المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

محمد علي مغربي أَعْلامُ الحِجَاز في القرن الرّابع عشْر للهجرة 1301 - - أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة - جـ ١

[محمد علي مغربي]

فهرس الكتاب

محمد علي مغربي

أَعْلامُ الحِجَاز في القرن الرّابع عشْر للهجرة

1301 -

1400 هـ

1883 -

1980 م

ص: 1

‌الجُزءُ الأوّل

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

النَّاشِر

تهامة

جَدّة - المملكة العربية السعودية

ص. ب 5455 - هاتف 6444444

ص: 5

‌مقدمة

الحمد لله الذى خلق الإنسان فسواه، وصوره فأحسن تصويره، ووهبه من الصفات والمزايا وفضله على سائر المخلوقات، وأرسل الأنبياء والرسل لهدايته وتقويمه، وجعل له الخلافة في الارض وأسبغ عليه من نعمه ما لا يحصيه العد ولا يصل إليه حد، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله وصفوته من الخلق سيدنا ونبينا محمد الذي أرسله الله هدى للعالمين ورحمة، والذى اصطفاه ورباه وقومه أحسن تقويم، فكان كما قال تعالى في وصفه "وإنك لعلى خلق عظيم" صلوات الله وسلامه عليه وعلى كافة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وبعد فهذه تراجم لبعض أعلام الرجال الذين عاصرتهم وقد انتقلوا جميعا إلى جوار ربهم وهم جميعا ممن ولدوا وتوفوا خلال القرن الرابع عشر الهجرى الذى نقترب من نهايته، وأغلب هؤلاء الرجال ممن اتصلت أسبابي بأسبابهم فعرفتهم عن قرب وخبرت من أمورهم ما قد يخفى على كثير من شباب الأمة ورجالها خاصة وأن الكثير ممن عاصرهم وعرفهم إما أن يكون قد لحق بهم أو أنه مثلي في الطريق إليهم، ورأيت أن من الخير التعريف بهم والتذكير بما كانوا عليه من كريم الصفات وما قاموا به من عمل نافع، على اختلاف وجوه هذه الإعمال التي يمكن أن تجتمع تحت كلمة (النفع العام) نعم فإن جميع هؤلاء الرجال الذين تحدثت عنهم كانوا قد وهبوا أنفسهم للخدمة العامة على اختلاف السبل، وتفاوت الدرجات، ولست أزعم أن هؤلاء الرجال قد سلموا من الشوائب، أو تبرأوا من النقص فهم بشرٌ كسائر

ص: 7

الناس ولكني رأيت أن صفات الخير قد غلبت عليهم، وأنهم تغلبوا على الانانية الفردية فوهبوا من نفوسهم واموالهم واوقاتهم للناس ما يجعلهم مثلا يحتذى وحديثا يتردد فهم من الصفوة التي تتخذ قدوة حسنة لمن يرغب السير في طريق الخير والنفع العام، كما أن من الواجب أن أوضح أن كلما كتبته عن هؤلاء الرجال هو تسجيل لذكرياتى عنهم وعن اعمالهم، فهذه التراجم ادخل في باب الذكريات منها في باب التراجم التي قد يتطلب فيها الكثير من التدقيق، كما أني أود أن أذكر أن هؤلاء الرجال الذين تحدثت عنهم لم يكونوا وحيدين في عصرهم وإنما كان لهم اخوة وزملاء لا شك أن الكثيرين منهم يستحق أن يكتب عنه ويشاد بذكره ولكنى إنما كتبت عمن أعرف ولعل غيرى من الاخوة الكتاب في كافة مدن للكلمة يكتب عن اعلام بلده ومن عرف منهم إحياء للذكريات الحسنة والاعمال الطيبه، ولا شك أن هذا أن تم فستكون هناك حصيلة طيبة لاعلام هذا القرن تكون سندا لمن يكتبون تاريخه ويسجلون وقائعه، فالتاريخ إنما يصنعه الرجال.

وهناك مسألة أخيرة أود أن أذكرها في ختام هذا الحديث لقد كتبت عن الأعلام الذين توفاهم الله والذين ولدوا وتوفوا خلال هذا القرن الرابع عشر الهجرى، ولم أتعرض للكتابة عن الأعلام الكثيرين الباقين على قيد الحياة والذين أسأل الله تعالى لهم حياة طيبة مديدة وعملا نافعا طيبا، فلا يخفى أن الكتابة عن الاحياء لا يمكن أن تتم بنفس الأسلوب الذى اتبعته في الكتابة عن ذكرياتى عن هؤلاء الرجال الذين انتقلوا إلى جوار ربهم وهو الأسلوب الخاص بالجانب الحسن من حياتهم لأن ذلك أن تم في حال الحياة ربما اعتبره البعض من أسباب التقرب إليهم وتطلب موداتهم، وليس هذا هو الغرض من كتابة هذه الذكريات بحال من الأحوال، ولا شك أن كل من يقوم بعمل نافع فسيلقى جزاءه في الدنيا ذكرا حسنا وفى الآخرة مثوبة وأجرا وإني لأرجو أن يتيسر لى الكتابة عن طائفة أخرى من الأعلام في وقت قريب والله المعين وعليه الاتكال.

محمد علي مغربي

ص: 8

أَعْلَامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 9

‌الشيخ أحمد الزهراء

لعله من المستحسن قبل الكلام عن ترجمة الشيخ أحمد الزهراء أن أوضح للقراء الكرام القاعدة التي اتبعها في الكتابة عن الرجال الذين عاصرتهم أو عاصرت أخبارهم وآثارهم، أن هذه القاعدة تتلخص عندى في أن تكون حياة صاحب الترجمة واعماله ذات نفع ملموس للمجتمع سواء أكان هذا النفع يتمثل في خدمة عامة أدَّاها للناس مضحيا بماله أو جهده في سبيلها أو كان في عمل حضارى قدمه لبلاده وإن كان قد أفاد هو منه ربحا وفيرا أو مالا كثيرا وليست القاعدة عندى في الكتابة عن الرجال هي الشهرة فحسب، فقد يكون الرجل جهير الاسم ذائع الصيت ولكنها شهرة لا تتصل بالنفع العام أو بخدمة الناس، قد تكون الشهرة بالطغيان مثلا في الثراء وفى ظلم الناس واضطهادهم والإساءة إليهم، ليست الشهرة أو ذيوع الصيت هي الدافع عندى في الكتابة عن أعلام الرجال وإنما الدافع هو ما أثمرته حياة هؤلاء الناس وجهودهم من نفع للناس واثراء للحياة نفسها في شتى المجالات، وبعد هذه المقدمة التي رأيتها ضرورية بين يدى هذه الترجمة بالذات نعود إلى صاحب الترجمة فنقول:

ص: 11

ضئيل الجسم أقرب إلى القصر، اصفر اللون، مغضن الوجه، كفيف البصر يرتدى القفطان والعمامة المصرية وهي طربوش داكن الحمرة له زرٌّ طويل اسود وتطوقه عمامه بيضاء وهذا الزيّ في مجموعه هو زيُّ العلماء المصريين ولا يزال سائدا حتى اليوم، وكان الشيخ أحمد الزهراء شديد البخل مضيقا على نفسه فلم يكن يرتدى سوى الملابس الصوفية الغليظة حتى في أيام الصيف الذى يشتد في مدينة جدة شدته المعروفة ولم تكن له زوجة أو خادم يقوم بشأنه ولم يكن له مطبخ في داره وإنما كان يأكل الغليظ من الطعام كالعيش والبصل والكرَّات، هذا حينما يأكل في داره ولقد كان يشترى الجواري فلا تقيم الواحدة منهن في داره إلا أياما ثم تطلب منه أن يبيعها لغيره فلم يكن يطيق العيش معه إنسان، وعلى ذكر الجواري فقد كان هناك سوق للرقيق في مدينة جدة وفى مكة المكرمة أيضا وكان الرقيق الذى يرد من الحبشة والسودان وأفريقيا بصورة عامة يعرض في هذه الأسواق وبقوم على شؤون هذه الأسواق باعة مشهورون أو دلَّالون على الأصح وأشهر دلَّالى الرقيق الذين ادركتهم في جده كان رجلا حضرميا اسمه حسن العامودى وقد اختفت هذه الأسواق بعد ذلك ولكن الرفيق كان يعرض للبيع في بيت حسن العامودى آنف الذكر وكان يذهب إليه المشترون لاختيار الجارية التي يرغبون شراءها وقد تؤخذ للدار لتجربتها لفترة يومين أو ثلاثة حتى إذا ثبت للمشترى صلاحها وخلوها من العيوب الصحية اشتراها وقد انتهت هذه التجارة اللا انسانية إلى غير رجعة حيما أصدرت الحكومة أوامرها بعتق الرفيق وتعويض أصحابه الاثمان التي دفعوها في شرائه وكان ذاك في عهد رئاسة المرحوم الملك فيصل للوزارة أثناء ولاية الملك سعود للعرش رحمهما الله، ومن ألطف ما اذكره عن تجارة الرقيق هذه أن كبيرا من اثرياء نجد كتب إلى صديق له في الحجاز يطلب منه شراء جوار لا يشربن الدخان وليس عليهن زيران، وشرب الدخان هو

ص: 12

استعمال السجاير كما هو معلوم أما الزيران فجمع زار وهذا الزار كان نوعا من أنواع الشعوذة التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجرى وكانت تمارس خفية في العهد السعودى وهي ادعاء بعض المشعوذين والمشعوذات شفاء الأمراض يعمل الزار أو ما يسمى النعيش وهو إقامة حفلات رقص يلبس فيها النساء ملابس الرجال ويتحدثن إلى صانعى الزيران والى الحاضرين بلغة بدوية صرفة وتذبح فيها الذبائح للجن والعفاريت والعياذ بالله وربما تكون هذه البدعة الوثنية وفدت إلى الحجاز من بعض البلاد المجاورة وقد انتهت هذه العادات السيئة التي تدخل مرتكبيها في أبواب من الشرك والعياذ بالله إلى غير رجعة فلم يعد لها أثر فيما أعلم والحمد لله، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ أحمد الزهراء فنقول أنه لم يكن يطيق العيش معه إنسان وهو على ما وصفنا من الضيق والتقتير على نفسه ومن معه، وكان الرجل إلى كل هذا طالب علم له حلقة للتدريس في مسجد الشافعي وهو أقدم مساجد جدة، وكان له تلامذة يحبونه ويخدمونه وكان الرجل مقرئا بل عالما بالقراءات السبع ومن أشهر المقرئين المجودين وكان الناس يدعونه إلى تلاوة القرآن في مآتمهم وفى ملحقات هذه المآتم إذا صحَّ هذا التعبير ذلك أن الناس كانوا يتمسكون بعادات كثيرة في الموت كادت الآن أن تنقرض، ولقد أدركت الناس إذا مات الميت حضر المعزون إلى المسجد المجاور لبيت المتوفى أو مسجد بعينونه فيصلون العصر ويتناول الواحد منهم جزءًا من القرآن فيتلوه حتى أذان المغرب فيعزوُّن أهل المتوفى ثم يصلون المغرب وينصرفون ثم تطورت هذه العادة فأصبحت تتم في بيت المتوفى بين المغرب والعشاء وبنفس الطريقة التي وصفناها فيحضر المعزُّون ويمسك كل واحد منهم جزءا من الصحف يتلوه حتى يحين موعد صلاة العشاء فيعزون وينصرفون وقد تطورت هذه العادة إلى ما هو متبع في الوقت الحاضر من حضور الناس بعد صلاة

ص: 13

المغرب لفترة بسيطة يستمعون فيها إلى تلاوة القرآن من المقرئين الذين يحضرهم أهل الميت ثم يعزُّون وينصرفون، وكان هناك إلى جانب الأيام الثلاثة للتعزية يوم العشرين والأربعين والحوْل فإذا مضت عشرون يوما على وفاة الميت أقام له أهله - العشرين - ويحضر في هذه الأثناء مقرئ واحد أو أكثر من الصباح فيقرأ القرآن على روح الميت إلى ما بعد الظهر حيث يحضر المدعوون من خاصة أهل المتوفى وأصدقائه فيستمعون إلى التلاوة ويتناولون الطعام ويقرأون الفاتحة على روح الميت ويدعون له بالمغفرة وينصرفون وبنفس الترتيب يقيمون حفل الأربعين بعد مضى أربعين يوما على وفاة الميت ثم حفل الحوْل وهو بعد مضى عام كامل على الوفاة، هذا علاوة على ما يتلى له من القرآن في شهر رمضان وكان يتولى هذه التلاوة صغار الأطفال ممن يحسنون القراءة والبعض كان يهتم بأمر هذه التلاوة لا في شهر رمضان وحده وإنما في رجب وشعبان كذلك قلنا وقد انتهت هذه العادات جميعها فلم يبق منها سوى ثلاثة أيام العزاء بين العشاءين.

نعود بعد هذا الاستطراد عن عادات الناس في أيام الوفاة إلى الشيخ أحمد الزهراء فنقول أنه كان من أبرز المقرئين في مدينة جدة ولهذا كان منشغلا في كثير من الأيام بتلاوة القرآن في المآتم وفى أيام العشرين والأربعين والحول كما أسلفنا وكان يتناول طعامه في كثير من الأيام في البيوت التي يدعى إليها، كما أن تلامذته كانوا يتحفونه بأطيب الطعام في بعض الأيام ويخدمونه ويقومون على تمريضه إذا مرض والله سبحانه وتعالى هو الذى يدبر الأمور بحكمته فيسخر لهذا الرجل الكفيف البخيل من يقوم على إصلاح أمره وتسيير شؤونه.

هذا وكان الشيخ كثير الوسواس فلم يكن على تمكنه من التجويد وحفظه للقرآن الكريم وحسن ترتيله بمستطيع أن يتولى الإمامة في المساجد وهي الوظيفة الطبيعية لأمثاله، لأنه كان كثير الوسوسة وكنت أراه في مسجد الشافعي وهو

ص: 14

ينوى للصلاة - صلاة النفل فأسمعه يقول الله الله الله الله أكبر وما هي إلا ثوان ثم يعود لتكبيرة الإحرام بنفس الأسلوب السابق يكرر النطق بلفظ الجلالة مرات ومرات حتى يستقيم له الدخول في الصلاة، ولكن الرجل لم يكن بحاجة إلى الإمامة لأن موارده من المآتم وتلاوة القرآن كانت كبيرة في ذلك الزمان لا ينفق منها شيئا وقد أخذ نفسه بهذه الحياة الضيقة الشديدة وقد تجمعت لديه ثروة كبيرة هيأت له أن يشترى ثلاثة بيوت من أشهر بيوت جدة أولها في منطقة باب مكة مما يلى سوق البدو وكان يسكن في جزء منه ويؤجر الأجزاء الباقية وهي كثيرة للمستأجرين ويتسلم الغلة فيضيفها إلى ما يكنزه من مال والبيتان الآخران وكان يطلق عليها اسم بيوت الشرايبى على ما أذكر وهما يقعان الآن في قلب شارع الملك عبد العزيز في وسط شارع الأشراف بين شارع الملك عبد العزيز والسوق الكبير وكانت هذه المنطفة قبل تعمير شارع الملك عبد العزيز تسمى باب الصبَّة وهو باب يؤدى إلى البحر وكان هذا الباب من داخل سور مدينة جدة الموازى للبحر وكان هذا الباب فيه حرس للجمارك وتخرج منه العربات المحملة بالأرزاق ولعل معنى الاسم أنه الباب الذى تنصب منه البضائع إلى المدينة أو لعل له تعليلا آخر يعرفه المعمرون من أهل جدة أو المهتمون بتاريخها.

لقد كان شراء الشيخ أحمد الزهراء لهذه البيوت الكبيرة في مدينة جدة حديث الناس في ذاك الزمان فكانوا يعجبون لهذا المقرئ الأعمى الذى كان مجمع القرش إلى القرش والريال إلى الريال والدينار إلى الدينار ثم يشترى البيوت الشهيرة التي تعرض للبيع ولست أشك أن كثيرا من التجار كانوا يرغبون في شراء هذه البيوت أو واحد منها على الأقل فجميعها تقع في مناطق تجارية ولكن التجار كانوا لا يفكرون كثيرا في شراء أمثال هذه البيوت إذا لم تكن لهم حاجة ضرورية إليها لأنها تجمِّد المال السائل الذى يتعاملون به في تجاراتهم ولم يكن في

ص: 15

البلاد بنك واحد حتى يتعامل معه الناس أو يقترضوا منه وكانت العملة السائدة هي الجنيهات الذهبية بنوعيها العثماني والإنجليزى ثم الدينار الهاشمى والسعودى والريالات المجيدية أولا ثم الهاشمية والسعودية فما بعد ولم تكن أوراق البنكنوت بالعملة الرائجة إلا في مواسم الحج يشتريها الصرافون من الحجاج حيما يقدمون ويبدلونها لهم بالعملة المحلية ثم يبيعونها للحجاج حينما يعودون إلى بلادهم بأسعار أقل ويستفيدون الفرق بين السعرين وكانت أغلب العملات التي ترد مع الحجاج عملات فضية كالروبيات الجاوية والهندية وقد رأيت التجار يشترون الروبيات الهندية خاصة ثم يصدرونها إلى عدن أو إلى الهند وبعد ذاك كثر التعامل بأوراق البنكنوت فأصبح الناس يفضلون التعامل بها لأنها أخف حملا وأسهل حفظا وباستثناء البنك العثماني الذي افتتح فرعا له في مدينة جده في العهد الهاشمى ثم في أوائل العهد السعودى ولم يستمر طويلا كان أول بنك أسس في المملكة هو الشركة التجارية الهولندية وكان الصرافون يشترون العملات المختلفة ويبيعونها له ويقوم هو بتصديرها إلى الخارج عن طريق قسم الحوالات والطرود بالبريد في ظروف كبيرة مختومة بالشمع الأحمر ومؤمن عليها ويزن الواحد منها ألفى غرام.

نعود بعد هذا الاستطراد عن العملات الأجنبية فنقول أن شراء المتن أحمد الزهراء لهذه البيوت كان حديث الناس والتجار منهم خاصة في مدينة جدة لأن هذا القرئ الأعمى استطاع أن مجمع هذا المال الكثير الذي يشترى به هذه البيوت الكبيرة في مدينة جدة عبر سنوات طويلة من التقتير على نفسه والتضييق عليها ولكن المفاجأة العظمى التي فاجأ بها الشيخ أحمد الزهراء الناس جميعا هي أنه وهب هذه البيوت الثلاثة إلى مدارس الفلاح وأوقفها عليها فختم الرجل حياته أحسن ختام إذ تنازل عن ثروته الكبيرة التي جمعها خلال سنوات عمره الطويل من التضييق على نفسه لعمل من أنبل الأعمال وأجلها فوهب ثمرة سعيه في هذه

ص: 16

الحياة لتصرف على العلم والتعليم ممثلة في مدارس الفلاح التي كانت رائدة التعليم في ذاك الزمان وهكذا استحق الشيخ أحمد الزهراء أن يسجل اسمه بين أعلام الرجال في عصره بهذه الهبة العظيمة التي لم يقدم عليها أثرياء عصره فكان بها فريد العصر وواحد الزمان.

ولقد توفي الشيخ أحمد الزهراء في منتصف القرن الرابع عشر الهجرى عن عمر يناهز الثمانين عاما تغمده الله برحمته الواسعة وتقبل منه عمله الطيب العظيم.

ص: 17

أحمد صالح قنديل

ص: 18

‌أحْمَد صَالح قَنْدِيل

معتدل القامة أقرب إلى القصر، أسمر اللون شديد السمرة، ممتلئ الجسم واسع العينين، ذكي لماح، خفيف الظل، مرسل الشعر في غير إسراف، كان في مطلع شبابه يرتدى الكوفية الحجازية والشال وهو ما يستعمل للاعتمام وكان من أنواع كثيرة ترد من الشام وبعد أن التحق بوظائف الدولة أصبح يرتدى العباءة والعقال، ولد بمدينة جدة فما أقدر في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات من القرن الهجرى وتلقى تعليمه في مدرسة الفلاح وبعد تخرجه منها عمل بها أستاذا.

وقد أدركته وهو أستاذ بالمدرسة التحضيرية في الفلاح، والتى كانت تسمى المجتمع وهو البيت الذى أنشأه المرحوم الحاج محمد على زينل مؤسس الفلاح ليكون مقرا للاجتماعات الخاصة بالمدرسة ثم تحول إلى مدرسة تحضيرية تابعة لمدرسة الفلاح، وهو منفصل عن مبانى الفلاح الحالية وقد تخرب فلم تمتد إليه يد الإصلاح وأخشى أن يكون قد اندثر أو هو في طريقه إلى الاندثار، ثم عمل أستاذا بمدرسة الفلاح الكبرى واستمر يعمل فيها لسنوات طوال إلى أن انتقل إلى مكة رئيسا لتحرير جريدة صوت الحجاز عام 1355 هـ بترشيح من صديقه

ص: 19

المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة لدى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان رئيس الشركة العربية للطبع والنشر.

‌قنديْل وَحَمْزة شحَاته

وكان الأستاذ أحمد قنديل ينشر شعره في صوت الحجاز بتوقيع الصوت الحساس وقد استرعى هذا التوقيع انتباه الأستاذ حمزة شحاتة فسألنى أن كنت أعرف هذا الشاعر الذى بدأت بواكيره الطيبة منذ القصائد الأولى التي نشرتها له صوت الحجاز فقلت أنه الأستاذ أحمد قنديل وهو مدرس بمدرسة الفلاح وأعرفه منذ أن كنت تلميذا بها وكان هو في الفصول الأخيرة ثم أستاذا بالمدرسة المذكورة، وطلب منى الأستاذ حمزة أن أجمعه بالقنديل بل وأعرفه عليه وكان شحاتة يومها أديبا جهيرا وشخصية مرموقه فاتصلت بالقنديل رحمه الله وأعربت له عن إعجاب الأستاذ حمزة بما ينشره من شعر وضربت له موعدا للاجتماع بالأستاذ حمزة في - مربعة الجمجوم - وهو مبنى كان يومها خارج مدينة جدة بالعمارية قريبا من مقبرة حواء، كان قد بناه المرحوم الشيخ محمد أنيس جمجوم، وكان هذا المبنى الخلوى الذى يسمى مربعة أشبه ما يكون بنادٍ مجتمع فيه آل جمجوم وأصدقاؤهم عصر كل يوم وصدرا من الليل، وكنت والأستاذ حمزة شحاتة من رواد هذا المجتمع الجمجومى كل أصيل ونحن جميعا في مطلع الشباب في أوائل الخمسينات من هذا القرن وقد استمرت صلة القنديل بالأستاذ شحاتة منذ ذلك الوقت وإلى أن توفى الأستاذ حمزة شحاتة باستثناء فترة ليست بالطويلة حدث بينهما من الجفوة ما أوقف هذه الصلة ولكن هذا التوقف لم يستمر فعادت صلتهما إلى ما كانت عليه من قبل يرحمهما الله.

ص: 20

‌البَوَاكير الأُولى

لقد ذكرت أن بواكير شعر القنديل الأولى في الخمسينات كانت تبشر بميلاد شاعر كبير وأود أن اذكر أن اغلب من عرفت من الشعراء والكتاب الموهوبين كانت بواكيرهم الأولى تنبئ عن نهاياتهم العظيمة، ولعل الشاعر أو الكاتب الاصيل تولد معه الموهبة فإذا استطاع التعبير ظهرت بذور هذه الموهبة في بواكيره الأولى وما تلبث هذه الوهبة أن تتمكن وتتجلى بالدراسة والتجاريب.

‌عَودُ عَلى بدء

نعود بعد هذا الاستطراد إلى ترجمة حياة الأستاذ قنديل فنقول أنه عمل رئيسا لتحرير صوت الحجاز وانتقل بعمله هذا إلى مكة المكرمة وكانت فترة رئاسة تحرير القنديل لصوت الحجاز من الفترات الخصيبة في تاريخها فقد افسح صدر الجريدة لمقالات الكتاب وقصائد الشعراء كما أنه عين المرحوم الأستاذ عبد الله المزروع - والد الدكتور المزروع - مخبرا صحفيا يوافيه بالأخبار الداخلية وخاصة الأخبار الحكومية وخلال رئاسته لصوت الحجاز نظم قصائده الأولى من الشعر (الحلمنتيشي) وهو الشعر الذى تختلط فيه العربية بالعامية وكانت صحيفة صوت الحجاز مجال النشر لقصائده الأولى من هذا الشعر وقد استمر القنديل رئيسا لتحرير صوت الحجاز من 4 شعبان سنة 1355 هـ إلى 12 جمادى الأولى سنة 1356 هـ وقد أقصى عن صوت الحجاز بعد أن نشر قصيدة أسيئ تفسيرها بتوقيع رمزى وحملها المرحوم الدكتور محمد على الشواف إلى صاحب السمو الملكى الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك - جلالة الملك فيصل فما بعد - وقد أصدر سموه أمره بإيقاف الشاعر وإقصائه عن الجريدة ثم تبين أن الشاعر هو رئيس

ص: 21

التحرير نفسه ولم تمض أيام طويلة حتى فاء سموه إلى الرضا وأفرج عنه فعاد إلى مدينة جدة مسقط رأسه مرة أخرى وعمل فترة في مكتب رئيس وكلاء مطوفى الجاوه - الأندنوسيين - الشيخ محمد نور جوخدار رحمه الله ثم انتقل مرة أخرى للعمل في مكة المكرمة في ديوان التحرير بوزارة المالية زميلا للأساتذة عبد الوهاب آشى ومحمد حسن فقى ومحمد حسن كتبى ثم عين رئيسا لمصلحة أملاك الدولة بوزارة بالمالية وكانت تتخلل ما بين هذه الوظائف فترات تعطل ثم عين أخيرا مديرا لإدارة الحج بجدة في أول تأسيسها وكان أول مدير عام للحج هو الشيخ محمد صالح قزاز مد الله في عمره وكان مركزه في مكة المكرمة وبعد انتداب الشيخ محمد صالح قزاز للعمل في توسعة الحرم المدنى لانتقاله إلى المدينة المنورة .. أصبح الأستاذ أحمد قنديل مديرا عاما لإدارة الحج بجدة ثم أحيل إلى التقاعد وهاجر إلى مصر لبضع سنوات افتتح خلالها مكتبا تجاريا له بالاشتراك مع الأستاذ رشاد برنجى واحد أصدقائهما من المصريين ثم عاد مرة أخرى إلى الحجاز وما لبث أن هاجر مرة أخرى إلى بيروت، وفى بيروت تفرغ للانتاج الفنى للاذاعة والتليفزيون وعكف على طبع مؤلفاته عن جدة ودواوينه الشعرية الكثيرة وبعد أن اندلعت الحرب الأهلية في بيروت عاد مرة أخرى إلى جده وكان يسافر بين الفينة والأخرى إلى القاهرة لموالاة أعماله الفنية سواء في طبع مؤلفاته أو لعرض أعماله الفنية في الاذاعة والتليفزيون إلى أن توفاه الله تعالى وهو يكتب الحلقة الأخيرة من قناديل رمضان لعام 1399 هـ في صباح الجمعة 12 شعبان 1399 هـ

‌الشِّعُر الضَّاحِك

تميز الأستاذ أحمد قنديل رحمه الله إلى جانب إبداعه الشعرى ومكانته في الكتابة والأدب بشعره الضاحك الذى كان ينشر مقطوعة منه كل صباح في

ص: 22

جريدة البلاد أولا ثم في جريدة عكاظ تحت عنوان (قناديل)، ثم أصبح يستعمل هذا النوع الضاحك ولكن في أسلوب نثرى وكان ينشر في الأعوام الأخيرة في جريدة البلاد بعنوان قناديل ملونة وهذه القناديل الشعرية خاصة كانت سبب شهرته على المستوى الشعبى وفد خلقت منه شاعرا شعبيا محبوبا يتحدت عنه الناس في طول البلاد وعرضها كما خلقت له قراء كثيرين يتابعون ما ينشر له في كل يوم ويتفكهون به ويتحدثون عنه في مجالسهم ومنتدياتهم وللتاريخ فإني سأورد هنا بداية القنديل في هذا الشعر الضاحك فأقول.

‌الأُسْتَاذ حُسَين شفيق المصْري ومجَلّة الفكَاهة

كانت دار الهلال في القاهرة تصدر مجلة أسبوعية اسمها (الفكاهة) وهي مجلة فكاهية كما يدل عليه اسمها وكان يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ حسين شفيق المصرى وهو شاعر مجيد وزجال مصرى معروف، وكان الأستاذ حسين شفيق فيما أعرف هو أول من نشر الشعر الضاحك في أسلوب عامى ولكن هذا الشعر العامى كان يحتفظ بالوزن والقافيه، وكانت الطريقة أنه يفتتح القصيدة بمطلع قصيدة من عيون الشعر العربى القديم ثم ينسج على منوالها كلاما موزونا مقفى تختلط فيه العامية بالعربية الفصحى وكانت مواضيع هذا الشعر دائما انتقادية ولكنها في أسلوب فكاهى مقبول، وكنا نجتمع في مكة المكرمة الأستاذ حمزة شحاتة وأحمد قنديل رحمهما الله وأنا وكان الوقت صيفا وكنا نهرب من حر مكة اللاهب إلى اطراف الشهداء وكان في موضع مكاتب وقراج الشركة العربية للسيارات بالزاهر مقهى لرجل اسمه العم حمزة وكان العمران في مكة ينتهى عند قشلة جرول وكانت الأرض بعدها خلاء وكنا نجئ إلى هذا المقهى مع الغروب ونتسامر صدرا من الليل ونتناول عشاء خفيفا ثم يأوى كل منا إلى فراشه الذى كان يحفظ في

ص: 23

داخل المقهى والذى يحضره لنا العم حمزة مع ابتداء الظلمة وكنا نتخذ من كراسى المقهى العادية الطويلة سررا ننام عليها تحت السماء، وذات ليلة جاء ذكر هذا الشعر الفكاهى، وكان حسين شفيق المصرى يطلق عليه اسم الشعر (الحلمنتيشى) نقول جاء ذكر هذا الشعر (الحلمنتيشى) فسأل الأستاذ شحاتة الأستاذ قنديل أن كان يستطيع النظم على هذا النسق فأجابه بالإيجاب وفى اليوم التالى بدأت المحاولات الأولى للقنديل في هذا الشعر وكانت موفقة جدا وما هي إلا فترة بسيطة حتى بدأ القنديل في نشرها في صوت الحجاز فترة بعد أخرى ووجدت صدى شعبيا واسعا واستقبالا حسنا من جميع القراء خاصة وإن (قنديل) رحمه الله تحاشى العامية المصرية التي كان حسين شفيق المصرى ولجأ إلى العامية الحجازية ثم توسع فيها وخلطها بالعامية النجدية فيها بعد ومن هذه القصائد التي لا تزال عالقة بالذاكرة ما نشره القنديل في صوت الحجاز والمطلع لقصيدة مشهورة لابن الفارض:

غيرى على السلوان قادر

وسواى في العشاق غادر

لى في الصباح فطيرة

والبيض أليق بالفطائر

وهناك قصيدة أخرى والمطلع كذلك لشاعر قديم:

صاح في العاشقين يالكنانه

رِشَأُ في الفؤاد منه كنانه

شِمْرِقِيٌّ مكحل ومُحَنّى

حامل في يمينه خيزرانه

هذه هي البدايات الأولى لهذا الشعر الضاحك وكانت القصيدة تنشر طويلة وليست مقطوعة صغيرة كما صارت إليه القناديل أخيرا ولكن النشر لم يكن يوميا كما هو الحال مع القناديل اليومية وإنما كان اسبوعيا أو أكثر من اسبوعى وآخر ما

ص: 24

نظمه قنديل في هذا المجال الغزاوية الأخيرة وهي قصيدة ألقاها في الجلسة الختامية للمؤتمر الأول للأدباء السعوديين وصف فيها الأدباء القدامى والمحدثين ودعا فيها إلى تكريم شيخ شعراء مكة الأستاذ أحمد إبراهيم الغزاوى مدَّ الله في حياته وقد قوبلت بالاستحسان وقوطعت بالتصفيق وهي تمثل شعر قنديل الضاحك وقد نشرت بالمجلد الأول عن بحوث المؤتمر الأول للأدباء السعوديين كاملة فليرجع إليها من رغب الاطلاع عليها.

‌حَمْزة شحاتة وَالشِّعر الضَاحِك

ولعل معظم القراء بل والأدباء لا يعرفون أن المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة كان ينظم هذا الشعر ولكنه لم يستمر عليه وإنما نظمه مرة واحدة أو مرتين وله قصيدة جميلة أذكر بعض أبياتها فيما بعد وهذه القصيدة لها قصة لا بأس من إيرادها فقد عُلم إن العراق سيرسل بعثة كشافة إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة ولعل ذلك في زمن الحج وارادت الحكومة أن تكرم كشافة العراق فأعدت لهم برنامجا حافلا كان من ضمنه إقامة حفل تكربم لهم في جدة وتولى الأخ الشيخ محمد عبد الله رضا يومها أمر ترتيب هذا الحفل الشعبى فأرسل دعوة إلى شباب مدينة جدة للحضور إلى منزله ودعاهم للتبرع لإِقامة هذا الحفل ولكن المرحوم حمزة شحاتة لم يدع إلى هذا الاجتماع مع أننا كنا جميعا على علم بالحفل الذى كان سيقام في بيت نصيف وكان صديقنا المرحوم الأستاذ حسين محمد نصيف - مؤلف كتاب ماضى الحجاز وحاضره - يخبرنا يوميا عن هذا الحفل ويحثنا على الحضور فيه وغضب حمزة لعدم دعوته من قبل الشيخ محمد عبد الله رضا فأنشأ قصيدة ضاحكة صور فيها ما وقع من المجتمعين للتبرع في أسلوب ضاحك جميل والقصيدة أخذ مطلعها من قصيدة أبي تمام الشهيرة:

ص: 25

بسيفك يعلو الحق والحق أغلب

ويضرب سيف الله أيان تضرب

وبالأمس قد أرسلت حِتَّة دعوة

إلى فتية بالصالحات تحزبوا

فلم تك إلا ساعةً أو دقيقةً

تجازوْا سراعًا بعدها وتكركبوا

ومنها يصف ملابسات التبرعات:

فجاء فتى منهم جرئ حَجَنْجَلٌ

فجاد بربع ريال فانبروا وتعجبوا

وقال استحي ياسى فلانٍ فإنه

قليل ومن يكتب قليلا يُؤَنَّب

فقال لهم ليس نسبتى تقتضى كدا؟

فإن راقكم قولى وإلَّا فأحْسِبُوا

فبان حماسٌ فوقَ وَجْه زعيمهم

فسجَّل عشرينًا وقد كاد يغضب

والقصة أن المرحوم الأستاذ محمد لارى - والد الأستاذ رضا محمد لارى - كان من ضمن من حضروا الاجتماع فجاد بربع ريال فقال المجتمعون أنه قليل فقال لهم أنه ليس قليلا بالنسبة لما تبرع به الشيخ محمد رضا فتحمَّس الداعى وسجل عشرين ريالا أخرى وسواء أكانت القصة حقيقيةً أم من خيال الأستاذ حمزة شحاتة رحمه الله، وأغلب الظن أنها حقيقة فإن محمد لارى كان معروفا بالجرأة، فإن ايرادها على هذا النحو في هذا الشعر الضاحك كان مناسبة يتفكه بها مجتمع الشباب بل مجتمع جدة كلها فكاهة تخلو من الحرج والبذاء.

‌عَودَةُ القنَاديل

نعود بعد هذا الاستطراد إلى القناديل التي توسع فيها الأستاذ أحمد قنديل وطورها إلى أن صارت إلى ما يعرفه جميع القراء فنقول أن الأسلوب الذى بدأ به قنديل هذا الشعر الضاحك ربما كان أحبَّ إلى الأدباء من القراء لأنه لم يسرف في استعمال اللفظ العامى كما هو الحال بالنسبة للمناديل ولكن جوهر الفكرة واحد وهو النقد الاجتماعى وأذكر أن قنديلا رحمه الله أراد أن يصدر المجموعة الأولى من

ص: 26

شعره الأصيل فعهد إلى الأستاذ حمزة شحاتة رحمه الله أن يكتب مقدمة لهذه المجموعة، كما أنه حينما أراد إصدار المجموعة الأولى من شعره الفكاهى طلب منى كتابة مقدمة لها واذكر أني كتبت في تقديم هذه المجموعة ولعل اسمها المركاز ما معناه: -

"إذا كان هذا الشعر الفكاهى لا يدخل التاريخ من باب الأدب والشعر فإنه يدخل التاريخ من أوسع أبوابه كفنِّ يصور الحياة الاجتماعية في هذه البلاد في أسلوب ساخر ضاحك فهو يتحدث عن أمور يعانى منها كل فرد - ولا تخلو حياة أى مجتمع من المعاناة - مما يتصل بحياته اليومية في مختلف وجوه هذه الحياة في داخل المنزل، أو في خارجه في السوق، في المدرسة، وفى الدائرة الحكومية، في البيع والشراء، في السفر والإقامة، في متطلبات الحياة اليومية ومشاكلها، وسيعود المؤرخون إلى هذا الشعر الساخر ليجدوا فيه مادة تصف الحياة بل تصف كثيرا من دقائقها وأدوائها مما ينطوى مع الزمن ويتغير مع الأيام" انتهى معنى ما كتبته لهذه المقدمة التي لم يكتب لها النشر فقد عدل قنديل رحمه الله عن نشر الكتابين بالمقدمات التي طلب من أصدقائه كتابتها وعلمت أنه فضَّل أن يقابل القراءُ مؤلفاته دون تقديم وهو رأى له وجاهته على أي حال.

أقول أن هذا الذى كتبته عن هذا الشعر قبل أربعين عاما لا يزال يمثل رأيى في هذا الشعر أو هذا الفن على الأصح فإن هذا الشعر العامى لا يمكن أن يدخل التاريخ الشعر رفيع ولكنه يدخل من أوسع أبواب التاريخ كفن يمثل الحياة الاجتماعية ومشاكلها وكفن يمقل النقد الفنى للحياة إذا جاز هذا الوصف وما تحفل به من مفارقات ومشكلات، وقنديل غنيٌّ بتسعره البدع الأصيل وبفنه الرائع الذى يتجلى في مؤلفاته الشعرية الكثيرة عن إضافة هذه القناديل إلى سعره

ص: 27

الأصيل، إنها فن مستقل يمثل الناحية الشعبية في قنديل والتى سنتحدث عنها فيما يلى.

‌شَعبيَّة أحْمَد قنديل

الأستاذ أحمد قنديل رحمه الله كان شعبيا بالمعنى الدقيق للكلمة أو ابن بلد كما يقول العامة من الناس ولا غرو في ذلك فقد ولد في بيئة شعبية وبيت قنديل الذى ولد ونشأ فيه في العلوى من محلة اليمن - كان من منازل جدة القديمة وكان آل قنديل جميعا يسكنون فيه وكان قنديل رحمه الله يسميه القرية لكثرة من يسكنه من آل قنديل والبيت يقع في قلب حى شعبى مشهور يحيط به سوق العلوى المشهور والمؤدى إلى باب مكة وتحف به بيوت شعبية للطبقة الوسطى من المجتمع التي عاش قنديل بينها والتى عبر عنها في شعره الفكاهى أصدق وأجمل تعبير - ولقد كان أبوه الشيخ صالح قنديل رحمه الله مدرسا للقرآن في الصفوف الأولى من مدرسة الفلاح كما كان من أشهر المقرئين والمأذونين وكان رجلا ظريفا سريع النكتة حاضر البديهة أنيس المجلس وقد أخذ عنه ابنه قنديل هذا الظرف، كما أن سقيقه الأكبر يوسف قنديل كان ظريفا عفويا في كلامه وتصرفاته وكان محبوبا من أصدقائه الكثيرين وقد نشأ قنديل في هذه البيئة الضاحكة وكان اتصاله بالصحف والكتابة فيها وانتقاله إلى مكة أحدث له شهرة في هذه البيئة الشعبية فكان الجميع يطلقون عليه لقب الأستاذ، فإذا قيل الأستاذ فهو أحمد قنديل وهو عند أصدقائه الخُلَّص - قنديل وكفى - وقد احتفظ قنديل بشعبيته هذه طيلة حياته واتخذ منها مادة لفنه الشعرى الضاحك وهذه الشعبية تتجلى في كل شئ في وصف المكان والزمان واللهجة الخاص والشعبية واصطلاحاتها والمقارنة بينها وبين الحاضر، وبين يدى الآن قصيدته الغزاوية

ص: 28

التي أسلفت الحديث عنها انقل منها بعض الأبيات فهي أبلغ في وصف هذه المادة الشعبية من كل تعبير:

وقد تعجب من حالى بلا سبب

الباب والعقب والروشان والقفف

كما تطلَّع نحوى زاغرا ابدا

في سقفه القندل المرصوص والحَصف

ومنها:

وكل تمشيتى - بولطا - أقوم بها

فوق السطوح يوازينى بها الطنف

ومنها:

بردان ففضفت من ظهرى وفى ركبى

شئ إذا غزها من جلستى اقف

وليس هذا مجال الإطالة في الاقتباس فإن كل أبيات هذا الشعر الضاحك

تمثل الشعبية الصميمة التي تتجلى في كل كلماته ومقاطعه.

‌شِعر الأَفْرَاح

ولعل القراء لا يعرفون أن "قنديلا" كان ينظم الشعر للمنشدين الذين جرت العاده بحضورهم احتفالات العرس "فكانوا جميعا يلجأون إليه لينظم لهم الشعر الذى يلقونه في هذه الحفلات والذى يجب أن يتضمن اسم العريس واسم آل العروسين والذى يلقى حين خروج العريس من داره بصحبة المأذون والرجال الذين يصاحبونه فيقف المنشد ويحييه ويهنئه بما هو مقدم عليه، فإِذا وصل الموكب إلى دار العروس وقف الجميع في فناء الدار وألقى المنشد مقطوعة أخرى يحيى فيها العريس ولا بد من نخية أهل العروس كذاك بذكر اسم اسرتهم واسم أسرة العريس، وبعد انتهاء حفل العقد يلقى المنشد تحيته الأخيرة للعروسين وآلهما وكان المنشدون في جدة يلجأون وخاصة في حفلات العرس الكبيرة إلى قنديل

ص: 29

رحمه الله فينظم لهم المقطوعات المطلوبة من الشعر الفصيح متضمنة اسم العريس وأسماء آل العروسين ولم يكن يتقاضى منهم مقابل ذاك شيئا وإنما يفعله بدافع من صداقته لهم وهذه العادة لا تزال باقية إلى اليوم ولكنها في نطاق ضيق جدا وفى بعض الأعراس الكبيرة التي يحرص أصحابها على إحياء هذه العادات القديمة.

‌القناديل وَالنَقْد

يتميز شعر القناديل بالنقد الساخر وهو النقد لأوجه الحياة اليومية التي يعانى منها الناس ولا يملكون شيئا لتغييرها أو إصلاحها والقارئ اليومى للقناديل كان يرى فيها تعبيرا عما يشعر به أو يشكو منه ولكن في أسلوب ضاحك ساخر ولهذا لقيت نجاحا على المستوى الشعبى لأنها كانت تعبيرا واقعيا عن الحياة اليومية في أسلوب ساخر ينفس به الناس عن شعورهم إزاء ما يحسون به من ضيق وقد شمل هذا التعبير كل أوجه الحياة - تعطيل المعاملات، زحمة المرور، تعطيل الكهرباء، انقطاع الماء، غلاء الأسعار، تخريب الشوارع، كثرة الأجانب - وقل ما شئت من مظاهر الحياة اليومية فستجدها واردة في القناديل ولهذا أحبهما الناس وقرأوها وتحدثوا عنها في كل يوم وهذه القناديل أو هذا الفن الضاحك هو ما امتاز به قنديل من بين أدباء جيله فكان له هذا الصدى الشعبى الواسع الذى جعله بحق أديبًا شعبيا راسخ القدم، ثابت البنيان وكان إذا ألقى قصيدة من شعره الضاحك قوبلت بالاستعادة والاستحسان والتصفيق وعلى ذكر الإلقاء أذكر هنا أن "قنديلا" رحمه الله في بدء حياته الأدبية لم يكن يرغب في إلقاء شعره ويفضل أن يلقيه غيره ممن يحسنون الإلقاء أو ممن اشتهروا بذاك ولكنه ما لبث أن اكتشف في نفسه موهبة الإلقاء ولذالك قصة نذكرها للتاريخ.

ص: 30

‌قنْديل وَإِلقاءُ الشِّعر

أقامت السفارة اللبنانية في جدة حفل تكريم لمعالى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان قدم له فيها القائم بأعمال السفارة اللبنانية السيد أسعد الأسعد في ذاك الوقت، الأمين الساعد للجامعة العربية حاليا - قدم له فيها وسام الأرز من درجة فارس على ما أذكر وطلب منى المرحوم الشيخ محمد سرور إلقاء كلمة الشكر نيابة عنه، وحضر قنديل رحمه الله وقد اكتمل المدعوون وبدأت فقرات الحفل بخطاب السيد أسعد الأسعد فوقف إلى جانبى وقال لقد أعددت قصيدة لهذه المناسبة وأريدك أن تلقيها نيابة عنى قلت أنى سألقى كلمة الشكر نيابة عن الشيخ محمد سرور وقال وما العمل قلت قصيدتك أنت ولا يلقيها غيرك.

وهكذا كان وقد قوبلت القصيدة يومها أحسن استقبال وانطلق بعدها قنديل بلقى شعره بنفسه وهو خير من يلقيه بلا مراء.

‌قنْديل الشّاعِر

لقد أطلنا الحديث عن فن قنديل الضاحك الذى تختلط فيه العامية بالفصحى والذى تحول إلى القناديل اليومية وآن لنا أن نتحدث قليلا عن أحمد قنديلا الشاعر العربى الأصيل.

أحمد قنديل شاعر مبدع ظهر إبداعه من القصائد الأولى والتى نشرت له في صوت الحجاز في الخمسينات وقد نظم في جميع فنون الشعر شعرا جيدا موزونا وتميز عن كثير من أدباء جيله بأنه كان يوالى النظم والكتابة كما يوالى النشر إما في الصحف أو في دواوين خاصة بكل مجموعة شعرية وأمامى الآن خمس من

ص: 31

مجموعات هذا الشعر هي: اللوحات، أوراقى الصفراء، شمعتى تكفى، قاطع الطريق، الراعى والمطر، ولا شك أن له مجموعات أخرى لم أذكرها وليست هذه الترجمة دراسة لشعر أحمد قنديل وإنما هي تصوير لحياته التي تميزت بالشعر فليس الاستقصاء من متطلبات هذه الترجمة وإنما هو مطلب الدراسة الكاملة لشعر أحمد قنديل وعطائه وسأورد بعض أبيات من هذه المجموعات دون اختيار للتعبير عن مكانته في الشعر الأصيل ..

"أيها العاشق لاقى ما لقينا واصطبر

نحن كنا آية في الحب تتلى في حذر

يوم عشنا خفقة في القلب رنَّتْ كوتر

إنما اليوم غدونا مثلما شاء القدر"

ويقول في قصيدة أخرى: -

ودعت أيام الشباب تفيأت

زهراتها ظل الشباب الأملد

رفرافة الأوراق حيتها الصّبا

باللمس بين تَوُجِّدٍ وتَوَدِّدِ

ممتدة الأعراض طاب غراسها

في السفح في الأغوار لم تتأبد

رفَّت على الأغصان ناكحة الشذى

سفرا تنهد بغية المتنهد

والقارئ لمجموعات القنديل الشعرية يجدها حافلة بالصور فياضة بوهج العاطفة التي هي جوهر الشعر كله وبعض مجموعات القنديل تمثل موضوعات معينة مثل الراعى والمطر وقاطع الطريق ولا شك أن هذا العطاء الكثير ليستحق دراسة جادة شاملة متأنية تضع القنديل في مكانه الصحيح لا بين شعراء المملكة فحسب وإنما بين شعراء العرب جميعا في هذا العصر.

ص: 32

‌مَكّة المكرّمَة في الشِّعْر

لقنديل قصائد شعرية في مدينة جدة ومكة والمدينة بل وحتى في سويسرا حينما زارها لأول مرة وقد كان يعمل قبل وفاته برحمه الله على إصدار كتاب عن كل ما قال شعراء الملكة في مكة المكرمة وقد زارنى وطلب منى موافاته بما لدى في هذا المجال فبعثت إليه بعض ما عندى ولست أعرف أني هذا الكتاب قد طبع وربما كان تحت الطبع أو ما زال مخطوطا بين أوراقه فقد علمت منه أن الكتاب قد اكتمل فحبذا لو عمل أبناؤه الأساتذة أمل وسمير على استخراج مخطوط كتاب مكة ونشره أو الاتفاق مع أحد النوادى الأدبية على إصداره وأنا على ثقه من أن جميع النوادى الأدبية ترحب بالمساهمة في مثل هذا الأمر.

‌كتابُ قنِديل عن جدّة

وللقنديل كتابان

(1)

عن جدة مزينان بالصور وهو من الشعر الضاحك الذى تختلط فيه العامية بالفصحى وهو يصف جدة الجديدة ويقارن بينها وبين جدة القديمة كما أن له كتابا آخر عن ذكريات طفولته وشبابه وهو يجمع بين هذا الشعر الضاحك والنشر يصور فيه بعض الشخصيات الشعبية التي صاحبت طفولته وشبابه كما يصور بعض الحكايات الشعبية في أسلوب يجمع بين العامية والفصحى وهذه الكتب جميعها تصور شعبية القنديل التي تحدثنا عنها في صدر هذه الترجمة بإسهاب.

(1)

وللقنديل كتاب آخر ظهر بعد وفاته اسمه (الجبل الذى صار سهلا) وقد قامت بنشره إدارة النشر بمؤسسة تهامة وهو يمثل (قنديل) متحدثا أكثر مما يمثله كاتبا ولكن الكتاب في حد ذاته تسجيل فريد لذكريات القنديل في شبابه وهو مما يدخل في باب التراث.

ص: 33

‌شِعرُ المَلاحِم

ولقنديل إلى جانب هذا الشعر الضاحك والمجموعات الشعرية الأصيلة التي تحدثنا عنها ملحمة شعرية عظيمة نشرت كاملة في المجلد الأول من بحوث المؤتمر الأول للأدباء السعوديين تصل إلى ما يقارب الألف بيت من الشعر استعرض فيها سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتاريخ الجزيرة العربية وهي من أطول ما أنتج القنديل من الشعر وهي تدل على اطلاع واسع وتمكن في النظم والتصوير.

‌إنتاجُه للإِذاعة وَالتّلفزيُون

كما أن للقنديل إنتاجا وافرا كان يبثه التليفزيون السعودى وخاصة في شهر رمضان من كل عام تحت عنوان "قناديل رمضان" وكان هذا الإنتاج في معظمه يلقى ترحيبا شعبيا واسعا لأنه تصوير لعادات الشعب وحياته.

لقد كان قنديل وفيا للقلم، حفيا بالفن، معطاء لا تفتر حماسته للكتابة والشعر وقد صور نفسه أصدق تصوير حين قال من قصيدة قديمة:

صناعتى في الورى الكلامُ

به أحيا وحرفتى الأدب

وقد استمر في تقديم انتاجه للصحف ولوسائل الأعلام وللطباعة خمسين عاما دون توقف وحين أدركته الوفاة كان يكتب الحلقة الأخيرة من "قناديل رمضان" كما ذكرت في صدر هذة الترجمة فقضى والقلم في يده وكانت وفاته صباح يوم الجمعة الثانى عشر من شهر شعبان 1399 هـ وقد تركت وفاته رنة حزن عميق وشارك الناس جميعا في عزاء أبنائه وأفراد أسرته وقامت بلدية جدة مشكورة

ص: 34

بإطلاق اسمه على الشارع المؤدى إلى منزله بجدة وهو تكريم يستحقه بلا مراء وشارك الأدباء والشعراء في رثائه، رحمه الله رحمة واسعة فقد كان من الشعب وإلى الشعب لسانا معبرا ناطقا وشعرا مصورا سائرا يصور حياة الناس اليومية ويعبر عن آمالهم وأحلامهم. غفر الله له وأحسن جزاءه في دار الخلود ..

ص: 35

‌الحَاج زَيْنل عَلي رِضَا

قصير القامة أبيض اللون تشوب بياضه حمرة، تزين وجهه لحية بيضاء متكاملة ونظرة رفيقة حانية وكان دائما يرتدى البياض فتراه في لباسه الأبيض من الكتان وقد وضع العمامة الحجازية على رأسه فتطالعك صورة رجل وقور إلا أنك تشعر أن هذه الصورة تفيض حنوا وحبا، وقد أدركته في الأربعينات قبل دخول السيارات إلى البلاد وهو يمتطى صهوة حصان أحمر اللون - ولقد كان كبراء جدة جميعا يستعملون الخيل في تنقلاتهم في العهد العثمانى والعهد الهاشمى - حيث لم تكن السيارات قد وصلت إلى البلاد أو على الأصح لم يكن يسمح بدخولها الشريف الملك الحسين بن على كما أسلفنا في حلقات سابقة من هذه التراجم وكان لهؤلاء الكبراء إسطبلات للخيل وسواس يرعونها ولقد أدركت هذا الجهد الذى ظل سائدا في مدينة جدة إلى أن بدأ العهد السعودى فسمح بدخول السيارات وتألفت شركات خاصة وعامة لها بعد ذاك.

نعود بعد هذا إلى الحاج زينل علي رضا فنقول إنه كان من أكبر تجار جدة وقد أسس مع شقيقه الأصغر الحاج عبد الله على رضا قائم مقام جدة الأسبق بيتهم التجارى في مدينة جدة ثم في بومباى، وكان الحاج عبد الله هو المدير الفعلى لهذا البيت التجارى في الوقت الذى كان فيه الحاج زينل يكبره في السن.

ص: 37

إن ما يلفت النظر في سيرة الحاج زينل ليس ثراؤه وتجارته فما أكثر التجار وأصحاب الثراء ولكن ما عرف عنه من البذل الكثير وخاصة للفقراء والساكين، لقد رأيت الحاج زينل والمساكين يحيطون به في مسجد العمار كلما ذهب لأداء الصلاة ويلتفون حوله وهو خارج من داره سواء للمسجد أو لزيارة بعض أصدقائه، فيقف لهم باسما ويمنحهم الأعطيات، ولم يكن يظهر عليه التأفف أو الضيق وهم يعانقونه ويتوددون إليه، بل كثيرا ما رأيتهم يوقفونه في الطريق ويدلون إليه بحاجاتهم فلا يجدون إلا يدًا سخية ووجهًا باشا وكلاما حسنا، وهذه الصفات لا تدل على الكرم المطبوع فحسب وإنما تدل على أن نفس الرجل قد أشربت حب الخير والعطف على المحتاجين فبذل لهم من نفسه كما بذل لهم من ماله ورفده.

وخلال الحرب السعودية الهاشمية كانت مدينة جدة محاطة بالأسلاك الشائكة وكان السلطان عبد العزيز يعسكر بجيشه في الرغامة وكانت المدينة تعانى من الحصار، كما أن واردات جدة من البضائع قد تأثرت بسبب حالة الحرب أقول في تلك الأيام كان الحاج زينل على رضا يتولى ذبح الذبائح وطبخ الطعام من الأرز ليطعم هؤلاء الفقراء والمساكين وكنت أراه وهو يقف بنفسه أمام القدور العظيمة التي يطهى فيها الطعام وينظر إلى الطاعمين في بشاشة ولطف وإيناس، كما رأيته وهو يأمر بإخراج بالآت السليطى - قماش من القطن نباتى اللون تستعمله البادية في الثياب - فتوزع على هؤلاء الفقراء ثيابا تكسو أجسادهم وتدخل السعادة إلى قلوبهم ولقد اشتهر الحاج زينل رحمه الله بحبه للفقراء وحدبه عليهم حتى لقب بأبى المساكين.

