تحقق ما في علمه تعالى، كما يشير له قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، أي أصل اللوح المحفوظ وهو علمه تعالى الذي لا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ؛ فالحق قبول ما فيه للمحو والإثبات كصحف الملائكة، وبعضهم فسر أم الكتاب باللوح المحفوظ لأنه ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه، والراجح الأول"

(2)

.

ومن ذلك أيضًا ما فعله الرازي، فقد ذكر أن في المحو والإثبات في الآية قولين: العموم في كل شيء، والتخصيص ببعض الأشقياء دون بعض، ثم أورد اعتراض سبق المقادير وجفاف القلم، وأجاب عليه بأن ذلك المحو والإثبات أيضًا مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه

(3)

. فتقريره هذا صريح في إثبات ذلك.

وأما الماتريدية؛ فيثبتون المحو والإثبات في المقادير كذلك، ومن ذلك

(1)

الكشاف (3/ 356 - 357).

(2)

تحفة المريد (263 - 264).

(3)

انظر: مفاتيح الغيب (19/ 66 - 67).

ص: 246

صنيع إمامهم أبي منصور الماتريدي في تفسيره عند آية الرعد؛ فإنه ذكر أن من المعاني التي يحتملها المحو والإثبات: محو ما لا جزاء له ولا ثواب وإبقاء ما له جزاء وثواب مما يكتبه الحفظة من الأعمال والأفعال، أو محو ما في صحف الحفظة مما كتبوه من أعمال العباد من الزيادة على ما في اللوح المحفوظ عند معارضتها به، وإثبات ما فيه من الزيادة عليها فيها

(1)

.

فهؤلاء جميعًا لا ينكرون ثبوت المحو والإثبات في المقادير، وجملة مقالتهم من جنس أقوال أهل السنة.

وأما الصنف الثاني؛ فهم على قسمين:

الأول: من ينكر المحو والإثبات من أصله، ويؤول ما جاء في النصوص من أدلة عليه.

الثاني: من يثبت المحو والإثبات في علم الله سبحانه.

أما الصنف الأول؛ فهو ما يُفهم من مذهب الصوفية أصحاب الكشف والذوق، فقد أنكروا وقوع المحو والإثبات في المقادير، وأولوا ما ورد من أدلة عليه.

قال القُشَيري

(2)

: "المحو: رفع أوصاف العادة، والإثبات: إقامة أحكام العبادة.

(1)

انظر: تأويلات أهل السنة (6/ 352 - 353).

(2)

هو: أبو القاسم، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي الصوفي، ولد سنة (375 هـ)، من كتبه:"التفسير الكبير"، و"الرسالة القشيرية"، مات سنة (465 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 227)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 153).

ص: 247

فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة، وأتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة، فهو صاحب محو وإثبات. . .

وأما حقيقة المحو والإثبات، فصادران عن القدرة، فالمحو: ما ستره الحق ونفاده

(1)

، والإثبات ما أظهره الحق وأبداه، والمحو والإثبات مقصوران على المشيئة، قال الله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، قيل: يمحو عن قلوب العارفين ذكر غير الله تعالى، ويثبت على ألسنة المريدين ذكر الله.

ومحو الحق لكل أحد وإثباتهُ على ما يليق بحاله، ومن محاه الحق سبحانه على مشاهدة أثبته بحق حقه، ومن محاه الحق عن إثباته به ردَّه إلى شهود الأغيار، وأتيته في أودية التفرقة"

(2)

.

وقال ابن عَطاء الأَدمي

(3)

: " {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} عن رسوم الشواهد والأعراض وكلما يورد على سره من عظمته وحرمته وهيبته ولو غاب أنواره، فمن أثبته فقد أحضره ومن محاه فقد غيبه، والحاضر مرجوعه لا يعدوه"

(4)

.

وقال الواسطي: "يمحوهم عن شاهد الحق ويثبتهم في شواهدهم، ويمحوهم عن شواهدهم ويثبتهم في شاهد الحق، ويمحو رسوم نفوسهم

(1)

كذا في المطبوع، ولعل الصواب "ونفاه".

(2)

الرسالة القشيرية (156 - 157).

(3)

هو أبو العباس، أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الادمي البغدادي الصوفي العابد، راج عليه حال الحلاج وامتحن بسببه، مات سنة (309 هـ).

انظر: طبقات الصوفية (204)، وصفة الصفوة (2/ 444)، وسير أعلام النبلاء (14/ 255).

(4)

تفسير السلمي (1/ 336).

ص: 248

عن نفوسهم ويثبتهم برسمه"

(1)

.

فهذه الأقوال منهم تبين إنكارهم للمحو والإثبات وتأويلهم له إلى ما ذُكر، وهذا القول باطل، وبطلانه من وجهين:

الأول: أنه عار عن دليل صحيح من كتاب أو سنة.

الثاني: أن إنكار المحو والإثبات لم يؤثر عن أحد من سلف الأمة، بل المأثور عنهم إثباته، وإن وقع في عباراتهم اختلاف في محل المحو والإثبات وما الذي يمحى ويثبت - على ما سبق بيانه -.

وأما الصنف الثاني؛ فهم الرافضة - قاتلهم الله - والذين ذهبوا إلى القول بالبداء وتغير علم الله سبحانه.

والبَداء في اللغة: من البدوّ، يقال: بدا يبدو بدوًّا وبداءً، وهو الظهور بعد خفاء، ومنه قوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54].

ومنه تغير الرأي عما كان عليه؛ تقول: بدا لي في هذا الأمر بداء، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]

(2)

.

والبداء لا يجوز نسبته إلى الرب سبحانه، لأنه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما باطل ينزه الله سبحانه عنه.

وأصل القول بالبداء إنما كان عبد الله بن سبأ

(3)

، وتلقفه عنه المختار

(1)

المصدر السابق.

(2)

انظر: تهذيب اللغة (14/ 202)، ومقاييس اللغة (1/ 212)، مادة:(بَدَو).

(3)

انظر: التنبيه والرد (17).

ص: 249

الثقفي الكذاب وسرى في أتباعه الكَيسَانية

(1)

.

وللقول بالبداء منزلة عظيمة عند الرافضة قبحهم الله، وهو من أعظم العبادات عندهم.

وقد أفرد الكُليني

(2)

للبداء بابًا في كتاب التوحيد من "أصول الكافي"، ذكر فيه ستة عشر حديثًا عن الأئمة في تقرير هذه العقيدة الخبيثة، منها:

عن زرارة عن أحدهما أنه قال: "ما عُبد الله بشيء مثل البداء"

(3)

.

وعن أبي عبد الله أنه قال: "ما عُظِّم الله بمثل البداء"

(4)

.

(1)

انظر: التبصير في الدين (30)، والفرق بين الفرق (46 و 53 - 54)، والكيسانية هم: فرقة من الروافض، أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي، كيسان، الذي كان قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتله بكربلاء، وهم فرق يجمعهم القول بنوعين من البدعة: تجويز البداء على الله تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا، وقولهم بإمامة محمد بن الحنفية، ثم اختلفوا في سبب إمامته، واختلفوا كذلك في موته، فقالت الكربية منهم: لم يمت، وإنه في جبل رضوى وعنده عين من الماء وعين من العسل وأسد ونمر يحفظانه، هانه المهدي المنتظر، وذهب الباقون من الكيسانية إلى الإقرار بموته، واختلفوا في الإمام بعده، ومن فرقهم كذلك: البيانية والحربية وهما من الغلاة.

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 92)، والفرق بين الفرق (46)، والفصل (5/ 35)، والتبصير في الدين (30)، والملل والنحل (1/ 170).

(2)

هو: أبو جعفر، محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرافضي، من أهل كلين بالري، من كتبه:"الكافي" و"الرد على القرامطة"، مات سنة (328 هـ).

سير أعلام النبلاء (15/ 280)، ولسان الميزان (7/ 594).

(3)

أصول الكافي: كتاب التوحيد، باب البداء (1/ 194).

(4)

المصدر السابق (1/ 197).

ص: 250

وعن الرضا أنه قال: "ما بعث الله نبيًّا قط إلا بتحريم الخمر، وأن يقرَّ لله بالبداء"

(1)

.

وعن أبي جعفر قال: "العلم علمان، فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدًا من خلقه، وعلم علمه ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون؛ لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء، ويؤخر منه ما يشاء، ويثبت ما يشاء"

(2)

.

وعن أبي عبد الله قال: "إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه"

(3)

.

فهذه روايات صريحة في وقوع التغيير في علم الله سبحانه.

وقد أجمع الرافضة على القول بالبداء، كما نقل إجماعهم على ذلك المفيد في "أوائل المقالات"

(4)

.

وهذه العقيدة أقل شأنًا من أن يُشتغل بالرد عليها، ويكفيها بطلانًا مخالفتُها لإجماع أهل القبلة على أن علم الله لا يلحقه النقص ولا التغير، إضافة لما اشتملت عليه من لوازم باطلة.

ووجه إيراد مخالفة هؤلاء هنا أمران:

الأول: أنهم استدلوا بأدلة المحو والإثبات في المقادير على مذهبهم.

(1)

المصدر السابق (1/ 199).

(2)

المصدر السابق (1/ 198).

(3)

المصدر السابق (1/ 198).

(4)

ص (46)

ص: 251

الثاني: أنهم يقولون - على هذا - بوقوع المحو والإثبات في اللوح المحفوظ، إذ الذي في اللوح المحفوظ علم الرب سبحانه، والله أعلم.

ص: 252

‌المبحث الثامن: "ما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك العكس، وما لا فلا"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 253

المبحث الثامن: "ما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك العكس، وما لا فلا"

البحث في هذه القاعدة هو في العلاقة بين قدرة الله سبحانه وتعالى الشاملة ومشيئته النافذة، وأن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قالى شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن ما تعلقت به المشيئة تعلقت به القدرة؛ فإن ما شاء الله كان ولا يكون شيء إلا بقدرته، وما تعلقت به القدرة من الموجودات تعلقت به المشيئة؛ فإنه لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته، وما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة وكذلك بالعكس، وما لا فلا"

(1)

.

وقال رحمه الله: "ومذهب المسلمين أن الله على كل شيء قدير، سواء شاءه أو لم يشأه. . . فالله تعالى قادر على ذلك فلو شاءه لفعله بقدرته، وهو لا يشاؤه"

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 382 - 383).

(2)

المصدر السابق (11/ 488 - 489).

ص: 255

وقال رحمه الله: "ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور طوائف أهل الكلام على أن الله قادر على ما علم وأخبر أنه لا يكون، وعلى ما يمتنع صدوره عنه لعدم إرادته لا لعدم قدرته عليه"

(1)

.

وقال رحمه الله: "قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وليس كل ما كان قادرًا عليه فعله. . . وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه، فإنه لا يمكن فعل غير المقدور"

(2)

.

وقال رحمه الله: "فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد صرح سبحانه بأنه لو شاء لفعل ما لم يفعله في غير موضع من كتابه، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ونظائره، وهذا مما لا خفاء فيه بين أهل السنة"

(4)

.

(1)

المصدر السابق (8/ 292).

(2)

منهاج السنة (3/ 270 - 271).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 10).

(4)

التبيان في أيمان القرآن (244 - 245).

ص: 256

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب العزيز، ويمكن تقسيم أدلته إلى قسمين:

الأول: إخباره سبحانه وتعالى بقدرته على ما عَلم أنه لا يفعله:

قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} : قال: (أعوذ بوجهك)، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال:(أعوذ بوجهك) فلما نزلت: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} : قال: (هاتان أهون) أو (أيسر)

(1)

.

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه عافى الأمة من أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، مع إخبار الله سبحانه وتعالى أنه قادر على ذلك

(2)

.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، أي لقادرون أن نذهب به فتهلكوا عطشًا، وتخرب أرضوكم، وتهلك مواشيكم، يقول: فمن نعمتي عليكم تركي ذلك لكم في الأرض جاريًا

(3)

، ومعلوم أنه لم يذهب به

(4)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب في قول الله تعالى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} (9/ 101) ح (7313).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 10 و 499)، منهاج السنة (3/ 271).

(3)

انظر: تفسير الطبري (17/ 27).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 10).

ص: 257

الثاني: إخباره سبحانه وتعالى أنه لو شاء أن يفعل أمورًا لم تكن لفَعَلَها، ومن ذلك:

قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].

وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].

وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].

وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما لا يكون أنه لو شاء لفعله. . . وأمثال هذه الآيات تبين أنه لو شاء أن يفعل أمورًا لم تكن لفعلها، وهذا يدل على أنه قادر على ما عَلم أنه لا يكون، فإنه لولا قدرته عليه لكان إذا شاء لا يفعله، فإنه لا يمكن فعله إلا بالقدرة عليه، فلما أخبر - وهو الصادق في خبره - أنه لو شاء لفعله؛ عُلم أنه قادر عليه وإن عَلم سبحانه أنه لا يكون، وعُلم أيضًا أن خلاف المعلوم قد يكون مقدورًا"

(1)

.

(1)

المصدر السابق (8/ 500).

ص: 258

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

لهذه القاعدة تعلق بالمرتبة الثالثة من مراتب القدر، والمقصود منها شمول قدرة الرب سبحانه وتعالى لما كان ولما لم يكن، وشمول مشيئته لما كان وجوازها فيما لم يكن.

وكلٌ من القدرة والمشيئة - فيما ظهر لي من كلام أهل العلم - تتعلق بها عدة مسائل.

أما القدرة: فتتعلق بها سبع مسائل:

الأولى: ثبوت صفة القدرة لله سبحانه وتعالى.

الثانية: دوام قدرة الله سبحانه وتعالى في الأزل والأبد.

الثالثة: أن القدرة تتناول الفعل القائم بالفاعل، ومقدوره المباين.

الرابعة: أن القدرة تتناول الفعل اللازم والمتعدي.

الخامسة: قدرة الله سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء.

السادسة: ثبوت القدرة للعبد على فعله بإقدار الله سبحانه وتعالى له.

السابعة: أن القدرة تنقسم إلى سابقة ومقارنة.

والمسألة السابعة محلها مبحث الاستطاعة، وكذا السادسة محلها مبحث أفعال العباد، وستأتيان في موضعهما إن شاء الله.

والمسألة الخامسة هي محل البحث وما عداها فهي مقدمات أساسية تبينها وتشرحها.

وأما المشيئة: فتتعلق بها أربع مسائل:

الأولى: المشيئة صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى.

ص: 259

الثانية: المشيئة هي الإرادة الكونية.

الثالثة: شمول مشيئة الله سبحانه وتعالى لكل ما كان.

الرابعة: جواز تعلق مشيئة الرب بكل ما جاز أن تتعلق به قدرته.

والمسألتان الثالثة والرابعة هما محل البحث، والأولى والثانية هما مقدمتان لهما.

وسيكون البدء بمقدمات كل منهما، ثم بالمسألة الأساسية فيهما.

أما مقدمات القدرة:

المسألة الأولى: ثبوت صفة القدرة لله سبحانه وتعالى.

القدرة من الصفات الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، ومن أسمائه تعالى:(القادر) و (القدير) و (المقتدر).

وقد دل على اتصاف الله سبحانه بها الكتاب والسنة.

أما الكتاب، فمن أدلته:

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20].

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].

وأما السنة:

حديث جابر رضي الله عنه في الاستخارة وفيه: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر،

ص: 260

وتعلم ولا أعلم وأنت علَّام الغيوب)

(1)

.

حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا:(اعلم أبا مسعود، لَلَّهُ أقدر عليك منك عليه)، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وحديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجدُ وأحاذِرُ)

(3)

.

المسألة الثانية: دوام قدرة الله سبحانه وتعالى في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته

(4)

.

والقدرة في هذا كسائر صفات الكمال، لم يزل الله ولا يزال متصفًا بها.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ويقولون [أي السلف] إنه لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، لم يزل متكلمًا إذا شاء بمشيئته وقدرته، ولم يزل عالمًا ولم يزل قادرًا ولم يزل حيًا سميعًا بصيرًا، ولم يزل مريدًا، فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به فهو موصوف به، لم يزل ولا يزال متصفًا بصفات الكمال

(1)

تقدم تخريجه ص (142).

(2)

رواه مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (3/ 1280) ح (1659).

(3)

رواه مسلم: كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء (4/ 1728) ح (2202).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 29 - 30)، الصفدية (1/ 130).

ص: 261

منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام سبحانه وتعالى"

(1)

.

ومن الأدلة على ذلك:

قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54].

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27].

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتاه رجل فقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَكَانَ اللَّهُ} كأنه شيء كان؟ قال: "أما قوله: {وَكَانَ} فإنه لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بكل شيء عليم"

(2)

.

المسألة الثالثة: أن القدرة تتناول الفعل القائم بالفاعل، ومقدوره المباين.

وهذا عام في قدرة الله سبحانه وتعالى وفي قدرة العبد.

أما في قدرة الله سبحانه وتعالى فمن الأدلة عليها:

قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81].

فأخبر أنه قادر على نفس فعله القائم به، وهو أن يخلق، فنفس الخلق فعل له وهو قادر عليه.

(1)

الجواب الصحيح (2/ 164).

(2)

رواه ابن أبي حاتم (4/ 1112).

ص: 262

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].

قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40].

فإحياء الموتى نفس فعله، وحياتهم مفعوله المباين له وكلاهما أخبر سبحانه وتعالى أنه مقدور له.

وقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4].

فتسوية البنان فعله، واستواؤها مفعوله، وقد أخبر سبحانه وتعالى بقدرته على كليهما

(1)

.

وأما قدرته سبحانه وتعالى على المقدور المباين، فمن أدلتها:

قوله تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42].

وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5].

فهذه الآيات نص في قدرته سبحانه وتعالى على الأعيان المفعولة.

وأما شمولها لأفعال العباد بخاصة، فيدل عليها ما ورد من كونه سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، لأن كونه خالق أفعال العباد يستلزم أنه قادر عليها، وستأتي هذه الأدلة في موضعها إن شاء الله.

وأما قدرة العبد على فعله القائم به، فمن أدلتها:

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ

(1)

انظر: شفاء العليل (2/ 452)، وانظر كذلك: مجموع الفتاوى (8/ 11).

ص: 263

يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه: (صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)

(1)

.

وأما قدرة العبد على المقدور المباين، فمن أدلتها:

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34].

فأخبر سبحانه وتعالى بقدرتهم على المحاربين، وهذه قدرة على الأعيان المنفصلة.

وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} [النحل: 75].

فأخبر أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، والآخر بخلافه قادر على ما لم يقدر عليه هذا.

وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].

أخبر سبحانه وتعالى أنهم في هذه الحال لا يقدرون على شيء مما كسبوا، فدل بالمفهوم على أنهم في غير تلك الحال يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب.

ومن هذا الباب ما جاء من الأدلة على أن المفعولات الخارجة مصنوعة

(1)

رواه البخاري: كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب (2/ 48) ح (1117).

ص: 264

لهم، لأن المصنوع لهم مقدور لهم بالضرورة، كقوله تعالى:{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

وقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38].

وقوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35]

(1)

.

المسألة الرابعة: أن القدرة تتناول الفعل اللازم والمتعدي.

فالفعل اللازم: هو الذي لزم فاعله ولم يتعد أثره إلى غيره، أي لم يتعدَّ إلى مفعول، وهو في حق الله سبحانه وتعالى كالاستواء، والإتيان والنزول والمجيء.

والفعل المتعدي: بخلافه، وهو ما لم يلزم فاعله، بل تعدى أثره إلى غيره، وهو في حق الله سبحانه وتعالى كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والهدى والإضلال.

والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، لأن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعديًا إلى مفعول أو لم يكن، والفاعل لا بد له من فعل سواء كان فعله مقتصرا عليه أو متعديًا إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله إذ كان لا بد له من الفاعل

(2)

.

وقد اجتمع النوعان في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، فالاستواء فعل لازم، والخلق فعل متعد.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 15 - 17).

(2)

انظر لتعريف الفعل اللازم والمتعدي والفرق بينهما: الفتاوى (8/ 18 - 19)، ودرء التعارض (2/ 3 - 4)، وبدائع الفوائد (2/ 470).

ص: 265

ومذهب أهل السنة أن كلًّا من الفعلين اللازم والمتعدي ثابت لله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه قادر على كِلا الفعلين

(1)

.

أما القدرة على الفعل اللازم، فمما يدل عليها:

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].

فالله سبحانه وتعالى مستو على العرش، ففعله للاستواء دليل على قدرته عليه، إذ يمتنع الفعل بدون قدرة.

وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].

وهذا إخبار بأنه سيفعل ذلك وهذا أيضًا متضمن لقدرته على ذلك.

ومثل هذين حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)

(2)

.

وأما القدرة على الفعل المتعدي، فمما يدل عليها:

قوله عز وجل: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].

وقوله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40].

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 18 - 20).

(2)

رواه البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (2/ 53) ح (1145)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (1/ 521) ح (758).

ص: 266

وقوله عز وجل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8].

فأخبر سبحانه وتعالى بقدرته على الخلق وإحياء الموتى صريحًا، وبقدرته على الهداية والإضلال ضمنًا، والله أعلم.

وأما مقدمات المشيئة:

المسألة الأولى: ثبوت صفة المشيئة لله سبحانه وتعالى.

المشيئة من الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وقد تقدمت أدلة على ثبوت المشيئة مرتبةً من مراتب القدر، فأغنى عن إعادتها هنا.

وقد دل على مشيئة الله عز وجل إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان

(1)

.

المسألة الثانية: المشيئة هي الإرادة الكونية.

وذلك أن الإرادة تنقسم إلى قسمين

(2)

:

إرادة كونية: وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث؛ كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهي المستلزمة لوقوع المراد، وهي إرادة ما يريد أن يفعله هو سبحانه وتعالى؛ فهي مقتضى الربوبية.

إرادة شرعية: وهي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعًا ودينًا، وهي ملازمة للأمر الشرعي، ولا تستلزم وقوع المراد، وهي إرادته من العبد فعل ما أمره به

(3)

.

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 171).

(2)

سيأتي الكلام على الإرادة في مبحث مستقل إن شاء الله.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 131 و 188) و (11/ 266)، ومنهاج السنة (3/ 156)، وشفاء العليل (1/ 189 - 190).

ص: 267

فلا تكون المشيئة بمعنى المحبة أبدًا، وحيثما وردت في كلام الشارع فالمراد بها الإرادة الكونية.

قال ابن القيم رحمه الله: "لفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي"

(1)

.

وقال رحمه الله في حمل المشيئة على الأمر -: "وهذا باطل قطعًا، فإن المشيئة في القرآن لم تستعمل في ذلك، وإنما استعملت في مشيئة التكوين"

(2)

.

وأما المسألة الأساسية فيهما، فيمكن ترتيبها في ثلاث مسائل:

الأولى: شمول قدرة الله سبحانه وتعالى لكل شيء.

الثانية: شمول مشيئة الله سبحانه وتعالى لكل شيء، وجوبًا فيما وقع، وجوازًا فيما لم يقع.

الثالثة: جواز تعلق قدرة الرب سبحانه وتعالى بكل ما جاز أن تتعلق به مشيئته والعكس، وجودًا وعدمًا.

أما المسألة الأولى: شمول قدرة الله سبحانه وتعالى لكل شيء.

فالمراد بها أنه ما من شيء إلا والله عز وجل قادر عليه، فلا يعزب عن قدرته سبحانه وتعالى شيء.

وقد دل على هذه المسألة:

قوله تعالى: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20].

وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه على كل شيء قدير في خمسة وثلاثين موضعًا في القرآن.

(1)

شفاء العليل (1/ 189).

(2)

التبيان في أيمان القرآن (205).

ص: 268

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

فـ (كل شيء) في كلا الآيتين على عمومه فيدخل فيه كل ما صح أن يكون شيئًا؛ ما وُجد فعلًا، وما لم يوجد مما يتصوره الذهن موجودًا إن تُصوِّر وجوده في الخارج، لا يستثنى من ذلك شيء ولا يزاد عليه شيء.

وأما ما صح أن يتصوره الذهن لكن لا يمكن وجوده في الخارج فهذا ليس بشيء أصلًا، فلا يكون داخلًا فيما سبق

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا؛ فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئًا باتفاق العقلاء"

(2)

.

وبيان ذلك: أن الشيء إما أن يكون موجودًا أو معدومًا، فالموجود أمره واضح، ولا إشكال فيه.

وله أربع مراتب:

- الوجود العيني: وهو الوجود في الخارج.

- الوجود الذهني: وهو الوجود في العلم.

- الوجود اللفظي: وهو الوجود في النطق واللسان.

- الوجود الرسمي، وهو الوجود في الخط والكتابة

(3)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 8 - 10) و (12/ 331).

(2)

منهاج السنة (2/ 293).

(3)

انظر: معيار العلم (41 - 42).

ص: 269

قال السيوطي:

مراتبُ الوجود أربعٌ فقطْ

حقيقةٌ تصورٌ لفظٌ فخطْ

فوجود الموجود في الخارج هو الوجود العيني، والعلم به الذي في القلوب هو الوجود الذهني العلمي، والعبارة عن ذلك هو الوجود اللفظي اللساني، وكتابة ذلك هو الوجود الرسمي البناني

(1)

.

وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه المراتب الأربعة في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].

فمرتبة الوجود العيني في قوله: {خَلَقَ} ، ومرتبة الوجود الذهني في قوله:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ومرتبة الوجود الرسمي في قوله: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، وأما مرتبة الوجود اللفظي فمن لوازم التعليم بالقلم، فإن الكتابة فرع النطق، والنطق فرع التصور

(2)

.

وأما المعدوم؛ فهو على قسمين:

الأول: المعدوم الممكن، وهو ما أمكن وجوده في الخارج، وإن لم يكن موجودًا فيه فعلًا، وهو على قسمين:

- ما قُدر أنه سيقع، كأشراط الساعة الكبرى من خروج الدجال

(1)

انظر: مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 422 - 423) و (4/ 16)، ومجموع الفتاوى (12/ 239).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (12/ 112) و (16/ 264 - 265)، ومفتاح دار السعادة (1/ 243).

ص: 270

والدابة ونحو ذلك.

- ما قُدر أنه لا يقع، مع إمكان الوقوع، كما في قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا} [الزخرف: 33 - 35].

فعلق عدم وجودها على عدم مشيئته، فدل على إمكانها، وقد يسمى هذا القسم ممتنع لغيره، أي لعدم مشيئته، تمييزًا له عن الممتنع لذاته.

ومن هذا الباب إمكان إدخال المؤمنين النار، وتعذيب من لا ذنب له، هو ممكن له سبحانه وتعالى لكن لا يفعله فضلًا منه سبحانه وحكمةً، وسيأتي لبيان ذلك مبحث مستقل إن شاء الله.

والممكن بقسميه يصح أن يسمى شيئًا باعتبار وجوده في العلم - أو فيه مع اللفظ والكتاب - مع إمكان وجوده في الخارج، فيكون داخلًا في عموم (كل شيء).

الثاني: المعدوم الممتنع، وهو ما لا يمكن وجوده في الخارج، مثل كون الشيء موجودًا معدومًا، فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج، وإنما يتصوره الذهن على وجه التمثيل، ثم يحكم بامتناع وجوده في الخارج، فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئًا باتفاق العقلاء.

فله وجود في العلم، لكنه ممتنع الوقوع في الخارج، فخرج بهذا عن كونه شيئًا، فلا يكون داخلًا في عموم (كل شيء).

والمعدوم بقسميه على هذا التقرير ليس شيئًا في الخارج.

ص: 271

وهذا موضع إجماع أهل السنة والجماعة، وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف

(1)

.

وأما المسألة الثانية: شمول مشيئة الله سبحانه وتعالى لكل شيء، وجوبًا فيما وقع، وجوازًا فيما لم يقع.

فالمراد منها أن مشيئة الرب عز وجل نافذةٌ، فليس في الوجود موجب تام إلا مشيئة الله وحده فلا يكون شيء إلا بمشيئته، ولا يخرج عن مشيئته شيء.

وتقدم عند الكلام على المشيئة - بصفتها من مراتب القدر - الإشارة إلى أدلة شمولها، وأنها متضمنة لأمرين

(2)

:

الأول: أن ما وقع من الأشياء إنما وقع بمشيئته سبحانه وتعالى، فهي الموجب التام.

الثاني: أن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته سبحانه وتعالى، فتعليقه عدم الوقوع على عدم المشيئة دليل على جواز نفوذها.

ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106 - 108].

فانقطاع خلود أهل الجنة والنار أمر لا يكون، وقد أخبر عز وجل لو شاء لفعله.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 9 - 10 و 182 - 185)، ومنهاج السنة (2/ 289 - 293)، وجامع المسائل (4/ 402 - 403).

(2)

انظر ما تقدم ص (105 - 106 و 121 - 122).

ص: 272

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، فرد حصول الفعل إلى مشيئته سبحانه وتعالى.

فكل ما صح أن يُسمى شيئًا - كما سبق بيانه - يصح أن يشاءه الله عز وجل.

وأما المسألة الثالثة: جواز تعلق قدرة الرب سبحانه وتعالى بكل ما جاز أن تتعلق به مشيئته والعكس، وجودًا وعدمًا.

فهذه المسألة هي في الحقيقة لبُّ هذه القاعدة، وقد بان من مجموع ما سبق المراد منها، وزيادة في البيان يقال:

القدرة إنما تصح على ما يصح أن يُشاء، لأن ما لا يصح أن يُشاء ليس بشيء؛ فلا يصح تعلق القدرة به، وكذلك المشيئة إنما تكون على المقدور، والله على كل شيء قدير، وما لا يصح أن يكون مقدورًا - لكونه ليس شيئًا - لا يصح توجه المشيئة إليه.

فشمول كل منهما دليل على شمول الأخرى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وليس كل ما كان قادرًا عليه فعله. . . وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه، فإنه لا يمكن فعل غير المقدور"

(1)

.

فجواز القدرة دليل على جواز المشيئة، وجواز المشيئة دليل على جواز القدرة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] دخل في ذلك ما يصلح أن يكون مقدورًا، وذلك يتناول كل ما كانت ذاته ممكنة الوجود، وقد يقال: دخل في ذلك كل ما يسمى شيئًا بمعنى مشيئًا. . . فكل ما

(1)

منهاج السنة (3/ 270 - 271).

ص: 273

يصلح أن يشاء فهو عليه قدير، وإن شئت قلت: قدير على كل ما يصلح أن يقدر عليه، والممتنع لذاته ليس شيئًا باتفاق العقلاء"

(1)

.

والأصل الجامع في هذا الباب: قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]، وذلك أن (شيء) في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسمَّوا المشيء شيئًا، فيكون المعنى: على كل مشيء قدير - سواء كان شيئًا في الخارج أو في العلم فقط - أي: على كل ما يُشاء قدير، فأثبت قدرته على كل ما يُشاء، وجواز مشيئته لكل ما هو قادر عليه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والشيء في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا، كنَال ينال نيلًا، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسموا المشيء شيئًا. . . فقوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي على كل ما يشاء؛ فمنه ما قد شيء فوُجد، ومنه ما لم يُشأ لكنه شيء في العلم بمعنى انه قابلٌ لأن يشاء، وقوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} يتناول ما كان شيئًا في الخارج والعلم، أو ما كان شيئًا في العلم فقط، بخلاف ما لا يجوز أن تتناول المشيئة وهو الحق تعالى وصفاته، أو الممتنع لنفسه فإنه غير داخل في العموم ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفسه ليس بشيء"

(2)

.

والحاصل أن قدرة الله سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء، وأن مشيئته كذلك شاملة لكل شيء؛ وجوبًا فيما وقع، وجوازًا فيما لم يقع، وأن جواز شمول كل منهما دليل على جواز شمول الأخرى، والله أعلم.

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 331).

(2)

المصدر السابق (8/ 383).

ص: 274

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

خالف أهلَ السنة في هذه القاعدة المعتزلة، وكلام المعتزلة في القدرة كثير ومتشعب، والذي يهمنا هنا كلامهم في هذه المسألة، وهي شمول القدرة وشمول المشيئة، وجواز تعلق القدرة بكل ما يجوز أن تتعلق به المشيئة والعكس.

ومذهبهم في هذه المسألة أن كلًّا من القدرة والمشيئة غير شامل لكل شيء، بل من الأشياء ما لا يقدر عليه الرب سبحانه ولا يشاؤه، فمخالفتهم في أمور:

الأمر الأول: جعلهم المعدوم شيئًا في الخارج.

الأمر الثاني: إخراجهم القدرة عن عمومها، وجعلهم بعض الموجودات خارجة عن قدرة الرب ومشيئته.

الأمر الثالث: تجويزهم تعلق المشيئة بما هو خارج عن القدرة.

أما الأمر الأول: فاشتهر في أول أمره عن معتزلة بغداد، وقال به أبو الحسين الخَيَّاط

(1)

، والشَّحَّام

(2)

، ثم من بعدهما

(3)

، وقد حكى الإسفراييني اتفاق المعتزلة على ذلك خلا الصالحي، وحكى عنهم أنهم يقولون إن الجوهر

(1)

هو: أبو الحسين، عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط، شيخ المعتزلة ببغداد، تنسب إليه فرقة منهم تدعى:"الخياطية"، له كتب منها:"الانتصار"، و"الاستدلال"، مات سنة (300 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (12/ 373)، وسير أعلام النبلاء (14/ 220)، الأعلام (3/ 347).

(2)

هو: أبو يعقوب يوسف بن عبيد الله الشحام البصري، صاحب أبي الهذيل العلاف، وشيخ أبي علي الجبائي، انتهت إليه رئاسة المعتزلة بالبصرة في وقته، من كتبه:"الاستطاعة على المجبرة"، وله كتاب في "تفسير القرآن"، مات نحو سنة (280 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 552)، ولسان الميزان (8/ 560)، والأعلام للزركلي (8/ 239).

(3)

انظر: الوجود والعدم بين المعتزلة والأشاعرة (35).

ص: 275

قبل وجوده جوهر والعرض عرض، وأن هذه الأمور متحققة قبل الوجود، والوجود لم يزدها شيئًا

(1)

.

وممن حكى عنهم ذلك أيضًا: البغدادي، إلا أنه جعل القول بأن الجوهر قبل وجوده جوهر: قول البصريين منهم

(2)

، وحكاه الأشعري قولًا للبغداديين منهم إلا في العرض

(3)

، وجعل ابن حزم هذا قول سائر المعتزلة عدا هشَام بن عمرو الفُوطي

(4)

.

واحتجوا على هذه المقالة بما جاء في النصوص من الإخبار عن بعض المعدومات بأنها شيء، كما في قوله تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1].

واحتجوا كذلك بكون المعدوم يُخبَر عنه ويُوصَف ويُتمنى، ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئًا

(5)

.

وهذه المقالة بنوها على التفريق بين الوجود والماهية، وأن الوجود قدر زائد على الماهية، فماهية الشيء - أي عينه - عندهم ثابتة قبل وجوده

(6)

.

(1)

انظر: التبصير في الدين (63).

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (106).

(3)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 241).

(4)

الفصل (5/ 155)، وانظر حكاية قول الفوطي والصالحي في مقالات الإسلاميين (1/ 238 - 239)، والفوطي هو: أبو محمد هشام بن عمرو الفوطي الكوفي المعتزلي، مولى بني شيبان.

انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 547)، ولسان الميزان (8/ 337).

(5)

انظر: الفصل: (5/ 155).

(6)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 156).

ص: 276

وجعْل المعتزلة المعدوم شيئًا في الخارج أمرٌ مردود من وجوه:

الأول: عدم الدليل الصحيح على ذلك، أثرًا كان أو نظرًا، وما استدلوا به من نصوص لا يُسلم لهم، والصواب في ذلك أن للشيء وجودًا ذهنيًّا، ووجودًا لفظيًّا ووجودًا رسميًّا خطيًّا، ووجودًا خارجيًّا - كما تقدم -، فما ورد من نصوص في إطلاق الشيء على ما هو معدوم؛ فمحمول على غير الوجود الخارجي، إما اللفظي أو الذهني العلمي، أو الرسمي، لكن المعتزلة لما لم يهتدوا لهذا التقسيم - أو لما لم يقروا به - توهموا أن الوجود مقصور على الوجود الخارجي، فظنوا أن إطلاق الشيء على المعدوم يقتضي كونه موجودًا.

الثاني: أن التفريق بين الوجود والماهية باطل، فوجود الشيء عين ماهيته، وماهيته عين وجوده، سواء قصد بالوجود الذهني أو اللفظي أو الخطي أو الخارجي العيني، ومن جعل الوجود زائدًا على الماهية؛ لزمه أن يجعل الماهية قابلة للوجود، والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره، وهذا باطل

(1)

، يوضحه:

الثالث: أن هذا يلزم عليه كون الموجود الثابت في الخارج صفة لماهية ثابتة في الخارج، وهذا باطل، إذ ليس في الخارج إلا عين الشيء ووجوده

(2)

.

فخلاصة الأمر أن الماهية والوجود شيء واحد، لا فرق بينهما، وإن كان إطلاق الماهية - في الاصطلاح - أكثر على الوجود الذهني، وإطلاق الوجود

(1)

انظر: درء التعارض (4/ 241 - 242).

(2)

انظر: المصدر السابق (5/ 103).

ص: 277

أكثر على الحقيقة الخارجية

(1)

.

وأما الأمر الثاني: وهو إخراجهم القدرة عن عمومها، وجعلهم بعض الموجودات خارجة عن قدرة الرب ومشيئته.

وهذا أصل متفق عليه عند كل المعتزلة، فقد اتفقوا على إخراج أفعال العباد عن قدرة الرب سبحانه ومشيئته، وجعلوا العباد هم المحدثين لها بقدرتهم وإرادتهم، وليس للقدرة والمشيئة الإلهية في ذلك مدخل.

قال القاضي عبد الجبار: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه خالقها ومحدثها؛ فقد عظم خطؤه، وأحالوا حدوث فعلٍ من فاعلَيْن"

(2)

.

وقال في بيان أن الله لم يشأ ما وقع من العباد من المعاصي: "فصل في أنه تعالى يريد جميع ما أمر به ورغَّب فيه من العبادات، ولا يريد شيئًا من القبائح بل يكرهها"

(3)

، وذلك أن إرادة القبائح قبيحة، والله منزه عن القبيح؛ فوجب ألا يشاءه

(4)

.

وحكى البغدادي اتفاق المعتزلة على أن الله سبحانه لم يشأ ما لم يأمر به، وما لم ينه عنه من أفعال العباد

(5)

.

(1)

الرد على المنطقيين (107).

(2)

المغني في أبواب التوحيد والعدل (8/ 3).

(3)

المصدر السابق (6/ 218).

(4)

المصدر السابق (6/ 220).

(5)

انظر: الفرق بين الفرق (105).

ص: 278

والمعتزلة تطلق القول بعموم القدرة، فيقولون: الرب قادر على كل المقدورات، أو على سائر أجناس المقدورات، كما في قول القاضي عبد الجبار:"وأنه [أي الرب سبحانه] قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما لا يتناهى، وأنه لا ينحصر مقدوره لا في الجنس ولا في العدد"

(1)

.

وليس مرادهم من ذلك عموم قدرة الرب على كل شيء، بل مرادهم قدرته على كل مقدور له، ومن الأشياء ما لا يدخل تحت مقدوره، فقد ذهب المعتزلة - عدا الشحام - إلى أن الله سبحانه لا يوصف بالقدرة على ما أقدر عليه عباده، وإنما النزاع بينهم في قدرته على جنس ما أقدر عليه العباد على قولين، وتنازعوا كذلك في قدرته على الظلم، واكثرهم على إثبات ذلك، وبعضهم يطلق القول بقدرته على الظلم لا على أن يظلم

(2)

، وذهبوا كذلك - عدا ضرار بن عمرو وبشر بن المعتمر - إلى أن الله سبحانه لا يقدر على لطف يلطف به الكافر حتى يؤمن، وأنه ليس في قوة الرب سبحانه أحسن مما فعل بنا

(3)

.

بل قد ذهب أبو الهُذَيل

(4)

منهم إلى أن مقدورات الرب تفنى حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرًا على شيء، ومن هنا قال بفناء حركات أهل

(1)

شرح الأصول الخمسة (155).

(2)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 274 - 274)، والفصل (5/ 59).

(3)

انظر: الفصل (5/ 57)، وانظر (5/ 59) منه.

(4)

هو أبو الهذيل، محمد بن محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي العلاف، مولى عبد القيس، من أئمة المعتزلة، ولد في البصرة سنة (135 هـ)، كان خبيث القول، فارق إجماع المسلمين، هلك في سنة (227 هـ)، وقيل (235 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (4/ 582)، وسير أعلام النبلاء (10/ 542).

ص: 279

الجنة والنار

(1)

.

وذهب النظام منهم إلى أن الله سبحانه لا يقدر على فعل ما علم أن غيره أصلح منه

(2)

.

وذهب الجَاحِظ

(3)

إلى أن الله سبحانه لا يقدر على إفناء الأجسام بالكلية وإنما يرققها ويفرق أجزاءها فقط

(4)

.

وذهب هشام بن عمرو الفوطي منهم إلى أن الله سبحانه إذا خلق شيئًا فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبدًا، لكن يقدر على أن يخلق غيره

(5)

.

وذهب عبَّاد بن سليمان

(6)

منهم إلى أن الله سبحانه لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق

(7)

، وهو قول الأسوارية منهم أتباع علي الأسواري

(8)

.

والمقصود بيان ضلال المعتزلة في إخراجهم قدرة الله سبحانه عن عمومها

(1)

انظر: الفرق بين الفرق (111)، والفصل (5/ 58).

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (121).

(3)

هو: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي الجاحظ، أخذ عن النظام، كان ماجنًا قليل الدين، له نوادر، من كتبه:"الرد على النصارى"، و"البيان والتبيين"، مات سنة (255 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (14/ 124)، وسير أعلام النبلاء (11/ 526).

(4)

انظر: الفصل (5/ 62).

(5)

انظر: المصدر السابق (5/ 62).

(6)

هو: عباد بن سليمان الصيمري، من كبار المعتزلة، أخذ عن هشام بن عَمْرو.

انظر: لسان الميزان (4/ 389).

(7)

انظر: المصدر السابق (5/ 63).

(8)

انظر: الفرق بين الفرق (136).

ص: 280

وتحريفهم معنى قوله عز وجل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] بقولهم: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وكذلك بيان ضلالهم في إخراجهم المشيئة عن بعض مخلوقاته سبحانه.

ومذهبهم هذا مردود باطل، إذ أنه يتضمن أن يكون في ملك الله ما لا يريده وما لا يقدر عليه، وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد

(1)

، وسيأتي مزيد تفصيل في الرد عليهم في مبحث أفعال العباد.

وأما الأمر الثالث: وهو تجويزهم تعلق المشيئة بما هو خارج عن القدرة؛ فقد صرح به القاضي عبد الجبار فقال: "ونحن إذا قلنا إنه تعالى مريد فلا نعني به كونه قادرًا ولا عالمًا، لأنه قد يريد ما لا يقدر عليه، وقد يقدر على ما لا يريده"

(2)

.

وهذا أيضًا واضح البطلان، من وجوه:

الأول: ما تقدم من أدلة على عموم قدرة الرب على كل شيء، فليس ثَمَّ شيء خارج عن القدرة أصلًا.

الثاني: أن لفظ المشيئة - كما تقدم - كوني، فلا بد إذا شاء الرب شيئًا أن يكون، ولا يمكن أن يتخلف أصلًا، والمعتزلة - مع سائر المخالفين - إنما ضلوا في هذا الباب بعدم تفريقهم بين المشيئة والمحبة، والمراد الكوني والمراد الشرعي، وسيأتي الرد عليهم في هذا في موضعه إن شاء الله.

(1)

انظر: شرح الطحاوية (1/ 117).

(2)

شرح الأصول الخمسة (434).

ص: 281

‌المبحث التاسع: "الفطرة لا تنافي تقدير الشقاوة والضلال"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 283

المبحث التاسع: "الفطرة لا تنافي تقدير الشقاوة والضلال"

هذه القاعدة هي آخر قواعد هذا الباب، والكلام فيها عن الفطرة ومعناها وعدم منافاتها للقدر السابق.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه شفاء العليل

(1)

: "الباب الموفي ثلاثين: في ذكر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال".

وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن حكى تفسير الإمام أحمد للفطرة بالإسلام -: "وقوله في موضع آخر: يولد على ما فُطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك؛ فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين، فتهويد الأبوين وتنصيرهما

(1)

(2/ 775)، وقد قال رحمه الله في تعداده أبواب الكتاب في المقدمة (1/ 53):"الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها، وبيان أنها لا تنافي القضاء والقدر بل توافقه وتجامعه".

ص: 285

وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى، والمولود ولد على الفطرة سليمًا وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:(كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)

(1)

، فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا ثم يفسده أبواه وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره"

(2)

.

(1)

يأتي تخريجه ص (287).

(2)

درء التعارض (8/ 361 - 362).

ص: 286

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب مع السنة، ومن ذلك:

قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]

(1)

.

وفي رواية: قالوا يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال:(الله أعلم بما كانوا عاملين)

(2)

.

وحديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)

(3)

.

(1)

رواه البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (2/ 95) ح (1359)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (8/ 52) ح (6926).

(2)

رواها البخاري: كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين (8/ 123) ح (6599)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2047) ح (2658).

(3)

رواهما البخاري: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين (2/ 100) ح (1383 و 1384)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت =

ص: 287

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

مقصود هذه القاعدة بيان أن سبق المقادير لا ينافي كون الإنسان ولد على الفطرة، وينبغي قبل الخوض في هذا الموضوع تقرير معنى الفطرة في اللغة والشرع.

الفِطْرة في اللغة: من فَطَرَ الشيء يفطُره فَطرًا، والفِطْرة الحالة منه كالجِلْسة والرِّكْبة.

والفاء والطاء والراء: أصل صحيح، يدل على فتح شيء وإبرازه، وقد فسرت الفطرة في اللغة بمعان كلها ترجع إلى هذا الأصل:

فقيل: الشق، ومنه قوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، أي: انشقت

(1)

.

وحديث عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه

(2)

، أي تتشقق.

ووجه مناسبته للأصل ظاهر، فإن الشيء إذا انشق فقد فُتح وأُبرز ما فيه.

وقيل: الابتداء والاختراع، ومنه قوله تعالى:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، أي: مبتدعهما ومبتدئهما

(3)

.

وقول أحد الأعرابيين اللذين اختصما إلى ابن عباس رضي الله عنهما في بئر: "أنا

= أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2049) ح (2660 و 6597).

(1)

انظر: تفسير الطبري (24/ 174).

(2)

رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة الفتح، (6/ 135) ح (4837).

(3)

انظر: تفسير الطبري (9/ 175).

ص: 288

فطرتها"، أي: أنا ابتدأتها

(1)

.

ووجه مناسبتها للأصل أن ما اخترع وابتدئ فقد أُبرز إلى الوجود، وشُق عنه غطاء العدم.

وقيل: الخِلقة، والفطر: الخلق، وبه فسر قتادة والسُّدي

(2)

قولَه تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، أي: خالق السموات والأرض.

وهذا المعنى قريب من المعنى الثاني.

وقيل: ما قرُب عهده، فكل ما أُعجِل عن إدراكه فهو فَطير، ومنه قولهم: حيس فطير، أي: طري قريب حديث العمل.

وقولهم لبن فطير: للذي يُحلب ساعتئذ، وخبز فطير: للذي اختُبز من ساعته ولم يختمر، ورأي فطير: للذي استُعجل به قبل أن يستحكم، وجِلد فطير: للذي لم يُروَ من دباغ

(3)

.

‌الفطرة في الشرع:

اختلف أهل العلم في المراد بالفطرة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، والصواب الذي عليه جمهور السلف، أن المراد بها: الإسلام

(4)

.

(1)

رواه ابن جرير (9/ 175).

(2)

رواهما ابن جرير (9/ 175 - 176).

(3)

انظر: تهذيب اللغة (13/ 325)، ومقاييس اللغة (4/ 510)، ولسان العرب (6/ 361)، مادة:(فطر).

(4)

انظر: التمهيد (18/ 72 - 77)، ودرء التعارض (8/ 367 - 377 و 410)، وشفاء العليل (2/ 781 - 785).

ص: 289

ومن الأدلة عليه:

أولًا: قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

فالفطرة هنا الإسلام بإجماع السلف.

قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقال آخرون: الفطرة ههنا الإسلام، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل، قد أجمعوا في قول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} على أن قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام"

(1)

.

ومما نقل عنهم في ذلك: أبو هريرة فقد كان يقول عقب رواية الحديث: "واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} "

(2)

.

ومن ذلك أيضًا: تفسير الزهري رحمه الله كما روى البخاري عنه

(3)

أنه قال: "يصلى على كل مولود متوفى، وإن كان لِغِيَّة

(4)

، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة - وإن كانت أمه على غير الإسلام - إذا استهل صارخًا يصلى عليه، ولا يصلى على من لا يستهل من

(1)

التمهيد (18/ 72).

(2)

انظر: صحيح البخاري (2/ 95)، وصحيح مسلم (4/ 2047)، وتقدم ص (287).

(3)

كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (2/ 94) ح (1358).

(4)

قال الحافظ رحمه الله في الفتح (3/ 221): "بكسر اللام والمعجمة وتشديد التحتانية، أي: من زنا، ومراده أنه يصلى على ولد الزنا، ولا يمنع ذلك من الصلاة عليه لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لأمه، وكذلك من كان أبوه مسلمًا دون أمه".

ص: 290

أجل أنه سقط"، ثم استدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

.

ومن ذلك أيضًا: تفسير عطاء وعمرو بن دينار - رحمهما الله -، كما روى عبد الرزاق

(2)

عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ولد الزنا حين يولد بعد ما استهل أيصلى عليه؟ قال: "نعم"، قلت: كيف وهو كذلك؟ قال: "من أجل أنه ولد على الفطرة، فطرة الإسلام". قال ابن جريج: "وسألت عمرو بن دينار فقال مثل قول عطاء".

ومن ذلك أيضًا: تفسير ابن زيد ومجاهد وعكرمة، كما رواه عنهم الطبري

(3)

.

ثانيًا: حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)

(4)

، وفي لفظ:(حنفاء مسلمين)

(5)

.

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 366).

(2)

(3/ 534) رقم (6614).

(3)

انظر تفسير الطبري (18/ 493 - 494).

(4)

رواه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4/ 2197) ح (2865).

(5)

رواه الطبراني (17/ 363) ح (14683)، وابن أبي خيثمة في تاريخه (1/ 404)، وابن عساكر (34/ 451) من طرق عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، =

ص: 291

ثالثًا: حديث الفطرة المتقدم، وفي بعض ألفاظه التصريح بأن المراد بالفطرة: ملة الإسلام، ومنها:(ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، و (إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه)

(1)

.

وكذلك جاء التصريح بكونها فطرة الإسلام في حديث الأسود بن سَريع رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام حتى يعرب، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)

(2)

.

رابعًا: أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عقيب ذلك عن أطفال المشركين، وهذا يدل على أنهم فهموا أن المراد بالفطرة الإسلام

(3)

.

خامسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث عقيب إنكاره عليهم قتل أولاد المشركين كما في حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية يوم حنين فقاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاؤوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما حملكم على قتل الذرية؟) قالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين! قال: (أَوَهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة

= عن عبد الرحمن بن عائذ، الأزدي عن عياض بن حمار رضي الله عنه به.

(1)

رواهما مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2047) ح (2658).

(2)

رواه بهذا اللفظ: الطبراني (1/ 283) ح (831)، وابن حبان (1/ 341) ح (132)، من طريق الحسن عن الأسود رضي الله عنه به.

(3)

انظر: درء التعارض (8/ 371).

ص: 292

حتى يعرب عنها لسانها)

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم: (أَوَليس خياركم أولاد المشركين) يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك"

(2)

.

سادسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه تهويد أبوين وتنصيرهما وتمجيسهما للمولود بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه، ثم تجدع بعد ذلك، فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها

(3)

، يوضحه:

سابعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر لموجب الفطرة شرطًا، وإنما ذكر ما يمنع موجبها

(4)

.

ثامنًا: أنه جاء في أحاديث أُخَر إطلاق الفطرة على الإسلام، كما في أحاديث سنن الفطرة، ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب)

(5)

.

وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من

(1)

رواه أحمد (24/ 354) ح (15588)، و (24/ 356) ح (15589)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (402).

(2)

درء التعارض (8/ 364).

(3)

انظر: المصدر السابق (8/ 372).

(4)

انظر: المصدر السابق (8/ 454).

(5)

رواه البخاري: كتاب اللباس، باب قص الشارب (7/ 160) ح (5888)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (1/ 221) ح (257).

ص: 293

الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك. . .)

(1)

، وغيرهما من الأحاديث.

والمراد بسنن الفطرة: سنن الإسلام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن فطرة الإسلام: الغسل يوم الجمعة والاستنان وأخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها فخالفوهم، حُدُّوا شواربكم وأعفوا لِحاكُم)

(2)

.

وكما في حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملة أبينا إبراهيم، حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين)

(3)

.

وكما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مت؛ مت على الفطرة)

(4)

.

(1)

رواه مسلم: كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (1/ 223) ح (261).

(2)

رواه ابن حبان (4/ 23) ح (1221)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (3123).

(3)

رواه أحمد (24/ 77) ح (15363)، والنسائي في الكبرى (9/ 5) ح (9743)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (2989).

(4)

رواه البخاري: كتاب الدعوات، باب إذا بات طاهرًا (8/ 68) ح (6311)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (4/ 2081) ح (2710).

ص: 294

وخالف الراجح ممن ذهب إلى هذا القول فريقان:

- فريق قال بنفي العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، فعندهم أن من الأطفال من يولد على الفطرة، ومنهم من ليس كذلك. ومعنى الحديث: أن المولود على الفطرة من الأبوين الكافرين يكفرانه، أي يحكم له بذلك تبعًا لهما، وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما وذلك حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ الحنث فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه.

واستدلوا بدليلين:

الأول: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا)

(1)

.

الثاني: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن بني آدم خُلقوا على طبقات شتى؛ فمنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا ويموت مؤمنًا)

(2)

.

(1)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2050) ح (2661).

(2)

رواه أحمد (17/ 227) ح (11143)، والترمذي: أبواب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (4/ 53) ح (2191)، وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف، انظر: الضعيفة ح (2927).

ص: 295

قالوا: ففي هذا الحديث ومع حديث غلام الخضر ما يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود) ليس على العموم.

فعندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله خلق هذا الغلام كافرًا، وإذا كان كذلك استحال أن يكون ولد على الفطرة، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك هو إخبار وحي، لا حكم دنيوي.

وكذلك الحديث الآخر أخبر فيه صلى الله عليه وسلم أن من الأطفال من يولد مؤمنًا فهو على الفطرة، ومنهم من يولد كافرا فليس هو على الفطرة.

ووجَّهوا العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود) بأن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفظ في لسان العرب، كما في قول الله عز وجل:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، وهي لم تدمر السموات والأرض

(1)

.

والصواب أن الحديث على عمومه، لأنه جاء بألفاظ تدل دلالة قطعية على إرادة العموم، منها:(ما من مولود إلا يولد على الفطرة)

(2)

، و (كل بني آدم يولد على الفطرة)

(3)

.

وأما ما استدلوا به من أحاديث فسيأتي الكلام عليها

(4)

(5)

.

(1)

انظر: التمهيد (18/ 59 - 63)، وقد حكى ابن عبد البر رحمه الله هذا القول طائفة من أهل العلم دون تسمية.

(2)

تقدم تخريجه ص (287).

(3)

رواه الفريابي في القدر (122) ح (160).

(4)

انظر ما يأتي ص (310 و 312 و 317).

(5)

جعل ابن عبد البر رحمه الله هذا القول مع ضده في مسألة مستقلة؛ فجعل الخلاف في الفطرة خلافين: خلاف في العموم وعدمه، وخلاف في الحقيقة والماهية. انظر: التمهيد =

ص: 296

- وذهب محمَّد بن الحَسَن رحمه الله

(1)

إلى أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الإسلام قبل نزول الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد.

قال أبو عبيد: "سألت محمد بن الحسن عن تفسير هذا الحديث فقال: كان هذا في أول الإسلام، قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد"

(2)

.

ويرده حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه المتقدم، فهو نص في المسألة، لأنه كان عقب غزوة حنين، ولذلك قال ابن عبد البر رحمه الله:"فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه إما لإشكاله عليه أو لجهله به أو لكراهية الخوض في ذلك، وأما قوله فيه: إن ذلك القول كان من النبي عليه السلام قبل أن يؤمر الناس بالجهاد؛ فليس كما قال، لأن في حديث الأسود بن سَريع ما يبين أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد"

(3)

.

ولعل منشأ الإشكال عنده رحمه الله أنه رأى استقرار الشريعة على تبعية

= (18/ 59 - 64)، والذي يظهر من قول هؤلاء أنهم يريدون بالفطرة: الإسلام؛ فإن قولهم لا يطَّرد إلا بهذا، وعليه فالأنسب أن يكون محل قولهم هنا، وقد ذكر أبو عبيد أن هذا هو المفهوم من كلام محمد بن الحسن، والله أعلم.

(1)

هو: أبو عبد الله، محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان الفقيه الأصولي القاضي الكوفي، صاحب أبي حنيفة، من كتبه:"الآثار"، و"المبسوط"، قال الشافعي:"لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلت لفصاحته"، مات بالري سنة (189 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 134)، والجواهر المضية في طبقات الحنفية (3/ 122).

(2)

غريب الحديث (2/ 265)، وانظر: التمهيد (18/ 66 - 67)، ودرء التعارض (8/ 380 - 384)، وشفاء العليل (2/ 787 - 789).

(3)

التمهيد (18/ 67).

ص: 297

أولاد المشركين لآبائهم في الدنيا، فظن أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة) يقتضي أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال: هذا منسوخ

(1)

.

وقبل حكاية الأقوال الأخرى المخالفة لهذا القول يحسن بيان مسألتين، توضحان القول الراجح، وتتضمنان ردًا مجملًا على ما خالفه من أقوال.

المسألة الأولى: المعنى المراد بكون المولود على الفطرة:

ليس المراد من كون المولود ولد على الفطرة، أو على ملة الإسلام، أو على الإسلام، أو خُلق حنيفًا: أنه ولد عالمًا بهذا الدين ومريدًا له، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ولكن المراد أن فطرته مقتضيةٌ موجبةٌ لدين الإسلام لمعرفته ومحبته، إذا سلمت عن المعارض.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى الفطرة: "وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة"

(2)

.

فكل مولود يولد على محبة فاطره وإقراره له بربوبيته وإلهيته، فلو خُلِّي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره.

وينبغي أن يعلم أنه ليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، بل المراد أن نفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، ثم موجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 382 - 383).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 245).

ص: 298

سلمت عن المعارض، وقد يعرض لها ما يفسدها، وهذا كما أن المولود يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، وبغض خلافه، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا بحسب حاجته، وقد يعرض له ما يفسده عليه، فيحب ما لا يلائمه ويبغض ما يلائمه

(1)

.

المسألة الثانية: بيان منشأ الغلط في هذه المسألة، وسبب الخلاف:

منشأ الغلط في هذه المسألة هو اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن بعض أهل السنة لما رأوا أن أحكام الكفر تجري على أولاد الكفار في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين؛ ظنوا أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به.

والصواب أن حكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا، فقد يكون الرجل في أرض الكفار وهو مؤمن كاتم لإيمانه، فيغزوهم المسلمون فيقتلونه - وهم لا يعلمون حاله - فيُعامل معاملة قتلى الكفار، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجرى عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.

وكون أطفال المشركين يتبعون لآبائهم في حكم الدنيا أمر قد علم بالاضطرار من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 383 - 384)، وشفاء العليل (2/ 789 - 790).

ص: 299

فإذا عُرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، الإخبار بأحكام الدنيا وحال أطفال الكفار، وإنما أراد بيان الحقيقة التي خلقوا عليها

(1)

.

وسبب الخلاف: أن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس، فكل مولود خلقه الله على الفطرة، وكفره إنما حصل بعد ذلك من الناس.

فأراد الأئمة منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، فصاروا يتأولونه بتأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه، فكان مقصودهم صحيحًا، لكن سلكوا في حصوله طرقًا بعضها صحيح، وبعضها ضعيف

(2)

.

وأما الأقوال الأخرى في معنى الفطرة فهي خمسة:

القول الأول: أن المراد بالفطرة في الحديث: الخلقة التي خُلق عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد: خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك، قالوا: والفاطر الخالق وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعًا وبنيةً ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ثم يعتقد الكفر أو

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 432 - 433).

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 362 و 377 و 382 و 417).

ص: 300

الإيمان بعد البلوغ إذا ميز

(1)

.

وقد حكى ابن عبد البر رحمه الله هذا القول عن طائفة من أهل الفقه والنظر دون تسمية، ورجحه على غيره من الأقوال، واختاره كذلك: الطحاوي

(2)

، والقرطبي

(3)

.

ومن الأدلة عليه:

أولًا: قوله صلى الله عليه وسلم: (كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟)

(4)

، قالوا: شبَّه قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ثم يطرأ عليها النقص بعد بقطع آذانها وأنوفها.

ويدل على ذلك المعنى اللغوي، فالفطرة السلامة والاستقامة، والحنيف في كلام العرب المستقيم السالم.

ثانيًا: أنه لو كان الأطفال قد فطروا على شيء على الكفر أو الإيمان في ابتداء أمرهم ما انتقلوا عنه أبدًا، والمشاهد بخلاف ذلك.

ثالثًا: أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأن الطفل يولد ولا معرفة له بشيء، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ومن كان كذلك استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.

رابعًا: أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أن الإنسان إنما يجزى بعمله كما قال:

(1)

انظر: التمهيد (18/ 68 - 71)، ودرء التعارض (8/ 442 - 443)، وشفاء العليل (2/ 815).

(2)

انظر: شرح مشكل الآثار (4/ 17 - 19).

(3)

انظر: تفسير القرطبي (16/ 427 - 428).

(4)

تقدم تخريجه ص (287).

ص: 301

{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وقال:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وإنما يكون ذلك إذا بلغ، لذا فقد أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا، وإذا تعلق الأمر بالبلوغ امتنع أن يكون الكفر والإيمان حاصل قبله.

خامسًا: أن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، فهذا يدفع كون المراد بالفطرة: الإسلام

(1)

.

سادسًا: لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب أن يحكم للطفل إذا ولد من بين أبوين كافرين بحكم الإسلام ما دام طفلًا، فلا يرثهما ولا يرثانه، ولوجب ألا يصح استرقاقه ونحو ذلك

(2)

.

والجواب عن هذا القول أن يقال: القول بأن: "كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، أي خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك".

إن أُريد بالفطرة فيه مجرد التمكن من المعرفة والقدرة عليها من غير إرادة لها فهذا ضعيف من وجهين:

الأول: أن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته حين يُسأل عمن مات صغيرًا.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي عن قتل أولاد المشركين بكونهم على الفطرة، فإذا كانت الفطرة هي مجرد القدرة، والقدرة في الكبير أكمل منها في

(1)

انظر: التمهيد (18/ 77).