ص: 38

‌وَالِد مُؤَسِّس الفَلاح

ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الحاج محمد على زينل مؤسس مدارس الفلاح الشهيرة والعظيمة هو الابن الأكبر للحاج زينل رحمهما الله فكأنَّ حب الخير الذى تأصل في نفس الحاج زينل قد انتقل إلى ابنه البكر الحاج محمد على فقام بعمله العظيم الخالد في إنشاء مدارس الفلاح والإنفاق عليها طيلة ما يقرب من أربعين عاما فكانت حسنة عظيمة وصدقة جارية فكان هذا الشبل من ذاك الأسد. ولقد كان الحاج زينل يرغب أن يرى ابنه محمد على وهو يعمل في بيته التجارى ليكون امتدادا لاسمه وعمله ولكن فكرة نشر العلم التي استأترت بجهود محمد على صرفته عن العمل في ظل أبيه فانفرد بعمله الخاص في تجارة اللؤلؤ، وقرت عين الحاج زينل بابنه محمد على وهو من أعظم الرجال ثراء وإن كان يستعمل هذا الثراء في تعليم أبناء الأمة وإعدادهم رجالا للبلاد، ولا شك أن الله تعالى اختار لكليهما ما هو خير فليس أسعد من أن يرى الإنسان ابنه وقد شق طريقه في الحياة وأثمر سعيه وتهيأت له أسباب النجاح فظهر اسمه ولمع نجمه.

ولقد رأى الحاج زينل ذاك في ابنه محمد على كأحسن ما يمكن أن يرى أب في أبنائه وهذا هو صنع الله العلى القدير لمن شاء من عباده وحكمته البالغة في التدبير والتقدير.

‌وَفَاة الحَاج زيْنل

هذا ولقد توفى الحاج زينل على رضا عام 1348 هـ بمدينة جدة عن عمر يناهز الرابعة والثمانين من العمر إذ كانت ولادته عام 1265 هـ واشترك أهل

ص: 39

جدة كلهم في تشييعه والصلاة على جثمانه، وكان أبرز ما رؤى في هذه الجنازة بكاء الفقراء وعويلهم على الفقيد الراحل ومزاحمتهم الأعيان والأثرياء في حمل جثمانه والصلاة عليه، تغمده الله برحمته الواسعة فلقد كان مثلا في البر بالفقراء والمساكين.

ص: 40

‌الشَّيْخ ضَياءُ الدِّيْن حَمْزَة رَجَب

مستدير الوجه واسع العينين عظيم الأنف، حنطى اللون معتدل القامة أقرب إلى الامتلاء خفيف اللحية حليق الشارب والعارضين، يتخذ زيَّ العلماء السلفيين فيرتدى العباءة والغترة ولا يضع على رأسه عقالا وقد تمسك بهذا الزي طيلة حياته رحمه الله، ولد بالمدينة المنورة سنة 1335 هـ وتلقى العلم على أيدى علماء المسجد النبوى الشريف ومن أبرز أساتذته الشيخ الطيب الأنصارى العالم السلفى المشهور والشيخ أبو بكر التمبكتى والشيخ عبد الكريم كردى والشيخ العايش وهو من علماء الأزهر المجاورين بالمدينة المنورة، كما أنه تأثر بخاله الشيخ عبد الحفيظ كردى شاعر المدينة المنورة ومن قضاتها المشهورين في العهد الهاشمى، وبعد إتمام دراسته اشتغل بالتدريس في مدارس المدينة المنورة كما عمل في تحرير جريدة المدينة المنورة أول ظهورها، ولم تطل إقامته بالمدينة المنورة فعين 1357 هـ قاضيا بمدينة العلا شمال المدينة المنورة وانتقل إليها لبضع سنين وما لبث أن عاد إلى المدينة المنورة بعد أن ترك العلا ليعمل في المحاماة وضاقت المدينة بنشاطه في المحاماة فانتقل إلى مكة المكرمة في أواخر الخمسينات وعمل بها في المحاماة فترة من الزمن، ثم عين رئيسا لكتاب

ص: 43

مديرية الأوقاف العامة بمكة المكرمة ثم مستشارا قضائيا لأمانة العاصمة في عهد المرحوم الشيخ عبد الرؤوف الصبان ثم عضوا بمجلس الشورى في أوائل عهد الملك سعود وقد بقى يمارس عمله في مجلس الشورى إلى أن انتقل بأسرته إلى سوريا ثم إلى مصر وتكرر انقطاعه عن المجلس فترات طويلة فأحيل إلى التقاعد، وقد بقى في مصر عدة سنوات إلى أن حصل نجله حمزة رحمه الله على البكالوريوس من جامعة القاهرة فعاد بأسرته إلى جدة وافتتح مكتبا للمحاماة نجح فيه نجاحا كبيرا وقد بقى يمارس هذا العمل إلى أن توفى فجأة بالرياض بتاريخ 24 صفر 1396 هـ رحمه الله رحمة واسعة، كان الشيخ ضياء الدين رجب نمطًا فريدا من الناس وقد استطاع بما وهبه الله من سماحة نفس وهدوء طبع أن يجمع القلوب حوله فأحبه الناس والتفوا حوله فكانت داره كلما كان مكتبه يزدحم بالناس من كافة الطبقات وكانت له قدرة عجيبة على الاستماع إلى الناس ومشاركتهم فيما يهتمون به من شؤون أنفسهم وكانت هذه المشاركة تقتضى منه التوسط لدى المسؤولين في الإِدارات المختلفة، أو لدى القادرين من الناس ولم يكن عمله في المحاماة قائما على المادة وحدها وإنما كانت معظم أعماله تتصف بالصبغة الإنسانية أكثر مما تتصف بالعمل المادى المنظّم، وكان هذا الأمر يتجلى إذا كان أصحاب الحق من المستضعفين من الناس أو من النساء اللاتى فقدن الناصر والعين، ولم يكن يلجأ في مثل هذه الحالات إلى المقاضاة وإنما كان يتخذ طريق الإصلاح وسيلة لفض هذه المنازعات وقد اكتشفنا بعد وفاته رحمه الله حوادث كان يمكنه أن يربح من ورائها الملايين ولكنه بدلا من أن يلجأ إلى التعاقد مع أصحاب - أو على الأصح - صاحبات القضايا دخل فيها بروح النجدة لامرأة استضعفها أهلها فحرموها حقوقا كثيرة فقام هو باستخلاصها لها بهذه الروح الطيبة التي تندفع بدافع المروءة والنجدة وتتناسى ما يجنيه أمثاله في هذه

ص: 44

المواقف من أموال طائلة تعتبر بالنسبة لمن يمارسون هذا العمل من الفرص القليلة النادرة، وكان الشيخ ضياء الدين ذا صلة وثيقة بالمرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وعُرفت هذه الصلة بينهما خاصة خلال الفترة التي ولى فيها المرحوم الشيخ محمد سرور وزارة المالية، وخلال إقامته في مصر بعد خروجه من الوزارة فكان الشيخ ضياء الدين ينقل إليه حاجات الناس ومطالبهم وخاصة أولئك الذين يمنعهم الحياء من الطلب أو الذين يتحرجون في إيصال مطالبهم إليه وكان الشيخ محمد سرور رحمه الله يستجيب لهذه الطالب بروح من السماحة والبذل ويدافع من ثقته الشخصية بالشيخ ضياء الدين وسعيه في الخير وكان الرجلان يكتمان من أمور الناس ما يجب كتمانه ويستران من العورات ما يجب ستره، وكان الشيخ ضياء الدين رحمه الله كريما في جميع الحالات حتى في الأوقات التي كان يعانى فيها من ترك العمل أو خلو ذات اليد فإذا وصل إلى يده شئ سرعان ما أسعف به غيره من أصحاب الحاجات ولعل البعض من هؤلاء الناس كان أحسن منه حالا ولكنه يرحمه الله كان مفطورا على النجدة والعطاء على الإِقلال والإعسار، وحينما حسنت أحواله كان له الكثير من الإِحسان الخفى وكان ينفق على ذوى قرباه ويصلهم ويرعى شؤونهم.

وكان أصدقاء الشيخ ضياء الدين من كافة الطبقات بدءًا بالعامة من الناس وانتهاء بالوزراء كما كان معروفا لدى الكثيرين من العلية والحكام وكان الجميع يحبونه وكان الكثيرون يعتمدون عليه في قضاء حوائجهم، وما أكثر هذه الحوائج وكنت أعجب له رحمه الله كيف يستطيع احتمال كل هذه الأعباء إلى جانب عمله الشاق في المحاكم وفي مكتبه الذى يغص بأصحاب القضايا والحاجات حتى وقت متأخر من الليل، وكان هاتفه لا ينقطع من المكالمات التي تحمل في ثناياها هذه التكاليف العجيبة ولكنه كما ذكرت كان ذا قدرة عجيبة على إرضاء الناس وعلى

ص: 45

الإِصغاء إليهم، وتفهم حاجاتهم وكان ذا بصيرة بطباع أصدقائه والمتحدثين إليه فكانوا يتركونه وهم يشعرون بالراحة وحتى ولو لم تقض لهم حاجة أو يتحقق لهم مطلب فإن شعور المرء بأن هناك من يشاركه في همومه ومشاكله يخفف من أعبائه النفسية ويشعره بالراحة والاطمئنان، وهكذا فإن مشاركة الشيخ ضياء الدين رحمه الله للناس في اهتماماتهم أكسبه محبة الناس وتقديرهم، وقد تجلّى هذا الحب في حياته حينما فقد ابنه الشاب المرحوم حمزة ضياء الدين رجب وهو في اكتمال فتوته وأوج شبابه فكانت مشاركة الناس للشيخ ضياء الدين في فجيعته بوحيده البكر، - كان المرحوم حمزة رجب هو الولد الوحيد وبقية ذرية الشيخ ضياء الدبن من الإِناث - مشاركة عظيمة تجلت في إقبال الناس عليه بالتعزية والمواساة، وتجلَّت فما كتبه الكثيرون من أصدقائه أو معارفه في رثاء ابنه ومواساته، كما تجلت هذه المشاركة بعد وفاة المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب رحمه الله فقد لمسنا من مواساتهم مقدار ما كان يتمتع به في نفوس الناس من محبة وتقدير.

وللشيخ ضياء الدين رحمه الله إلى جانب أخلاقه الشخصية الكريمة نواحٍ أخرى فهو شاعر من أكبر شعراء المملكة وكاتب من أقدر الكتاب وكان ينشر إنتاجه الأدبى بجريدة المدينة المنورة في أول ظهورها فقد كان أحد كتابها البارزين، كما كان ينشر بين الفينة والفينة في جريدة صوت الحجاز والمنهل ما تجود به قريحته من شعر ونثر وفى السنوات الأخيرة من حياته واصل الكتابة للإذاعة السعودية فكانت له أحاديت يومية مذاعة، كما واصل الكتابة في جريدة البلاد وكانت له كلمة يومية تنشر بعنوان "قطوف" كما كان له مقال أسبوعى في هذه الصحيفة، هذا عدا ما تنشره المجلات الأخرى مثل "قافلة الزيت""والمنهل" وخلافهما من شعر ونثر، والكتابة اليومية في الصحف إذا كانت ناجحة ليست عملا سهلا كما يتصور البعض من الناس، لأنها تعتمد أولا على

ص: 46

ذكاء الكاتب وسعة إطلاعه، وشمول إدراكه وحساسيته إزاء ما يصادفه في حياته اليومية مما يقرأ ويسمع ومما تضطرب به حياته وحياة من حوله من الناس، فإذا استطاع الكاتب أن يشدَّ القراء إلى عموده اليومى مهما كان قصيرا فهو كاتب أصيل ممتاز وأشهد أن قطوف الشيخ ضياء الدين رحمه الله كانت تجذبنى إلى قراءتها صباح كل يوم ضمن القليل الذى أحرص على قراءته في مختلف الصحف مع ضيق وقتى عن القراءة بما يزدحم به يومى من أعمال، وإذا كان لى أن أقول كلمة صغيرة عن الشيخ ضياء الدين رحمه الله كأديب فهو في رأيي كاتب مجيد وشاعر عظيم يذكرنى بالصفوة المختارة من الشعراء بأسلوبه العربى الأصيل، وعاطفته الدافقة الثَّرَّةَ وهو يمثل نمطا فريدا من الشعراء فكأنك تستمع إلى الفحول من شعراء العصر العباسى كالشريف الرضى ومهيار الديلمى أو كأنك تستمع إلى شوقى في ديباجته الناصعة ولعلى لا أفشى سرا إذا ذكرت هنا أن الشيخ ضياء الدين رحمه الله كان يسره أن يستمع إلى من ينشد ما ينظمه من شر فكان يحضر إلى مكتبى إذا نشرت له قصيدة ويطلب منى إنشادها وأشعر بنفسه تهتز رضا وهو يستمع إلى هذا الإنشاد، ولعله كان يعجب بحرصى على فهم معانى القصيدة ومراميها، فقد كنت أناقشه دائما في كل ما ينشر له من شعر، وكثيرا ما كنا نعقد المقارنات بين القصائد التي تنشر لأعلام الشعراء في موضوع واحد وإنى لأذكر هنا أننا تدارسنا القصائد التي نظمت في رثاء المرحوم رياض الصلح زعيم لبنان الكبير وفى أمثال هذه المناسبات كنا نتدارس القصائد الموسمية التي تلقى في موسم الحج والتى يشترك فيها شعراء كثيرون من داخل المملكة وخارجها وكان الشيخ ضياء الدين رحمه الله على صلة واسعة بشعراء عصره وأدبائهم فحين إقامته في الشام توثقت صلته بشعراء سوريا الكبار شفيق جبرى وسليمان الأحمد وغيرهم كما أنى اجتمعت في داره بدمشق بالأستاذ نصوح

ص: 47

بابيل صاحب جريدة الأيام الشهيرة في سوريا إذ ذاك وكان على صلة وثيقة بالسيدين أبو الخير الميداني والسيد محمد مكى الكتانى رحمهما الله وكليهما من علماء سوريا وزعمائها الدينيين وفى مصر اجتمعنا في منزله بالأستاذ الشاعر أحمد رامى الذى كان ممن توثقت صلة الشيخ ضياء الدين بهم رحمه الله، كما علمت أنه كانت له صلات كتيرة يرجالات العلم والأدب في كل من القطرين وفى مصر كنت أرى الشاعر المرحوم محمد مصطفى حمام والشاعر محمد جبر لدى الشيخ ضياء الدين في أوقات متقاربة وغير هؤلاء كثيرون ممن لا تحصيهم الذاكرة وحينما كان في مصر كان على صلة كبيرة بالأمير عبد الكريم الخطابى قائد ثورة المغرب الشهيرة ضد أسبانيا وفرنسا وحينما توفى رثاه بقصيدة عصماء نشرتها له مجلة "قافلة الزيت" في تلك الأيام أما صلة الشيخ ضياء الدبن رحمه الله بشعراء وأدباء عصره فهى صلة الصداقة الكريمة والحب الخالص، كان يحب الجميع وكان الجميع يحبونه ويقدرونه وكان بما وهبه الله من خلق سمح ولسان عف لبعد عن النازعات التي تكدر علائق المودة بين الأدباء فلا يهاتر ولا يخاصم ووقف من هذه الخصومات الأدبية التي كانت تحدث بين أدباء عصره وشعرائهم موقف المحايد النائى بنفسه عن التورط فيما لا يليق بمقام العالم والأديب.

نعم لقد كان الشيخ ضياء الدين قبل كل شئ وبعده لا ينسى أنه طالب علم، وأنه تقلد القضاء وهو عمل من أرفع الأعمال وتولى التدريس وهي مهنة شريفة كريمة، وقد كان مع من يحيط به من الشباب الذى يحبونه في مقام الأبوة الحانية يرشد ويعلم ويحنو ولكرم دون أن يشعر من حوله بشئ من الاعتزاز بعلمه أو الإِدلال بمكانته، بل أنه لشعر من حوله بأنه منهم وإليهم وبهذه الصفات الكريمة السمحة تبوأ مكانه في النفوس ورسخت محبته في القلوب رحمه الله رحمة واسعة.

ص: 48

‌مُبَالغتهُ في تقدير سِنّه

ومن طرائف الشيخ ضياء الدين رحمه الله أنه كان يبالغ في تقدير عمره خلافا لما جرى عليه العرف بين الناس وقد رأيته مرة يذكر أنه في الثمانين من العمر وكانت المبالغة واضحة فقلت له ألم تذكر لى أنك توليت القضاء وأنت في العشرين من العمر قال نعم قلت فكيف بلغت الثمانين ولم يمض على هذا الأمر الأربعون عاما فضحك وقال إننى في الحقيقة لا أدرى قلت ولكنك تتعمد البالغة قال لقد رأيت الناس يحاولون إنقاص أعمارهم فأردت أن أخرج من النزاع في هذا الأمر بالزيادة بدل النقصان ..

‌الشَّيْخ ضَياء الدِّين وَالنسَيان

ومن طرائفه أيضا أنه كان كثير النسيان حتى عرف بذاك بين أصدقائه، وأنا شخصيا أعرف أنه كان يبالغ في التظاهر بكثرة النسيان فقد كان كما ذكرت في صدر هذه الترجمة مقصودا من الناس في أمور كثيرة ومن المؤكد أن وقته كان يضيق بالقيام بهذه الأمور بل ببعضها فكان النسيان والسرحان هو العذر الذى يلجأ إليه والذى يقبله الناس عملا بالحديث الشريف "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولقد رأيته رحمه الله يحفظ أرقام التليفونات ولا يكتبها في مذكرة وإنما يستمدها من ذاكرته العجيبة التي تحفظ ما تريد وتتناسى ما لا تريد، ولا شك أنه كان لا ينسى إطلاقا ما يهم من الأمر ولكن حادثة طريفة سمعتها منه تعتبر من أعاجيب السهو والنسيان.

قال: وفد عليه من الطائف المرحوم محمد بصراوى - وكان يلقب بالبيك - وحصان مديرا لأوقاف الطائف وخرجا من إدارة الأوقاف بالمالية بمكة بعد انتهاء

ص: 49

ساعات العمل وذهبا إلى منزل الشيخ ضياء الدين في جرول لتناول الغداء وترك الشيخ ضياء الدين ضيفه في الدور الأول من المنزل ونسى أن يذكر لأهل الدار أن ضيفا سيتناول الغداء معه قال الشيخ ضياء الدين: وكنت متعبا فاستلقيت على السرير ونمت ولم أقم إلا وقد غشينا العصر فتغديت ونسيت الضيف الذى ينتظرنى في الدور الأول وقد أوشكت الشمس على المغيب وحينما هبطت إليه وجدته يكاد يبكي من الجوع وضاعت معه كل حيلى في الاعتذار بالسهو والسرحان وظل يشكونى إلى كل من يراه إلى أن توفاه الله.

‌المحَامَاة في القرآن

ومن الطرائف التي ذكرها لى الشيخ ضياء الدين رحمه الله، أنه كان يعمل بالمحاماة بعد أن صرف عن قضاء العلا، ويبدو أن بعض القضاة شكوه إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله واقتضى الأمر أن يقابل هو جلالة الملك عبد العزيز ويشرح له الموضوع قال، قال لى جلالة الملك ولكن المحاماة لا أصل لها في الشرع، قال فقلت لجلالته إن لها أصلا في القرآن قال هاته. قال: قلت. قال تعالى في سورة النساء "ولا تكن للخائنين خصيما"، أى مدافعا عنهم والمحاماة هي الدفاع عمن لا يستطيع الإِدلاء بحجته فقبل جلالته ذلك راضيا. ومما يذكر أن هذه الآية كانت مكتوبة بخط جميل في لوحة خشبية وكان الشيخ ضياء الدين يضعها في مكتبه الذى يمارس فيه عمل المحاماة بحيث يراها كل من يجلس إليه من أصحاب القضايا، وكأنه بهذا يوحي إليهم أنه لا يقبل من الفضايا الا ما كان أصحابها على حق وهو مبدأ لو تمسك به المتخاصمون لأراحوا واستراحوا.

ص: 50

‌ديوان الشّيخ ضِيَاء الدِّين

هذا وقد جمع المرحوم الشيخ ضياء الدين قصائده في مجموعات كبيرة مجلدة ومنسوخة بالآلة الكاتبة وكثير من هذه القصائد لم ينشر في حياته وقد اتفقت أسرته مع نادي جدة الأدبي على نشر هذه القصائد في مجموعات متفرقة ولابد أن المجموعة الأولى ستنشر قريبًا بإذن الله وهي خدمة عظيمة للأدب السعودي يقدمها نادي جدة الأدبي مشكورًا فإن الشيخ ضياء الدين يعتبر مفخرة من مفاخر الشعر العربي في هذا العصر لا في المملكة العربية السعودية وحدها وإنما في الوطن العربي كله وهو بأسلوبه الناصع ومعانيه الثرة وعاطفته المتوهجة يمثل النسق الشعري الأصيل في صفائه وجودته ورقته.

بعد كتابة ما تقدم يسرني أن أذكر أن المجموعة الكاملة لشعر الشيخ ضياء الدين رجب قد تم إعدادها للطبع على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر عبد الله الفيصل وأمل أن تكون قد ظهرت قبل طبع هذا الكتاب.

‌تَمَسُّكه بالشِّعر العَمُودِي

ولعل مما يحسن ذكره ونحن نتحدث عن شعر الشيخ ضياء الدين أنه كان من المتمسكين بالشعر العمودي المنظوم ولم يكن يمارس هذا الخلط الذي يسمونه الشعر المنثور بل ولا يستسيغه أو يعترف به كما هو شأن الكثرة من الشعراء المجيدين.

‌فتى سلع

كما أن الشيخ ضياء الدين كان ينشر شعره الغزلي بتوقيع مستعار هو - فتي سلع - ولقد كان يتبع هذه الطريقة منذ بداية نشره للقصائد الشعرية في الخمسينات وإلى أن توفاه الله وهو يهدف إلى الشيخوخة.

ص: 51

‌مُؤلَّفاتُه الأخرى

هذا وقد كان الشيخ ضياء الدين رحمه الله أخبرني أن له مؤلفا صغيرا بعنوان - وقفة في ديار ثمود - وقد ألفه حينا كان قاضيا بالعلا ولكني لم أجد مخطوط هذا الكتاب ضمن ما تركه من آثار أدبية، وإني لأرى أن أديبا كبيرًا كالشيخ ضياء الدين يستحق أن تتكفل كلية الآداب بإحدى جامعاتنا بجمع آثاره المنشورة بالصحف والمذاعة بالمذياع لاختيار ما يصلح منها للنشر توطئة لطبعه ونشره لتكون هذه المنشورات وسيلة كافية للدراسة الكاملة لأدبه وإنتاجه.

‌وفَاتُه

هذا وقد أدركت الوفاة المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب في الرياض في ليل الرابع عشر من شهر صفر 1396 هـ وكان بدار ابنته "لميس" فشعر بضيق في التنفس وألم في الصدر وحينا نقل إلى المستشفى لإسعافه أسلم الروح وهو في الطريق إلى المستشفى رحمه الله وكانت لوفاته رنة حزن عظيمة في جميع الأوساط وقد نقل بطائرة تابعة لوزارة الدفاع من الرياض في صباح يوم الخامس عشر من صفر 1396 هـ إلى جدة حيث جهز ونقل إلى مكة المكرمة وصلى على جثمانه في المسجد الحرام ودفن بمقبرة المعلاه رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان رجلا خيرا وعالما نيرا وأديبا وشاعرا كبيرًا ..

ص: 52

أعلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 53

سليمان أمان قابل

ص: 54

‌سُليمان أمَان قَابل

متوسط القامة ممتلئ الجسم شديد السمرة واسع العينين يضع على عينيه نظارة ذهبية كان يرتدي الجبة والعامة الحجازية ثم أصبح يرتدى العباءة والعقال المقصب في العهد السعودي.

إن ما لفت نظري في تاريخ الشيخ سلمان قابل هي عصاميته الفذة فلقد بدأ حياته مع أخيه الشيخ عبد القادر قابل بداية بسيطة ولكنه استطاع بطموحه وعصاميته أن يتبوأ المناصب الكبيرة في العهد الهاشمي ثم في العهد السعودي وأن يستطيع محله التجاري افتتاح شارع من أهم شوارع مدينة جدة كما سيأتي ايضاحه فيما بعد.

‌رَئيس المحكمة التجَاريّة

عرفت الشيخ سلمان قابل وهو يتولى منصب رئيس المحكمة التجارية بمدينة جدة، وهي أول محكمة من نوعها تقام في العهد السعودي للفصل في الأمور التجارية التي لها طابع خاص وذلك لما تتميز به مدينة جدة من التخصص في أمور التجارة بأنواعها

(1)

، كما كان يمارس الأمور المتعلقة بالتجارة منذ العهد

(1)

كما كان رئيسا لبلدية جدة في العهد الهاشمي.

ص: 55

الهاشمى فلقد كان يرأس الإدارة التي تمنح تراخيص الاستيراد في وقت من الأوقات وهو أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الرجل قد استطاع الفوز بثقة الدولة في العهد الهاشمي والعهد السعودي على السواء وهو يدل كذلك على أن شخصيته العصامية وطموحه قد مهدا له السبيل للبروز بين أقرانه من الرجال ولعله من المناسب أن نذكر أن الشيخ سلمان قابل تولى رئاسة أول شركة للسيارات تأسست في مدينة جدة في أوائل العهد السعودي ولكن هذه الشركة لم تستمر فقد واجهتها مشاكل كثيرة انتهت بتصفيتها.

‌شَارع قَابل

على أن أهم إنجاز يتميز به الشيخ سليمان قابل في نظري هو افتتاحه لشارع قابل المعروف والمسمى باسم أسرته حتى اليوم وهو شارع من أهم شوارع مدينة جدة كما هو معلوم، وهذا الشارع قصة يحسن ذكرها فإن الملك الحُسين بن علي هو الذي قام ببناء الشارع في الثلاثينات في عهد ولايته عرش الحجاز وفي عهد ابنه الملك على بن الحُسين اشتراه آل قابل من الملك على مقابل بعض المال وبعض الأغذية التي كانت حكومته في أشد الحاجة إليها لتصرف للجند خلال الحرب السعودية الهاشمية، قالوا وكانت الصفقة في مصلحة المشتري أكثر منها في مصلحة البائع وليس هذا هو المهم في الأمر ولكن المهم أن الشيخ سليمان قابل استطاع بذهنيته المتفتحة أن يجعل من هذا الشارع أهم شارع في مدينة جدة في ذلك الزمان فلقد كان الشارع مكشوفا فتعاقد بيته التجاري مع شركة ألمانية على تسقيفه وتم تغطية الشارع بسقف من المعدن المضلع - التوتوه - يقوم على أعمدة حديدية ويرتفع ارتفاعا كبيرًا لأن على الشارع كان قد بنى عليه دور من المكاتب التجارية، ولقد شاهدت العمل في تغطية الشارع في الأربعينات في أوائل العهد

ص: 56

السعودي وهو يسير على قدم وساق حتى تمت التغطية على أحسن ما تكون في ذلك الزمان ولم يكتف آل قابل بهذا التجديد، ولكنهم استوردوا مكينة كهربائية ضخمة وأدخلوا النور الكهربائي والتهوية الكهربائية إلى كل دكان ومكتب في الشارع فتدافع أصحاب الدكاكين إلى الاستئجار في شارع قابل وأصبح الشارع مختصا بالقماشين ومن إليهم ممن تحتاج بضائعهم إلى مثل هذه التحسينات والتجديدات التي تميز بها شارع قابل، إن آل قابل قد أفادوا كثيرًا من التحسينات التي أدخلوها على شارعهم، ولكنهم في نفس الوقت قد أفادوا الناس، وقدموا للمدينة التي ينتمون إليها خدمة حضارية لا شك فيها، ولقد ذكرت فيما مضى من هذه التَّراجم أن الربح لا يغضن من قيمة العمل المفيد ولا ينقص من تقديره وأن الجانب الذي يعنينا منه هو مقدار ما يفيد منه الناس وما يدخل على الوطن من أسباب الحضارة والتيسير وفي رأيي أن هذا العمل إذا كان تجاريا فإن توفر عنصر الربح جوهري لبقائه ودوامه.

‌مَوَائِد الإِفطار في رَمَضان

وكان منزل آل قابل في مدينة جدة يتميز كذلك بإقامة موائد الإفطار في كل يوم من أيام رمضان من بداية الشهر إلى نهايته وكانت هذه الموائد تضم في كل يوم كبار موظفي دائرة حكومية مع بعض أعيان المدينة وتجارها وكانت هذه العادة الجميلة تتيح لآل قابل توثيق علاقاتهم بكبار موظفي مدينة جدة وهو نوع مما يسمى في الوقت الحاضر بالعلاقات العامة لم يكن معروفا في ذلك الزمان، على أي حال لقد كان منزل آل قابل مفتوحا مغرب كل يوم في رمضان وكانت موائدهم منصوبة لاستقبال الضيوف كما كان منزلهم في مساء كل يوم مفتوحا لأصدقائهم من أعيان المدينة وكنت أرى الحاج عبد الله على رضا قائممقام جدة وشقيقه

ص: 57

الحاج زينل على رضا ممن يحضرون إلى منزل آل قابل أصيل كل يوم حيث يصلون المغرب جماعة ويتسامرون ساعة من الليل ثم يعود كل منهم إلى داره على عادة كبار أهل جدة في ذلك الزمان.

وكان منزل آل قابل من المنازل القليلة التي تضاء بالكهرباء في وقت لم تكن فيه الكهرباء معروفة إلا في منازل السفارات والشركات الأجنبية.

وكان منزل آل قابل يقع في الحدود ما بين حارة الشام وحارة المظلوم ولا يزال هذا المنزل قائما ولكن أهله قد تركوه منذ سنوات طويلة بعد وفاة كبار رجال العائلة وأصبح المنزل خربا غير مسكون.

‌أَهْلُ الحَارة وعَنعَناتهم

وعلى ذكر منزل آل قابل الذي ذكرنا أنه يقع في الحدود ما بين حارة الشام والمظلوم نذكر هنا حادثة طريفة تتعلق بموضوع حارات جدة والعنعنات التي كان يتمسك بها رجال الحارة أو الحارات على الأصح وهي تدل على مدى العقلية التي كانت تتحكم في عقول بعض الناس في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري الذي ودعناه منذ بضعة شهور، كانت مدينة جدة تنقسم إلى أربع حارات هي: حارة الشام وكانت في شمال المدينة وفيها مقر الحكومة ومقر السفارات والشركات الأجنبية، مما يلي البحر والشمال وحارة المظلوم وهي تقع في شرق مدينة جدة وتمتد إلى وسطها، وحارة اليمن وهي في جنوب جدة وكان يتمركز فيها وكلاء الحجاج وينزل فيها الحجاج قبل بناء مدينة حجاج البحر وحارة البحر وهي ممتده إلى جوار البحر من الجنوب باتجاه الشرق ويسكن فيها البحارون وملاك الزوارق البحرية وما إليها وكل من تتعلق أعمالهم بالبحر يوم

ص: 58

أن كان للبحر رجاله وعماله من أهل المدينة قبل التطور العظيم الذي أدخل على ميناء جدة

(1)

.

نقول كان رجال كل حارة يعتبرون حارتهم معقلا لهم وينظرون إليها نظرة فيها كثير من العصبية إذا جاز هذا التعبير فلا يسمحون لرجال الحارات الأخرى بالدخول إليها في المواكب والحفلات إلا بعد ترتيب خاص يخبرون فيه أهل الحارة بقدومهم، وحدث أن أقام الشيخ محمد الطويل كبير جدة في ذلك الزمان عرسا لأحد أقربائه وكان الشيخ محمد الطويل من سكان حارة الشام وكان أهل العروس يسكنون في حارة اليمن وفي الهزيع الأخير من الليل قام موكب العريس من بيت الشيخ محمد الطويل بحارة الشام يحف به المنشدون المشهورون في ذلك الوقت وتتقدمه المصابيح الغازية الكبيرة - الأتاريك - يحملها الرجال، كما كان يمشي حملة مباخر العود بين يدي العريس وحينا وصل الموكب الذي كان يمشي فيه كثير من أعيان المدينة ورجالها وشبابها إلى حدود حارة اليمن وتقع هذه الحدود أمام مسجد المعمار عند بيت آل الجمجوم في ذلك الوقت تعرض بعض أهل حارة اليمن للموكب وطلبوا منه العودة من حيث أتي قائلين - هذه حارتنا ولن نسمح لكم بالدخول وأصر أهل حارة الشام على الدخول فكيف يعودون ومعهم هذا الموكب الضخم العظيم وفقد رجال الحارتين أعصابهم فتسابوا ثم استعملوا عصيهم يضربون بها بعضهم بعضا وانفرط عقد الموكب وتفرق الناس خائفين على أنفسهم من نتائج المعركة المجنونة التي نشبت فجأة دون إنذار والتي أوقد شعلتها شباب غير مسؤولين فقدوا أعصابهم في ساعة من ساعات الحمية الكاذبة ولم يستطع العقلاء التدخل وإيصال العريس إلى منزل عروسه إلا بعد مشقة وتعب ولكن كان الضرب قد حدث وكذلك الإصابات في الجانبين وتدخلت الشرطة وأخذت

(1)

أصبحت محلات جدة أو حاراتها الآن أكثر من عشرين حيا وأصبحت لها عدة بلديات بعد أن تضاعف نمو المدينة أكثر من عشرين ضعفا ..

ص: 59

الجميع إلى السجن وكان مساعد قائممقام جدة يومها المرحوم الشيخ عبد العزيز بن زيد وسمعته يقول: إن كانت هذه المعركة بسبب الحدود فإننا سنرسل المتقاتلين إلى الحدود الحقيقية لحمايتها أما هذه الحدود داخل المدينة الواحدة فهي حدود كاذبة مفتعلة ولقد كانت هذه الحادثة هي آخر ما أعرفه عن حوادث الحدود بين الحارات إذ كان تصرف الدولة الحازم كفيلا بالقضاء على هذه النعرات إلى غير رجعة والحمد لله.

نعود بعد هذا الاستطراد الذي جرنا إليه موقع منزل آل قابل في مدينة جدة إلى الشيخ سلمان قابل فنقول إنه توفي إلى رحمة الله تعالى بعد مرض ألَمَّ به سافر من أجله للاستشفاء في مدينة القاهرة ثم عاد إلى مدينة جدة ولكن الأجل كان قد دنا فتوفي وكأنما كانت وفاته نذيرا بانطواء تاريخ الأسرة التي كان يجمع شملها ويرفع اسمها رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان رجلا عصاميا طموحا وقد استطاع أن يبرز بين رجال مدينة جدة بهذه العصامية وبهذا الطموح.

ص: 60

أعْلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 61

السيد صالح بن بكرى شطا

ص: 62

‌السَّيد صَالح بن بَكري شَطا

طويل فارع، معتدل الجسم، أبيض اللون تشوب بياضه حمرة خفيفة، واسع العينين، أقنى الأنف، يضع على عينيه نظارة ذهبية، كان في العهد الهاشمي يرتدي الجبة والعمامة الحجازية، وقد أدركته في الخمسينات وهو يرتدي العباءة العربية والغترة البيضاء دون عقال وهو الزي الذي يتميز به علماء الدين والقضاة، ولا عجب في ذلك فالرجل من بيت علم ودين وقد ظل محتفظا بصفته هذه رغم المناصب الكبيرة التي أسندت إليه فهو من أولئك الرجال الذين تنفرد شخصياتهم بما وهبها الله من صفات فتضع بصماتها على ما يسند إليها من منصب أو عمل فلا يعرفها المنصب أو الجاه، ولا يبطرها الثراء أو الحسب لأنها تستمد قوتها من صفاتها الشخصية التي تفرض حبها على الناس في بساطة ويسر.

ولد السيد صالح شطا عام 1302 هـ بمكة المكرمة وتوفي والده وهو في الثامنة من العمر فكفله أخوه الأكبر السيد أحمد شطا المدرس بالمسجد الحرام، وحفظ القرآن الكريم في صباه وتلقى تعليمه على أيدي أعلام العُلماء من أسرته ومن علماء مكة المكرمة الذين تعقد حلقات دروسهم في رحاب المسجد الحرام

ص: 63

أمثال السادة: أحمد وعمر شطا والسيد عبد الله دحلان والسيد حسين الحبشي وغيرهم

(1)

وبعد أن أتم دراسته حصل على إجازة بالتدريس من هيئة العُلماء بمكة المكرمة فكان يلقى دروسه في رحاب المسجد الحرام بباب الزيارة.

سمعت باسم السيد صالح شطا رحمه الله أول مرة في أوائل الأربعينات حينا وفد بأسرته من مكة المكرمة إلى جدة خلال الحرب السعودية الهاشمية ونزل بدار الشيخ عبد الرحمن باجنيد - كانت هذه الدار في شارع قابل أمام مسجد المعمار وقد أزيلت وأدخلت مع البيوت التي حولها في الشارع الجديد المسمى شارع الذهب حاليا - أقول سمعت باسم صالح شطا لأول مرة حينها وفد بأسرته من مكة المكرمة ولكن لم يمض طويل وقت حتى شاع في مدينة جدة خبر التجائه إلى مخيم السلطان عبد العزيز آل سعود بالرغامة - خارج مدينة جدة ولهذا الالتجاء خلفية لابد من ذكرها وقد حدثني عنها السيد صالح شطا نفسه رحمه الله قال: كنت أقاوم حكم الشريف الحُسين بن على لأنه كان ظالما بطاشا ولقد سجنت ومعي الشريف رضا "والد المرحوم الشريف محمد شرف رضا" في سجن الحُسين بمكة المكرمة لأن الحُسين كان يعرف عنا هذه المعارضة، قال وكنت أرسل المقالات إلى الجرائد المصرية "ولعله ذكر اسم مجلة المقتطف" أعدد فيها مظالم الحُسين بتوقيع مستعار، وكانت هذه المقالات تنشر ولا يعرف كاتبها إذ كانت الصحيفة تحتفظ باسم الكاتب سرا إذا رغب في ذلك، أقول أن هذه الخلفية للسيد صالح شطا رحمه الله توضح اختراقه للأسلاك الشائكة التي تحيط بمدينة جدة في أيام الحصار والتجاءه إلى مخيم السلطان عبد العزيز فهو إنما فعل هذا مدفوعا بكراهيته للعهد القائم إذ ذاك وهذه الحادثة بالذات تظهر مدى قوة شخصية الرجل وشجاعته في اقتحام المخاطر، فلو أن محاولته للخروج من مدينة

(1)

سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر الهجري تأليف عمر عبد الجبار صفحة 141 ..

ص: 64

جدة كشفت أو ألقي القبض عليه من قبل الجيش المدافع عن المدينة، لكان مصيره في مهب الريح، ولكان في موقف من أسوأ المواقف التي يتعرض لها من يقتحم هذه الأخطار بينها كانت أسرته الكبيرة مقيمة بمدينة جدة. هذا ما كنت قد كتبته عن هذه الحادثة المشار إليها ونشر في الحلقة الخاصة بالمرحوم السيد صالح شطا. وقد اتصل بي ابنه الأخ السيد محمود شطا عضو مجلس الشورى وأخبرني أن والده لم يلجأ إلى مخيم السلطان عبد العزيز وأنه إنما ذهب مع من ذهبوا من زعماء مكة وجدة لمقابلة السلطان عبد العزيز بالرغامة لإبداء آرائهم فيا تتعرض له مدينة جدة من المخاطر بما تضمه من الأهالي ورعايا الدول الأجنبية وأن الشريف الملك علي بن الحُسين لم يكن راضيا عن ذهابهم ولكنه لم يستطع منعهم وأنهم حينا عادوا سجنوا بالقشلة وأبعد منهم من أبعد عن البلاد وأن والده السيد صالح شطا كان من ضمن المسجونين بالقشلة مع المرحوم الأفندى محمد نصيف والشيخ سليمان عزايه. هذا وقد وجدت في كتاب ماضى الحجاز وحاضره للأستاذ حسين محمد نصيف رحمه الله ما يدل على أن السيد صالح شطا كان أحد أعضاء الحزب الوطني الذي تأسس في مدينة جدة أيام الحرب الهاشمية السعودية وللتوفيق بين ما كنت كتبته عن التجاء السيد صالح شطا إلى مخيم السلطان عبد العزيز حسب المعلومات التي كانت متداولة في ذلك الوقت وبين ما ذكره لي ابنه السيد محمود شطا أقول إن السيد صالح رحمه الله كان معروفا معارضته الشديدة للحكم الهاشمي ولابد أن البعض حينا علم بذهابه مع من ذهبوا لمقابلة السلطان عبد العزيز على كره من الملك على أنهم ظنوا أنه لجأ إلى مخيم السلطان عبد العزيز أو أن هذه الإشاعة أطلقت لتبرير سجنه مع زملائه الذين سجنوا وأبعدوا فيما بعد.

ولعله من المناسب أن نذكر الآن طرفا من الحالة الاجتماعية التي كانت تسود

ص: 65

البلاد في هذه الفترة من الزمان في أوائل الأربعينات من هذا القرن الهجري الذي يوشك على الانتهاء.

كانت الحياة الاجتماعية في الحجاز مبنية على الترابط والسياحة وكانت البيوت مفتوحة لاستقبال الضيوف ولم تكن هناك فنادق أو خانات ينزل فيها المسافرون بين مدينة وأخرى وإنما كانت هناك علاقات صهارة أو صداقة أو عمل تربط بين الناس فكان المسافر من مكة إلى جدة. أو من جدة إلى مكة ينزل في بيت قريب أو صديق وكانت أغلب المنازل بها أماكن مخصصة للضيافة وكانت ضيافة الرجال في الدور الأرضي من المنزل الذي كان يحتوي على دواوين ومقاعد بما يلزم لها من خدمات، أما النساء فكانت استضافتهن في الأدوار العليا مع نساء العائلة فإذا حضر الرجل بأهله دعي ليلا إلى الصعود إلى مجلس في هذه الأدوار يخصص لمبيته مع أهل بيته لا يختلط بنساء العائلة أو رجالها فإذا كان الصباح ترك هذا المجلس إلى الدور الأرضى حيث يجتمع الرجال جميعا لتناول الإفطار ثم طعام الغداء وتبقى هذه البيوت مفتوحة طيلة النهار وصدرا من الليل يقوم على خدمتها المكلفون بذلك من الرجال. لهذا فإنه حينا وقعت الحرب الهاشمية السعودية وهاجر الكثيرون من أهل مكة إلى مدينة جدة بعائلاتهم نزل كل هؤلاء المهاجرين تقريبًا في بيوت أهل جدة فالقريب نزل عند أقربائه أو أصهاره والصديق نزل في بيت صديقه، والذي لا قريب له أو صديقا نزل كذلك في بيوت عرف أصحابها بالكرم والنخوة، ولقد كان لكبير جدة في ذلك الوقت الشيخ محمد الطويل رحمه الله دور عظيم في إسكان الوافدين من أهل مكة وإنزالهم في جدة بحكم منصبه العظيم وزعامته في مدينة جدة في ذلك الزمان.

وتعود بعد هذا الاستطراد إلى الحديث عن السيد صالح شطا رحمه الله

ص: 66

فنقول كان من المؤكد بعدما ذكرنا عن معارضته الشديدة الحكم الشريف الملك الحُسين بن على ثم لابنه الملك علي مع ما للرجل من صفات شخصية ومركز عائلي مرموق أن يكون من أبرز رجال العهد السعودي في الحجاز بعد أن أصبح السلطان عبد العزيز ملكا على الحجاز عام 1344 هـ - فكان عضوا بمجلس الشورى عن مكة المكرمة في بداية تأسيس المجلس عام 1345 هـ ثم عهد إليه بإدارة المعارف العامة، ثم عين مساعدا للنائب العام لجلالة الملك في الحجاز - وكان النائب العام في ذلك العهد هو صاحب السمو الملكي الأمير فيصل - جلالة الملك فيصل فيما بعد - وهو منصب من أرفع المناصب الإدارية وقد استقر الأمر بالسيد صالح شطا بعد أن أصبح النائب الثاني لرئيس مجلس الشورى (النائب الأول للمجلس هو صاحب السمو الملكي الأمير فيصل) وكانت رئاسته للمجلس شرفية إذ أن سموه لم يكن يحضر إلا حفلات افتتاح المجلس الرسمية في كل عام وكانت الرئاسة العملية هي للنائب الثاني وهو المنصب الذي شغله المرحوم السيد صالح شطا سنوات طويلة وأداره بمنتهي الكفاءة والحزم.

ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن مجلس الشورى كان له تأثير كبير في شؤون الدولة وخاصة في النواحي القانونية والتنظيمية في الوقت الذي لم تكن الوزارات فيه قد تأسست ولم يكن هناك كذلك مجلس للوزراء فكانت جميع الأنظمة التي تفكر فيها الدولة تحال إلى المجلس لصياغتها أو دراستها وإقرارها، وأذكر أنني ذهبت إلى مجلس الشورى أكثر من مرة لمناقشة الأنظمة الاقتصادية التي وضعت لبعض الشركات العربية في ذلك الوقت كشركة التوفير والاقتصاد وغيرها منتدبا من مجلس إدارة هذه الشركات وكانت مواد هذه الأنظمة تناقش بدقة كما كان يحال إلى المجلس الكثير من القضايا الإدارية وغيرها لدراستها وإبداء الرأي فيها، وكان الرأي المجلس وزن كبير فيا يعرض عليه وخاصة في

ص: 67

عهد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز ولم يكن السيد صالح رحمه الله رئيسا عاديا ولكنه كان شخصية مؤثرة فالرجل طالب علم منذ نشأته وهو بحكم مركزه الاجتماعي من دعاة الإصلاح والتنظيم، فلم يكن يكتفي بإدارة جلسات المجلس وإنما كان يشارك في المناقشات ويؤثر فيها بشخصيته القوية الحازمة فكان بعمله هذا يضفي على مناقشات المجلس حيوية دافقة تجعلها ذات قوة وتأثير (ولعل أستاذنا الكبير الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي النائب الثاني لرئاسة المجلس حاليا يحدثنا عن المجلس وتاريخه بحكم خبرته العملية الطويلة وخاصة عن ذكرياته فيه بكل معجب وطريف مد الله في حياته وأسبغ عليه أثواب الصحة والعافية).

‌إلغَاء الكوشَان

حينما سمح الملك عبد العزيز بدخول السيارات إلى الحجاز لأول مرة فرضت الدولة رسما مقداره أربعة وثلاثون قرشا ذهبا "ما يساوي ثلث الجنيه" للسفر إلى مكة المكرمة، ورسما آخر لعله يكون جنيهين للسفر إلى المدينة المنورة - وكنت ذكرت قبلا أن واردات الدولة قبل ظهور الزيت كانت تتألف من الجمارك ومن هذا الرسم الذي كان يسمى الكوشان والذي كان مفروضا على الأهالي كما كان مفروضا على الحجاج - ولعل كلمة الكوشان من أصل تركي تؤدي هذا المعنى - نقول إن هذا الرسم أو هذه الضريبة فرضت مع السماح بدخول السيارات إلى المملكة واستعمالها فقد كانت ممنوعة في العهد الهاشمي كما أسلفنا إذ كانت سياسة الشريف الحُسين بن على تتلخص في أن إدخال السيارات إلى البلاد تستنزف ثرواتها فهو يعتبر أن الجمل هو الوسيلة المثلى للنقل من الناحية الاقتصادية لأن البادية وهي تكون سواد الشعب إنما تعيش على الجمل في حين أن السيارات تحتاج في وقودها وصيانتها وإدارتها إلى الخارج وهو أمر يستنزف ثروات البلاد بينَما أن

ص: 68

الجمل يحفظ ثروة الأمة داخل حدودها، ولهذا فلم يكن في العهد الهاشمي أي نوع من السيارات يسمح به باستثناء سيارة الملك نفسه، قالوا وكان في مكة المكرمة ثري كبير اسمه السيت جان كندواني وهو من أصل هندي وكان يرغب في استيراد سيارة له فاستأذن الشريف الحسين في ذلك فلم يجب عليه بشيء فظن أن سكوت الشريف معناه الموافقة فاستورد السيارة وحينما وصلت السيارة إلى مكة وأراد استعمالها تعرض له الصبية والسفهاء فقذفوها بالحجارة وأتلفوا بعض أجزائها ولما لم يجد من يعترض على هذا الأذى أدرك أن الشريف لم يوافق على استيراد السيارات ولن يوافق عليها وهكذا كان ونعود الآن إلى موضوع الكوشان فنذكر أن هذه الضريبة كانت مفروضة على السفر إلى كل من مكة والمدينة المنورة فلما تم توحيد المملكة كان بقاء هذه الضريبة رغم أهميتها للدولة لاختصاصها بالمدينتين المقدستين غير مستساغ، قالوا وكان أول من طالب بإلغائها في المدينة المنورة هو المرحوم الشيخ سعود دشيشة نائب المدينة المنورة في مجلس الشورى حيث خاطب الملك عبد العزيز بما معناه إنك يا طويل العمر قد وحدت هذه المملكة وآخيت بين الرعية فلماذا يدفع أهل المدينة ضريبة كلما أرادوا أن يعودوا إلى مدينتهم حينما يخرجون منها فرفع جلالته الضريبة عن أهل المدينة المنورة وفي الحال تقدم السيد صالح شطا إلى جلالته قائلا إن نائب المدينة طلب إعفاء أهلها من الضريبة وأنا أتقدم باسم أهالى مكة المكرمة لطلب إعفائهم منها وقد استجاب جلالة الملك عبد العزيز لطلبه فألغيت هذه الضريبة أو ألغى رسم الكوشان عن الأهالي وبقي مفروضا على الحجاج إلى أن تم إلغاؤه في عام 1370 هـ، وهكذا أثبت السيد صالح شطا رحمه الله أنه كان رجل مكة المكرمة ونائبها بحق فلقد كان الرجل رغم مناصبه العظيمة يعيش مع الناس يتحسس آلامهم ويتفهم مشاكلهم وكانت داره مفتوحة لاستقبال الناس طيلة النهار وصدرا من الليل يفد إليها الوافدون لا

ص: 69

يصدهم عن لقائه حجاب وإنما يجدون صدرا رحبا ووجها كريما باشا وبساطة محببة.

لعمرك ليس الجود أن تطعم القرى

ولكنما وجه الكريم جواد

‌الطَائف وعَاِصمة الدَّولة في الصَّيْف

ومما يدخل في هذا الباب عن تحسسات السيد صالح شطا رحمه الله نذكر أن الدولة كانت تنتقل إلى الطائف صيف كل عام بكامل أجهزتها طيلة عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وأوائل عهد الملك سعود وكانت عاصمة الدولة الرسمية في مكة المكرمة فإذا حل الصيف انتقلت الدولة بكامل إدارتها إلى الطائف وكان أهل مكة المكرمة كما هو معلوم ترتبط مصالح الكثيرين منهم بأعمال الحج، وشؤون الحجاج، فإذا ما اقترب موسم الحج رغبوا في العودة إلى مكة المكرمة لمباشرة أعمال الحجاج وكان الكثيرون منهم إلى جانب ارتباطهم بأعمال الحج والحجاج موظفين في الدولة ولا يستطيعون العودة إلى مكة إلا إذا أذنت الدولة بذلك، وكان الجميع مرتبطين بصاحب السمو الملكي الأمير فيصل النائب العام الجلالة الملك في الحجاز جلالة الملك فيصل فيما بعد وكان الإذن بالعودة يتأخر في كثير من الأوقات عن الوقت الذي يرغب فيه الموظفون وخاصة إذا تأخر الصيف واقترب الموسم وبدأت طلائع الحجاج في القدوم فمنهم من يرغب في استئجار البيوت اللازمة لحجاجه ومنهم من يرغب في تأجير منزله على الحجاج، والكثيرون منهم يرتبطون بعمل الحج بشكل من الأشكال وكان الشخص الوحيد الذي يتصدى لهذا الأمر هو المرحوم السيد صالح شطا فيتحدث إلى سمو النائب العام

ص: 70

في الأمر ويستصدر الإذن بعودة الدوائر الرسمية إلى مكة المكرمة بينما يبقى هو شخصيا بالطائف إلى حين عودة سمو الأمير نفسه إليها.

‌إِمَامَة المسْجِد الحَرَام

قالوا وكان السيد صالح شطا يؤدي صلاة المغرب يوما في المسجد الحرام فتأخر الإمام المرحوم الشيخ عبد الظاهر أبو السمح، وكان يسكن بالصفا بجوار المسجد قبل إدخال هذه البيوت في التوسعة الأولى في المسجد الحرام، ورأى السيد صالح أن تأخر الإمام قد زاد عن الحد الطبيعي فلم يكن منه إلا أن تقدم إلى المحراب وأشار إلى المؤذن بإقامة الصلاة وصلى بالناس وكان الشيخ عبد الظاهر قد حضر بعد إقامة الصلاة فتقدم من السيد صالح شاكرا وداعيا له بالخير.

هذه الحوادث البسيطة وأمثالها تدل على مدى شعور الرجل بالمسؤولية إزاء الناس سواء في أمور دينهم أو دنياهم وهي تحسسات قد يشعر بها الكثيرون ولكنهم لا يملكون الشجاعة للتعبير عنها بالأسلوب العملي الذي يحل المشكلات ويرفع الضيق عن الصدور.

‌تَشجيعُ الكَفَاءات

ولقد لمست كما لمس غيري في السيد صالح رحمه الله تشجيعه للكفاءات وخاصة للشبان الذين لم تعرف أسماؤهم أو تظهر مواهبهم وأذكر لذلك حادثة أو حادثتين وقعت معي شخصيا وأبدأ بالحادثة الثانية فلقد فوجئت يوما في أوائل عهدي بالعمل التجاري أن دعيت لحضور إجتماع رسمى للبحث في أمور العملة في الطائف وكان هذا في منتصف الستينات وذهبت إلى الطائف لحضور الاجتماع

ص: 71

وكنت في عجب من دعوتي إليه بينا أنني تاجر حديث وهناك من هم أكبر سنا وأعظم خبرة وأكثر تجربة من أصحاب الأسماء الكبيرة والتقيت في الطائف بالصديق الأستاذ محمد عمر توفيق - معالي وزير المواصلات فيها بعد - وكان يعمل بديوان سمو النائب العام ولم أكتمه عجبي من اختياري لحضور الاجتماع فقال لي أن السيد صالح شطا كان يتابع ما تكتبه من مقالات اقتصادية في صوت الحجاز وهو الذي رشحك لدى سمو النائب العام لحضور هذا الاجتماع أما الحادثة الأولى فاذكر أنني كتبت مرة بحثا عن النقد في جريدة صوت الحجاز ونشر في حلقتين أو أكثر أوضحت فيه رأيي فيما يجب أن يكون عليه النقد والصفات التي يجب أن يتحلى بها الناقد من علم تام بما ينقد، ومن حيدة لا تؤثر فيها العواطف والأهواء وقلت فيما قلته إن الناقد هو قاض عادل يزن الأمور ميزان دقيق فيؤدى أمانة النقد كاملة فيذكر ما له كما يذكر ما عليه وكنت يومها أصيف بالطائف ولم أشعر إلا والمرحوم السيد عبد الحميد الخطيب عضو مجلس الشورى والسفير السعودي في باكستان فيما بعد، يزورني ويذكر لى ثناء السيد صالح رحمه الله وإعجابه بما قرأ وحديثه عن ذلك في المجلس وحينما أعود الآن بذكرياتي عن هذا الأمر بعد ما مر بي من تجاريب الحياة يتمثل لي السيد صالح شطا وأمثاله من عظماء الرجال رجالا كبارا، فلقد كان الرجل في ذروة مجده رئيسا لمجلس الشورى وزعيما من زعماء مكة المكرمة بل من أكبر زعمائها وكنت أنا شابا في بداية الطريق أعمل سكرتيرا لمعالي الشيخ محمد سرور وكان الفارق بيني وبينه كبيرًا في كل شيء ولكن هذه الفوارق على سعتها لم تمنع الرجل من التحدث بما استحسنه حتى وصل به الأمر إلى الأخذ بيدى إلى الظهور بينا أنني رأيت بعد ذلك من الناس الأعاجيب في غمط حقوق الغير وطمس آثارهم وإظهار الحسنات بمظهر السيئات وهذه هي الصفة الغالبة على الناس بكل أسف لم ينج منها إلا كبار النفوس والعقول.