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 359 - 360).

ص: 302

الصغير، فوجب أن تعصم دماء المشركين البالغين من باب أولى، وهذا باطل.

وإن أُريد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها أيضًا؛ فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان

(1)

.

وأما القول: "وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعًا وبنيةً، ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميَّزوا".

فجوابه أن يقال: إن أُريد بهذا أنهم خُلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر؛ فهذا فاسد لوجهين:

الأول: أنه لا فرق حينئذ بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فعليه كان ينبغي أن يذكر الإسلام كذلك.

الثاني: أن الفطرة على قولهم قابلة للمدح والذم على السواء، وما كان كذلك لم يستحق مدحًا ولا ذمًا لذاته، والفطرة ممدوحة لذاتها في الشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه النقص الحاصل لها بالجدع، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بلزومها كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وهذا هو

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 385)، وشفاء العليل (2/ 791).

ص: 303

الذي يشعر به ظاهر الكلام.

وإن أُريد به أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر بما فيها من قبول واستعداد، ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة، فيقال لهم: هذا القبول والاستعداد، هل هو كاف في حصول المعرفة، أم أن حصولها يتوقف على مؤثر خارجي، فإن كان الأول فقولهم صحيح، وإن كان الثاني فهو باطل لوجهين:

الأول: أن هذا المؤثر يمكن أن يوجد تارة وينعدم أخرى، وإذا انعدم انعدمت المعرفة، وهذا لا يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم الفطرة في جميع بني آدم، ولأنه لم يذكر لموجب المعرفة شرطًا، بل ذكر موانعه.

الثاني: أن هذا المؤثر الخارجي يمتنع أن يكون مؤثرًا بذاته، وإنما هو سبب، فعندئذ إن وجب حصول المعرفة فإنما وجبت بالسبب وإن فقدت فلعدمه، وهذا فاسد؛ لأن في الفطرة قبول الكفر والإنكار إذا وجد من يعلمها ذلك، فلا فرق حينئذ بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار، لأن في الفطرة قوة قابلة لكم منهما وحصول أحدهما متوقف على السبب الخارجي، وهذا باطل

(1)

.

وأما جواب ما استدلوا به من أدلة:

الدليل الأول: جوابه أن يقال: هذا دليل على أن الفطرة هي الإسلام، لأنه شبه التهويد والتنصير بتغيير الخلقة، فدل على أن ضدهما - وهو الإسلام -

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 444 - 446)، وشفاء العليل (2/ 816 - 822).

وقد جعل شيخ الإسلام رحمه الله أصل كل من هذه الجزئيتين قولًا، مستقلًّا. انظر (8/ 384 - 385 و 442)، وتابعه على ذلك ابن القيم رحمه الله. انظر: شفاء العليل (2/ 791 و 815).

ص: 304

هو الخلقة الأولى، يوضحه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر لموجب الفطرة شرطًا بل اقتصر على ذكر ما يمنعها دون ذكر شرط لها؟

الدليل الثاني إلى السادس: جوابه ما تقدم في الرد المجمل في المعنى المراد بكون المولود على الفطرة.

القول الثاني: أن المراد بالفطرة في الحديث: البَدْأَة التي ابتدأهم عليها؛ فالله سبحانه وتعالى قد ابتدأهم للحياة والموت والشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم واعتقادهم

(1)

.

وهذا القول رواية عن أحمد تركها

(2)

، وهو قول ابن المبارك

(3)

، وهو المفهوم من صنيع مالك في الموطأ

(4)

.

ومن الأدلة عليه:

أولًا: أن الفطرة في كلام العرب البَدْأَة، والفاطر: المبدئ والمبتدئ، ومنه أثر ابن عباس رضي الله عنهما:"لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها"

(5)

.

فوجب أن يكون المراد بها هنا: ما ابتدأه الله عليه من السعادة والشقاوة وغير ذلك مما يصير إليه.

(1)

انظر: التمهيد (18/ 78 - 80)، ودرء التعارض (8/ 386 - 387)، وشفاء العليل (2/ 791 - 792).

(2)

انظر: التمهيد (18/ 79)، ودرء التعارض (8/ 389).

(3)

انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 266 - 267).

(4)

انظر: التمهيد (18/ 79).

(5)

تقدم تخريجه ص (289).

ص: 305

ثانيًا: قوله عز وجل: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29، 30]

عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} ، قال:"إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال جل ثناؤه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا"

(1)

.

وعن أبي العالية رحمه الله قال: "عادوا إلى علم الله فيهم"

(2)

.

وعن محمد بن كعب رحمه الله قال: "من ابتدأ الله خلقه على الشقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه؛ وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، ومن ابتدئ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه؛ وإن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم"

(3)

.

ثالثًا: قول علي رضي الله عنه: "جبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها"

(4)

.

والجواب عن هذا القول أن يقال: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه، وهو ضعيف لوجوه:

الأول: أنه يلزم عليه أن كل مخلوق من إنس وجن وشجر وحجر فهو

(1)

رواه ابن أبي حاتم (5/ 1462)، وابن جرير (10/ 142).

(2)

رواه ابن أبي حاتم (5/ 1463)، وابن جرير (10/ 143).

(3)

رواه ابن أبي حاتم (5/ 1463)، وابن جرير (10/ 143).

(4)

رواه الطبراني في الأوسط (9/ 43) ح (9089)، وابن أبي شيبة (10/ 107) ح (30012) ولا يصح، انظر: الضعيفة (6544).

ص: 306

مخلوق على الفطرة، لأنها كلها صائرة إلى ما سبق في علم الله لها، وهذا باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصصه ببني آدم.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تغيير الأبوين للفطرة، ولو كان المراد بها ما سبق في علم الله للمولود لم يكن لذكر التغيير معنى، لأن الأبوين حينئذٍ لم يغيِّرا الفطرة، بل فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، فيبين أن أبويه غيَّرا ما ولد عليه.

الثالث: أنه لو كان المراد بالفطرة ما سبق في علم الله للمولود؛ لم يكن ثم فرق بين التهويد والتنصير، وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم.

الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفطرة في حال الولادة، ولو كان المراد بالفطرة ما سبق في علم الله للمولود؛ لم يكن ثم فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.

الخامس: أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل أن المراد بالفطرة الإسلام كما تقدم، وهذا يرد كون الفطرة هي القدر السابق

(1)

.

وأما جواب ما استدلوا به من أدلة:

الدليل الأول: جوابه أن يقال: كون الفطرة في اللغة البداءة لا ينافي أن يولد المولود على فطرة الإسلام، فيكون المراد: أن المولود يبتدئ أمره أن يكون على الفطرة، ثم التغيير قد يطرأ عليها فيما بعد.

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 387 - 388)، وشفاء العليل (2/ 791 - 793).

ص: 307

وتفسير البداءة في الحديث بالبداءة بالسعادة والشقاوة لا يُسَلم، مع الاتفاق على سبق السعادة والشقاوة.

الدليل الثاني: جوابه أن يقال: هذه الآية في إثبات علم الله سبحانه وتعالى والقدر السابق، لا في الفطرة.

وما نقل عن ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية وما يتضمنه من إثبات القدر فهذا حق، لكن ليس ما ذهبوا إليه هو المراد بها

(1)

.

الدليل الثالث: جوابه أنه ضعيف لا يثبت عن علي رضي الله عنه

(2)

.

القول الثالث: أن المراد بالفطرة في الحديث: أن الله سبحانه وتعالى فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا جميعًا: بلى، فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرهًا لا طوعًا

(3)

.

وهو قول إسحاق بن راهويه كما يأتي النقل عنه، والأزهري

(4)

.

ومن الأدلة عليه:

أولًا: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 411 - 413).

(2)

فهو من طريق سلامة الكندي عنه، ورواية سلامة عنه مرسلة كما نص عليه أبو حاتم والعلائي والهيثمي. انظر: الجرح والتعديل (4/ 300) رقم (1308)، وجامع التحصيل (193) رقم (274)، ومجمع الزوائد (10/ 254) رقم (17306).

(3)

انظر: التمهيد (18/ 83 - 88)، ودرء التعارض (8/ 413 - 417)، وشفاء العليل (2/ 801 - 803).

(4)

انظر: تهذيب اللغة (13/ 329).

ص: 308

أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173].

قال إسحاق بن راهويه: "أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال: انظروا، ألا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم"

(1)

.

وروى السدي

(2)

عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، قالوا:"لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذَّر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك قوله أصحاب اليمين والشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم قالوا: بلى، فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على وجه التقية، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} قالوا فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه".

ثانيًا: قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا

(1)

التمهيد (18/ 84).

(2)

ساقه ابن عبد البر بإسناده إلى السدي، انظر: التمهيد (18/ 85 - 86).

ص: 309

وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].

ثالثًا: قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29، 30].

رابعًا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا)

(1)

.

قال إسحاق رحمه الله: "وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفسًا زاكية

(2)

؟ فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرًا"

(3)

.

وقال رحمه الله: "فلو ترك النبي عليه السلام الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنهم لا يدرون ما جُبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم حكم الطفل في الدنيا فقال:(أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) يقول: أنتم لا تعرفون ما طُبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرًا بين أبوين كافرين أُلحق بحكمهما، ومن كان صغيرًا بين أبوين مسلمين ألحق بحكمهما، وأما إيمان ذلك وكفره - مما يصير إليه - فعلم ذلك إلى الله، ويُعلم ذلك فضل الخضر موسى

(4)

إذ أطلعه الله

(1)

تقدم تخريجه ص (295).

(2)

كذا بالألف، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. انظر: حجة القراءات (424).

(3)

التمهيد (18/ 86).

(4)

كذا في المطبوع، ولعل الصواب:"ويُعلم بذلك فضل الخضر على موسى".

ص: 310

عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم"

(1)

.

خامسًا: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه! قال:(أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)

(2)

.

والجواب عن هذا القول أن يقال: إن أريد بكونه مفطورًا على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان: أن الله قد سبق في علمه أنهم ينكرون ويعرفون، ويكفرون ويؤمنون فهذا حق، لكن ليس هو المراد بالحديث.

وإن أريد أن الإنكار والمعرفة، والكفر والإيمان كانت موجودة حين أخذ الميثاق، كما هو ظاهر قول إسحاق فإن كان هذا حقًا فهو مؤكد لكونهم وُلدوا على المعرفة والإنكار، وهذا مؤكد كذلك لكونهم ولدوا حنفاء أو على الملة.

وأما القول بأنهم انقسموا إلى طائع وكاره فهذا مشكل لأن الآثار في هذا الباب تدل على التسوية بين الناس في الإقرار.

وإن ثبت فلا يقدح في كون المولود مفطورًا على المعرفة بربه، لأن فيه أن المعرفة عامة، لكن منهم من أقر بها كارهًا، وكرهه لا يقدح في صحة معرفته، بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره لكن لا يقر به إلا كارهًا.

(1)

التمهيد (18/ 87).

(2)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2050) ح (2662).

ص: 311

على أن هذا لا يسلم لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم، كما في قوله تعالى:{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]، ولو كان فيهم كاره لاحتج بأنه قال ذلك كرهًا، فلا تقوم عليه الحجة

(1)

.

وأما جواب ما استدلوا به من أدلة:

الدليل الأول: جوابه ما تقدم آنفًا.

الدليل الثاني: جوابه هذه الآية ليست في الفطرة بل هي في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لدليل ما تقدم من أن الله سبحانه وتعالى احتج بالإقرار الأول عليهم.

الدليل الثالث: تقدم الكلام عليه، وأن الآية هي في إثبات علم الله سبحانه وتعالى والقدر السابق، لا في الفطرة.

الدليل الرابع: فالمراد به كتب وختم، وهذا من طبع الكتاب وهو من التقدير، وأما الإقرار الوارد في الآية فليس طبعًا، لأنه ليس بتقدير.

وسبب إشكال هذا اللفظ عليهم أن كثيرًا من الناس يستعمل الطبع في الطبيعة التي بمعنى الجبلة والخلقة

(2)

.

وفي توجيه هذا الحديث أربعة مسالك:

الأول: أن هذا الغلام بالغ، ويدل عليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهما للآية:

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 421 - 424).

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 426 - 427 - 388).

ص: 312

"وأما الغلام فكان كافرًا، وكان أبواه مؤمنين"

(1)

.

وهو مدفوع بأنه ورد في بعض ألفاظ قصة موسى مع الخضر قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو أدرك)

(2)

، وهذا دليل على أنه لم يدرك بعد، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:(فمر بصبي يلعب مع الصبيان)

(3)

.

الثاني: أن يقال لعل التكليف في تلك الشريعة يكون قبل الاحتلام عند قوة عقل الصبي وكمال تمييزه، إما عمومًا أو في التوحيد ومعرفة الله سبحانه وتعالى كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه.

الثالث: أنه قُتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، فيكون من باب قتل الصائل.

الرابع: أن كفر الصبي كان ظاهرًا وليس من باب الغيب، وعليه فلا إشكال، ولا يَرِد ما قاله إسحاق رحمه الله

(4)

.

الدليل الخامس: جوابه: أنه ليس في الحديث ما يدل على أن المولود يفطر على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، وإنما فيه أنه لا يشهد لكل معيَّن من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق أن أطفال المؤمنين في الجملة في الجنة، كما يشهد للمؤمنين مطلقا أنهم في الجنة ولا يشهد لمعيَّن بذلك إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

رواها ابن أبي حاتم (7/ 2380) رقم (12924).

(2)

رواه مسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام (4/ 1847) ح (2380).

(3)

رواه البخاري: كتاب الأنبياء، حديث الخضر مع موسى عليهما السلام (4/ 155) ح (3401).

(4)

انظر: التمهيد (18/ 89 - 90)، ودرء التعارض (8/ 427 - 428)، شفاء العليل (2/ 807 - 809).

(5)

انظر: طريق الهجرتين (2/ 864).

ص: 313

القول الرابع: أن المراد بالفطرة في الحديث: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذَّر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعًا ومدبرًا وإن سماه بغير اسمه، فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول.

قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرة ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع تصديقًا بما جاءت به الرسل، فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف

(1)

.

وهو قول أبي بن كعب رضي الله عنه، وحماد بن سلمة - كما يأتي النقل عنهما -، وابن قتيبة

(2)

، وابن بطة

(3)

.

ومن الأدلة عليه:

أولًا: قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].

ثانيًا: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173].

(1)

انظر: التمهيد (18/ 90 - 93)، درء التعارض (8/ 359 و 437 - 438)، وشفاء العليل (2/ 791 و 815).

(2)

انظر: تأويل مختلف الحديث (159).

(3)

انظر: الإبانة (2/ 74).

ص: 314

عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "جمعهم جميعًا فجعلهم أزواجًا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، قال: فإني سأرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا برسلي وصدقوا بوعدي، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي. قال فأخذ عهدهم وميثاقهم. . . قال: وهو قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] "

(1)

.

عن حجاج بن المنهال قال: سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) قال: "هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حيث قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى"

(2)

.

والجواب عن هذا القول أن يقال: هذا القول موافق للقول الراجح الذي عليه جمهور السلف، وليس بينهما تنافٍ، إلا أنه اشتمل على زيادة عليه، وهي أن ذلك كان قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم.

وقولهم "وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان": صحيح، لأن الإيمان الشرعي هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وأما المعرفة

(1)

رواه الحاكم (2/ 324)، وعبد الله (زوائد المسند)(35/ 155) ح (21232)، والفريابي (60) ح (52) و (62) ح (53)، وابن جرير (10/ 557)، وابن بطة (1/ 314) ح (1337) من طرق عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وهذا إسناد حسن، وقد صحح الحديث: الحاكم، وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة ح (122).

(2)

رواه أبو داود: كتاب السنة، باب في ذراري المشركين (5/ 60) ح (4716)، وهو صحيح، انظر: صحيح أبي داود ح (4716).

ص: 315

والإقرار الحاصلان بالفطرة فلا يترتب عليهما ثواب ولا عقاب، بل يتوقف ذلك على إرسال الرسل، فمن سلمت فطرته عن المعارض فآمن فله الثواب، ومن لا فكفر فعليه العقاب.

القول الخامس: أن المراد بالفطرة في الحديث: ما قضاه الله وقدره لعباده من أول أحوالهم إلى آخرها، سواء كانت حالًا واحدة لا تنتقل، أو حالًا بعد حال، أي ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء؛ فقد يكفر العبد ثم يؤمن فيموت مؤمنًا، وقد يؤمن ثم يكفر فيموت كافرًا، وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه، وقد يكون مؤمنًا حتى يموت على الإيمان، وذلك كله تقدير الله وفطرته لهم

(1)

.

ومن الأدلة عليه:

أولًا: قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19].

أي: حالًا بعد حال، على ما سبق لهم في علم الله.

عن مجاهد قال: قال ابن عباس: " {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالًا بعد حاد، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

ثانيًا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن بني آدم خُلقوا على طبقات شتى؛ فمنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا

(1)

انظر: التمهيد (18/ 93 - 94).

(2)

رواه البخاري: كتاب التفسير، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (6/ 168) ح (4940).

ص: 316

ويموت مؤمنًا)

(1)

.

والجواب عن هذا القول أن يقال: حقيقة هذا القول أنهم ولدوا على ما سبق في علم الله أنهم يصيروا إليه، وهو راجع إلى القول الثاني، وتقدم الرد عليه.

وما استدلوا به من أدلة إنما يدل على هذا القدر، على أن حديث أبي سعيد لا يصح تفرد به علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف كما تقدم

(2)

.

قال ابن عبد البر رحمه الله: "وهذا القول وإن كان صحيحًا في الأصل فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة، والله أعلم"

(3)

.

هذه هي أقوال أهل السنة في معنى الفطرة

(4)

، والله أعلم.

فإذا علم أن كل مولود من بني آدم يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، وأن الصواب في معنى الفطرة أنها الإسلام؛ فالناس معها على صنفين:

الأول: من عاش حتى بلغ، وهم قسمان:

- من اختار الإسلام على الكفر.

- من اختار الكفر على الإسلام.

الثاني: من مات قبل البلوغ، وهم قسمان كذلك:

- من كان من أبوين مسلمين، وهم: أطفال المسلمين.

(1)

تقدم تخريجه ص (295).

(2)

انظر ما تقدم ص (295).

(3)

التمهيد (18/ 94).

(4)

قال ابن عبد البر رحمه الله عقب سياقه لهذه الأقوال: "فهذا ما انتهى إلينا عن العلماء أهل الفقه والأثر - وهم الجماعة - في تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) " التمهيد (8/ 94).

ص: 317

- من كان من أبوين كافرين، وهم: أطفال المشركين.

فالصنف الأول لا إشكال فيه من جهة معارضة الفطرة، لأنهما بلغا الاختيار، ثم الفطرة سلمت عن المعارض في الأول فوقع موجبها، ولم تسلم في الثاني فانتفى موجبها.

وأما الصنف الثاني؛ فالقسم الأول لاحق بالقسم الأول من الصنف الأول، وحكي الإجماع عليه

(1)

.

وأما القسم الثاني: فهو محل الإشكال.

وصورة هذا الإشكال: أن أولاد المشركين ولدوا على الفطرة، فهم عليها حتى تعرب عنهم ألسنتهم، فإذا ماتوا كان القياس أنهم من السعداء لكونهم على الإسلام، فإذا لم يكونوا كذلك؛ فكيف يقدر الله سبحانه وتعالى الشقاء على من لم يعرب عنه لسانه مع كونه على فطرة الإسلام؟

وقد وُجدت نصوص يفهم منها أنهم أشقياء، مثل حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا)

(2)

.

والجواب الجامع على هذا الإشكال هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وفي لفظ:(الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم)

(3)

.

(1)

انظر: التمهيد (6/ 348)، وشرح مسلم للنووي (16/ 423) والفتاوى الكبرى (5/ 535).

(2)

تقدم تخريجه ص (295).

(3)

رواه مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2049) ح (2660).

ص: 318

فالله عز وجل الذي خلقهم هو أعلم بهم، ويعلم ما كانوا سيكونون عليه لو بلغوا، ولهذا فالصواب في مسألة أطفال المشركين أن يجاب فيها بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الله أعلم بما كانوا عاملين)، فلا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم فيهم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات.

وهذا قول جميع أهل السنة والحديث حكاه الأشعري عنهم في كتابي الإبانة والمقالات

(1)

، وحكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في الرد على ابن قتيبة

(2)

.

وقد جاءت بذلك الأحاديث، ومن ذلك:

حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة يوم القيامة؛ رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعُنَّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا)

(3)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة

(1)

انظر: الإبانة (12)، والمقالات (1/ 349).

(2)

نقله عنه ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 1139).

(3)

رواه أحمد (26/ 228) ح (16301)، وابن حبان (16/ 356) ح (7357) من طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع رضي الله عنه به، وصححه الألباني في الصحيحة ح (1434).

ص: 319

كلهم يدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر: رجل مات في الفترة، ورجل أدركه الإسلام هرمًا، ورجل أصم أبكم، ورجل معتوه، فيبعث الله إليهم ملكًا رسولًا فيقول: اتبعوه، فيأتيهم الرسول فيؤجج لهم نارًا ثم يقول: اقتحموها. فمن اقتحمها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لا؛ حقت عليه كلمة العذاب)

(1)

.

وروي نحو هذا أيضًا من حديث أنس وأبي سعيد الخدري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم

(2)

.

فهذه الأحاديث تدل دلالة صريحة على أن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة ليظهر علم الله سبحانه وتعالى فيهم.

وفي أطفال المشركين مذاهب أخر ليس هذا محل بسطها ومناقشتها

(3)

، إلا أن هذا القول هو الذي تعضده الأدلة الصحيحة، وهو أجود ما قيل في أطفال المشركين وعليه تتنزل جميع الأحاديث، وهو الذي تدل عليه الأصول المعلومة بالكتاب والسنة

(4)

.

وبهذا الجواب يزول الإشكال، ويظهر أنه لا تنافي بين تقدير الشقاء على بعض أولاد المشركين وبين كونهم على الفطرة، والله أعلم.

(1)

رواه أحمد (26/ 230) ح (16302)، وابن أبي عاصم (1/ 228) ح (413)، وإسحاق بن راهويه (1/ 445) ح (514)، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (404).

(2)

انظر: الصحيحة ح (2468).

(3)

انظر هذه الأقوال في أحكام أهل الذمة (2/ 1086 - 1158).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 247)، ودرء التعارض (8/ 437)، وأحكام أهل الذمة (2/ 1137 - 1147).

ص: 320

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

لم يخالف في ثبوت الفطرة، وكون الرب سبحانه خلق عباده عليها أحد من المنتسبين للإسلام، وإنما اختلفوا في تفسير هذه الفطرة، وبعض الخلاف واقع في تفسيرها بين أهل السنة - كما تقدم -.

فذهبت المعتزلة إلى أن المراد بالفطرة أن الله سبحانه يخلق العبد قابلًا للأمرين، من غير أن يكون فيه ميل لأحدهما، وأنه هو الذي يختار الكفر أو الإيمان فيضل أو يهتدي، وأن الله لا يضله ولا يهديه.

فهم متفقون على أنه لا يولد أحد على الإسلام ولا على ضده، بل المسلم أحدث لنفسه الإسلام والكافر أحدث لنفسه الكفر، ولكن الله دعاهما إلى الإسلام، وأزاح عللهما وأقدرهما قدرة تصلح للضدين، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان منه

(1)

.

قال القاضي عبد الجبار: "فإن قيل: أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)؟ قلنا: هذا الخبر يدل على صحة ما نذهب إليه ولا تعلق لكم بهذا الخبر، ففيه أن كل مولود يولد على الفطرة، ومن مذهبكم أن بعض المولودين يولدون على الفطرة والبعض الآخر يولدون على الكفر، فكيف يصح قولكم ذلك؟ وفيه أيضًا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، ومن مذهبكم أنه تعالى المتولي كل ذلك، وأنه على الحقيقة يهوده ويمجسه وينصره. ثم نقول: إن المراد بالخبر أن أبويه يلقنانه اليهودية والنصرانية

(1)

انظر: درء التعارض (8/ 378).

ص: 321

والتمجس لا أنه يصير ذلك"

(1)

.

ومذهبه هذا ومذهب أسلافه كان سببًا لتفسير بعض السلف لحديث الفطرة بالقدر السابق، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وإنما قال الأئمة ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة؛ لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليست بقدر الله بل مما فعله الناس، لأن كل مولود يولد خلقه الله على الفطرة، وكفره بعد ذلك من الناس. . . فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية"

(2)

.

وقول المعتزلة باطل من وجوه ثلاثة:

أولهما: أن القرآن قد دل على أن المراد بها الدين، كما في قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

وقد فهم أبو هريرة رضي الله عنه هذا منها، ففي الصحيحين عنه أنه قال بعد روايته للحديث: "واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}

(3)

.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن المراد بالفطرة الإسلام، كما في حديث الأسود بن سريع المتقدم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام)

(4)

.

(1)

شرح الأصول الخمسة (482 - 483).

(2)

درء التعارض (8/ 362).

(3)

تقدم تخريجه ص (290).

(4)

تقدم تخريجه ص (292).

ص: 322

وكما في بعض روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، و (إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه)

(1)

.

وقد أوَّل القاضي عبد الجبار المراد بالفطرة في الآية إلى "أنه خلق جميع العباد للطاعة والقيام بالدين، على خلاف ما تقوله المجبرة، وذلك أن فطرة الله هي دينه لأنه خلقهم لأجلها وفطرهم لها، فلما فطر الخلق لذلك وصف نفس الدين بأنه فطرة"

(2)

، وتأويله هذا مردود بتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بكون الفطرة الإسلام، وبإجماع السلف - ومنهم الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه صاحب الحديث - على أن المراد بها في الآية: الإسلام

(3)

، وقد تقدمت الأدلة على ترجيح كون المراد بالفطرة الإسلام

(4)

.

الثالث: أن مبناه على إنكارهم أن الله سبحانه يهدي ويضل، وإنكارهم أن يكون للرب سبحانه على العبد المطيع نعمة خاصة أعانه بموجبها على الطاعة، وهذان المذهبان باطلان - كما سيأتي في موضعه - فما بني عليهما فهو باطل.

وإنكار المعتزلة كون العبد مفطورًا على الإسلام، وتأويلهم لأحاديث الفطرة جرَّهم إلى القول بأن معرفة الله سبحانه ليست فطرية، بل هي حاصلة بالنظر، ولذلك أوجبوا النظر، وجعلوه أول الواجبات.

قال القاضي عبد الجبار: "إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله

(1)

تقدم تخريجهما ص (292).

(2)

متشابه القرآن (556).

(3)

انظر ما تقدم ص (290).

(4)

انظر ما تقدم ص (290) وما بعدها.

ص: 323

عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر"

(1)

.

وهذا الوجوب عنده عيني، حيث يقول:"الغرض بقولنا إن النظر أول الواجبات: أنه أول واجب لا ينفك أحدٌ من المكلفين عنه"

(2)

.

وقد تابع المعتزلة على هذا الأصل: الأشاعرةُ؛ إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم في: هل أول واجب هو النظر، أو القصد إلى النظر، أو أول النظر، أو المعرفة

(3)

.

وكل من النظر والقصد إليه حكيا عن الأشعري

(4)

.

وهذا الخلاف بينهم لفظي كما بيَّنه التفتازاني: "اختلفوا في أول الواجبات، فقيل معرفة الله تعالى لأنها الأصل، وقيل النظر فيها أو القصد إليه لتوقفها عليه، والحق أنه إن قيد الواجب بما يكون مقصودًا في نفسه فالأول، وإلا فالثاني"

(5)

.

وممن قرر ذلك أيضًا الرازي

(6)

والبيجوري

(7)

، واشتط بعضهم فزعم أن أول واجب على العبد الشك، كما ذهب إليه الغزالي

(8)

، وأبو هاشم

(1)

شرح الأصول الخمسة (39)، وانظر:(75) منه، والمحيط بالتكليف (1/ 17).

(2)

المحيط بالتكليف (1/ 19).

(3)

انظر مثلًا: الشامل (115) والإرشاد (3) كلاهما للجويني، والإنصاف (21) للباقلاني، وتحفة المريد (82)، والمقاصد مع شرحه (1/ 271).

(4)

انظر: تحفة المريد (82).

(5)

المقاصد مع شرحه (1/ 271).

(6)

انظر: المحصل ص (47).

(7)

تحفة المريد (83)، وانظر: درء التعارض (7/ 353).

(8)

انظر: ميزان العمل (409).

ص: 324

الجبائي من المعتزلة

(1)

.

وقد أنكر مقالةَ الأشاعرة هذه بعضُ أئمتهم، يقول الشهرستاني:"فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها - على صانع حكيم عالم قدير، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك"

(2)

، فهو يرى أن معرفة الله فطرية لا تحتاج إلى نظر واستدلال.

وممن أنكر هذه المقالة أيضًا: أبو جعفر السُّمْنَاني

(3)

، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد نقل القدوة أبو محمَّد بن أبي جَمْرة

(4)

عن أبي الوليد

(1)

انظر: المواقف للإيجي (32)، وشرح المقاصد (1/ 272)، ودرء التعارض (7/ 419).

(2)

نهاية الإقدام (124).

(3)

هو: أبو جعفر، محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد السمناني الحنفي الأشعري، قاضي الموصل، مات بالموصل سنة (444 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (2/ 217)، وسير أعلام النبلاء (17/ 651).

(4)

هو: أبو محمد، عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، من العلماء بالحديث، مالكي، أصله من الأندلس، من كتبه:"جمع النهاية"، و"بهجة النفوس"، وله مختصر على البخاري، مات بمصر سنة (695 هـ). =

ص: 325

الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب"

(1)

.

وإنما قال ذلك لكون هذا القول لا يتوافق مع أصول الأشعرية القاضية بأنه لا واجب إلا بالشرع

(2)

.

والقول بإيجاب النظر وأن معرفة الله غير فطرية باطل من وجوه:

الأول: أن النصوص الشرعية دلت على فطرية المعرفة وأنها لا تتوقف على النظر، ومن ذلك ما تقدم في أدلة الفطرة.

الثاني: أن الدعوة إلى عبادة الرب سبحانه كانت أول ما يدعو الرسل إليهم أقوامهم، كما أخبر بذلك الله عنهم في كتابه، ومن ذلك:

قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] و [هود: 50].

وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73] و [هود: 61].

وقوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] و [هود: 84] ونحوها من الآيات.

= انظر: طبقات الأولياء (439)، والأعلام للزركلي (4/ 89).

(1)

فتح الباري (1/ 71)، وانظر:(13/ 349) منه.

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 12 - 13).

ص: 326

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

الثالث: أن النبي كان يأمر رسله الدعاة بالبداءة بالتوحيد، مثل ما في حديث معاذ في بعث النبي له إلى اليمن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا نحو اليمن قال له:(إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك؛ فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا؛ فاخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك؛ فخذ منهم وتَوَقَّ كرائم أموال الناس)

(1)

.

الرابع: أن إنكار فطرية المعرفة لم يؤْثر عن أحد من أهل العلم من سلف الأمة وأئمتها.

فتحصل أن هذا القول محدَث لا أصل له في النصوص وكلام السلف، بل قد اتفق السلف على خلافه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله عنه: "ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين ولا هو قول كل المتكلمين ولا

(1)

رواه البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (9/ 114) ح (7372)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (1/ 50) ح (19).

ص: 327

غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم، وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم، وقالوا بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال، بل قد يقولون يمتنع أن يحصل بالقياس والنظر وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والعامة وغيرهم، بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا تقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة"

(1)

.

(1)

بيان تلبيس الجهمية (4/ 570 - 571)، وانظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 117 - 119).

ص: 328

‌الفصل الثاني: القواعد المتعلقة بأفعال الله عز وجل

-

وتحته خمسة مباحث:

المبحث الأول: "الله سبحانه جَبَل العباد على ما شاء".

المبحث الثاني: "كلٌ ميسرٌ لما خلق له".

المبحث الثالث: "الله سبحانه منزَّة عن الظلم مع قدرته عليه".

المبحث الرابع: "قدر الله - الذي هو فعله - لا شر فيه بوجه من الوجوه".

المبحث الخامس: "أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة لأجلها فعل".

ص: 329

‌المبحث الأول: "الله سبحانه جَبَل العباد على ما شاء"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 331

المبحث الأول: "الله سبحانه جَبَل العباد على ما شاء"

هذه أولى القواعد المتعلقة بأفعال الله سبحانه وتعالى، وتتضمن بيان خلق الله عز وجل لإرادات عباده، وجعلهم راضين بها مختارين لها.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال الزَّبيدِي رحمه الله

(1)

: "أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق، ويجبل عبده على ما أحبه"

(2)

.

وقال الأوزاعي رحمه الله: "ما أعرف للجبر أصلًا من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل"

(3)

.

(1)

هو: أبو الهذيل، محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي القاضي، الإمام الحافظ الحجة، ولد في خلافة عبد الملك، كان أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث وكان ثقة، مات سنة (149 هـ)، وقيل غير ذلك.

انظر: تهذيب التهذيب (3/ 723)، سير أعلام النبلاء (6/ 281).

(2)

رواه الخلال في السنة (3/ 555) رقم (932)، واللالكائي (4/ 775) رقم (1300).

(3)

المصدرين السابقين.

ص: 333

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "الله عز وجل جبل العباد"

(1)

.

(1)

رواه الخلال في السنة (3/ 553) رقم (929).

ص: 334

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة.

فمن الكتاب: قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21] فأخبر عز وجل أنه خلق الإنسان على هذه الصفة.

وقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].

ومن السنة: حديث أم أبان بنت الوازع بن زارع، عن جدها زارع - وكان في وفد عبد القيس - قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورِجْله، قال: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عَيْبَتَه

(1)

فلبس ثوبيه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:(إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّق بهما، أم الله جَبَلني عليهما؟ قال:(بل الله جَبَلك عليهما)، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله

(2)

.

(1)

العَيْبَة: وعاء من أدَم، يضع الرجل فيها خير ثيابه وخير متاعه وأنفسه عنده. انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 157)، ولسان العرب (2/ 125)، مادة:(عيَب).

(2)

رواه بهذه السياقة أبو داود: كتاب الأدب، باب قُبْلة الرِّجْل (5/ 248) ح (5225)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود ح (5225) دون ذكر تقبيل الرجل.

ورواه من حديث الأشج رضي الله عنه أحمد (29/ 361) ح (17828)، وابن أبي شيبة (8/ 380) ح (25730) عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأشج به، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (190) على شرط الشيخين. =

ص: 335

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

الجَبْلُ في اللغة مأخوذ من مادة (جَبَل)، يقال: جَبَل الله الخلق يجبُلهم جَبْلًا، أي: خلقهم، وجُبل الإنسان على هذا الأمر أي طُبع عليه، وجِبِلَّة الشيء: طبيعته وأصله وما بُني عليه

(1)

.

وهذا المعنى اللغوي هو المراد في لسان الشرع، فمعنى جبْل الله سبحانه وتعالى للعباد: خلْقُهم؛ ذواتهم وأفعالهم، وما أودعه في نفوسهم من طبائع وصفات.

لكن المقصود في هذه القاعدة شيء خاصٌّ من هذا العموم، وهو خلق الله عز وجل لإرادات عباده من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية.

وأما خلق الأفعال فسيأتي الكلام عليه مفصَّلًا في قاعدةٍ مستقلةٍ.

وسبب الكلام في هذه المسألة عند الأئمة رحمهم الله هو أن القدرية - الذين أنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد - ألزموا مخالفيهم بالقول بأن الله سبحانه وتعالى يجبر العباد على أفعالهم، فالتزم بعض من ناظرهم من أهل السنة إطلاق الجبر في حق الله عز وجل، ونفاه بعضهم وأطلقوا أن الله سبحانه وتعالى لا يجبر العباد على أفعالهم، فأنكر الأئمة - كما سيأتي - ذلك على الطائفتين

(2)

.

وأصل الجواب في هذه المسألة هو أن لفظ (الجبر) لفظ مجمل، يراد به

= ورواه بدون لفظ الشاهد: مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ح (25)، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ح (26).

(1)

انظر: تهذيب اللغة (11/ 95)، لسان العرب (5/ 102)، مادة:(جَبَل).

(2)

انظر: درء التعارض (1/ 254).

ص: 336

معنىً صحيحًا ومعنىً باطلًا، ولا سبيل إلى تقرير المعنى الحق ورد المعنى الباطل إلا بالرجوع إلى لفظ شرعي صحيح، وهذا اللفظ هو (الجبل)، فلا يقال: الله سبحانه وتعالى جبر العباد، ولا يقال: لم يجبرهم، وإنما يقال: جَبَل العباد.

وبيان ذلك: أن لفظ الجَبْر - الذي هو بمعنى الإكراه والقهر

(1)

- يراد به معنيان مختلفان

(2)

:

الأول: إلزام الإنسان بخلاف رضاه، إما بإكراهه على فعل ما لا يريده، أو بمنعه مما يريده، ثم قد يكون هذا الإلزام بحق، وقد يكون بباطل.

ومثال هذا القسم: إجبار الولي المرأةَ - التي تحت ولايته - على النكاح بغير رضاها، أو عضلها ومنعها عن الكفء.

الثاني: خلق الإرادة في قلب العبد وجعله مريدًا لذلك مختارًا محبًّا له راضيًا به، وخلقه متصفًا بهذه الصفات.

(1)

وللجبر معنيان آخران سوى هذا المعنى: أحدهما يرجع إلى الإصلاح، يقال جَبَر العظم، لازمًا ومتعديًا، ومنه قول العجاج:

قد جَبَر الدينَ الإلهُ فجَبَر

وعوَّر الرحمن من ولَّى العَوَر

والثاني: يرجع إلى العز والامتناع، ومنه الجبَّار من النخل، وهو ما طال وفات الأيدي، قال الأعشى:

طريقٌ وجبَّارٌ رواءٌ أصولُه

عليه أبابيلٌ من الطير تنعَبُ

انظر: تهذيب اللغة (11/ 57)، ولسان العرب (5/ 182)، مادة:(جَبَر).

(2)

انظر: درء التعارض (1/ 65 - 69)، ومجموع الفتاوى (8/ 462 - 465)، وشفاء العليل (1/ 385 - 387).

ص: 337

ومن ذلك قول قتادة رحمه الله: "الجبار: جبر خلقه على ما يشاء"

(1)

، وقول محمد بن كعب القرظي رحمه الله:"إنما يسمى الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد"

(2)

.

والجبر بهذا المعنى تصح إضافته إلى الله سبحانه وتعالى، بل لا يقدر عليه غيره، فهو عز وجل المتفرد بالخلق وتدبير العباد وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه كقلب واحد، يقلبها كيف شاء، فمعنى هذا الجبر: القهر والقدرة، وأنه سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن قهره وقدرته سبحانه وتعالى أنه يجعل العبد محبًّا مريدًا فاعلًا لما يشاؤه منه، إما مع محبته واختياره، وإما مع بغضه وكرهه.

والجبر من الله سبحانه وتعالى على هذا المعنى - مختص به - كما تقدم -، وهو مبني على عدله سبحانه وتعالى، وصادر عن علمه الشامل وحكمته البالغة

(3)

، وأما على المعنى الأول فلا يصح أن يوصف به الله سبحانه وتعالى، لأن الذي يكره غيره على خلاف ما يريد؛ هو عاجز في الحقيقة عن جعله مريدًا للفعل محبًا له راضيًا به، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء.

فلأجل هذا الاشتباه في معنى الجبر منع الأئمة من إطلاق القول بالنفي أو الإثبات فيه، وعدلوا عنه إلى اللفظ الشرعي الصحيح وهو: الجبْل.

(1)

رواه ابن جرير (22/ 554).

(2)

رواه الخلال في السنة (3/ 557) رقم (935 و 936)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 89) رقم (48).

(3)

انظر للفروق بين الجبر بهذا المعنى وبين جبر المخلوق: مجموع الفتاوى (8/ 465)، وشفاء العليل (1/ 387 - 389).

ص: 338

كما روى الخلال عن بقية رحمه الله قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي:"أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه".

وقال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلًا من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما وصفت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق

(1)

"

(2)

.

فالزبيدي نفى الجبر بناء على المشهور من معناه وهو الإكراه، وأما الأوزاعي فلم يثبته ولم ينفه، بل منع من إطلاقه وعدل عنه إلى ما ذَكر، ولهذا كان جواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي، مع كون جوابيهما من أحسن الأجوبة

(3)

.

وروى الخلال كذلك

(4)

عن أبي بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول: إن الله جبر العباد؟ فقال: "هكذا لا تقول" وأنكر هذا، وقال:"يضل من يشاء ويهدي من يشاء".

وروى أيضًا عنه

(5)

قال: "سمعت بعض المشيخة تقول: سمعت

(1)

العبارة في كتاب السنة: "وإنما وضعت كلاهما مذكورة هذا مخافة أن يرتاب رجل من الجماعة والتصديق"! وتصويبها من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

(2)

السنة (3/ 555) رقم (932)، ورواه أيضًا: اللالكائي (4/ 775) رقم (1300).

(3)

انظر: درء التعارض (1/ 69)، ومنهاج السنة (3/ 246).

(4)

السنة (3/ 550) رقم (920).

(5)

المصدر السابق (3/ 553) رقم (929)، وقد بوَّب الخلال لهذه الآثار وغيرها:"الرد على القدرية وقولهم إن الله جبر العباد على المعاصي".

ص: 339

عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنكره سفيان الثووي: جبر، وقال: الله عز وجل جبل العباد"، قال أبو بكر المروذي: "أظنه أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس"

(1)

.

وعدول الأئمة إلى لفظ (الجبل) له ثلاثة أسباب:

الأول: شرعيته، فالجبل لفظ جاء به النص، كما في حديث أشجّ عبد القيس رضي الله عنه المتقدم.

الثاني: سلامته من الاشتباه والإجمال، فالمعاني التي يدور عليها هذا اللفظ كلها يصح إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى.

الثالث: شموله للمعنى الدال على المراد، وهو أن الله عز وجل يخلق إرادات عباده للخير والشر، ويطبعهم على ذلك، ويجعلهم فاعلين مريدين لما يشاؤه منهم.

وهذا الباب له ارتباط وثيق بباب الهدى والإضلال، فالله سبحانه وتعالى يخلق الهدى في قلب عبده المؤمن وييسره لليسرى، ويخلق الضلال في قلب الفاجر، وييسره للعسرى.

ولهذا عدل الإمام رحمه الله كما تقدم - عن لفظ الجبر إلى قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].

وقال زيد بن أسلم رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]: "ما جبلوا عليه من شقوة وسعادة"

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (335).

(2)

رواه الفريابي في القدر (90) رقم (105)، وابن جرير (21/ 554)، وابن بطة (2/ 222) رقم (1806).

ص: 340

فجميع ما يقوم به العبد من أفعال الخير؛ فإنما قام بها لهداية الله سبحانه وتعالى له إليها، وجميع ما يقوم به من خلاف ذلك فهو لإضلال الله سبحانه وتعالى له، وعدم توفيقه للخير.

فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى خلق عباده وطبعهم على ما شاء، وجعل في قلوبهم إرادة ما يشاؤه منهم، وذلك لكمال عزته وقهره ونفوذ مشيئته، مع ما اتصف به من علم شامل وحكمة بالغة، والله أعلم.

ص: 341

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

لما كانت هذه القاعدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببابي خلق الأفعال والهدى والإضلال؛ فإن المخالف فيهما مخالف فيها على وجه الإجمال، إلا أن هذه القاعدة مختصة ببيان أن الرب سبحانه يخلق الاختيار والمشيئة في قلب العبد ويجعله شائيًا مختارًا محبَّا.

وهذا القدر خالف فيه عموم المخالفين لأهل السنة، فلم يقروا به، بل هم إزاء ذلك فريقان:

- من ينكر أن يكون الله خالقًا لإرادة العبد أو مشيئته، ويجعلُ العبد هو المختار الشائي بمعزل عن مشيئة الرب وقدرته، وهم القدرية المعتزلة من شايعهم.

- من يزعم أن الله سبحانه قد أجبر العبد على فعله، وأنه لا مشيئة له ولا اختيار؛ بل هو كالريشة في مهب الريح، وهؤلاء الجبرية الخلص وهم الجهمية.

ويلحق بهم من زعم أن العبد كاسب لفعله، وهؤلاء الجبرية المتوسطة وهم الأشاعرة، والأولون يقولون بالجبر على المعنى النفي عن الرب سبحانه وهو الذي بمعنى الإلزام بما لا يرضاه الأخر، كإجبار الرجل على ترك طعام أو فعل قبيح لا يرضى بفعله.

فالمخالفون دائرون بين هذين الأمرين: الجبر المنفي عن الرب سبحانه، وضده من نفي مشيئة الرب وقدرته، وأما إثبات مشيئة للعبد واختيار مخلوق لله سبحانه في قلب العبد يحمله به على فعل ما يريد هو سبحانه؛ فلم يثبته غير أهل السنة، وسيأتي بإذن الله في مبحثي أفعال العباد تفصيل أقوال هؤلاء المخالفين وردها.

ص: 342

وفي هذه القاعدة مسألة أخرى سبق الكلام عليها المبحث الثاني من الفصل الأول، وهي مسألة توقيف الكلام في القدر على النصوص الشرعية، ومنه الالتزام بالألفاظ الشرعية وعدم العدول عنها إلى ألفاظ مجملة محتملة لحق وباطل، ويخالف فيها أهل البدع من المتكلمين على ما تقدم.

ص: 343

‌المبحث الثاني: "كل ميسر لما خلق له"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 345

المبحث الثاني: "كل ميسر لما خلق له"

هذه القاعدة أصل جامع في باب القدر، تنتظم مسائل القدر والشرع والسبب والمسبب.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

هذه القاعدة هي نص حديث للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي -، وقد تتابع أهل العلم على تقريرها.

ص: 347

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة.

فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

وقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].

ومن السنة: حديث علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فأخذ شيئًا فجعل ينكت به الأرض، فقال:(ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة). قالوا: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على كتابنا وندع العمل؟ قال:(اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة؛ فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء؛ فييسر لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6] الآية

(1)

.

(1)

رواه بهذا اللفظ: البخاري: كتاب التفسير، سورة:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (6/ 171) ح (4949)، وقد تقدم تخريجه ص (241) بدونه.

ص: 348

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

هذه القاعدة هي نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولها تعلق مباشر بعدد من أبواب القدر، من أهمها: باب الأسباب، وباب الحكمة، وباب الهدى والضلال.

وهي على وجه العموم قد انتظمت الشرع والقدر والسبب والمسبب

(1)

.

كما أن لها تعلقًا متينًا بالقاعدة السابقة: "الله سبحانه وتعالى جبل العباد على ما شاء"، وذلك أن جبل الله سبحانه وتعالى للعباد - كما تقدم - خلْقُ ذواتهم وأفعالهم، ومن ذلك خلق إراداتهم من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، وهذا مشتمل على التيسير لليسرى، والتيسير للعسرى، فتكون هذه القاعدة أخص منها.

ولهذا وضع بعض أهل العلم لفظ (التيسير) مكان لفظ (الجبل)، بديلًا للفظ (الجبر) المبتدَع، كما صنع الإمام ابن القيم رحمه الله

(2)

.

وأما ارتباطها بباب الهدى والضلال، فلأن التيسير لليسرى - في الحقيقة - هو الهدى، والتيسير للعسرى هو الضلال.

وأما ارتباطها بباب الحكمة، فلأن الله سبحانه وتعالى يعلم المحل الذي يصلح لفضله وكرامته وعطائه، من المحل الذي لا يصلح لذلك، وحكمته سبحانه وتعالى تأبى وضع الشيء إلا في المكان الذي يصلح له، فالله سبحانه وتعالى علم من بعض خلقه صلاحيتهم لفضله فيسرهم لأسباب السعادة، وعلم من بعضهم عدم ذلك فيسرهم لخلافها.

وأما ارتباطها بباب الأسباب، فلأن الله عز وجل يعلم الأمور على ما هي عليه؛

(1)

انظر: التبيان في أيمان القرآن (100)، وانظر (88) منه.

(2)

التبيان في أيمان القرآن (99).

ص: 349

فهو يعلم أن السعيد يسعد بأسباب السعادة التي هي الأعمال الصالحة، والشقي يشقى بأسباب الشقاء وهي الأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا يُسِّر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا يُسِّر للأعمال السيئة التي تقتضي الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له

(1)

.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له)، أجاب به في عدة مواطن على سؤال تكرر من عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ومضمون هذا السؤال: هو أنه إذا كان قد سبق القدر بالسعادة والشقاوة، فما فائدة العمل؟ فمن كتبه الله من أهل السعادة فسيصير لها، ومن كتبه من أهل الشقاوة فكذلك سيصير لها.

فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل الكلي المتضمن لأصول أربعة:

الأول: إثبات الأسباب، ببيان أن كلًّا من السعادة والشقاوة إنما تنال بأسبابها.

الثاني: إثبات القدر السابق، وأنه لا تنافي بينه وبين كون الإنسان له قدرة على فعله وله اختيار.

الثالث: أن هذا عام في كل مخلوق، بدلالة لفظ:(كلّ).

الرابع: أن من الناس من خلق للسعادة، ومنهم من خلق للشقاء، فلم يخلقوا كلهم للسعادة ثم منهم من اختار الشقاء.

وقد ورد حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه بلفظ: (أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلًّا ميسرٌ لما كتب له منها)

(2)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (10/ 23 - 24).

(2)

رواه ابن ماجه كتاب التجارات، باب الاقتصاد في المعيشة (3/ 512) ح (2142)، =

ص: 350

فعليه يكون هذا الحديث عامًا في أمور الدنيا والآخرة، ويكون التيسير من الله سبحانه وتعالى للعبد شاملًا لتيسيره لأسباب آخرته ومآله، ولتيسيره لأسباب دنياه ومعاشه.

ومعنى تيسير الله سبحانه وتعالى للعبد: أي تهيئته وصرفه وتسهيله، أي أن الله عز وجل يُلهم عبده العمل الذي قدره له ويُهيئ له أسبابه

(1)

.

وهذا التيسير نوعان - كما في الحديث -:

- تيسير لليسرى، كما في قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]، وأصل اليسرى: الخَلَّة والحالة السهلة النافعة المهيأة للعبد، وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا، ليوجب له به في الآخرة الجنة، وذلك يتضمن التيسير للخير وأسبابه، فتصير خصالهما مَذلَّلة له منقادة لا تستعصي عليه

(2)

.

وقد ذكر سبحانه وتعالى للتيسير لليسرى ثلاثة أسباب:

الأول: إعطاء العبد ما أمره الله عز وجل به، وهذا متضمن فعل العبد لجميع ما أمر الله سبحانه وتعالى به، من اعتقاد وقول وعمل، ويدل على العموم حذفه للمفعول، فلم يعين مفعولًا بعينه بل أطلق.

= والحاكم (2/ 3)، من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وصححه الألباني في الصحيحة ح (898).

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 398).

(2)

انظر: تفسير الطبري (24/ 466)، الهداية إلى بلوغ النهاية (12/ 8312)، التبيان في أيمان القرآن (95 - 96).

ص: 351

الثاني: التقوى، وهي فعل المأمور وترك المحظور.

الثالث: التصديق بالحسنى، وهو التصديق با لإيمان وجزائه، وعلى هذا تدور تفاسير السلف للحسنى

(1)

.

وعند التأمل يلاحظ عود هذه الأسباب الثلاثة إلى سبب واحد وهو التقوى، فالعمل بالمأمور من قول أو عمل أو اعتقاد مع اجتناب ضده هو حقيقة التقوى، ويدخل في ذلك التصديق بخبر الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك التصديق بما وعد الله من ثواب دنيوي جزئي، أو أخروي كامل.

لذلك فقد علق الله عز وجل التيسير عليها وحدها في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، والله أعلم.

والتيسير لليسرى يختلف قوة وضعفًا بحسب تحقيق العبد لهذه الأسباب.

- تيسير للعسرى، كما في قوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10]، العُسرى: هي الخَلَّة والحالة العسرى، وذلك بالعمل بالمعاصي، وهذا يتضمن التيسير للشر وأسبابه.

وقد ذكر سبحانه وتعالى في مقابل ما ذكره من أسباب التيسير لليسرى - ثلاثة أسباب للتيسير للعسرى:

الأول: البخل وعدم إعطاء ما أُمر به العبد.

(1)

للسلف في تفسير (الحسنى) أقوال، أوصلها بعضهم إلى ستة، وحصرها ابن القيم في ثلاثة: لا إله إلا الله، والجنة، والخَلَف، وكل ما ذكر في تفسيرها يرجع إلى الإيمان وجزائه، فمن فسرها بلا إله إلا الله؛ فقد فسرها بالإيمان والدين، ومن فسرها بالجنة أو بالخَلَف؛ فقد فسرها بجزاء الإيمان؛ الجزاء الأعلى في الأول، ونوعًا من الجزاء في الثاني. انظر: تفسير القرطبي (22/ 324)، زاد المسير (9/ 149)، التبيان في أيمان القرآن (91 - 93).

ص: 352

الثاني: الاستغناء وترك التقوى.

الثالث: التكذيب بالحسنى.

والتيسير للعسرى - كذلك - يختلف قوةً وضعفًا بحسب قيام العبد بأسبابه، حتى يصل إلى التعسير المطلق الذي تنسدُّ معه كل أبواب الخير، وتفتح كل أبواب الشر، عياذًا بالله سبحانه وتعالى.

وكل من (اليسرى) و (العسرى) فُسِّرتا بالجزاء وأسبابه، ففسرت اليسرى بالجنة وبالخير، وفسرت العسرى بالنار والشر

(1)

.

لذا، فإن للتيسير في كل منهما يكون للجزاء وسببه، مع دفع معارضه، بحسب وجود أسباب كل منهما.

والمراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لما خُلق له) أي لما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه أن يصير إليه من سعادة وشقاوة، وجنة ونار، فمن خلقه للسعادة يسره لها ولأسبابها فضلًا منه سبحانه وتعالى، ومن خلقه للأخرى يسره لها ولأسبابها عدلًا منه سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في كل ما يقوله ويفعله.

والمقصود أن الله سبحانه ييسر عباده لما شاء من يسر أو عسر بإلهامه هذا وهذا، وتهيئة أسباب هذا وهذا، هدى منه وإضلالًا، بناء على ما اقتضته حكمته جل وعلا، والله أعلم.

(1)

انظر: زاد المسير (9/ 149 - 150).

ص: 353

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

يخالف أهلَ السنة في هذه القاعدة من يخالفهم في باب الأسباب، وباب الحكمة، وباب الهدى والضلال؛ لما تقدم من العلاقة بينها وبين هذه القاعدة، إذ هذه القاعدة من القواعد الجامعة في باب القدر.

فهذا المعنى الذي تضمنته القاعدة وهو كون الرب سبحانه ييسر عباده لما شاء من يسر أو عسر بإلهامه هذا وهذا، وتهيئة أسباب هذا وهذا، هدى منه وإضلالًا، بناء على ما اقتضته حكمته جل وعلا؛ إنما أقر به أهل السنة فقط.

والمخالفة البارزة مخالفة القدرية المعتزلة؛ فإنهم لما كانوا يرون أن الله سبحانه لا يضل أحدًا ولا يهديه؛ فإنهم يجعلون التيسير هو البيان من الله وإزالة الموانع، والتمكين من الأمرين، لكن التيسير لليسرى يكون بألطاف من الله - مع ذلك - تحمل على الطاعة، والتيسير للعسرى يكون بالحرمان من تلك الألطاف.

قال القاضي عبد الجبار: "المراد بقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} أعلمها وبين لها الفجور لتجتنب ذلك، والتقوى لتُقدِم عليها"

(1)

.

وقال في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10]: "المراد باليسرى: الثواب العاجل والآجل، وبالعسرى: العقاب العاجل والآجل. . . ويحتمل أن يكون المراد فيمن صدق بالحسنى: تيسيره للألطاف التي لأجلها يثبت على الإيمان، وفيمن كذب الحسنى تيسيره لأمور

(1)

تنزيه القرآن عن المطاعن (464).

ص: 354

لأجلها يفضل الثبات على ما هو عليه"

(1)

.

وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]: "ومعنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامهما وإعقالهما، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما"

(2)

.

وقال في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]: "فسنهيؤه لها، من يسَّر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها، ومنه قوله عليه السلام: (كل ميسر لما خلق له) والمعنى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها".

وقال في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10]: "فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدَّه"

(3)

.

وما ذهبوا إليه باطل، إذ أن الأدلة من الكتاب والسنة دلت على ثبوت هداية الله لخلقه وإضلالهم، وسيأتي ذكر شبه المعتزلة والرد عليها في مبحث الهدى والضلال، كما سيأتي في مبحث النعمة الخاصة ذكر مرادهم باللطف والتوفيق والرد عليه بإذن الله.

(1)

المصدر السابق (465).

(2)

الكشاف (6/ 382).

(3)

المصدر السابق (6/ 386).

ص: 355

‌المبحث الثالث: "الله سبحانه منزَّه عن الظلم، مع قدرته عليه"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 357

المبحث الثالث: "الله سبحانه منزَّه عن الظلم، مع قدرته عليه"

هذه القاعدة من القواعد المهمة في باب القدر، والبحث فيها هو في حقيقة الظلم الذي ينزه الله عز وجل عنه، وأنه داخل تحت قدرته سبحانه وتعالى.

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال ابن قتيبة رحمه الله: "وعدْل القول في القدر: أن تعلم أن الله عدل لا يجور"

(1)

.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: "وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة"

(2)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "فعُلم أن الله قادر على ما نزَّه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله. . . فعُلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو سبحانه منزَّه عن فعله مقدس عنه"

(3)

.

وقال أيضًا: "ومعلوم أن الله سبحانه حَكَمٌ عَدْلٌ لا يضع الأشياء إلا

(1)

الاختلاف في اللفظ (35).

(2)

التمهيد (3/ 139).

(3)

مجموع الفتاوى (18/ 144).

ص: 359

مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن لكنه لا يفعله لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه؛ إذ قد حرَّمه على نفسه"

(1)

.

وقال أيضًا: "فهذا الظلم الذي حرَّمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه، وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره لأنه عادل ليس بظالم"

(2)

.

(1)

المصدر السابق (18/ 145).

(2)

المصدر السابق (18/ 156)، وانظر: جامع الرسائل (1/ 129).

ص: 360

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة.

أما أدلة الكتاب: فهي أنواع:

الأول: نفيه سبحانه وتعالى الظلم عن نفسه، كقوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} في مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى

(1)

.

وكقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33].

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].

وقوله تعالى: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].

النوع الثاني: نفيه سبحانه وتعالى إرادته له: كقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، وقوله تعالى:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31].

النوع الثالث: تأمينه سبحانه وتعالى العباد منه، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].

النوع الرابع: إخباره سبحانه وتعالى عن نفسه باتصافه بخلافه وهو العدل، تارة بالإخبار بالقيام به كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

(1)

آل عمران: (182)، والأنفال:(51)، والحج:(10).

ص: 361

وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، وتارة بالإخبار بالحكم به كما في قوله سبحانه وتعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 54]، وقوله:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وغير ذلك.

النوع الخامس: نفيه سبحانه وتعالى التسوية بين الطائعين والعاصين، كقوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].

وأما أدلة السنة: فحديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:(يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا. . .)

(1)

.

وفي هذا الحديث نوع آخر من الأدلة على نفي الظلم غير ما تقدم في أنواع أدلة القرآن، وهو: تحريمه سبحانه الظلم على نفسه.

وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه

(1)

رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1994) ح (2577)، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر به. وفيه عقب الحديث: قال سعيد [يعني ابن عبد العزيز]: "كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جَثا على ركبتيه".

ص: 362

تسعة وتسعين سجلًا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة؛ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)

(1)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابٌ أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا)

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (148)، وهو صحيح.

(2)

رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة {ق} (6/ 138) ح (4850)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2186) ح (2846)، وفي هذا الحديث دلالة أخرى على المقصود، وهي وضعه سبحانه وتعالى الشيء في موضعه الذي يناسبه، وهذه حقيقة العدل.

وقد أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب التوحيد ح (7449) بلفظ: (ولكل واحدة منكما ملؤها؛ قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنه ينشئ للنار من =

ص: 363

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة؛ يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها)

(1)

.

وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم"

(2)

.

= يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد، ثلاثًا حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ. . .)، وهذا اللفظ مشكل، لأن المعروف الذي اتفق عليه الشيخان أن الإنشاء يكون للجنة لا للنار. قال ابن القيم رحمه الله:"وأما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقى فيها فتقول: هل من مزيد؛ فغلط من بعض الرواة؛ انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده؛ فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأنه لا يعذب إلا من قامت عليه حجته وكذب رسله". حادي الأرواح (2/ 801)، وانظر (2/ 754) منه، وأنكر هذا اللفظ أيضًا: البلقيني، انظر: فتح الباري (13/ 437)، وانظر كلامًا مفصَّلًا نفيسًا حول هذا الحديث لابن الوزير في إيثار الحق (216 - 221).

(1)

رواه مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا (4/ 2162) ح (2808).

(2)

تقدم تخريجه ص (38)، وهو صحيح.

ص: 364

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

هذه القاعدة أصل عظيم يتعلق بالدين كله من أوله إلى آخره، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وهذا الأصل - وهو عدل الرب - يتعلق بجميع أنواع العلم والدين؛ فإن جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك، وكذلك أقواله وشرائعه كتبه المنزلة وما يدخل في ذلك"

(1)

.

ولمادة (ظَلَمَ) في اللغة أصلان صحيحان:

الأول: من الظُّلْمة، وهي خلاف النور، وجمعه ظُلَم وظلمات، والظلام اسم لها، يقال: أظلم المكان إظلامًا، فهو مظلم.

الثاني: من الظُّلْم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، يقال: ظلم يظلم ظلمًا، ومنه المثل السائر: من أشبهْ أباه فما ظَلَم

(2)

.

قال الأصْمَعيَ رحمه الله

(3)

: "ما ظلم، أي: ما وضع الشبه في غير موضعه، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه".

وقد ذُكر للظلم معان أخرى ترجع إلى هذا الأصل:

فقيل: الميل عن القصد، ومنه قولهم: الزم هذا الصوب ولا تظلم منه

(1)

جامع الرسائل (1/ 125).

(2)

انظر: مجمع الأمثال للميداني (2/ 300).

(3)

هو: أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع البصري، اللغوي الإخباري، حجة الأدب، ولسان العرب، ولد سنة بضع وعشرين ومئة، من تصانيفه:"الإبل" و"خلق الإنسان"، و"الشاء"، أثنى عليه الإمام أحمد في السنة، مات سنة (216 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (12/ 157)، وسير أعلام النبلاء (10/ 175).

ص: 365

شيئًا، أي لا تَجُر عنه.