ص: 72

وهذا الذي فعله السيد صالح رحمه الله معي من المؤكد أنه فعل أمثاله مع الكثيرين غيري ولعل من يقرأ هذه الحلقات يستطيع أن يضيف إلى ما أكتبه وما كتبته عن هؤلاء الأعلام الكثير من الأخبار والحوادث التي تجلو شخصياتهم وتبرز مآثرهم فما أحق هذا التاريخ أن يدون وأن يعرفه أبناؤنا وأحفادنا ليكون لهم قدوة تحتذى ومنارا به يهتدي.

‌محَاضَرات جمعيَّة الإِسعَاف

كانت جمعية الإسعاف بمكة المكرمة تنظم محاضرات أسبوعية لتثقيف الجمهور وكانت تستدعي كبار العُلماء والأدباء لإلقاء محاضراتهم فيما بعد صلاة العشاء من إحدى ليالي الأسبوع وكان الإعلان عن هذه المحاضرات يتم بالنشر عن ذلك في جريدة صوت الحجاز وفي لوحة ترفع أمام مبنى الجمعية الذي كان أمام الحميدية في أجياد - وقد هدم هذا المبنى فيما بعد مع المباني الكثيرة وأدخل ضمن التوسعة الأولى للمسجد الحرام وكان الناس يقبلون على سماع هذه المحاضرات بأعداد كبيرة مما يجعل الصالة المخصصة لذلك تضيق بالحاضرين وكان من أبرز المحاضرين في جمعية الإسعاف السيد محمد شطا - مد الله في حياته - وكانت محاضراته عن قصص القرآن وكان مبدعا في إلقائه وتعبيره كما أن مبنى الجمعية شهد محاضرات دينيه كثيرة من فضيلة الشيخ بن حميد وسعادة الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي وكان موضوع محاضرته ما نحن أحوج إليه، واذكر أن أطول محاضرة ألقيت في الجمعية هي محاضرة المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة لأنها كانت عبارة عن مؤلف صغير استغرق عدة ساعات نقول وكان السيد صالح شطا من أبرز المحاضرين في جمعية الاسعاف وكان الناس يحرصون ألا تفوتهم محاضراته لما عرف عنه من صراحة وإخلاص وقد تم جمع القسم الأول من هذه المحاضرات وطبعت في كتاب صدر منه جزء واحد باسم محاضرات الإسعاف.

ص: 73

‌وَفَاة السَيّد صالح شَطا

وكان موضوع محاضرته الأخيرة "الإسلام والدعوة القومية" وفي الليلة التي تحدد فيها إلقاء المحاضرة قبيل المغرب رن جرس التلفون في مكتب الشيخ محمد سرور ورفع السماعة ثم وجم وجوما شديدا ثم قال الدوام لله فسألته ما الأمر قال: لقد ذهب السيد صالح إلى رحمة الله وساد المجلس وجوم وأسى فلم تكن الفجيعة في فرد من الناس وإنما كانت في رجل عظيم كبير.

ولم يكن خبر الوفاة قد أعلن فحضر الناس إلى جمعية الإسعاف للاستماع إلى السيد صالح شطا وهو يحاضر عن الدعوة القومية في نظر الإسلام فأعلنت الجمعية للحاضرين وفاة السيد صالح شطا ثم ألقيت المحاضرة نيابة عنه وكان رأي السيد صالح رحمه الله كما هو متوقع أن الإسلام لا يعترف بالقومية فالمسلمون إخوة كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى وهكذا كان مسك الختام للسيد صالح شطا رحمه الله دعوة بالقلم واللسان إلى الخير والإصلاح.

رحم الله السيد صالح شطا رحمة الأبرار فلقد كان من عظماء الرجال.

ص: 74

أعلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 75

الشيخ عباس يوسف قطان

ص: 76

‌الشَّيخ عَباس يوسُف قَطان

متوسط القامة، ممتلئ الجسم قمحي اللون واسع العينين يضع على عينيه نظارة طبية له لحية خفيفة كان يرتدي العباءة والعقال المقصب في العهد الهاشمي ثم أصبح يرتدى العباءة والعقال العادي في العهد السعودي.

ولد الشيخ عباس قطان بمكة المكرمة سنة 1313 هـ وتلقى تعليمه الابتدائي في الكُتَّاب. والكتاب عبارة عن مدرسة صغيرة يتلقى فيها الأولاد مبادئ القراءة والكتابة على يد أحد المشايخ وبعد فترة قصيرة انتقل إلى المدرسة الصولتية وهي من أوائل المدارس الخيرية الخاصة التي أنشئت بمكة المكرمة في أوائل القرن الهجري الرابع عشر من قبل بعض أثرياء الهنود المسلمين. وكانوا يتولون الإنفاق عليها وهي لا تزال قائمة حتى الآن وهي تقوم على تعليم العلوم الدينية وكان لها دور بارز في هذا المجال وخاصة قبل انتشار المدارس الحكومية في العهد السعودي، وكان الشيخ يوسف قطان وهو من أثرياء مكة وأعيانها المعروفين قد عنى عناية خاصة بتعليم ابنه البكر الشيخ عباس قطان فكان يحضر له بعض المشايخ في الدار لتجويد القرآن الكريم ولتلقي بعض دروس الفقه واللغة كما كان يرسله لحضور حلقات الدرس في المسجد الحرام بين العشاءين فكان يحضر حلقات الدروس التي يعقدها علماء مكة المكرمة في ذلك الزمان أصحاب الفضيلة الشيخ

ص: 77

عباس مالكي والشيخ سعيد يماني والسيد المرزوقي والشيخ عمر باجنيد والشيخ عمر حمدان وجميعهم من أعلام العُلماء في مكة المكرمة في النصف الأول من القرن الرابع عشر رحمهم الله وهكذا تزود الشيخ عباس قطان من العلم بقدر ما كان يسمح به الزمن الذي نشأ فيه.

وقد نشأ الشيخ عباس قطان في ظل والده الشيخ يوسف قطان الذي كان من أكبر أعيان مكة المكرمة وأثريائها وكان وزيرا للنافعة - وزارة النافعة هي وزارة الأشغال العامة - في عهد الملك الشريف الحسين بن على كما كان على صلة تامة بأمراء مكة قبل ذلك ولقد قيل لي أنه هو الذي أشرف على بناء قصر شبرا في الطائف للشريف على باشا أمير مكة الأسبق في العهد العثماني، كما أنه كان من المقربين لجلالة المرحوم الملك عبد العزيز بعد فتح الحجاز وقد زاره جلالته في داره حينما مرض فهو إذا من أولئك الرجال الذين تظهر شخصياتهم في مختلف العهود، نقول أن الشيخ عباس قطان نشأ في ظل والده الذي أسلفنا ذكره وكان هذا الوالد عظيم الثراء فلم يهيئ ابنه للوظائف الحكومية ولعله كان منشغلا بأعمال والده ولكنه على أي حال أصبح عضوا في المجلس البلدي بمكة المكرمة في أوائل العهد السعودي وفي عام 1347 هـ عينه جلالة الملك عبد العزيز أمينا للعاصمة - وكانت مكة المكرمة هي عاصمة الدولة منذ أوائل العهد السعودي واستمرت كذلك طيلة عهد الملك عبد العزيز وفي عهد الملك سعود ثم نقل العاصمة إلى الرياض وأصبحت مكة المكرمة هي العاصمة المقدسة فيقال الآن عن رئيس بلدية مكة المكرمة أمين العاصمة المقدسة للتفريق بينها وبين العاصمة الرياض وقد استمر الشيخ عباس قطان أمينا للعاصمة بمكة المكرمة من عام 1347 هـ إلى نهاية عام 1346 هـ وبعدها عين عضوا في مجلس الشورى إلا أنه طلب من جلالة الملك عبد العزيز إعفاءه من هذا العمل حيث كان راغبا في التفرغ للأعمال الخيرية التي كان ينوي القيام بها.

ص: 78

ولقد كان الشيخ عباس قطان موضع ثقة جلالة الملك عبد العزيز فكان يكلفه بمهام الأمور في عهد رئاسته لأمانة العاصمة فحينا انتهت إمارة الأمير عبد العزيز بن إبراهيم على المدينة المنورة كلف جلالته الشيخ عباس قطان بالسفر إلى المدينة المنورة وتصريف شؤونها إلى حين تولى الأمير عبد الله السديري إمارة المدينة المنورة، كما كان يعهد إليه بالعمل في بعض الأمور التي تطرأ والتي يرغب جلالته اتخاذ إجراء معين فيها، وكانت دار الشيخ عباس قطان في مكة المكرمة وفي الطائف أيام الصيف مفتوحة للناس تغص بروادها من أهل العلم والفضل ومن الضيوف الذين كانت تنصب لهم الموائد صباح مساء وكانت هذه الدار تستقبل الضيوف من كبار الحجاج في موسم الحج، من كل عام وحينما قدم الدكتور محمد حسين هيكل باشا الكاتب المصري المعروف ورئيس مجلس الشيوخ المصري إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج نزل بدار الشيخ عباس قطان بمكة المكرمة بالشامية وفي هذه الرحلة رغب التعرف على آثار مكة ومعالمها فطلب من الشيخ عباس قطان أن يختار له مرافقا ملما بهذه الآثار فاختار له المرحوم الشيخ عبد الحميد حديدي العضو بأمانة العاصمة ومن أبرز رجالات مكة العارفين بتاريخها وآثارها وقد صحب الشيخ عبد الحميد رحمه الله الدكتور محمد حسين هيكل إلى زيارة آثار مكة المكرمة ومن أبرزها غار حراء وقد كتب الدكتور هيكل عن ذلك بالتفصيل في كتابه المشهور في منزل الوحي الذي ألفه بعد كتابه "حياة محمد" صلى الله عليه وسلم وما أذكره عن رحلة الدكتور هيكل هذه إلى مكة المكرمة أنه كان أحد الخطباء في الحفل الذي كان يقيمه شباب مكة وأدباؤها في كل عام في منى في أيام التشريق ولم يكن قد أعد نفسه للخطابة ولكنه استجاب للطلب وألقى خطابا جيدا في ذلك الحفل نشرته جريدة صوت الحجاز فيما بعد وأشرف على تصحيحه الشاعر والكاتب الكبير الأستاذ محمد حسن فقي بطلب من الدكتور هيكل نفسه كما علمت منه في ذلك الزمان.

ص: 79

‌مَوْلِد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم

-

ولد النبي صلى الله عليه وسلم بمحلة شعب على المعروفة بمكة المكرمة والتي تسمى في الوقت الحاضر سوق الليل وكان الشيخ عباس قطان يتمنى أن يقيم في هذا المكان مكتبة عامة واتفق مع أصهاره آل الكردي أن يشتري منهم مكتبة المرحوم الشيخ ماجد كردي الشهيرة بالمكتبة الماجدية وهي من أثمن المكتبات الخاصة وينقل محتوياتها إلى هذه الدار صيانة للموضع الذي ولد فيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من أن يبقى معرضا للإهمال وتكريما له بإقامة عمل نافع للناس فيه، وكانت العقبات التي واجهها الشيخ عباس قطان التحقيق هذه الأمنية الكبيرة كثيرة ولكنه استمر في محاولاته تلك دون كلل أو ملل فاستطاع بعد سنوات طويلة من الصبر وتصيد الفرص المناسبة أن يحظى بموافقة جلالة المغفور له الملك عبد العزيز للسماح له بإقامة المبنى الذي يريد وما أن حصل على الإذن من جلالته بإقامة المبنى حتى سارع باتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك عام 1370 هـ وكان يشرف على البناء بنفسه في كل يوم راغبا في سرعة إنجازه وتحقيق الأمنية التي كان ينشدها برؤية المكتبة العامة مشيدة في موضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم وفي يوم من أيام شهر رجب 1370 هـ ذهب كعادته لرؤية العمارة مصطحبا بعض أصدقائه ولكنه شعر بألم مفاجيء وهو واقف في الموقع فقد فاجأته نوبة قلبية حادة فأمسك به الحاضرون من أبنائه وأصدقائه واستدعى له أحد الأطباء ثم نقل إلى بيته وفي اليوم التالى فارق الحياة فكانت هذه العمارة التي تمنى أن ينشئها هي الخانة السعيدة لحياته ولقد قام أبناؤه من بعده بإكمال العمل الطيب الذي بدأه والدهم العظيم كما نقلوا إليها المكتبة الماجدية وسلمت إلى وزارة الحج والأوقاف وهي مفتوحة للجميع.

ص: 80

[صورة]

موضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 81

[صورة]

موقع بيت السيدة خديجة رضي الله عنها

ص: 83

‌دَار السَيّدة خَديجَة

حينا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد كان يسكن في منزلها في زقاق الحجر المعروف بزقاق الصَّوغ وفي هذا المنزل نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه ولدت السيدة خديجة رضوان الله عليها أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من ذكور وإناث وبعد وفاة السيدة خديجة رضوان الله عليها استمر النبي صلى الله عليه وسلم ساكنا هذه الدار إلى حين هجرته إلى المدينة المنورة فأخذ الدار عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وباعها إلى الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان فجعلها مسجدا

(1)

، ولقد عدت على هذه الدار عوادى الزمن فأصبحت خرابا وكان الشيخ عباس قطان قبل وفاته قد استأذن من جلالة الملك عبد العزيز في إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن في هذا المكان الذي نزل فيه القرآن والذي كان مسكنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه لسنوات طويلة وكما حصل على الإذن ببناء موضع ولادته صلى الله عليه وسلم حصل على الإذن بتشييد المدرسة المطلوبة في دار السيدة خديجة والتي أصبحت تسمى أخيرا (مولد السيدة فاطمة) نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد باشر الشيخ عباس قطان عمارة هذا المكان عام 1368 هـ مبتدئا به قبل عمارة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينا توفي أكمل أبناؤه من بعده إتمام العمارة المذكوره وسلمت إلى وزارة المعارف لافتتاحها للغرض الذي بنيت من أجله وقد تم افتتاح المدرسة لهذه الغاية وهي مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ولا تزال باقية حتى اليوم. إن هذا العمل العظيم الذي قام به المرحوم الشيخ عباس قطان هو من الأعمال الجليلة دون شك فعلاوة على ما بذله من المال

(1)

ملخصا عن كتب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم لمؤلفه الشيخ محمد طاهر الكردي.

ص: 85

في تشييد المكتبة والمدرسة وافتتاحها للإفادة منها فإنه صان بذلك المكان الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما صان المكان الذي نزل فيه القرآن على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، ولقد كانت محاولة الحصول على الأذن ببناء هذين المكانين في حد ذاتها تتسم بالإخلاص والشجاعة لأن بعض الناس كانوا يتخذون من بعض الأماكن الكريمة مقرا للشعوذة والضحك على بسطاء العقول وخاصة من الحجاج والجهلة ولقد أدركت الناس في جدة في العهد الهاشمي وهم يتخذون من مقبرة حواء مكانا للشعوذة ويدخل إليها الحجاج للتبرك ويستدرون منهم الأموال بهذه الوسيلة ولست أشك أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله كان يعرف أولا إخلاص الشيخ عباس قطان وصفاء عقيدته ولهذا سمح له بإقامة المدرسة والمكتبة في المكانين المشار إليهما ولم يكن من السهل على غير الشيخ عباس قطان في ذلك الزمن الوصول إلى ما وصل إليه وقد أعانه الله على ذلك فكانت له هذه الحسنة الجارية في بلد الله الأمين تقبل الله منه وجزاه أفضل الجزاء.

‌القِرى لقاصِد أُمّ القُرى

ومما يذكر للشيخ عباس قطان رحمه الله أنه قام على طبع القرى لقاصد أم القرى لمؤلفه محب الدين الطبري وهو كتاب جليل في تاريخ مكة المكرمة فكلف بعض النساخين بنسخ أصل الكتاب المذكور وطبع منه ألفي نسخة على نفقته الخاصة قام بإهدائها إلى العُلماء والأدباء وإلى أصدقائه من محبي المعرفة والاطلاع وهي مأثرة حسنة تضاف إلى مآثره الكثيرة.

‌إصْلاحُ ذَاتِ البَيْن

حينما كنت أقيم بمكة المكرمة في الفترة ما بين 1355 - 1346 هجرية كان الشيخ عباس قطان مشهورا بإصلاح ذات البين وكان يتحرى الإصلاح بين

ص: 86

العائلات التي يطول بينها الجفاء أو يستقر بينها العداء أو الأفراد الذين تشتد بينهم البغضاء فتقطع أواصر المودة ويحل الكره محل الحب ولقد كان قضاة مكة يحيلون إليه من القضايا التي تعرض عليهم ما يرون أن من المصلحة تدخله فيها حفظا لصلة الرحم وحسن الجوار وكان الشيخ عباس قطان رحمه الله يبذل جهده ووقته للإصلاح ما وسعه ذلك مستعينا بمن يتوسم فيهم الخير من الرجال لتحقيق هذه الغاية باذلا في ذلك جاهه وماله وربما اقتضى الأمر مراجعة المسؤولين في دوائر الحكومة لتذليل العقبات التي تعترض سبيله حتى إذا أثمر سعيه جمع المتخاصمين في داره المضيافة على مائدة العشاء أو الغداء مع من اشترك معه في الإصلاح ليذهبوا في اليوم التالي إلى المحكمة فيطلبون من القضاة إلغاء القضايا التي كانوا يقيمونها معلنين تصالحهم وتراضيهم ولا شك أن هذا العمل من أجل الأعمال التي لا يقوم بها إلا أولئك الرجال الكبار الذين اتسعت صدورهم المشاكل الناس فرأبوا الصدع وأقاموا المودة مقام العداوة وسعدوا بما رأوا من ثار سعيهم الطيب بين الناس.

‌وفَاته

لقد ذكرت أن الشيخ عباس قطان فاجأه المرض وهو يقف على العمارة التي أنشأها في مولد النبي صلى الله عليه وسلم وقد توفي في اليوم التالي بداره بالشامية صباح الاثنين 16 رجب 1370 هـ عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاما بعد حياة قضاها في العمل الطيب تغمده الله برحماته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود.

ص: 87

عبد الله محمد باحمدين

ص: 88

‌عَبْدُ الله محَمَّد باحَمدين

قصير القامة ممتلئ الجسم أسمر اللون واسع الجبهة نظراته تشع ذكاء وفطنة يضع على عينيه نظارة ذهبية ويرتدى العباءة العربية بينا يعمم رأسه بعمامة ملفوفة على الطريقة الحجازية - وهذه العمائم يستعمل فيها الشال البغدادي وهو من صناعة حلب - ولد بمكة المكرمة في عام 1329 هجرية وتعلم بمدارسها ثم تعلم اللغة الإنكليزية على يد بعض أساتذتها من الهنود بمكة المكرمة كذلك، وكان المتكلمون بهذه اللغة في مكة بالذات من أبناء البلاد ندرة قليلة تعد على الأصابع.

وتوفي والده وهو شاب وكان يعمل في متجر أبيه بالجودرية وأراد الشاب عبد الله باحمدين أن يجمع شمل الأسرة وأن يبقى المتجر الذي أسسه والدهم مفتوحا يعمل فيه الجميع، ولكن إخوته لم يوافقوا على هذا الرأي واقتسموا الثروة التي تركها والدهم وانفرد كل منهم بعمله الخاص، ورأى عبد الله باحمدين نفسه وحيدا ولم يكن نصيبه القليل من تركة أبيه كافيا لتحقيق طموحاته الكبيرة حدثني عن هذه الفترة من حياته، قال كنت قد اشتريت سيارة لاستعمال الشخصي وكانت السيارة تحتاج إلى سائق وإلى مصاريف للوقود فتركتها مخزونة بضع شهور لأني لم أكن قادرا على توفير ما يلزم لها من منصرفات.

ص: 89

وانكب الشاب عبد الله باحمدين على العمل في المتجر الذي أسسه لنفسه وأخذ يواصل عمل أبيه في استيراد الأقمشة وما إليها ولكن طموحه كان أعظم من هذا العمل الروتيني المحدود فيها أكثر حوانيت الأقمشة من حوله وما أكثر مستوردها، إنه يفكر في أعمال كثيرة تحتاج إليها مكة المكرمة ولم يقدم عليها أحد بعد وهكذا فكر عبد الله باحمدين رحمه الله في صناعة الثلج.

‌مَصْنع الثَّلج

كان هناك مصنع وحيد للثلج في مكة المكرمة أسسه رجل سوري اسمه الحاج نسيم واشترك معه في تأسيسه من الناحية المالية بعض أهالي مكة وكان عبد الله باحمدين واحدا من هؤلاء المساهمين ولست أدري أن كانت هذه المساهمة من عهد والده وأرجح أنها كانت كذلك المهم في الأمر أن عبد الله باحمدين وجد نفسه في المجال الذي يرغب والذي يعلم أنه الأصلح لمواهبه والألزم لبلاده ولم يكن عبد الله باحمدين راضيا عن شركة الثلج بأوضاعها تلك ففكر في استيراد مصنع خاص للثلج يديره هو، وكانت مكة مفتقرة إلى أكثر من مصنع فالبلد شديد الحرارة والجو الحار يبقى أكثر من سبعة شهور في العام ولم تكن هناك الكهرباء ولا الثلاجات - فكانت الحاجة إلى الثلج تستمر طيلة العام وتزداد في موسم الحج وهكذا أقدم عبد الله باحمدين على الدخول في مضمار العمل الصناعي وهو في مطلع شبابه فاستورد لنفسه مصنعا كبيرًا للثلج واختار له مكانا مناسبا في منطقة المعلاة بجوار مقبرة المعلاة، ولقد استطاع التغلب على المشاكل الفنية التي واجهته في استيراد المصنع ونقله إلى مكة ثم تركيبه وإدارته ولقد علمت أنه كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة أثناء تركيب المصنع الذي تم بواسطة فنيين محليين ويشارك في تذليل الصعاب التي تعترض إتمام هذا العمل حتى أنه قضى ما يقرب

ص: 90

من يوم وليلة في مقر المصنع منهمكا في العمل ناسيا أنه لم يطعم ولم ينم حتى تم إنجاز العمل ورأي الآلات تدور، وهذا التصميم إن دل على شيء فإنما يدل على العزيمة القوية والإرادة العظيمة لتحقيق النجاح مهما كانت المصاعب والعقبات.

‌الشركة العربيَّة للتوفير والاقتِصَاد

لم يكتف عبد الله باحمدين بما حققه لنفسه من تأسيس مصنع كبير للثلج يسد حاجة مكة المكرمة في ذلك الوقت أو معظم احتياجاتها من الثلج فلقد كان رجلا واسع الطموح، عظيم الهمة وكان يرى أن بلاده مفتقرة إلى الكثير الذي يمكن تحقيقه من الأعمال الجديدة وخاصة ما يتعلق بالصناعة ولكن إمكانياته المادية لم تكن لتساعده على تحقيق ما يريد، وكان عضوا في مجلس إدارة الشركة العربية للتوفير والاقتصاد بمكة المكرمة ثم أصبح رئيسا لمجلس إدارة الشركة وأخيرا عهد إليه بإدارة أعمال الشركة المذكورة فوجد المجال أمامه مفتوحا لتحقيق بعض طموحاته في هذه الشركة الفتية فقام بشراء باخرتين صغيرتين للشركة وأخذ يسيرهما بين موانئ البحر الأحمر وخاصة بين موانيء جدة الحديدة، ولقد شهدت الرجل يتنقل بين مكة وجدة كلما وردت هذه البواخر أو إحداهما ليهييء لرحلتها القادمه مستخدما كل جهده وتفكيره في إنجاح هذا العمل الجريء، ولقد علمت أن معالي الشيخ عبد الله السليان وزير المالية حين ذاك قدر هذا العمل لمدير عام الشركة العربية للتوفير والاقتصاد وأبدى له من صنوف التشجيع ما جعله مطمئنا إلى الاستمرار في العمل فليس سرا أن عملا من هذا النوع معرض للخسارة أكثر مما هو معرض للربح وفي الأوقات المعتادة تضمن الحكومات لشركات البواخر نسبة معينة من الأرباح للإبقاء على الاتصالات البحرية بين

ص: 91

بلادها والبلاد الأخرى حاملة للبضائع والركاب فالموضوع له أهمية اقتصادية عظيمة للدول ولقد افتتح عبد الله باحمدين فرعا في جدة لمواجهة أعمال البواخر والإشراف عليها من قريب وبقيت هذه البواخر تمخر عباب البحر الأحمر طيلة المدة التي قضاها عبد الله باحمدين على قيد هذه الحياة.

‌مَصْنع النسِيج

وكان لشركة التوفير والاقتصاد مصنع صغير للنسيج فقام عبد الله باحمدين بإدخال التحسينات عليه وهو مصنع يدوي على الطريقة القديمة ولقد رأيت الصناع من الشباب السعودي يعملون على هذه الأنوال اليدوية وينتجون بعض الأقمشة وكان هذا في أيام الحرب العالمية الثانية وأذكر أنني كنت في القاهرة وكان عبد الله باحمدين هناك وكنا جميعا في مجلس الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بداره بمصر الجديدة وكان يحضر المجلس أحد كبار أصحاب مصانع النسيج من أصدقاء الشيخ محمد سرور فجاء ذكر مصنع الشركة العربية للتوفير والاقتصاد فاقترح معالي الشيخ محمد سرور أن يقوم عبد الله باحمدين وأنا بزيارة مصانع الغزل الذهبية التي أسسها الرجل الحاضر معنا بالمجلس وحدد لنا الرجل في الحال موعدا في اليوم التالى وذهبنا إلى هناك فرأينا الآلات الميكانيكيه تنتج الأقمشة المتنوعة في سرعة وإتقان وجمال وخرجنا من المصنع ونحن ممتلئون إعجابا بما رأينا، وتحدثنا في الأمر فاتفق الرأي على أن مصر تزرع القطن ولديها مصانع الغزل التي تحول القطن إلى خيوط ومن ثم يمكن لمصانع النسيج أن تستعمل هذه الخيوط في نسج الأقمشة وإنتاجها، ونحن في بلادنا نحتاج إلى استيراد كل شيء، استيراد خيوط الغزل من الخارج ثم نسجها إذا أردنا استيراد مصانع للنسيج مثل تلك التي شاهدناها، وكان السؤال الذي يدور في رؤوسنا

ص: 92

أيهما أجدى اقتصاديا هل هو استيراد خيوط الغزل ونسجها في البلاد أم استيراد القماش منسوجا وجاهزا؟ وهل تستطيع الصناعة المحلية الناشئة مزاحمة السيل المتدفق من الصناعة الخارجية من جميع أنحاء العالم، هذا هو السؤال الذي كان يدور في أذهاننا بعد مشاهدة هذا المصنع الميكانيكى للنسيج ويبدو أنه كان هاما ولا يزال ليس لصناعة النسيج فحسب ولكن لأي صناعة يراد إدخالها إلى البلاد ولهذا فإن وزارة الصناعة تطالب قبل إصدار ترخيص بأي صناعة جديدة تطالب بدراسة الجدوى الاقتصادية وتقوم الوزارة نفسها بالدراسات للصناعات المختلفة قبل اتخاذ قرار بشأنها وهي الطريقة المثلى لإقامة الصناعات على أسس سليمة قوية حتى لا تتعرض للتعثر والانهيار.

‌الحَافِظة العَربيَّة

في أيام الحرب العالمية الثانية حدث نقص في أشياء كثيرة كما يحدث في أيام الحروب وكان بمستودع الشركة العربية للطبع والنشر التي تطبع فيها جريدة صوت الحجاز في ذلك الزمان كميات من الورق على اختلاف أنواعه. وكانت الشركة تعاني من الخسارة وعلم عبد الله باحمدين بالأمر فقال ليس من المعقول أن تخسر الشركة وفي مستودعاتها الورق المعدوم في الأسواق والذي يحتاج إليه الناس وطلب الاطلاع على قائمة البضائع الموجودة بالمستودعات وما أن اطلع عليها حتى أبدى استعداده لشرائها وقد دفع فيها ثمنا يبلغ أربعة أضعاف الثمن المقدر لها في ذلك الوقت وتمت الصفقة وكنت أتوقع أن يقوم بعمل عادي مثل تصنيع الورق إلى دفاتر للكتابة وبيعه في الأسواق ولكنه فاجأني كما فاجأ الناس جميعا بشيء لم يكن في الحسبان، كانت في مستودعات الشركة كميات كبيرة من الورق المتين الذي يصلح لغلافات الكتب وكانت الشركة فيها

ص: 93

مضى تمارس طبع بعض الكتب المدرسية ثم توقفت عن ذلك وبقي هذا الورق مستودعاتها كميات مهملة لا يستفاد منها، أقول أن عبد الله باحمدين فاجأني باستخراج هذا الورق وقصه وتقسيمه إلى ملفات لحفظ الأوراق مثل الملفات - (الدوسيهات) التي كانت ترد إلينا من الخارج والتي كانت معدومة في الأسواق تماما، وطبع على هذه الملفات كلمة (الحافظة العربية) ولم يكتف بهذا فأحضر إلى مقر المطبعة بعض الساكرة الذين كانت دكاكينهم مجاورة لها بالشامية - وأطلعهم على الحدايد التي تمسك الأوراق التي توضع في الملفات واشترك معهم في ترتيب الصنع وما هي إلا أيام حتى كان الساكرة الوطنيون قد صنعوا هذه الحدايد وخرجت الحافظة العربية ملفا كاملا لا أغالى إذا قلت أنه كان يمتاز على الملفات الخارجية بجودة الورق وجمال الطبع. وأذكر أن وزارة المالية اشترت كل ما أنتجه عبد الله باحمدين من هذه الملفات لأن الدوائر الحكومية كانت تفتقر إليها. أن الورق كان موجودا في مخازن الشركة ولكن المسؤولين عنها كانوا يعتبرونه كمية مهملة وقد استطاع عبد الله باحمدين بفكره النير أن يحول هذه الكمية المهملة إلى عمل نافع يسد به حاجة البلاد في ذلك الوقت العصيب، ومن هنا تظهر إتجاهاته الفكرية التي تدل على ذهن متفتح يبحث دائما عن الجديد والمفيد

(1)

.

‌مَكَائِن الكَهربَاء

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أدخل عبد الله باحمدين تطورا ملموسا على تجارته أو على الأصح حاول إدخال تطور مفيد في التجارة في مكة المكرمة فلقد كان من أوائل الناس الذين قاموا باستيراد المكائن الزراعية ومكائن الإنارة -

(1)

بعد نشر هذه الحلقة اتصل بنا كثير من أصدقاء المرحوم عبد الله باحمدين مشيرين إلى مصنع الحلاوة الطحينية الذي أسسه عبد الله باحمدين فوجبت الإشارة إلى ذلك ..

ص: 94

المجموعات الكهربائية - في مكة المكرمة وبذلك يسر على الناس إنارة بيوتهم أو محلاتهم التجارية، وإني لأذكر مدينة جدة والإنارة الكهربائية مقتصرة فيها على بيوت السفارات ولم يكن في مدينة جدة كلها مكينة كهربائية إلا في بيت الشيخ محمد نور جوخدار. وكان من أوائل المواطنين الذين أدخلوا الكهرباء إلى بيوتهم وأذكر أن الحاج عبد الله على رضا حينا احتفل بزواج ابنه - معالي الشيخ محمد عبد الله رضا - وزير التجارة الأسبق - قام الشيخ محمد نور جوخدار بمد النور الكهربائي من منزله إلى منزل الحاج عبد الله على رضا لهذه الغاية كما أن آل قابل كانوا من أوائل الناس الذين أدخلوا الكهرباء لا إلى منزلهم فحسب وإنما قاموا بإنارة شارع قابل المعروف باسمهم حاليا وزودوا كل دكان مصباح للإضاءة ومروحة كهربائية. وكان هذا العمل في ذلك الوقت يعتبر فتحا جديدا لأنه أتاح الإنارة الكهربائية والتهوية لشارع كامل. وبهذه المناسبة فإن هذا الشارع كان قد قام بتعميره الشريف الملك الحسين بن على أبان العهد الهاشمي الأول وفي عهد الملك على بن الحسين اشتراه آل قابل من الحكومة ومن الملك على شخصيا رحمه الله لأنه كان محتاجا إلى المال والتموين لصرف أغذية ومرتبات الجنود أثناء الحصار الذي كان مضروبا على مدينة جدة خلال الحرب الهاشمية السعودية.

نعود الآن إلى المرحوم عبد الله باحمدين فنقول إنه بعمله هذا في إدخال التطور الحضاري على تجارة مكة المكرمة فقد يسر للراغبين الحصول على المكائن الكهربائيه لإنارة بيوتهم ومحلاتهم بما يتبع هذه الإنارة من تهوية وتبريد وأني لأذكر أن هذه التجارة كانت محصورة في أيدي البيوت التجارية الأجنبية فإذا رغب المرء في شراء مكينة كهربائية ذهب إلى أحد هذه البيوت التجارية وطلب مترجما للدخول على المدير الإنجليزي وبعد شرح الطلب يدفع معظم القيمة التي

ص: 95

يحددها هذا المدير وهي عادة كبيرة ومبالغ فيها ثم ينتظر بضعة شهور حتى ترد الماكينة فتسلم له أوراقها لإخراجها من الجمارك ثم يبحث عن مهندس لتركيبها وإذا كان هذا الأمر يتم بهذه الصعوبات في مدينة جدة التي يكثر فيها الأجانب ويكثر فيها الفنيون والمتكلمون باللغة الإنجليزية فإن الأمر بالنسبة لمكة المكرمة أكثر صعوبة دون شك، ولهذا فإن النظرة إلى هؤلاء الرجال الذين اتجهوا بتجاراتهم إلى توفير الوسائل الحضارية للناس يجب أن تكون نظرة تقدير وإكبار وخاصة في ذلك الزمن السحيق.

‌رِحْلتهُ إلى أَمريكا

انتهت الحرب العالمية الثانية وقبيل انتهائها قام عبد الله باحمدين رحمه الله برحلته الأولى إلى أمريكا وأراد الله أن أقوم برحلة بعده مباشرة إلى هناك وكانت السفارة السعودية في واشنطن قد قامت مشكورة باختيار مرافق لي في هذه الرحلة وكان هذا هو نفس الرجل الذي رافق عبد الله باحمدين أثناء زيارته للولايات المتحدة، وحدثني الرجل عن انطباعاته عنه بعد مرافقته بضع أسابيع، قال كان عبد الله باحمدين مهتما باستيراد قطع الغيار ولكنه لم يكن يتصل بالبائعين وإنما يحاول الوصول إلى الصناع الذين يكونون البائعين بإنتاجهم ولقد سمعت أحد رؤساء الشركات الأمريكان يثني عليه ويقول له إنك نمط فريد من الرجال الذين يزورون هذه البلاد من الشرق الأوسط أحدثك عن البيع فتحدثني عن الصنع، وهذه الحوادث وأمثالها تظهر طريقة تفكير الرجل كما تكشف عن تطلعاته.

‌مَصَانع بَاحمدين

وبانتهاء الحرب العالمية الثانية أتيح لعبد الله باحمدين أن يحقق بعض طموحاته فحصل على أرض كبيرة خارج مكة المكرمة وأنشأ عليها مصانع

ص: 96

باحمدين، هذه الأرض أقامت عليها الدولة فندق مكة انتركونتنتال وهدمت مباني مصانع باحمدين بعد شراء الدولة لها لإقامة هذا المبنى عليها، والذي كان الغرض منه أن يكون مبني للمؤتمرات الدولية ثم تحول إلى فندق كما هو عليه الحال الآن. نقول أقام عبد الله باحمدين على هذه الأرض مصانعه أو على الأصح النواة الأولى لهذه المصانع فأنشأ عليها مصنعا كبيرًا للثلج ومصنعا كبيرًا للنجارة كذلك وورشة ميكانيكية، وكان قد بدأ النواة الأولى لتأسيس عمله العقاري بشراء أرض في مدخل مكة المكرمة وإقامة فيلات صغيرة عليها ثم بيعها للراغبين وقد أنشأ فعلا فيلا بمدخل مكة المكرمة اشتراها فيما بعد المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب من ورثته كما أسس فيلا أخرى أمام المصانع وقد بيعت لأحد المواطنين حين بيع المصانع.

‌وَفاة عَبد الله بَاحمْدين

كان عبد الله باحمدين يفكر في أشياء كثيرة ويعمل لأشياء كثيرة وكان منكبا على عمله في متجره وفي مصانعه وفي الشركة العربية للتوفير والاقتصاد بجهد عظيم فلقد كان من الرجال الذين يحبون العمل ويتفانون فيه حتى أنه كان يقضي كل نهاره في مكتبه ومتجره متناولا غداءه وربما عشاءه في مقر العمل ولا يعود إلى داره إلا بعد صدر من الليل وفي يوم من أيام رمضان عام 1369 هجريه شعر بتأثر في صحته فلم يستسلم للراحة أو يستدعي الطبيب وظن أنه مرض عارض لا يلبث أن يزول وذهب إلى المسجد الحرام للإفطار هناك وصلاة المغرب جماعة كما تعود وطاف بالبيت وصلى المغرب وعاد إلى داره وبعد الإفطار شعر بأعراض المرض ولكن النوبة القلبية التي داهمته كانت شديدة فأسلم

ص: 97

الروح وانطفأ كما ينطفئ المصباح وهو أكثر ما يكون حيوية وأعظم ما يكون نشاطا وأشد ما يكون طموحا نعم اختطف الموت عبد الله باحمدين وهو في عنفوان رجولته إذ كان عمره حوالى الأربعين ولكن للقدر أحكامه وللخالق حكمته فتوفي مبكيا عليه من كل من عرفه من الناس وما أكثرهم ودفن في اليوم التالى بمقبرة المعلاه وظلت الصحافة تنشر للكتاب من أصدقائه مرثياتهم له وذكرياتهم عنه رحمه الله رحمة الأبرار فلقد كان طلعة بين من عرفت من الرجال في ذلك الزمان.

ص: 98

أعلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 99

‌الشَيخ عَبْدِ الرّؤُوف جَمْجُوم

ولد الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بمدينة جدة عام 1299 هـ وكان أبوه الشيخ عبد العزيز جمجوم قد ورث عن والده الشيخ صلاح جمجوم تجارة واسعة وكان بيت الجمجوم معروفا بمركزه التجارى الكبير في مدينة جدة في ذاك الزمان وتعلم الشاب عبد الرؤوف جمجوم الكتابة والقراءة والعلوم الدينية على أيدى أساتذة عصره وكان جميل الخط جيد الحساب وبعد إكمال تعليمه عمل في بيتهم التجارى إلى أن توفى والده وهو في سن الشباب وكانت وفاة الوالد كارثة على الشاب وإخوته من آل الجمجوم مما اضطر الشاب عبد الرؤوف إلى العمل كاتبا لدى التجار بعد أن كان لأسرته بيت تجارى مرموق، وكانت العائلة التي يتكون منها آل الجمجوم كبيرة وتحتاج إلى مصرف كبير فعمل الشاب عبد الرؤوف وكان كما قلنا حسن الكتابة جيد الحساب عمل لدى أربعة من التجار في وقت واحد فكان يعمل لدى الحاج على لطيفه، جد معالى الشيخ محمد عبد الله رضا - وزير التجارة الأسبق لوالدته - ولدى الشيخ عبد الله الصغير التلمسانى، سبقت الترجمة له في إحدى الحلقات السابقة، ولدى الشيخ على شبكشى والد الأستاذ عبد المجيد شبكشى وإخوانه، ولدى التاجر صديق ميرخان وكان يقسم أوقاته في العمل لدى هؤلاء التجار الأربعة من الصباح إلى ما قبل منتصف الليل وكان في

ص: 101

نفس الوقت يشترى الغاز بالجملة حيث يقوم أخوه الشيخ محمد صالح جمجوم على بيعه بالتفرقة في بيتهم التجارى كما كان يقوم بأعمال الدلالة بين التجار وهكذا وجد الشاب عبد الرؤوف نفسه ملزما بالعمل المتواصل من الصباح الباكر إلى منتصف الليل ليقوم بالإنفاق على هذه العائله الكبيرة التي تركها أبوه ولتربية إخوته وتعليمهم ولقد استمر على هذه الحال ثلاث سنوات ثم تولى العمل وكيلا لتجار مكة المكرمة بالدلالة يقوم بشراء البضائع لهم وتحميلها بالجمال إلى مكة المكرمة وكان يقوم بالعمل بمفرده مشتريا للبضائع ومشرفا على استئجار الجمال ثم تحميلها وعلى كتابة الرسائل المتعلقة بها إلى التجار المكيين وقيد حساباتهم في الدفاتر وهو عمل مضن يتولى القيام به عدة أناس ولكن عبد الرؤوف جمجوم وجد نفسه متحملا مسؤوليات عظيمة وهو في هذه السن الباكرة فاضطر أن يجعل من نفسه وكيلا يقوم بكافة الأعمال في وقت واحد.

وعلى ذكر البيوت التجارية أود أن أذكر أن البيوت التجارية في جدة كانت عبارة عن مدارس صمغيرة يتعلم فيها الطلبة أعمال الحسابات التجارية حيث يعملون كتاب حسابات للتجار يمسكون دفاترهم (على طريقة الدوبيا) وبعد سنوات طويلة يتحول قدامى الكتبة التجاريين إلى تجار وقد حذقوا أثناء عملهم الطويل في البيوت التجارية أعمال التجارة نفسها ولقد كان بيت المرحوم الشيخ محمد بن حمد - والد الشيخ أحمد بن حمد التاجر المعروف حاليا - من أبرز البيوت التي يلتحق بها التلاميذ التجاريون إن صح هذا التعبير ولقد التحقت شخصيا كتلميذ في هذا البيت وأول ما كنا نتعلمه هناك هو القيد في دفتر الخرطوش، وهو دفتر صغير تسجل فيه الأعمال اليومية للمبيعات ثم ينقل منه إلى القيد في دفتر اليومية الدفتر الكبير، كما تعلمنا فيه كتابة التحارير التجارية وتتم بأن مجلس الكاتب بين يدى التاجر فيملى عليه الرسائل إلى العملاء مبتدئا بافتتاح الكتاب

ص: 102

مستفسرا عن صحته أولا هو وصحة عائلته ثم يتحدث عما يريده مما يتعلق بالأعمال التجارية ثم يختم الكتاب بالتحيات وما إلى ذلك وبعد إتمام كتابة الرسائل تطبع في مطبعة (البالوظة) ويتم الطبع بإلصاق الرسالة في دفتر معد لذلك من الورق الخفيف بعد أن توضع بداخله الرسالة وعليها قطعة مبللة بالماء من الخيش ثم يوضع الدفتر بكامله تحت مكينة ضغط من الحديد تدار باليد لتضغط على الرسالة فيتم طبعها على الورق الخفيف داخل الدفتر بطريقة الضغط فإذا الرسالة مطبوعة نصا وحرفا وهذا بطبيعة الحال قبل وجود الآلات الطابعة والآلات المصورة التي تزخر بها المكاتب التجارية في الوقت الحاضر، ويتدرج التلميذ في العمل فإذا أنس التاجر منه نجابة كلفه بالكتابة في الدفاتر الكبيرة مثل دفتر اليومية أو دفتر الذمامات والصوافى وما إلى ذلك فإذا احتاج البيت التجارى إلى كاتب حسابات انتقل التلميذ إلى مرحلة العمل ولقد عرفت كثيرا من تجار جدة الكبار وقد بدأوا حياتهم كتابا في هذه البيوت التجارية أذكر منهم المرحومين الشيخ محمد بن حمد والشيخ حسين فايز وكانا يعملان في بيت الفضل ثم انفرد كل منهم بتجارته الخاصة وأصبح من أشهر تجار جده وخلفهم أبناؤهم من بعدهم والشيخ عبد الرزاق عجلان شفاه الله وعافاه كان كاتبا لسنوات طويلة في بيت الشيخ محمد بن حمد ثم انفرد بعمله التجارى المستقل، والشيخ محمد على أبو داود كان كاتبا في بيت الشيخ أبو بكر باغفار رحمه الله ثم أسس عمله التجارى الضخم المعروف الآن مع شقيقه الشيخ إسماعيل أبو داود رئيس الغرفة التجارية وآل داود هم أصحاب مصانع التايد والكلوركس ومؤسسوها والغرض من ذكر هذا الاستطراد هو أن البيوت التجارية كانت عبارة عن مدارس صغيرة يتخرج منها المحاسبون ثم التجار، وكان البيت التجارى مفتوحا من الصباح إلى المساء يتناول فيه التاجر مع أبنائه وكتبته وضيوفه طعام الغداء،

ص: 103

ويستمر العمل فيه إلى المساء ثم يعود أكبر الكتاب بعد صلاة العشاء ليقضى ساعة أو أكثر في القيد في الدفاتر وفى هذه الحالة يتناول الجميع طعاما خفيفا العشاء، وهكذا فإن العمل كان يستمر طيلة النهار وصدرا من الليل في بعض الأحيان كما أن أيام الجمع لا تعتبر أيام أجازات إذ تفتح فيها المكاتب التجارية في النصف الأول من النهار إلى وقت الصلاة وغالبا يتبادل فيها التجار الزيارات مع أصدقائهم من الموظفين والأعيان وكانت المكاتب التجارية في مدخل البيت أو الدور الأول فيه بينما يسكن التاجر في الأدوار العليا، وكانت أغلب البيوت التجارية مزودة بمخازن تخزن فيها البضائع، ولا يزال بعض هذه البيوت موجودا بجدة حتى الآن على الوضع الذى وصفناه.

نعود بعد هذا الاستطراد الطويل عن البيوت التجارية ودورها في تخريج التجار إلى الشيخ عبد الرؤوف جمجوم لنقول أنه استطاع بعد جهاد شاق إعادة بيتهم التجارى إلى المركز المرموق الذى كان له في حياة أبيه وجده.

‌مَدَارس الفَلاح

ذكرنا في ترجمة الحاج محمد على زينل رضا مؤسس الفلاح أنه حينما قام بتأسيس المدرسة الفلاحية في جدة كان هناك له زملاء تعاونوا معه في تأسيسها وذكرنا أن الشيخ عبد الرؤوف جمجوم وشقيقه الشيخ محمد صالح جمجوم كانا من هؤلاء الشبان الذين تعاونوا مع مؤسس الفلاح فكانوا يأخذون التلاميذ من بيوت آبائهم بعد غروب الشمس ويعيدونهم إلى بيوتهم في جنح الظلام حينما كانت الدراسة في المدرسة تتم ليلا لعدم الحصول على الترخيص من الحكومة العثمانية بافتتاح المدرسة وبعد الحصول على الترخيص لم تكن هناك حاجة لهذه الرحلات الليلية وخصوصا بعد أن اشترى الحاج محمد على المبنى الأول لمدارس الفلاح

ص: 104

والذى لا تزال المدرسة تشغله كواحد من أهم مبانيها ولقد ذكرت أن التوسع في الدراسة اقتضى من الحاج محمد على زينل أن يهاجر إلى الهند للعمل هناك حتى يتمكن من التوسع في الصرف على مدارس الفلاح وهي تنمو عاما بعد عام ويزيد طلبتها في كل يوم. حينما قرر الحاج محمد على زينل السفر إلى الهند كان محتاجا إلى رأس المال الذى يبدأ به عمله هناك كما كان محتاجا إلى الإنفاق على مدارس الفلاح فترة غيابه وقد اختار الشيخ عبد الرؤوف جمجوم وكان صديقا شخصيا له ومن أكبر معاونيه ليتولى وكالة مدارس الفلاح في جدة ومكة ولقد قام الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بهذه الوكالة خير قيام فكان هو يتولى الإنفاق على المدارس الفلاحية ويحرص على تقديم مرتبات مدرسيها وموظفيها شهريا دون تأخير وكثيرا ما كان يدين المدرسة أو على الأصح مؤسسها المبالغ الطائلة في سبيل هذا الإنفاق إلى أن تصل المبالغ المطلوبة من الهند في شكل بضائع أو نقود، وجاءت الحرب العالمية الأولى فانقطعت التجارة بين الهند والحجاز وكان الحلفاء قد قرروا حصة الحجاز في البضائع التي تصدر له من الهند في باخرة واحدة شهريا تحضرها باخرة اسمها الكويت وكان الحاج محمد على يرسل في هذه الباخرة ما تسمح به ظروف التصدير منها وكانت أقل كثيرا من حاجة مدرستى الفلاح في مكة وجدة حتى أنه فكر في الاكتفاء بمدرسة واحدة خلال سنوات الحرب ولكن الشيخ عبد الرؤوف جمجوم أصر على أن تبقى المدارس في مكة وجدة مفتوحة الأبواب وأخذ على نفسه تدبير الإِنفاق عليها مما اضطره إلى التضييق على عمله التجارى والاختصار فيه، كان الناس يقبلون على شراء العقار والذهب الذى كان يباع بأرخص الأسعار ويكدسون أموالهم فيها ليستردوها مضاعفة بعد انتهاء الحرب ويقال أن بعض تجار جده اشتروا الكثير من العقار في مكة في تلك الأيام حيث كان يباع

ص: 105

البيت الواحد بما يساوى خمسين جنيها ذهبا، وكان هو يجمع الدينار فوق الدينار ليواجه به مرتبات المدرسين والموظفين لمدارس الفلاح محتسبا ذلك كله عند الله قائما بعمله كوكيل لدارس الفلاح بروح المؤمن المحتسب وكان بعض التجار يدفعون للمدرسة إعانات شهرية فلما طال زمن الحرب امتنعوا عن تقديمها ولم تكن ذات شأن.

ويروى الشيخ عبد الرؤوف جمجوم في ذلك قصة لطيفة، قال كنا في أواخر شهر رمضان 1334 هـ وحل موعد دفع مرتبات الفلاح وكنت قد دفعت آخر جنيه في الصندوق لمرتبات المدرسين وآويت إلى فراشى في الليل وأنا مغموم فالعيد سيأتى غدا أو بعد غد ولم يبق عندى ما أنفقه على أسرتى بما تضمه من أولاد وبنات كثيرين وفى الساعة السابعة ليلا، قبيل الفجر وأنا أتقلب على فراشى وقد جفانى النوم من كثرة التفكير والهم وإذا مناد ينادينى من أسفل البيت ويدعونى إلى مقابلته فنزلت فوجدت المرحوم الشيخ محمد الطويل ناظر عموم الرسوم ومعه الشيخ أحمد ناظر باشكاتب الجمرك - رئيس الكتاب - والشيخ محمد نور تركى أمين صندوق الجمارك وهم يحملون معهم صرة من الريالات وقال لى الطويل: هذا مبلغ ستمائة ريال مجيدى أرسله لك الملك الشريف الحسين بن على لتصرف منه مرتبات خدم المساجد والأئمة والمؤذنين - وكان الشيخ عبد الرؤوف مديرًا لأوقاف جدة - قال الشيخ عبد الرؤوف ولا شك أن هذا الفرج الذى أرسله الله إلى كان ببركة مدارس الفلاح وبحسن النية الذى انطوت عليه النفس في القيام بهذا العمل، قال وفى اليوم التالى صرفت مرتبات موظفى المساجد وكانت تبلغ ثلاثمائة ريال مجيدى واستدنت الثلاثمائة ريال الباقية للانفاق على أهلى وأولادى لأعيدها بعد العيد.

ولسنا في حاجة لأن نقول إن مؤسس الفلاح قام بتسديد كل ما أنفقه الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بعد نهاية الحرب وعودة الأمور إلى طبيعتها الاعتيادية ولكن

ص: 106

الفكرة هي: ما الذى كان يحدث لمدارس الفلاح لو لم يكن وكيلها الشيخ عبد الرؤوف على هذا المستوى العظيم من التفانى في الإبقاء عليها وإبعادها عن أى تأثير يعوق مسيرتها الخيرة؟ ففى مثل هذه المواقف العصيبة يظهر عظماء الرجال وتظهر تضحياتهم وأعمالهم، ولقد كان الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بعمله هذا عظيما ومخلصا في حبه للعلم وتيسيره للناس.

‌بَدَل مَصَاريف زَواج وَوَفاة للفَلاح

ولقد انعكس حب الشيخ عبد الرؤوف جمجوم للعلم الذى كانت مدارس الفلاح مثالا حيا له في ذلك الزمان على التصرفات الاجتماعية بالنسبة لعائلة الجمجوم فقد اطلعت على الوصية التي تركها المرحوم الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بخط يده لإخوانه وفى مقدمتهم المرحوم الشيخ محمد صالح جمجوم الذى قام بعبء وكالة الفلاح من بعده أحسن قيام. أقول اطلعت على الوصية التي كتبها الشيخ عبد الرؤوف جمجوم والتى يوصى فيها اخوته وفى مقدمتهم الشيخ محمد صالح جمجوم رحمهم الله أنه في حالة حدوث زواج في الأسرة ألا تقام الحفلات الباذخة بل تتم في غاية البساطة ويستعاض عنها بدفع خمسين جنيها لمدارس الفلاح كما أنه في حالة حدوث وفاة أن تتخذ إجراءاتها ببساطة متناهية وألا تقام الولائم في العشرين والأربعين التي كانت تقام في ذلك الزمان وأن يستعاض عنها بمبلغ عشرين جنيها ذهبيا تدفع لمدارس الفلاح ولا شك أن هذا التصرف يدل على منتهى الحكمة لدى الشيخ عبد الرؤوف جمجوم وآل الجمجموم لأنه توفير للمال وصرفه إلى مصارفه الصحيحة النافعة وإعطاء القدوة الحسنة للناس على ما يجب أن يفعله الأغنياء في سبيل الخير العام ولقد أدركت آل الجمجوم وهم يتبعون الوسائل المتناهية في البساطة في تزويج أولادهم وبناتهم في الأربعينات وأوائل

ص: 107

الخمسينات رغم مركزهم التجارى الكبير ومكانتهم بين أكبر الأسر في مدينة جدة، ولقد قيل لى إنهم كانوا يسمون البنت حين ولادتها على ابن عمها الذى يكون قريبا من سنها ويكون معروفا لدى الأبوين أن فلانة لفلان وكان منزلهم الكبير في جدة ملاصقا لسجد المعمار وكان رجال العائلة وأولادهم يصلون الفرائض كلها في السجد ويراقبون أولادهم بل ويعاقبونهم أن تأخروا عن أدائها فإذا رأوا الفتى والفتاة قد بلغا مبلغ الزواج قام الأب في صمت بإعداد حجرة الابن وجهزها بالفرش البسيط السائد في ذلك الزمان وإعداد مراتب النوم والألحفة وشراء سحارة للملابس وكانت تقوم مقام الدواليب وكذاك تجهيز هذه الحجرة بالمصباح الغازى اللازم لها ويقوم والد العروس بالإشارة إلى زوجه بإعداد الملابس اللازمة للفتاة وهي في حدود المعقول، ومجتمع الأبوان بعد صلاة العشاء فيعقدان للعروسين في المسجد وينطلق الفتى ليجد عروسه وقد زفت إليه في تلك الليلة، وبعدها في حفل يقتصر على كبار العائلة من رجال ونساء ولقد كنت أعزو ذلك إلى كثرة أفراد الأسرة واضطرارهم إلى تزويج أولادهم وبناتهم فلو أنهم اتخذوا الأساليب المعتادة في دفع المهور الغالية واقامة الأفراح والليالى الملاح التي تليق بمكانتهم في المجتمع لما وسعهم ذلك ولم أكن أظن أن للشيخ عبد الرؤوف جمجوم يدا في اتباع هذه الخطة الحميدة وأن وراءها فكرا ثاقبا ورغبة خيرة إلا بعد أن اطلعت على الوصية التي كتبها بخط يده رحمه الله.

‌مَرضه وَوَفَاته

في عام 1338 هـ شعر الشيخ عبد الرؤوف جمجوم بأعراض المرض في صدره وبعد أن طال به الأمر سافر إلى الهند للاستشفاء واستقبله صديقه الحاج محمد علي زينل أحسن استقبال وأنزله بداره في مدينة بومباى وعرضه على الأطباء

ص: 108

المختصين وبعد أن بقى في الهند ما بقى عاد إلى الحجاز ولكنه كان يشعر بآثار المرض ونصح له أصدقاؤه بالسفر إلى الطائف وكان موسم الحج قد حل فذهب إلى مكة وأدى فريضة الحج ونزل بمدرسة الفلاح وكانت بالقشاشية قريبا من المسجد الحرام ولكن المنية لم تمهله فتوفى في شهر ذى الحجة عام 1338 هـ بمكة المكرمة ودفن بمقبرة المعلاة وهو في الثامنة والثلاثين من العمر ولئن كانت سنوات عمره قصيرة فلقد كانت هذه السنوات مباركة مملوءة بالعمل الجاد النافع فلقد استطاع إعادة مجد الأسرة وحفظ كيانها كما استطاع القيام بأعباء مدارس الفلاح في أشد الأوقات وأصعبها. جزاه الله خير الجزاء.

ص: 109

عبد الله السليمان الحمدان

ص: 110

‌عَبْد اللهُ السُّليمان الحَمْدَان

نحيل الجسم، قصير القامة، كبير الرأس، أسمر اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، خفيف اللحية، يرتدى العباءة العربية والعقال.

ولد الشيخ عبد الله السليمان الحمدان بمدينة عنيزة عام 1302 هـ وتلقى العلم على أيدى علماء بلده كما أتقن الكتابة والحساب وكان يتميز بحسن الخط وجماله وكان عبد الله السليمان طموحا منذ نعومة أظفاره فما أن بلغ مرحلة الفتوة حتى توجه إلى الهند وعمل كاتبا في بيت آل الفوزان في مدينة بومباى كما كان يعمل أمثاله من الفتية الطامحين، يلتحقون بالبيوت التجارية العربية في الهند فيفيدون من ذلك دخلا حسنا ودربة جيدة على شؤون التجارة، ولم يمض طويل وقت حتى انتقل إلى البحرين فافتتح له مكتبا تجاريا برأس ماله البسيط الذى جمعه أثناء عمله في الهند، فلقد كان الفتى عبد الله السليمان طموحا إلى عمل تجارى مستقل، ولكن الفتى يقدر لنفسه شيئا وتريد الأقدار له شيئا أعظم فقد كان أخوه الأكبر محمد السليمان كاتبا في ديوان السلطان عبد العزيز آل سعود - جلالة الملك عبد العزيز فيما بعد - فمرض محمد بأذنيه واضطر أن يعتزل العمل فترة من الزمان استدعى فيها أخوه عبد الله السليمان ليحل محله في الكتابة للسلطان وانقضت الفترة المرضية وعاد محمد السلمان إلى عمله بديوان السلطان عبد العزيز

ص: 111

فعاد هو إلى عمله في البحرين الذى كان أخوه حمد السليمان يديره في غيابه، ولكن المرض يعاود الأخ الأكبر فيعتزل عمله لدى السلطان عبد العزيز نهائيا، ويطلب السلطان من عبد الله السليمان 1330 هـ أن يتسلم الكتابة في ديوانه ويعتزل عمله نهائيا في البحرين ويتكفل السلطان عبد العزيز بسداد ديون محله التجارى وتسوية أموره ليتفرغ لخدمة السلطان عبد العزيز بصورة نهائية وهكذا دبر الله الأمور لعبد الله السليمان بحكمته الأزلية حين ربط أسبابه بأسباب السلطان عبد العزيز الذى كان نجمه يسطع في سماء الجزيرة العربية في ذلك الزمان فتنضم أقطارها واحدة تلو الأخرى إلى عقد مملكته العظيمة فتنضم إليه إمارة حائل وعسير، ومملكة الحجاز، وقبلها تنضم إليه إمارة الهفوف ثم أخيرا إمارة الأدارسة في جيزان، ويرى جلالة الملك عبد العزيز بفراسته العظيمة أن مجال عبد الله السليمان الحقيقى ليس هو في ديوان الكتابة وإنما هو في المهام العظيمة لهذه الدولة الفتية التي تمتد رقعتها يوما بعد يوم والتى تخرج من دور البساطة إلى مجال يتعاظم مع الزمن والتى تفتقر إلى جهود الرجال الكبار الذين يشيدون صرح الدولة ويقيمون أسسها بما يتفق مع متطلبات ضخامتها وامتدادها وتشابك مصالحها الداخلية والخارجية فأسند جلالته إلى عبد الله السليمان الشؤون المالية للدولة فكان مديرا لها ثم وكيلا للمالية وللتاريخ فإن أول من ولى الشؤون المالية لجلالة الملك عبد العزيز بعد فتح الحجاز هو المرحوم الشريف شرف رضا - عضو مجلس الوكلاء فيما بعد - ثم النائب الثانى لرئيس مجلس الشورى أخيرا - وبعدها تسلم شؤون المالية الشيخ عبد الله السليمان ولم يمض طويل وقت حتى أصبحت وكالة المالية وزارة وكان عبد الله السليمان أول وزير لها ثم أسندت إليه وزارة الدفاع فيما بعد وفى وقت من الأوقات تولى وزارة الخارجية نيابة عن صاحب السمو الملكى الأمير فيصل الذى كان يتولى وزارة الخارجية منذ تأسيسها - جلالة الملك فيصل رحمه الله.

ص: 112

‌عَبد الله السُّليمان وَزير المالية

ولكى نتحدث عن عبد الله السليمان لا بد أن نذكر للتاريخ شيئا عن الصلاحيات الضخمة التي كانت في يد الرجل أثناء ولايته لوزارة المالية التي امتدت طيلة حياة الملك عبد العزيز رحمه الله وفترة من عهد ولاية الملك سعود.

كانت أمور الدولة مقسمة إلى قسمين أو على الأصح بين رجلين، الرجل الأول هو صاحب السمو الملكى الأمير فيصل - جلالة الملك فيصل فيما بعد - وكانت وظيفته الرسمية النائب العام لجلالة الملك في الحجاز وكان مرجعًا للشؤون الداخلية فكانت الشرطة والمعارف والبلديات والصحة والبريد والتلغراف تابعة له كما كان يتولى الشؤون الخارجية وهي تمثيل جلالة الملك عبد العزيز في الخارج كما كانت اتصالات السفراء الأجانب ومفاوضاتهم تتم عن طريق مكتب وزارة الخارجية ويرجع إلى سموه في كل الأمور الخارجية وهو يعرض بدوره ما يرى عرضه على والده المغفور له الملك عبد العزيز، أما وزارة المالية التي كان وزيرها الشيخ عبد الله السليمان فكانت تمثل في الواقع كل شئ في الدولة باستثناء ما ذكرناه عن مهام النائب العام لجلالة الملك فكانت وزارة المالية هي المرجع في الشؤون المالية جميعها، كما كانت تقوم إذا صح هذا التعبير بأعمال وزارة الأشغال والحج والمواصلات والدفاع وأعمال الخاصة الملكية وكان الشيخ عبد الله السليمان يتلقى صلاحياته العظيمة من ثقة المغفور له الملك عبد العزيز الشخصية فيه فكان يتمتع بسلطة عظيمة لا نغالى إذا قلنا إنه كان ينفرد بها طيلة السنوات الطويلة التي قضاها في منصبه العظيم ولقد قام بتدوين الدواوين في وزارة المالية وأسند رئاستها إلى رجال أكفاء كما قام بتأسيس الدوائر الرسمية في الملحقات الشرقية والجنوبية فتأسست رئاسة أموال وجمارك الإحساء كما تأسست رئاسة

ص: 113

أموال وجمارك جيزان وأخذ ينتدب الرجال المشهود لهم بالقدرة والكفاءة لإِدارة هذه المراكز وتأسيسها وتثبيت قواعدها، وكان يلقى من جلالة الكلك عبد العزيز تأييدا كبيرا وثقة كاملة فاستطاع بهذا التأييد وبهذه الثقة أن ينهض بالأعباء الضخمة التي وكل إليه أمرها فكان رجل الدولة وواحدها في ذلك الزمان، ولقد بلغ من ثقة جلالة الملك عبد العزيز فيه أنه كان يدخل كل صباح مهجع جلالته دون استئذان، وللتاريخ فإن عبد الله السليمان كان رجلا يتميز بالإِخلاص التام في خدمة الدولة حتى أنه يعتبر من أكبر العاملين في تأسيسها.

‌الملك فيصَل وَعَبْد الله السُّليمان

حدثنى المرحوم الشيخ إبراهيم السليمان بن عقيل رئيس ديوان صاحب السمو الملكى النائب العام لسنوات طويلة - السفير السعودى بالقاهرة فيما بعد - قال جاء الشيخ عبد الله السليمان مريضا إلى مصر وذهب إلى مدينة حلوان للاستشفاء وكان سمو الأمير يقصد الأمير فيصل رحمه الله إذ ذاك في القاهرة وعلم بالأمر فقال لى أنه سيذهب لزيارة عبد الله السليمان في حلوان ولكنه طلب منى أن أكتم أمر الزيارة لأنه يريد أن يفاجئه بها فلو علم عبد الله السليمان بأن فيصل سيزوره لسارع هو إلى ترك المصحة، وبدأ سموه بالزيارة فكتمت الأمر وفى أصيل ذلك اليوم ذهبت بمعية سموه إلى حلوان وفوجئ عبد الله السليمان بزيارة فيصل فبكى من التأثر وقال لسموه أنت فيصل بن عبد العزيز تحضر لزيارتى وما أنا إلا خادم لأبيك. قال الشيخ إبراهيم السليمان ولكن فيصل طيب خاطره وقال له إنك من بناة الدولة - والذين يعرفون الملك فيصل رحمه الله يعرفون أنه في مثل هذه المواقف إنما يزن كلامه بميزان الذهب والواقع أن الرجلين يمكن أن يطلق عليهما أنهما من بناة الدولة رحمهما الله.

ص: 114

‌إِلغَاء رُسُوم الحَجّ

حينما تم توحيد الملكة العربية السعودية كانت الدولة تعانى من صعوبات مالية عظيمة وخاصة في سنوات الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات الميلادية وكانت واردات الدولة تتمثل في الرسوم الجمركية ثم رسوم الحج وهو مبلغ خمسة جنيهات ذهبية تتقاضاها الدولة على كل حاج باعتبارها رسم المحجر الصحى، وكان من أجلِّ أمانى الملك عبد العزيز رحمه الله أن يلغى هذه الرسوم المفروضة على الحجاج لأن ضميره لم يكن مطمئنا لها - وطالما أفضى بأمنيته تلك إلى وزير ماليته عبد الله السليمان، ولكن عبد الله السليمان لم يكن باستطاعته المجازفة بإلغاء مورد يعتبر المورد الثاني من موارد الدولة إذ ذاك وهي في حاجة إلى المزيد من المال، وحينما ظهر الزيت لأول مرة في شرق المملكة راود جلالته الأمل في أن يكون هذا الزيت سببا في الغاء هذه الرسوم يعوض الله به الدولة ما تفقده منها، ولقد كان من أعز أمانى عبد الله السليمان أن يحقق لجلالة الملك عبد العزيز هذا الحلم العظيم، وحينما توصل الشيخ عبد الله السليمان مع شركة أرامكو إلى اتفاق المشاركة الذى يسمح للدولة بمشاركة شركة أرامكو أرباحها أسوة بما فعلته فنزويلا في اتفاقياتها سارع بالكتابة إلى جلالة الملك عبد العزيز يزف إليه بشرى التوصل إلى هذه الاتفاقية ومن ثم يستطيع جلالته إلغاء رسوم الحج وتحقيق الأمنية الغالية التي كان يتمناها فبادر جلالة الملك عبد العزيز بإلغاء رسوم الحج وأعلن هذا الإلغاء في حينه، وكان لهذا الإلغاء رنة فرح كبرى في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وللتاريخ فان إتفاقية المشاركة هذه تعتبر أول اتفاقية من نوعها في المنطقة بالنسبة للدول المنتجة للنفط في ذلك الزمان وكان ذلك عام 1950 ميلادية الموافق لعام 1370 للهجرة.

ص: 115

‌إنجَازات عَبْد الله السُّليمان

إذا أردنا تقييم رجل من الناس فلا بد أن ننظر في إنجازاته وما قام به من عمل نافع في حياة قومه وأثر هذا العمل في نهضة البلاد وتقدمها فإذا تلمسنا هذه الآثار النافعة في تاريخ عبد الله السليمان وجدناها بارزة في إنجازاته سواء أكانت هذه الإِنجازات وهو في مركز القوة والسلطان وزيرا يأمر فيطاع أو رجلا عاديا تخلّى عن المنصب والنفوذ وأصبح واحدا من الناس لا يتميز عنهم إلا بما وهبه الله من صفات، كما هو شأن الخاصة من الناس، ولسنا هنا في مجال إنجازات عبد الله السليمان كوزير للمالية فلسنا نترجم هنا للتاريخ وزيرًا ورجل دولة بقدرما نترجم لعبد الله السليمان كشخصية عامة ظهرت في حياة الناس فأثرت بأعمالها في هذه الحياة ولهذا فإننا سنترك الجانب الرسمى الحكومى من تاريخ عبد الله السليمان ونتحدث عن الجانب الشخصى الذى هو هدف الترجمة فنجلو منه ما يظهر الصورة الحقيقية للرجل بعيدا عن المنصب والسلطان.

‌إِنشَاء الفَنادق

كانت المملكة في العقود الأولى من تاريخها تعانى من نقص في كل مظاهر الحضارة والتمدين فالحياة كانت تتخذ شكلا بسيطا في النصف الأول من هذا القرن الهجرى ولقد كان القادمون إلى البلاد يفتقرون إلى فندق ينزلون فيه فلا يجدون من ذلك شيئا في أى مدينة من مدن المملكة وكان هذا يظهر بصورة جلية في مواسم الحج حينما يؤم البلاد أعداد ضخمة من الحجاج الموسرين والذين يرغبون أن يجدوا الفندق الملائم في مكة وجدة والمدينة المنورة ومشاعر الحج، كما أن الدولة نفسها كانت تفتقر إلى ذلك بالرغم من بيوت الضيافة التي خصصتهما

ص: 116

لضيوفها وكان زعيم مصر الاقتصادى الكبير محمد طلعت حرب باشا قد أسس شركة مصر للملاحة كما أسس شركة مصر للسياحة وحضر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج واتصلت أسبابه بأسباب الشيخ عبد الله السليمان رحمهما الله فأبدى رغبته في إيجاد فنادق لحجاج مصر في كل من جدة ومكة لينزل بها الحجاج المصريون وقام فعلا باستئجار منزل الحاج يوسف زينل على رضا - أمام فندق جدة بلاس - ليكون فندق مصر في جدة ولكن المشكلة كانت في إيجاد فندق في مكة يضم الأعداد الكبيرة من الحجاج التي تفد للحج والتى تستقر جميعها في مكة قبيل أيام الحج وبعد أداء المناسك وهنا انبرى الشيخ عبد الله فتكفل ببناء الفندق على حساب وزارة المالية وأفردت للفندق قطعة أرض في شارع أجياد أمام مبنى وزارة المالية وقامت الوزارة فعلا بتشييد الفندق الضخم المكون من عدة طوابق وبهذا تم تأسيس أول فندق حديث في مكة المكرمة وأطلق عليه اسم فندق بنك مصر وقد تم تأجيره على شركة مصر للسياحة وكان الفندق يضم المئات من الحجاج المصريين وغيرهم في كل عام، هذا الفندق باعته وزارة المالية فيما بعد على الشيخ صدقة وسراج كعكى ولا يزال يدار كفندق حتى اليوم، الواقع أن عبد الله السليمان لم يكتف بهذا وإنما شجع كذلك الشيخ عطا إلياس على إنشاء فنادق التيسير في مكة وجدة والمدينة المنورة ومنى وكان هذا التشجيع نواة لانطلاق الحركة الفندقية في البلاد ولكن عبد الله السليمان بطموحه لم يرض عن الفنادق المذكورة فقام هو شخصيا بإنشاء الفنادق الخاصة به في جدة وهي فندق الكندرة وفندق البساتين ثم فندق قصر الكندرة ثم فندق قصر جدة الذى تم بناؤه بعد ترك الوزارة واستقدم لهذه الفنادق المديرين المتخصصين وأجهزة الإدارة والخدمة الكاملة حتى أصبحت هذه الفنادق هي أولى فنادق الدرجة الأولى في المملكة واعترف بها على المستوى الدولى للفنادق وهو بهذا العمل الجرئ قد

ص: 117

أدى لبلاده خدمة من أجل الخدمات لأنه سد حاجة البلاد من الفنادق كما أسبغ عليها مظهرا حضاريا كانت في أشد الحاجة إليه، قد يقول البعض ولكنه أفاد شخصيا من هذا العمل ربحا ماديا ودخلا مثمرا ونقول أنه ليس من الضرورى أن يكون العمل النافع مجردا من المنفعة والربح فما أكثر الأعمال المربحة والمثمرة ماديا! ولكن العمل إنما يقاس بنفعه للبلاد والعباد فإِذا كان يحقق هذا النفع ويعود على صاحبه بالربح فهو عمل طيب مشكور لا مراء في ذلك ولا جدال، ولا ينتقص منه إلا حاقد أو كسلان ..

‌المسْتشفى اللبْناني

وكما كانت البلاد تعانى من نقص الفنادق كانت تعانى كذلك من قلة المستشفيات ولعل الكثيرين لا يعلمون أن مدينة جدة بل كل المدن الكبيرة في المملكة لم يكن فيها سوى مستشفى واحد هو المستشفى العام - مستشفى حكومى واحد في كل مدينة - ومن المعلوم أن المستشفى العام الحكومى هو غير المستشفى الخاص سواء في تجهيزاته أو خدماته، وحينما قدم إلى جدة بعض الأطباء اللبنانيين ولديهم فكرة افتتاح مستشفى خاص في جدة لم يجدوا من يحقق طلبتهم سوى الشيخ عبد الله السليمان فهل يعلم القراء ماذا فعل عبد الله السليمان لإخراج الفكرة إلى حيز الوجود، لقد شجعهم في البداية على افتتاح المستشفى وافتتح فعلا ولكن في مبنى قديم متهالك فلم يلبث الشيخ عبد الله السليمان أن أخلى فندق الكندرة في جدة - بعد استكمال بناء فنادقه الأخرى وحوله إلى مستشفى فانتقلت إليه إدارة المستشفى اللبنانى وقام الشيخ عبد الله السليمان ببناء جناح جديد في المستشفى وهكذا قام أول مستشفى خاص في مدينة جدة بل في المملكة بتشجيع كريم من الشيخ عبد الله السليمان رحمه الله وبمثل هذه الأعمال تقاس همم الرجال ..

ص: 118

‌عَبْد الله السُّليمان وَالملك عَبْد العزيز

كان الشيخ عبد الله السليمان يسكن في جدة في بيوت صغيرة في محلة الكندرة في موضع فنادق الكندرة الحالية قبل بناء هذه الفنادق وكان بمعية جلالة الملك عبد العزيز في السيارة أصيل يوم فمر موكب جلالته أمام هذه البيوت فسأله جلالته أين يسكن؟ فأشار إلى هذه البيوت الصغيرة فقال جلالته كيف ترضى وتطمئن للسكن في هذه الدور الصغيرة فقال إننى مكتف بها يا طويل العمر وأثناء هذه الرحلة مر الموكب من طريق المدينة فرأى جلالة الملك عبد العزيز قصرًا مشيدًا في طريق المدينة المنورة فسأل لمن هذا القصر؟ ففيل: إنه للشيخ محمد رضا ولم يكن من جلالته إلا أن طلب من الشيخ محمد رضا أن يتنازل عن القصر بأثاثه لعبد الله السليمان ولم يجد الشيخ محمد عبد الله رضا بدا من إجابة الطلب واستدعى جلالته عبد الله السليمان وقال له: هذا القصر أصبح لك فانتقل إليه ولكن عبد الله السليمان قال لجلالته إن سمو الأمير فيصل لا بيت له في جدة وهو أحق بهذا القصر منى أما أنا فيكفينى ما أنعم به من رضاء جلالتكم وهكذا يثبت الشيخ عبد الله السليمان بأدبه العالى أنه رجل الدولة يؤثر جانب المليك وأبنائه على نفسه، ولم تكن هذه هي الأولى من عبد الله السليمان، فحينما ولى العرش جلالة الملك سعود كانت الحاجة تدعو إلى وجود صاحب السمو الملكى فيصل بجانب أخيه الملك سعود في جدة وكان الملك سعود قد بنى قصورا له في جدة ولم يكن لفيصل سوى البيت الذى أشرنا إليه آنفا والمخصص لسكنه وأسرته، وذهب عبد الله السليمان إلى فيصل في مكة يقول له لا بد من بقائك بجانب أخيك في جدة قال ولكن لا يوجد لى مكتب في جدة وكانت السيدة نورة الخريجى حرم الشيخ عبد الله السليمان وأم ابنه خالد قد شيدت فيلا جميلة في جدة وأتمت تأثيثها فلم يكن من

ص: 119

عبد الله السليمان إلا أن قال له هذا بيت أم خالد بين يديك فاستعمله مكتبا لك ولم يقبل سموه بذلك فأرسل الشيخ عبد الله السليمان السيدة نورة إلى سموه ترجوه أن يقبل المنزل وهكذا كان.

هذه الالتفاتات العالية من الشيخ عبد الله السليمان تدل على علو همته ونبل شخصيته ولو كان غيره في مكانه لفرح بمنحة الملك واستأثر بالقصر كما استأثرت زوجه بقصرها ولكن الرجل كان يتصرف بروح رجل الدولة وأحد بناتها ومؤسسيها رحمه الله.

‌الاسْتقالَة

بعد وفاة جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وولاية الملك سعود للعرش تقدم الشيخ عبد الله السليمان إلى جلالة الملك سعود باستقالته من منصبه ولكن الملك (سعود) أصر عليه بالبقاء واستمر الشيخ عبد الله السليمان في منصبه فترة من الزمن ولكنه رأى بثاقب نظره أن الظروف تتغير وأن الدولة الجديدة قد تحتاج إلى نمط جديد من الرجال - لكل زمان دولة ورجال - وهكذا لم يمض طويل وقت حتى رأى عبد الله السليمان نفسه مضطرًا للتخلى عن المنصب الذى احتفظ به طيلة عهد الملك عبد العزيز والذى امتد نحوا من خمسين عاما أو تزيد فتقدم من جديد إلى جلالة الملك سعود بالاستقالة وراجيا بإِلحاح إعفاءه من العمل بعد أن كبرت سنه وضعفت صحته وهكذا أجيب إلى طلبه وصدر بلاغ من الديوان الملكى بقبول هذه الاستقالة مع كلمة تقدير طيبة لجهود الرجل في بناء الدولة وتفانيه في الإخلاص وهكذا بدأ لوزارة المالية عهد جديد كان مختلفا عن العهد الماضى القديم. حينما كانت أمور وزارة المالية إنما تدبر بأمر رجل واحد وقد يكون ذلك العهد يفتقر إلى التنظيم، على أى حال كان يتميز بالنفوذ العظيم لهذا الرجل الذى كان إخلاصه للدولة وللمليك واضح المعالم بارز السمات.

ص: 120

‌مَصْنع الإسْمَنت

لم يقبع عبد الله السليمان بعد تركه الوزارة في منزله ليأسى على ما فاته من سلطان أو لينعم بما تجمع له من ثروات طيلة الخمسين عاما التي قضاها في خدمة الملك عبد العزيز وإنما نظر بثاقب بصيرته إلى ما تحتاجه البلاد من مشروعت وما تنتظر من مستقبل عظيم فقام بتأسيس أول مصنع للأسمنت في المملكة في مدينة جدة أكبر ميناء في البلاد، وكانت مدينة جدة قد بدأت تنمو وتمتد بعد إزالة السور الذى كان يحيط بالمدينة وبعد وصول الماء إليها، كان هذا السور يمتد في الناحية الشمالية أمام ميدان البيعة من عمارة النشار حاليا إلى عمارة الشيخ أحمد موصلى المتخذة كفندق وفيه باب اسمه باب جديد ويمتد شرقا من أمام عمارة باخشب إلى باب مكة وكان هناك باب يسمى باب مكة ويمتد غربا من موضع فندق قصر البحر الأحمر إلى موضع عمارة الشيخ سلمان الحمد في ميدان الملك عبد العزيز، وتمتد جنوبا من موضع البنك العربى مارًا بامتداد شارع الملك عبد العزيز إلى مقبرة الأسد وفيه باب اسمه باب شريف، وكل العمران الذى حدث بعد ذلك هو حديث بعد إزالة السور وهو يساوى مئات أضعاف مساحة المدينة القديمة نقول رأى عبد الله السليمان إن المدينة ستنطلق وتنمو وتمتد، وأنه لا بد من إيجاد مصنع للأسمنت يسد حاجة البلاد وكان قد حصل على امتياز ببناء مصنع الأسمنت، هذا - لعل ذلك في أواخر عهد الملك عبد العزيز - فقام بإبراز الفكرة إلى حيز الوجود وأسَّسَ شركة الأسمنت السعودية في جدة التي باشرت في بناء أول مصنع للأسمنت في المملكة حيث قام ولا يزال يقوم بسد كثير من حاجة البلاد إلى هذه المادة الهامة للإِعمار، وهكذا ساهم عبد الله السليمان بعمله هذا في تعمير البلاد وتطوير وسائل الإِعمار فيها.

ص: 121

‌توزيع الأراضي وتأجيرهَا

وعلى ذكر الإعمار - أود أن أذكر أن عبد الله السليمان رحمه الله ساعد على تعمير مدينة جدة بطريقة عملية فقد قام بتوزيع الأراضى في شارع الكندرة وهو الشارع الممتد من مقبرة حواء إلى ميدان المطار القديم - فبنى في هذه الأراضى آل الخريجى والمعلم محمد بن لادن رحمه الله والشيخ محمد السليمان التركى وغيرهم كما وزع أراضى أخرى من موضع عمارة الشيخ أحمد موصلى أمام قصر جدة إلى باب مكة وقد قام بالبناء فيها كل من الشيخ أحمد موصلى والمرحوم محمد باخشب والشيخ محمد سرور الصبان، وغيرهم وكانت الأراضى في منطفة البغدادية شمال جدة محجوزة لشركة عقارية تقدمت إلى الدولة بفكرة تعمير الأرض وبيعها بالتقسيط ولكنها لم تفعل شيئا طيلة سنوات، فأشار عبد الله السليمان على البلدية بتأجيرها بأجور رمزية على الراغبين ثم بيعها عليهم.

وهكذا انطلقت حركة البناء بعد أن أصبحت الأرض ميسورة وأخذت الأيدى تتداولها بأسعار زهيدة وهكذا انتشر العمران وامتد، وأصبحت مدينة جدة تتميز في ذاك الوقت عن سائر مدن المملكة بأن العمران الذى امتد فيها هو عمران أهلى وليس عمرانا حكوميا كما هو الشأن في بعض المدن الأخرى الذى بدأ العمران الحكومى فيها أولا ثم جاء التعمير الأهلى وهكذا أثبت عبد الله السليمان أنه رجل دولة يعمل لمصلحة البلاد وإعمارها بكل وسيلة يراها مؤدية لذلك، ولم نر أنَّه استأثر لنفسه أو لذويه بشئ من هذه الأراضى التي يسرَّ الحصول عليها للناس تيسيرا لا مزيد عليه.

ص: 122

‌عَبْد الله السُّليمَان وجَامِعة الملك عَبْد العَزيز

ويأبى عبد الله السليمان إلا أن يختم حياته بعمل من أعظم الأعمال بهبته السخية العظيمة لجامعة الملك عبد العزيز فلقد كانت له مزرعة في شرق مطار جدة وبنى حولها أربعة قصور، مساحة أرض كل قصر أربعون ألف متر، وبنى فيها فيلا كبيرة لابنته السيدة أسماء عبد الله السليمان كما ألحقت بكل قصر ملاحق كثيرة وقد انقطع الماء عن المزرعة بسبب نضوب العين التي اشتراها - وهي عين فرج يسر - والتى كانت تمد المزرعة بالماء فبقيت هذه القصور غير مسكونه رِدْحًا من الزمن ثم ظهرت فكرة الدعوة إلى إنشاء جامعة الملك عبد العزيز في مدينة جدة وبدأت اللجنة التأسيسية في جمع التبرعات للجامعة وكان الشيخ عبد الله السليمان رحمه الله مريضا فبعث إلى أعضاء الجامعة يدعوهم للاجتماع به وفاجأهم بتقديم القصور الأربعة مع ملحقاتها والفيلا هدية منه للجامعة وأردف ذلك بما يحتاجونه من الأرض التي بلغت نحوا من ستمائة ألف متر وهكذا أخرج عبد الله السليمان رحمه الله فكرة الجامعة من طور الخيال إلى عالم الحقيقة والواقع وللتاريخ فإن المرحوم محمد باخشب باشا كان أول من تبرَّع بمبلغ سخى للجامعة واقترح إطلاق اسم جلالة الملك عبد العزيز عليها وكان المبلغ الذى سمّاه لتبرعه هو مليون ريال وكان هذا المبلغ في ذلك الزمان يعتبر ثروة عظيمة وبينما كانت التبرعات تتراوح بين الألف وعشرات الألوف وأعظم المتبرعين لم يزد تبرعهم عن مائتى ألف أو ما حولها كان تبرع محمد باخشب رحمه الله مليونًا كاملا من الريالات، وهذا التبرع الضخم الذى دفع الكثيرين فما بعد إلى التبرع مع هبة الشيخ عبد الله السليمان العظيمة الضخمة هما اللذان أسرعا بإخراج الجامعة إلى عالم الحقيقة والواقع كما ذكرنا، بقى أن نقول إنه إذا كان تبرع باخشب بمليون ريال

ص: 123

فإن قيمة تبرع الشيخ عبد الله السليمان في وقتها كان يزيد عن العشرة ملايين ريال فالقصور الأربعة والفيلا كانت تتراوح تكلفتها دون قيمة الأرض المقامة عليها - نحوا من أربعة إلى خمسة ملايين من الريالات، وحينما نقرر هذا الرقم فإننا نقوله من واقع نعرفه أكثر مما يعرفه الغير لأن كاتب هذه السطور هو الذى تولى الإشراف على بناء هذه القصور وملحقاتها للشيخ عبد الله السليمان رحمه الله أما الأرض فقدر ثمنها في ذلك الوقت بنحو من ستة ملايين من الريالات وهي في الوقت الحاضر تساوى بضع مئات من ملايين الريالات إن لم تصل إلى أكثر من ذلك.

وهكذا ختم الشيخ عبد الله السليمان حياته بهذه الهبة العظيمة التي هي من أعظم الحسنات الجارية وأجلِّها إذ وهب قصوره للعلم فأصبحت هذه القصور تمثل كليات الجامعة الفتية جامعة الملك عبد العزيز وأخذت الجامعة تُعِدُّ مخططات توسعها على الأرض الكبيرة التي وهبها لها الرجل العظيم وهكذا أراد الله تعالى لعبد الله السليمان أن يختم حياته بأجل الأعمال وأعظمها إذ هيأ بهبته السخية هذه بيوتا للعلم جزاه الله خير الجزاء وأحسن ثوابه في جنات الخلود.

‌وَفَاة عَبْد الله السُّليمان

هذا وكانت وفاة عبد الله السليمان رحمه الله عام 1385 هـ بعد مرض طويل استقدم له بعض كبار الأطباء من انجلترا وبعد أن أجريت له استعدادات الجراحة وجد أن الداء قد استشرى وتمكّن فلم يجد فيه علاج فغادر هذه الحياة وقد وصل فيها إلى ذروة المجد والسلطان كلما وهب من ثروته ما نسأل الله تعالى أن يكون له عوضا في دار البقاء رحمه الله وأحسن مثوبته فلقد كان من أعظم الرجال.

ص: 124

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 125

‌عَبْد الله مُحمَّد الصَّغير

متوسط القامة لا بالطويل ولا بالقصير، حنطى اللون واسع العينين يضع على عينيه نظارة ذهبية، عظيم الأنف، خفيف شعر اللحية والعارضين حتى لتظنه أجرد يرتدى الجبة والعمامة الحجازية فيه سمت ووقار، ذلكم هو الشيخ عبد الله محمد الصغير أحد رجالات مدينة جدة وأعيانها البارزين.

لم أتمكن من تحديد تاريخ ميلاده، وأرجح أنه توفى في العقد السادس من هذا القرن الهجرى الذى نقترب من نهايته. كان الشيخ عبد الله محمد الصغير نمطا فريدا من الرجال وقد هيأ نفسه لخدمة الناس والسعى في مصالحهم، ولم يكن حينما عرفته ذا مال ولكنه كان يملك القدرة على أصحاب الأموال، قدرة منبعها الحب ومبعثها الثقة والتقدير، وقد كان كما عرفت في مطلع حياته تاجرا من أوساط التجار ولكنه ما لبث أن ترك التجارة واكتفى بما يصل إليه من غلة البيت الذى يسكن جزءا منه ويؤجر الجزء الآخر، ومن بيت ثان يؤجره للغير وكان ليس له ولد وإنما يعيش هو وزوجه السيدة مصباح بنت محمد سعيد جاسر ثم ما لبثا أن تبنيا ابن أخيها على جاسر الذى ولد لأخيها بجزائر جاوه ثم أرسل إليها بعد وفاة والده هناك.

ص: 127

عرفت الشيخ عبد الله محمد الصغير في الفترة ما بين الأربعينات إلى أواخر الخمسينات إذ كانت تربط زوجه صلة قربى بعائلتنا وكما علمت فإنها زفت إليه من منزل أسرتنا في جدة عرفت الرجل في هذه الفترة وقد وهب نفسه لخدمة الناس ورأيته يدخل إلى مكاتب التجار من أصدقائه ومحبيه فيقول لأحدهم بلهجة الأمر هات جنيها أو جنيهين أو عشرة فيؤديها له في الحال دون أن يسأله عن وجهة صرفها ودون أن يفصح هو عن ذلك يحافظ بها على أسرار الناس، يستر عوراتهم ويقضى حوائجهم ويؤدونها له راضين وهم يعلمون أنها أنما توضع في موضعها الصحيح لأنها إنما تؤدى عن يد الثقة الأمين، وكان له مجلس في مدخل داره التي هدمت وأدخلت في الشارع الجديد شارع الذهب صباح كل يوم فيفد إليه أصحاب الحاجات ويسرون إليه بشؤونهم فإذا كان الضحى انطلق إلى داخل المدينه يزور أصدقاءه في مكاتبهم ومتاجرهم والكل يحتفى به ويوسع له ويسارع إلى طلبه عن رضى وارتياح، وأصبح الرجل مقصدا لأصحاب الحاجات يهرعون إليه في حوائجهم فلا يتردد لحظة في الاستجابة وما أسرع ما يكون قضاء هذه الحاجات على يديه لا وهبه الله من حب القادرين وما حبب إليهم من الاستجابة لكل ما يطلب دون تردد أو سؤال.

وسعى به الساعون إلى الدولة في فترة حرجة فأمر بمغادرة البلاد وهاجر إلى مصر واشتركت مدينة جدة كلها في توديع الرجل الكريم منهم من ودعه في بيته ومنهم من ودعه في الميناء والخاصة من أصدقائه وهم كثيرون استقلوا الزوارق إلى الباخرة وبقوا معه فيها حتى أوشكت على الرحيل وأصبحت زوجه محل عناية أصدقائه فكانوا يترددون عليها ويتفقدون شؤونها تقديرا لزوجها ووفاء له في محنته وسعى الكثيرون من تجار مدينة جدة ووجهائها في إظهار الحقيقه لأولى الأمر، وإبطال الفرية المدسوسة. وما هي إلا أشهر قليلة حتى أصدر جلالة المغفور له الملك عبد العزيز أمره بالسماح له بالعودة إلى البلاد وكان قد قضى هذه الفترة

ص: 128

ضيفا كريما بمنزل آل باناجه بالعباسية بالقاهرة وكان يوم عودته يوما مشهودا اشتركت مدينة جدة كلها في استقباله من الباخرة وعلى الميناء وضاق منزله بالزائرين الذين توافدوا عليه ليل نهار يهنئونه بسلامة الأياب ويهنئون أنفسهم بعودته إليهم.

"‌

‌ عين الوزيرية

"

وكانت مدينة جده تعانى من نقص شديد في الماء وكان كبار أهلها يفكرون في الوسيلة أو الوسائل التي يمكنهم بها توفير الماء اللازم لمدينتهم وقد بذلت في هذا الصدد مساع كثيرة من ضمنها إصلاح العين الوزيرية التي عنيت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني بإيصالها إلى جدة في عام 1304 هـ والتى كانت تتوقف وتملح حينما تشح الأمطار، وكانت إذ ذاك متوقفة من سنوات طويلة فتم إصلاح مجاريها وبذلك تدفق منها الماء مرة أخرى وكان الشيخ عبد الله محمد الصغير أحد الساعين في إنجاز هذا المشروع فأسندت إليه إدارة هذه العين ولكنها ما لبثت أن توقفت فيما بعد إلى أن أكرم الله مدينة جدة بالمأثرة الكبرى لجلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وهي إجراء العين العزيزية التي كانت من أكبر عوامل نمو مدينة جدة واتساعها وذلك في أول المحرم 1365 هـ.

نقول: إن الشيخ عبد الله الصغير اختير لإِدارة العين الوزيرية بعد إصلاحها، لما يتمتع به من سمعة عاطرة في مجال الخدمة العامة للشعب، وهكذا وجد الشيخ عبد الله الصغير في هذا المشروع مجالا يكرس فيه وقته للعناية بأهم مرفق في حياة المدينة التي أحبته وأحبها حتى توفاه الله، ولقد أصيب فجأة بالشلل النصفى وقضى أيامه الأخيرة التي لم تطل كثيرا وهو يعانى من هذه العلة الفادحة حتى اختاره الله تعالى إلى جواره فكان يوم وفاته يوما مشهودا شاركت فيه مدينة جدة كلها في تشييعه إلى مثواه الأخير وكانوا يعزون أنفسهم فيه كما يعزون ذويه، فقد كان فقيد الجميع تغمده الله بواسع رحمته وأحسن مثوبته في دار الخلد إنه على ما يشاء قدير.

ص: 129

عبد الله عريف

ص: 130

‌الأُسْتَاذ عَبْد الله عَريف

أسود شديد السمرة، أسود العينين أقرب إلى الطول منه إلى القصر كان معتدل الجسم في شبابه ولكنه ثقل بعد أن اكتهل فأصبح جسيما، يرتدى العباءة العربية والعقال ويضع نظارة على عينيه بصورة دائمة.

ولد عبد الله عريف بمكه المكرمة عام 1336 هـ وتلقى تعليمه الابتدائى بها ثم ابتعث إلى القاهرة وتخرج من دار العلوم بمصر، وكان خلال سنوات ابتعاثه على صلة مستمرة بمعالى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان الذى كان يشجعه كما كان يفعل مع الكثيرين من الطلاب المبتعثين، وبعد عودته إلى مكة المكرمة عمل فترة من الوقت بديوان التفتيش بوزارة المالية، وفى عام 1365 هـ أسندت إليه رئاسة تحرير جريدة البلاد السعودية - صوت الحجاز سابقا - بعد أن عادت إلى الصدور بعد احتجابها مع بقية الصحف طيلة سنوات الحرب العالمية القانية ولم يكن عبد الله عريف غريبا عن دنيا الصحافة والكتابة فقد كان يكتب في جريدة صوت الحجاز كما كان يكتب في جريدة أم القرى، وفى صوت الحجاز جرت بينه وبين الأديب المُجيد الأستاذ حمزة شحاتة مناقشات طويلة عن الفن وعلاقته بالأدب، ولقد ذكرت من قبل أن أغلب من عرفت من الكتاب والشعراء كانت لهم بدايات حسنة تنبئ عن الأصالة وعبد الله عريف كان واحدا من هؤلاء

ص: 131

الكتاب، فقد لفتت كتابته الأنظار وهو ما يزال طالبا في دار العلوم بالقاهرة إلى أن استوى كاتبا كبيرا يرأس تحرير أول جريدة يومية في المملكة وهي جريدة البلاد السعودية، التي تحولت في عهده إلى جريدة يومية بعد أن كانت تصدر باسمها الأول صوت الحجاز - أسبوعية - كما زادت صفحاتها ولقد ظل عبد الله عريف رئيسا لتحرير جريدة البلاد فترة طويلة امتدت إلى ما يقرب من عشرة أعوام من عام 1365 هـ إلى عام 1375 هـ وعرف فيها ككاتب يعالج الشؤون العامة بأسلوب رزين وكان ناقدا بطالب بالإصلاح شأنه شأن من يتصدى للكتابة اليومية في الصحف وخاصة فيما يتعلق بالأمور التى تتصل بحياة الناس اليومية في المجالات العامة وخلال رئاسته لتحرير جريدة البلاد أصدر كتابه المسمى "رجل وعمل" وهو ترجمة لحياة الشيخ محمد سرور الصبان وأعماله .. ولقد اضطر عبد الله عريف إلى ترك العمل في جريدة البلاد السعودية بعد أن ظل حليف القلم طيلة سنوات عشر وبعد أن كان اسمه يصافح القراء كل صباح، ولعل بعض ما كتب كان السبب في إقصائه عن العمل الذى أحبه وعرفه الناس منه وليس هذا هو المهم في حياة عبد الله عريف ولكن المفاجأة التي كانت تنتظره والتى كانت الاختبار الحقيقى الذى تعرض له هي عمله في أمانة العاصمة في مكة المكرمة.

‌أَمين العاصِمَة

قالوا: - كان صاحب السمو الملكى الأمير فيصل - جلالة المغفور له الملك فيصل فيما بعد - على علم بما يكتبه عبد الله عريف كما كان يتابع أهم ما يكتب في الصحف باعتباره المرجع الأعلى في البلاد، كان في ذلك الوقت هو النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء كما كان ولى العهد، وذلك من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات - فلما أقصى عن العمل في جريدة البلاد وخلت بعد ذلك

ص: 132

بفترة وظيفة أمانة العاصمة في مكة المكرمة استدعاه جلالة الملك فيصل - كان يومها رئيسا للوزراء ووليا للعهد - وقال له إنني قد عينتك أمينا للعاصمة في مكة المكرمة وأريد منك أن تحول الأقوال التي كنت تنادى بها إلى إعمال فمجالك اليوم ليس في القول وإنما في العمل ولديك الفرصة لتترجم الإصلاحات التي كنت تدعو إليها إلى عمل ملموس، قالوا: وقال عبد الله عريف، إنني إذا لقيت من سموك العون فإنى فاعل ذلك بإذن الله، وقد انطلق عبد الله عريف أمينا للعاصمة بتأييد قوى من ولى الأمر معتمدا على جهده الشخصى في إعداد المشروعات التي يرى أنها لازمة للمدينة المقدسة مجندا لذلك كل ما يقع تحت يده من خبرات الخبراء وجهد العاملين فكان يعد المشروع ويذهب به إلى جلالة الملك فيصل شارحا أهميته ومطالبا برصد المال اللازم له فإذا أخذ الموافقة عليه انطلق في تنفيذه في غير تردد ولا إحجام متخطيا كل العقبات متغلبا على كل الصعاب، وللحقيقة فان عبد الله عريف كمكى كان متيما بحب بلده - أم القرى - وكان يرى ككاتب ومثقف أن مكة المكرمة هي أم المدائن، فهى مهبط الوحى، ومقر البيت الحرام، ومهد الرسالة وإليها يتجه الناس من كل أقطار الأرض خمس مرات كل يوم وإليها تحج مئات الألوف كل عام وإن مدينة هذا شأنها يجب أن تكون آية في النظافة والتنظيم وقدوة فيما يجب أن يتوفر في أى مدينة كبيرة مثلها، وبهذا الحب العميق، وبهذا الوعى الذكى وبذلك التأييد القوى استطاع عبد الله عريف أن يحول القول إلى عمل، وأن ينحى القلم جانبا ليعمل بكلتا يديه وبعقله وكل قوته في بناء مكة المكرمة مدينة حديثة نظيفة فشقت الشوارع بل وفلقت الجبال لتكون طريقا ممهدا للناس وأصلحت حوافيها وزينت وانتشرت الإضاءة في كل شوارع مكة المكرمة التي امتدت وتضخمت فأصبحت تمتد من ناحية الشرق حتى تجاوزت منى وابتلعتها ومشت من ورائها عشرات

ص: 133

الكيلومترات فكان حيُّ العزيزية وحوض البقر، وامتدت من جنوبها حتى شملت شارع المنصور والحفاير وحيُّ النزهة وامتدت شمالا فاتصل حى الشهداء بها الذى أصبح يطلق عليه الزاهر، وقامت نواطح السحاب في مكة المكرمة طبقات تعلوها طبقات كل هذا مع الحرص على توفير كافة الخدمات التي صاحبت هذا النمو من شوارع عريضة، ومن إضاءة كافية، ورصف للطوار وتشجير للشوارع وامتدت يد الإصلاح إلى ضواحى مكة فكان القادم إلى الحديبية على بعد بضع عشرة كيلومترات يجد مدخل مكة المكرمة هناك مضاء يمتد الشجر على جانبيه وكأنه يشير إلى ما سيجده القادم في مكة نفسها من جمال وتنظيم، بل أن عبد الله عريف سعى لتجميل مدينة بحرة وهي في منتصف الطريق بين جدة ومكة باعتبارها تابعة لمكة المكرمة، ولم تقتصر جهود عبد الله عريف على ذلك ولكنه سعى إلى إيجاد المسالخ الحديثة في مكة ومنى كما أنه كان يجند كل إمكانات أمانة العاصمة لنظافة منى والمشاعر المقدسة في مواسم الحج وكان دائم التفكير والتخطيط لكل ما يراه لازما لتجميل المدينة المقدسة وتحسين مرافقها وإظهارها بالمظهر اللائق بمكانتها الدينية والتاريخية ونستطيع أن نقول أن عبد الله عريف قد نجح فيما هدف إليه فتغير وجه مكة المكرمة في عهد رئاسته لأمانة العاصمة المقدسة تغيرا ملموسا يلمسه كل زائر وكل مقيم. وكانت النظافة أهم المرافق التي حرص عليها عبد الله عريف فقد كان يمر بنفسه على الشوارع وخاصة الشوارع النائية ليرى حال النظافة فيها ويحاسب المسؤولين عنها فاستطاعت مكة بهذا أن تحافظ على نظافة شوارعها وطرقها في الوقت الذى كانت تشكو فيه مدن كثيرة أخرى من تردى أعمال النظافة فيها وللحق فإن العمل في تحسين مكة المكرمة لم يكن وقفا على أمانة العاصمة وحدها وإنما كان يشترك في ذاك بحكم مركز المدينة المقدسة جهات كثيرة فالدولة نفسها كانت ترعى مشروع توسعة

ص: 134

الحرم المكى الشريف وهو أضخم مشروع من نوعه في التاريخ للمسجد الحرام شمل مشعرى الصفا والمروة، كما أن الدولة وخاصة بعد تأليف الوزارات المختصة تكفلت بشتى المشاريع التي تعتبر ضرورية للمدينة المقدسة والتى ساعدت في تحسينها وإكمال مرافقها كمشاريع مياه عين زبيدة والعزيزية التي كانت إدارة مستقلة ثم أصبحت تابعه لوزارة الزراعة والمياه، ومشاريع الحج سواء ما يتعلق منها بمنى وعرفات والمزدلفة أو ما يتعلق بمكة المكرمة والتى تألفت لها لجان خاصة ترعاها الدولة ويضطلع بها سمو أمير منطقة مكة المكرمة وسمو وزير الداخلية ووزارة الحج واللجان المتفرعة عن هذه الجهات كلها ومشاريع الكبارى والطرق في منى وعرفات وطرق الحج والتى امتدت إلى مكة المكرمة فشملت مداخلها وبعض شوارعها الرئيسية، نعم إن الدولة بكامل أجهزتها كانت ولا تزال مجندة في تحسين مرافق المدينة المقدسة وما يتبعها من مشاعر الحج فمن العدل أن نذكر هذه الجهود كلها إلى جانب جهود أمانة العاصمة، ولعل من حظ عبد الله عريف أن عهد رئاسته لأمانة العاصمة شهد كل هذه المشاريع وكل هذه الإنجازات ولا شك أنه أمين للعاصمة محظوظ ولا شك أيضا أنه كان يستحق هذا الحظ الطيب لأنه لم يركن إلى الحظ فينام متكلا على أعمال غيره وإنما ساهم بكل قوته في تجميل المدينة وتحسينها وكان منسجما مع كل إصلاح يطرأ ومع كل مشروع ينفذ كما كان يحافظ على مكتسبات هذا النجاح بالسهر الدائم والعمل الدؤوب.

‌تقدير الدَولة

وحين تأسست أول وزارة للبلديات في المملكة وأرادت أن تكافئ القائمين على بلديات المدن تقديرا لأعمالهم كان عبد الله عريف أمين العاصمة المقدسة هو

ص: 135

الوحيد بين رؤساء البلديات الذى استحق تقدير الدولة فقلد وساما منحه له جلالة الملك خالد بتوصية من صاحب السمو وزير الشؤون البلدية والقروية تقديرا لجهوده في خدمة المدينة المقدسة وتحسين مرافقها والمحافظة على نظافتها ومرافقها.

‌تكريم الموَاطنين

ويطيب لى هنا أن أذكر كلمة وردت في إحدى مقالات عبد الله عريف عن نفسه وعما يطمح إليه وأن علق عليها. أذكر أنه قال مرة في إحدى مقالاته يخاطب نفسه ما معناه "من أنت يا بائع الفحم حتى تضع نفسك بجانب هذه الأسماء الكبيرة الشهيرة" وهو يشير بهذا إلى أنه نشأ في أسرة متواضعة كان يعمل بعض أفرادها في تجارة الفحم، ولكنه كان منذ نشأته طموحا إلى المجد يرنو ببصره إلى الأعمال العظيمة الكبيرة التي كانت تسند دائما إلى كبار الرجال وأقول إن عبد الله عريف استطاع أن يخرج من محيط أسرته التواضع ليكون أولا كاتبا كبيرا يرأس تحرير أول وأكبر جريدة يوميه طيلة عشر سنوات ثم استطاع أن يصل ليكون أنجح أمين للعاصمة المقدسة شهدت المدينة في عهده من التوسع والازدهار ما لم تشهده في عهد أمين آخر ممن سبقوه من ذوى الأسماء الكبيرة الذين هيأت لهم مراكز أسرهم أن يتبوأوا هذا المنصب، نعم استطاع عبد الله أولا بعلمه وثانيا بجهوده وإخلاصه أن يضع اسمه إلى جانب هذه الأسماء الكبيرة بل وأن يتفوق عليها وهكذا فإن الطموح إذا ما صاحبه العلم والعمل كان من أكبر أسباب النجاح، ولقد سعد مواطنو مكة المكرمة بتقدير الدولة لأمين عاصمتهم فسارعوا إلى الدعوة لإقامة حفل تكريمى له بهذه المناسبة وساهم الجميع فيه متبرعين بالمال الكثير، فلم يكن من عبد الله عريف إلا أن استجاب لهذه

ص: 136

العواطف الزاخرة من المواطنين ولكنه فاجأ المجتمعين بطلب إحالة هذه الأموال التي تجمعت إلى مشروع خيرى نافع للبلد المقدس وساهم هو فيه بمبلغ مائة الف ريال وقد أحيلت هذه المبالغ جميعها إلى احدى الجمعيات الخيرية بمكة لتصرف في أعمال البر للمدينة المقدسة ومساعدة المحتاجين للعون من سكانها، وهكذا أبى حب عبد الله عريف لبلده إلا أن يظهر في كل مناسبة من المناسبات.

‌وفاته

هذا ولقد فوجئ الناس بوفاة عبد الله عريف رحمه الله في أواخر رمضان من عام 1397 هـ فلقد كان يقضى بأسرته بعضا من هذا الشهر في مدينة الطائف فحضر إلى مكة في نهاية الشهر معتمرا وبعد أن أدى نسك العمرة وصلى الفجر ذهب إلى بيته ليخلد إلى شئ من الراحة ولكنه وجد بعد ذلك في سريره وقد أسلم الروح، تغمده الله برحمته الواسعة، فلقد كان رجلا مخلصا محبا لوطنه كل الحب ولقد كانت لوفاته رنة أسى في جميع الأوساط لما عرف عنه من جليل الأعمال، أسبغ الله عليه شآبيب رحمته وأحسن جزاءه في جنات الخلد إنه سميع مجيب.

ص: 137

الحاج عبد الله علي رضا

ص: 138

‌الحاج عَبْد الله عَلي رضَا

قصير القامة ممتلئ الجسم واسع العينين أبيض اللون أشيب اللحية والعارضين كان يرتدى الجبة والعمامة الحجازية، وظل محتفظا بهما إلى آخر حياته ولكنه كان يرتدى العباءة والعقال المقصب حينما يذهب للقاء جلالة المغفور له الملك عبد العزيز ولذلك قصة رواها لي ابنه معالى الأخ الشيخ محمد عبد الله رضا قال كان والدى يوما في مجلس جلالة الملك عبد العزيز فأهداه جلالته عقالا مقصبا فكان بعدها يرتدى العباءة ويضع هذا العقال المقصب كلما ذهب للقاء جلالته.

ولد الحاج عبد الله علي رضا في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجرى وقد أدركته في أواخر عهد الملك الشريف الحسين وهو قائممقام جدة - محافظ المدينة كما هو الاصطلاح حاليا - وقد استطاع هذا الرجل أن يحتفظ بمنصبه هذا في العهد العثمانى ثم في العهد الهاشمى ثم في العهد السعودى، ولعل مما يجدر ذكره أن الحاج عبد الله علي رضا هو الذى تولى تسليم مدينة جدة إلى السلطان عبد العزيز حينما اتفق على تسليمها صلحا فقد سافر الملك على بن الحسين من جدة بالباخرة وفى اليوم الثانى بدأ تسليم المدينة للسلطان عبد العزيز - جلالة الملك فيما بعد - وقد رأيت الحاج عبد الله علي رضا يذهب بسيارته إلى مقر الملك عبد العزيز في الكندرة ويعود ومعه كبار رجال الملك عبد العزيز الذين عهد إليهم

ص: 139

بالدخول إليها قبل جلالته، وهكذا استمر الحاج عبد الله في الذهاب والأوبة إلى أن عاد مع الملك عبد العزيز في سيارة واحدة ودخلا من باب مكة حيث نزل جلالته في بيت نصيف وتقبل البيعة من الناس، هذا ولقد كان الملك عبد العزيز يؤثر الحاج عبد الله على رضا بمودته وإكرامه فلم يُعَيِّنْ أميرًا لمدينة جدة طيلة حياة الحاج عبد الله على رضا وكان أول أمير لها هو الأمير عبد العزيز بن معمر رحمه الله وذلك بعد وفاة الحاج عبد الله علي رضا، ولم يكن يتقاضى مرتبا على عمله كقائممقام وإنما كان يخدم المنصب بصورة شرفية دون مرتب فلقد كان واسع الثراء، وكان هو وأخوه الأكبر الحاج زينل قد قاما بتأسيس بيتهم التجارى في جدة كام 1284 هـ قم قاما بتأسيس فرع لهم في مدينة بومباى بالهند، وحينما انقسمت الهند إلى دولتين بعد الاستقلال انتقل بيتهم التجارى إلى مدينة كراتشى مع ميلاد دولة باكستان.