وقيل: النقصان، كما في قوله تعالى:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، أي: ما نقصونا شيئًا بما فعلوا، ولكن نقصوا أنفسهم

(1)

(2)

.

وأما الظلم في الشرع فيرجع إلى الأصل اللغوي الثاني، وهو وضع الشيء في غير موضعه، وهو نوعان:

أولهما: الظلم في حق المخلوق، وهو قسمان:

القسم الأول: ظلم النفس، وهو على حالتين:

الأولى: ظلمها بتحميلها ما لا تطيق، بمشروع كصلاة ونحوها، أو بمباح كلهو ونحوه.

الثانية: ظلمها بالذنوب والمعاصي، وهذا على ضربين:

- ظلم أكبر، بالشرك الأكبر.

- ظلم أصغر، بالذنوب التي دون الشرك.

القسم الثاني: ظلم الغير، بالاعتداء على دمه أو ماله أو عرضه، ونحو ذلك.

ثانيهما: الظلم في حق الخالق، والكلام عليه من خلال مسائل ثلاث:

الأولى: معنى الظلم الذي حرمه الله على نفسه.

الثانية: تنزه الله سبحانه وتعالى عن الظلم.

الثالثة: قدرة الله سبحانه وتعالى على الظلم.

(1)

انظر: تفسير الطبري (10/ 505).

(2)

انظر: تهذيب اللغة (14/ 382)، ومقاييس اللغة (3/ 468)، مادة:(ظلَم).

ص: 366

المسألة الأولى: معنى الظلم الذي حرمه الله على نفسه.

تفسير أهل السنة والجماعة للظلم موافق للسان العربي الذي نزل به القرآن العزيز، فيقولون: الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ويفسرون الظلم المنفي عن الله سبحانه وتعالى بما يرجع إلى هذا المعنى، ولهم في تفسيره أقوال، وهذه الأقوال هي في الحقيقة صور الظلم الممكن وقوعها، وهي:

الأول: أن ينقص من حسنات العامل، أو يزاد عليه من سيئات غيره.

وقد جاء نفي هذا الظلم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، لا يخاف ظلمًا: بأن يحمل من سيئات غيره، ولا هضمًا: بأن يبخس شيئًا من حسناته.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته"

(1)

، وجاء هذا التفسير عن عدد من السلف: مجاهد وقتادة والحسن رحمهم الله تعالى

(2)

.

الثاني: عقوبة من لم يذنب.

وقد جاء نفي هذا الظلم في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 30، 31]، يبين لهم هذا المؤمن أن هذا العقاب لم يكن ظلما منه سبحانه وتعالى لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه، لأنه لا يريد ظلم عباده، ولكنه

(1)

رواه ابن جرير (16/ 176).

(2)

انظر: المصدر السابق (16/ 176 - 177).

ص: 367

أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به، وخلافهم أمره

(1)

.

وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، بالخبر في مواضع من كتاب الله عز وجل

(2)

، وبالإنشاء في قوله تعالى:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].

الثالث: أن ينقص ثواب العمل.

وجاء نفي هذا الظلم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

يخبر عز وجل أنه يلحق بالمؤمن ذريته الذين اتبعوه على الإيمان فيرفعهم إلى درجته وإن لم يعملوا مثل عمله لتقر بهم عينه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يظلمه فلا ينقص لأجل ذلك من عمله شيئًا.

قال سعيد بن جبير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} : "وما ظلمناهم"

(3)

، ومثله عن قتادة والضحاك وابن زيد رحمهم الله

(4)

.

المسألة الثانية: تنزه الله سبحانه وتعالى عن الظلم.

تنزيه الله عن الظلم هو مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، والخلاف إنما هو في حقيقة هذا الظلم ومعناه

(5)

، وقد تقدم تفسير الظلم ومعناه عند أهل السنة والجماعة.

(1)

انظر: تفسير الطبري (20/ 315 - 316)، ومجموع الفتاوى (18/ 144).

(2)

الأنعام: (164)، الإسراء:(15)، فاطر:(18)، الزمر:(7).

(3)

رواه ابن جرير (21/ 586).

(4)

انظر: المصدر السابق.

(5)

انظر: جامع الرسائل (1/ 121 و 125)، ومجموع الفتاوى (8/ 505).

ص: 368

وقد دل على تنزه الله سبحانه وتعالى عن الظلم - مع الإجماع - الكتاب والسنة والعقل.

وقد تقدمت دلالة الكتاب والسنة على ذلك، وأما دلالة العقل، فمن وجوه:

الأول: أن الظلم نقص وعيب بإجماع العقلاء من جميع الأمم، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص، فوجب أن يكون الله سبحانه وتعالى منزهًا عن الظلم.

الثاني: أن العدل - وهو نقيض الظلم - صفة كمال ومدح، فوجب أن يكون الله عز وجل متصفًا بها؛ لأنه أحق وأولى بكل كمال

(1)

.

الثالث: أن الظلم شر بالإجماع، والشر ليس إليه سبحانه وتعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك

(2)

.

الرابع: أن الله سبحانه وتعالى سمى ووصف نفسه بما يدل على تنَزُّهه عن الظلم.

ومن ذلك: تسميته نفسه بالحكم والحاكم والحكيم، ووصف نفسه بالحكمة.

وأصل الحكم: المنع، وأوّل ذلك الحُكْم بمعنى المَنْع من الظُّلْم، ومن هنا قيل للحاكم بين الناس حاكم: لأنه يمنع الظالم من الظلم، والحكومة: رد الرجل عن الظلم

(3)

.

(1)

انظر ما تقدم ص (155).

(2)

انظر: جامع الرسائل (1/ 126)، والحديث المشار إليه رواه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/ 134) ح (771) من حديث علي رضي الله عنه.

(3)

انظر: تهذيب اللغة (4/ 110)، ومقاييس اللغة (2/ 91)، مادة:(حكَم).

ص: 369

قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، قال ابن كثير رحمه الله:"أي: أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يَجُور ولا يَظلم أحدًا؟ "

(1)

.

ومنه تسميته سبحانه وتعالى نفسه بالسلام، ومن معانيه: الذي سلِم خلقه من ظلمه

(2)

.

ومنه تسميته سبحانه وتعالى نفسه بالمؤمن، ومن معانيه: الذي أمَّن خلقه من أن يظلمهم

(3)

.

ومنه تسميته سبحانه وتعالى نفسه بالمتكبِّر، ومن معانيه: الذي تكبَّر عن ظلم عباده

(4)

.

قال ابن القيم رحمه الله: "فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه"

(5)

.

ومعنى تحريم الظلمِ الواردُ في حديث أبي ذر رضي الله عنه: المنع، أي منعت نفسي من الظلم، وهذا المنع هو حق أوجبه الله سبحانه وتعالى على نفسه تفضلًا وتكرمًا بحكم وعده، وبما كتبه على نفسه من تحريم الظلم، وبموجب أسمائه وصفاته، لا أنه يجب عليه كما يجب على المخلوق

(6)

.

(1)

تفسير ابن كثير (14/ 396).

(2)

انظر: تفسير الطبري (22/ 551)، وشأن الدعاء (41)، وتفسير القرطبي (20/ 390).

(3)

انظر: تفسير الطبري (22/ 552).

(4)

انظر: زاد المسير (8/ 227).

(5)

شفاء العليل (2/ 512).

(6)

انظر: منهاج السنة (2/ 310).

ص: 370

المسألة الثالثة: قدرة الله سبحانه وتعالى على الظلم.

تقدم في المبحث الثامن من الفصل الماضي بيان شمول قدرة الرب سبحانه وتعالى لكل شيء، وأنه يدخل في ذلك ما عُلم أنه عز وجل لا يفعله، وتقدم كذلك بيان كون الممتنع ليس بشيء أصلًا بإجماع أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم، فأغنى عن إعادته هنا

(1)

.

ومذهب أهل السنة والجماعة أن الظلم ممكن مقدور لله سبحانه وتعالى، وليس هو بممتنع، وقد دل على ذلك:

أولًا: تمدحه سبحانه وتعالى بتركه وعدم إرادته، ولو لم يكن مقدورا له لما كان لذلك التمدح معنى؛ لأن الأمر الذي لا يُقدر عليه لا يصح أن يُمدح الممدوح بتركه أو عدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها

(2)

.

بل لم يكتف الله عز وجل بالإخبار بنفي الظلم وأنه حرمه على نفسه ولم يرده، حتى نوَّع الأدلة على ذلك ما بين تأمين العباد منه، ونفيه سبحانه وتعالى التسوية بين الطائع والعاصي؛ وهذا كله يدل على أن الظلم مقدور له.

ثانيًا: أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه حرَّم الظلم على نفسه، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته؛ فلا يصح أن يقال: حرمت على نفسي خلق مثلي، ونحو ذلك من المحالات، لأن المعنى حينئذ: أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا لي لا أفعله.

(1)

انظر ما تقدم ص (271 - 272).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (18/ 144)، وشفاء العليل (2/ 512).

ص: 371

وهذا المعنى باطل، فهو مع خلوه من معنى يستفيده السامع، ليس فيه مدح ولا ثناء، وخطاب الله ورسوله ينزه عن إرادة مثل هذا المعنى

(1)

.

ثالثًا: أن القدرة على الظلم صفة كمال وضدها نقص، والله سبحانه وتعالى متصف بالكمال ومنزه عن النقص، فوجب أن يكون قادرًا عليه.

رابعًا: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الملك والحمد؛ الملكَ بكونه على كل شيء قدير، والحمدَ بأنه عادل لا يظلم، فمن نفى قدرته على الظلم فقد نفى ملكه، وكذب بما أخبر به عن ذلك، كما أن من نفى عدله وأثبت قدرته فقد أثبت له حمدًا بلا ملك

(2)

.

ومما يجب أن يُعلم أن أهل العلم قد نبَّهوا على مسألة مهمة، وهي أن الظلم المنفي عن الله سبحانه وتعالى ليس هو الظلم المنفي عن الخلق

(3)

.

ومحل البحث فيما ظهر لي هو الصورة الثالثة من صور تفسير الظلم؛ لأن الظلم المنفي عن الله سبحانه وتعالى هو - كما تقدم تفسيره - ثلاث صور:

الأولى: أن ينقص من حسنات العامل أو يزيد عليه من سيئات غيره.

الثانية: أن يعاقب من لم يذنب.

الثالثة: أن ينقص ثواب العمل.

وذلك أن المعنى المنفي في الصورتين الأولى والثانية واحد سواء أضيف إلى الخالق أو إلى المخلوق، لكن للخالق من ذلك ما يليق به، وللمخلوق ما يليق به.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (18/ 144).

(2)

انظر: جامع الرسائل (1/ 126)، ومجموع الفتاوى (8/ 30)، وشفاء العليل (1/ 343 - 344).

(3)

منهاج السنة (2/ 310 - 311).

ص: 372

وأما الصورة الثالثة فالمعنى مختلف، لأن المخلوق إنما يكون ظالمًا للعامل إذا استوفى منه المنفعة ثم هضمه أجره، فالأمر بينهما معاوضة؛ عمل مقابل الأجرة، وأما بالنسبة لله عز وجل فالأمر مختلف، لأن إثابة المطيع فضل منه سبحانه وتعالى وإحسان وليس هو من قبيل المعاوضة، لأن الله سبحانه وتعالى غني عن العباد وأعمالهم، فلو أطاعوه كلهم أو عصوه كلهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا ولم يزد.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأعمال ليست عوضًا لدخول الجنة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:(لن ينجي أحد منكم عمله)، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله، قال:(ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا)

(1)

.

وأيضا فالله سبحانه وتعالى هو الذي أقدر العامل عل العمل ووفقه له ودفع عنه موانعه، ثم مَنَّ عليه بعد ذلك بأن حفظ له العمل من الحبوط، فالفضل له سبحانه وتعالى أولًا وآخرًا.

والحاصل أن الله عز وجل يقدر على الظلم، إلا أنه سبحانه وتعالى لكمال عدله وإحسانه لا يفعله، والله أعلم.

(1)

رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (8/ 98) ح (6463)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (4/ 2169) ح (2816).

ورواه كذلك البخاري في الموضع السابق (8/ 98) ح (6464)، ومسلم في الموضع السابق كذلك (4/ 2171) ح (2818) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ورواه مسلم أيضًا في الموضع السابق (4/ 2170) ح (2817)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 373

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

تقدم أن تنزيه الله عن الظلم مما اتفق عليه المسلمون وسائر أهل الملل، والخلاف إنما هو في حقيقة هذا الظلم ومعناه.

فذهبت الجبرية من جهمية وأشاعرة إلى أن الظلم ليس بممكن الوجود، بل هو الممتنع مثل الجمع بين الضدين، ومثل كون الشيء موجودًا معدومًا، وكل ممكن إذا قدر وجوده من الرب سبحانه فإنه عدل، فالعدل هو الممكن.

قال البَاقِلاني

(1)

: "الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصورة والفعل، وإنما يكون كذبًا إذا خالف الأمر، وكذلك الجور والظلم، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمر أمره، وناه نهاه، وهم الخلق. وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه، فلا يصح وصفه بشيء من هذا"

(2)

.

وقال الغزالي: "الظلم منفي عنه بطريق السلب المحض كما تسلب الغفلة عن الجدار والعبث عن الريح، فإن الظلم إنما يتصور ممن يمكن أن يصادف فحلى ملك غيره، ولا يتصور ذلك في حق الله تعالى، أو يمكن أن يكون عليه أمر فيخالف فعله أمر غيره، فلا يتصور من الإنسان أن يكون ظالمًا في ملك نفسه بكل ما يفعله إلا إذا خالف أمر الشرع، فيكون ظالمًا بهذا المعنى، فمن

(1)

هو: أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم البصري ثم البغدادي، المعروف بالباقلاني، أو ابن الباقلاني الأشعري، من كتبه:"الإنصاف"، و"التقريب والإرشاد"، مات سنة (403 هـ).

انظر: تاريخ بغداد (3/ 364)، وسير أعلام النبلاء (17/ 190).

(2)

الإنصاف (150).

ص: 374

لا يتصور منه أن يتصرف في ملك غيره، ولا يتصور منه أن يكون تحت أمر غيره؛ كان الظلم مسلوبًا عنه لفقد شرطه المصحح له لا لفقده في نفسه، فلتفهم هذه الدقيقة فإنها مزلة القدم، فإن فسر الظلم بمعنى سوى ذلك؛ فهو غير مفهوم ولا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات"

(1)

.

وقال الآمدي: "الظلم وكل صفة منقصة مسلوبةٌ عنه لامتناع اتصافه بها، وذلك على نحو سلب الظلم والعبث عن الحيوانات والجمادات وغير ذلك من النباتات؛ إذ الظلم يتصور ممن يصادف تصرفه ملك غيره من غير علمه، أو مخالفة من هو داخل تحت تصرفه وحكمه، وذلك كله منفي عن الباري تعالى"

(2)

.

وقال ابنُ المنيِّر

(3)

: "ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك الله تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه"

(4)

.

وقال الإيجي: "وتصرفه تعالى فيما هو ملكه كيف كان لا يكون ظلمًا"

(5)

.

واحتج الأشاعرة لما ذهبوا إليه بأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وكلاهما منتف عن الرب سبحانه؛ إذ كل

(1)

الاقتصاد في الاعتقاد (183 - 184).

(2)

غاية المرام في علم الكلام (213 - 214).

(3)

هو أبو العباس، أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار الإسكندري المالكي، المعروف بابن المنيِّر، الأشعري، ولد سنة (620 هـ)، من كتبه:"البحر المحيط"، و"الانتصاف من صاحب الكشاف"، مات سنة (683 هـ).

انظر: تاريخ الإسلام (15/ 491)، وبغية الوعاة (1/ 384).

(4)

الانتصاف (بحاشية الكشاف)(5/ 316)، وانظر:(1/ 166) منه.

(5)

المواقف (322).

ص: 375

ما سوى الله سبحانه ملك له، وليس فوق الله تعالى آمر تجب عليه طاعته.

وما ذهبوا إليه باطل من وجوه:

الأول: أن الصواب في تعريف الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه - كما تقدم بيانه - لا ما ذكروا، وحصرهم للظلم في التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الواجب طاعته لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا لغة، بل قولهم مردود بالكتاب والسنة واللغة.

الثاني: أن دعوى امتناع الظلم منه سبحانه غير صحيحة، بل الظلم ممكن إلا أن الله تنزَّه عنه، وقد تقدم بيان ذلك

(1)

.

الثالث: أن مذهب الأشاعرة في هذه المسألة مبني على مذهبهم الباطل في التحسين والتقبيح، وأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ولا مدخل للعقل في ذلك، فعندهم لو أمر الشارع بالزنا والكفر لحسن ذلك، ولو نهى عن التوحيد والعفة لحسن ذلك لأمر الله سبحانه وتعالى، وعلى مذهبهم الباطل في نفي الحكمة والتعليل، وسيأتي بيان ضلالهم في هذين البابين، وما بُني على باطل فهو باطل.

الرابع: أن التصرف في ملك الغير وكذا مخالفة الآمر الذي تجب طاعته ليس بظلم دائمًا، بل قد يكون هو العدل، وهذا بيِّن، ويدل للأول: ما جاء في الشرع من الحجر على مال السفيه؛ فإنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وليس ظلمًا باتفاق العقلاء بل عدل ومنفعة.

ويدل للثاني: حديث علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر ما تقدم ص (371 - 372).

ص: 376

سرية واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبًا فجمعوا له، ثم قال أوقدوا نارًا فأوقدوا، ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك وسكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(لو دخلوها ما خرجوا منها؛ إنما الطاعة في المعروف)

(1)

، فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الخروج عن الطاعة إذا كانت في غير المعروف.

ولا مجال للأشعرية بأن ينازعوا بأن هذه الأحكام ثبتت في الشرع، لأن الأول ممدوح عقلًا قبل ورود الشرع لتضمنه حفظ مال السفيه، والثاني كان فعل الصحابة فيه صائبًا قبل ورود الشرع، بدليل استدلالهم بالعقل، ثم جاء إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم.

فهذان دليلان ومثالان على أن التصرف في ملك الغير ومخالفة الآمر قد يكونان عدلًا لا ظلمًا.

وذهبت القدرية المعتزلة إلى أن الظلم مقدور لله تعالى، إلا أنهم جعلوا الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، إذ هم مشبهة في الأفعال.

(1)

رواه البخاري: كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/ 63) ح (7145)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (3/ 1469) ح (1840).

ص: 377

وإنما كان الله سبحانه منزَّهًا عن الظلم عندهم لأن الظلم غير مراد له سبحانه، فهو - عندهم - لم يرد وجود شيء من الذنوب لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان ولا خلقه، بل العباد أحدثوا ذلك بغير مشيئته، فلما أحدثوا هذه المعاصي استحقوا العقوبة عليها، فعقوبتهم عندئذٍ ليست ظلمًا.

فالإحداث ليس فعله، والعقوبة عليه عدل، ليست بظلم.

وفرَّعوا على هذا أيضًا إنكار هداية الرب سبحانه لخلقه وإضلالهم، لأنه عندهم إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، وكذلك إذا اختص بعض عباده بالإعانة دون بعض كان ظالمًا.

قال القاضي عبد الجبار: "اعلم أن الظلم كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ولا استحقاق ولا الظن، للوجهين المتقدمين، ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به، ولا يكون في الحكم من جهة غير فاعل الضرر"

(1)

.

فشروط الظلم عندهم:

1) أن يكون ضررًا لا نفع فيه ولا دفع ضرر؛ إذ لا يكون ظالمًا من كلف أجيرًا بعمل مضر به في مقابل أجرة يحصل له بها نفع معلوم.

ولا يكون ظالمًا من أضر بأحد مضرة لدفع مضرة أكبر منها، كما يقطع الطبيب اليد المتآكلة إبقاء لحياة المريض.

2) أن يكون ضررًا غير مستحق، إذ لا يكون ظالمًا من أضر بعقوبة من يستحق هذه العقوبة، كذم الفاسق والكاذب، فإنهما مستحقان للذم.

3) أن يكون الضرر ليس من جهة المضرور به، إذ ليس بظالم من دفع

(1)

شرح الأصول الخمسة (345).

ص: 378

صائلًا بضربه والإضرار به، لأنه ضرر من جهة المضرور به.

وهذا الشرط يمكن دخوله فيما تقدم، إذ المدفوع مستحق لأن يدفع ضره.

4) أن يكون الضرر من جهة غير فاعل الضرر، فلو أن الله سبحانه أمات صبيًا ألقي به في النار لا يكون ظالمًا له، لأن هذه الإماتة كأنها في هذا الحكم من غير جهة الله سبحانه.

وعرَّفه القاضي عبد الجبَّار أيضًا مقابلًا له بضده: "وقد عُلم أن الظلم هو ما يفعله بغيره من المضار القبيحة، فيجب أن يكون العدل ما يفعله الفاعل بغيره من المضار الحسنة وما يجري مجراها"

(1)

.

ولا فرق في هذا بين أن يكون النفع ودفع الضر ظنيًّا أو معلومًا

(2)

.

وهذا المعنى هو المقصود في حق الله عندهم، فالقاضي يعرف العدل في حق الله فيقول:"ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم؛ فالمراد به أنه لا يفعل القبيح ولا يختاره، ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة"

(3)

.

وقال أيضًا: "وأما في الاصطلاح، فإذا قيل إنه تعالى عدل؛ فالمراد به أن أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخلُّ بما هو واجب عليه"

(4)

.

وقولهم ما يفعله الفاعل بغيره مبني على قولهم في الحكمة وأنها راجعة إلى المخلوق ولا يعود لله منها وصف، إذ ما يفعله الفاعل بنفسه لا يوصف بكونه

(1)

المغني للقاضي عبد الجبار (6/ 50).

(2)

انظر: شرح الأصول الخمسة (345 - 346).

(3)

المصدر السابق (301).

(4)

المصدر السابق (132)، وانظر:(133) منه.

ص: 379

عدلًا ولا ظلمًا، قال القاضي عبد الجبار: "فصل في بيان وصف الفعل بأنه عدل وحكمة وما يتصل بذلك.

اعلم أن الذي يختص بهذه الصفة من الأفعال كل فعل فعله لينتفع المفعول به على وجه يحسن أو يضر به، وأما ما يفعله الفاعل منا بنفسه لمنفعة أو دفع مضرة فإنه لا يوصف بذلك"

(1)

.

فمما تقدم يظهر أن المعتزلة أحسنوا في إثبات قدرة الرب على الظلم، ولكنهم أخطؤوا في مسألتين:

الأولى: في حقيقة الظلم، فإنهم عرفوه بناءً على تشبيه أفعال الله بأفعال الخلق، وأنه يحسن منه ما يحسن منهم، ويقبح منه ما يقبح منهم.

الثانية: جعلهم هذا دليلًا وحاملًا على إنكار خلق الله سبحانه لأفعال العباد، لأنه - بزعمهم - إذا كان خالقًا لها ثم عذبهم على القبيح منها فهو ظالم، وفي ذلك يقول القاضي:"وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقًا لأفعال العباد: هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان الله تعالى خالقًا لها لوجب إن يكون ظالمًا جائرًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا"

(2)

.

ولا شك في بطلان ما ذهبوا إليه في المسألتين، أما الثانية؛ فلأنه لا يلزم من كون الله خالقًا لأفعال العباد أن يكونوا غير فاعلين لها، أو أن يكونوا مجبورين عليها، بل للعبد قدرة ومشيئة على فعله والله خالقه وخالق قدرته ومشيئته وفعله، وسيأتي في مبحثي خلق الأفعال الرد عليهم في هذا.

(1)

المغني للقاضي عبد الجبار (6/ 48).

(2)

شرح الأصول الخمسة (345).

ص: 380

ومما يُردُّ عليهم به: أن الإجماع منعقد على أن الله قد خلق لهم الاستطاعة التي وقع بها منهم الظلم والكذب والجور مع علمه أنهم يظلمون بها، فيلزم على مذهبكم هذا أن يسمى بذلك ظالمًا ومعينًا على الظلم

(1)

.

ومما يُردُّ به عليهم أيضًا: أنه إن كان بخلقه الظلم يسمى ظالمًا فينبغي أن يكون بخلقه حركة الاضطرار يسمى متحركًا، وبخلقه السقم سقيمًا، وهكذا

(2)

.

وأما المسألة الأولى، فمن وجوه:

الأول: أن الله سبحانه كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته؛ فليس له مثل في أفعاله، فتشبيه أفعاله بأفعال خلقه باطل.

الثاني: أن الله سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

الثالث: أن تنزه الرب سبحانه عن الظلم من كماله سبحانه، ومن تفضله على خلقه لا أن أحدًا يوجب عليه ذلك.

الرابع: أن الله سبحانه موصوف بالحكمة، والحكيم والحكم من أسمائه، وكل أفعاله منوطة بالحكمة، وما يقع في الوجود من شرور فقد تضمنت من الحكم ما يجعل وجودها خيرًا من عدمها.

ولذلك فإن المعتزلة - كما سيأتي - لما كانوا يرون أنه لا يعود من أفعال الله تعالى إليه وصف وإنما إلى الخلق فقط، فإنهم أوجبوا على الله سبحانه العوض على الآلام التي لا تتضمن حكمة تعود على المتألم كإيلام الأطفال؛ هروبًا من

(1)

انظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 187).

(2)

انظر: المصدر السابق.

ص: 381

الظلم، وقالوا: العوض عليها يخرجها عن أن تكون ظلمًا بالنسبة لهم

(1)

.

وقد تقدم في المطلب الأول أن الظلم المنفي عن الله سبحانه وتعالى ليس هو الظلم المنفي عن الخلق، وأن إثابة المطيع فضل منه سبحانه وليس هو من قبيل المعاوضة، لأن أعمال بني آدم ليست عوضًا لثواب الله سبحانه.

(1)

انظر: شرح الأصول الخمسة (494)، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 487).

ص: 382

‌المبحث الرابع: "قدر الله - الذي هو فعله - لا شر فيه بوجه من الوجوه"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 383

المبحث الرابع: "قدر الله - الذي هو فعله - لا شر فيه بوجه من الوجوه"

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وحسنات، وفعله كله خير. . . فإنه لا يخلق شرا محضًا، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق؛ فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه"

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن أفعاله خيرٌ كلَّها وعدل ومصلحة وحكمة، لا شر فيها بوجه من الوجوه"

(2)

.

وقال رحمه الله: "وإنما يقع الشر في مفعولاته ومخلوقاته، لا في فعله سبحانه"

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 266).

(2)

شفاء العليل (2/ 736).

(3)

جلاء الأفهام (349).

ص: 385

وقال رحمه الله: "الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه. . . بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته"

(1)

.

وقال ابن الوزير: "وهي [أي الحكمة] شاهدة لقول أهل المعقولات، أنه لا يكون في مخلوقات الله تعالى ما هو شر محض من جميع الوجوه، لأن ما كان كذلك لم يمكن تجويز أنه خير ولا أن فيه خيرًا"

(2)

.

(1)

حادي الأرواح (2/ 770)، وانظر: شفاء العليل (2/ 737).

(2)

إيثار الحق (210).

ص: 386

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة.

أما الكتاب؛ قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

فالحسنة - كما سيأتي -: الخير وأسبابه، والسيئة الشر وأسبابه، فأضاف الخير إليه سبحانه وتعالى، وأضاف الشر إلى نفس الإنسان.

وكذلك ما جاء من نفي بعض أفراد الشر، كالظلم وإرادة العسر بالعباد ونحو ذلك، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وقوله تعالى:{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وأما السنة؛ ففيها التصريح بنفي الشر عنه جملةً، كما في حديث علي رضي الله عنه في دعاء الاستفتاح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:(لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك)

(1)

.

ومثله حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: "يُجمع الناس في صعيد واحد، ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، فينادي منادٍ: يا محمد - على رؤوس الأولين والآخرين - فيقول صلى الله عليه وسلم: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، تباركت ربنا وتعاليت)، قال حذيفة: فذلك المقام المحمود"

(2)

.

(1)

رواه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/ 534) ح (771).

(2)

رواه النسائي في الكبرى (10/ 153) ح (11230)، وابن أبي شيبة (12/ 273) =

ص: 387

وكل نص في الكتاب والسنة فيه تسبيح الله؛ فهو دليل على نفي الشر عنه سبحانه وتعالى، لأن (سبحان الله): كلمة يُنَزَّه الله بها عن السوء، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، وميمون بن مهران رحمه الله

(1)

.

= ح (35807)، والحاكم (2/ 363)، من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن صلة بن زفر، عن حذيفة رضي الله عنه به، وفيه علتان: عنعنة أبي إسحاق واختلاطه، وكلتاهما مدفوعتان برواية النسائي، فقد صرح أبو إسحاق فيها بالسماع فأمن تدليسه، وهي عنده من رواية شعبة عنه، فأُمن اختلاطه لأن شعبة سمع منه قبل الاختلاط، فالحديث صحيح، وصححه الحاكم، والحافظ في الفتح (8/ 399)، والألباني في ظلال الجنة ح (789).

(1)

رواهما ابن أبي حاتم (1/ 81).

ص: 388

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

هذه القاعدة من القواعد العظيمة في باب القدر، ولها ارتباط بكل مسائل الاعتقاد.

وقبل الشروع في بيانها يحسن البدء بمقدمة مشتملة على خمس مسائل:

الأولى: اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفات الكمال، وتنزهه عن كل نقص.

الثانية: الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره.

الثالثة: عموم خلق الله سبحانه وتعالى لكل شيء.

الرابعة: أن هناك فرقًا بين الفعل والمفعول.

الخامسة: أن هناك فرقًا بين فعل وأفعل.

أما المسألة الأولى: فسبق طرقها مرارًا، فأغنى عن إطالة الكلام فيها، وحاصلها أن الأدلة - من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة والحس وسائر أنواع الدلالات الصحيحة - دلت على اتصاف الله عز وجل بالكمال وتنزهه عن النقص.

ويتفرع عن هذه القاعدة الكلية قواعد وفروع كثيرة جدًا، بل لو قيل إن هذه القاعدة قد انتظمت مسائل الاعتقاد كلها لما بعُد، لأن الاعتقاد كله مرجعه إلى الإيمان بالله، والإيمان بالله قول وعمل، وإن شئت قل: علم وعمل، فالعلم بالله لا يكون إلا بالعلم بأسمائه وصفاته، والعمل لا يكون إلا بمعرفة المعبود ومعرفة مراده، فعاد أمر الاعتقاد، بل أمر الدين كله إلى معرفة أسماء الله وصفاته.

وأما علاقتها بهذا المبحث أن وصف الشر وصف نقص مطلقًا، فوجب تنزيه الله سبحانه وتعالى عنه، وصفًا وتسميةً وفعلًا، مع إثبات كمال ضده

ص: 389

له سبحانه وتعالى، وهو مسمى الخير من إحسان ورحمة وحكمة وكرم ونحوها.

بل إذا تأمل المتأمل يرى أن جميع صفات النقص مرجعها إلى الشر، وجميع صفات الكمال مرجعها إلى ضده، لذا فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في قوله:(والخير بيديك، والشر ليس إليك)

(1)

.

وأما المسألة الثانية: فهي من القواعد المهمة جدًّا في باب الصفات، ولها تعلق بمسائل كثيرة في شتى أبواب الاعتقاد، لأن باب الأسماء والصفات ينتظم جميع أبواب الدين.

والمراد بهذه القاعدة أن الله عز وجل إنما يوصف بما قام به لا بما خلقه في غيره، فإذا خلق سبحانه في غيره حركة أو لونًا أو كلامًا؛ لم يكن هو المتصف بأحكام هذه الصفات، فلا يوصف بأنه هو المتحرك بها، أو المتلون أو المتكلم به.

فالمحل الذي قامت به الصفة هو الذي يأخذ حكمها، ويشتق له منها اسم، لا غيره.