إن ما لفت نظرى في تاريخ الحاج عبد الله على رضا ليست قدرته على الاحتفاظ بمنصبه كحاكم إدارى لمدينة جدة خلال ثلاثة عهود سياسية مختلفة فحسب، وإنما محاولاته الأولى لاستخلاص الأعمال التجارية من أيدى الأجانب الذين كانوا يسيطرون عليها، فلقد كانت هناك بيوت تجارية أجنبية كثيرة في مدينة جدة: إنجليزية، وفرنسية، وهولندية، وإيطالية، وكانت هذه البيوت تتولى وكالة البواخر المختلفة التي ترد إلى مدينة جدة وكان الحاج عبد الله على رضا من أوائل التجار الوطنيين الذين فكروا وعملوا لاستخلاص بعض هذه التواكيل من أيدى هؤلاء الأجانب مفتتحا بذلك وكالته التجارية للبواخر وهو أمر كان يعتبر في ذلك الزمان عملا عظيما بلا مراء.

ولعله من المستحسن أن نذكر الآن طرفا عن ماضى التجارة وأحوالها في الحجاز خلال العهد الهاشمى وأوائل العهد السعودى.

ص: 140

كان العمل التجارى يعتمد بصورة تكاد أن تكون كلية على الاستيراد وكانت الهند هي المصدر الأعظم للاستيراد فلقد كانت الهند تصدر كل شئ إلى جدة سواء من الحبوب أو الأقمشة الشعبية أو الأحذية وأوانى الطعام وما إليها وكانت البواخر الشراعية خلال أواخر العهد العثمانى في أوائل القرن الرابع عشر الهجرى هي واسطة هذا الاستيراد وكان كثير من التجار يملكون هذه البواخر أو قسما منها، كان يشترك تاجران أو أكثر في ملكية باخرة واحدة وكان هناك ربابنة وطنيون للبواخر وما زال بعضهم يمارس هذا العمل مثل آل سلامة والرقبان وخلافهم، ولم تكن هناك بنوك تجارية لتحويل النقود بواسطتها وإنما كانت ترسل صرًّا في هذه البواخر الشراعية إلى البيوت التجارية في الهند وكان التجار يعمدون إلى تقسيم المبالغ المرسلة في عدة بواخر حتى إذا غرقت باخرة لم يفقد التاجر إلا جزءا من ماله المرسل إلى الهند وكانت هذه البواخر الشراعية تسافر في مواعيد معينة وتعود كذلك في مواعيد معينة متجنبة أوقات الفيضانات واضطراب البحر ولقد علمت أن هذه البواخر الشراعية كانت تجلب حاجة الحجاز من الأقوات والبضائع كما تجلب حاجة مصر منها وذلك قبل شق قناة السويس فكانت هذه البواخر الشراعية بمثابة مخازن عائمة تبقى في البحر وينزل منها إلى ميناء جدة ما تحتاجه البلاد ويبقى الباقى في هذه البواخر لتصديره إلى مصر التي كانت تستورد كثيرا من البضائع التي تحتاج إليها بواسطة التجار الحجازيين وعن طريق هذه البواخر التي تصدر هذه البضائع إلى ميناء السويس والقصير، وبعد شق قناة السويس انتهت حاجة مصر إلى الاستيراد عن طريق ميناء جدة، وأصبحت تستورد ما تحتاج إليه سواء من الغرب أو الشرق عن طريق قناة السويس.

أقول وقد أدركت البواخر الشراعية وهي تسير بين ميناء جدة وميناء الحديدة في اليمن، حيث تستورد الغلال من ميناء الحديدة أو جيزان كما كان استيراد

ص: 141

الشعير والتمر يتم من ميناء البصرة في العراق، هذا وقد انتهت الحاجة إلى هذه البواخر الشراعية بعد توفر البواخر التجارية الكبيرة، وتعاظم كميات البضائع التي تحتاج إليها البلاد، وكانت هناك بيوت تجارية معينة في مدينة بومباى بالهند هي بيوت الحاج عبد الله بهائى وهو هندى مسلم. كما كانت هناك بيوت تجارية حجازية هي بيت الحاج عبد الله على رضا وبيت الحاج سليم الخنجى ولقد كانت الطريقة أن ترسل هذه البيوت التجارية برقيات إلى عملائها من التجار في جدة بأسعار البضائع حينما يتعين تاريخ سفر إحدى البواخر الكبيرة إلى جدة ويرتبط التجار بالشراء لترد بضائعهم في وقت واحد وعلى باخرة واحدة وكان وكلاء البواخر يعمدون إلى التبليغ عن وصولها وسفرها بواسطة المنادى - حينما كانت مدينة جدة محصورة داخل أسوارها وكان المنادى يطوف في شوارع جدة وأسواقها ينادى ويقول على سبيل المثال - بابور بوسطة إنجليزى اسمه جهانكير أن شاء الله بكره حضوره هنا، كل من عنده صرَّه أو أمانة يراجع في الحال الوكيل الحاج عبد الله علي رضا وهكذا على البواخر الأخرى موضحا اسم الباخرة وموعد وصولها واسم الوكيل.

ولقد ظلت التجارة محصورة مع الهند تقريبا ولم يتم الانفتاح بصورة عامة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبانتهائها بدأت النهضة التجارية العظيمة في البلاد وأصبح الاستيراد والتزاحم مفتوحا للجميع، وبدأت البيوت التجارية السعودية تمارس نشاطها الواسع الذى قضى على النفوذ التجارى للبيوت الأجنبية بل وأنهى وجودها تماما ولعله من الطريف أن نذكر هنا أنواعا من التجارة انتهت تماما فلم يعد هناك من يمارسها.

كانت هناك تجارة الماء، وكانت لمدينة جدة صهاريج كبيرة لحفظ مياه الأمطار، وكانت هذه الصهاريج تبنى في طريق السيول خارج المدينة، ومن أشهر

ص: 142

هذه الصهاريج صهريج المشاط، وصهريج باناجه، وحفرة حميد الشيخ فإذا جاءت الأمطار وامتلأت هذه الصهاريج تغلق فوهاتها ويبقى الماء محفوظا فيها إلى حين الحاجة إليه بعد انتهاء موسم الأمطار فتفتح هذه الصهاريج ويباع الماء للجمهور، وكانت أغلب بيوت جدة القديمة مزودة بهذه الصهاريج لحفظ الماء الذى ينحدر من السطوح بواسطة مواسير من القماش إلى الصهريج في أسفل المنزل، وكان البعض يملأ هذه الصهاريج بشراء الماء في موسم الأمطار وتخزينه فيها إلى حين الحاجة إليه، وكما كانت هناك تجارة للماء، كانت هناك تجارة السمن يوم كان اعتماد الناس على السمن الطبيعى وهناك مثل مشهور متداول وهو من لا يشترى السمن في الثور ثور والمعنى أن السمن يكثر في فصل الربيع في برج الثور فكان الناس يقبلون فيه على الشراء لحاجة بيوتهم أو لتجارتهم، ومثل ذلك ينطبق على الفحم قبل دخول الكهرباء والغاز إلى البلاد فكانت هناك مواسم معينة يكثر فيها الفحم ويقوم بعض تجاره بشرائه وتخزينه لبيعه بأثمان أعلى حين الحاجة إليه.

ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل عن ماضى التجارة إلى كبير تجار جدة الحاج عبد الله على رضا لنقول إنه كان يعيش بين الناس وكأنه فرد منهم لا يشعرهم بهيمنة الحاكم ولا بسلطان الحكم، أذكر أن الحاج عبد الله على رضا حينما كبر ابنه البكر محمد - معالى الشيخ محمد عبد الله رضا وزير التجارة الأسبق - أراد أن يزوجه ويفتتح له بيتا تجاريا خاصا باسمه وكان المنزل الذى يسكنه آل الجمجوم تعود ملكيته إلى زوجة الحاج زينل فطلب الحاج عبد الله من الشيخ محمد صالح جمجوم إخلاء المنزل لهذا الغرض فامتنع الشيخ محمد صالح عن ذلك قائلا أننا نسكن هذا البيت من عشرات السنين وفيه محلنا التجارى وعوائلنا الكثيرة ولا نجد بيتا آخر يسعنا فنحن أحوج إليه منكم، لم يلجأ الحاج عبد الله إلى

ص: 143

سلطته كحاكم، ولا إلى صلته الشخصية بجلالة الملك أو سمو النائب العام، وإنما ذهب إلى كبير تجار جدة الشيخ عبد الرحمن باناجه رحمه الله وشكا إليه الأمر وطلب منه أن يفصل فيه باعتبار أن القضية هي بين تاجرين يحتكمان إلى كبير بينهم، وبهذا الأدب العالى كان يتصرف هؤلاء الرجال الكبار، وكان الحاج عبد الله يستقبل الناس في بيته التجارى ويقرأ معروضاتهم ويشرح عليها بخط يده ويحيلها إلى الجهات المختصة في بساطة ويسر وكان يخلط نفسه بزملائه من التجار فيزورهم ويزورونه وكان يعتبر نفسه مسؤولا عن المدينة التي يمثل الدولة فيها فيعنى بأمور أهلها ما وسعته العناية وأنى لأذكر له حادثة واحدة تدل على كبر نفسه ونبل خصاله.

في أوائل الخمسينات وحينما قامت فتنة ابن رفادة الذى وصل إلى مدينة الوجه عن طريق السويس مع مجموعة من المسلحين بادر المغفور له الملك عبد العزيز بالقضاء على هذه الفتنة في مهدها بصورة سريعة وكانت العلاقات بين البيت السعودى والبيت الهاشمي الذى كان يمثله الملك عبد الله بن الحسين لم تتحسن بعد. أقول: في ذلك الوقت بالذات كانت مجموعة من شباب جدة قاموا بتأسيس أول ناد أدبى في جدة، وكانت الاجتماعات تتم في هذا النادى حتى قبل الحصول على الترخيص الرسمى بافتتاحه من الدولة وكانت أغراض النادى ثقافية واجتماعية، وكانت تلقى فيه المحاضرات والقصائد، وكان هذا النادى يعقد بمنزل المرحوم عبد العزيز جميل ثم بمنزل المرحوم الشيخ صالح إسلام وكان من أعضاء النادى الأستاذ حسن عواد والأستاذ حمزة شحاتة والمرحوم أحمد لارى، والشيخ حسن أبو الحمايل والأستاذ يونس سلامه وغيرهم وكان كاتب هذه السطور أصغر أعضاء النادى على الإطلاق.

ويبدو أنه نقل إلى الحكومة بعض أخبار هذا النادى بصورة مبالغ فيها في الوقت الذى كانت فيه الحوادث التي ذكرناها آنفا ويبدو أن جلالة المغفور له

ص: 144

الملك عبد العزيز أراد اتخاذ إجراء بالنسبة لهذا النادى وغيره من الناس، ولكنه آثر إرجاء النصح والإنذار قبل أى إجراء وعقد لهذا الأمر اجتماع كبير في مبنى وزارة المالية بمكة سبقه تبليغ كثير من الناس بواسطة الشرطة ضرورة حضور هذا الاجتماع. وإنى لأذكر أنه عين لنا موعدا للحضور في الخزنة - المبنى الذى كانت تشغله قائممقامية جدة وهو أمام ميدان البيعة حاليا وقد أزيل المبنى لقدمه - فحضرنا وقابلنا المرحوم الشيخ على طه رضوان الذى كان معاونًا لقائممقام جدة وقال لنا جميعا إن السيارات ستأخذكم إلى مكة فتقابلون الحاج عبد الله علي رضا في منزله بزقاق الحفرة بالشبيكة، وقد أكد المرحوم على طه عليَّ بصورة خاصة أن أذهب إلى هناك فذهبنا، وكنا مجموعة مختلفة من الناس تجمع بين فئات كثيرة فهناك التجار وأساتذة المدارس والشباب وأرباب الحرف المختلفة، وحينما وصلنا إلى مكة تناولنا طعام الغداء في منزل الحاج عبد الله وقبل الذهاب إلى الاجتماع استدعانى وقال لى اسمع ما أقوله لك إذا انتهى جلالة الملك من خطابه تحضر إليَّ لأقدمك إليه قلت لماذا، قال: هذا ما ستعرفه بعد ولكن احرص أن تكون قريبا منى وتحضر لأقدمك لجلالة الملك وبالفعل ذهبت إليه بعد انتهاء خطاب الملك عبد العزيز رحمه الله فأخذنى بيدى وكنت صغير السن صغير الحجم، ولعلى كنت أصغر من حضر الاجتماع، وقال لجلالة الملك عبد العزيز بالحرف الواحد هذا هو محمد على مغربى يا جلالة الملك - ولقد كان جلالته في قامته الفارعة وجسمه الملئ وكنت أقف أمامه في حجمى الضئيل كطفل صغير رحمه الله.

ولقد علمت بعدها أن سبب تقديمى لجلالته من قبل الحاج عبد الله على رضا أنه أراد إقناع جلالة الملك عبد العزيز بأن ما نمى إليه عن النادى الأدبى أو عن شباب جدة لا صحة له، وأراد أن يرانى جلالة الملك عبد العزيز شخصيا ليرى أن من كان في سنى الباكر لا يمكن أن يصدر عنه ما يسئ إلى الدولة، وأن ما أخبر به جلالته مبالغ فيه.

ص: 145

كما علمت أنه تعمد أن يدعى إلى حضور الاجتماع هذه المجموعة المختلفة من الناس حتى لا يعرف المقصودون بالدعوة أو يرتاع أهلوهم، هذا التصرف من رجل كالحاج عبد الله على رضا يدل على الشجاعة لأنه وهو يمثل الحكومة لم يقف موقفا سلبيا إزاء المدينة التي يمثل الدولة فيها وإنما حاول جهده الدفاع عن أهلها بحق شارحا لوليِّ الأمر ما يعرفه في أمانة وشجاعة.

هذا ومن الحق أن أذكر أن بيت آل زينل في الهند الذى أسسه صاحب الترجمة مع أخيه كان إلى جانب عمله التجارى يقوم بعمل إنسانى نبيل فكثيرا ما أرسل الحاج عبد الله والحاج زينل المرضى إلى الهند لعلاجهم أو إجراء العمليات لهم على نفقتهم ممن لا تتوفر لهم فرص العلاج ف البلاد في ذلك الزمان.

وفى عام 1352 هـ مرض الحاج عبد الله على رضا مرضا طويلا في مدينة الطائف وكان يصيف بها فكان جلالة الملك عبد العزيز يزوره في الدار التي ينزل فيها بالمثناة ويكرر له الزيارة وقد قدم المرحوم الحاج محمد على زينل ابن أخيه خصيصا لزيارته من الهند واستقدم معه الطبيب المصرى الشهير محمد عرفان بك ولكن المنية عاجلته فتوفى بمدينة الطائف في صيف عام 1352 هـ وحضر الصلاة عليه المغفور له الملك عبد العزيز ودفن بمقبرة ابن العباس تغمده الله برحمته الواسعة فلقد كان من عظماء الرجال.

ص: 146

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 147

محمد حسن عواد

ص: 148

‌مُحَمَّد حَسَن عَوَّاد

متوسط القامة معتدل الجسم أبيض اللون تشوب بياضه حمرة، له عينان واسعتان ملونتان، أجرد اللحية والعارضين، ولد بمدينة جدة عام 1320 هجرية وتلقى تعليمه بمدرسة الفلاح وبعد تخرجه منها عين أستاذا فيها، كان يرتدى الكوفية الحجازية والشال وبعد تركه العمل في مدرسة الفلاح كما يأتى بيانه أصبح يرتدى الجبة والعمامة الحجازية لفترة قصيرة وبعد انتقاله للعمل في الحكومة ارتدى العباءة العربية والعقال واستمر على ذلك إلى آخر حياته وقد ظهر تفوق العواد وبدت إشارات نجابته منذ أن كان تلميذا بالفلاح إلى أن استوى أستاذا بارزا فيها، وقد أدركته في أوائل الأربعينات وهو من أبرز مدرِّسى الفلاح ومن أحبِّ الأساتذة إلى التلاميذ وهو في ريعان شبابه وأوج فتوته، ومما تجدر الإشارة إليه أن العواد رحمه الله كان أستاذا لكثير من أدباء جدة الذين ظهرت أسماؤهم فيما بعد مثل الأساتذة حمزة شحاتة، وأحمد قنديل، رحمهما الله والأستاذ محمود عارف وعباس حلوانى ومحمد على باحيدرة وخلافهم من أدباء جدة البارزين، ولست في حاجة لأن أقول أنني كنت من تلامذته في مدرسة الفلاح ووجدت من حسن رعايته وتشجيعه ما كان له أعظم الأثر في نفسى فلقد كان أول من شجعنى على الكتابة إذ كان يدرِّس لنا مادة الإنشاء - وهو الاسم الذى كان يطلق على مادة

ص: 149

اللغة العربية في ذاك الوقت أن صح هذا التعبير، ولعل الكثيرين لا يعرفون أن أول مؤلفات العواد كان في شرح هذه المادة واسمه (الإكليل الذهبى في تعليم الإنشاء العربى) وقد أهدانى نسخة منه تشجيعا لى على تجويد ما أكتب وكان لهذه الجائزة اأثرها الكبير في نفسى وأنا تلميذ صغير في المرحلة الابتدائية، وللعواد رحمه الله مؤلف آخر أو على الأصح مشاركة في مؤلف صغير اسمه معارضات يا ليل الصب، ذلك أن العواد نظم قصيدة يعارض بها قصيدة الحصرى الشهيرة:

يا ليل الصب متى غده

أقيام الساعة موعده

وشجع أصدقاءه من الأدباء على نظم معارضات لهذه القصيدة وجمعت هذه المعارضات في كتيب صغير وطبعت تحت اسم معارضات ياليل الصب وأذكر أنه كان من ضمن المشاركين فيها الأساتذة محمود عارف وهو شاعر غنى عن التعريف، وله دواوين مطبوعة ومحمد على باحيدرة وعباس حلوانى

(1)

وغيرهم من الأدباء من تلاميذ العواد وأصدقائه وكان لهؤلاء الأدباء منتدى صغير يجتمعون فيه مساء كل يوم للسمر والمحادثة ولكنه لم يكن منتدى أدبيا على أي حال.

‌بَريد الحِجَاز

وحينما وقعت الحرب الهاشمية السعودية وتولى الملك على بن الحسين عرش الحجاز صدرت في مدينة جدة جريدة بريد الحجاز أصدرها الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله، وكان العواد أبرز كتابها لأنه كان أبرز الأدباء في ذلك العهد وأننى أنقل هنا ما كتبته عن بريد الحجاز في الحلقة الخاصة بالمرحوم الشيخ محمد صالح نصيف مما له صلة بالأستاذ محمد حسن عواد ما يلى:

(1)

وعبد الوهاب نشار رحمه الله.

ص: 150

"وقد وجدت عن بريد الحجاز والأستاذ محمد حسن عواد في كتاب "ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام" ما يستحق الاقتباس وهذا الكتاب هو ديوان يضم قصائد شاعر نجد الكبير الشيخ محمد عبد الله بن بليهد من عام 1337 إلى 1370 هجرية ومعظم قصائد هذا الديوان في الوقائع التاريخية التي خاضها جلالة المغفور له الملك عبد العزيز وأنجاله الكرام جلالة الملك سعود وجلالة الملك فيصل رحمهما الله والكتاب مهدى إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل، وكيل نائب جلالة ملك المملكة العربية السعودية "هذه كانت وظيفة سموه الرسمية حين طبع الكتاب" أقول جاء في هذا الكتاب في الصفحة 86 عن بريد الحجاز والأستاذ محمد حسن عواد ما نصه وقلت: وأنا في مكة مع الإمام عبد العزيز وقد وردت قصيدة لرجل من أهل جدة يقال له حسن عواد وجعل توقيعه تحت قصيدته الأخطل الأصغر فرددت على ذلك الشاعر وقلت القول اللطيف في رد على شويعر الشريف الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده فقد ورد في بريد الحجاز الخارج من جدة من بلد الشريف على بن الحسين قصيدة لمن سمى نفسه الأخطل الأصغر فقلت وهذا خليفة الأخطل النصراني فقال في قصيدته في رجب 1343 هجرية وهذا مطلع قصيدته على الخفيف:

حدثيهم عن بأسنا يا حراب

وأذقهم نكالنا يا عذاب

وأمطريهم قذائفا يا مناطيد

كأنَّ الدخان منها سحاب

إلى أن قال:

أيها المصلحون في الشرق مهلا

أين إصلاحكم وأين الصَّواب؟

إلى آخرها وهي ثمانية وعشرون بيتا فقلت مجيبا له:

ص: 151

ما أصبتم وما لديكم صواب

بعد ما نُصَّ في البريد كتاب

وانتبهنا لقولكم حين قلتم

حدثيهم عن بأسنا يا حراب

إن هرمتم على الحروب فإنَّا

كلما طالت الحروب شباب

والقصيدة في خمسة وخمسين بيتا ومنها في وصف الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بمدينة جدة خلال فترة الحصار.

إن ظننتم بأن سلككم اليوم

عن رحى الحرب والمنون حجاب

فارقبوها من الكثيب سراعا

طالعات كأنهن الهضاب

ومنها في وصف ما كان يعانيه الحجاج من فقدان الأمن:

كم أخذتم من الحجيج فلوسا

طالما أزعج الحجيج النهاب

كم عشت فيهم اللصوص وأمست

عندكم ما على اللصوص عقاب

انتهى نص ما نقلناه عن كتاب ابتسامات الأيام والغرض من هذا النقل هو الإشارة إلى الناحية التاريخية في الموضوع لأنَّ هذا العهد قد انقضى والحمد لله بكل ما كان فيه واستعاضت البلاد عنه أمنا شاملا ووحدة كاملة ورخاء عظيمًا وهكذا نرى أن الشعر السياسي كان وسيلة من وسائل الإعلام في ذلك العهد وكان يمثله شاعران من أكبر شعراء المملكة أحدهما الأستاذ الشيخ محمد حسن عواد من أكبر شعراء الحجاز والثاني الشيخ محمد بن عبد الله بن بليهد من شعراء نجد ومؤرخيها ومن أعلم الناس بالمواقع والآثار في الجزيرة العربية وله مؤلف عظيم في هذا الباب رحمهما الله.

‌خَوَاطر مُصَرّحة

في عام 1345 هـ أصدر العواد كتاب "خواطر مصرحة" وهذا الكتاب

ص: 152

أحدث ضجة عظيمة في وقته لأنه كان صريحا في معالجته للأمور التي تناولها بل نستطيع أن نقول أنه كان جريئا بصورة غير مألوفة ولقد تعرض العواد بإصدار هذا الكتاب لمشاكل كثيرة فقد عينت الحكومة لجنة للتحقيق معه فيما ورد في كتابه هذا

(1)

وخاصة في مهاجمته للعلماء التقليد بين الذين هزأ بهم فأكثر الهزء وكلفهم كما كلف نفسه شططا وفقد العواد بهذا الكتاب مكانته الممتازة كأستاذ ملحوظ في مدرسة الفلاح بجدة وهي أهم مدرسة في المدينة وانتقل للعمل في المدرسة الحكومية الابتدائية التي كانت شبيهة بالفلاح ولكن لم تكن لها مكانتها ولم يطل به الأمر في المدرسة الابتدائية فانتقل للعمل في مكة في شعبة الطبع والنشر ثم انتقل إلى جدة ليعمل رئيسا لكتاب المحكمة التجارية التي كان يرأسها الشيخ سليمان قابل رحمه الله وهو بهذا الانتقال أصبح يعمل في غير مجاله الصحيح وهو مجال العلم والتعليم والأدب والفكر ثم انتقل أخيرا إلى مكة المكرمة ليعمل محققا بالقسم العدلي في إدارة الأمن العام بالحميدية وبانتقاله إلى مكة أمكنه المساهمة في تحرير جريدة صوت الحجاز حين ظهورها لأول مرة فقد كان أحد رؤساء التحرير الثلاثة الذين أطلق عليهم اسم (نخبة من الشبان) وهم الأساتذة عبد الوهاب آشي ومحمد حسن فقي مد الله في حياتها والأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله، وكانت الجريدة تصدر أسبوعية وكان كل رئيس تحرير يكتب افتتاحية أحد أعدادها ولم يستمر العمل في رئاسة تحرير الجريدة بهذا الأسلوب إلا فترة من الزمن ثم عين لها رئيس تحرير مسؤول وقبل أن نستطرد في ذكر الأعمال التي تقلدها الأستاذ العواد لابد أن نقف بعض الوقت عند كتاب "خواطر مصرحة".

(1)

كانت اللجنة مؤلفة من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل والشيخ محمد صالح نصيف ومهدي المصلح - انظر ديوان العواد الأفق الملتهب صفحة 57 و 58.

ص: 153

لقد قلت في حلقة سابقة أننا نستطيع أن نؤرخ لظهور الأدب الحديث في الحجاز بظهور كتابي أدب الحجاز والمعرض اللذين أصدرها المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وهما مجموعة مقالات وقصائد لأدباء الحجاز في ذلك العهد وقد شارك فيهما الأستاذ عواد رحمه الله مشاركة واضحة وكذلك بظهور كتاب "خواطر مصرحة" للأستاذ محمد حسن عواد وهو كتاب مستقل بذاته وجميع هذه الكتب ظهرت في النصف الأول من الأربعينات وفي أوائل العهد السعودي عام 1345 هـ ولقد كان الأدب والشعر في هذه البلاد في حالة ركود تام والأدباء الذين ظهرت بعض آثارهم من قبل كانوا أدباء تقليديين أن صح هذا التعبير فالنثر تضيع معانيه بين ثنايا السجع، والشعر تغلب عليه المحسنات البديعية التي تحفل بالمبالغات والاستحالات، والجو الأدبي يخيم عليه الركود والانحلال في هذا الوقت بدأ شباب مكة وجدة ممن تعلموا في مدارس الفلاح خاصة يفتحون عيونهم على ما تحفل به الصحف المصرية من نثر وشعر وما تنتجه المطابع العربية من ثمرات القرائح والأفكار لأدباء العرب في مصر وسوريا ولبنان بل وفي المهجر فقد كانت هناك الرابطة القلمية ولها مجلة تصدر في نيويورك وكانت تنشر آثار الأدباء السوريين واللبنانيين المهاجرين في أمريكا كما تطبع مؤلفاتهم ومن أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم.

وكانت هذه الصحف وتلك الكتب بما تحتوي عليه من أفكار وما تضمه من آثار تجد صدى عظيما في نفوس الشباب المتعطش للعلم والراغب في تجديد الحياة في جميع مجالاتها، فلما أتيح لهؤلاء الفتية من المتعلمين أن يعبروا عن رغباتهم وأفكارهم كان هذا التعبير ممثلا أولا في الكتابين اللذين أصدرهما المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وهما كتاب "أدب الحجاز والمعرض" وفي كتاب الأستاذ محمد حسن عواد "خواطر مصرحة" الذي هو موضوع هذه الحلقة، لهذا كان كتاب العواد في

ص: 154

حينه بما حواه من أفكار جريئة مفاجأة لكل من قرأه لا في داخل البلاد وإنما في خارجها ولقد اعتبره الدارسون بداية للتجديد في الأدب الحجازي واستشهد به عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رحمه الله، كما أشار إليه الكاتب العربي الكبير محب الدين الخطيب حينما ذكر أن موجة التجديد وصلت إلى الحجاز ولكنها بدأت من الشارع الخامس في نيويورك إشارة إلى ما يحفل به كتاب العواد من النشر الفني على طريقة أدباء المهجر في ذلك الزمان.

وما أذكره عن "خواطر مصرحة" أنني اشتريت نسخة منه وأنا طالب مدرسة الفلاح أول ظهوره وأبصر الشيخ عمر حفني رحمه الله وكيل المدرسة النسخة في يدي فسألني عنها فقلت أنها "خواطر مصرحة" قال وهل تريد أن تقرأه؟ قلت: نعم قال: لا تقرأه قلت ولكنه لأستاذنا العواد قال: ولو، أنه كتاب سيئ، ولكن هذا النهي لم يزدني الا إصرارا على قراءة الكتاب والاحتفاظ به ولا يزال عندي حتى اليوم، كما أذكر أن أستاذنا الشيخ حسين مطر مدير مدرسة الفلاح رحمه الله ألقى كلمة في الطلاب بعد صلاة الظهر حين ذاك قال فيها ما معناه أن محمد حسن عواد كان تاجا على رأس المدرسة ولكنه بعد أن أصدر كتاب "خواطر مصرحة" فقد مكانته فيها، ولست في حاجة لأن أقول أن كل هذا العداء لم يزد العواد إلا إصرارا على موقفه وتصلبا في آرائه. فقد كان عنيدا لا يتراجع ولو وقف الجميع ضده، والواقع أننا لو أردنا تقييم الكتاب بمحتواه بعيدًا عن الظروف التي شرحناها لوجدنا أنه عبارة عن مجموعة مقالات تدعو إلى الإصلاح وإلى التجديد في كل شيء ولكن بعضها ينتهج أسلوبا جارحا في التعبير وخاصة في تلك المقالة التي يوجهها إلى العُلماء وكان من الممكن التعبير عن هذه الأفكار بأسلوب أكثر هدوءا وأقل اندفاعًا، ولكن الكتاب كما قلنا كان مفاجأة مذهلة للناس فاستحق أن يدخل التاريخ إيذانا بابتداء حركة التجديد في الأدب

ص: 155

في الحجاز مع ما سبقه من كتابي "أدب الحجاز والمعرض" وما تلاهما من ظهور جريدة صوت الحجاز التي كانت تعبيرا مستمرا عن هذا الأدب لسنوات طويلة فيما بعد.

ولقد أصدر العواد بعد ذلك الجزء الثاني من" خواطر مصرحة" عام 1380

(1)

فمرت الخواطر دون أن يشعر بها أحد ذلك أن ما كتبه العواد في عام 1346 هـ كان جديدا على الناس وجريئا في ذلك الزمن، أما ما جاء بعد ذلك فقد أصبح أمرا عاديا ومألوفا ولكل زمان حكمه، وقد كان حظ العواد في الخواطر الأولى هو فضل السبق والجرأة فاستحق بذلك أن يدخل التاريخ كأديب مجدد رائد شجاع.

‌المَعَارك الأَدبيَّة

خاض العواد معارك أدبية كثيرة سنتحدث عن أبرزها إكمالا لتصوير شخصيته الأدبية ومن أبرز هذه المعارك معركته مع الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل فقد أصدر الأستاذ عبد القدوس قصة بعنوان (التوأمان) لعلها أول ما طبع له من آثار - وانتقد العواد القصة نقدا لاذعا ورد عليه عبد القدوس واستمرت المعركة بينها بعض الوقت كما أن له معركة أخرى مع المرحوم الشيخ حسين باسلامة مؤلف كتاب "سيد العرب" وبعض الكتب عن تاريخ مكة والمسجد الحرام كما أن له معارك أخرى مع الأستاذ حمد الجاسر والأستاذ عبد العزيز الربيع وغيرهم ولكن أهم معاركه الأدبية هي معركته مع الأستاذ حمزة شحاتة رحمهما الله وأنني أستمد الآن من الذاكرة ما أعرفه عن

(1)

خواطر مصرحة جزءان في مجلد واحد مطبعة المدني الطبعة الثانية.

ص: 156

خفايا هذه المعركة التي استمرت شهورا طويلة والتي كانت معركة شعرية رمزية ثم انتهت نهاية سيئة مؤسفة.

كان العواد محققا بالقسم العدلى بإدارة الأمن العام في مكة المكرمة وكان المرحوم الأستاذ طلعت وفا رئيس القسم العدلي صديقا حميا للأستاذ حمزة شحاتة وكان حمزة دائم الشكوى من العواد ينتقد تصرفاته وأعماله وأحب طلعت وفا أن يجمع بين الأدبين الكبيرين لإصلاح ذات البين وتصفية النفوس فاجتمعا وكنت أنا وطلعت نحضر هذا الاجتماع بمنزله في أجياد وطال النقاش وكنت آمل كما كان الأستاذ طلعت وفا يأمل أن ينتهي الاجتماع بالوفاق خاصة وأن العواد هو أستاذ حمزة شحاتة ولكن حمزة غفر الله له هاجمه مهاجمة شديدة جارحة وانتهى الاجتماع بالقطيعة بل أسفر عن خصام شديد وإني لأذكر إنى عاتبت حمزة رحمه الله بعد ذلك وأوضحت له أنه كان قاسيا في هجومه على العواد وأنه استباح في مهاجمته ما لا يستباح فاعترف حمزة بذلك ولكنه كان عنيدا وبدأت المعركة بقصيدة أو على الأصح بقصائد شعرية ينظمها حمزة ويرد عليها العواد وكانت قصائد طويلة تنشر جميعها في جريدة صوت الحجاز وكان الناس يترقبونها كل أسبوع، وكانت الجريدة أسبوعية في ذلك الوقت وكان حمزة قد اتخذ اسم الليل رمزا له في هذه المعركة ثم تحول فيما بعد إلى العاصف إن لم تخني الذاكرة أما العواد فكان الساحر العظيم هو الرمز الذي اختاره لنفسه، من الناحية الفنية كانت هذه القصائد كسبا للأدب لأنها جاءت في أسلوب فني لشاعرين من أكبر الشعراء في ذلك الزمان في البلاد كما كانت مجالا للنقاش المستمر بين الأدباء والقارئين، ولو أن المعركة اقتصرت على هذا الحد لكان ذلك حسنا ولكنها تطورت للأسف الشديد إلى مهاجاة مقذعة تناول فيها كل صاحبه تناولا سيئًا حتى وصل إلى الأعراض واستباح ما لا يستباح وكانت هذه المهاجاة لا تنشر في صوت الحجاز لأنها لم تكن

ص: 157

صالحة للنشر بما حوته من فحش القول وجارح التعبير ولكن هذه القصائد كانت تكتب باليد على نسخ متعددة وتوزع في أماكن تجمعات الناس في مكة وقد جرَّت المهاجاة بين حمزة والعواد إلى دخول شاعرين آخرين فيها وهما الأستاذ الشاعر أحمد قنديل رحمه الله مساعدا لصديقه حمزة شحاتة مدافعا عنه، والأستاذ الشاعر محمود عارف مساعدا ومدافعا عن أستاذه محمد حسن عواد ولم يكف كلاهما عن هذه المهاجاة إلا بعد أن اتسع نطاق توزيع هذه القصائد الهجائية وخشي الطرفان أن تجرَّ عليها الجرائر فطويا تلك الصفحة السوداء وحسنا فعلا وقد اعتذر العواد فيما بعد لحمزة بمقطوعة بعنوان "عتاب" منشورة في ديوانه نحو كيان جديد في صفحة (175) فليرجع إليها من أراد.

‌العَوَّاد وَشَوقي

ومما يدخل في باب المعارك الأدبية للعواد وإن لم تكن معركة أدبية حقيقية لأنها من طرف واحد إذا صح هذا التعبير هو تعريض العواد بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله ومحاولة إظهاره بمظهر المقلد المسفِّ حتى أنه بلغ من تعصبه في هذا المجال أنه رحب بظهور ديوان شاعرة سعودية هي الآنسه "ثريا قابل" وقيَّم شعرها حتى فضلها على أحمد شوقي أمير الشعراء ولست في حاجة إلى القول أن ثريا قابل نفسها قد فوجئت كما فوجيء الناس جميعا بأراء العواد رحمه الله فيها وفي شوقي معا ولكن العواد كان عنيدا كما أسلفنا وكان معجبا شديد الإعجاب بالعقاد رحمه الله ولكل ما أنتج من شعر ونثر وكان العقاد خصما عنيدا لشوقي فاندفع العواد في مهاجمة شوقي متأثرا بآراء العقاد فيما أقدر لأني لم أجد مبررا واحدًا لموقف العواد من شوقي بعد وفاته وهو أكبر شعراء العصر ومن القمم

ص: 158

البارزة في تاريخ الشعر العربي على امتداد العصور خاصة وأن العواد قد رثي شوقي حين مات

(1)

وان كان هذا الرثاء لم يسلم من التعريض به إلا أنه كان ظاهر التقدير له ولشعره ومن المهم أن نقول أن المعركة التي افتعلها العواد إنما جاءت بعد وفاة شوقي بزمن طويل.

‌النَادي الأدبي

عرف الناس المرحوم الأستاذ محمد حسن عواد رئيسا للنادي الأدبي بجدة والذي تم تأسيسه مع بقية النوادي الأدبية في المملكة ولكن أول ناد أدبي أُسس بجده كان في أوائل الخمسينات وكان العواد أبرز أعضائه وقد كتبت عن هذا النادي في حلقة سابقة ونوجز الحديث هنا عنه مرة أخرى لعلاقة المرحوم الأستاذ العواد به فنقول أنه فكر جماعة من الشباب المتعلم في مدينة جدة في تأسيس ناد أدبي وتقدموا للحكومة بطلب الترخيص لهذا النادي في أوائل الخمسينات ولكنهم باشروا نشاطهم فيه قبل أن يتلقوا الإذن بافتتاحه وكان من أعضائه المرحومين عبد العزيز جميل وإبراهيم وصالح إسلام وحمزة شحاتة، والشيخ حسن أبو الحمايل ويونس سلامه وأنيس جمجوم وغيرهم وكان كاتب هذه السطور أصغر أعضاء النادي في ذلك الحين كما كان العواد أبرز شخصية في النادي لأنه كان أستاذًا لمعظم الأعضاء باستثناء الشيخ حسن أبو الحمايل الذي كان يدرس مادة الفقه في الفلاح وهو أسنُّ من المرحوم الأستاذ عواد وكان هذا النادي يتخذ له مقرا في دار المرحوم الشيخ عبد العزيز جميل بحارة اليمن ثم انتقل إلى دار المرحوم الشيخ صالح إسلام بجوار مسجد المعمار وكانت تلقى فيه قصائد أدبية ومقالات وقصص

(1)

نحو كيان جديد.

ص: 159

وكان نشاط النادي اجتماعيا وأدبيا ولكن النادي لم يستمر ولم توافق الحكومة على الإذن بتأسيسه في ذلك الوقت لظروف شرحناها

(1)

في حلقة سابقة وإني لأذكر للعواد قصيدة حيا بها النادي في ذلك الوقت وكان مطلعها:

إلى عصبة النادي ولليل هدأة.

وللفكر في هذا الهدوء تبتل

تحية مملوء الجوانح غبطة

بان ضم فيكم عنصر متحلل

ومنها إن لم تخني الذاكرة:

ويا رب شيخ جلل الشيب رأسه

ينازعه العليا فتى متدلل

والقصيدة طويلة ولم أجدها منشورة ضمن ما نشر من شعره ولعلها مطوية بين ما ترك من أوراق رحمه الله.

‌الأَديب الرَّائد

العواد أديب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى فهو شاعر مبدع وكاتب فنان وقد ذكرنا أنه وزملاءه من الرعيل الأول الذين ظهرت آثارهم في كتابي "أدب الحجاز والمعرض" كانوا هم النواة الأولى لظهور الأدب الحديث في الحجاز قبل أكثر من نصف قرن ويحتل العواد بين هذه الكوكبة الأولى من الأدباء والشعراء مكانة بارزة عظيمة بإصداره أولا كتاب "خواطر مصرحة" وباستمراره في العمل الأدبي منذ نشأته إلى أن فارق هذه الحياة والمتأمل لبواكير العواد الأولى من شعر ونثر يرى معالم التجديد في الأسلوب وفي الأفكار معًا واضحة وكأنها تشير إلى الطريق فهو من المعالم البارزة في التاريخ الأدبي في الحجاز وهو بهذا يعتبر رائدًا من أوائل الرواد ومن أعظمهم أثرا فقد اقتدى به الجيل الجديد من

(1)

راجع الحلقة الخاصة بالحاج عبد الله علي رضا.

ص: 160

الأدباء والشعراء وكان العواد كما ذكرنا أستاذا لكثير منهم ولئن تميز كل منهم فيما بعد بشخصيته وبأسلوبه الخاص فإن ذلك لن ينقص من مكانة الأستاذ الرائد العظيم ولقد عرفت العواد رحمه الله كما عرفه الكثيرون يشجع الأدباء الناشئين ويأخذ بيدهم ويبصرهم بمواضع النقص ليتفادوه، وبجوانب الإجادة حتى يصلوا إلى الإبداع وقد احتفظ العواد بمميزات شخصيته الأدبية طوال حياته ولم يقتصر في تشجيعه للكتاب من الشباب وإنما كان من أوائل الرجال الذين شجعوا الفتاة وكرموا إنتاجها وهللوا لتعليمها ولقد عني بتعليم ابنته الوحيدة السيدة نجاة حسن عواد فكانت من أوائل المتعلمات وكان برنامجها الناجح في الإذاعة السعودية "البيت السعيد" يشير إلى ما بذله العواد لكريمته الوحيدة من علم وتهذيب ولعله هو الذي أطلق على المرأة اسم الجنس العطوف بدلا من الجنس اللطيف والعواد بهذا يشير إلى ما فطرت عليه المرأة من رقة وعطف أمًّا وزوجة وأختًا وبنتا.

‌مُؤَلَّفات العَوَّاد الأُخْرى

وللعواد مؤلفات أخرى نثرية أهمها كتابه عن سلمان بن عبد الملك وكتاب تأملات في الأدب والحياة وأخيرًا كتابه الطريق إلى موسيقى الشعر الخارجية ولم تتيسر هذه الكتب لي وأنا أكتب عنه ولم أرغب تأخير الكتابة إلى أن تصلني بقية مؤلفاته فإني ما زلت ألوم نفسي على التأخير والرجل له على فضل الأستاذ وحق الصديق واني لأرجو أن يكون فيما كتبته عن الخواطر ما يؤدي بعض حقه علي، وللذين يدرسون أدب العواد أن يقرأوا جميع ما كتب وما أنتج لتكون دراستهم أوفى وأكمل ولعله من المستحسن أن نذكر هنا أن العواد كان يكتب باسم مستعار وهو "اريج نسرين" ولعل كثيرًا من إنتاجه في الصحف يحمل هذا التوقيع.

ص: 161

‌العَوَّاد الشَّاعِر

العواد شاعر مبدع وقد مارس نظم الشعر هواية أن صح هذا التعبيرُ في سن مبكرة يقول هو أنها بدأت وهو في الحادية عشرة من العمر

(1)

واستمرت إلى آخر العمر وقد بدأ شاعرا مكثرا وانتهى إلى الاقتصاد بعد أن علت به السن وقد جمع العواد شعره في ديوانين كبيرين حرص فيها على إعطاء اسم معين لكل فترة من فترات العمر فالفترة الأولى من الحادية عشرة إلى العشرين "آماس وأطلاس" وألحقها فيما بعد بالبراعم وهي امتداد للآماس والأطلاس "ونحو كيان جديد" وهذه تمثل الفترة الثانية فترة الرجولة والنضج ويمكن أن تكون ما بعد العشرين إلى الأربعين أو ما قبلها، "والساحر العظيم" وهو مجموعة القصائد التي نظمها إبان المعركة التي نشبت بينه وبين الشاعر الراحل الأستاذ حمزة شحاتة واستعرض فيها العواد كل المعارك الأدبية التي خاضها وقد طبعها العواد عام 1372 هـ وإن كنت أعرف أن هذه المعركة كانت في النصف الأول من الستينات، "وفي الأفق الملتهب" ولعلها تمثل شعره ما بين الأربعين إلى الخمسين.

والصورة التي يخرج بها القارئ لهذه المجموعة الضخمة التي تضم هذه الدواوين كلها أو الصورة التي خرجت بها من هذه القراءة بعد أن غادرنا العواد إلى رحاب الله هي صورة الإنسان الثائر على الجمود الراغب في التجديد والإصلاح، الواقف بالمرصاد لخصومه ونقاده، العنيف في خصومته المسفِّه لآراء نقاده الذاهب بنفسه كل مذهب، فالعواد الشاعر هو العواد الكاتب الذي عرفناه في "خواطره المصرحة" ثائرًا مجددا عنيفا مسرفا على نفسه وعلى خصومه سواء أكان

(1)

انظر مقدمات ديوانية آماس وأطلاس والبراعم في الجزء الأول من الديوان وكذلك مقدمات دواوينه الساحر العظيم وفي الأفق الملتهب رؤى ابولون في الجزء الثاني من ديوان العواد ..

ص: 162

هؤلاء الخصوم من الأدباء أو من غيرهم من الناس وعندي أن العواد كان مخلصا في التعبير عن نفسه أخلص التعبير وأصدقه والصدق في التعبير عن النفس بعواطفها وأفكارها وشعورها هو أعظم مقومات الأديب، وكمالُه إنما يكون بالإبداع الفني في صياغة هذا التعبير سواء أكان ذلك شعرا أو نثرا والعواد كان أديبا مفتنا أستوت له هذه الصياغة في مختلف شكوها فكان كاتبا مبدعا وشاعرا عظيما ولنحاول الآن إعطاء بعض النماذج عن هذا الذي وصفناه فيما مضى من سطور.

‌القلم المكسور

(1)

يقول العواد في ديوانه الأول آماس وأطلاس:

قد كسرت القلما

وهجرت الكلما

وتطرفت إلى

أن جفوت الحكما

إذ أرى في أُمتي

فشلا فيما نما

يا بني قومي أما

آن أن نرقى أما

فابعثوها يقظة

تقلب الأرض سما

‌نحو النور

(2)

ويقول في نفس الديوان:

أفلا زحام على الحياة ولا اقتحام

حتى متى قواد فكرتنا نيام

هبوا معا نعنى بفوضى الاجتماع

حكماءنا خطباءنا كتابنا شعراءنا

لا تهملوا مرضا ألمَّ بنا سنين

داووا الحياة وبرروا علل الصراع

سلُّوا اليراع، ودعوا النزاع

(1)

آماس وأطلاس صفحة (46).

(2)

آماس وأطلاس صفحة (50).

ص: 163

‌نشأة

(1)

وفي ديوان البراعم يقول:

يا صديقي إليك نشأة رهط

هيجوا شعبهم وما أصلحوه

أدباء ساهم الناس والنا

س إذ عنَّ حادث كبَّروُه

ومنها يقول عن نفسه بعد أن استعرض الشعراء القدامى أبو فراس وزهير والأدباء المحدثين الزملاء، البيارى والفدا والعمودي ومحمد

(2)

وسأسمو غدا بأروع مما

راح يسمو به ولم يهضموه

رافعا راية الجديد من الفكر

فقد ضقت بالذي رسموه

سوف أملى على الجميع احترامي

واعترافا يا طالما همسوه

فأزجِّي خواطري والخليون نيام

ومطمعي عرفوه

وليدوروا السنين حول التخاميس

وتقليد كل ما سمُّوه

(3)

ومنها: ليس بالمعرض الرتيب

ولا صورة ما سطروه أو حفظوه

(4)

لا ولكنه شعور وأفكار

حرار تسود ما كتبوه

ومنها:

وتدوّى في الجيل ثم تدوي

في الذي بعده ومن يتلوه

والعواد يذكر أن هذه القطعة نظمت قبيل إصدار الخواطر وبعد ظهور كتاب المعرض الذي أشار إليه العواد وانتقد المشتركين فيه وهو أحدهم وقد ظهر المعرض

(1)

البراعم صفحة (4).

(2)

محمد البياري وعبد الله فدا ومحمد سعيد العمودي ومحمد سرور الصبان.

(3)

البراعم (7).

(4)

نحو كيان جديد صفحة (18).

ص: 164

عام 1345 هـ كما أن الخواطر ظهرت في نفس العام وليس من شأننا التحقيق في التواريخ وإنما الغرض هو الإشارة إلى ما ستحدثه الخواطر من ضجيج بعد ظهورها وقد أثبتت الأيام صحة هذا الشعور.

‌داعي الوئام

وفي البراعم قصيدة حيا بها الشاعر جريدة بريد الحجاز التي أسلفنا الحديث عنها والتي كان هو أبرز كتابها بل وشعرائها ومطلعها:

صاح حي الرقي حي السلاما

حي داعي الوئام حي الوئاما

حي عصر النهوض حي التعالي

حي بالمجد أمة تتسامى

ومنها:

قد حرمنا حرية العقل عصرا

وحرمنا حتى حرمنا الكلاما

(1)

طال عهد السكوت حتى مللنا

وأردنا أن نكسر الأقلاما

ومنها:

طال سجن اليراع والآن يبغي

أن يرى في فم الزمان ابتساما

ومنها:

طال عهد السكوت حتى حسبنا

أن هذي الحياة عادت مناما

‌المثل الأعلى

وفي قصيدة المثل الأعلى وهي من عيون شعر العواد يقول:

يا حبيبي أبدا في كل ظرف يتحور في ضجيج الصبح في همس المساء الهادي

(1)

يشير بذلك إلى عهد الشريف الحسين بن علي حيث أن بريد الحجاز ظهرت في عهد ابنه الشريف علي.

ص: 165

في غمار الجد في سعي الحياة الهازئي

أنت في العين وفى القلب مصور غير منسى

ومنها:

ولنجاوز مُسَخًا تمعن في الإسفاف في هذا الكفاح

ولنمايز بين من يفعل مخفيًّا وذي الفعال الصراح

ولنساير روعة الدنيا بأقدام الجريء

ولنعضد محسن الأمر ونرثى للمسيء

‌رَثاء عَبد الله حمدوه

رثى العواد الشيخ عبد الله حمدوه مدير مدرسة الفلاح بمكة المكرمة حين توفي بقصيدة مطلعها:

وقارك لا يزجي الوقار منونا

حقيق بأن يندى عليك عيونا

أأرثيك شيخ النشء والنشء كله

يذرف دمعا في رداك هتونا

ومنها:

وربة يوم ثرت فيه فخلتنى

أداجيك رأيا أو أنيلك لينا

فألفيت مني عارفا حق رأيه

عزوما فصافحت العزوم ضنينا

وأذهلك الحق المبين على فم

تؤمل منه لثم كفك هونا

وذي شرعة السبعين فيمن تزمتوا

تُصَبُّ على رأس الشيبة دينا

ص: 166

‌يَدُ الفنّ تحطِّم أصْنام الإتباع (أو السَّاحِر العَظِيم)

نظم العواد قصيدته الكبرى الساحر العظيم في أكثر من خمسمائة بيت وأفرد لها جزءا خاصا من ديوانه وهي تمثل الخصومة الشعرية الكبرى التي نشبت بينه وبين الأديب الراحل الأستاذ حمزة شحاتة كما أسلفنا ولم يكتف العواد في الساحر العظيم بحمزة وإنما تعرض لكل من جرت بينه وبينهم معارك أدبيي مثل المرحومين أحمد قنديل والشيخ حسين باسلامة مؤلف كتاب سيد العرب والأستاذ عبد القدوس الأنصاري مدَّ الله في حياته وغيرهم وقد رمز العواد لكل منهم برمز معين وحسنا فعل وليس هنا مجال الفصل بين حمزة والعواد رحمهما الله وإنما يترك ذلك للدارسين وبعد أن تظهر إلى النور آثار المرحوم حمزة شحاتة التي لم تطبع حتى الآن لتكون المقارنة ويكون الحكم ومطلع القصيدة أو الملحمة الكبرى هو:

عشق الخلد طامحا نزَّاعا

فامتطى فنه إليه طماعا

شاعر فنه يحلق بالفكر

إلى عالم أشد ارتفاعا

ومنها في وصف هذا الشاعر الذي هو العواد نفسه:

وإذا قَصَّ فالشخوص تناجيك

عيانا كان تحس رئيا

(1)

فترى أسطرا تفيض حياة

كل لفظ تخاله آدميا

(1)

الساحر العظيم صفحة 20.

ص: 167

ومنها

لم يكن ساحرا كما يفهم الدهماء

لكنه تدفق نورا

(1)

وهو فن علمته أنت إياه

فسبحانك العليم الخبيرا

وفيها يصف خصومه:

أن آثارهم ثغاء شياه

تبصر الذئب وانذر دجاج

(2)

هم على ما ترى وتعلم منهم

أدباء قد ركبوا من عجاج

ومنها وهي من أجمل مقطوعات القصيدة:

وانجلى الأمر عن خميلة زهر

وإذا شئت فهي روض انيق

(3)

أبدعته من الحياة يد الفن

فذا هائل وذاك رشيق

غرسته أنامل الشاعر الفذ

فغرس باهر ودوح سحيق

لا تقل أنها ورود ففيها الشوك

في كل خطوة مطروق

ومنها

الغروب الجميل يلبسه الزهر

ويكسوه بالبهاء الشروق

فإذا الشمس في الغداة أطلت

فالحبيب المسلم المعشوق

وإذا ودعت أصيلا فحفل

باهر فيه نشوة وغبوق

ونكتفي بهذا القدر من النماذج التي أوردناها والتي تصور العواد الثائر العنيف والفنان المبدع العظيم لنتحدث عن جوانب أخرى من هذا الشاعر العظيم المتعدد الجوانب.

(1)

الساحر العظيم 22.

(2)

الساحر العظيم صفحة 23.

(3)

الساحر العظيم صفحة 25.

الجزء الثاني من ديوان العواد قسم الأول الساحر العظيم صفحة (17).

ص: 168

‌الشُّؤون العَامَّة

عنى العواد بالشؤون العامة أن صح هذا التعبير لا لبلاده فحسب وإنما للبلاد العربية كلها وقد بدأ عنف العواد ضد التأخر والجمود والتزمت ثم تحول بعد ذلك إلى عنف مع الخصوم الذين وقفوا في سبيله مصلحا مجددا ثم إلى الخصوم من الشعراء والنقاد الذين عاصرهم واتصلت أسبابه بأسبابهم يقول العواد في قصيدة يودع فيها الملك الشريف الحسين بن على بعد أن ترك العرش عام 1342 هـ والعواد في أوائل العشرينات والقصيدة بعنوان.

‌وخز الضمير

(1)

يا مالك الملك إليك المآب

ما الملك في ملكك الأسراب

يا صاحبي يا خدمي يا أولى

الشأن بملكي واللظى والحراب

حسبي عذابا أنني سامع

صوتا من الداخل حسبي عذاب

ومنها:

دعونيَ الداهيَ في أمة

لا تعرف السواس الأصعاب

(2)

أهالت الألقاب لي ضخمة

فأورمت أنفي ذاك المصاب

فخلت نفسي في ربا مكة

هرون بغداد رفيع الجناب

ولم أقدر أنني خادم

للشعب والشعب دقيق الحساب

ومنها:

عاهدت جونبول ولكنه

لم يرع عهدي ما أمر الخلاب

(3)

وكان جيراني أوْلى بأن

أوليهم العهد وعون الصحاب

(1)

البراعم صفحة (16).

(2)

البراعم صفحة (17).

(3)

البراعم صفحة (18).

ص: 169

ومنها:

والحكم عندي تابع للهوى

أساسه رجراجة كالسحاب

شوري أمام الناس لكنها

أبعد عن نهج الصَّواب

مجلسها مستبعد زائف

أصنامه مركوزة لا تهاب

ليس لها رأي ولا حرمة

تلحظ أو حرية تستجاب

وللعواد قصيدة أخرى بعنوان:

‌متى

متى نرتقي المجد الصريح المخلدا

ونكتب في التاريخ فخرا مؤبدا

(1)

؟

متى تلك الشأو الرفيع جلالة

ونرمي إلى العلياء سهما مسددا؟

أنبغي المعالي بالتقاعس ضلة

ونطلب عزا في الخليقة رُقّدا؟

ومنها:

أرونا نهوضا واتركوا اللهو واكتبوا

على صفحات العصر ذكرا مؤبدا

(2)

ولا تتوانوا إن سمعتم مقالة

يرددها الشاني وقولا مُفَنَّدًا

يفيض على الأسماع والسمع مطرق

محاسن أوروبا ويطري مرددا

ويوحى إلينا أن للغرب عزة

تربع منها هامة النجم مقعدا

ومنها:

فيها ولد الغربي في الكون راقيا

وما ولد الغربي في الكون سيدا

وما هو إلا الجد من حاك خيطه

تناول عن بعد سماكا وفرقدا

(1)

البراعم صفحة (25).

(2)

البراعم صفحة (26).

ص: 170

والعواد شاعر وحدوي نادى بوحدة العرب من المحيط إلى الخليج وقد حيَّا بعثة الكشافة العراقية التي قدمت للحج بقصيدة تلمس فيها هذه المعاني واضحة جلية.

‌إلى الكشافة العراقية

للنديد النبيل عند النديد

كل ما للعقيد عند العقيد

(1)

ومنها: إن في فكرة التآخي لارهاصا

يرينا قرب النهوض الأكيد

وهذا شعارنا في بلاد العرب

هذا دين الإخاء الوطيد

لا حجاز لا سوريا لا عراق

لا ولا نجد في رضى التوحيد

إنما أمة كبيرة آمال

جسام عدوة التبديد

شعب حق مسترجع عربي

واحد سيره عريق الجدود

إن تنادى فإنما يتنادي

بِمَعَدٍّ في تاجه المعقود

ومن المهم أن نذكر أن هذه القصيدة إنما نظمت قبل أن تنال معظم البلاد العربية استقلالها فقد كان العراق ومصر وفلسطين والأردن تحت الحكم البريطاني كما كانت سوريا ولبنان والمغرب والجزائر تحت الحكم الفرنسي وليبيا تحت الحكم الإيطالي وللعواد قصيدة أقدم من هذه في وحدة العرب تعود إلى منتصف الأربعينات ومطلعها.

‌وحدة العرب

(2)

عرب الجزيرة كم تكون سعيدة

هذي الحياة بوحدة الأبعاد

تتوحد الأشتات في مجموعها

ويعزز المجموع بالأفراد

(1)

نحو كيان جديد صفحة (187).

(2)

آماس وأطلاس صفحة (18).

ص: 171

فيقوم من بردى إلى صنعائها

أمل يرن صداه في الأبعاد

ومن القصيم إلى ربي غرناطة

تبني الحياة عميقة الأوتاد

‌كفاح الجزائر المقدس

(1)

وللعواد قصيدة في كفاح الجزائر من أجمل الشعر ومطلعها:

روعة الوثبة في همس الحراب

في بنيك الصيد يا آساد غاب

أو على البيض الرقيقات الحرائر

فعلى اسم الله سيري يا جزائر

ومنها:

هذه الأمة من أين أتاها

ذلك الأمان في كل خطاها

شيخها يكرع منه وفتاها

أنه دين كفاح وحميه

وتباشير حياة عربية

فعلى اسم الله سيري با جزائر

وللعواد قصيدة أخرى بعنوان قوميتي

(2)

أحب الجزيرة والموطنا

ومستقبل العرب أن يعلنا

أحب الحجاز أحب السراة

مدار العروبة أصل المنا

ونجدا وإحساءها والعسير

وحائل واليمن الأيمنا

أحب العراق أحب الشآم

ومصر ولبنان والأردن

وقد استعرض فيها العواد أسماء البلاد العربية جميعها ولا يتسع المقام لأكثر مما أوردناه عن شعره الوطني في الشؤون العامة فلننتقل الآن إلى جانب آخر من جوانب هذه الشخصية الفذة.

(1)

الأفق الملتهب صفحة (106).

(2)

الأفق الملتهب صفحة (110).

ص: 172

‌الشِّعر الرُّوحي

للعواد قصائد في الرسول الأعظم صور فيه شعوره حينا زار المدينة المنورة، كما صور في قصيدة أخرى قصة التجائه صلى الله عليه وسلم والصديق الأكبر إلى غار ثور وقصيدة بعنوان النبي في شعور الدهر وغيرها من القصائد الروحية ونكتفي بأن نورد بعض المقاطع من هذه القصائد كنماذج على الشِّعر الرُّوحي.

‌الغار

(1)

في ذات أمسية لئيمة

إبليس أودعها سمومه

جمعت قريش أمرها

لا حبذا هي من سخيمة

فتجمهرت للكيد والشيطان

يلهمها علومه

فكأنما هو مأتم

دامٍ ومعركة أثيمة

وبعد أن يصف ائتمار قريش بالرسول الأعظم وتبييتهم أمر القتل وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار وخشية الصديق على الرسول مما قد يكون في الغار من الأخطار وتثبيت النبي الأعظم صديقه ورفيقه يقول بعد ذلك:

ولشد ما أتت السكينة

فاستحال الغار أفقا

(2)

وتبدلت أمنا مخافة

من تَجهَمَّه فرقَّا

ورأى السماء تكاد تحتضن

الثرى حدبا ورفقا

وإذا السماء تكفلت

بالأرض فالنزعات غرقى

فمن السكينة كان منبثقا

روح السلام على الألى غبروا

وبها يعود بروعة دعيت

في الأرض إسلاما سينتشر

(1)

الأفق الملتهب صفحة (71).

(2)

الأفق الملتهب (صفحة 77).

ص: 173

‌دافق النور

وفي قصيدة النور يقول العواد في المطلع

(1)

:

دافق النور رحمة وسلاما

ومنميه عزة ووئاما

فاعتنقناه يقظة وسموا

وعقلناه حكمة ونظاما

ومنها

لست ربا كما يبالغ بعض

الناس لا لست ربَّا

(2)

أنت الغيت كل رب سوى الله

وأضرمتها على الشرك حربا

أنت حطمت كل رب على الأرض

دعي مشى إلى الطفولة دربا

فنشرت التوحيد في الناس يمشي

ثورة في النهى وعدلا وحبا

وسلاما ورحمة ومساواة

وعطفا على الضعاف وقربي

ونكتفي بهذا القدر من الشعر الروحي لنتحدث قليلا عن الشعر الفلسفي بل الشعر الفكري فهذا هو التعبير الأدق عما سنعرضه من نماذج لأنه إنما يتحدث عما يجول في ذهن الشاعر من أفكار وما يراود خياله إزاء أحوال الحياة ومظاهر الكون، والفلسفة هي كما هو معروف لا تكتفي بالتعبير ولكنها تبحث كذلك عن التعليل وتخرج منه بمذهب متكامل والعواد لم يكن فيلسوفا ولكنه كان مفكرا وحسب وحينما يقف أمام التناقض الذي يظهر في الحياة أو الذي يراه هو تناقضا ينتهي إلى التسليم والإيمان، فهو إذا مفكر مسلم، والفلسفة لا تعترف بالتسليم وإنما تخترع المذاهب ولهذا كان الضلال.

(1)

الأفق الملتهب صفحة (86).

(2)

الأفق الملتهب (89).

ص: 174

‌سر الطبيعة والحياة

(1)

يقول العواد في قصيدة بهذا العنوان

لم هذى الرياح تدوي شمالا

وجنوبا تفرق الأمطارا

لم ذا البحر في هدوء إذا شاء .... وإن شاء أرسل التيارا

لم في البحر بَعْدُ جزرٌ وَمَدٌّ

ينبع البدر تارة والسرارا

لم تسرى سيارة الأرض

حول الشمس دَآبَةَ السرى ادهارا

لم هذي الأجرام تشرق ليلا

لم ذا الشمس تبهر الأبصارا

ومنها:

لم نحيا على البسيطة جبرا

ونعيش السنين فيها حيارى

ولم الموت والحياة بكرهٍ

يسلب النفس عزة واقتدارا

ومنها:

نحن كالأولين نحيا دواليك

ويحيا من بعدنا أعمارا

وتدور الحياة والشمس والأقمار

والليل والنهار بدارا

وسيبقى سر الحياة معمي

وستلقى العقول بعد خمارا

ولكن الشاعر سينتهي إلى الإيمان فيقول:

رب آمنت أنك القادر

الفرد ملكت الظلام والأنوارا

ونهانا نار الحباحب في

الليل وأوهى من الحباحب نارا

(1)

نحو كيان جديد صفحة (27).

ص: 175

‌يا ليل

وللعواد قصيدة أخرى في هذا المعنى يقول فيها:

يا ليل كم سامرت أنجمك

الصماء تحكي العقد منتثرا

درر تفوق الدر حيث بها

معنى الحياة يشع منبهرا

وألِتُّ أسألها وما برحت

تعطي الجواب أغف مختصرا

لا تستطيع إبانة وكذا

تحلو الحياة الطالب أثرا

وينتهي في هذه المرة إلى أن هذا الغموض هو الذي يعطى للحياة سحرها فلو كان كل شيء واضحا لغدت الحياة تافهة رتيبة:

لو كان ما في الكون متضحا

كل الوضوح لما غدا صورا

وغدت حياة الناس تافهة

وغدا الخيال العذب محتقرا

كم في الحياة مظاهر عجب

تقضى وتمنع كلها الوطرا

ومفاتن شتى منوعة

ووراءها المعنى قد استترا

ونكتفي بهذا القدر من أفكار العواد الشعرية رغم كثرة ما يمكن الاستشهاد به في كل باب لأن نفس الحديث قد طال أكثر مما كنت أتوقع ولنتحدث الآن عن لمحة من شعر العواد في الغزل.

‌شِعر الغَزل

لعلى أفاجيء القارئ كما فوجئت أنا برأيي في غزل العواد فالوصف الغزلي عند العواد هو وصف حسي لم يخرج فيه عما فعله القدامى الذين نقدهم فأوسعهم نقدا بعد أن بليت عظامهم في الثرى ولا تعليل عندي هذا إلا لأن العواد شاعر

ص: 176

فكر أكثر منه شاعر عاطفة، كما أنه يذهب بنفسه كل مذهب فإذا كانت المرأة تملك مفاتن الجسم فإنه هو يملك مفاتن العقل وجرأة الرأي وليس هذا الإدلال بالنفس من الغزل في شيء وليس المحب من يذكر محاسنه وإنما الأديب هو الذي يدع هذه المحاسن تتحدث عن نفسها حتى يلمسها المحب فيتحدث عنها يقول العواد في قصيدة بعنوان:

‌الروض الضائع

(1)

شاقني الروض فأنجذبت إليه

ساعة وانتجعت أطلب ظلا

نسبتنى زهوره والأفانين

التي حولها غدت تتدلى

وتذكرت من غدائرك السود

انسيابا يرى بهن وشكلا

وتذكرت من لواحظك الذبل

إرسالها إلى القلب نبلا

(2)

ومنها:

وتذكرت من قوامك ذاك

الهيف الرائع الميل المذلا

ومن الوجنتين ما يرسل الحمرة

من ذلك الشعاع المحلى

ومن المقلتين ما يخجل النرجس

فيه إذا بدا يتجلى

فهذا الوصف الحسي لم يخرج عمها وصف به المرأة قدامى الشعراء ولقد كان المنتظر من العواد الشاعر المجدد أن يكون في شعره الغزلى ذلك الوهج الذي يحس به القاري، لذع العاطفة وتوهجها ودفق الشعور في خفقات القلب والوجدان ولكن العواد على أي حال ينتهي في هذه القصيدة إلى نهاية شعرية جميلة فيقول:

(1)

نحو كيان جديد.

(2)

نحو كيان جديد صفحة (83).

ص: 177

فتلفت باحثا فإذا الروض

على ذكريات حسنك ولي

ضاع مني فلست أبصر ما فيه

من المغريات إلا الأقلا

وامحى كالخيال إذا أخذ الواقع

منه مكان ما هو أولى

أنت يا من أحب روضي وهل

ما فيك في الروض؟ لا وربك كلا

‌يد عبقرية تهب الحب

(1)

ويقول في مقطوعة أخرى:

غرام سحقناه فقدرت عهده

وآخر قد وافى فلله مجده

فمرحى لذا الحب الجديد ومرحبا

ولا دَر دَرُّ الذاهب الصعب رده

وما هكذا يناجي الحبيب الذاهب، ولا الغرام الماضي، لكأن العواد يتحدث عن خصم من خصوم أفكاره أو ناقد من نقاد شعره وأدبه، أين القلب وإحساسه إزاء ما مضى، وأين آثار ما بقى ويقول بعد ذلك:

فلم يدر دارٍ حينها حل مهجتي

أيعبد روحي أم هو الروح عبده

فيا مشعلا مني شبابا أجله

وممتلكا مني فؤادا أعده

ومتخذا عندي يدا عبقرية

بعثت بها حبا طفقت تمده

هنيئا لك القلب الذي منك نوره

وتعسا لحقد كان والتعس بعده

ونختتم الحديث عن شعر الغزل بقصيدة من أجمل ما نظم العواد في الغزل رغم ما فيها من الإدلال بنفسه إلا أنها تستحق الإشادة والتسجيل، فقد تجافى فيها عن الوصف الحسي وتسامح مع المحبوب في خطئه النحوي بل وجاراه فيه وهي عندي من أجمل ما نظم العواد في الغزل.

(1)

نحو كيان جديد صفحة (3).

ص: 178

‌استمالة

(1)

يا هاجري وأجلُّ حسنك

أن تبتلى بالهحر خدنك

لطعنتني بالكبرياء على الهوى

وأجدت طعنك

ومنها:

أفذاكر أنت العهود

الغابرات وما أفدنك

أفذاكر أني أبحتك

قلبي الفد المحنَّك

وأبحتني ما لا تبيح

من الغرام ولن أظنك

ومنها

وأقول والبسمات في فمك

الجميل تبين سنك

ممن تعلمت العناد

منسقا فتقول مِنّك

لحن قهرت به صحيح

اللفظ ما أن شان حسنك

فنٌّ تتبه به على الفن

القوى فديت فَنَّك

فجررتني نحو الدعابة

لاحقا لأوانسَّك

وختمتها بمقالتي أني

أخذت الحسب عنك

وهكذا تكون الدعابة في الغزل عذبة حلوة وهي ساعة من الساعات التي غفل فيها شيطان العواد العنيف ليستيقظ فيها الشعور الرقيق اللطيف.

‌الشِّعر الإنسَاني

ونختتم الحديث عن شعر العواد بمختارات من شعره الإنساني الذي تجلى

(1)

نحو كيان جديد صفحة (94).

ص: 179

فيها شاعرا إنسانيا دافق العاطفة والشعور وأبدأ هذه المختارات بقصيدة العواد في رثاء أمه.

‌في بيتها وعلى قبرها

(1)

ايه يا نفس هذه شارة القدس

وذا الشعر فانظمي قدسيها

هذه أمي الجليلة في بيت

على قدر زهدها يحتويها

ههنا تكمن الطهارة والزهد

فتعلو مسرة النفس فيها

ومنها:

ها هنا ها هنا جمال جليل

ها هنا ها هنا العزيزة أمي

ويقول في وصف بيت أمه:

هو بيت يلوح جد حقير

قد خلا من مناعم مستطابه

(2)

ليس فيه حفاوة تبهج العين

ولا فيه جدة وخلابه

ثم يقول:

قد تعرَّى عن كل ذاك وهذا

من شؤون لكنه بيت أمي

ومنها:

فهو لي في الحياة شارة قدس

وهو لي في مفازة العيش راحه

وهو الكنز إن شكت نفسي

العسر ومعنى الغنى يريني انفساحه

وهو عيدي إذا انقضت فرحة

العيد لدى الناس أنه بيت أمي

ثم يقول

إنه مسجدي وهل يقصد

المسجد إلا للطهر أو للصفاء

أو لترقى العقول فيه إلى الله

وقد جردت من الأهواء

(1)

نحو كيان جديد صفحة (105).

(2)

نحو كيان جديد صفحة (106).

ص: 180

فإذا ما أممت أمك للبر

فقد زرت مسجدا من نقاء

ثم ينتهي إلى وصف قبر أمه بعد أن وصف بيتها أو على الأصح إلى وصف شعوره بعد موتها فالقصيدة كلها قطعة من الشعور تحس فيها خفق القلب ورجفاته وتدفق الوجد حتى يستحيل شجنا يستدر الدمع ويسري في الوجدان وهذا هو الشعر بل هذا هو جوهر الشعر وروحه.

قلمي ما نكرت منك انطلاقا

في حياتي فما أصاب انطلاقك

عدت من دفنها كئيبا

أقاضيك انسياقا فما منحت انسياقك

اندفق فالشعور عندي موفور

كفيل ألا يعوق اندفاقك

ولكن القلم يأبى على العواد أن يندفق كما تعوَّد، فالفاجعة أكبر من أن توصف أو يقوى على وصفها وهو في تلك الحال فتظل مكبوتة تشتغل في النفس إلى أن تهدأ الثورة أو تسكن الفورة ولقد ذكر العواد أنه لم يستطع رثاء والدته إلا بعد مرور عام ونصف العام على وفاتها

(1)

والقصيدة طويلة ولكنا نذكر المقطع الأخير منها تجنبا للإطالة.

رحمة الله للدفينة في الأضلع

من قبل دفنها في الحفير

(2)

وجلالا لها وسقيا لقبر

ضمها بين نشر ذاك العبير

وسلاما من موطن الخلد والرضوان

يغشى جثمانها بالعطور

ووداعا يزف ما انحبس الدمع

لديه إلا لهذا الزفير

وللعواد قصيدة أخرى شهيرة بعنوان:

(1)

نحو كيان جديد صفحة (105).

(2)

نحو كيان جديد صفحة (106).

ص: 181

‌صلاة النفس

(1)

قالت النفس قم نصل إلى الله

فشر النفوس من لم تُصَلِّي

قلت يا نفس سبحي الله طوعًا

وأصيخي واستنكرى أن تملي

سبحي الله فالطبيعة يقظى

وتعالى قرب الخضم نصلي

في صفاء يشع من فلك

الإلهام مستمليا إذا الكون يملي

ومنها:

هذه صيحة الحياة في العالم المطوى بين النفوس طي السجل

(2)

فيجوب الضمير والفكر يجري في النواميس بين بعد وقبل

فيرى ما يكمن في الماء والزهرة والأرض والفضاء المطل

هذه صيحة الحياة تنادي عاشقيها لفهم معنى التجلى

ومنها:

سعداء أولو الصلاة ولكن

عندما يدركون مجد الصلاة

(3)

كم صلاة قوامها الجسد الطالب

سقط المتاع والنزهات

ومنها:

إن في القلب جنة وجحيما

واتساعا لفهم هذه الحياة

وخشوعا وعزة واعتلاء

وهويا لأسفل الدركات

وصعودا إلى السماء بلا

إذن ولو بواسع الفلوات

فدعي كونك الصغير سويعات

وهيا إلى الخضم نصلي

(1)

نحو كيان جديد صفحة (36).

(2)

نحو كيان جديد صفحة (36)

(3)

نحو كيان جديد صفحة (36).

ص: 182

والقصيدة طويلة ولكنا نختتمها بهذه القطعة:

كلها كلها الأناسي والأنعام

والطير والرؤي والطيوف

والجمادات والبهائم والأملاك

والجنُّ والصدر والخفيف

والأماثيل والعناصر والأزمان

والقفر والمكان الأليف

والسنا والظلال والفكرة

والحسن والهوى الملفوف

كلها تضمر الصلاة وتبديها

صنوفا تمتاز عنها صنوف

قُوّما بالخشوع للواحد الفرد

الوفا تبزهُنَّ الوف

فمجموع منها تواثب سرا

وجموع على الحياة تطوف

غير أنا لا نفقه الحمد والتسبيح

منها لأننا غير أهل

والقصيدة من أجمل الشعر الروحي وأعذبه ولو لم يكن للعواد سواها لكان بها واحدا من أعظم الشعراء.

وللعواد قصيدة من أرق الشعر الغزلى وأعذبه ولعل بتسجيل بعض مقطوعاتها أسجل أن العواد قدير على الإبداع في كل فن من فنون الشعر وأبوابه.

‌تذكير

(1)

يا متعة الأنفس يا ساحره

ويا رضا الشعر ويا شاعره

يا مصدر الوحي وموضوعه

ويا غذاء الفكرة الحائرة

لم أنس أيامك لم أنسها

يا حبذا أيامك الناضره

(1)

نحو كيان جديد صفحة (60).

ص: 183

ومنها بعد أن يستعرض عهده معها ولقاءه بها:

لم أنسها لم أنسها فاسمعي

من عمق قلبى ذلك الاعتراف

رسائل الحب على عهدها

باقية في نفس ذاك الغلاف

غلافها الأحمر لم تنتثر

منه ولن تبصرها باصره

ثم الرسوم اللات أهديتها

صديقك الحافظ عهد الوداد

وخلفها الألفاظ قد أعربت

عما انطوى تحت شغاف الفؤاد

الفاظ اهدائك معسولة

شفافة كالسحب الماطره

‌بلا قلب

(1)

وللعواد قصيدة أخرى تصور شجونه في هذه الحياة وحظه فيها يقول فيها:

حبيبة قلبي لو عرفت بلاءه

لأقصرت لومي والحياة بلاء

أنا التعب المكدود فيما أريقه

تجشمنى نفسي العلا فأناء

ومنها:

تلث على فكرى الحياة بهولها

وتزعجني في نظمها البرحاء

فأوغل في استقصاء ما يستحثني

من الفكر فيها والظنون فضاء

ومنها:

حبيبة قلبي إن تسرك بسمة

من النجم خفاقا عليه رداء

تزين الدجى في ليلة راق صحوها

لها لمعان بارع وضياء

فإن هنا قلبا إزاء جمالها

له موقف فيه أسى وهناء

ومنها:

فكم من فروق في الحياة منظما

مساعي نهى يحدو بهن عماء

(1)

نحو كيان جديد صفحة (69).

ص: 184

وكم وقفة بين الرجاء وضده

لحِرِّأبِيّ في الحياة يساء

تباعده أخلاقه عن مباءة

يعيش بها الأوشاب والبلداء

وتسمو به نفس تعلمت العلا

وقاد خطاها في الحياة حياء

إذا ابتدرت طرق المعالي تعرضت

لها عقبات طرقهن وباء

وبينا كثير من رفاق وإخوة

سفائنهم تجرى بهن رخاء

تراه وقد أغرى به الحظ صرصرا

لها أبدًا في مسمعيه عواء

وما هو بالمنقوص في ملكاته

وما فيه إلا قدرة وكفاء

تضيء معاليه وتسمو صفاته

وتشرف أخلاق لديه وضاء

ونختتم الآن هذه المختارات بعد أن طال بنا نفس القول في شعر العواد ولكني أشعر وأقولها مخلصا إنني لم أوفه حقه فهو من هذه القمم التي يجد الدارس فيها مجال القول رحبا واسعا وما قصدت إلى دراسة شعره فليس من أغراض هذه التَّراجم أن تقدم الدراسة وإنما غرضها تصوير شخصية صاحب الترجمة ما أمكن هذا التصوير فإذا كان المترجم أديبا أو شاعرا وجب أن تقدم الصورة من إنتاجه لتكون أصدق أداء وأوفى تعبيرا، وللعواد جوانب أخرى لم نتحدث عنها فهو قد شغف بالأدب اليوناني فيا وصل إليه من تراجم لعيون هذا الأدب وكذلك نظم بعض المقطوعات عن توماس هاردي بعد أن ترجمها العقاد نثرًا، وعن رديارد كبليغ كما نظم موعظة المسيح عليه السلام وتحدث كثيرًا عن الآلهة اليونانية الخرافية والقاريء يجدها مثبتة في دواوينه وقصائده ويبدو لي أنه لو أتيح للعواد أن يتعلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتعمقت قراءاته في عيون الأدب الأجنبي لكانت له جوانب مشرقة في هذا المجال.

ص: 185

‌الشِّعر المَنْثُور

وبعد فإنني قرأت ما استطعت قراءته من شعر العواد وخرجت من هذه القراءة بهذه الانطباعات التي شرحتها آنفا وهناك أشياء أخرى لم أكتب عنها لأن ما فيها لا يخرج عن العدد الذي ذكرنا وأشياء أخرى تعمدت الإغضاء عنها إذا صح هذا التعبير فللعواد ديوان آخر اسمه روي ابولون القسم الأعظم منه سياه عواد (شعر منثور) وأنا أسميه النشر الشعرى ولى في هذا الموضوع رأي تحدثت عنه في التليفزيون وفي صحيفة البلاد بعد أن ثارت أقلام كثيرة للرد على ومن ضمنها أستاذي العواد رحمه الله فليرجع إليه من شاء لأن الشعر عندي هو الشعر الذي تحكمه الأوزان الشعرية والقوافي وقد تقبلت تعدد الأوزان وتعدد القوافي ما دامت الموسيقية متوفرة أما هذا الشعر المنثور فهو نثر وإن اتسمت الأخيلة فيه بالأسلوب الشعري فأنا أتقبله كلون من ألوان النشر وما أكثر ألوان النثر في لغتنا العربية الغنية بتعابيرها وأخيلتها وما أغنى الشعر العربي بمختلف ألوانه وفنونه، وطريقتى أن أسمي الأشياء بأسمائها والعواد غني عن إضافة هذا اللون إلى شعره بما أنتج وأبدع من الشعر الحق وهو يُعَدُّ من أياديه على النثر الفني المبدع وما أكثر أياديه في هذا المجال وما أطولها.

‌آثَار عَوَّاد الباقية

أن ما لدينا من شعر العواد وهو ما اشتملت عليه مجموعة دواوينه في جزأين كبيرين يقف عند منتصف السبعينات أو الثمانينات وقد امتد به العمر إلى عام 1400 هـ فهناك فترة ربع قرن لم يطبع فيها ما أنتجه العواد من الشعر ولا يمكن أن يكون خلال ربع قرن أو حتى خلال عشرين أو خمسة عشر عاما قد توقف

ص: 186

عن النظم وقد يكون قليل الإنتاج في هذه الفترة ولكنه لم يتوقف تماما ومن المؤكد أن يكون بين ما ترك من أوراق ومخطوطات ما يسدُّ هذه الثغرة أو يجليها فلعل ابنته الكريمة السيدة نجاة عواد تتفرغ لتخرج للناس ما بقي من آثار والدها العظيم.

‌النَّادي الأَدبي

للعواد ولصديقنا الأستاذ عزيز ضياء فضل السبق في الدعوة لإنشاء النوادي الأدبية التي تنتظم مدن المملكة في الوقت الحاضر والتي تقدم إنتاج الأدباء والمؤلفين بتشجيع عظيم من رعاية الشباب ذلك أن العواد وضياء دعيا للمشاركة في الحفل الذي أقيم في الرياض للبحث في أحياء سوق عكاظ وقد اغتنما هذه الفرصة السانحة فتقدما إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز رئيس رعاية الشباب بفكرة إنشاء النادي الأدبي فاستجاب سموه أعظم استجابة وأجاز الفكرة وأخرجها إلى حيز الوجود فكان النادي الأدبي في جدة هو أول النوادي التي انتشرت فيما بعد في مدن المملكة الأخرى وبفضل المعونة السخية التي تقدمها رعاية الشباب هذه النوادي أمكن لها أن تقف على قدميها وأن تستمر وتنمو وتقوم بطبع الكتب في مختلف فنون الأدب والعلم وكان العواد أول رئيس للنادي الأدبي بجدة وقد انتخب ونال من الأصوات ما يرشحه لهذه الرئاسة التي كان هو جديرا بها وقد منح رحمه الله النادي الأدبي وقته كله فكان يجلس فيه صباح مساء وكنت أعجب له وهو في الثانين من العمر كيف يقوى على هذا الجهد ولكنه كان يمارس أعمال النادي بروح الشباب فلقد عاش عمره كله يحلم بأن يكون للأدباء مكان يجمعهم وللأدب كيان يرتكز إليه وقد تحقق له هذه الحلم قبل وفاته بل تحقق له بحمد الله أن يرى بعينيه كثيرًا مما دعا إليه في

ص: 187

مطلع شبابه نهضة عارمة تشمل التعليم والتطبيب والاقتصاد والبناء نهضة تشمل جميع نواحي الحياة التي كان العواد يحلم بها ويتخليها ويدعو إليها.

‌وفَاة العَوَّاد

هذا وقد توفي العواد رحمه الله في 1400 هـ بعد مرض قصير ألم به وكان يتهيأ للسفر إلى الخارج للعلاج ولكن المنية عاجلته فصعدت روحه إلى بارئها وقد بلغ الثمانين عاما من عمر حافل بالعطاء وإذا كان قد فات العواد حظه من متاع هذه الدنيا فلم يترك لأهله مالا أو عقارا فإن الثروة الأدبية والعقلية التي تركها لا لأهله وإنما للشعر والأدب عظيمة وكبيرة فلقد كان بحق رائد جيل وزعيم نهضة وأستاذا عظيا وصديقا كريما، رحم الله العواد وغفر له وأحسن جزاءه في دار الخلد - إنه سميع مجيب ..

* * *

ص: 188

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 189

محمد جعفر لبني

ص: 190

‌مُحَمَّد جَعْفَر لبْني

معتدل الجسم والقامة أقرب إلى الطول منه إلى القصر، أبيض اللون تخالط بياضه صفرة بيضاوي الوجه، أسود العينين، قصير اللحية، حليق العارضين، يرتدي الجبة الحجازية ويعتم بعمامة غالبا ما تكون من قماش أبيض رقيق في الصيف تحتها كوفية جاوية كما يفعل عامة أهل الحجاز.

ولد الشيخ محمد جعفر لبني بمكة المكرمة في 7 رجب 1323 هـ وحفظ القرآن الكريم في الحرم المكي الشريف

(1)

كما تعلم على أيدي علماء المسجد الحرام وقد عرفته وهو مكتمل الرجولة يتولى رئاسة لجنة قضايا المطوفين في مكة المكرمة وكانت مكة يومها عاصمة الدولة ومركز الحكومة في عهد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز في الخمسينات من هذا القرن، وكان قد اختاره المغفور له الملك فيصل لرئاسة لجنة قضايا المطوفين لما عرف به من تحرى الحق والعدل، ولما يتمتع به من ثقة من عامة أهل مكة علاوة على المامه التام بشؤون المطوفين وقضاياهم، وكان إلى جانب رئاسته للجنة قضايا المطوفين

(2)

كان يعمل محاميا أمام المحاكم الشرعية بمكة، كما كانت له مكتبة صغيرة لبيع الكتب في حانوت صغير في باب السلام

(1)

على يد الشيخ سليمان النوري كما تلقى تعليمه بمدرسة الفلاح بمكة وتخرج منها.

(2)

كما عين مساعدا لأمين العاصمة بمكه لفترة محدودة.

ص: 191

وكان يسكن البيت الذي يقع هذا الحانوت في مدخله وقد تم هدم البيت مع كافة البيوت التي حوله وأدخل في التوسعة الأولى للمسجد الحرام، وقد توثقت صلتي بالمرحوم الشيخ محمد جعفر لبني منذ أن عرفته في مكة في أوائل عام 1356 هـ واستمرت صلتي به إلى أن توفاه الله تعالى في 7 رجب سنة 1370 هـ حسبما سيرد في ترجمته بعد، عرفت الشيخ محمد لبني خلال هذه السنوات فوجدت فيه رجلا وقف نفسه في خدمة الناس وخاصة الأرامل والضعيفات والفقراء من الناس فكان يتولى قضاياهم والدفاع عنهم دون مقابل وقد أصبح بهذا مقصدا لأصحاب الحاجات من الناس وخاصة من النساء الضعيفات والمغلوبات على أمرهن فكان يتولى شؤونهن في المحاكم والدوائر الرسمية كما كان يتولى الإصلاح بين الناس وخاصة حينما يقع الخلاف بين زوجين أو أخوين أو أبناء عمومة وكان الرجل يتمتع بحب الناس لما يبذله في خدمتهم من وقته وجهده وأستطيع أن أقول إني على قدر ما عرفت الشيخ محمد لبني لم أره مشغولا بأموره الخاصة بقدر ما هو مشغول بشؤون الناس ولعله لم يكن يجد أي وقت للاهتمام بعمله الخاص فقد كان له حانوت لبيع الكتب كما ذكرت ولكني لم أشهده مرة واحده يبيع كتابا أو يتحدث عن بيع أو شراء الكتب ولكني كنت أرى هذه المكتبة مملوءة بأصحاب القضايا من الأصدقاء والفقراء من النساء والرجال في جميع الأوقات وخاصة في أصيل كل يوم وما بين المغرب والعشاء، وكان الرجل معروفا بتفرغه للخدمة العامة وبالتفاني فيها فكان الحكام ورؤساء الدوائر يوسعون من صدورهم له ويكرمون وساطته وكان بهذا يقضي حوائج الناس التي لم يكن ينقطع لها مدد وكان جلالة المغفور له الملك فيصل يعرف فيه هذه السجايا فكانت وساطته لدى جلالته منذ أن كان نائبا لجلالة الملك في مكة تحظى بالقبول.

حدثني رحمه الله قال حبس جار لي فذهبت إلى سمو الأمير وكان وقتها جلالة الملك فيصل نائبا عاما للملك في مكة - فشرحت القضية لسموه فوافق

ص: 192

رحمه الله على إطلاق سراحه وكان في مجلس سموه أحد الأمراء فسألني ما هي صلتك بالرجل أهو قريب لك قلت كلا ولكنه جار لي في المنزل، ومرت شهور وذهبت إلى سموه أرجوه في قضية مشابهة وكانت تخص إحدى جاراتي وتفضل سموه فأصدر أمره بشأنها وكان نفس الأمير حاضرا في المجلس فسألني وما هي قرابة هذه المرأة لك قلت أنها جارتى قال ألا ليتني جار لك! هكذا كان الشيخ محمد جعفر لبني رجلا شهما يبذل جاهه في خدمة الناس ومعونتهم وهكذا كان الحكام والعظماء يستجيبون له لثقتهم بإخلاصه وحبه للنفع العام.

وخلال عام 1364 هـ سافر الشيخ محمد لبني مع أسرته إلى مصر لتطبيب والدته هناك وكنت إذ ذاك أقيم بالقاهرة لغرض مماثل فرأيت الرجل وقد أنفق أغلب ما حمله من مال في مساعدة الكثيرين ممن يعرف ممن كانوا يزورون القاهرة في تلك الأيام ولم يكن الشيخ محمد جعفر لبني من أصحاب الأموال ولكنه كان كريما لا يبخل بما يصل إلى يديه وكان يتوسط للكثيرين من أصحاب الحاجات لدى أصدقائه من أصحاب المال والنفوذ فكانوا يستجيبون لطلبه لما يعرفونه من حبه لخير الناس ونفعهم، وحينا كنت أعمل مديرا لمكتب المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان كانت طلبات الشيخ محمد جعفر لبني لمساعدة الناس وخاصة - الشناقطة الموريتانيين الآن - تتوالى بطلبات الإركاب لهم من المدينة إلى مكة المكرمة ومن مكة إلى المدينة وكانت للكثير منهم صلة حسنة بالشيخ محمد جعفر لبني رحمه الله.

وقد عمل الشيخ محمد جعفر لبني في آخر حياته في تجارة الأرزاق وافتتح دكانا بمدينة الطائف في موسم الصيف لتوزيع الأرزاق ولكن الزمن لم يطل بهذا العمل، فإن الشيخ محمد لبني لم يكن متهيئا للتجارة وشؤون المال، وإنما كان

ص: 193

مهيئا للخدمة العامة بعيدا عن الحسابات والأرقام وفي السنة التي توفي فيها عين عضوا بمجلس الشورى عام 1370 هـ وقد توفي في نفس العام.

ومرض الشيخ محمد لبني مرة بالقلب وأمره الطبيب بالراحة التامة فتحول منزله إلى منتدى يقصده الناس صباح مساء، وصدرا من الليل وزرته فوجدت عشرات الناس ذاهبين آتين وهو يستقبلهم ويتحدث إليهم ويجاملهم فقلت له، أن الطبيب طلب إليك البقاء في المنزل للراحة لا لتستقبل العشرات من الناس صباح مساء قال: ولكني لا أستطيع أن أمنع الناس من زيارتي وأغلق بابي دونهم وهكذا كان فقد قضى ما قضى في سرير المرض وهو مع الناس الذين أحبوه وأحبهم دون حجاب.

وكانت نهاية المرحوم الشيخ محمد جعفر لبني نهاية فاجعة إذ اصطدمت السيارة التي كانت تقله مع المرحومة والدته وابنته الصغيرة نايلة بالسيارة التي كان يستقلها المرحومون الشيخ حسني قامه والشابان فوزي عابد قزاز، ومحمد عباس سالم في الطريق بين مكة والحديبية قريبًا من وادي فاطمة، وكان الاصطدام فظيعا أسفر عن موت الجميع ولم ينج من السيارة التي كان يستقلها الشيخ محمد لبني سوى السائق وباتت مكة ليلة فاجعة حزينة حيث شيعت في اليوم التالى الأربعة رجال والمرأة والطفلة وكانت مقبرة المعلاه غاصة بالمشيعين والمعزين وكانت وفاة الشيخ محمد لبني في يوم 7 رجب سنة 1370 هـ - ومن الغريب أن مولده كان في يوم 7 رجب كذلك - عن سبعة وأربعين عاما.

تغمده الله برحمته الواسعه وأحسن جزاءه في جنات النعيم ..

ص: 194

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 195

الدكتور محمد خالد خاشقجي

ص: 196

‌الدُّكتُور مُحَمَّد خَالِد خَاشقجي

معتدل القامة، معتدل الجسم، أبيض الوجه تشوب بياضه حمرة خفيفة، واسع العينين يطلق لحيته ويعفي عارضيه، أنيس المحضر، ذكي الماح، يجمع بين دقة العالم وانطلاقة الفنان.

‌نشأته وَتعْليمه

ولد الدكتور محمد خالد خاشقجي بالمدينة المنورة عام 1309 هجرية وتلقى تعليمه الابتدائي بالمدينة المنورة وتوفي أبوه وهو طفل فكفله أخوة الأكبر عبد الله الخاشقجي ابن محتسب المدينة المنورة وفي أوائل الثلاثينات قام حزب الاتحاد التركي العثماني بنفي أربعين رجلا من أعيان المدينة المنورة إلى الأناضول وكان من بين هؤلاء الرجال عبد الله الخاشقجي الذي كان أبوه من أبرز رجال العهد السلطاني في المدينة المنورة والذي قامت على أنقاضه حكومة حزب الاتحاد والترقي، وأبى محمد خاشقجي أن يترك أخاه الأكبر الذي يحبه الحب كله والذي أحلَّ محمدًا محل الابن فكان له الوالد والأخ الأكبر أبي محمد خاشقجي أن يترك هذا الأخ يذهب وحيدا إلى منفاه البعيد في الأناضول فأصرَّ على مرافقته للقيام

ص: 197

على خدمة أخيه وإيناسه في منفاه القصى، وكان هذا المنفى الاختياري مصدر خير وبركة للصبي الصغير إذ أتاح له فرصة التزود من العلم الذي كان يفتقر إليه والتي كانت مدارس الحجاز محرومة منه في ذلك العهد، إذ كان التعليم في مدارس الحجاز لا يتعدى المرحلة الابتدائية، فالتحق هناك بمدرسة السلطنة ليتم دراسته الثانوية وبعد إتمام دراسته الثانوية رغب في مزيد من العلم فاتجه بذهنه وقلبه إلى الطب فسافر من ازمير إلى دمشق والتحق بمعهد الطب هناك وفي هذا المعهد تعرف إلى كثير من زملائه الشباب العرب من العراق والشام ومصر وكانت حياته في المعهد حياة جادة وكانت إمكانياته قليلة محدودة وكان يعمل ليلا لدى أحد تجار دمشق ليستعين على دراسته نهارا بالكلية هناك، حدث عن نفسه فقال كانت لديّ بدلتان إحداهما ثقيلة للشتاء والأخرى خفيفة للصيف وكنت أسكن مع زملائي من طلاب الكلية في مسكن مشترك وكان طعامنا متواضعا كما كانت معيشتنا متواضعة، ولم يكن لنا من هدف سوى العلم والعلم وحده

(1)

وكان يعرف أن بلاده مفتقرة إلى الطب قبل كل شيء فكان أول طبيب من المدينة المنورة تخرج من معهد الطب في دمشق وأصبح جرَّاحا مناوبًا في المستشفى العام هناك وتخرَّج منه بامتياز، وبعد التخرج عاد إلى البلاد.

‌مَاضي الطبّ في الحِجَاز

وأود أن أذكر هنا شيئًا عن ماضي الطب في الحجاز في هذا العهد الذي سبق ظهور أول طبيب سعودي وعودته إلى بلاده، كانت مدينة جدة ليس فيها إلا المستشفى العام وفيه طبيب أو اثنان، وكان هناك مستشفى الكورنتينة - المحجر

(1)

مجلة الشرقية العدد 54 صفحة (99) يناير 1979.

ص: 198

الصحي - وهو خاص بالبواخر التي تصل إلى ميناء جدة للتأكد من عدم وجود أمراض وبائية في السفن القادمة إلى جدة ولست في حاجة لأن أقول أن إمكانيات المستشفى الحكومي الوحيد بتجهيزاته البسيطة كانت أقل كثيرًا من حاجة المدينة وكانت سفارات الدول الأجنبية تقوم بفتح مستوصفات أو عيادات لاستقبال مرضى رعاياهم الموجودين في البلاد، فكان هناك مستوصف السفارة الإنجليزية الذي يقوم على حساب حكومة الهند - التي كانت إذ ذاك مستعمرة بريطانية - وكان يديره طبيب هندي يرافقه صيدلي، وكانت هناك عيادة السفارة الهولندية التي تقوم على حساب حكومة جاوة التي كانت مستعمرة هولندية ويديرها طبيب جاري وصيدلي، ثم قامت حكومة إيطاليا بفتح عيادة لها في جدة بعد احتلال ليبيا وكان يدير هذه العيادة طبيب إيطالي، كما كانت هناك عيادة روسية حينما كانت روسيا ممثلة دبلوماسيًا في جدة ويدير هذه العيادة طبيب وصيدلي روسي، وآخر هؤلاء الأطباء الدكتور عبد الرحمن الطبيب الروسي الذي أسلم فيما بعد، وكان الناس يترددون بكثرة على هذه العيادات طلبا للعلاج، وفي مكة والمدينة كانت هناك المستشفيات الحكومية على النمط الذي وصفناه سابقا كما كانت هناك مستوصفات التكية المصرية وكانت تقوم بنفس الغرض، أما العمليات وما إليها فلم تكن محل تفكير المرضى في ذلك الوقت فإذا كان المريض يحتاج إلى عملية جراحية سافر إلى مصر أو السودان أو أسمرة ليجريها في المستشفيات الموجودة هناك، هكذا كان الحال في الأربعينات من هذا القرن الهجري. وكان الموسرون من الناس يستقدمون هؤلاء الأطباء إلى دورهم ويجزلون لهم الأجر، لأن الفحص والدواء في هذه العيادات مجاني، وكان الأحرار من المواطنين يشعرون بهذا النقص ويأسون له اشدَّ الأسى ولكن هذه هي إمكانيات البلاد في أوائل العهد السعودي في الأربعينات وقد تطوَّر الأمر فيما بعد

ص: 199

إلى الأحسن حينما قام الدكتور خالد إدريس بفتح عيادته في جدة وكان قد قدم طبيبة في عيادة أمريكية تابعة للسفارة الأمريكية، كما قدم بعض الأطباء اللبنانيين إلى جدة وقاموا بفتح المستشفى اللبناني في جدة وقامت المستشفيات الحكومية في نفس الوقت بإدخال كثير من التحسينات على الخدمات الطبية.

‌الطَّبيبُ الجَرَّاح

في هذا العهد الذي وصفناه كان قدوم الدكتور محمد خاشقجي بعد تخرجه طبيبًا جراحا فكانت فرحة الناس به فرحة عامة خاصة بعدما رأوا من نجاحه الباهر في إجراء العمليات الجراحية، لقد أذن الله للبلاد أخيرا بأن يكون فيها طبيب من أبنائها يعرفه الناس ويعرف هو الناس فيتفانى في خدمتهم ليل نهار، ولقد رأيت الدكتور الخاشقجي في أوائل الخمسينات وهو يعمل جراحا بالمستشفى العام بمكة المكرمة مستفيض الشهرة، يحسن استقبال الناس ويعاملهم معاملة كريمة طيبة فيجد منهم الحب كل الحب والثناء كل الثناء، ولقد عمل الدكتور خاشقجي مديرا للصحة في جدة وطبيبا أول جراحا في مستشفاها كما عمل في المستشفى العام بمكة المكرمة جراحا وكان يجري عملياته حيثما يكون في مدن المملكة في المدينة المنورة أو الرياض أو الطائف وما هو إلا أن عينه جلالة الملك عبد العزيز طبيبا جراحا له يرافقه حيثما حل أو ارتحل بين مدن المملكة.

‌الدكتور يوسُف عزّ الدِّين حَسنين

وأود للتاريخ أن أذكر أن هناك طبيبا مكيا آخر ظهر في هذا العهد ونال من الشهرة والنجاح بمقدار ما نال الدكتور الخاشقجي الا أنه لم يبق في البلاد فرحل عنها بعد فترة قصيرة.

ص: 200

هذا الطبيب هو الدكتور يوسف عز الدين حسنين وهو من أبناء مكة الكرمة وأبوه كان الصيدلى الوحيد في مكة واسم صيدليته، صيدلية حسنين على اسم الأسرة وقد أدركت هذه الصيدلية يديرها شفيق الدكتور يوسف عز الدين وكانت داخل المشعر الحرام قرب المروة وكان المشعر كله من الصفا إلى المروة سوقا من أهم أسواق مكة الكرمة وكانت به أشهر المبانى وأكبرها ثم هدمت جميعها وأدخلت في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام وأصبح المشعر الآن جزًا من الحرم، ليس بداخله إلا الساعون بين الصفا والمروة، ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الدكتور يوسف عز الدين فنقول إنه كان كذلك في أوائل الخمسينات يعمل طبيبا جراحا في مكة الكرمة والطائف ولكن لم تطل إقامته بالمملكة فهاجر إلى الأردن وإلى سوريا أو غيرها من بلاد الله وهنا يظهر فضل الدكتور الخاشقجى الذى لم يبال بما صادفه من عقبات أو مضايقات لم يألفها فاستمر يعمل في مستشفيات المملكة كالجندى في المعركه لأنه وجد أن بلاده مفتقرة إلى علمه وعمله فتفانى في أداء واجبه واهبا وقته كله لتطبيب المرضى وإسعافهم حيثما كانوا.

‌التَّخصُّصُ في الأَشِعة

وفى الخمسينات حضر إلى الحجاز زعيم مصر الاقتصادى محمد طلعت حرب للحج مفتتحا خطا جويا لشركة مصر للطيران بين القاهرة وجدة لخدمة الحجاج المصريين وكذلك خطا آخر بحريا للبواخر الكبيرة التي تنقل الحجاج فأهدى إلى الدولة أول جهاز للأشعة، وكان هذا الجهاز مجتاج إلى أخصائيين للاستفادة منه وهنا ظهر طموح الدكتور الخاشقجى فطلب من جلالة الملك عبد العزيز انتدابه إلى باريس للتخصص في العلاج بالأشعة ولقد وافق جلالة الملك عبد العزيز فتم ابتعاث الدكتور الخاشقجى إلى باريس لهذه الغاية وبقى هناك حتى أتم دراسته

ص: 201

الجديدة ولم يعد إلى بلاده إلا وقد تعاقد على شراء جهاز كبير للأشعة يستعمله في عيادته الخاصة.

‌كَهربَاء الخَاشقجي

ولم يكتف الخاشقجى بهذا فالجهاز يحتاج إلى القوة الكهربائية لتشغيله والبلاد لم تدخلها الإضاءة الكهربائية إلا في بعض البيوت الخاصة فاشترى مولدات ضخمة لتوفير القوة الكهربائية لا لجهاز الأشعة وحده وإنما لتوفير الإضاءة للمنطقة التي يوضع بها جهاز الأشعة وهكذا ظهرت موهبة الدكتور الخاشقجى التجارية بوضوع فهو يعرف كيف يستفيد من الفرص المتاحة له بذكاء وإقدام، لقد تخطى العقبات التي وقفت في سبيل تعليمه فتعلم وتخطى العقبات حتى أصبح طبيبا شهيرا وتخطى الصعاب حينما آثر البقاء في البلاد على العيش الخفيض في بلد آخر، وأخيرا تخطى الصعاب حينما طمح إلى تخصص جديد يُعدُّ الأول من نوعه في البلاد ولم يكتف به بل أدخل الإضاءة الكهربائية إلى منطقة ولو كانت محدودة من مكة الكرمة، نعم لقد استأجر الدكتور الخاشقجى عمارة جديدة أقامها الأشراف في القشاشية بالقرب من المسجد الحرام فجعلها عيادة لأشعته التي تخدم البلد في هذا المجال من الطب وكان لديه الفائض الكثير من القوة الكهربائية فتقدم إليه الناس بطلب الإضاءة، فأضاء شارع القشاشية كله ولعله ربح من هذه الإضاءة أكثر مما ربح من عمل الأشعة، وأكرر هنا أن الربح الحلال لا يغض من قيمة العمل النافع بل هو مدعاة لاستمراره وتحسينه، أن عملية إضاءة حوانيت شارع هام من شوارع مكة المكرمة بالقرب من المسجد الحرام يعتبر في ذاك الوقت عملا حضاريا مهما كان محدودا، فإذا كان الرجل الذى أقدم على هذا المشروع ليس تاجرا وإنما هو طبيب جراح أو دكتور أشعة

ص: 202

كانت نظرة التقدير إلى عمله أكبر وإذا كان هو قد استفاد فإن الحى الذى أدخلت إليه الكهرباء قد استفاد كذلك فالنفعة متبادلة والفضل للرجل المبدع الذى استطاع أن يوفر النفعة حين الحاجة إليها.

‌عِلاج الطّحَال بالأَشِعَة

هل قنع الدكتور الخاشقجى بما أحرز من نجاح كطبيب جراح وكطبيب أشعه وبما تدره عليه عيادة الأشعة وبيع الكهرباء؟ كلا أن الرجل لم ينس قط أنه طبيب والطبيب الحاذق يستزيد من العرفة كل يوم فهو يتابع أحدث ما توصل إليه الطب أولا بأول، وإن لم يفعل هذا فإنه يتجمد عندما وصل إليه علمه ويتخطاه الآخرون، يقول الدكتور الخاشقجى

(1)

من خلال الممارسة الكثيفة للتثسخيص بالأشعة جمعت خبرة ومعلومات دونتها في رسالة بعنوان معالجة الطحال المتضخم نتيجة الملاريا المزمنة بأشعة إكس، والملاريا كما هو معلوم منتشرة في كثير من البلاد الحارة من العالم وكان يعمد في حالتها القصوى إلى إجراء عمليات جراحية لاستئصال الطحال وكان الهدف من الرسالة هو الدعوة إلى علاجها بالأشعة.

‌عُضو الجَمعية الوَطنية الفرنسية للعِلاج

ووجدت الرسالة ما تستحقه من تقدير فعينت الجمعية الفرنسية الوطنية للعلاج صاحبها عضوا من أعضائها وهو نصر علمي يضاف إلى أمجاد الدكتور الخاشقجى ويستحقه كل الاستحقاق.

(1)

مجلة الشرقية العدد (54) يناير 1979.

ص: 203

‌تَكْريم الوَطن

وما أن ترامى هذا التقدير الفرنسى لطبيبنا الكبير إلى أسماع المواطنين حتى قامت حفلات التكريم له بعد وصوله إلى أرض الوطن فأقام له أعيان مكة الكرمة من آل الشيبى وشطا والقزاز وسواهم من الواطنين حفل تكريم بمدينة الطائف تقديرا لجهوده العلمية واعتزازا بالطبيب السعودى الناجح كما أقام له أهل المدينة المنورة حفل تكريم حافل حين وصوله إليها في شعبان عام 1357 هـ للعمل في مستشفاها.

‌سكرتير وزارة الصّحّة

وحين تم إحدات أول وزارة للصحة في الملكة كان وزيرها الأول هو صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله الفيصل وفى عهد سموه بدأت النهضة الصحية في البلاد إذا جاز هذا التعبير فتوسعت الحكومة في فتح المستشفيات في المدن وكان إن ابتعث سموه الدكتور الخاشقجى أول سكرتير لوزارة الصحة إلى مصر للتعاقد مع الأطباء ولم يعد من هناك إلا وقد تعاقد على استقدام خمسين طبيبا للعمل في مستشفيات الملكة مع ما يتبعهم من ممرضات وتجهيزات طبية وهكذا ساهم الدكتور الخاشقجى بخبرته في تأسيس الكيان الطبى وترسيخه في البلاد حينما أصبحت الظروف مواتية لتحقيق ذلك.

‌مَصنع الجِبس

وحينما رأى الدكتور خاشقجى أنه قد آن الأوان لإنشاء صناعات وطنية في البلاد بادر مع قيام النهضة العمرانية في الملكة إلى السعى للحصول على إنشاء

ص: 204

مصنع للجبس واستثماره في مدينة الرياض لمدة خمسين عاما وأسس لهذا الغرض شركة الجبس الأهلية وتولى إدارتها وقد نجحت صناعة الجبس في المملكة وأخذت تسد نقصا كبيرا فقد كانت البلاد تستورد احتياجاتها من هذه المادة من الخارج فقام هذا المصنع بسد جزء كبير من استهلاك البلاد المحلى، ولم يقتصر عمل المصنع على صناعة الجبس وإنما عمد إلى تصنيع الجبس في أشكال زخرفية تزين بهما المبانى وقد نجحت هذه الصناعة كذلك وأصبح الكثير من القصور والدارات تزين بها كما أن صناعة الجبس شقت طريقها إلى أسواق دول الخليج العربى جميعا وإلى بعض الدول العربية المجاورة كالسودان وهكذا لم يقف نشاط الدكتور الخاشقجى عند مهنة الطب التي أتقنها ونجح فيها وإنما تجاوزها بطموحه وتطلعاته إلى مجالات أخرى تفتقر إليها البلاد وقد ظل الدكتور الخاشقجى يدير شركة الجبس الأهلية ويشرف على أعمالها إلى أن اشتد ساعدها فتركها مكتفيا بالاشتراك في مجلس إدارتها وظل كذلك إلى أن توفاه الله.