وقد جعل شيخ الإسلام رحمه الله هذه القاعدة في أربع مسائل فقال: "وهنا أربع مسائل: مسألتان عقليتان، ومسألتان سمعيتان لغويتان:

الأولى: أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك المحل. . .

الثانية: أن حكمها لا يعود على غير ذلك المحل، فلا يكون عالما بعلم يقوم بغيره. . .

وهاتان عقليتان.

الثالثة: أنه يشتق لذلك المحل من تلك الصفة اسم - إذا كانت تلك

(1)

تقدم تخريجه ص (287).

ص: 390

الصفة مما يشتق لمحلها منها اسم -. . .

الرابعة: أنه لا يشتق الاسم لمحل لم يقم به تلك الصفة. . ."

(1)

.

وعلاقة هذه القاعدة بهذا المبحث أن الله سبحانه وتعالى إذا خلق الشر في محل ما؛ قام وصف الشر بذلك المحل لا به عز وجل، فلا يوصف سبحانه وتعالى بسبب ذلك - بالشر، لا في صفاته ولا في أفعاله، كما أن اسم الشر يتسمى به ذلك المحل دون الله عز وجل.

وأما المسألة الثالثة: فالأصل فيها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقد تقدم الكلام على مرتبة الخلق - على وجه الإجمال - مع الأدلة عليها

(2)

.

والمقصود من إيرادها هنا بيان أن الشر داخل في عموم الأشياء التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وأن انتفاء إضافته إليه عز وجل وصفًا وتسمية وفعلًا لا ينافي إضافته إليه خلقًا وتكوينًا، مع التنبه على أن المراد بالشر هنا: الجزئي الإضافي لا الكلي المحض - كما سيأتي بيانه -.

ومع التنبه كذلك على أنه لا يضاف إليه سبحانه وتعالى خلقًا من باب الأدب معه؛ فلا يقال: خالق القردة والخنازير والكلاب، ولا خالق المعاصي والآثام ونحو ذلك، وإن كان الجميع مخلوقًا له سبحانه وتعالى

(3)

.

(1)

شرح الأصبهانية (484)، وانظر (20) منه، ومجموع الفتاوى (6/ 315) و (12/ 273)، ودرء التعارض (10/ 58)، وبدائع الفوائد (1/ 292).

(2)

انظر ما تقدم ص (106 - 107 و 122 - 123).

(3)

انظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 347 - 348)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/ 298 - 299).

ص: 391

ومن هذا الباب أيضًا عدم إضافة الأشياء الحقيرة إليه - وإن كانت ليست شرا في نفسها - كالهوام والدواب.

وبالجملة؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما يثنى عليه ويتمدح بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها، وعظائمها دون محقراتها

(1)

.

وأما المسألة الرابعة: فالمقصود منها أن أئمة السنة وجمهور الأمة يثبتون الفرق بين فعل الفاعل ومفعوله المنفصل، فالفعل هو إحداث الشيء والمفعول هو الحدث، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول

(2)

، ففعله يقوم به ويتصف بما تضمنه من معنى، وأما مفعوله المنفصل فلا يتصف به، وهذا مطَّرد في حق الخالق وفي حق المخلوق، فالصلاة من العبد - على سبيل المثال - تطلق على شيئين: على فعله القائم به، الذي يسمى بسببه بالمصلي، وهو قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه ونحو ذلك، وتطلق على المفعول المنفصل، وهي الصلاة التي وجدت بفعله، وهذه المسألة مرتبطة بمسألة أفعال العباد، وستأتي هناك إن شاء الله.

وكذا الأمر في حق الله سبحانه وتعالى وهي المسألة المرادة هنا -؛ فرق ما بين فعله عز وجل ومفعوله المنفصل، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله عز وجل، وليست هي فعل الله سبحانه وتعالى، كما أن ذوات العباد مخلوقة مفعولة له عز وجل وليست هي نفس فعله.

(1)

انظر: القضاء والقدر للبيهقي (2/ 661 - 662).

(2)

انظر: خلق أفعال العباد (2/ 297 - 300)، وانظر كذلك: مجموع الفتاوى (8/ 468 - 469)، و (2/ 119 - 120)، ومنهاج السنة (2/ 298)، وشفاء العليل (1/ 390).

ص: 392

ومن ذلك الشرور والآلام والمعاصي ونحوها؛ فالذي لله عز وجل من ذلك العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأما المعلوم المكتوب المشيء المخلوق من هذه الشرور؛ فليس إلى الله سبحانه وتعالى فلا يوصف به.

وأما المسألة الخامسة: فالمقصود منها أن أهل السنة يثبتون الفرق كذلك بين فعل وأفعل، فالفعل هو الذي يقوم بالفاعل، ويشتق له منه اسم وصفة، وأما الإفعال فلا يقوم به، وإنما يقوم بمن جعله فاعلًا له.

وذلك أن الله عز وجل فاعل غير منفعل، والعبد فاعل منفعل، إما انفعالًا محضًا فيما ليس له فيه اختيار كارتعاشه ومرضه وموته، وإما انفعالًا غير محض وذلك فيما له فيه اختيار، إذ أن فاعليته - هذه - لا تخرجه عن كونه منفعلًا، لأنه فيها منفعل للرب الذي لا ينفعل.

فالله سبحانه وتعالى أفْعَلَ، والعبد فَعَل، فهو الذي أضل العبد والعبد ضل، وهو الذي جعله كافرًا والعبد كفر، وهو الذي جعله مصليًا والعبد صلى، وهكذا في كل أفعال العباد من خير وشر

(1)

.

فلا يلزم من جعل الله عز وجل للعبد فاعلًا للشرور أن يقوم به وصف الشر، بل إنما يقوم بمن فعله وهو العبد

(2)

.

وهذه القاعدة تتضمن مسألتين:

الأولى: معنى الشر، وأنواعه.

مادة (شَرّ) في اللغة أصل صحيح يدل على الانتشار والتطاير، ومن ذلك

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 399).

(2)

انظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 437 - 438).

ص: 393

الشر خلاف الخير، وهو السوء، سمي بذلك لانتشاره وكثرته، ومنه الشرر: وهو ما تطاير من النار، واحدته: شررَة، كما في قوله تعالى:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32].

وشرشر الشيء إذا شققه وقطعه، وشر يشر: زاد شره، وشر إنسانًا: إذا عابه، وشرره في الناس: شهره فيهم

(1)

.

والشر في لسان الشارع هو خلاف الخير، وهو نوعان

(2)

:

الأول: الشر المحض، ويقال: الكلي والمطلق، وهو ما خلا عن كل مصلحة وحكمة ورحمة، بل ليس فيه إلا السوء والضرر والمشقة، وهذا لم يخلقه الله سبحانه وتعالى وليس له وجود.

الثاني: الشر الجزئي، ويقال: النسبي والإضافي، وهو ما اشتمل - مع ما فيه من سوء - على مصالح وحكم، فهو شر من وجه دون وجه.

المسألة الثانية: الشر بنوعيه منتف عن الله سبحانه وتعالى، فعلًا ووصفًا وتسميةً.

المقصود بنفي الشر عن الله عز وجل نفي الوصف والإضافة، لا نفي الخلق، فإن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى مخلوق، وهو سبحانه وتعالى الذي خلقه وأوجده من العدم، ومن ذلك الشر.

كما أن المقصود بالشر المنفي هو الشر الجزئي لا الكلي، إذ أن الشر الكلي لا وجود له أصلًا، ولا هو داخل فيما خلقه الله سبحانه وتعالى، ويدل على

(1)

انظر: تهذيب اللغة (11/ 272)، ومقاييس اللغة (3/ 180) مادة:(شر).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 515)، ومجموع الفتاوى (14/ 266).

ص: 394

ذلك أمور:

الأول: أنه لا حكمة فيه ولا مصلحة ولا رحمة لأحد، وما كان كذلك يستحيل أن يفعله الله سبحانه وتعالى لكمال عدله ورحمته وحكمته، واتصافه بصفات الكمال.

الثاني: أنه مناف لحمد الله سبحانه وتعالى وكونه أحق ما قال العبد، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وإذا قيل: يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له وحمدهم، بل العكس"

(1)

.

الثالث: أن الشر المحض عدم محض، والعدم لا يضاف إلى الله تعالى، لأنه ليس شيئًا ولا حقيقة له

(2)

، يوضحه:

الرابع: أن الواقع يشهد بانتفائه، فليس في الوجود ما هو شر لكل المخلوقات، بحيث يكون شرا مطلقًا عامًّا، بل يكون شرا في حق من تألم به فحسب، وقد يكون نفس تألم هذا خيرًا لغيره

(3)

.

فإذا تبين أن الشر المحض لا وجود له ولا حقيقة؛ علم امتناع إضافته إلى الله سبحانه وتعالى.

وأما الشر الجزئي الإضافي فواقع، وهو داخل في عموم ما خلقه الله عز وجل، والمقصود هنا الكلام عن انتفائه عن فعل الله سبحانه وتعالى، ووقوعه في مفعولاته

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 207 و 213).

(2)

انظر: المصدر السابق (8/ 213)، (14/ 20).

(3)

انظر: المصدر السابق (14/ 20 - 21).

(4)

وأما الكلام على الحكمة من خلقه فسيأتي في المبحث القادم إن شاء الله.

ص: 395

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين نفي نسبة الشر إلى الله سبحانه وتعالى، وبين إثبات ضده، وذلك في قوله:(الخير بيديك، والشر ليس إليك)

(1)

.

ومعنى: (الشر ليس إليك): أي لا يضاف إليك بوجه لا في ذاتك، ولا في أسمائك، ولا في صفاتك، ولا في أفعالك.

أما انتفاؤه في ذاته: فلأن ذاته أكمل الذوات، ولها الكمال المطلق من جميع الوجوه.

وأما انتفاؤه في أسمائه: فلأن أسماءه كلها حسنى، ليس فيها اسم سوى ذلك.

وأما انتفاؤه في صفاته: فلأن صفاته كلها صفات كمال ويحمد عليها ويثنى عليه بها.

وأما انتفاؤه في أفعاله: فلأن أفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمة، لا شر فيها بوجه ما

(2)

، بل الشر إنما صار شرا لانقطاع نسبته وإضافته إلى الله عز وجل، فلو أضيف إليه لم يكن شرا

(3)

.

وقد فسر النضر بن شميل هذا الحديث فقال: "والشر ليس إليك، تفسيره: والشر لا يُتقرب به إليك"

(4)

، وهو تفسير ابن خزيمة

(5)

، وابن حبان

(6)

(1)

تقدم تخريجه ص (387).

(2)

انظر: حادي الأرواح (2/ 770)، وبدائع الفوائد (2/ 718 - 719).

(3)

انظر: شفاء العليل (2/ 511).

(4)

رواه الطحاوي في المشكل (4/ 222)، والبيهقي: كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة بعد التكبير (2/ 33).

(5)

انظر: صحيح ابن خزيمة (1/ 236).

(6)

انظر: صحيح ابن حبان (5/ 73).

ص: 396

رحم الله الجميع، وهو يرجع إلى تفسير الشر بالأعمال المنهي عنها لا بالمخلوق.

وهذا المعنى خطَّأه ابن القيم رحمه الله

(1)

، ووجه الخطأ - فيما ظهر لي - هو قصر تفسيره على هذا، وإلا فتفسير النضر داخل في عموم المعنى، فالله سبحانه وتعالى لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله لا يقبل إلا خيرًا، ولا يقبل ضده، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)

(2)

.

ومما يبين أن الشر لا يضاف إلى الله عز وجل: اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفات الكمال، كما تقدم التنبيه عليه.

ومما يبين ذلك أيضًا: تسمي الله سبحانه وتعالى بما يدل على تنزهه عن الشر، وقد مضى في المبحث الماضي شيء من ذلك، فأغنى عن إعادته هنا

(3)

.

ومما يبينه أيضًا: أن هذا الشر الواقع في المفعولات راجع - في حقيقة الأمر - إلى العدم؛ عدم الخير وأسبابه، وهذه هي جهة الشر فيه، وأما وجوده المحض فلا شر فيه.

فالنفوس الشريرة وجودها - من حيث هو - خير، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت متحركة، فإذا أمدت بالخير وأسبابه تحركت إليه، وإذا قطع عنها هذا الإمداد تحركت بطبعها إلى الشر، فحركتها كوجودها - من حيث هو - خير لا شر.

(1)

انظر: بدائع الفوائد (2/ 724)، وحادي الأرواح (2/ 770).

(2)

رواه مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيته (2/ 703) ح (1015).

(3)

انظر ما تقدم ص (368 - 370).

ص: 397

وذلك أن الخير وأسبابه ثلاثة: إيجاد، وإعداد وإمداد، وكلها إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يوجد الشيء فهو باق على العدم وهو ليس بشيء حتى يكون خيرًا أو شرًا، فإذا وُجد وأُعِد وأُمِد كان خيرًا لا شر فيه، وإذا قطع عنه الإعداد والإمداد بعد وجوده حصل فيه الشر الذي سببه هذا العدم الذي ليس إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما إليه ضده

(1)

.

فإذا تبين أن الشر راجع إلى العدم، ظهر انتفاء إضافته إلى الله عز وجل.

ثم هذا الشر الحاصل لعدم الخير وأسبابه ليس شرا محضًا، بل هو نسبي إضافي، فهو شر للمحل الذي حصل فيه دون غيره، وإن كان خيرًا له من وجه آخر كذلك، وهذا الخير هو محل حكمة الله سبحانه وتعالى فيه.

فالشر له وجهان: وجهٌ نسبته إلى الله سبحانه وتعالى خلقًا ومشيئة، فهو من هذا الوجه خير لما تضمنه من الحكم البالغة التي اقتضت وجوده.

ووجهٌ نسبته إلى من هو شر في حقه، وإن كان خيرًا له من وجه آخر

(2)

.

مثال ذلك: الشر الذي حصل للقاتل بالقصاص هو شر له من حيث إزهاق روحه، وإعدام حياته، وهو خير له من وجه آخر، إذ فيه تكفير ذنبه، وهو خير كذلك لعموم الناس إذ فيه إظهار لدين الله عز وجل وإقامة لشرائعه، وانتشار للأمن وحفظ للدماء.

ومما يبين أن الشر لا يضاف إلى الله عز وجل أيضًا: أنه لم يُضَف في كلام الله

(1)

انظر: مدارج السالكين (2/ 200).

(2)

انظر: بدائع الفوائد (2/ 719).

ص: 398

ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الله، وإنما ورد على أحد وجوه ثلاثة

(1)

:

الأول: أن يدخل في عموم المخلوقات، ومثال ذلك قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وهذا يتضمن إثبات قدرة الله سبحانه وتعالى عليه ومشيئته وخلقه له.

الثاني: أن يضاف إلى السبب الفاعل، ومثاله قوله تعالى:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]، وقوله تعالى:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وقوله تعالى:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23].

الثالث: أن يُحذف فاعله، ومثاله قوله تعالى:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، فجمع سبحانه وتعالى بين عدم إضافة الشر إليه وبين إضافة الخير إليه سبحانه وتعالى.

وهذا كقول الخضر: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، مع قوله:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فأضاف إعابتها - وهو شر إضافي - إلى نفسه، وأضاف الخير من بلوغ الأشد واستخراج الكنز إلى الله عز وجل.

وأوضح منه قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فأضاف الحسنة إلى الله سبحانه وتعالى إذ هو المنعم بها من كل وجه، وأضاف السيئة إلى العبد إذ هو المتسبب فيها والفاعل لها، وبه قامت.

وقد فُسرت الحسنة والسيئة في هذه الآية بتفسيرات كلها ترجع إلى معنى واحد

(2)

، فقيل: الحسنة: السراء، والسيئة: الضراء، قاله أبو العالية.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 94)، وشفاء العليل (2/ 737 - 738).

(2)

رواها ابن أبي حاتم (3/ 1008 - 1009).

ص: 399

وقيل الحسنة: ما أصاب من الغنيمة والفتح، والسيئة: ما أصابه يوم أحد، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك.

وقيل: الحسنة: النعم، والسيئة: المصائب، قاله قتادة.

وقيل: الحسنة: تنتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم وتحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان، والسيئة: الجدب والضرر في أموالهم، قاله السدي.

والمعنى الذي ترجع إليه هذه الأقوال أن الحسنة: الخير وأسبابه، والسيئة: الشر وأسبابه.

فالخير وأسبابه من الله سبحانه وتعالى وإليه، فعلًا ووصفًا، والشر وأسبابه من نفس الإنسان وبذنوبه، وهو من الله خلقًا وتقديرًا، وليس إليه وصفًا وفعلًا.

فالحاصل أن الشر لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنما هو واقع في مفعولاته المنفصلة، وهو مع ذلك شر جزئي إضافي، وأما الشر الكلي فلا وجود له أصلًا، والله أعلم.

ص: 400

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

لم يخالف في تنزه قضاء الرب سبحانه عن الشر أحد من المنتسبين إلى الإسلام، إلا ما نسب إلى الجهم بن صفوان، من أن الله سبحانه يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه ولا مصلحة لأحد، وقد عزى هذا القول إليه الإمامان: شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله -

(1)

.

وهذا قول باطل مجانب لأصول الإسلام القاضية بتنزه الرب سبحانه عن النقص واتصافه بالكمال.

وأما سائر الفرق المنتسبة إلى الإسلام فعلى القول بتنزيه الرب سبحانه عن أن يكون في قضائه شر، والخلاف مع طائفتين:

الأولى: المعتزلة، فقد ذهبوا إلى أن الشرور الواقعة في العالم قسمان:

- الشرور المتعلقة بأفعال العباد وما تولد منها، فهذه عندهم غير مخلوقة لله سبحانه، فليست مما يدخل في القضاء الإلهي أصلًا.

- الشرور التي لا تعلق لها بأفعال العباد كالأمراض والآلام والسموم وإبليس ونحوها؛ فهذه كلها عندهم حسنة لما فيها من اللطف المصلحة العاجلة والآجلة، وإنما يقال فيها أنها سيئات وشرور مجازًا لا حقيقة

(2)

.

ولذا فقد عرفوا الخير بأنه النفع الحسن وما يؤدي إليه، والشر هو الضرر القبيح وما يؤدي إليه.

والضرر القبيح هو الضرر المحض الذي لا خير فيه ولا عاقبة حسنة،

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 299)، وطريق الهجرتين (1/ 314).

(2)

انظر: طريق الهجرتين (1/ 314)، ومقالات الإسلاميين (1/ 312).

ص: 401

وأما الضرر الحسن فليس بشر، وإنما هو خير لما تضمنه من نفع عظيم وعواقب حميدة.

قال القاضي عبد الجبار مبينًا مذهب المعتزلة في هذا: "فإن قيل: أليس المعلوم على لسان الأمة أن الخير والشر من الله وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره؟ ولا شر أعظم من الكفر والمعاصي؛ فقولوا: إنهما من الله، وإلا خرجتم عن الإجماع.

قيل: إن الخير هو النفع الحسن وما يؤدي إليه، والشر هو الضرر القبيح وما يؤدي إليه في الأصل، ويجري على غيره مجازًا، ولذلك لا يقال في الضرر الحسن إنه شر، ولذلك لا نصف ما يفعله الله تعالى من العقاب في الآخرة ولا ما أمر به في الدنيا من الذم وإقامة الحدود وغيرها بأنه شر، وعلى هذا الوجه لا يوصف الله تعالى بأنه شرير، وإن أكثر من المضار الحسنة"

(1)

.

وقال أيضًا: "فأما قول القائل في الشر إنه بقضاء الله، فمتى أراد به الأمراض والفقر فهو مصيب بالإضافة، مخطئ في وصفه بأنه شر بالإطلاق، وإن أراد المعاصي من أفعال العباد فهو مصيب بأنه شر، مخطئ بالإضافة بالإطلاق"

(2)

.

وفرَّعوا على تقريرهم هذا مذهبهم في العوض عن الآلام - على ما سيأتي بيانه -.

(1)

فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (178 - 179)، وانظر: المختصر في أصول الدين (ضمن رسائل العدل والتوحيد)(241).

(2)

فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (179).

ص: 402

واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79]، فقالوا: المراد بالحسنة والسيئة الأولى: الخصب والرخاء والشدة والأمراض، وبالحسنة والسيئة الثانية: الطاعات والمعاصي

(1)

.

فأحسن المعتزلة إذ قالوا بأن قضاء الرب سبحانه منزه عن الشر، لكنهم أساؤوا بأن أخرجوا الشرور المتعلقة بأفعال العباد عن قضائه وخلقه.

وما ذهب إليه المعتزلة باطل من وجوه:

الأول: أن هذا التفريق بالحكم بين الشرور الناتجة عن أفعال العباد، والشرور الأخرى غير صحيح، وليس عليه دليل، بل لا فرق في ذلك بين ما كان من أفعال العباد وغيرهم، يبينه:

الثاني: أن الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة دلت على أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه - كما سيأتي في موضعه -، فهي مشاركة لسائر الموجودات بأنها مخلوقة لله سبحانه، فكل ما سوى الله مخلوق.

الثالث: أن قولهم: إن الشرور والسيئات إنما يقال أنها شرور مجازًا لا حقيقة، إن أردوا به نفي كونها شرورًا في نفسها، وأنها لم تشتمل على صفات بها تكون شرا فهذا باطل، وإن أرادوا بها أنها ليست شرا محضًا بل هي - لما اشتملت عليه من مصالح ومنافع - خير؛ فهذا حق، وأصول المعتزلة في

(1)

انظر: تنزيه القرآن عن المطاعن (102)، والمختصر في أصول الدين (ضمن رسائل العدل والتوحيد)(242).

ص: 403

إثبات الحسن القبح العقليين تقضي أنهم أرادوا الثاني، ويدل عليه ما تقدم من قول عبد الجبار.

على أن للمعتزلة في نفي الشر عن قضاء الله سبحانه تفصيلات مخالفة للصواب، منها وجوب العوض عنها، وستأتي هذه المسألة في مبحث التحسين والتقبيح بعون الله سبحانه.

وأما ما استدلوا به من قول الله سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79]، فلا دليل لهم فيه من وجوه

(1)

:

أولًا: أن الله سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات، وعندهم لا فرق بينهما، بل فعل العبد عندهم - حسنة كان أو سيئة - هو منه لا من الله.

ثانيًا: أنه سبحانه جعل الحسنات والسيئات كليهما من الله، فقالَ:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، وإنما في الجزاء.

ثالثًا: أن تفريقهم بين الحسنة والسيئة في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ، والحسنة والسيئة في قوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} غير صحيح، ولا دليل عليه، بل تحكم محض، فهذه مثل هذه.

رابعًا: أن المراد بالحسنة والسيئة النعم والمصائب كما تقدم

(2)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 246 - 247).

(2)

انظر ص (399 - 400).

ص: 404

الثانية: الأشاعرة، فقد شارك الأشاعرة أهل الإسلام في نفي الشر عن قضاء الله سبحانه، لكنهم جعلوا كل ما في الوجود خير وأن الله لم يقدر شرا مطلقًا، والشر الموجود ليس ذاتيًّا.

قال الآمدي: "والوجود من حيث هو وجود خير محض لا شر فيه، وهو ما يقع مرادًا للباري تعالى، وأما الشر من حيث هو شر؛ فليس هو مستندًا إلا إلى اختلاف الأغراض، أو إلى قول الشارع افعل أو لا تفعل كما سنبينه، وذلك مما لا يوجب كونه شرا في نفسه"

(1)

.

وقال الجويني: "الآلام واللذات لا تقع مقدورة لغير الله تعالى، فإذا وقعت من فعل الله تعالى فهي منه حسن، سواء وقعت ابتداءً أو حدثت منه مسماة جزاء. . . بل ما وقع منهما فهو من الله تعالى حسن، لا يعترض عليه في حكمه"

(2)

.

والخير عندهم في الوجود وكماله، والشر في العدم؛ عدم الوجود أو عدم كمال الوجود، فالوجود وكمال الوجود داخلان في القضاء لذاتهما، وأما الشر الذي هو نقص الوجود فهو داخل في القضاء لا بالذات بل بالعرض، وأما العدم المحض فهو شر محض.

يقول الشهرستاني: "الوجود خير كله من حيث هو وجود فكان [أي الله سبحانه] مريد الخير، وأما الشر فمن حيث هو موجود فقد شارك الخير، فهو من ذلك الوجه خير ومراد وعلى هذا لا يتحقق في الوجود شر محض، فهو تعالى مريد الوجود ومريد الخير، والعبد يريد الخير والشر.

(1)

غاية المرام (141).

(2)

الإرشاد (273).

ص: 405

وعن هذا قال الحكماء: الشر داخل في القضا والإرادة بالعرض لا بالذات، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فإن الشر عندهم إما عدم وجود أو عدم كمال الوجود، وإنما الداخل في القضا والإرادة بالقصد الأول هو الوجود وكمال الوجود"

(1)

.

وهذا جار على قاعدتهم في الحسن والقبح، وأن الحسن ما حسنه الشارع، والقبيح ما قبحه، وأنه ليس للأشياء صفات في نفسها بها تحسن وتقبح.

ومذهبهم باطل من وجهين:

الأول: أن إنكارهم وجود الشرور أمر يكذبه واقع الأمر، فالأمراض والأسقام والقتل ونحوها هي شرور بالنظر إلى ذاتها باتفاق العقلاء، وإن كان شرها جزئيًّا وليس محضًا، فهي خير لما تضمنته من حكم ومصالح.

الثاني: أن القول بأن الوجود خير والعدم شر، لا يصح إطلاقه؛ لأن العدم لا شيء حتى يقال إنه خير أو شر، كما أن من الأشياء ما وجوده شر من عدمه وعدمه خير من وجوده

(2)

، وهذا بالنظر إلى ذوات الأشياء، فكفر المؤمن وجوده شر من عدمه، وبعكسه إيمان الكافر وجوده خير من عدمه، وأما بالنظر إلى ما يترتب على الحكمة في أفعال الله سبحانه: فكل ما يفعله فهو خير، وكل ما لم يفعله فليس بخير؛ إذ لو كان خيرًا لفعله، وهذا التفضيل باعتبار الخير الراجح والشر الراجح، إذ قد يترتب على وجود بعض أفراد الخير شر راجح، وقد يترتب على عدم بعض أفراد الشر ضرر راجح، وإلا

(1)

نهاية الإقدام (252 - 253).

(2)

انظر: جامع الرسائل (1/ 131)، وشفاء العليل (2/ 514).

ص: 406

فإن الأشياء في نفسها منقسمة إلى خير وشر.

ولما كان الأشاعرة ينفون الحكمة عن أفعال الرب سبحانه؛ فقد انسد عليهم هذا الباب، فصار قولهم إن الموجود خير والعدم شر، كما تقدم في كلامهم.

ص: 407

‌المبحث الخامس: "أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة لأجلها فعل"

وتحته مطلبان:

المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة، وتحته ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

ص: 409

المبحث الخامس: "أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة لأجلها فعل"

‌المطلب الأول: تفصيل القول في هذه القاعدة:

وتحته ثلاث مسائل:

‌المسألة الأولى: تقرير كونها قاعدةً من كلام أهل العلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والله عليم حكيم؛ ما خلقه وأمر به له فيه حكمة بالغة صادرة من علمه وحكمته وقدرته"

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "قد دلت أدلة العقول الصحيحة، والفطر السليمة، على ما دل عليه القرآن والسنة، أنه سبحانه حكيم؛ لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل"

(2)

.

وقال رحمه الله: "وقالوا [أي أهل السنة] إن له في كل ما خلقه وشرعه حكمة بالغة، ونعمة سابغة لأجلها خلق وأمر، ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها"

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 465).

(2)

شفاء العليل (2/ 537).

(3)

طريق الهجرتين (1/ 322)، وانظر:(1/ 243) منه، وحادي الأرواح (2/ 761)، والفوائد (196)، ومفتاح دار السعادة (2/ 253)، ومدارج السالكين (1/ 125).

ص: 411

وقال ابن كثير رحمه الله: " {حَكِيمًا} أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والسلطان العظيم، والأمر القديم"

(1)

.

وقال ابن الوزير رحمه الله: "وأن له الحكمة البالغة فيما فعل وترك، وقدر وقضى"

(2)

.

وقال الألوسي رحمه الله: " {حَكِيمٌ}: لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة"

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 336).

(2)

إيثار الحق (249).

(3)

روح المعاني (10/ 63).

ص: 412

‌المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة.

دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.

أما أدلة الكتاب والسنة فهي أكثر من أن تحصر، قال الإمام ابن القيم رحمه الله "أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها"

(1)

.

ومن أنواع هذه الأدلة:

الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه، كقوله تعالى:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5]، وقوله:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقوله:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا، كقوله:{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وقوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].

(1)

وقال رحمه الله في مفتاح دار السعادة (2/ 363): "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مئة موضع أو مئتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة".

ص: 413

الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كقوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23].

الرابع: ذكر المفعول له؛ وهو علة للفعل المعلل به، كقوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقوله:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154].

الخامس: الإتيان بأن والفعل المستقبل بعدها تعليلًا لما قبله، كقوله:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وقوله:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا} [الزمر: 56]، وقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].

السادس: ذكر (من أجل) وهو من صرائح التعليل، كقوله:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

السابع: التعليل بلعل، وهي في كلام الله سبحانه وتعالى للتعليل مجردة عن معنى الترجي، فإنها إنما يقارنها معنى الترجي إذا كانت من المخلوق، كقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

ص: 414

قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]. فـ (لعل) في هذا كله قد أخلصت للتعليل، والرجاء الذي فيها متعلق بالمخاطبين.

الثامن: ذكر الحكم الكوني والشرعي عقيب الوصف المناسب له، تارة يذكر بأن وتارة يقرن بالفاء وتارة يذكر مجردًا.

فالأول كقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90].

والثاني كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38].

والثالث كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15]

(1)

.

التاسع: تعليله سبحانه عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه، كقوله:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].

العاشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره،

(1)

قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا في التنزيل يزيد على عدة آلاف موضع، بل القرآن مملوء منه" شفاء العليل (2/ 550).

ص: 415

كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، وقوله:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14 - 16]، وقوله:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 25 - 27].

الحادي عشر: إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة، كقوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38، 39].

الثاني عشر: إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين أو يفرق بين المتماثلين، وأن حكمته وعدله يأبى ذلك.

أما الأول فكقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وأما الثاني فكقوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

الثالث عشر: أمره سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه وفي أوامره ونواهيه وزواجره، ولولا ما تضمنه من الحكم والمصالح والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر لما كان للتفكير فيه معنى، كقوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

الرابع عشر: إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته وعلمه،

ص: 416

فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه، تنبيهًا على أنهما إنما صدرا عن حكمة مقصودة مقارنة للعلم المحيط التام، كقوله:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

الخامس عشر: إخباره بأن حكمه أحسن الأحكام وتقديره أحسن التقادير، ولولا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، وقال:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125]، وقال:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].

السادس عشر: إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم كما في قوله حاكيًا عن نبيه هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، والثاني قوله:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، ووصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم هو كونه يقول الحق ويفعل الصواب، فلا يقول إلا ما يحمد عليه، لا يفعل إلا ما يحمد عليه لكونه حقًّا وعدلًا وصدقًا وحكمةً في نفسه.

السابع عشر: حمده سبحانه لنفسه على جميع ما يفعله، وأمره عباده بحمده، وهذا لما في أفعاله من الغايات والعواقب الحميدة التي يستحق فاعلها

ص: 417

الحمد، فهو يحمد على نفس الفعل، وعلى قصد الغاية الحميدة به، وعلى حصولها، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]، وقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].

الثامن عشر: إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه إليهم وأنه خلق لهم ما في السموات وما في الأرض، وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة ليتم نعمته عليهم، ومعلوم أن المنعم المحسن لا يكون كذلك ولا يستحق هذا الاسم حتى يقصد الإنعام على غيره والإحسان إليه، فلو لم يفعل سبحانه لغرض الإنعام والإحسان لم يكن منعمًا في الحقيقة ولا محسنًا؛ إذ يستحيل أن يكون كذلك من لم يقصد الإنعام والإحسان، وهذا غني عن التقرير.

يوضحه أنه سبحانه حيث ذكر إنعامه وإحسانه فإنما يذكره مقرونًا بالحكم والمصالح والمنافع التي خلق الخلق وشرع الشرائع لأجلها، كقوله في آخر سورة النحل:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، فهذا في الخلق، وقال في الشرع في أمره باستقبال الكعبة:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150]، وقال في أمره بالوضوء والتيمم:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، فجعل تمام نعمته في أن خلق ما خلق

ص: 418

للإحسان وأمر بما أمر لذلك.

التاسع عشر: اتصافه بالرحمة وأنه أرحم الراحمين وأن رحمته وسعت كل شيء، وذلك لا يتحقق إلا بأن يقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم وبما أمرهم به، فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كان رحمة، ولو حصلت بها الرحمة لكانت اتفاقية لا مقصودة وذلك لا يوجب أن يكون الآمر سبحانه أرحم الراحمين، فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل إنكار لرحمته في الحقيقة وتعطيل لها.

العشرون: جوابه سبحانه لمن سأل عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه، وإن كان السائل لا يعلمها، كما أجاب الملائكة لما قال لهم:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، فقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، فأجابهم بقوله:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ولو كان فعله مجردًا عن الحكم والغايات والمصالح لكان الملائكة أعلم من أن يسألوا هذا السؤال، ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم ما لا يعلمونه من الحكم والمصلحة التي في خلق هذه الخليفة.

الحادي والعشرون: إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره لما يستلزمه من المفسدة وأن المصلحة في تركه، ولو كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علة للحكم، كقوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 22، 23]، فعلل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون به - وهو سماع الفهم - بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم، وبأن فيهم مانعًا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر،

ص: 419

فالأول من باب تعليل عدم الحكم بعدم ما يقتضيه، والثاني من باب تعليله بوجود مانعه وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحكم والمصالح

(1)

.

وأما الإجماع؛ فممن نقله:

- شيخ الإسلام، قال رحمه الله:"وكذلك الحكمة وشرع الأحكام للحكم مما اتفق عليه الفقهاء مع السلف"

(2)

.

وقال رحمه الله: "ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئًا لحكمة ولا لسبب، وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور، ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها؛ فقوله فاسد مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف"

(3)

.

- ابن القيم، قال رحمه الله:"وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه، والغايات المحمودة في أفعاله، فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع، بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم"

(4)

.

- ابن الوزير، قال رحمه الله في سياق كلامه على الحكمة:"فلو ادعى مدع إجماع المتأخرين مع إجماع المتقدمين من المسلمين على ذلك [أي على إثبات الحكمة]؛ لما بعد عن الصواب، والله الهادي"

(5)

.

(1)

انظر: شفاء العليل (2/ 537 - 569)، وانظر كذلك: مفتاح دار السعادة (2/ 363 - 364).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 485).

(3)

منهاج السنة (3/ 98)، وانظر: جامع المسائل (2/ 278).

(4)

شفاء العليل (2/ 570 - 571).

(5)

إيثار الحق (190).

ص: 420

وأما دلالة الفطرة؛ فحكاها غير واحد من أهل العلم، منهم: ابن تيمية

(1)

، وابن القيم

(2)

، وابن الوزير

(3)

.

وتقريرها: أن كل أحد يجد في نفسه ضرورة أن هذا الكون فيه من الحكم والمصالح ما لا يمكن حصره، وذلك أنه يرى هذا الوجود حوله "شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف أو يحصره عقل، ويكفي الإنسان فكره وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه وصفاته وهيأته فإنه لو استنفد عمره لم يحط علمًا بجميع ما تضمنه خلقه من الحكم والمنافع على التفصيل"

(4)

.

ومن مشهور ذلك ما حصل لخديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده من الخوف في قصة ابتداء الوحي، ففيه قولها رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم:"كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"

(5)

.

فاستدلت على أن الله سبحانه وتعالى لا يخزيه بأن من جعله الله متصفًا بهذه

(1)

انظر: شرح الأصبهانية (700).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 537 و 571 و 592).

(3)

انظر: إيثار الحق (182).

(4)

شفاء العليل (2/ 571).

(5)

رواه البخاري: كتاب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 7) ح (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 139) ح (160).

ص: 421

الأخلاق، فحكمته سبحانه وتعالى تأبى أن يخزيه، وهذا الفهم منها لم يكن بوحي إذ لم يكن ثَمَّ وحي، بل إنما كان بفطرتها التي فطرها الله عليها

(1)

.

ومن هذا الباب أيضًا: أن الخلق مفطورون على التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، وهذه هي حقيقة الحكمة، إذ الحكمة - كما سيأتي - وضع الشيء في موضعه، وهذا مبني على مرتبتين: تمييز وتنزيل، والتمييز راجع في الحقيقة إلى التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، والتنزيل تابع للتمييز.

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما"

(2)

.

وأما دلالة العقل؛ فمن وجوه أشهرها

(3)

: دلالة التخصيص والترجيح، وتقريرها أن الممكن لا بد له من مرجح لوجوده على عدمه، وإلا لم يوجد.

فلا بد مع القدرة على إيجاده من إرادة ترجح وجوده على عدمه، وهذه الإرادة لا بد أن تكون لحكمة وإلا لم تكن إرادة، فلا يعقل إرادة بغير حكمة، فآل الأمر إلى أن الحكمة هي المرجح.

فيلزم على إنكار الحكمة لوازم باطلة، لأن نفيها نفي للإرادة، وبالتالي

(1)

انظر: منهاج السنة (5/ 438)، والصفدية (1/ 225).

(2)

إعلام الموقعين (2/ 248).

(3)

وثمة وجوه أخرى عقلية في الدلالة على الحكمة، أقل التصاقًا بمسألة الحكمة من هذا الدليل، كدلالة الإحكام والإتقان، ودلالة آيات الأنبياء، وغيرها. انظرها في: الحكمة والتعليل للشهري (2/ 452 - 519).

ص: 422

نفي للفعل، أو القول بالترجيح بدون مرجح، أو القول بالعبث عليه سبحانه وتعالى، وكل ذلك باطل.

قال المقبلي رحمه الله: "الحجة على وجوب تعليل أفعاله تعالى بالحكم هو لزوم العبثية لعدم القول به، وألا يقع الفعل. . . ولزوم أن نظام العالم ومحاسن الشريعة اتفاقية، فهذه ثلاث حجج عقلية، كل منها أكبر من أختها"

(1)

.

وسيأتي مزيد كلام على هذه المسألة قريبًا

(2)

.

(1)

العلم الشامخ (131 - 132).

(2)

انظر ما يأتي ص (456).

ص: 423

‌المسألة الثالثة: شرح القاعدة.

مسألة الحكمة والتعليل من أجل مسائل باب القدر، بل من أجل مسائل الدين كله، وما من شيء من أحكام الدين والدنيا إلا وله تعلق بهذه المسألة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذه المسألة كبيرة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس، وأعظمها شعوبًا وفروعًا، وأكثرها شبهًا ومحارات؛ فإن لها تعلقًا بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه، وكذلك الشرائع كلها: الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس"

(1)

.

وقال مرعي الكرمي رحمه الله: "وهذه المسألة؛ مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة، لعلها أجل المسائل الإلهية"

(2)

.

وقبل الشروع في بيان هذه المسألة لا بد من التعريف بالحكمة في اللغة، وكذا التعريف بالعلة، لأن الحكمة كثيرًا ما يعبر عنها بالعلة

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 81).

(2)

رفع الشبهة والغرر (54).

(3)

وللحكمة مرادفات اصطلاحية أخرى مثل: الغرض، والغاية، والباعث، والمعنى، والسبب، والقصد، والهدف، والمرمى، وهذا بحسب اصطلاح المتكلمين وغيرهم، وإلا فاللفظ الشرعي هو الحكمة، كما سيأتي التنبيه عليه، وقد اقتصرت على بيان معنى العلة فقط، لكونها أكثر ما استُخدم، ولأنها ألصق تلك الكلمات بمعنى الحكمة، وكثيرًا ما تذكر مقرونة بها فيقال: الحكمة والتعليل.

ص: 424

الحِكْمَة في اللغة: من حكم يحكم حكمًا، ومادة (حكم) أصل واحد يدل على المنع

(1)

، قال جرير

(2)

:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءَكم

إنِّي أخاف عليكمُ أن أغضبا

أي امنعوهم.

وقد ذكر أهل اللغة للحكمة معانٍ مرجعها إلى هذا الأصل؛ فقيل: الحكمة العدل، لأنها تمنع من الظلم.

وقيل: الحكمة العلم، لأنها تمنع من الجهل.

وقيل: الحكمة الحلم، لأنها تمنع من السفه والطيش.

وقيل: الحكمة الإتقان، لأنها تمنع من الفساد.

وفسرت الحكمة كذلك بما يمنع من السوء والشر، ففسرت بالنبوة وبالقرآن

(3)

، وذلك أن هذه الأمور تمنع من الشر الذي هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، لذلك قال الراغب أن (حَكَمَ):"أصله: منَع منعًا لإصلاح"

(4)

.

الحكمة في الشرع: اختلفت عبارات أهل العلم - سلفهم وخلفهم - في معنى الحكمة في الشرع، فمن ذلك:

قال مجاهد رحمه الله: "الإصابة في القول والفعل".

وقال مالك بن أنس رحمه الله: "الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع

(1)

انظر: مقاييس اللغة (2/ 91).

(2)

ديوان جرير (47).

(3)

انظر: القاموس المحيط (4/ 97).

(4)

المفردات (248).

ص: 425

له"، وقال: "الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له".

وقال ابن زيد رحمه الله: "الحكمة العقل في الدين".

وقال قتادة ومجاهد - رحمهما الله -: "الحكمة هي الفقه في القرآن"

(1)

.

وقال ابن قتيبة رحمه الله: "الحكمة هي العلم والعمل، لا يسمى الرجل حكيمًا حتى يجمعهما"

(2)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة"

(3)

.

وقال رحمه الله: "الحكمة هي معرفة الحق والعمل به"

(4)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما، وأوصلا إلى غايتيهما"

(5)

.

وقال ابن الوزير رحمه الله: "العلم بأفضل الأعمال، والعمل بمقتضى ذلك العلم"

(6)

.

وقيل غير ذلك، وعند تأمل هذه الأقوال يرى أنها على قسمين:

الأول: تفسير الحكمة بالأمر العلمي، كالعلم بالدين والعقل فيه.

(1)

انظر هذه الأقوال في تفسير القرطبي (4/ 356).

(2)

غريب القرآن (32).

(3)

مجموع الفتاوى (11/ 415).

(4)

المصدر السابق (19/ 164)، وانظر: النبوات (1/ 173).

(5)

شفاء العليل (2/ 537).

(6)

إيثار الحق (181).

ص: 426

الثاني: تفسيرها بمجموع العلم والعمل، وهذا هو الصواب، وبناءً على هذا فالحكمة مبناها على أمرين:

- العلم بدقائق الأمور، والتمييز بينها، ومعرفة ما يخص كل معين منها.

- العمل بمقتضى ذلك العلم، وتنزيله على الواقعة المعينة.

هذا هو المراد بالحكمة على وجه العموم.

وأما العِلَّة في اللغة، فهي: من علَّ، وعلَّ في لغة العرب ترجع إلى ثلاثة أصول:

الأول: التكرر أو التكرير، ومنه العَلَل، وهي الشربة الثانية، يقال: عَلَلٌ بعد نَهَلٍ، فالنّهَل: الشربة الأولى، والعَلَل: الشربة الثانية.

الثاني: العائق يعوق، ومنه قولهم: لا تعدم خرقاء علة، أي عائقًا تتعلل به.

الثالث: المرض والضعف، يقال: عل المريض فهو عليل

(1)

.

وهذا الأصل هو - عند التأمل - فرع عن الأصل السابق، إذ المرض والضعف هو من جملة العوائق التي تعوق المرء عن وجهته.

ومما ذكر في معنى العلة: أنها السبب، يقال هذه علته: أي سببه

(2)

.

وهذا المعنى هو الأنسب للمعنى الاصطلاحي للعلة.

وأما العلة في هذا الباب: فيراد بها ما يراد بالحكمة، فتطلق على أنها مرادف اصطلاحي لها كما تقدم.

(1)

انظر: مقاييس اللغة (4/ 13)، وانظر كذلك: تهذيب اللغة (1/ 105)، ولسان العرب (13/ 495).

(2)

انظر: المحكم لابن سيده (1/ 46).

ص: 427

والكلام على عقيدة أهل السنة في الحكمة في مسائل:

المسألة الأولى: مرادهم بالحكمة، وشمولها للشرع والقدر.

ما مضى في تعريف الحكمة في الشرع هو من حيث العموم، وأما في حق الله سبحانه وتعالى فتتضمن أمرين:

الأول: الإحكام والإتقان لما يفعله عز وجل.

الثاني: صدور فعله سبحانه وتعالى عن غايات حميدة وحكم عظيمة.

وكلا هذين النوعين هو في الشرع والقدر؛ فخلقه سبحانه وتعالى في غاية الإحكام والإتقان، وهو صادر عن حكمة بالغة وغاية حميدة، وكذا الشرع هو في غاية الإحكام، وهو معلل بغايات حميدة.

فها هنا أربعة أمور:

- إحكام في الخلق.

- إحكام في الشرع.

- علل حميدة للخلق.

- علل حميدة للشرع.

فالأمران الأول والثاني لا خلاف فيهما، فكل المسلمين يقرون بأن سبحانه قد أحكم خلقه وشرعه، فهما في غاية الكمال والإتقان.

وهذا الإحكام هو دليل على الحكمة؛ إذ لا معنى للإحكام إلا الفعل لحكمة مقصودة، فإذا انتفت انتفى الإحكام

(1)

.

(1)

انظر: النبوات (2/ 924).

ص: 428

وكذا التعليل في شرعه ليس فيه خلاف بين المسلمين

(1)

، إلا ما كان من نفاة القياس

(2)

، وخلافهم فيه غير معتبر

(3)

، على أن بعضهم لا ينفي أصل التعليل، بل يقول بالقياس المنصوص على علته

(4)

.

بل لا يمكن فقيهًا أن يتكلم في الفقه وأصوله إلا بإثبات التعليل في الشريعة

(5)

.

وأما التعليل في الخلق فهو موضع النزاع، ومذهب أهل السنة فيه - على ما سيأتي بيانه - أن لله سبحانه وتعالى في خلقه حكمًا عظيمة لأجلها سبحانه فعل وخلق.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله

(6)

:

والحكمة العليا على نوعين أيـ

ــضًا حُصِّلا بقواطع البرهان

إحداهما في خلقه سبحانه

نوعان أيضًا ليس يفترقان

(1)

فقد حكى الإجماع على أن الشرائع معللة: ابن الحاجب رحمه الله. انظر: مختصر ابن الحاجب مع شرحه رفع الحاجب (4/ 328).

(2)

انظر: الإحكام لابن حزم (8/ 76 - 77)، فقد عقد بابًا صرح فيه بأن القول بالعلل باطل في جميع أحكام الدين، وأن من قال بإثبات القياس الجلي من الظاهرية كالقاساني وأضرابه؛ فقوله لا يُعتد به، ولا هو قول داود - إمام المذهب -، وانظر كذلك: البحر المحيط للزركشي (5/ 18 - 19).

(3)

فتاوى ومسائل ابن الصلاح (1/ 207).

(4)

انظر: إرشاد الفحول (2/ 861).

(5)

انظر: شفاء العليل (2/ 573 و 575)، وانظر كذلك: الرد على البكري (219).

(6)

النونية (178) رقم (3284 - 3289).

ص: 429

إحكام هذا الخلق إذ إيجاده

في غاية الإحكام والإتقان

وصدوره من أجل غايات له

وله عليها حمد كل لسان

والحكمة الأخرى فحكمة شرعه

أيضًا وفيها ذانك الوصفان

غاياتها اللائي حُمِدن وكونها

في غاية الإتقان والإحسان

وللحكمة - المرادة في هذا البحث - أوصاف:

الأول: أنها ملازمة لأفعال الله سبحانه وتعالى، فلا يخلو فعل من أفعاله من حكمة حميدة.

الثاني: أنها المرجح للفعل أو الترك.

الثالث: أنها مطلوبة بفعله سبحانه وتعالى، أي أنها مرادة له عز وجل، فلم تقع اتفاقًا أو تبعًا.

الرابع: أنها القصد الأصلي والأولي له سبحانه وتعالى، والفعل وسيلة إليها.

الخامس: أنها محبوبة له سبحانه وتعالى.

السادس: أنها متعلق محبته وحمده والثناء عليه من خلقه.

السابع: أنها مظهر من مظاهر اتصافه سبحانه وتعالى بصفات الكمال.

قال ابن القيم رحمه الله معرفًا الحكمة: "هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودها أولى من عدمها"

(1)

.

وقال: "وهي الغاية المحبوبة له، المطلوبة، التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات فأحيا، وأسعد وأشقى، وأضل

(1)

مدارج السالكين (3/ 461).

ص: 430

وهدى، ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها"

(1)

.

أما ملازمتها لأفعال الله وعدم خلوها منها؛ فلأنها - كما سيأتي - من الصفات الذاتية التي لم يزل الله ولا يزال متصفًا بها، فخلو فعل من أفعاله منها نقص في ذاته ينزه عنه.

وهذا شامل للشرع والقدر كما تقدم، وشامل أيضًا للدارين

(2)

.

ويقال أيضًا: قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى عالم مريد، وهذا من لوازم ذاته سبحانه وتعالى، والحكمة لازمة للعلم وللإرادة، أما لزومها للإرادة: فلأنه لا إرادة بدون حكمة - كما سيأتي قريبًا -، وأما لزومها للعلم: فلأن العلم موجب لترك القبيح لما فيه من القبح، وفعل الحسن لما فيه من الحسن، وهذه هي حقيقة الحكمة، وخلاف ذلك بفعل القبيح وترك الحسن جهل ينزه الله عنه.

فإذا ثبت كون الحكمة لازمة للعلم والإرادة، وهما لازمان للذَّات الإلهية؛ فالحكمة لازمة لها أيضًا

(3)

.

وأما كونها المرجح للفعل أو الترك؛ فلأن الإرادة والقدرة بمجردهما لا يخصصان معينًا على معين، لأن نسبتهما إلى جميع المتماثلات سواء، فلا بد من مرجح للفعل، وهذا المرجح لا يكون إلا الحكمة

(4)

.

ووجوب أن يكون هذا المرجح هو الحكمة هو لأن الفاعل المريد إنما

(1)

طريق الهجرتين (1/ 193).

(2)

انظر: الداء والدواء (35).

(3)

انظر: النبوات (2/ 924).

(4)

انظر: درء التعارض (4/ 203).

ص: 431

يرجح مرادًا على مراد بما ينضم إلى إرادته من محبة هذا المراد، أو محبة ما يؤول إليه، فلا يعقل أن يرجح المراد إذا استوى عنده وجوده وعدمه، بل لا بد أن يكون وجوده أولى عنده من عدمه

(1)

، وهذه هي حقيقة الحكمة.

وليس معنى انضمام الحكمة إلى الإرادة أن الإرادة كانت ولا حكمة، ثم انضمت الحكمة إليها، بل المعنى أن الإرادة لا تستقل بنفسها بل لا بد معها من حكمة.

فالإرادة تابعة للحكمة، فكل ما يشاء الله وجوده فإنما شاءه لحكمة، وأوجده لحكمة، فالفعل وجودًا ومشيئة - قبل ذلك - إنما كان لحكمة، فصارت الحكمة هي الباعث والقصد الأول لكل فعل؛ لمشيئته أولًا، ثم لإيجاده.

قال الألوسي رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]: " {وَمَا نُنَزِّلُهُ} أي: نوجد وما نكوِّن شيئًا من تلك الأشياء ملتبسًا بشيء من الأشياء {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}؛ أي إلا ملتبسًا بمقدار معين تقتضيه الحكمة، وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية، فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك، مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به؛ لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به"

(2)

.

وكل من الحكمة والإرادة متلازمان؛ أما استلزام الإرادة للحكمة فلأنه

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (16/ 458 - 459).

(2)

روح المعاني (14/ 30).

ص: 432

لا فعل حاصل بإرادة مجردة عن الحكمة، فإن هذا غير معقول - ولو عُقل لكان سفهًا وعبثًا -

(1)

، ولا حكمة حاصلة بدون إرادة، إذ لا فعل حينئذ، والفعل هو مُظهر الحكمة.

وقد دلت الأدلة - كما تقدم - على أنه سبحانه وتعالى يفعل لأجل هذه الحكمة، فدل على أنها هي المرجح، لأنها محبوبة له عز وجل، والمحبة هي الغاية والحكمة العليا التي لأجلها كان كل شيء

(2)

.

وأما كونها مطلوبة بفعله سبحانه وتعالى؛ فمعناه أنها لم تقع اتفاقًا، كما لو رمى رجل حجرًا من نافذة فأصاب أفعى في الطريق يتضرر بها الناس فقتلها.

وليست تبعًا للفعل؛ حصلت عقيبه حصولًا مجردًا عن إرادة الفاعل، بل هي مرادة للفاعل مقصودة له.

وذلك أن الحكمة إنما تتصور في حق من عمل شيئًا لشيء يريد بفعله الحكمة الناشئة عن فعله، وأما من لم يفعل شيئًا لشيء فلا يتصور في حقه الحكمة

(3)

.

والقول بنفي قصد الله سبحانه وتعالى للحكمة يلزم منه وصفه بالنقص، فإن من فعل فعلًا ليس وجه الخير فيه هو مراده، وليس وجه الشر أيضًا هو مراده؛ فليس وصفه بالخير أقرب من وصفه بالشر، ومن كان هذا حاله هو للنقص أقرب منه للكمال، لأن أفعاله أشبهت أفعال الأطفال والسفهاء والمجانين، بل هي أنقص منها؛ لأن أفعال هؤلاء لم تخل من موافقة شهوة لهم؛

(1)

انظر: النبوات (2/ 925).

(2)

انظر ما يأتي ص (442).

(3)

انظر: طريق الهجرتين (1/ 246).

ص: 433

فلم تتجرد في حقهم من كل داع، وتجردت في حق الأول من كل داع

(1)

.

وقصد الحكمة من عدمها هو محل الخلاف بين المسلمين في التعليل؛ فليس أحد من المسلمين إلا ويقر بالحكمة - إذ هذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر - لكن الكلام في هذه هل هي مقصودة للفاعل، أم أنها حصلت اتفاقًا أو تبعًا، يوضحه:

أنها القصد الأصلي والأولي له سبحانه وتعالى، والفعل إنما هو وسيلة إليها.

يبينه أن الحكمة صفة ذاتية له سبحانه وتعالى، وهو سبحانه لم يتصف بها لكونه فعل ما فيه حكمة، بل هي صفة لازمة له أزلًا وأبدًا، لأنه سبحانه وتعالى هو الكامل وكماله ذاتي ليس متوقفًا على فعله، ليس كالمخلوق الذي إنما يكمل بفعله، فالله كمل ففعل، والمخلوق فعل فكمل، وشتان ما بين الكمالين

(2)

.

فالله عز وجل أراد الحكمة ابتداءً، والفعل هو المظهِر لها والسبب في إبرازها، وحكمته سبحانه وتعالى تقتضي حصول الأشياء بأسبابها، فعادت الإرادة الأصلية للحكمة.

وتقدم قريبًا أن الحكمة سابقة للفعل ومشيئته، وأنها بذلك هي القصد الأول.

وأما كونها محبوبة لله سبحانه وتعالى، فلأن حكمته سبحانه وتعالى كسائر صفاته - محبوبة له، فالله عز وجل يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها وموجبها، لأن ذلك من لوازم كماله

(3)

.

(1)

انظر: جامع الرسائل لابن تيمية (1/ 103)، وإيثار الحق (183).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 387).

(3)

انظر: روضة المحبين (64)، وعدة الصابرين (85).

ص: 434

فالحكمة التي هي صفته محبوبة له، وكذا أثرها وموجبها في الخلق محبوب له.

وأما كونها متعلق محبته وحمده والثناء عليه؛ فمن وجهين:

الوجه الأول: أن متعلق محبة الله سبحانه وتعالى وحمده أمران

(1)

:

الأول: كماله عز وجل في ذاته.

الثاني: فعله سبحانه وتعالى لما يستحق عليه الحمد والثناء.

ومن ذلك حكمته سبحانه، يحمد الله سبحانه وتعالى عليها لاتصافه بها وعود حكمها عليه، ويحمد كذلك على أثر هذه الصفة العظيمة، وهو ما في الوجود من الحكم والغايات الحميدة التي هي أصل منافع المخلوقين وسعادتهم.

"فالحمد لازم الحكمة"

(2)

، و"وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع"

(3)

، فيكون نفي الحكمة نفيًا لحمده، نفيًا كليًّا عند من ينفي نوعي الحكمة، ونفيًا دون ذلك لمن ينفي الحكمة العائدة إليه ويثبت الأخرى.

الوجه الثاني: أن إثبات الحكمة هو ملجأ أهل الإيمان لما يشاهدونه في الوجود من الشرور، وذلك أن المخلوقات على صنفين:

- ما خيره ظاهر.

- ما شره هو الظاهر.

(1)

انظر: روضة المحبين (60)، والفوائد (266 - 267).

(2)

طريق الهجرتين (1/ 246).

(3)

تكررت هذه القاعدة في كلام شيخي الإسلام - رحمهما الله -، انظر على سبيل المثال: درء التعارض (10/ 120)، الجواب الصحيح (2/ 104)، ومدارج السالكين (1/ 206 و 208)، وطريق الهجرتين (1/ 217).

ص: 435

فأما ما خيره ظاهر، كانتصار الدين ورفعته، وذل الكفر وانحطاطه؛ فالنفوس منه على برد ويقين، يطالعون فيه آلاء الله وحكمته، وعظم فضله ورحمته ومنته على خلقه.

وأما ما شره ظاهر، كتغلب الكفار على المسلمين، وحصول الذلة والمهانة والقتل لأولياء الله سبحانه وتعالى؛ فقد يقع في بعض النفوس منه شيء، ويكون مدخلًا للشيطان عليها منه؛ يشككها في كمال ربها وما وعد به من نصرة الأنبياء وأتباعهم، وكسر أعدائهم، فيعمل بذلك على تبغيض الله إلى خلقه، وصرفهم عن صراطه المستقيم.

فيقابل أهل القرآن وعسكر الإيمان هذه الوساوس والتشكيكات بالإيمان بحكمة الله سبحانه وتعالى، وأن له في تقدير هذه الشرور من الغايات الحميدة ما يستحق عليه أعظم الحمد وأجل الثناء، فلولا الإيمان بالحكمة وجعلها أصلًا محكمًا يرد إليه ما خفي وتشابه؛ لما تحقق الحب لله والثناء عليه، فصار للحكمة خصوصية من بين سائر صفات الكمال في ذلك.

فالله سبحانه "لما اشتملت عليه صفاته من الكمال، وأسماؤه من الحسن، وأفعاله من الحكم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمته، الموافقة لمحابه. . . لا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة موجب للحمد"

(1)

.

وهذا يوضح المراد بكونها مظهرًا من مظاهر اتصافه سبحانه وتعالى بصفات الكمال، بل هي من أعظمها.

ونفي الحكمة نفي لأفعال الله سبحانه وتعالى، إذ الحكمة هي الغاية، والفعل

(1)

طريق الهجرتين (1/ 323).

ص: 436

وسيلة إليها، فنفي الغاية نفي للوسيلة، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته

(1)

.

فالحكمة مشاركة لسائر الصفات في دلالتها على كمال الرب عز وجل، وتختص الحكمة من ذلك بحظ وافر على ما تقدم بيانه.

المسألة الثانية: الحكمة هي اللفظ الشرعي، وأما لفظ العلة والغرض ونحوها فهي ألفاظ مجملة.

معنى الحكمة معنى شرعي جاء التعبير عنه في الشرع بهذا اللفظ (الحكمة)، وقد سبق عند عرض أدلة الحكمة سياق ما يبرهن ذلك.

إلا أن هذا اللفظ الشرعي استُبدل بألفاظ أخرى مثل العلة، والغرض، والغاية، والباعث، والمعنى، والسبب، والقصد، والهدف، والمرمى.

وهذه الألفاظ فيها ملحظان:

الأول: أن الشارع لم يعبر بها.

الثاني: أن هذه الألفاظ - عن آخرها - لا تخلو من إجمال، فهي مشتملة على حق وباطل.

والواجب التعبير عن المعاني الشرعية بالألفاظ الشرعية ما أمكن.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضًا الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا"

(2)

.

وقال رحمه الله: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق

(1)

المصدر السابق (1/ 194).

(2)

درء التعارض (1/ 245).

ص: 437

الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بُيِّنت معانيها، فإن ما كان مأثورًا حصلت به الألفة، وما كان معروفًا حصلت به المعرفة"

(1)

.

وقد تطلق بعض هذه الألفاظ في أحد موطنين:

الأول: في محاججة الخصوم، فيخاطبون بما يعرفونه من مصطلحات.

الثاني: حيث أمن اللبس، وعرف مراد المتكلم

(2)

.

المسألة الثالثة: أهل السنة يثبتون ما تضمنه معنى الحكمة اسمًا لله سبحانه وتعالى وصفة.

أهل السنة يثبتون ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من الأسماء والصفات، ومن ذلك إثباتهم لصفة الحكمة، وكذا اسمه عز وجل الحكيم والحَكَم.

وصفة الحكمة صفة ذاتية، بمعنى أن الله لم يزل ولا يزال متصفًا بها، وهي كذلك شرعية عقلية، بمعنى أنها عُلمت بالشرع وبالعقل.

فمن أسماء الله سبحانه وتعالى الحكيم والحَكَم، قال ابن كثير رحمه الله:"الحكيم: في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها؛ لعلمه وحكمته وعدله"

(3)

.

(1)

المصدر السابق (1/ 271).

(2)

انظر مجموع الفتاوى (8/ 395)، ففيه تجويز إطلاق لفظ الجبر إذا أمن اللبس وعلم القصد، مع ما في لفظ الجبر من إيهام.

(3)

تفسير ابن كثير (2/ 98).

ص: 438

وأما الحكم فمعناه: الحاكم، أي الذي إليه الحكم، ورُد إليه فيه الأمر

(1)

.

واسم الله سبحانه وتعالى الحكيم يتضمن معنى اسم الحكم وزيادة، فهو متضمن لمعنيين: معنى الحكم، ومعنى الإحكام للخلق أي الإتقان، وكل منهما شامل للشرع والقدر.

قال ابن القيم رحمه الله

(2)

:

وهو الحكيم وذاك من أوصافه

نوعان أيضًا ما هما عدمان

حكمٌ وإحكامٌ وكل منهما

نوعان أيضًا ثابتا البرهان

وأهل السنة سائرون في إثباتهم الحكمة لله سبحانه وتعالى على أصولهم، من أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء؛ فحكمته تليق به لا تشابه ما ثبت منها للمخلوق، فلله منها أعظم الكمال الذي يختص به فلا يشاركه فيه أحد، وللمخلوق من ذلك ما يليق بضعفه ونقصه.