‌تقاعُد الدّكتور الخَاشِقجي

هذا وقد هاجر الدكتور الخاشقجى بأسرته الخاصة بعد أن تقاعد عن العمل لعلو سنه وبعد أن رأى الدكتور من أبنائه من يمارسون نشاطهم الكبير فيها. فهاجر إلى لبنان ولكنه ظل دائما متصلا بوطنه الأم وبعد أن نشبت الحرب الأهلية في لبنان انتقل إلى بريطانيا فكان يفد إلى مكة الكرمة والمدينة المنورة في شهر رمضان من كل عام للاعتمار وقضاء بعض الأيام في المدينة المنورة كما كان يحضر ببعض أفراد أسرته للحج في كل عام وكان منزله في لندن وبيروت خاصا بالضيوف من الأهل والأصدقاء كل يوم فلقد كان رحمه الله مطبوعا على الكرم وحسن الخلق وكان أنيس المحضر متدينا حتى وهو في أوج شبابه حينما كان يدرس الطب في فرنسا، حدثنى معالى الشيخ محمد رضا كيف قرأ لهم الدكتور

ص: 205

الخاشقجى السيرة النبوية في باريس، قالوا حضر الحاج محمد علي زينل رضا رحمه الله إلى باريس يوم كان يباشر أعماله العظيمة في تجارة اللؤلؤ هناك وجاء الدكتور الخاشقجى للسلام عليه فأراد أن يضيفه فقال أنه صائم وأعجب الرجل العظيم بالشاب المدنى الذى يصوم في باريس. وربما كان هذا الصيام تطوعًا فأحبه وما هي إلا أيام حتى حل الموعد السنوى لذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فأقام الحاج محمد على رحمه الله حفلا بهذه المناسبة دعى فيه الدكتور الخاشقجى إلى تلاوة السيرة النبوية بمناسبة المولد فاستجاب لذلك مسرورا رحمهما الله جميعا.

‌وَفَاة الدكتور الخَاشِقجي

هذا وقد حضر الدكتور الخاشقجى بأسرته إلى مكة الكرمة في حج عام 1398 هـ ولكنه شعر بأعراض المرض وبحكم خبرته كطبيب أدرك أنه محتاج إلى عملية جراحية ولكنه طلب حضور جميع أبنائه وبناته واجتمع شمل الأسرة كلها في الرياض والتفوا من حوله قالوا: وكان يشعر أنها النهاية وبالفعل فقد أسلم الروح بعد إجراء تلك العملية الخطيرة له يوم 19 ذى الحجة 1398 هـ ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه بالمدينة المنورة فصلى عليه في المسجد النبوى الشريف ودفن في مقبرة البقيع مأسوفا عليه من أهله ومن محبيه وعارفى فضله وما أكثرهم.

رحمه الله رحمة واسعة فلقد كان رجلا عظيما أحب بلاده وأمته فسعى في سبيلهما ما وسعه السعى فكان طبيبا عظيما وإداريا حازما واقتصاديا كبيرا.

تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في عليين.

ص: 206

أعلام الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 207

محمد حسين نصيف

ص: 208

‌مُحَمَّد حسَيْن نَصيف

مستدير الوجه، أبيض اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وسيم، جسيم، قوى البنية، متين الأركان، تزيِّن وجهه لحية غلب فيها البياض على السواد يرتدى الجبة والعمامة الحجازية وكان له سمت خاص في لباسه فهو سلفى المذهب والشارة، فحينما كان يلبس العمامة كانت عمامته بيضاء خالصة ولم تكن تزدان بالنقوش الحمراء والخضراء التي تتميز بها العمامة الحجازية وحينما تحوَّل عن الجُبَّة والعمامة الحجازية إلى العباءة والعقال كانت عباءته بيضاء كذلك ولم تكن مزدانة بالقصب الذى تتميز به العباءة العربية، وكان عقاله أبيض خالصا، فهو رجل متميز بطبعه يتخذ سمات العلماء السلفيين ويرتدى ما يراه متفقا مع كرامة العلم ومقام العلماء.

ولد الشيخ محمد حسين نصيف في أوائل القرن الرابع عشر الهجرى 1302 هـ ومات أبوه وهو طفل فكفله جده لوالده الأفندى عمر نصيف وكان كبير أعيان جدة أو على الأصح كان ثانى اثنين هما أكبر أعيان جدة في ذلك الزمان أما الثانى فهو الأفندى موسى البغدادى وكان الرجلان كما سمعنا يكيدان لبعضهما البعض وينفس كل منهما على الآخر مكانه فيحاول النيل منه وكان الأفندى عمر نصيف وكيل شريف مكة ولعله كان وكيلا لكل من يتولى إمارة

ص: 209

مكة من الأشراف كما كان على صلة كبيرة بالوالى التركى في الحجاز والذى كان يتخذ من قصر الأفندى عمر نصيف الشهير بجدة مركز إقامة له في فصل الربيع، قالوا وكان في أعلى القصر مجلس منيف يتخلله الهواء من كل مكان وكان الوالى التركى راتب باشا يصعد بفرسه إلى هذا المجلس الذى كان يسمى بالتركية (كشك) وفى حضانة هذا الجد الكبير وفى ظل هذا الجد تربّى الشيخ محمد حسين نصيف، وكان الولد الوحيد لجده كما بلغنا فقد كانت ذرية الأفندى عمر نصيف جميعا من البنات ثم تزوج الزوجة الثانية فولدت له حسين نصيف والد الشيخ محمد نصيف، ولكن حسينا هذا توفِّي في أوج الشباب وترك بعده محمدًا الذى احتضنه جدة الأفندى عمر نصيف. فكان هو الذكر الوحيد لهذا الجد وهو المعُصِّب له حين وفاته.

‌قصْرُ نَصيف

والحديث عن الشيخ محمد حسين نصيف يقتضى الحديث عن قصر نصيف الذى فيه نشأ وتربى وعاش طيلة حياته التي امتدت نحوا من تسعين عاما أو تزيد.

كان قصر نصيف الذى بناه الأفندى عمر نصيف جدُّ الترجم مَعْلَمًا من معالم مدينة جدة بل أبرز معالمها في حينه نزل فيه الملوك والأمراء والعلماء والوزراء وقد شهدت السلطان وحيد الدين آخر سلاطين العثمانيين ينزل فيه بعد أن أقصى عن الخلافة ودعاه الشريف الملك حسين بن على لزيارة الحجاز، وكان الوالى التركى يتخذ منه مركزا لإقامته في بعض فصول العام كما أسلفنا، وكان أمراء مكة من الأشراف ينزلون فيه ثم تحولوا إلى قصر آل مهنا فكان الملك حسين ثم ابنه الملك علي ينزلون فيه، وكان كل من قدم إلى الحجاز من الملوك والأمراء وأعاظم

ص: 210

الرجال ينزلون في هذا القصر المنيف قصر نصيف، فلم يكن في مدينة جدة فندق أو دار ضيافة فكان قصر نصيف هو قصر الضيافة لكل من قدم إلى الحجاز من عظماء الرجال وفى عام 1344 هـ حين استيلاء المغفور له الملك عبد العزيز على الحجاز بعد انتهاء الحكم الهاشمى كان قصر نصيف بجدة هو منزل جلالته حين دخوله إلى جدة لأول مرة وفى هذا القصر كانت الوفود تصل إلى جلالته لمبايعته ملكا على الحجاز كما شهد هذا القصر كل الاجتماعات التي كانت تعقد لترتيب أمور الدولة الجديدة وقد اتخذ جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله من هذا القصر مقرا له لسنوات طويلة كما قدم إلى مدينة جدة، ثم انتقل إلى القصر الأخضر بالعمارية الذى بناه المرحوم الشيخ على العمارى ناظر عموم الرسوم بجدة خصيصا لنزول جلالته وقد سميت المنطقة بالعمارية نسبة إلى اسم الشيخ على العمارى رحمه الله، وبعدها انتقل جلالة الملك عبد العزيز إلى قصر خزام بالنزلة وهو القصر الذى قام ببنائه خصيصا لجلالته المعلم محمد بن لادن رحمه الله واستمر جلالته يتخذ من قصر خزام مقرا له إلى حين وفاته.

ولما توفى الأفندى عمر نصيف انحصر إرثه في بناته الست وفى الشيخ محمد نصيف الذى كان المعصب لجده المتوفى فعمل والى جدة التركى راتب باشا على أن يكون القصر من نصيب الشيخ محمد نصيف لأنه الشخص الوحيد من الورثة القادر على إبقائه مستعدا لاستقبال الضيوف من ملوك وعظماء وهكذا كان، وتقديرا لمكانة هذا القصر ومنزلته التاريخية أمر جلالة المغفور له الملك فيصل بشرائه من ورثة الشيخ محمد نصيف بعد وفاته بما يحويه من مكتبة الرحوم الشيخ محمد نصيف ليكون القصر بالمكتبة نواة لمكتبة كامة في مدينة جدة حيث يقع القصر في قلب المدينة القديمة وقد اشترته الدولة ولكن استعماله كمكتبة عامة لم يتم حتى الآن.

ص: 211

نعود الآن بعد هذا الاستطراد عن قصر نصيف إلى إكمال ما بدأناه من حديث عن الشيخ محمد نصيف ففى هذا القصر المجيد وفى ظل جده الكبير نشأ محمد نصيف وتربى وتعلم على أيدى خيرة العلماء في زمانه وكان القصر منتدى لكل من تضمهم مدينة جدة من علماء ورجال سياسة فلم يكن يفد إلى جدة عضو في سفارة عربية أو إسلامية إلا كانت زيارة قصر نصيف والاجتماع إلى الشيخ محمد نصيف من أوائل الأعمال التي يقوم بها بعد وصوله إلى المدينة، وكان الشيخ محمد نصيف يقضى سحابة نهاره وصدرا من الليل في الدور الأرضى من القصر الذى كانت المكتبة تحتل أجزاء كثيرة منه وكان يتناول الوجبات الثلاث في غرفة المائدة في هذا الدور مع أولاده ومن يضمهم القصر من الضيوف والأصدقاء وكانت هناك مضيفة ملحقة بالقصر لاستقبال الضيوف بصورة دائمة طوال العام وخاصة في موسم الحج ولعلى لا أفشى سرا إذا قلت أن واردات الشيخ محمد نصيف من العقار الكثير الذى ورثه عن جده الأفندى عمر نصيف لم تكن تكفى دائما لمقابلة المصاريف الضخمة التي كان ينفقها في إبقاء قصره مفتوحا للضيافة طوال العام وقد علمت بحكم صلة القرابة التي تربط أسرتنا به أنه كان يبيع في بعض الأعوام بعضا من عقاره لسدِّ هذه النفقات الطائلة التي كان يتكلفها كل عام، وخلال الخمسينات من هذا القرن وحين اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية وهبوط قيمة العقار كان واضحا أن الشيخ محمد نصيف أخذ يعانى من هذه الأزمة وما أن علم جلالة المغفور له الملك عبد العزيز بذلك حتى أصدر أمرا بصرف قاعدة سنوية له كل عام وكان الشيخ إبراهيم بن معمر قائم مقام جدة في ذلك الوقت هو الذى كتب لجلالة الغفور له الملك عبد العزيز ودون علم الشيخ محمد نصيف بذلك ولا شك إن الشيخ محمد نصيف كان من أحق الناس بعطف جلالة الملك عبد العزيز ومعونته فقد كان معروفا بعقيدته

ص: 212

السلفية منذ نشأ وقد أخبرنى المرحوم الشيخ عبد الرؤوف الصبان وكان من رواد مجلس الشيخ محمد نصيف كما كان من أوائل المتعلمين في ذلك العهد قال كنا نجلس في مجلس الشيخ محمد نصيف وكان يمر بنا جماعات الطرق الصوفية وهم يرقصون ويغنون وكان هذا في العهد الهاشمى قال فكنا نسفه آراءهم ونحصبهم بالحجارة، وحينما تم فتح مكة الكرمة في عام 1342 هـ وأحاطت جيوش الملك عبد العزيز بمدينة جدة كان معروفا أن الشيخ محمد نصيف على صلة بجلالة الملك عبد العزيز وسواء أكان الخبر صحيحا أم مبالغا فيه فقد سجن الشيخ محمد نصيف ومعه الشيخ سلمان عزايه وغيرهم في الثكنة العسكرية خارج مدينة جدة إذ ذاك ولم يطل الأمر بهما فقد أطلق سراحهما بعد أيام قلائل ثم لم يمض طويل وقت حتى دانت مدينة جدة بالولاء لجلالة الملك عبد العزيز واتخذ جلالته كما أسلفنا من قصر الشيخ محمد نصيف مقرا لإِقامته على مدى سنوات حينما كان يحضر إلى جدة كل عام وهكذا بقى قصر الشيخ محمد نصيف يمثل الوجه المشرق لمدينة جدة منذ تأسيسه في أوائل هذا القرن وعلى مدى ما يزيد من ستين عاما ولولا أن الشيخ محمد نصيف كان رجلا مطبوعا على الكرم والفضل لما استطاع أن يقوم وحده بهذا العبء الذى لا يضطلع به الا الأفذاذ من الرجال.

هذا ولقد كان الشيخ محمد نصيف مرجعا لكثير من المعلومات التاريخية عن العهود التي عاصرها وهي كما ذكرنا تقرب من قرن كامل وإنى لأذكر حينما وصل ماء العين العزيزية إلى جدة عام 1367 هـ أن أصدرت مجلة الحج عددا خاصا عن هذا الموضوع وقد كلفنى يومها معالى المغفور له الشيخ محمد سرور الصبان بكتابة بحث عن تاريخ الماء في مدينة جدة ولم أجد في مدينة جدة كلها إذ ذاك مصدرا لهذه المعلومات سوى الشيخ محمد نصيف رحمه الله وإنى لأذكر كيف كان يتدفق في حديثه عن تاريخ الماء في مدينة جدة بأسلوب يجمع بين حقائق التاريخ

ص: 213

وطرافة المعلومات وقد نشر هذا البحث في مجلة الحج وذكرت فيه مصدر هذه المعلومات في صلب البحث المذكور، كما كان فضيلة الشيخ محمد نصيف يوافى المجلات والصحف في بعض المناسبات بمعلوماته التاريخية عن الأحداث التي يرى ضرورة التعليق عليها كما كان يجيب السائلين سواء في رسائل خاصة أو على صفحات الصحف عما يسألونه عنه فلم يكن ممن يضنون بعلمهم أو يكتمونه.

‌مَكْتبة نَصيف

ولا يكتمل الحديث عن الشيخ محمد نصيف إلا بالحديث عن حبه للكتب واقتنائه لها فلقد نشأ وتربى على حب القراءة وكانت صلته بعلماء عصره سواء المقيمين أو القادمين مدعاة لتنمية حبه للقراءة والدرس وهكذا عكف الشيخ محمد نصيف منذ فجر صباه على جمع الكتب واقتنائها وتتبع النادر منها حيث وجد، وإنِّى لأذكر أنه علم بوجود نسخة من أحد الكتب الأندلسية القديمة في مكتبتى فلم يتردد رحمه الله في الكتابة إلى بطلبها ولم أتردد في تقديمها له لأن وجودها ضمن مكتبته الثمينة أولى من وجودها لدى وهكذا صرف الشيخ محمد نصيف حياته الطويلة المديدة في جمع مكتبة تعد أثمن مكتبة خاصة في مدينة جدة كلها وهي من أثمن المكتبات الخاصة في الحجاز كله وهذه المكتبة هي التي آلت ملكيتها كما ذكرنا إلى الدولة مع القصر لتكون نواة لمكتبة عامة في جدة ونرجو أن يتم تنفيذ هذا المشروع الهام قريبا ليتم النفع به.

ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الشيخ محمد نصيف قام بطبع ونشر كثير من الكتب على نفقته وبالاشتراك مع الغير منها كتاب العلو للعلى الغفار الذهبى طبع في عام 1325 هـ وكتاب الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر ويهامشه.

(1)

(1)

كتب التوسل والوسيلة لابن تيمية والخطوط العريضة لمذهب الشيعة لمحب الدين الخطيب والرحلة اليمانية للشريف عبد المحسن والجيل الثانى لعدة مؤلفين كما طبع كتاب الأدب المفرد للإمام البخارى على نفقة الحاج يوسف زينل رحمه الله.

ص: 214

كما أعرف أنه شجع بعض أصدقائه على طبع ونشر بعض الكتب على حسابهم الخاص مثل المرحوم الشريف شرف رضا الذى قام بطبع ونشر كتاب للإمام البخارى على ما أذكر بمشورة الأفندى نصيف وتشجيعه، وتوفى الشيخ محمد نصيف بمدينة الطائف بمستشفى الملك فيصل في 8 جمادى الثانى سنة 1391 هـ ونقل جثمانه إلى جدة حيث دفن بها في مشهد حافل شاركت فيه الجموع الكثيرة وواسى في وفاته رجال الدولة وعلى رأسهم جلالة الغفور له الملك فيصل رحمه الله وكبار الأمراء وأعيان البلاد.

تغمده الله برحمته الواسعة فلقد كان نمطا فريدا من الرجال استطاع بفضله وكرمه أن يكون مصدر فخار لحقبة طويلة من الزمن لمدينة جدة بل للحجاز كله وليس هذا بالأمر السهل أو القليل الأثر فمثل هؤلاء الرجال يعدون من مفاخر الأمم.

ص: 215

محمود حسين نصيف

ص: 216

‌مَحمُود حسَيْن نَصيف

معتدل القامة والجسم، أبيض تخالط بياضه صفرة، أسود الشعر والعينين، خفيف اللحية، حليق العارضين، يرتدى العباءة والعقال.

ولد بمدينة جدة عام 1353 للهجرة الموافق لعام 1934 للميلاد وتلقى تعليمه الابتدائى بالمدرسة السعودية بجدة، وحصل على الشهادة الثانوية من القاهرة ثم سافر في بعثة إلى أمريكا فحصل على شهادتى البكالوريوس والماجستير في الهندسة المدنية من جامعة جنوب كلفورنيا بمدينة لوس انجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية.

وعُيِّن فَوْر عودته ملازما أول بسلاح المهندسين بوزارة الدفاع ورُقِّى إلى رتبة مقدم ثم نقل إلى الملاك المدنى وأسندت إليه وظيفة مدير الأشغال الهندسية العسكرية وظل يشغل هذا المنصب حتى توفاه الله في أوج الشباب في 29/ 12 / 95 هـ وهو لم يكمل الثالثة والأربعين من العمر بعد أن استعصى الداء ولم يُجْدِ الدواء رحمه الله رحمة الأبرار.

ص: 217

كان المرحوم محمود نصيف وهو من أسرة نصيف الشهيرة في جدة فوالده المرحوم الأستاذ حسين محمود نصيف مؤلف كتاب - ماضى الحجاز وحاضره - وجده العلامة والمؤرخ والوجيه الكبير المرحوم الشيخ محمد نصيف نقول كان هذا الشاب نمطا فريدا في خلقه وعمله، فقد ولى أخطر المناصب وهو في سن مبكرة بعد أن حصل على شهاداته العليا من إحدى كبرى الجامعات في الهندسة في أمريكا، فلم يقنع بمجد أسرته التليد وإنما بنى لنفسه مجدا جديدا حينما تبوأ مركزه كمدير للأشغال العسكرية الهندسية في وزارة الدفاع بالمملكة وهو منصب جدُّ خطير تحيط به المغريات من كل جانب ولم يهيئه لهذا علمه فحسب وإنما هيأته لذلك صفاته الشخصية، فلقد اشتهر بالإخلاص والنزاهة، ونظافة اليد والضمير وإذا علمت أن محمود نصيف أشرف على عدد من المشاريع البالغة الضخامة مثل مشروع المدينة العسكرية في خميس مشيط، ومطار جدة الدولى ومطار الرياض الدولى، وكان في كل أعماله مثالا للنزاهة التي تصل إلى درجة الزهد، أدركت مدى قوة الخلق في هذا الشاب العظيم الذى كان يتعالى على كل أسباب الإغراء مترفعا بنفسه عن كل مظنة حتى أصبح مضربا للمثل في عصر عزَّ فيه، هذا المثال النادر من الرجال، كتبت عنه إحدى المجلات الأمريكية المتخصصة في الهندسة والإنشاءات كواحد من المهندسين القلائل في العالم الذى أشرف على عدد ضخم من المشاريع الهندسية التي تقدر ببلايين الدولارات في وقت قصير.

وكان إلى جانب هذا النصب متديِّنا شديد التدين قوى الإيمان وقد أسبغ عليه هذا التدين ما تميَّز به من صفات التواضع الجم والأمانة القليلة النظير.

ص: 218

‌تفَرّغ لخِدمَة الجَامِعَة

ولقد عرفت المرحوم محمود نصيف أول ما عرفته حينما انضم إلى عضوية المجلس التأسيسي لجامعة الملك عبد العزيز فرأيت فيه شابا يجمع بين العلم والتواضع ويساهم بعلمه وجهده في خدمة مشاريع الجامعة وما أكثر ما كانت الجامعة في حاجة إلى هذا الجهد على قلة الموارد في ذلك الوقت.

كان المبنى الذى تشغله كلية العلوم قديما لا يقوى على البقاء كما أنه لا يفى بمتطلبات الكلية فاقترح المهندس محمود نصيف إقامة مبنى خاص بالكلية ولكن موارد الجامعة لم تكن تسمح في ذاك الوقت بإقامة المبنى المطلوب فقام هو بجمع التبرعات العينية والنقدية للجامعة من الشركات الهندسية والفنية الكبيرة التي كان على صلة بها، وجَند كل أصدقائه من المهندسين والفنيين لإنشاء البنى في أسرع وقت وبأقل تكلفة وهكذا قام مبنى كلية العلوم بجهد عظيم من المرحوم محمود نصيف خاصة وبمن لبى نداءه من المخلصين والعاملين وقد شمل هذا الجهد كل ما يتعلق بالمبنى من تصميم وتنفيذ.

ولم تقف جهود المرحوم محمود نصيف عند مبنى كلية العلوم فلقد ساهم بجهد عظيم في كل عمل هندسى للجامعة فكان يشرف على أعمالها الهندسية وإنشاء مبانيها منذ أن كانت جامعة أهلية وحتى بعد أن تحولت إلى جامعة حكومية دون مقابل ولقد تابع بجهوده الشخصية إخراج المخطط العام للجامعة بجدة إلى مرحلة التصميم، كما شارك في إخراج مخطط الجامعة بمكة وكان يندفع بكليته في العمل دون تفكير فما يجب لنفسه من راحة ولصحته من عناية، ولقد علمت أنه كان يغادر بيته في الصباح المبكر دون أن يتناول طعام الإفطار منهمكا في عمله حتى

ص: 219

المساء. بل إنه حتى في رحلاته للعلاج بعد أن ظهرت عليه أعراض المرض كان يبحث في هذه الرحلات الأعمال الهندسية للجامعة مسرفا على نفسه في الجهد والحمل إلى أن توفاه الله.

‌محمُود نَصيف وَالخِدمَة العَامّة

ولم تقف جهود محمود نصيف رحمه الله على أعمال الجامعة ومشروعاتها ولكنه كان يندفع إلى بذل جهوده في كل عمل يحس فيه النفع العام ولقد علمت أنه ساعد على تصميم وإنشاء طابق جديد في المبنى الذى كان يشغله البنك الإسلامي بجدة أول تأسيسه وكان المبنى يضيق بمتطلبات البنك وأعماله فقام رحمه الله بعمل التصميم للطابق الجديد وأشرف على إنشائه بسرعة مزهلة. وأستطيع أن أقول إنى خبرت شيئا من هذا الاندفاع في الخدمة العامة لا في الجامعة وحدها أو في البنك الإسلامي وإنما في كل عمل نافع. فلقد وهب الرجل شبابه للخدمة العامة ولم يكن ينتظر الدعوة إلى العمل وإنما كان يقمم نفسه كما فعل في الجامعة والبنك الإسلامي وغيرهما من الأعمال.

ولا يظن ظان أن محمود نصيف كان يستغل مركزه الكبير في وزارة الدفاع لهذه الخدمة دون علم من رؤسائه فقد أخبرنى شخصيا أنه علم أن أحد الرجال المعروفين كان يفكر في إنشاء مسجد في مدينة أبحر لخلوها من المساجد فلم يكن منه إلا أن استأذن صاحب السمو الملكى الأمير سلطان وزير الدفاع والطيران في أن يقوم المكتب الهندسى لوزارة الدفاع بتصميم المشروع فوافق سموه على ذلك، وهكذا كان الرجل مبادرا إلى كل عمل نافع وكأنما قد سُخِّر لذلك تسخيرا، وبينما كان غيره يسخِّرُون عملهم ووظائفهم للنفع الشخصى وجر الغانم كان هو يسخر نفسه للخدمة العامة فكان بذلك مثالا فريدا قليل النظير.

ص: 220

‌مَرضُه وَوَفَاته

أحسَّ المرحوم محمود نصيف بأعراض الداء قبل فترة من الزمن ولكنه لم يسارع إلى العلاج كما كان الواجب بل كان يؤجل السفر للفحص والعلاج أسبوعا بعد أسبوع وشهرا بعد شهر حتى أصبحت الحمى لا تفارقه وكان مع ذاك منهمكا في أداء الأعمال التي كلف نفسه بها حتى ظهرت عليه العلَّة صفرة في الوجه ونحولًا في البدن فسافر إلى أمريكا ولم ينس أن يحضر أولا اجتماعا لبحث مخطط الجامعة العام في مدينة غير التي يقصدها للعلاج، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة روشستر بولاية مينسوتا بأمريكا وقد اقتضى الأمر إجراء جراحة عاجلة له ولكن الداء كان قد استفحل وبقى في غرفة الانعاش وقتا غير عادى مما استدعى إرسال زوجه وأولاده إليه كما سارع بعض أفراد أسرته للسفر وهكذا أراد الله لهذه الروح أن تعود إلى بارئها مودعا هذه الحياة وهو في مطلع رجولته بمدينة روشستر بأمريكا بتاريخ 29/ 12/ 95 هـ وقد نقل جثمانه إلى جدة بعد ثلاثة أيام من وفاته فاستقبله أصدقاؤه الكثيرون وصلى عليه في جامع الملك سعود ودفن بمدينة جدة مسقط رأسه وقد نعته صحف المملكة جميعها واستمر الكتاب والشعراء في رثائه وتعداد مآثره وقتا طويلا، فلقد كان شابا نادر المثال تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود ..

ص: 221

محمد سرور الصبان

ص: 222

‌مُحَمَّد سُرُور الصَّبان

طويل بائن الطول، سمهرى القوام، داكن البشرة، عظيم الشفتين، أقنى الأنف حلو النظرة، حسن الخلق رقيق أنيق يرتدى العباءة العربية والعقال، وهبه الله سماحة في النفس واليد فكان من أكرم من عرفت من الرجال، وكان يسع الناس ببذله وكرمه كما يسعهم بأخلاقه وحلمه حتى تبوأ مركز الزعامة بما بذل من نفسة وماله.

ولد الشيخ محمد سرور الصبان بمدينة جدة كما ورد في ترجمته التي كتبها عن نفسه في كتاب أدب الحجاز في أواخر عام 1316 هجرية وتعلم في مكة ثم في مكتب صادق بمدينة جدة بعد أن هاجر والده الحاج سرور الصبان إليها حيث كان يدير أعمال أسرة الصبان، وكانت يومها من أكبر البيوتات التجارية التي تخصصت في تصدير الجلود، وفى أوائل العهد السعودى كان موظفا بأمانة العاصمة بمكة الكرمة كما كانت له مكتبة لبيع الكتب يعمل فيها أخوه المرحوم الشيخ عبد الله سرور الصبان، وفي السنوات الأولى من العهد السعودى استقدمه جلالة المغفور له الملك عبد العزيز إلى الرياض وبقى بها بعض الوقت ثم عاد بمعية جلالته إلى الحجاز وكانت قد اتصلت أسبابه بأسباب المرحوم الشيخ

ص: 223

محمد الطويل في الرياض وقد عادا معا إلى الحجاز بمعية الغفور له الملك عبد العزيز فأسند الشيخ محمد الطويل إلى الشيخ محمد سرور إدارة شركة القناعة للسيارات بمكة الممكرمة والتى كانت رئاستها للشيخ محمد الطويل كما ورد في ترجمته المنشورة من قبل.

وفى شركة القناعة للسيارات اتصلت أسبابى بأسباب المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان فقد كان هو مديرا لإِدارة الشركة بمكة الكرمة، وكنت أعمل بإدارتها في جدة، وبعد أن أسندت إلى الشيخ محمد الطويل رئاسة أموال وجمارك المنطقة الشرقية أصبح الشيخ محمد سرور هو القائم بإدارة شركة القناعة في جدة وأصبحت أعمل معه جنبا إلى جنب طيلة شهور الموسم، وما لبث الشيخ محمد سرور أن أسس شركة خاصة للسيارات باسمه واسم إخوانه أطلق عليها اسم شركة الفلاح وأسندت إدارتها إلى أخيه المرحوم الشيخ عوض سرور الصبان وكانت من أكبر شركات السيارات في ذاك الزمان - هذه الشركات جميعها توحدت فما بعد في شركة واحدة هي الشركة العربية للسيارات - وفى النقابة الأولى للسيارات التي كان مركزها الرئيسى في مكة المكرمة تجلت عبقرية الشيخ محمد سرور وظهرت مواهبه، وكانت شؤون السيارات تهم الدولة إذ ذاك فوقع اختيار معالى المرحوم الشيخ عبد الله السليمان على الشيخ محمد سرور ليتولى إدارة قسم التحريرات في وزارة المالية وللأيام الأولى التي باشر الشيخ محمد سرور فيها هذا العمل ظهر أثره وتبين تأثيره، وكان معالى الشيخ عبد الله السلمان خبيرا بأقدار الرجال فما لبث أن أسند إليه منصب مدير عام وزارة المالية، وكانت وزارة المالية إذ ذاك هي كل وزارات الدولة تقريبا فوزارة المالية هي التي تقوم بأعباء وزارات المالية والأشغال والحج والواصلات والتجارة بينما كان ديوان النيابة العامة الذى كان يتولاه في ذلك العهد سمو الأمير فيصل نائب جلالة الملك في الحجاز إذ

ص: 224

ذاك - جلالة الملك فيصل الأول فما بعد - تتولى الإشراف على الداخلية والأمن العام والمعارف ومجلس الشورى وهيئات الأمر بالمعروف والمحاكم الشرعية والبلديات. وهكذا وجد الشيخ محمد سرور في وزارة المالية المجال الرحب لإظهار مواهبه وقدراته فكان في ذلك العهد ولسنوات طويلة من أكبر الرجال تأثيرا وأعظمهم نفوذا فقد كان يستمد سلطاته القوية من أقوى رجل في الدولة بعد ولى العهد والنائب العام، وقد استطاع الشيخ محمد سرور أن يحسن العمل في وزارة المالية فالتحق بها في عهده صفوة المثقفين إذ ذاك فتحسنت لغة الكتابة في الدواوين بعد أن عمل فيها أدباء معروفون كالأساتذة عبد الوهاب آشى ومحمد حسن فقى ومحمد حسن كتبى وأحمد قنديل وكلهم كتاب وشعراء بارزون وكانوا جميعا يعملون بالتدريس في مدارس الفلاح بمكة وجدة وبالمدارس الحكومية وكلهم تولى رئاسة تحرير صوت الحجاز في وقت من الأوقات وللشيخ محمد سرور مأثرة أدبيه كبرى ينفرد بها حين يكتب التاريخ الأدبى للحجاز فقد كان أول من اصدر "كتاب أدب الحجاز وكتاب المعرض"، وكتاب "خواطر مصرحة" للأستاذ محمد حسن عواد، وكتاب أدب الحجاز بالذات كان أول مؤلف يضم شعر أدباء الحجاز في الأربعينات من هذا القرن الهجرى كما كان أول صوت يسمع في داخل المملكة وخارجها عن الأدب والأدباء وقد جاء هذا الكتاب بعد فترة من الركود والخمول منذ أواخر العهد التركى وخلال العهد الهاشمى فكان ظهور أدب الحجاز بشيرا بفجر النهضة الأدبية في الحجاز وهو على صغر حجمه لم يكن إلا تعبيرا شديد الاختصار عن ولادة الأدب الحديث في هذه البلاد ولكن هذا التعبير جاء في وقته فكان له صدى قوى في داخل البلاد وبشارة حسنة لمن يترقبون الأحداث الأدبية في خارجها، وكتاب أدب الحجاز هو كتاب شعرى بينما أن كتاب المعرض هو كتاب نثرى فإذا كان الأول يعبر عن الشعر الحديث إذ ذاك في الحجاز فإن

ص: 225

كتاب العرض هو تعبير عن لغة الكتابة في ذاك العهد، أما كتاب "خواطر مصرحة" فهو من تأليف الأستاذ محمد حسن عواد وقد أحدث في حينه ضجة واسعة، ومهما كان الرأى فيه فلقد كان حدثا قويا وجريئا في حينه، وللشيخ محمد سرور إلى جانب هذه المأثرة الأدبية الأولى مآثر كثيرة فقد طبع ونشر على نفقته كتبا كثيرة جليلة منها كتاب تفسير معانى كلمات القرآن للشيخ محمد حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية وكتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي

(1)

وغيرها من الكتب المفيده الجليلة وكانت هذه الكتب تطبع وتوزع على نفقته بغير مقابل جزاه الله خير الجزاء، كما أن الشيخ محمد سرور كان مؤسس ورئيس الشركة العربية للطبع والنشر التي اشترت جريدة ومطبعة صوت الحجاز من صاحبها المرحوم الشيخ محمد صالح نصيف وقد كان الشيخ محمد صالح نصيف من أوائل السباقين إلى نشر الصحف فقد كان يصدر جريدة بريد الحجاز في جدة في أواخر العهد الهاشمى ثم أصدر جريدة صوت الحجاز بمكة في الخمسينات من هذا القرن الهجرى وكانت جريدة صوت الحجاز أول جريدة وطنية في الملكة بعد جريدة أم القرى الرسمية وكانت في حينها حدثا عظيما لأنها كانت مجالا لآراء الكتاب والمفكرين من الرعيل الأول وكانت محل اهتمام كبير على جميع المستويات وهي تصدر الآن باسم جريدة البلاد، نعود بعد هذا الاستطراد لنواصل الحديث عن المرحوم الشيخ محمد سرور بعد توليه منصب مدير عام وزارة المالية، وقد كانت هذه الوزارة كما أسلفنا في ذلك العهد قطب الأعمال ومركز الآمال فالتجار كل التجار يتعاملون معها، إذ كانت تتولى كافة سؤون الدولة المالية والإنشائية والصناعية، وكانت الوظائف مرتبطة بها والصرف والقبض من أهم اختصاصاتها

(1)

وكتاب الصحاح للجوهرى بتحقيق الأساتذة أحمد عبد الغفور عطار وعبد السلام هارون وكتاب جواهر العقود ومدارج السالكين وشذرات البلاتين وكتاب الإنصاف في الفقه وهو في أحد عشر مجلدا وديوان شاعر العرب الكبير فؤاد الخطيب.

ص: 226

وبهذا أصبح الشيخ محمد سرور مقصدا للناس يقصدون إليه في قضاء أمورهم فلم يكن يخيب لهم أملا ولا يرد لهم مطلبا ما وسعه ذلك ولهذا كان يجلس إلى الناس بعد عصر كل يوم يستقبلهم ويستمع إليهم ويحاول قضاء مطلبهم، وكان هذا المجلس يمتد حتى صدر الليل، ولم يكن يعتريه سأم أو برم فقد وهبه الله نفسا سمحة وخلقا كريما فكان يهب من يهب ويقرض من يقرض ويعين من يعين كل هذا في صمت عجيب وتواضع جم ولقد عملت إلى جانبه تسع سنوات رأيت فيها العجب من إحسانه وحلمه وكثيرا ما أنقذ تجارة منهارة أو قضى دين كريم وكثيرا ما أقال العثرات وكان يعطى عطاء من لا يخشى الفقر وكثيرا ما أشفقت عليه مما أرى فكنت ألفت نظره بلطف إلى ما يفعل ولكن أنَّى للسيل العارم أن يرتد فقد جبله الله على الكرم والسخاء.

وكانت للشيخ محمد سرور مطامح اقتصادية واسعه فكان أول رئيس للعديد من المؤسسات والشركات الوطنية مثل مشروع القرش، الشركة العربية للتوفير والاقتصاد، الشركة العربية للصادرات، الشركة العربية للطبع والنشر، الشركة العربيه للسيارات، شركة ملح وكهرباء جيزان، شركة الزهراء للعمارة، شركة مصحف مكة، وللأسف فإنه لم يبق من هذه الشركات جميعا سوى الشركة العربية للسيارات وشركة مصحف مكة، أما الشركات الاخرى فقد انتهت تماما ولعل الشيخ محمد سرور كان يتخذ من زعيم مصر الاقتصادى المرحوم طلعت حرب مثالا يحتذى في تأسيس هذه الشركات، والواقع أن البعض من هذه الشركات تعرض للصعوبات والمتاعب والبعض كانت تنقصه المهارة الإِدارية والخبرة والكل كان في حاجة إلى التطوير والتمشى مع متغيرات العصر، ولعله مما يؤخذ على الشيخ محمد سرور أنه لم يكن يشرك الجمعيات العموميه للشركات في دراسة ما تتعرض له هذه الشركات من مشاكل لتكون القرارات المتخذة قرارات جماعية وليكون المساهمون على علم بتطورات الأمور في شركاتهم وهكذا انتهت هذه الشركات إلى الانقراض والفناء.

ص: 227

والواقع أن الشيخ محمد سرور يتصرف بمثل هذا في شؤونه الخاصة وكان رجلا واسع الخيال كبير الأحلام، وكانت هذه الصفات فيه مدعاة لاستغلاله من كثير من الناس فكان كل من تقدم له بمشروع وطلب منه المشاركة فيه استجاب إليه فأمده بالمال شراكة أو قرضا، وكثير من هذه المشروعات كان ظاهر التهافت ولم يبن على دراسة كما أن الكثير من أصحاب هذه المشاريع لم يكن التعامل معهم موحيا بالثقة والاطمئنان. كان البعض يفكر في مشروع يصوره له خياله ويأتى إلينا في دار الشيخ محمد سرور وهو نفسه غير متأكد من صحة تفكيره أو من نجاح مشروعه فما هي إلا ساعة أو بعض ساعة يجلس فيها إلى الشيخ محمد سرور حتى يخرج والبشر يطفح من وجهه والأمل يملأ جوانحه فقد وجد من الشيخ وتعضيده ما يحمله على الظن بأنه عبقرى الدهر وواحد الزمان ويأخذ دفعة من المال يبدأ بها الخطوات الأولى لمشروعه العتيد وتمضى الأسابيع والشهور وإذا بهمة الشيخ تفتر عن السير مع أحلام الرجل ولكنه لا يصارحه بشئ وتبدأ الأمور في التعقيد وينقلب إعجاب الرجل بالشيخ محمد سرور وثناؤه عليه إلى نقد صارخ فيسبق إلى ذهنه أنه أساء إليه واوقعه في ورطة ولا يجد الشيخ محمد سرور مفرا من تفادى المشكلة إلا بالتنازل عما دفع من مال بفدية أخرى يفتدى نفسه مما كان، وكان من المكن تفادى كل هذا الحرج وكل هذه الخسارة بصرف الرجل من البداية صرفا حسنا أو بالاعتذار المؤدب عن الدخول في هذه المشاريع. والواقع أنى لست أدرى حتى الآن وبعد معايشتى للشيخ محمد سرور السنين الطوال هل هو حب المجاملة للناس، أو الطموح الكبير هو الذى كان يدفع الشيخ محمد سرور إلى مثل هذه الواقف أو أنهما الصفتان معا كانتا الدافع إلى مثل هذه الأمور. وأستطيع أن أضيف إلى صنفات الشيخ محمد سرور رحمه الله أنه كان كثير الحياء كاتما لأسرار الناس، وكانت هذه الصفات فيه تمنعه من

ص: 228

مصارحتهم بما يكرهون، وبالإسراف في مجاملتهم وملاطفتهم، كما أن كتمانه لأسرار الناس كان يمنعه من تقصى أحوالهم والواقع أن هناك فرقا بين كتمان أسرار الناس وبين التقصى فيما يجب التقصى فيه خاصة في الأمور الاقتصادية. وقد جاء وقت أصبح فيه الكثير من الناس يدعون أنهم شركاء للشيخ محمد سرور فيما يقومون به من أعمال ومشاريع، والكثير من هؤلاء الناس لا يستحقون أن يقرن اسمهم إلى اسمه، فشتان بين مشرق ومغرب وقد انتهت هذه المشاركات كلها إلى التلاشى وفقد الشيخ محمد سرور رحمه الله أموالا طائلة فيها نتيجة لعدم التقصى عن أحوال هؤلاء الناس وعدم التروى في الدخول معهم في أى مشروع.

وكان الشيخ محمد سرور رحمه الله يقرض الكثيرين المال الكثير فلما ظهرت حاجته إليه وبدأ يطالب الناس به لم يجد منه إلا القليل أو أقل القليل، وقد شكا لى في آخر حياته من بعض الناس الذين كان إقراضه لهم بمثابة إنقاذ من الهاوية وستر من الفضائح وكنت أعرف سلفا أن هذا سيحدث وحينما كنت مديرا لأعماله من عام 1355 هـ - 1364 هـ كنت أنبهه إلى شئ من ذاك ولكن ما جبل عليه من حب للخير وإسداء للمعروف جعله يندفع في الطريق الذى يسير فيه.

هذا وقد بقى الشيخ محمد سرور في منصبه مديرا عاما لوزارة المالية وتقلبت به الأيام في هذا المنصب علوا وسفلا فإذا كان الرضا منه كانت له السلطة والتصرف، وإذا أُغْضِي عنه وحل محله من ينال ثقة الوزير الشيخ عبد الله السليمان بقى مجمدا في منصبه أو سافر إلى الخارج ينتظر تغير الأحداث.

وبعد تولى الملك سعود العرش خلفا لجلالة المغفور له الملك عبد العزيز واستقالة الشيخ عبد الله السلمان الحمدان من وزارة المالية عين الشيخ محمد سرور وزيرا لها في أول وزارة رسمية يرأسها جلالة المغفور له الملك فيصل، وكان

ص: 229

الإنفاق الضخم الذى صاحب بداية عهد الملك سعود في ولاية الشيخ محمد سرور لوزارة المالية سببا في الأزمة المالية التي حدثت في ذلك الوقت، وارتفاع أسعار العملات الأجنبية مع أن تسعين في المائة من واردات الدولة كان من العملات الأجنبية ولم يتمكن الشيخ محمد سرور من معالجة الوضع لأن العلاج كان يقضى حزما وسيطرة كاملتين على النفقات وخاصة فما يتعلق بالعملات الأجنبية وهذا هو الذى قام به جلالة المغفور له الملك فيصل شخصيا فما هو إلا عام أو بعض عام حتى استقرت الأمور وتحدد الصرف وتوازنت الميزانية، وكان الشيخ محمد سرور إذ ذاك قد سافر إلى أوربا في رحلة للعلاج ولكنه أقيل من منصبه قبل عودته إلى الملكة بسبب هذه الأحدات وبقى الشيخ محمد سرور في مصر فترة طويلة من الزمن حتى استدعاه جلالة الغفور له الملك فيصل للعودة إلى البلاد.

وخلال إقامة الشيخ محمد سرور في القاهرة كانت داره مفتوحة للناس ويده مبسوطه إليهم بالإنفاق الكثير فكان يبعث المرضى على نفقته إلى المستشفيات ويعين العائلات الكثيرة المهاجرة في مصر ممن يحتاجون إلى العون، وقد شمل كرمه الكثير من أحرار العرب المقيمين بالقاهرة وبيروت والذين شردتهم الأحداث السياسية عن بلادهم وهكذا كان المرحوم الشيخ محمد سرور كالغيث يعم نفعه أينما حل ويصل خيره إلى الكثيرين في صمت وتواضع وحياء.

وبعد عودة الشيخ محمد سرور الصبان أسندت إليه الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي حين تأسيسها فكانت ولايته لها خير استهلال للأمانة الوليدة وبمهارته وحذقه استطاع أن يخلق من الرابطة على قلة مواردها إذ ذاك كيانا كبيرا ضخما، وقد ساعد تأييد جلالة المغفور له الملك فيصل للرابطة على إنجاحها، كما ساعدت علاقات الشيخ محمد سرور الصبان الكبيرة والمتشعبة بالكثيرين من رجالات العالم الإِسلامى على ترسيخ قواعد الرابطة وامتداد تأثيرها وللتاريخ

ص: 230

فإن كلا من معالى الشيخ محمد سرور الصبان ومعالى الشيخ صالح قزاز كانا يعملان في الرابطة دون، مقابل منذ بدء تأسيسها وحتى وفاة الشيخ محمد سرور رحمه الله وهو أمينها العام، وكذلك حتى استقالة الشيخ صالح قزاز بعد ذلك من أمانتها العامة بعد إسنادها إليه إذ كان الأمين العام المساعد منذ بداية التأسيس وتوفى الشيخ محمد سرور رحمه الله بالقاهرة بتاريخ الثانى من ذى الحجة 1391 هـ إثر نوبة قلبية وكان يشكو في السنوات الأخيره من عمره من لغط في القلب وقد نصحه الأطباء في بريطانيا بإجراء عملية عاجلة ولكنه فضل التأجيل والتريث وكانت رنة حزن كبيرة لدى جميع عارفيه ومحبيه في شتى البلاد الإسلامية والعربية وفى وطنه خاصة وأرسلت الدولة طائرة خاصة لنقل جثمانه من القاهرة حيث صلى عليه في السجد الحرام ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة في الثالث من ذى الحجة سنة 1391 هـ واشترك في استقبال جثمانه وتشييعه كثير من الأمراء والأعيان والجموع الشعبية الكثيرة التي كانت تدين له بالحب والولاء.

رحمه الله رحمة واسعة وأحسن جزاءه في جنات الخلود فقد كان رجلا محبا للخير مقيلا للعثرات ساترا للعورات.

‌مَكْتبة الشيخ محمّد سُرور الصّبَان

هذا وقد ترك المرحوم الشيخ محمد سرور مكتبة قيمة تعد من أحسن المكتبات الخاصه في مكة الكرمة وهي تحتوى على كثير من أمهات الكتب المطبوعة وبعضها مخطوط ولعل أبناءه الأساتذة الأخوة عبد الرحمن وعبد الباري وسعدا يهتمون بها أو يضمونها إلى إحدى المكتبات العامة لينتفع بها الراغبون.

في الحلقة الخاصة بترجمة معالى الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله ضمن تراجم أعلام القرن الرابع عشر ذكرت أن لديه مكتبة تعتبر من أكبر المكتبات

ص: 231

الخاصة في الوقت الحاضر وأنها تحتوى على مجموعة ثمينة من الكتب إلى جانب المخطوطات القيمة التي تضمها المكتبة وتمنيت على أبنائه السادة الأخوة عبد الرحمن وعبد البارى وسعد أن يعملوا على إتاحة الفرصة للانتفاع بما تضمه هذه المكتبة بإهدائها إلى جامعة الملك عبد العزيز ولقد تلقيت خطابا من سعادة الأخ الشيخ عبد الرحمن سرور يذكر فيه أن المكتبة قد سبق أن قدمت من قبلهم إلى جامعة الملك عبد العزيز بتاريخ 19/ 7/ 1397 هـ وأرفق بخطابه صورة من محضر الاستلام والتسلم وهو يضم خمسة آلاف ومائة وستة وسبعين كتابا منها مائتان وثلاثة مخطوطات وقد رأيت إكمالا لترجمة معاليه أن أنوه بهذا العمل الطيب الذى قام به أبناء المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان ولا شك أنهم حققوا بهذا رغبة من أهم رغبات والدهم الكريم كما أنهم ساروا في هذا العمل على النهج الطيب الذى اتسمت به حياته وأعماله جزاهم الله خير الجزاء ووفق الجميع إلى ما فيه الخير .. ويسرنى أن أثبت هنا صورة من المحضر الذى ثم به استلام هذه المكتبة من قبل مندوب الجامعة وهو بتاريخ 19/ 7/ 1397 هـ

‌مَحضر استلام وَتسَلّم

إنه في يوم الثلاثاء الموافق 19/ 7/ 1397 هـ تحرر هذا المحضر بين الأستاذ عبد الحميد فهمي إسماعيل مندوبا عن ورثة المرحوم معالى الشيخ محمد سرور الصبان .. والأستاذ حلمى عيد العزب مندوبا عن جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة عن سعادة مدير عام المكتبة المركزية للجامعة وذك لتقرير استلام السيد مندوب الجامعة لكافة الكتب المخطوطة والمطبوعة والمصورة وغيرها والتى قام

ص: 232

بجمعها الغفور له طيب الذكر معالى الشيخ محمد سرور الصبان وكانت بمكتبة معاليه بأم الدرج بمكة المكرمة وأهداها المكرمون ورثة معاليه للجامعة محقيقا للنفع العام لطلبة وأساتذة الجامعة والناطقين بالضاد بما احتوت عليه في شتى العلوم والمعارف، وهي تراث من أمجاد العرب لتحفظه الأجيال عبر السنين.

وقام السيد مندوب ورثة المغفور له معالى الشيخ بتسليم تلك المجموعة من الكتب طبقا للكشوف التي أعدت ووقعت للسيد مندوب الجامعة تنفيذا للإهداء بادئ الإشارة إليه.

وبيان تلك المجموعات والكتب حسب الكشوف مع ملاحظة أن الكتب مرقمة على أساس العناوين وبعض العناوين يشمل أكثر من نسخة طبقا لما هو مقيد بالكشوف وبيانها كالآتى:

1 -

دوائر المعارف من 1 إلى 2

2 -

القرآن وعلومه من 1 إلى 192

3 -

الحديث وعلومه من 1 إلى 246

4 -

الفقه وأصوله من 1 إلى 623

5 -

الإسلاميات من 1 إلى 806

6 -

اللغة العربية من 1 إلى 232

7 -

الأدب من 1 إلى 606

8 -

التاريخ والتراجم من 1 إلى 851

9 -

التفرقات من 1 إلى 1225

10 -

مجموعة كتب الرابطة من 1 إلى 27

11 -

المخطوطات من 1 إلى 203

ص: 233

12 -

المصورات من 1 إلى 11

13 -

كتب قديمة مطبوعة من 1 إلى 11

14 -

الدوريات من رقم 1 إلى 141

وبعد مراجعة الكشوف مع مصادرها بمعرفة مندوب المكرمين ورثة معالى الشيخ قد نقلت تلك الجموعات والكتب بواسطة السيد مندوب الجامعة ومعاونيه إلى مقر الجامعة بمكة المكرمة على أن يتم إعادة فرزها وختمها بخاتم خاص وحفظها بمكتبة الجامعة.

ص: 234

أعلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 235

الشيخ محمد صالح أبو زنادة

ص: 236

‌الشَّيخ محَمَّد صَالح أبُو زنَادَة

متوسط القامة ممتلئ الجسم واسع العينين تشوب بياضه حمرة خفيفة يطلق لحيته وعارضيه، كان يرتدى الجبة والعمامة الحجازية في العهد الهاشمى وأوائل العهد السعودى ثم أصبح يرتدى العباءة العربية والغترة البيضاء دون عقال.

ولد الشيخ محمد صالح أبو زنادة بمدينة جدة عام 1314 هـ وتلقى تعليمه في مكتب صادق ومكتب صادق هذا يعتبر هو أول تطوير في الدراسة من الكتاب إلى المدرسة النظامية وفيه تعلم الشيخ محمد سرور الصبان وكثير من رجالات جدة الذين ولدوا في الربع الأول من القرن الرابع عشر، وفى مطلع شبابه عمل كاتبا للحسابات في بيت آل عاشور التجارى وهذا البيت كان في عهده من أجمل بيوت جدة ولا يزال من أجمل وأفخم البيوت القديمة في جدة وهو في امتداد شارع قابل بجوار مسجد المعمار وقد بناه آل الصبان في أوائل القرن الثالث عشر وهو قريب من قصر نصيف الشهور بجدة ولعله بنى تقليدا لهذا القصر أو محاولة لتقليده في ذلك الزمان والقصر الآخر الذى يشبه قصر نصيف هو قصر آل الجوخدار في حارة اليمن بناه الشيخ محمد نور جوخدار رئيس وكلاء مشايخ الجاوه في جدة نقول إن منزل آل عاشور هذا آل إليهم بالشراء من آل الصبان وكان آل

ص: 237

الصبان من أكبر تجار الجلود في مكة وجدة وقد أدركتهم وهم مجمعون جلود الذبائح ويدبغونها دباغة ابتدائية ثم يصدرونها للبيع في أسواق عدن، وكان لهم بيت كبير في مكة وآخر في القنفذة وكان الحاج سرور الصبان والد معالى الشيخ محمد سرور الصبان رحمهم الله يدير بيتهم التجارى في القنفذة ثم في جدة وحينما باع ابن الصبان الكبير هذا المنزل في جدة استعاده الحاج سرور لملكية أبناء الصبان ولكنهم باعوه مرة أخرى إلى آل عاشور وهذا البيت لا يزال موجودا وقد باعه ورثة عاشور إلى أحد قدماء التجار الهنود في جدة ولا يزال البيت يعتبر من أجمل البيوت التي تمثل فن البناء القديم محتفظا بجماله وهندسته وقوته كأجمل ما يكون عليه البناء مع أنه مضى عليه ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن أو أكثر، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ محمد صالح أبو زنادة لنقول أنه عمل في مطلع حياته كاتبا في بيت آل عاشور التجارى ثم انتقل للعمل في بيت الشيخ إبراهيم الفضل في جدة ثم انتدب للعمل في مدينة بومباى وكان للشيخ إبراهيم الفضل بيت نجارى كبير في جدة وآخر في مدينة بومباى وكان أحد كبار التجار العرب في الهند، وكان يعمل في نجارة اللؤلؤ كما علمت من ابن شقيقته وزوج ابنته المرحوم الشيخ إبراهيم السليمان بن عقيل السفير السعودى الأسبق في القاهرة، ثم عاد إلى جدة بعد ذلك مع بداية تأسيس أول شركة للسيارات في العهد السعودى فعين مديرا لها بجدة وكان الشيخ محمد صالح قد افتتح كذاك عمله التجارى الخاص إلى جانب عمله في إدارة الشركة السعودية للسيارات وكان يعمل في استيراد الأرزاق كالدخن والشعير من موانئ جيزان والقنفذة وموانئ اليمن الأخرى، ولم تستمر الشركة السعودية للسيارات وقتا طويلا بعد تعرضها للمشاكل الكثيرة فانحلت ولكن الشيخ محمد صالح أبو زنادة أنشأ لنفسه شركة خاصة للسيارات وأطلق عليها اسم شركة (قاصد كريم) ثم أصبح عضوا في نقابة السيارات الأولى

ص: 238

بجدة حين تأليفها وحين توحيد شركات السيارات جميعها في شركة واحدة اختير الشيخ محمد صالح أبو زنادة مديرا لفرع الشركة الموحدة في جدة والتى أطلق عليها اسم (الشركة العربية للسيارات) كما انتخب عضوا بمجلس إدارة الشركة لسنوات طويلة ولعله من الستحسن أن نذكر الآن طرفا من تاريخ دخول السيارات إلى البلاد والمشاكل الكثيرة التي تعرض لها كثير من المشتغلين بها وكيف تطور الأمر إلى الوضع الحاضر.