قال ابن القيم رحمه الله: "كل ما خلقه وأمر به خلقه فيه حكمة بالغة وآيات باهرة، لأجلها خلقه وأمر به، ولكن لا نقول: إن لله تعالى في خلقه وأمره كله حكمة مماثلة لما للمخلوق من ذلك، ولا مشابهة له، بل الفرق بين الحكمتين كالفرق بين الفعلين، وكالفرق بين الوصفين والذاتين، فليس كمثله شيء في وصفه ولا في فعله ولا في حكمة مطلوبة له من فعله، بل الفرق بين الخالق والمخلوق في ذلك كله أعظمُ فرق وأبينُه وأوضحه عند العقول والفطر"

(3)

.

(1)

انظر: شأن الدعاء (61)، والمنهاج للحليمي (1/ 207).

(2)

النونية (177) رقم (3266 - 3267).

(3)

مفتاح دار السعادة (3/ 16).

ص: 439

ويتبَع ذلك أنهم يفسرون الحكمة بمعناها الذي عرف بالشرع وبلسان العرب، ولا يفسرونها بما يعرفونه - أو يتوهمونه - في المخلوق، فإن هذا من أعظم الجناية في التعامل مع الله سبحانه وتعالى؛ فإن في ذلك تشبيهًا لله بخلقه

(1)

، فلا يفسرونها بتحصيل اللذة، أو دفع الهم والحزن ونحو ذلك.

المسألة الرابعة: حكمة الله سبحانه وتعالى نوعان:

- حكمة هي صفته عز وجل، وهي كما تقدم صفة ذاتية معنوية له سبحانه وتعالى.

- حكمة مخلوقة هي أثر اتصافه بالحكمة.

فيقال: الحكمة صفة الله عز وجل، ويقال: من حكمة الله نزول المطر، وخلق البحار ونحو ذلك، وذلك أن اسم الصفة - الذي هو الحكمة هنا - يراد اسم المصدر، ويراد به كذلك متعلقها وهو مسمى المفعول، فالله سبحانه وتعالى حكيم بالحكمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، وما يخلقه من الحكم هو أثر تلك الحكمة

(2)

.

وقد سبقت الإشارة إلى الفرق بين الفعل والمفعول

(3)

.

المسألة الخامسة: الحكمة التي هي الغاية بفعله سبحانه وتعالى منها ما يعود إليه سبحانه وتعالى، ومنها ما يعود إلى خلقه.

يقرر أهل السنة ما دلت عليه نصوص الشرع، من أن الحكمة التي

(1)

وهذا المسلك كان سبب انحراف كثير من أهل البدع عن الصراط المستقيم، فإنهم لما لم يعقلوا من الصفات غير ما يشاهدونه في المخلوق؛ توهموا أن إثباتها تنقصٌ للرب عز وجل وتشبيهٌ له بخلقه، فلم يجدوا سبيلًا لتنزيهه عن هذا النقص إلا بتعطيل الصفات، فمثلوا أولًا وعطلوا ثانيًا، والله المستعان.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 127).

(3)

انظر ما تقدم ص (392).

ص: 440

يفعل الله سبحانه وتعالى لأجلها نوعان

(1)

:

- حكمة تعود إليه عز وجل، يحبها ويرضاها.

- حكمة تعود إلى المخلوقين، يفرحون ويلتذون بها.

وهذا شامل للأمور الشرعية والكونية.

فأما الحكمة التي تعود إليه عز وجل فالكلام فيها مبني على مسألة عظيمة من مسائل الصفات، وهي أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، وقد سبق الكلام عليها فيما مضى

(2)

، والمقصود منها هنا أن الله عز وجل متصف بالحكمة، فالحكمة وصفه، ويفعل لحكمة، فقيام الحكمة به يقتضي أن يعود إليه حكمها، وهذا واضح جدًا، ونفي حكمها في الحقيقة نفي لأصلها، ومجموع ذلك نفي لاستحقاقه الحمد، ونفي لاتصافه بالكمال، فيلزم من أثبت له الحكمة أن يثبت أنه عز وجل يعود إليه حكمة من أفعاله.

فإنه لا يعقل في الحكيم إلا الذي يفعل لحكمة تعود إليه، بل لا يعقل أن يفعل المختار فعلًا بدون حكمة تعود إليه، أو أن تكون الحكمة وعدمها بالنسبة إليه سواء، ولو تصور وجوده؛ فهو سفيه عابث ليس بحكيم

(3)

.

إذا تقرر هذا فما هي الحكم التي تعود إليه عز وجل من أفعاله؟

الحكمة التي تعود إليه سبحانه هي في الحقيقة صفات من جملة صفاته التي تقوم به.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 35 - 37).

(2)

انظر ما تقدم ص (390 - 391).

(3)

انظر: منهاج السنة (3/ 192 - 193 و 194)، ومجموع الفتاوى (8/ 89 - 90 و 211).

ص: 441

وبيان ذلك أن هذه الصفات هي في مقام التعليل لأفعاله سبحانه وتعالى، فينزل الغيث رحمة بعباده، وينصر رسله محبة لهم ولدينهم، ويهلك أعداءه غضبًا عليهم وانتقامًا منهم، وهكذا

(1)

، لذا فإن إثبات حكمة تعود إليه لا يستلزم أن يكون مستكمَلًا بغيره، لأن هذه الحكم هي صفاته.

وهذه الحكم كلها مرجعها إلى صفة المحبة، لأن الله سبحانه وتعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها وموجباتها في المخلوقات - كما تقدم

(2)

-، وأفعاله سبحانه وتعالى التي تتضمن الحكمة - هي عن أسمائه وصفاته.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكل فاعل بالإرادة؛ فإرادته تستلزم محبة عامة لأجلها فعل، فالحب أصل وجود كل موجود، والرب تعالى يحب نفسه، ومن لوازم حبه نفسه أنها محبة مريدة لما يريد أن يفعله، وما أراد فعله فهو يريده لغاية يحبها، فالحب هو العلة الغائية التي لأجلها كان كل شيء"

(3)

.

لذلك كان الانحراف في فهم صفة المحبة، وعدم التفريق بينها والمشيئة هو أصل الضلال في هذا الباب، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"فلو أثبتوا [أي الجهمية والمعتزلة] أنه سبحانه يحب ويفرح بحصول محبوبه - كما أخبر به الرسول -؛ تبين لهم حكمته، وتبين أيضًا أنه يفعل الأفعال لحكمة"

(4)

.

وأما الحكمة التي تعود إلى المخلوقين؛ فهي أثر تلك الحكمة العائدة إليه

(1)

انظر: الحكمة والتعليل للشهري (1/ 208).

(2)

انظر ما تقدم ص (434).

(3)

النبوات (1/ 372)، وانظر: جامع المسائل (6/ 208).

(4)

منهاج السنة (5/ 324).

ص: 442

سبحانه من محبته ورحمته وإحسانه وكرمه وسائر الحكم التي هي صفاته كما تقدم، فهذه الصفات تطلب أثرها وتقتضيه، وهذا الأثر هو الحِكم التي تعود على المخلوقين من حصول منافعهم وتحقق مصالحهم، ودفع الشرور عنهم.

ولهذا كانت الأمور العامة التي يفعلها الله سبحانه وتعالى لحكمة عامة، ورحمة عامة

(1)

، وهذه الحكمة العامة لا يلزم تحققها في كل معين، بل قد تتضمن هذه الحكم ضررًا لبعض المخلوقات، ومثال ذلك إرسال الرسل فإن فيه من الحكم والمصالح العامة ودفع الشرور ما لا يحيط به إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا فقد تضمنت شرورًا بالنسبة لبعض المخلوقين، كفرعون وأبي جهل وأمثالهم، فلا يلزم تحقق هذه المصالح في كل معين.

وهذه الشرور مغمورة في جانب المصالح الحاصلة، ثم هي ليست شرورًا محضة بل هي مشتملة على حكم وغايات، هي باعتبارها خير ومصلحة

(2)

.

المسألة السادسة: حكمته سبحانه وتعالى كسائر صفاته لا يحيط بها الخلق.

من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، وأن الله عز وجل لا يحيط عبادُه به علمًا، كما قال تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، فالطمع مقطوع من الإحاطة بصفاته سبحانه وتعالى لا من جهة أصل المعنى -، ومن ذلك الحكمة، فلا يمكن أحدًا من الخلق أن يدرك تفاصيل حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه وأمره، وما اطلعنا عليه من تفاصيل هذه الحكمة سواء بالوحي أو بغيره لا يساوي شيئًا في

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 93).

(2)

انظر: المصدر السابق (8/ 93 - 94)، ومنهاج السنة (1/ 462 - 463).

ص: 443

جانب ما لم نطلع عليه.

ومما يبين ذلك؛ أن الحكمة - كما تقدم - مبناها على أمرين: علم بدقائق الأمور، وعمل بمقتضى ذلك العلم.

والإحاطة بعلم الله سبحانه وتعالى مما أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بانتفائه، بل هو مما يُعلم اضطرارًا، لذا فقد ربط العلامة ابن القيم رحمه الله بين انتفاء الإحاطة بتفاصيل الحكمة في كل شيء، وبين انتفاء الإحاطة بعلمه سبحانه وتعالى فقال:"ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا ونقص عقولنا ومعارفنا وتلاشيها، وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك"

(1)

.

ويكفي الإنسان فيما لم يدرك تفاصيله الإيمان المجمل بحكمة الله سبحانه وتعالى وأنه لا يخلو منها شيء من الشرع ولا القدر، ويستدل على ما خفي منها بما ظهر.

قال ابن القيم رحمه الله: "وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه؛ فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام؛ أن تضمَّنَتَه حكمة بالغة - وإن لم يعرفوا تفصيلها - وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة، التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم"

(2)

.

(1)

شفاء العليل (2/ 573).

(2)

مفتاح دار السعادة (2/ 316)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 128).

ص: 444

ومعرفة الحكم والغايات في شرع الله سبحانه وتعالى وقدره من أعظم ما يزيد اليقين والإيمان، لذا فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتفكر والتدبر في آياته الكونية والشرعية وما تضمنته من حكم وغايات، قال عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال عز وجل:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].

المسألة السابعة: ترتبط بالحكمة عدة مسائل في باب القدر، ومنها: مسألة التحسين والتقبيح، ومسألة خلق الأفعال، ومسألة الهداية والإضلال، ومسألة الأسباب، ومسألة الاستطاعة، ومسألة تكليف ما لا يطاق، ومسألة الرضا بالقدر، ومسألة دخول الشر في القضاء، وهذا بيان بعضها:

أما مسألة التحسين والتقبيح؛ فالكلام فيها كان فرعًا عن الكلام في الحكمة والتعليل

(1)

، وقد تباينت مذاهب الناس فيها تبعًا لتباينها في هذه المسألة.

والمقصود هنا بيان علاقة التحسين والتقبيح العقليين بمسألة الحكمة، فمن نفى الحكمة - وهم الجهمية والأشاعرة كما سيأتي -؛ نفى التحسين والتقبيح العقليين، وجعل معرفتهما سمعية فقط، ومن أثبتهما - وهم أكثر الناس من المسلمين وغيرهم -؛ أثبت التحسين والتقبيح العقليين.

وذلك أنه لا يمكن القول بالتعليل إلا بالقول بأن الأشياء متضمنة للحسن والقبح في ذاتها، وإلا فلو خلت الأشياء من صفات بها تحسن وتقبح لما أمكن تعليل فعلها، بل يكون فعلها راجعًا لمحض المشيئة.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 90).

ص: 445

ومن هنا كان كل دليل يدل على تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى فهو دليل على الحسن والقبح العقليين، فإثبات الحكمة متضمن لإثبات التحسين والتقبيح العقليين.

وبالعكس؛ فإثبات التحسين والتقبيح العقليين يستلزم إثبات التعليل، إذ معنى تضمن الشيء لما يكون به حسنًا أو قبيحًا، يقتضي أن فعل الحسن كان لحسنه، وترك القبيح كان لقبحه، وهذه هي حقيقة التعليل

(1)

.

ووجه آخر: وهو أن الحكمة قد تكون في المأمور به، وقد تكون في الأمر، وقد تكون في كليهما، فالعدل والإحسان إلى الخلق وصلة الرحم ونحو ذلك فيه منفعة وحكمة فيما لو فعله العبد بدون الأمر به، فإذ أمر به صار فيه حكمتان: حكمة في نفسه، وحكمة في الأمر، وهذا هو الغالب على الشريعة.

وأما ما ليس فيه حكمة في نفسه؛ ثم أمر به الشارع؛ صارت الحكمة فيه بالأمر لا في نفس المأمور؛ فإنه لا حكمة فيه، مثال ذلك أمر الله سبحانه لإبراهيم بذبح إسماعيل، فذات الذبح لا حكمة فيه ولا مصلحة، لذلك لم يكن مرادًا لله سبحانه، وإنما المراد له امتثال الأمر من إبراهيم، وهو الذي فيه مصلحة، فلما حصل الامتثال أُمر بعدم الذبح وبشر بأنه قد صدَّق الأمر وامتثله

(2)

.

فالأول - الذي فيه حكمة في نفسه وإن لم يأت الأمر به -: حسنه عقلي.

والثاني - وهو ما فيه حكمة في نفسه وأتى الأمر به -: حسنه عقلي وشرعي.

والثالث - وهو ما أمر به مما لا حكمة فيه في نفسه -: فهذا امتحان

(1)

انظر: الحكمة والتعليل للشهري (2/ 562 - 563).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 144 - 145).

ص: 446

وابتلاء، والحسن فيه إنما هو في الأمر به لا في ذاته.

فالتفصيل الواقع في مسألة التحسين والتقبيح مبني على التفصيل في الحكمة، والله أعلم.

وأما مسألة خلق الأفعال؛ فالكلام فيها كان سببًا في الكلام في مسألة الحكمة، إذ أن من لم يثبت للعبد قدرة ولا اختيارًا، بل جعله مجبورًا على أفعاله - وهم الجهمية والأشاعرة - لم يثبت الحكمة، وذلك لأن جبر العبد على الذنب ثم عقوبته عليه ظلم ينافي العدل والحكمة في بدائه العقول.

أما منافاته للعدل فظاهرة.

وأما منافاته للحكمة، فإن عقوبة من أكره على المعصية وضع للشيء في غير موضعه، وبناءً على ذلك فإثبات الجبرية للحكمة نقض لأصلهم في الجبر، وإذا انتقض أصلهم في الجبر انتقض مذهبهم في كل مسائل القدر وبان تناقضهم، ففرارًا من هذا المأزق نَفَوا التعليل في أفعاله سبحانه وتعالى، وأنه يفعل لمحض المشيئة وصرف الإرادة.

وبالمقابل؛ فإثبات القدرة والاختيار للعبد يقتضي أن إثابة المطيع إنما هي لطاعته، وعقوبة العاصي إنما هي لمعصيته، وهذا يقود إلى إثبات التعليل من طريقين:

الأول: أن إثابة المطيع لطاعته، وعقوبة العاصي لمعصيته هي حقيقة الحكمة، لأنها وضع للشيء في موضعه الذي يناسبه.

الثاني: أن ذلك يقتضي إثبات الحسن في الطاعة، والقبح في المعصية، وثبوت الحسن والقبح يستلزم التعليل كما تقدم.

ص: 447

ومن هذا يتبين أن إثبات الحكمة هو من أهم المطالب في باب القدر، إذ الإيمان بالقدر مداره على أصلين: إثبات القدر وخلق الله سبحانه وتعالى لأفعال العباد، وإثبات الحكمة له سبحانه وتعالى، وهما متلازمان أشد ما تكون الملازمة، فلا إيمان بقدر إلا بإثبات الحكمة، ولا يمكن إثبات الحكمة إلا بإثبات القدر.

وكل من القدر والحكمة والشرع أصول آخذ بعضُها برقاب بعض، لتشمل الدين كله، ولا يتأتى اجتماعها إلا على أصول سلف الأمة، والله المستعان.

قال ابن القيم رحمه الله: "والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم"

(1)

.

والحاصل أن لله سبحانه وتعالى في كل ما قدره وقضاه حكم عظيمة، وأنه لا يخلو فعل من أفعاله من الحكمة، والله أعلم.

(1)

طريق الهجرتين (1/ 194 - 195).

ص: 448

‌المطلب الثاني: المخالفون لأهل السنة في هذه القاعدة، والرد عليهم.

خالف المعتزلة والأشاعرة أهل السنة في إثبات الحكمة في أفعال الرب سبحانه.

أما المعتزلة؛ فذهبوا إلى إثبات الحكمة، وأنه لا يخلو فعل من أفعال الرب سبحانه منها، وإلا للزم العبث عليه، تعالى الله عن ذلك.

قال القاضي عبد الجبار: "إن الله سبحانه ابتدأ الخلق لعلة، نريد بذلك وجه الحكمة الذي له حسن منه الخلق، فيبطل على هذا الوجه قول من قال: إنه تعالى خلق الخلق لا لعلة، لما فيه من إيهام أنه خلقهم عبثًا لا لوجه تقتضيه الحكمة، وذلك - أي نقص من يفعل لا لغرض - ظاهر في الشاهد"

(1)

.

وقال الشهرستاني: "قالت المعتزلة: قد قام الدليل على أنه تعالى حكيم، والحكيم من تكون أفعاله على إحكام وإتقان، فلا يفعل فعلًا جزافًا؛ فإن وقع خيرًا فخير وإن وقع شرا فشر، بل لا بد وأن ينحو غرضًا ويقصد صلاحًا"

(2)

.

ومخالفة المعتزلة لعقيدة أهل السنة من وجهين:

الأول: إنكارهم أن يعود لله سبحانه من الحكمة وصف، وأن الحكمة من الفعل مقصورة على الحكمة الراجعة إلى المخلوق، وهذا بناءً على مذهبهم في نفي صفات الله سبحانه.

فإنهم جعلوا "الحكمة في ذلك [أي الخلق] إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب، وقالوا: إن فعل الإحسان إلى الغير حسن

(1)

المغني (11/ 92 - 93).

(2)

نهاية الإقدام (400).

ص: 449

محمود في العقل، فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم، ولا قام به فعل ولا نعت"

(1)

.

وعلة ذلك عندهم أن الحكيم من يفعل أحد أمرين، إما أن ينتفع أو ينفع غيره والباري سبحانه لما كان مقدَّسًا عن الانتفاع؛ تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره

(2)

.

الثاني: أنهم جعلوا الحكمة حاملًا لقولهم بالإيجاب على الله سبحانه.

وما ذهبوا إليه باطل من وجوه:

الأول: أن الأدلة النقلية والعقلية دلت على اتصاف الرب سبحانه بالحكمة، وأن الحكمة وصفه سبحانه، ولكن المعتزلة لما كانوا ينفون صفات الرب سبحانه فإنهم نفوا اتصافه بالحكمة.

الثاني: أن قولهم: أن الرب سبحانه مقدس عن الانتفاع مجمل، فإن أريد بالانتفاع كون الرب سبحانه محتاجًا لغيره حتى يكمل؛ فباطل، وإن أريد أنه سبحانه يعود عليه وصف من كونه يفعل لحكمة فصحيح، يوضحه:

الثالث: أنه لا يعقل أن يفعل الحكيم فعلًا من غير أن يعود عليه منه حكم؛ فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 89).

(2)

انظر: نهاية الإقدام (397).

ص: 450

فكل من فعل فعلًا ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه - لا عاجلة ولا آجلة -؛ كان عابثًا ولم يكن محمودًا

(1)

.

الرابع: أن الحكمة العائدة إليه سبحانه صفات من جملة صفاته التي تقوم به - كما تقدم - فهو ينصر المؤمنين محبة لهم ولدينه، ويخذل الكافرين غضبًا عليهم وانتقامًا منهم، وهكذا

(2)

، فالحكمة العائدة إليه من صفاته، فلا يكون سبحانه مستكملًا بغيره.

الخامس: أن الإيجاب على الرب سبحانه لا يصح أصلًا، سواء كان موجبه الحكمة أو غيرها، لأن العباد لا يوجبون على الرب سبحانه إلا ما أوجبه على نفسه تفضُّلًا منه سبحانه - كما سيأتي - وإن كان سبحانه إنما أوجب على نفسه ما أوجب تفضُّلًا لحكمة، إذ الحكمة - كما تقدم - ملازمة لأفعال الله سبحانه وتعالى

(3)

.

وأما الأشاعرة؛ فذهبوا إلى إنكار الحكمة في أفعاله سبحانه، وزعموا أنه سبحانه يفعل لمحض المشيئة وصرف الإرادة، فليس ثَمَّ حكمة تبعث على الفعل أو مقصودة به، وإنما تترتب عليه، وتحصل عقيبه حصولًا مجردًا عن القصد.

قال الشهرستاني: "مذهب أهل الحق أن الله تعالى خلق العالم بما فيه من الجواهر والأعراض، وأصناف الخلق والأنواع، لا لعلة حاملة له على الفعل، سواء قدرت تلك العلة نافعة له أو غير نافعة؛ إذ ليس يقبل النفع والضر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق إذ ليس يبعثه على الفعل باعث، فلا غرض له

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 89 - 90)، ومنهاج السنة (3/ 192 - 194).

(2)

انظر ما تقدم ص (441 - 442).

(3)

انظر ما تقدم ص (430).

ص: 451

في أفعاله ولا حامل، بل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه"

(1)

.

وقال أيضًا: "ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى اشتملت على خير وتوجهت إلى صلاح، وأنه لم يخلق الخلق لأجل الفساد، ولكن الكلام إنما وقع في أن الحامل له على الفعل ما كان صلاحًا يرتقبه وخيرًا يتوقعه، بل لا حامل له"

(2)

.

وقال الإيجي: "المقصد الثامن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، إليه ذهبت الأشاعرة"

(3)

.

وقال الآمدي: "القاعدة الثانية: في نفي الغرض والمقصود عن أفعال واجب الوجود: مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل، بل الخلق وأن لا الخلق له جائزان، وهما بالنسبة إليه سيان"

(4)

.

وقال الرازي: "المسألة السادسة والعشرون: في أنه لا يجوز أن تكون أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بعلة البتة"

(5)

.

وقال: "مسألة: لا يجوز أن يفعل الله شيئًا لغرض"

(6)

.

(1)

نهاية الإقدام (397)، تحت:"القاعدة الثامنة عشر: في إبطال الغرض والعلة في أفعال الله تعالى. . .".

(2)

المصدر السابق (400)، وانظر: غاية المرام (202).

(3)

المواقف (331).

(4)

غاية المرام (194).

(5)

الأربعين في أصول الدين (350).

(6)

محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (205).

ص: 452

واستدل الأشاعرة لما ذهبوا إليه بأدلة، منها:

أولًا: أن إثبات الحكمة في أفعاله سبحانه يستلزم أن يكون مستكملًا بغيره، إذ من فعل فعلًا لتحصيل منفعة أو دفع مضرة؛ إما أن يكون تحصيل تلك المنفعة أو دفع المضرة أولى له من عدمه أو لا، فإن كان الأول؛ كان ناقصًا بذاته مستكملًا بغيره، وإن كان الثاني؛ بطل التعليل إذ لا رجحان حينئذ

(1)

.

ثانيًا: أنه لو كان الله سبحانه قد خلق لعلة؛ فإن هذه العلة لا تخلو عن أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة؛ وجب قدم الخلق لقدم علته، وإن كانت محدثة؛ فلا يخلو: إما أن يكون الله أحدثها لعلة أو لا، فإن كان الثاني بطل القول بالتعليل، وإن كان الأول فالقول فيها كالقول في العلة الأولى، فيلزم التسلسل

(2)

.

ثالثًا: أن كل غرض يفرض أن الله سبحانه يفعل الفعل لأجله، فهو سبحانه قادر على إيجاده ابتداءً فيكون توسيط ذلك الفعل عبثًا، وهو محال

(3)

.

كما ادعوا أن اللام في مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] هي لام العاقبة والصيرورة، وليست لام التعليل.

قال الشهرستاني: "وأما الآيات في مثل {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] فهي لام المآل وصيرورة الأمر وصيرورة العاقبة، لا لام التعليل،

(1)

انظر: التمهيد للباقلاني (50)، ونهاية الإقدام (399)، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (205)، والأربعين للرازي (350)، وغاية المرام (197)، والمواقف (331).

(2)

انظر: التمهيد للباقلاني (51 - 52)، والأربعين للرازي (350 - 351).

(3)

انظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (205)، والأربعين للرازي (351)، والمواقف (332).

ص: 453

كما قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وقوله:{جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] "

(1)

.

والجواب على شبهتهم الأولى من وجوه

(2)

:

الأول: أن القول بأنه ناقص بذاته إما أن يراد به أنه كان عادمًا لكمال كان يجب أن يكون له قبل حدوث المراد، أو يراد أنه عادم لما ليس كمالًا قبل وجوده؟

فإن كان المراد الثاني؛ فلا نقص؛ إذ البحث في كونه كمالًا قبل وجود الفعل، وإن كان الأول فباطل؛ إذ لا يلزم من فعله لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادمًا لشيء من الكمال الواجب قبل حدوث المراد، فإنه يمتنع أن يكون كمالًا قبل حدوثه.

الثاني: أن هذه الحكمة لم تحصل من شيء خارجي عنه، بل تلك الحكمة صفته القائمة به.

الثالث: أن الحكمة المقصودة بفعله سبحانه محبوبة له سبحانه مرادة، وإذا كانت كذلك؛ فحصولها هو الكمال في حقه، وعدمها نقص؛ إذ من كان قادرًا على تحصيل ما يحبه وفعله في الوقت الذي يحب على الوجه الذي يحب فهو الكامل حقًّا لا من لا محبوب له أو له محبوب لا يقدر على فعله.

الرابع: أن نفي الحكمة هو النقص لا أن إثباتها يستلزم نقصًا، لأن الحكمة كمال - كما تقدم - ولزوم النقص من انتفاء الحكم أظهر في العقول والفطر من لزوم النقص في إثبات ذلك.

(1)

نهاية الإقدام (404).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 577 - 584).

ص: 454

الخامس: أن هؤلاء يجوزون على الرب سبحانه فعل كل ممكن، حتى الأمر بالكفر والشرك ونسخ التوحيد، فإذا جازت هذه المرادات من غير أن يكون في إرادتها نقص، فجواز غيرها من باب أولى، وعليه فلا يلزم من كون الحكمة مرادة له نقص.

السادس: أن انتفاء الحكمة في الفعل الاختياري من الحي العالم ممتنع - كما تقدم -، وإنما يتصور هذا في حق زائل العقل بنوم أو جنون أو العابث، والرب سبحانه منزه عن ذلك.

وأما الشبهة الثانية فجوابها من وجوه كذلك

(1)

:

الأول: أن الحكمة يحذى بها حذو الفعل؛ فما جاز عليه جاز عليها، وما امتنع عليه امتنع عليها، فالفعل لا يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديمًا أو حادثًا، فإن أمكن أن يكون قديمًا؛ أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك، وإن كان حادثًا؛ كانت الحكمة كذلك.

الثاني: أن النفاة يقرون بقدم كونه مريدًا، ولا يلزم من هذا قدم الإرادة عندهم قدم المراد، فكذلك الحكمة لا يلزم من كونها قديمة قدم الفعل، إذ الباب واحد.

الثالث: أن أهل السنة يقولون: الله سبحانه يفعل لحكمة، وهذه الحكمة محبوبة له مرادة، ثم قد تكون مرادة لذاتها؛ فلا تسلسل، وإما أن تكون مرادة لغيرها، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لذاته قطعًا للتسلسل.

فالقول بتوقف العلة على علة أخرى ممنوع، إذ هو التسلسل الممتنع، وهو

(1)

انظر: شفاء العليل (2/ 586 - 593).

ص: 455

التسلسل في المؤثرين، يوضحه:

الرابع: أن التسلسل المذكور إما أن يكون التسلسل الممتنع، - وهو التسلسل في المؤثِّرين، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى نهاية -، وإما أن يكون التسلسل الجائز - وهو التسلسل في الآثار -، فإن كان جائزًا بطل الإلزام من أصله، وإن كان ممتنعًا فهو مدفوع بانتهاء المرادات إلى مراد لنفسه فينقطع التسلسل.

الخامس: أن نفي الحكمة يستلزم نفي الإرادة، إذ لا يعقل من كون المريد مريدًا إلا لحكمة وغاية، وإذا انتفت الإرادة لزم أن يكون موجبًا بالذات وعلة تامة لمعلوله في الأزل، فيلزم قدم الحوادث المشهودة، وهذا بيِّن البطلان.

وأما الشبهة الثالثة فجوابها من وجوه أيضًا

(1)

:

الأول: أنه لا يلزم من كون الفعل مقدورًا ممكنًا أن تكون الحكمة المقصودة بوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه، إذ وجود الملزوم بدون لازمه محال.

الثاني: أن دعوى العبث في توسط أحد الأمرين مطلقًا باطلة، إذ توسط الشرط أو السبب أو المادة التي يحدث منها ما يحدثه ليس بعبث بل هو الحكمة.

الثالث: أن قولهم بأن العبث على الله محال يستلزم إثبات الحكمة، لأن العابث من يفعل لا لحكمة ولا لمصلحة.

الرابع: أن يقال: هذه الوسائط إما أن تكون معللة بحكم أخرى فيها مصلحة للفاعل أو للوسائط؛ فليس توسطها حينئذ عبثًا، وإما أن تكون غير معللة بل مرادة لذاتها، ولا مانع يمنع من هذا، ولا يلزم من انتفاء التعليل في

(1)

انظر: شفاء العليل (2/ 593 - 598).

ص: 456

بعض الأفعال انتفاؤه في الجميع.

الخامس: أن غاية هذه الشبهة أنه قادر على تحصيل تلك الحكم بالوسائط وبدونها، وهذا لا ينافي الحكمة من وجهين:

أولًا: أنه إذا كان الأمران ممكنين في حقه سبحانه فإنما يكون العدول عن أحدهما إلى الآخر عبثًا إذا كانا متساويين من كل وجه، وهذا ما لا سبيل لإثباته، بل لا يمكن لعاقلٍ أن يقول به؛ إذ هو متضمن إنكار الأسباب، وهذا يعود على الشرع والقدر بالإبطال، لأن الأسباب محل الشرع والقدر - كما سيأتي -

(1)

.

ثانيًا: إذا كان الله قادرًا على الأمرين فالكمال فعل كلا الأمرين، فالرب لكماله قادر على تحقيق تلك الحكم بتوسط المخلوق المنفصل، وقادر على خلقها بدون توسط المخلوق، بل بما قام بنفسه من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لها.

وأما دعواهم أن لام التعليل في القرآن هي لام العاقبة؛ فباطل أيضًا من وجوه:

الأول: أن لام العاقبة ينزه الرب سبحانه عنها، فهو العليم القدير، ولام العاقبة لا تكون إلا من عاجز أو جاهل، أما الجاهل فمثاله آل فرعون في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] فهم جاهلون بمآل الأمر وثمرته عليهم، وأما العاجز فمثاله قول الشاعر

(2)

:

لِدُوا للموت وابنوا للخراب

فكلكم يصير إلى تباب

(1)

انظر ما يأتي ص (602) وما بعدها.

(2)

ديوان أبي العتاهية ص (46).

ص: 457

فهم عالمون بهذه العاقبة لكنهم عاجزون عن دفعها

(1)

.

الثاني: أن لام العاقبة لا يصح أن يكون الفاعل مريدًا للعاقبة فيها، والعبادة فيما مثلوا به من قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} مرادة بالاتفاق، فيمتنع على هذا أن تكون اللام فيها للعاقبة ويلزم أن تكون للغاية

(2)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 44)، وجامع المسائل (6/ 59)، وشفاء العليل (2/ 539).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 45)، وقد تتبع ابن القيم رحمه الله ما أوردوه من أمثلة ونقضها مثالًا مثالًا، انظر: شفاء العليل (2/ 540) وما بعدها.

ص: 458