لقد ذكرنا في حلقات سابقة أن السيارات كانت ممنوعة منعا باتا في العهد الهاشمى إذ أن الملك الشريف الحسين بن على كان يعتبر أن هذه السيارات تهدد اقتصاد البلاد وتنزح ثروتها إلى الخارج على اعتبار أن السيارات صناعة أجنبية وتحتاج في تشغيلها من وقود وصيانة إلى مستوردات أجنبية كقطع الغيار والبنزين والزيوت والإطارات وما إليها كما أنها ستحتاج في قيادتها وصيانتها إلى القوى البشرية الأجنبية ولهذا فهو يعتبر أن الجمل هو الوسيلة الاقتصادية المثلى للبلاد في ذلك الزمان فهو حيوان وطنى والجمال الذى يقوده وطنى كذلك وصناعة الشقادف (الهوادج) التي كانت تنقلها الجمال صناعة وطنية تعمل فيها أيد وطنية كثيرة وهو يضمن للبادية وهي تمثل السواد الأعظم من الشعب وسيلة ارتزاق يجب إلا تحرم منها، هذه هي الأفكار التي كانت لدى الشريف الحسين والتى بسببها منعت السيارات من دخول البلاد فلما انتهى العهد الهاشمى كان رأى جلالة الملك عبد العزيز هو الأخذ بمبدأ التطور ومسايرة العصر خصوصا وأن الملكة واسعة الرقعة كبيرة المساحات وهذا هو التفكير الصحيح بطبيعة الحال فسمحت الحكومة باستيراد السيارات وأسست لذلك الشركة السعودية للسيارات كما ذكرنا برئاسة الشيخ سلمان قابل في جدة كما قامت الحكومه بتأسيس عدة شركات باسمها لأغراض النقل الحكومى ثم ساهمت في نقل الحجاج كذاك، وانطلق

ص: 239

الناس من كل حدب وصوب يشترون السيارات وكان محل جلاتلى هنكى وشركاه الإنجليزي في جدة يجمع كل وكالات السيارات تقريبا باستثناء الفورد فقد كان وكيلا لشركة جنرال موتورز لسياراتها المختلفة كما كان وكيلا لشركة دودج وهي من إنتاج شركة كريزلر أما شركة فورد فقد كان وكيلها المستشرق الإنجليزي المسلم سانت جون فيلبى والذى سمى نفسه فما بعد عبد الله فيلبى وبعد فترة من الزمن أصدر جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله أمرا باختصار دخول السيارات على شركة فورد والكفرات على ماركة قوديير التي كان وكيلها فيلبى المذكور والتى أسس لها شركة تجارية باسم الشركة الشرقية ويبدو أن جلالته رأى السيارات الأخرى ولا وكلاء رسميون لها يعانى مشتروها من نقص قطع الغيار وأقنعه عبد الله فيلبى بقصر الاستيراد على شركة فورد المهم أن هذا الامتياز بقى لشركة فورد ولكفرات قوديير بضع سنوات إلى أن طلب المسؤولون في الشركة العربية للسيارات إلغاءه محتجين باستغلال الشركة الشرقية لهذا الامتياز فوافق جلالته على ذلك في الحال وأصبح الاستيراد مسموحا به لجميع أنواع السيارات والإطارات بلا استثناء.

أن إقبال الناس على شراء السيارات دون سابق خبرة بإدارتها وصيانتها قد حدثت عنه مشاكل من عدة جهات الأولى هي استقدام إعداد كبيرة من السائقين والميكانيكيين من مهندسين وسائقين وعمال صيانة من السودان والهند وعدن وكانت تصرف لهم المرتبات الضخمة بطبيعة الحال لأنهم تركوا أوطانهم وأهليهم فكان لابد من تقديم الإغراءات الكبيرة لهم، وكانت هذه السيارات محتاجة إلى قطع الغيار التي لم تكن متوفرة في البداية بالشكل الكامل، كما أن البلاد لم تكن قد عرفت الطرق المزفتة أو المعبدة فكانت السيارة الجيدة تقطع طريق مكة جدة في ساعتين وكثيرا ما تتعرض للتعطيل في الرمال المتحركة في

ص: 240

منطقة الحديبية وكانت تسمى في ذلك الزمان - زقاق حدة - حيث كانت السيارات تغرز في هذه المنطقة وهي منطقة رمال متحركة ويقضى السائق والمسافرون ساعات في إخراجها من الرمال ودفعها إلى منطقة صلبة، أما طريق المدينة المنورة فكانت السيارة الجيدة تقطعه في يومين كاملين إذا لم تتعطل في الشفيا وآبار ابن حصانى أو سبخة رابغ ولكن الأجور التي كانت مقررة على الحجاج كانت مغرية إذ كانت الأجرة تبلغ خمسة عشر جنيها ذهبا لنقل الحاج إلى المدينة المنورة وإعادته إلى مكة وكان المطوفون يتولون التعاقد مع أصحاب السيارات سواء أكانوا أفرادا أم شركات ولكثرة التنافس بين أصحاب السيارات انخفضت الأجرة أو تأجل استلامها إلى ما بعد الموسم وقد لا تدفع كلها أو بعضها فيما بعد فأصبحت العملية خاسرة تماما وفقد كثير ممن أقدموا على هذا العمل ثرواتهم والبعض باع عقاره أو مجوهرات عائلته ليضعها في السيارات، وحيما تفاقم الأمر اضطرت الحكومة للتدخل فأسست النقابة العامة الأولى للسيارات وجرى تحديد الأجور بمعرفة الدولة كما أن نظام النقابة كان بنص على أن تكون شركة السيارات مكونة من عشرين سيارة كبيرة كحد أدنى وأن يتم دفع الأجور في النقابة التي تتولى هي إحالة الحجاج على الشركات حسب تعداد مقاعد كل شركة وكانت هذه البداية هي أول عمل تنظيمى جيد لشركات السيارات وكان هذا في النصف الثانى من الأربعينات وأوائل الخمسينات ثم رأت الدولة أن المصلحة تقضى بتوحيد الشركات جميعها في شركة واحدة فتم ذلك بعد جهود مضنية وتألفت الشركة العربية للسيارات وأصبحت صاحبة إمتياز النقل للحجاج والبريد لسنوات طويلة وحينما تعرضت الشركة للمتاعب وعجزت عن نقل الحجاج مما اضطر الحكومة إلى التدخل سنويا لإنقاذ الحجاج في عرفات ومزدلفة ومنى أصدرت الدولة في عام 1372 هـ قرارا بالسماح للسعوديين أفرادا

ص: 241

وشركات بالاشتراك في نقل المحجاج وحددت العدد الأدنى للشركة بمائة سيارة كحد أدنى وعلى أثر ذلك تأسست الشركات الحالية للسيارات ولا تزال تقوم بعملها في نقل الحجاج حتى الآن.

‌مُستشفى أبُو زنَاده

نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ محمد صالح أبو زناده فنقول أن للرجل مبادرات تلفت النظر فلقد كان من أوائل الذين قاموا بتأسيس الستشفيات بمدينة جدة وإن كان هذا المستشفى لم يستمر طويل وقت فلقد قام الشيخ محمد صالح ابوزناده في عام 1370 هـ بتأسيس مستشفى خاص في شارع الملك عبد العزيز مما يلى باب شريف وكان قد قام بإنشاء بنايات في هذا الشارع وتم افتتاح المستشفى بالفعل وكان يديره أطباء ألمان ولكن هذا المستشفى كما ذكرت لم يستمر طويل وقت بسب اختلاف الشيخ محمد صالح أبوزنادة مع بعض شركائه على إدارة الستشفى فتحول إلى فندق بعد أن استمر أربعة اعوام وافتتح فيه أول فندق باسم فندق الحرمين الذى أسسه السيد حسين العطاس ولا يزال هذا المبنى مستعملا كفندق بهذا الاسم حتى اليوم هو والمبنى الصغير الجاور له.

‌كهربَاء وَثلج أبوزنادة

وكما قام الشيخ محمد صالح ابوزناده بإنشاء المستشفى في عام 1370 هـ قام في عام 1360 هـ باستيراد مكينة كهربائية وأسس لها مبنى في شارع الملك عبد العزيز بجوار بنك الرياض حاليا وكانت هذه المكينة تمد الشارع كله

ص: 242

بالكهرباء ثم امتدت إلى شوارع أخرى، كما أنه أسس في هذا المبنى مصنعا للثلج وورشة كهربائية وكان الشيخ محمد صالح ابوزناده ينفذ هذه المشاريع بأيدى الايطاليين الذين هاجروا من أريتريا خلال الحرب العالمية الثانية إلى جدة واتصلت أسبابهم بأسبابه فاستفاد الرجل بفكره الثاقب من خبرتهم في تنفيذ الأعمال الجديدة التي أقدم عليها وقد استمرت كهرباء أبوزنادة في العمل إلى أن تأسست كهرباء جدة وحصلت على امتياز الإنارة في مدينة جدة كلها فاضطر الشيخ محمد صالح أبوزنادة إلى إيقاف العمل في الإنارة ويبدو أنه كذلك أوقف العمل في مصنع الثلج والورشة الكهربائية بعد ذلك، على أى حال أن إقامة مشروع للكهرباء ولو كان صغيرا يعتبر في ذلك الزمن مبادرة لها مدلولها فالبلد كانت محرومة من الإنارة الكهربائية وكان الإِقدام على مشروع كهذا له معوقاته الكثيرة وفى مقدمتها المعوقات الفنية أن صح هذا التعبير وكذلك المعوقات المالية فالتجار العاديون يرغبون في استثمار أموالهم في بضائع يقومون هم بتوريدها وبيعها، ويتركون المشاريع الصناعية كالإنارة وما شابهها للدولة أو للشركات التي تؤلفها الدولة وهكذا كان بالفعل فبالنسبة لكهرباء جدة فإن وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان كلف شركة بكتل الامريكية بالقيام بالمشروع الابتدائى لكهرباء جدة ثم تحول إلى شركة مساهمة وتسلمه مجلس إدارة سعودى وبالنسبة لكهرباء مكة فحينما تقدم آل الجفالى إلى جلالة الملك عبد العزيز بطلب الامتياز للمشروع كان جلالته يشفق عليهم من تبعاته ومشاكله ولكنهم أقدموا عليه بحماس الشباب فكان لهم ما أرادوا .. أن الغرض من ذكر هذا كله أن الإقدام على مثل هذه الأعمال قبل أربعين عاما أو أكثر كان يدخل في باب المجازفات

ص: 243

أكثر منه في باب الأعمال المربحة، والشيخ محمد صالح ابوزناده أفاد من الربح فيما أقدم عليه من مشروع الإنارة وفى غيره من المشروعات دون شك ولكنه كان في زمنه كالرائد الذى يكتشف الطريق وهذه البادرات وأمثالها هي عندى موضع التقدير لأنها تدل على الشجاعة وبعد النظر وكان عمل الشيخ محمد صالح أبو زنادة وأمثاله يكون كاملا لو أنه حول مشروعه الصغير إلى مشروع كبير بعد أن رأى كثرة الإقبال عليه وبوادر النجاح تلوح أمامه فلو أنه استعان بالجهات الفنية المتخصصة في الخارج وألف شركة للإِنارة وتقدم بها إلى الدولة في ذلك الزمن لكان السابق ولبقيت له كهرباء جدة كما فعل آل الجفالى وقد أصبحوا عنصرا هاما في أغلب شركات الكهرباء التي تأسست بعد ذلك.

‌صُندُوق البر

وللشيخ محمد صالح أبو زناده مساهمات أخرى في سبيل المصلحة العامة فحين تأسيس صندوق البر في جدة عام 83 هـ كان الشيخ محمد صالح ابوزناده من المؤسسين له وقد تولى رئاسته العملية منذ تأسيسه حتى وفاته وصندوق البر فكرة إنسانية جليلة وهي تقوم على دعوة القادرين للاشتراك في هذا الصندوق بمبالغ سنوية أو شهرية يتم توزيعها على العائلات الكريمة التي فقدت عائلها وأصبحت في حاجة إلى ما يقيم الأود وهم في نفس الوقت من كرام الناس الذين تحسبهم أغنياء من التعفف فيقوم الصندوق بإيصال مرتبات شهرية إليهم ولا يزال صندوق البر يعمل مند بدء تأسيسه حتى الآن وقد علمت أن عدد المستفيدين منه يبلغ خمسمائة وخمسين أسرة وفردًا وأن المبالغ التي تدفع لهؤلا، المستفيدين تبلغ حوالى الثلاثمائة وستين ألف ريال في كل عام وهو مبلغ زهيد في هذا الوقت الذى اشتد فيه الغلاء وفاض فيه المال فهو بحاجة إلى دعم القادرين من زكاة أموالهم

ص: 244

لتنفق في وجوهها الصحيحة بواسطة رجال خير بن موثوق بأمانتهم وعلمهم بأمور الناس.

‌أبو زنَادة مَندُوب جَدّة

أخبرنى الأستاذ عبد الرؤوف أبو زنادة أن والده الشيخ محمد صالح توجه لمقابلة الملك عبد العزيز في مكة قبيل تسليم مدينة جدة وقال لى أن الرجل الذى رافق والده في هذه الرحلة لا يزال حيا يرزق، وبالفعل فقد بعث إلى الرافق المذكور وبعد أن استمعت منه إلى قصة هذه الرحلة رجعت إلى كتاب ماضى الحجاز وحاضره للمرحوم الأستاذ حسين محمد نصيف فوجدت في الصفحة 202، 203 ما أورده المؤلف عن تسليم جدة أنه تم بواسطة نائب معتمد وقنصل بربطانيا العظمى المستر جوردن بناء على طلب الملك الشريف على بن الحسين، ووجدت في هامش الصفحة ما نصه "سمع البعض من الأهالى عن وساطة القنصل الإنجليزي في الأمر فأبوْا ذلك وذهبو الدار الملك على واحتجوا وطلبوا أن يسلمهم البلاد وهم يسلمونها لابن السعود ولا دخل ولا وساطة لأجنبى في بلادنا فوعدهم وأخلف - انتهى ما نقلناه - من كتاب ماضى الحجاز وحاضره وقد استنتجت من ذلك أن أهالى جدة حينما علموا بأمر الاتفاق على التسليم لم يعجبهم أن يتم التسليم بوساطة القنصل الإنجليزي فاختاروا إرسال الشيخ محمد صالح ابوزناده لمقابلة الملك عبد العزيز في مكة ويعود هذا الاختيار أولا إلى ما يتمتع به الرجل من إتزان وتعقل وثانيا إلى أنه كان وكيل محل الشيخ إبراهيم الفضل التجارى في جدة وصلته بآل الفضل قديمة كما ورد في مقدمة ترجمته وقد التحق آل الفضل بالملك عبد العزيز في مكة من حين فتح الملك عبد العزيز لها

ص: 245

وباعتبارهم من كبار النجديين المقيمين في الحجاز والمطلعين على الأمور فيها فقد كانت صلتهم بالملك عبد العزيز قوية في ذلك الزمان هذه هي الأسباب التي رجحت اختيار الشيخ محمد صالح أبو زنادة لهذه الممة ونعود الآن إلى حديث المرافق لهذه الرحلة قال: غادرنا جدة في لباس الإحرام الشيخ محمد صالح ابوزناده وأنا ويرافقنا سائس يعتنى بدوابنا وكانت هذه الدواب من الحمير الجيدة التي كانت وسيلة السفر إلى مكة في ذلك العهد قال: حينما وصلنا إلى بوابة الأسلاك الشائكة فتحت لنا الأبواب مما يدل على أن الأمر قد أعطى لحراس البوابة بذلك قال: وانطلقت بنا الدَّوابُّ إلى الرغامة ولم نشعر إلا ببعض البدو من الجنود النجديين وقد هَبُّوا شاهرين أسلحتهم فقال لهم الشيخ محمد صالح أننا إخوة لكم ونرغب في مقابلة أمير المعسكر لأننا نحمل رسالة للسلطان فاقتادونا إلى أمير العسكر على بعد بضع كيلومترات وتحدّث معه الشيخ محمد صالح عن مهمته فأرسل أمير المعسكر مندوبا إلى جهة بعيدة وبعد ساعتين أو أكثر عاد المندوب واصطحبنا إلى بحرة ثم تركونا نتوجه إلى مكة المكرمة، ووصلنا إليها ضحى اليوم التالى، وذهبنا إلى بيت الفضل وبعد أن استرحنا وأديْنا مناسك العمرة ذهب الشيخ محمد صالح أبو زناده لمقابلة السلطان عبد العزيز في قصر السقاف بالمعابدة قال المرافق وقضينا في مكة يومين أو ثلاثة وبعدها حضر سائق سيارة الملك عبد العزيز صدِّيق الهندى وطلب من الشيخ محمد صالح أن يذهب معه إلى الرغامة لمقابلة الملك عبد العزيز قال وذهب الشيخ محمد صالح بسيارة الملك وذهبت أنا والسائس والدواب إلى الرغامة للقاء الشيخ محمد صالح هناك قال المرافق:

وفى اليوم التالى حضر أهالى جدة للسلام على السلطان عبد العزيز وكان الشيخ محمد صالح أبوزناده يقدمهم لجلالته ويذكر أسماءهم وسأل السلطان

ص: 246

عبد العزيز عن محمد الطويل لماذا لم يحضر مع الحاضرين وكان المرحوم الشيخ محمد الطويل من أركان الحكومة الهاشمية وممن وقفوا إلى جانب الشريف على وضحُّوا بأموالهم حتى أنه باع المنزل الذى كان يسكنه ودفع مرتبات الجنود الذين اعتصموا بمسجد عكاش وكان السلطان عبد العزيز معجبا بإخلاص الرجل ويرغب أن يراه قال: فقيل للملك عبد العزيز أن الطويل يرغب الحضور للسلام على جلالتكم ولكنه يطلب الأمان على نفسه أولًا وهنا قال الملك عبد العزيز والله لو حضر الشريف على نفسه لأنزلته بين عينى وبعدها قدم الطويل للسلام على السلطان فأحسن وفادته واستقباله.

هذا ما استطعت استنتاجه عن هذه الوفادة فقد رأى أهلُ الحلِّ والعَقْد بمدينة جدة أن يبعثوا واحدا منهم للسلطان عبد العزيز لينقل إليه آراءهم بعد أن ثم تسليم المدينة دون اشراكهم خاصة وأن الاتفاق ثم بواسطة القنصل الإنجليزي وهو أجنبى عن الجانبين وأنى لأرجو أن يكون من بين الرجال الذين عاصروا هذه الأحداث ولا يزالون على قيد الحياة من يستطيع إلقاء الضوء على هذه الأمور التي أصبحت في ذمة التاريخ.

‌رئاسة المجلس البَلدي وَالمجلِس الإداري

هذا وقد كانت للشيخ محمد صالح أبوزنادة مشاركة في الحياة العامة فقد كان عضوا بالمجلس الإداري لمدينة جدة كما تولى رئاسة المجلس البلدى فترة طويلة وفى وقت من الأوقات تولى رئاسة بلدية جدة وكالة عن الشيخ محمد الهزازى ثم أصالة إلى حين تعيين رئيس جديد.

ص: 247

‌وفَاته

أدى الشيخ محمد صالح أبوزناده صلاة الفجر في المسجد الذى وفقه الله تعالى لإنشائه بجوار منزله بالشرفية كعادته في المحافظة على أداء الصلوات كلها جماعة وبعد أن عاد إلى داره وأوى إلى فراشه يلتمس بعض الراحة فاجأته المنية صباح يوم 17/ 3/ 1387 هـ وقد طلب أحبابه الكثيرون نقل الجثمان إلى مسجد عكاش حيث كان يؤم الناس في كثير من الصلوات واشترك في الصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير الجموع الكثيرة من المواطنين رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه ..

ص: 248

أعلامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 249

الشيخ محمد صالح جمجوم

ص: 250

‌الشَّيخ مُحَمَّد صَالح جمجوم

طويل القامة مملوؤها بيضاوى الوجه أشقر تخالط بياضة حمرة، أشهب اللحية خفيفها، وهبه الله بسطة في الجسم وسماحة في الطبع وقوة في العقيدة والخلق كما وهبه بسطة في المال ومحبة في البذل، كريم في تواضع، عظيم في بساطة أحب الناس وأحبه الناس، فكان زعيما أبويا محبوبا من الجميع.

ذلكم هو المرحوم الشيخ محمد صالح عبد العزيز جمجوم عميد آل جمجوم في عصره وأحد أعلام مدينة جدة بل أحد أعلام المملكة في منطقة الحجاز.

ولد الشيخ محمد صالح جمجوم في أوائل القرن الرابع عشر الهجرى عام 1303 هـ وتوفى بمدينة حرج بولاية ميسور بالهند في 11 جمادى الأولى من عام 1363 هـ بعد أن ذهب إليها مستشفيا من المرض الذى ألم به بصحبة ابن أخيه رجل الأعمال المعروف الشيخ محمد نور صلاح بهجوم وقد بلغ من العمر ستين عاما قضى معظمها عاملا في سبيل الخير والنفع العام فلقد كان من الرجال القلائل الذين عاونوا المرحوم الحاج محمد على زينل رضا في تأسيس مدارس الفلاح والإِشراف عليها طيلة حياته، فلقد كان هو وأخوه المرحوم الشيخ عبد الرؤوف المتوفى عام 1338 هـ يتوليان القيام على شؤون هذه المدارس كوكلاء مفوضين من قبل مؤسسها الحاج محمد على زينل والذى كان يقضى أيامه

ص: 251

كلها في الهند وأوربا، ولقد عرفت الشيخ محمد صالح جمجوم وكيلا لمدارس الفلاح بعد وفاة أخيه الشيخ عبد الرؤوف وأنا تلميذ صغير بها وكان يحضر إلى المدرسة في كثير من الأوقات ويلجأ إليه مديرها وأساتذتها بل وطلابها في كل ما يعرض لهم من أمور، وإذا عرفنا المهام التي كان يتولاها الشيخ محمد صالح جمجوم إلى جانب وكالته للفلاح أدركنا بعض جوانب العظمة فيه فلقد كان عميد بيت الجمجوم التجارى وهو من أبرز البيوتات التجارية في جدة آنذاك، كان له فرع في الهند يتولاه أخوه الشيخ محمد عبد العزيز جمجوم، وكالت الهند آنذاك هي مصدر التجارة للجزيرة العربية كلها، وكان إلى جانب هذا وذاك مديرا لأوقاف جدة وهو منصب شرفى أسنده إليه جلالة المرحوم الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وكان إلى جانب كل هذا من زعماء البلاد المحبوبين فلقد تطوع من تلقاء نفسه بتيسير العمل لكل راغب فيه وذاك بتقديم كفالته الشخصية للدوائر الحكومية للرجال والشبان الذين تتطلب وظائفهم كفالة مالية لدى الدوائر الحكومية كأمناء الخزانة والمستودعات وغيرهم ممن يشترط توفر الكفالة المالية في قبولهم للوظائف، بل تعدت هذه الكفالة الوظائف فأصبحت مبذولة لكل من يطلبها دون تمييز وكثيرا ما قام بكفالة المسجونين لإِطلاقهم من السجون وكذلك المسافرين سواء عرفهم أو لم يعرفهم، وقد رأيت الرجل كما رآه غيرى من معاصريه يوقع الكفالات وهو يسير في الشارع دون أن ينظر إليها أو يعرف أصحابها وأسبابها فكان كل من يلجأ إليه يجد طلبته دون تردد أو امتعاض، فلقد كان رجلا كبير القلب يسع الناس جميعا بمحبته وعونه ولقد جنت عليه هذه الطيبة فيما بعد إذ أخل بها بعض المكفولين في مبلغ ضخم في ذلك الوقت وألزم المرحوم الشيخ محمد صالح جمجوم بدفعه ولم يكن قادرا على ذلك فخير بين الدفع أو السجن ولما لم يكن قادرا على الدفع فقد قبل راضيا بالسجن الذى تم في غرفة خاصة بإدارة شرطة

ص: 252

جدة ولم يلبث هذا السجن أن تحول إلى مجمع شعبى كبير فقد تقاطر الناس صباح مساء لزيارة الشيخ محمد صالح في غرفته تلك معبرين عن تعاطفهم معه وحنقهم على من تسبب له في هذا الأذى وما هي إلا أيام قلائل أذن الله فيها بالفرج إذ أمر جلالة المغفور له الملك عبد العزيز بإعفائه من الغرامة وغادر الشيخ محمد صالح مكانه ذاك عائدا إلى منزله بين تكريم كل الناس ومحبتهم وابتهاجهم وهكذا عرف الشيخ محمد صالح مكانه في القلوب ولم يكن هذا المكان بالمجهول أو المنكور.

والمتتبع لتاريخ حياة هذا الرجل العظيم يجدها تشير في جميع أطوارها إلى حب الخير للناس ومساعدتهم وبذل العون لهم، ولقد قلنا في مقدمة هذا البحث أن الشيخ محمد صالح وأخاه الشيخ عبد الرؤوف كانا من الرجال القلائل الذين عاونوا الحاج محمد على زينل مؤسس الفلاح حين تأسيسه لمدرسة الفلاح بجدة وقد سبق لى أن تحدثت وكتبت عن الحاج محمد على زينل يرحمه الله أنه حينما فكر في تأسيس مدرسة الفلاح بجدة لم يكن قد حصل على ترخيص حكومى بافتتاح المدرسة وكان هذا في العهد العثمانى في عام 1323 هجرية فلجأ هو وأصدقاؤه إلى أخذ التلاميذ من بيوت آبائهم في جنح الظلام ثم أعادتهم إلى بيوتهم بعد انتهاء الدرس، وأقول الآن أن من هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا يقومون بهذا العمل النبيل الشيخ محمد صالح جمجوم وأخوه الشيخ عبد الرؤوف، وإذا علمنا أن الحاج محمد على زينل أسس مدارس الفلاح عام 1323 هـ وكان من مواليد 1301 هـ أدركنا أنه كان وصحبه في أوائل العقد الثالث من أعمارهم أي بين العشرين والثانية والعشرين من العمر وهي سن باكرة جدا لا يقوم فيها بمثل هذا العمل العظيم إلا أولئك الرجال الذين وهبهم الله الغيرة على دينهم وأمتهم وهيأهم للقيام بالعظائم من الأمور وبعد الحصول على الترخيص الرسمى بافتتاح

ص: 253

المدرسة وتوسع التعليم فيها غادر الحاج محمد على زينل الحجاز إلى الهند معتمدا على كل من الشيخ عبد الرؤوف وأخيه الشيخ محمد صالح جمجوم في الإشراف عليها وبعد وفاه الشيخ عبد الرؤوف جمجوم في عام 1338 هـ انفرد محمد صالح جمجوم بإدارة شؤون المدرسة إلى أن توفاه الله تعالى عام 1363 هـ ولقد كان طوال هاتيك السنين يهب هذا العمل الكثير من وقته وجهده رغم مشاغله العظيمة في ذلك الزمان.

‌أُسْرَة آل الجَمْجُوم

والحديث عن الشيخ محمد صالح جمجوم يقتضى الحديث عن أسرة آل الجمجوم التي كان الشيخ محمد صالح عميدها وهي من أكرم العائلات في مدينة جدة ومن أكبرها عددا أن لم تكن أكبرها عددا على الإطلاق وحينما كانت الأسرة مجتمعة في مكان واحد في الخمسينات من هذا القرن الهجرى وفى عهد عميدها الشيخ محمد صالح كان تعدادها يزيد على المائة شخص وكانت أسرة كريمة مضيافة تسير في حياتها اليومية على النمط الذى كان متبعا في ذاك الحين فكان رجال الأسرة وشبابها مجتمعون على مائدة واحدة لتناول طعام الغداء، كما كان نساء الأسرة وضيوفهن يجتمعن على مائدة واحدة لهذا الغرض، وكان معروفا أن جوالا ضخما من الدقيق يرسل يوميا إلى الفران ليصنع منه الخبز الذى يكفى هذا العدد الضخم كما أن خروفا كبيرا واكثر مع كميات ضخمة من الخضار تشترى يوميا من الحلقة لصنع طعام غداء الأسرة أما العشاء والإفطار فكان أعضاء الأسرة يتناولونه في الأماكن المخصصة لهم من هذا البيت الكبير.

وكان إخواننا الشناقطة - الذين أصبحوا الآن موريتانيين - ضيوفا دائمين على آل الجمجوم حينما يفدون من الخارج لأداء فريضة الحج أو العودة منها أو حينما

ص: 254

يمرون بمدينة جدة في طريقهم إلى مكة أو المدينة وما أكثر الشناقطة المهاجرين بها، وما أكثر ما يفدون لأداء العمرة في رمضان أو لأداء فريضة الحج وكانوا يفدون بنسائهم وأطفالهم، أما النساء فتستقبلهن نساء الأسرة وأما الرجال فقد خصص لهم المكان بل الأمكنة التي ينزلون بها وكانت هذه الضيافة لا تقتصر على المأوى وإنما تشمل الطعام والشراب والكساء بل وقضاء الحوائج على اختلاف هذه الحوائج وأكثرها يقتضى بذل المال وبعضها يقتضى السعى في دوائر الحكومة لإِنجاز الأمور التي تقتضى الإِنجاز وكان الشيخ محمد صالح جمجوم بقلبه الكبير يرعى هؤلاء الوافدين ويتفقد أمورهم ويحقق مطالبهم حتى قيل مرة أن أحدهم تمنى عليه الزواج فحقق له ما طلب وهناك ناحية أخرى شاهدتها فلقد كان الميت يموت ويعجز أهله عن تجهيزه فإذا طلب من الناس العون أشاروا له إلى بيت الجمجوم ولقد سمعت أحدهم، وهو يقول ماذا تطلب منى؟ هل هنا بيت الجمجوم؟ كأنما كان بيت الجمجوم بيتا للمال في ذلك الزمان، أخيرا وليس آخرا فإن الشيخ محمد صالح جمجوم كان كما ذكرنا عميد بيت تجارى كبير وكان لهذا البيت التجارى معاملات كثيرة مع الناس وأخذٌ وعطاء وعملاء لهم حسابات مفتوحة وعليهم ديون كثيرة وكان مما عرف عن الشيخ محمد صالح جمجوم أنه كان ييسر على الناس فلا يثقل عليهم بالوفاء ولا يلح، وقد استغل بعض ذوى النفوس الضعيفة هذا الخلق العالى فاستمرأوا المماطلة واستباحوا عدم الوفاء فبقيت بذمتهم المبالغ الطائلة التي تبلغ الألوف المؤلفة من الجنيهات الذهبية وما لبثوا أن جاهروا بالامتناع عن الدفع مستأثرين بما وصل إليهم من هذا المال ليستخدموه في أعمال تجارية خاصة بهم آمنين أن أحدا لا يقاضيهم أو يزعجهم وهكذا كان، فلقد كان الشيخ محمد صالح يرفض كل الرفض فكرة المقاضاة أو الشكوى سواء للعملاء المماطلين أو للمستأجرين الذين يستبيحون السكنى في

ص: 255

عقار آل الجمجوم السنوات الطوال دون أن يدفعوا بدل الإجارة مستغلين طيبة الرجل وحياءه وحسن ظنه بالناس جميعا فلقد كانت هذه الطيبة التي ظنها البعض غفلة هي من أسباب اجتراء المجترئين واستهتارهم وليست هي من الغفلة في شئ وإنما هي النفس الكبيرة تحاول إصلاح النفوس وتقويمها بالصبر والتسامح والإِيثار.

رحم الله الشيخ محمد صالح جمجوم فلقد كان نمطا فريدا في العمل للناس بجهده وماله وجاهه طيلة حياته ثم مضى إلى لقاء ربه قبل خمسة وأربعين عاما ولكن ذكراه لا تزال تعمر قلوب عارفيه، فلقد كان مثلا كريما وقدوة حسنة تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود.

ص: 256

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 257

محمد صالح نصيف

ص: 258

‌مُحَمَّد صَالح نَصيف

طويل فارع ممتلئ الجسم في غير إسراف، حنطى اللون، حسن الملامح تزين وجهه لحية كاملة، وقد أدركته في العهد الهاشمى في عهد الشريف الملك على بن الحسين وهو رئيس بلدية جدة وكان يومها يرتدى الجبة والعمامة الحجازية، ثم تحول عنها في العهد السعودى إلى العباءة والعقال، ولد الشيخ محمد صالح نصيف بمدينة جدة في عام 1310 هجرية وهو من أسرة نصيف الغنية عن التعريف، وفى أوائل العهد السعودى عين عضوا بمجلس الشورى عن مدينة جدة وانتقل بأسرته إلى مكة المكرمة، أن ما لفت نظرى في تاريخ الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله أنه كان رائدا من رواد الصحافة في الحجاز وإن لم يكن هو من رجال القلم ولا من أعلام الأدب والكتابة، إلَّا أنه كان من السابقين إلى إصدار الصحف في الحجاز وقد أصدر جريدة بريد الحجاز في عهد الملك الشريف على بن الحسين من عام 1343 هـ إلى عام 1344 هجرية ثم حصل على امتياز إصدار جريدة صوت الحجاز في صفر 1350 هـ في أوائل العهد السعودى وكان قد استورد مطبعة من مصر، كما شارك الأستاذ عبد الفتاح قتلان في تأسيس المكتبة والمطبعة السلفية بمكة المكرمة وكان الغرض منها طبع الكتب التي تعبر عن المذهب السلفى ونشرها في هذه المطبعة وقد تم طبع جريدة صوت

ص: 259

الحجاز بها منذ بدء صدورها، وقد اتفق الشيخ محمد سرور الصبان معه فيما بعد على نقل امتياز جريدة صوت الحجاز إلى الشركة العربية للطبع والنشر والتى كان الشيخ محمد سرور رحمه الله مؤسسها ورئيسها وتم كذلك شراء المطبعة التي استوردتها المكتبة السلفية من قبل شركة الطبع والنشر وذلك لطبع جريدة صوت الحجاز بها ولقد أدركت هذه المطبعة في منزل الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله في بئر بليلة بأجياد في مكة المكرمة قبل انتقال ملكيتها إلى شركة الطبع والنشر وطبع جريدة صوت الحجاز عليها لسنوات كثيرة وهذه المطبعة أصلًا هي مطبعة المنار وقد باعها المرحوم السيد رشيد رضا إلى أصحاب المطبعة والمكتبة السلفية وهما الشيخ محمد صالح نصيف وعبد الفتاح قتلان وانتقلت من دار المنار بالقاهرة إلى مكة المكرمة لتطبع عليها جريدة صوت الحجاز لسنوات طويلة جدا كما ذكرنا وهي مطبعة قديمة تدار باليد وهي لا تزال موجودة حتى اليوم وإن كنت أشك أنها تستعمل مع وجود المطابع الحديثة المتطورة.

أقول أن ما لفت نظرى في سيرة الشيخ محمد صالح نصيف رحمه الله هو هذا السبق في تأسيس المطابع وإصدار الصحف وهو ليس من رجال القلم ولا من أعلام الكُتَّاب، ولكنه بعمله هذا هيأ الفرصة الكبيرة للكتاب والأدباء فقام بعمل جليل في نشر المعرفة وتنوير الأذهان. وهو أمر يستحق الإِشادة به والترجمة له، لأنه عمل نافع وعظيم، ولعله من الخير أن نذكر بعض ما علق بالذاكرة من أمر هاتين الصحيفتين اللتين أصدرهما الشيخ محمد صالح نصيف للذكرى والتاريخ.

‌بَريد الحِجَاز

أما الصحيفة الأولى فهى جريدة بريد الحجاز التي صدرت عام 1342 هـ واستمرت إلى أوائل عام 1344 هـ في عهد الملك الشريف علي ابن

ص: 260

الحسين رحمه الله، وكانت هذه الجريدة تعبر عن وجهة نظر العهد الهاشمى في ذلك الحين بطبيعة الحال وتطبع بمطبعة رمزى بجدة وكان أبرز كتابها هو الأستاذ الشيخ محمد حسن عواد شيخ أدباء جدة ولعل الكثيرين لا يعرفون أن أدباء جدة الكبار المعروفين حمزة شحاتة وأحمد قنديل رحمهما الله ومحمود عارف ومحمد على باحيدرة وعباس حلوانى هم تلامذة الأستاذ محمد حسن عواد، كما أن كاتب هذه السطور هو من تلاميذه كذلك وله تلاميذ كثيرون هم من أعلام الرجال في مختلف المجالات، نعم لقد أدركت الأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله أستاذا من أبرز أساتذة الفلاح في مدينة جدة وكان كلُّ الأساتذة الشعراء الذين ذكرت أسماءهم آنفا وغيرهم من تلاميذه في مدرسة الفلاح وأذكر أنني كنت في الصفوف الأولى من هذه المدرسة الجليلة وكان الأساتذه شحاتة وعارف وقنديل وعباس حلوانى وباحيدرة في الصفوف العليا منها.

نقول إن الأستاذ محمد حسن عواد كان أبرز كاتب في جريدة بريد الحجاز في هذا العهد لأنه كان بالفعل أبرز الأدباء في ذلك العهد

(1)

. وقد وجدت عن بريد الحجاز للأستاذ محمد حسن عواد في كتاب ابتسامات الأيام في انتصارات الإِمام ما يستحق الاقتباس وهذا الكتاب هو ديوان يضم قصائد شاعر نجد الكبير الشيخ محمد عبد الله بن بليهد من عام 1337 هـ إلى 1370 هـ ومعظم قصائد

(1)

كما كان الأستاذ أحمد إبراهيم الغزاوى يراسل بريد الحجاز من مهجره في بورسودان ويرسل إليها القصائد التي تنشرها له فيها.

ص: 261

هذا الديوان في الوقائع التاريخية التي خاضها جلالة المغفور له الملك عبد العزيز وانجاله الكرام جلالة الملك سعود وجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمهم الله، والكتاب مهدى إلى صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله الفيصل (وكيل نائب جلالة ملك المملكة العربية السعودية) هذه كانت وظيفة سموه الرسمية حين طبع هذا الكتاب أقول جاء في هذا الكتاب في الصفحة 86 عن بريد الحجاز ما نصه:

وقلت وأنا في مكة مع الإمام عبد العزيز وقد وردت قصيدة لرجل من أهل جدة يقال له حسن عواد وجعل توقيعه تحت قصيدته الأخطل الأصغر فرددت على ذلك الشاعر وقلت القول اللطيف في الرد على شويعر الشريف، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده أما بعد فقد ورد في بريد الحجاز الخارج من جدة من بلد الشريف علي بن الحسين قصيدة لمن سمَّى نفسه الأخطل الأصغر فقلت وهذا خليفة الأخطل النصرانى فقال في قصيدته في رجب 1343 هـ وهذا مطلع قصيدته على الخفيف.

حدثيهم عن بأسنا يا حراب

واذقهم نكالنا يا عذاب

وأمطريهم قذائفا يا مناطيد

كأنَّ الدخان منها سحاب

إلى أن قال:

أيها المصلحون في الشرق مهلا

أين إصلاحكم وأين الصواب؟

إلى آخرها وهي ثمانية وعشرون بيتا فقلت مجيبا له:

ما أصبتم وما لديكم صواب

بعد ما نُصَّ في البريد كتاب

وانتبهنا لقولكم حين قلتم

حدثيهم عن بأسنا يا حراب

أن هرمتم على الحروب فإنا

كلما طالت الحروب شباب

ص: 262

والقصيدة في خمسة وخمسين بيتا ومنها في وصف الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بمدينة جده خلال فترة الحصار.

إن ظننتم بأنَّ سلككم اليوم

عن رحى الحرب والمنون حجاب

فارقبوها من الكثيب سراعا

طالعات كأنهن الهضاب

ومنها في وصف ما كان يعانيه الحجاج من فقدان الأمن:

كم أخذتم من الحجيج فلوسا

طالما أزعج الحجيج النهاب

عبثت فيهم اللصوص وأمست

عندكم ما على اللصوص عقاب

انتهى نص ما نقلناه عن كتاب ابتسامات الأيام. والغرض من هذا النقل هو الإشارة إلى الناحية التاريخية في الموضوع لأن هذا العهد قد انقضى والحمد لله بكل ما كان فيه واستعاضت البلاد عنه أمنًا شاملا ووحدة كاملة ورخاء عظيما، وهكذا نرى أن الشعر السياسى كان وسيلة من وسائل الإِعلام في ذلك العهد وكان يمثله شاعران من أكبر شعراء المملكة أحدهما الأستاذ الشيخ محمد حسن عواد من أكبر شعراء الحجاز مد الله في حياته والثانى الشيخ محمد بن عبد الله بن بليهد من شعراء نجد ومؤرخيها ومن أعلم الناس بالمواقع والآثار في الجزيرة العربية رحمه الله.

ومن البديهى أن نقول إن صحيفة بريد الحجاز إنما كانت صحيفه سياسية صدرت في عهد معين للتعبير عن وجهة نظر معينة ثم انتهت بانتهاء الظرف الذى وجدت من أجله ولكن الشيخ محمد صالح نصيف لم يكتف ببريد الحجاز وإنما أصدر فيما بعد صحيفة صوت الحجاز كما ذكرنا.

ص: 263

‌صَوْتُ الحِجَاز

حينما يكتب تاريخ الأدب والصحافة في هذه البلاد يستطيع المؤرخ أن يربط ولادة الأدب الحديث بظهور المطبوعات التي أصدرها المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان في أوائل العهد السعودى في الأربعينات وهي أدب الحجاز والمعرض وخواطر مصرحة للأستاذ محمد حسن عواد ثم بجريدة صوت الحجاز التي أصدرها الشيخ محمد صالح نصيف عام 1350 هـ وإذا كانت المطبوعات التي أصدرها الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله والمذكورة آنفا هي إيذان بولادة الأدب الحديث في هذه البلاد فإن ظهور صوت الحجاز واستمرارها لسنوات طويلة وحتى الآن مع تغيير اسمها الذى سنتعرض له فيما بعد، نقول أن ظهور صوت الحجاز هو التعبير المستمر عن نشوء هذا الأدب الوليد ونمائه وانتشاره فلقد كانت صحيفة صوت الحجاز أول صحيفة تصدر في هذه البلاد محررة بأقلام أبنائها، ومما يلفت النظر أن صحيفة صوت الحجاز إنما صدرت بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وقد بعث اليَّ الأستاذ محمد خليل عنانى مدير فرع رابطة العالم الإسلامي بجدة نص الكتاب المرفوع إلى جلالته في هذا الصدد والذى استخلصت منه هذا التوجيه وهذا نصه:

(صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في تاريخه أدناه اجتمع الموقعون على هذا تحت إشراف الشيخ عبد العزيز الرشيد للنظر في إصدار جريدة يومية حسب الإِرادة الملكية التي بلغت إلينا بواسطة الأستاذ المذكور وقد قررنا انتخاب الأستاذ فؤاد شاكر ليكون مديرًا مسؤولا لهذه الجريدة ورئيسا لتحريرها ولأجل

ص: 264

إصدار إرادتكم السامية الملكية بهذا الشأن، نرفع هذا إلى السدة الملكية أدام الله جلالتكم ذخرا للعرب والمسلمين. وفيما يلى أسماء الموقعين على هذا الكتاب.

عبد الوهاب آشى * أحمد إبراهيم الغزاوى * بكر فالح * عبد الله عبد الكريم الخطيب * محمد عنانى * محمد سرور الصبان * عبد الله فدا * حسين نصيف

وواضح من نص هذا الكتاب أن إصدار الجريدة إنما كان بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، كما أن مما يلفت النظر أن امتياز هذه الجريدة إنما صدر باسم الشيخ محمد صالح نصيف ولم يكن من الموقعين على هذا الخطاب. ولعل وجود المطبعة السلفية بمكه تحت إدارة الشيخ محمد صالح نصيف وعمله السابق في إصدار بريد الحجاز هو الذى هيأ له الفرصة لإِصدار امتياز جريدة صوت الحجاز باسمه، كما أن الاقتراح بتعيين الأستاذ فؤاد شاكر رحمه الله مديرا مسؤولا للجريدة ورئيس تحرير لها لم يتم، فحينما صدرت الأعداد الأولى منها عام 1350 هـ لم يكن لها رئيس تحرير معين وإنما كان يحررها نخبة من الشبان وهؤلاء الشبان هم الأساتذه عبد الوهاب آشى ومحمد حسن فقى ومحمد حسن عواد وكانت تصدر أسبوعية وكان كل واحد منهم يكتب افتتاحيتها أسبوعيا ثم يكتب الافتتاحية في الأسبوع الثانى كاتب آخر من الثلاثة وهكذا، وكانت الصحيفة إلى جانب هذه الافتتاحيات حافلة بالشعر والأدب والنقد والدعوة إلى الإصلاح والتجديد ولم يكن هناك أثر للصورة، كما أنها لم تكن تنشر الأخبار الداخلية الا في حدود ضيقة جدا نعم لقد كانت صحيفة رأى قبل كل شئ وكان الناس جميعا يقرأونها ولم يكن يتقاضى كتابها أجرا على كتابتهم باستثناء رئيس التحرير المنوط به أمر الجريدة ككل.

ص: 265

ولقد عرف الناس الأستاذ عبد الوهاب آشى ككاتب كبير كما عرفوا الأستاذ محمد حسن فقى كشاعر كبير ولكنى أود أن أذكر هنا أن الأستاذ محمد حسن فقى في السنوات الأولى لصدور صوت الحجاز كان كاتب مقالة ممتازا إلى جانب ما عرف عنه من مكانة شعرية، ولكنه في ذلك الزمان كان يعنى بالكتابة أكثر من عنايته بالشعر وكانت مقالاته تتميز بأسلوب جزل رصين وقد تفرغ للشعر فيما بعد فكان فيه المجلي كما هو معلوم، ومن الجدير بالذكر أن نذكر أن الأستاذ عبد الوهاب آشى كان شاعرا مرموقا كما كان الأستاذ محمد سعيد العامودى شاعرا بارزا وهؤلاء جميعا كانوا من أبرز كتاب صوت الحجاز في بداية عهدها وقد تولى رئاسة تحرير صوت الحجاز الأستاذ محمد حسن كتبى والأساتذة أحمد قنديل رحمه الله وأحمد السباعى ثم المرحوم فؤاد شاكر ثم كاتب هذه السطور وكان من الكتاب الذين عملوا في تحرير الجريدة الأساتذة حسين عرب وأحمد جمال والمرحوم حسين خزندار ولست في حاجة لأن أقول أن جميع الكتاب والشعراء المعروفين كانوا ممن يوافون الصحيفة بإنتاجهم الشعرى والنثرى، كما كانت الصحيفة ميدانا للنقد تصول فيه الأقلام وتجول.

ولعله من الطريف أن نذكر أن المرحوم الشيخ محمد صالح نصيف عهد في وقت من الأوقات إلى الأستاذ محمد حسن كتبى - وزير الحج السابق - برئاسة تحرير صوت الحجاز ويبدو أن خلافا وقع بين الرجلين فصدرت الصحيفة في أحد الأعداد وكل ما فيها بتوقيع الأستاذ محمد حسن كتبى ابتداء من الافتتاحية إلى آخر عمود في الصحيفة ولقد ظهر فيما بعد أن المرحوم الشيخ محمد صالح نصيف تعمد ذكر اسم السيد محمد حسن كتبى على كل ما نشر بهذا العدد لأنه أراد إحراجه وإظهاره بمظهر المستأثر بالكتابة في الصحيفة وحده ولو كان هذا الأمر صحيحا لما تعمد الأستاذ الكتبى إغفال توقيعه عن كل ما يكتبه في الصحيفة

ص: 266

باستثناء الافتتاحية مثلا ولكن هذا ما وقع وظهر العدد الثانى وقد انتهت علاقة الأستاذ الكتبى بالصحيفة وصاحبها معا.

وقد توقفت صحيفة صوت الحجاز عن الصدور في أوائل الحرب العالمية الثانية ثم عادت إلى الظهور عام 1365 هجرية بعد انتهاء الحرب باسم البلاد السعودية وتولى رئاسة تحريرها المرحوم عبد الله عريف، وعلى ذكر توقف جريدة صوت الحجاز في أوائل الحرب العالمية الثانية انقل هنا من كتابى "حبات من عنقود" هذه الطرفة عن هذا الموضوع.

كنت رئيسا لتحرير جريدة صوت الحجاز خلال الحرب العالمية الثانية ولم يمض على الحرب إلا بضعة شهور حتى أصدر جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله أمرًا بإيقاف الصحف عن الصدور لعدم وجود الورق والاكتفاء بجريدة أم القرى الرسمية، وكان لدينا في صوت الحجاز كمية من الورق تكفى لصدور الجريدة وقتا طويلا، وكنا نتقاضى اشتراكا شهريا من الحكومة مقداره أربعمائة ريال عن اشتراك الحكومة والدوائر الرسمية في الجريدة وبإيقاف الصحف توقف هذا الاشتراك وكانت الأربعمائة ريال مبلغا كبيرا في ذلك الوقت، وبالاتفاق مع سعادة رئيس الشركة العربية للطبع والنشر كتبت إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله كتابا قلت فيه:

لقد أصدرتم جلالتكم الأمر بتوقيف الصحف لعدم وجود الورق وبما أننا في جريدة صوت الحجاز نملك كمية من الورق تكفى لصدور الجريدة وقتا طويلا فإننا نتعهد لجلالتكم بأننا لن نطالب الحكومة بإعطائنا ورقا لإصدار الجريدة، وإن كان هذا الأمر لحكمة سياسية اقتضاها رأى جلالتكم فالرأى ما ترونه، لكن جريدتنا تتقاضى اشتراكا شهريا مقداره أربعمائة ريال من وزارة المالية وقد توقف صرف هذا الاشتراك نتيجة لتوفف الجريدة عن الصدور وفى الجريدة ومطبعتها

ص: 267

موظفون تتأثر أحوالهم بتوقف الجريدة فلا أقل من الاستمرار في صرف هذا الاشتراك الشهرى لنا.

ولم أتلق أي جواب على خطابى ولكن الأمر صدر برقيا

إلى وزارة المالية من جلالته بالاستمرار في صرف مخصص الجريدة الشهرى وعدم توقيفه وكانت جريدة صوت الحجاز فيما أعلم هي الجريدة الوحيدة التي كانت تقبض قيمة الاشتراك طوال مدة توقفها عن الصدور.

وحين صدور الأمر بإدماج الصحف اندمجت جريدة البلاد السعودية مع مجلة عرفات التي كان يصدرها الأستاذ حسن قزاز في صحيفة واحدة باسم البلاد وأسندت رئاسة تحريرها إلى الأستاذ محمد حسين زيدان ثم إلى الأستاذ حسن قزاز وحين تحولت الصحافة إلى مؤسسات أسندت رئاسة تحريرها إلى الأستاذ عبد المجيد شبكشى بتاريخ أول ذى القعدة 1383 هـ.

نعود بعد هذا الاستطراد التاريخى عن الصحافة إلى المرحوم الشيخ محمد صالح نصيف لنذكر أنه اختير لرئاسة ماليات وجمارك جيزان في عهد وزير المالية الأسبق الشيخ عبد الله السليمان وانتقل إلى هناك لعدة سنوات ثم عاد إلى الحجاز وقد توفى رحمه الله بعد أن أسن عام 1391 هـ في مدينة جدة عن عمر يناهز الواحد وثمانين عاما.

تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه لقاء ما هدف إليه من خدمة الفكر والقلم.

ص: 268

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 269

السيد محمد طاهر الدباغ

ص: 270

‌السَّيد محمَّد طاهر الدَّباغ

أبيض الوجه تخالط بياضه حمرة، أقنى الأنف، ممتلئ الجسم أقرب إلى الطول منه إلى القصر، تزين وجهه لحية اختلط سوادها بالبياض، ثاقب النظرة شديد الذكاء تلوح في وجهه مخايل الشهامة عرفته وهو يرتدى العباءة العربية والعقال بعد عودته إلى المملكة من مهجره في الخمسينات من هذا القرن.

ولد السيد محمد طاهر الدباغ بالطائف عام 1308 هجرية وتلقى علومه الابتدائية بمكة ثم بالإسكندرية ثم عاد إلى مكة وتلقى العلم على أيدى علماء عصره بالمسجد الحرام حتى حصل على إجازة التدريس واشتغل به في المسجد الحرام مدة من الزمن ثم التحق مدرسًا بمدرسة الفلاح حتى أصبح مديرا لها وفى عام 1336 هـ انتقل إلى مالية جدة وأصبح رئيسا لها ومعتمدا للمعارف بمدينة جدة وتوابعها في عهد الملك الشريف حسين بن على يرحمه الله وفى عهد الملك على بن الحسين عام 1343 هـ إلى 1344 هـ تولى وزارة المالية، وللسيد محمد طاهر الدباغ موقف تاريخى مشهود فقد كان هو الذى أبلغ الشريف الحسين بن على بلسان المجتمعين في الخزنة بجدة، وهي مكتب القائم مقام "وكانت أمام باب جديد قريبًا من ميدان البيعة في الوقت الحاضر نقول أن السيد محمد طاهر

ص: 271

الدباغ كان هو الذى تحدَّث إلى الشريف الحسين بن على في مكة تليفونيا وأبلغه بأن المجتمعين وهم أهْلُ الحل والعقد قد قرروا عزله عن العرش وتولية ابنه وولى عهده الشريف على بن الحسين ملكا على الحجاز، وقد وردت هذه القصة بتفاصيلها في كتاب المرحوم الأستاذ خير الدين الزركلى "ما رأيت وما سمعت" ولقد كان الشريف الحسين كما يعرف معاصروه معروفا بالصرامة والجبروت وكان ينزل بطشه وعقابه لأتفه الأسباب فالإقدام على إبلاغه بقرار أهل الحل والعقد إقالته من الملك وتنصيب ابنه بدلا عنه ليس بالأمر السهل وإنما هو من عظائم الأمور التي تدل على تمتع صاحبها بالشجاعة المفرطة، التي تؤهله للاضطلاع بعظائم الأمور.

‌هجْرَته إلى الخارج

من هذه الحادثة يتبين لنا أن السيد محمد طاهر الدباغ كان من الرجال البارزين في العهد الهاشمى ولقد هاجر بأسرته جميعا من الحجاز بعد أن دان الحجاز بالولاء لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله وعلمت من السيد طاهر أنه توجه أولا إلى الهند ثم تنقل بعدها في مختلف البلاد العربية والإسلامية مشتغلا بالتدريس إلى أن أصدر جلالة الملك عبد العزيز نداءه المشهور إلى رجال العهد الهاشمى المهاجرين في الخارج يدعوهم إلى العودة إلى بلادهم ليعملوا تحت لوائه في سبيل خدمتها والنهوض بها إلى ما يطمح إليه الجميع من رقى وتقدم.

‌عَوْدته إلى المَمْلكة

وكان السيد محمد طاهر الدباغ من أوائل من استجاب لهذه الدعوة الكريمة من المهاجرين كما عاد في نفس الوقت كل من المرحوم الشيخ عبد الرؤوف

ص: 272

الصبان، والشيخ محمد صادق، وكانوا جميعا ينشرون مقالات في جريدة صوت الحجاز توضح استجابتهم للنداء واستعدادهم للخدمة في المجال الذى يختاره لهم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، وقد رأيت السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله يوم عاد في لباس الإِحرام عشية يوم عرفه في مخيم الشيخ محمد سرور الصبان في عرفات في حج عام 1354 هـ.

‌مُديْريّة التعليم العَامّة

وقد أسند جلالة الملك عبد العزيز إلى السيد محمد طاهر الدباغ إدارة التعليم في المملكة وكانت إدارة بسيطة فجعلت مديرية عامة، ولقد كان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله ذا فراسة في الرجال يعرف أقدارهم ويستفيد من قدراتهم وكان بهذا الاختيار قد أعطى القوس باريها فانطلق السيد محمد طاهر رحمه الله بالمعارف الانطلاقة الكبرى التي كانت النواة الطيبة للنهضة التعليمية في المملكة.

‌مَدرَسَة تحضير البعثات

وكان أول ما فكر فيه المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ هو تنظيم الابتعاث إلى الخارج للدراسات العليا المتنوعة فأسس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة واستقدم لها الأساتذة وذلك لتهيئة الطلاب للدخول إلى الجامعات والمعاهد العليا في مصر بعد التخرج منها حيت وضعت برامجها بحيت تكون متفقة مع مناهج المدارس الثانوية في مصر وكان الطلاب الذين يكملون الدراسة في مدارس المملكة إذ ذاك يلتحقون بها في مكة المكرمة وكانت مدرسة داخلية بالنسبة للطلاب القادمين من أنحاء المملكة الأخرى سواء من مدن الحجاز أو من مدن

ص: 273

نجد أو المناطق الأخرى في المملكة ونستطيع أن نقول للتاريخ أن مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذى احتضن كل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت والذين تخصصوا في الدراسات العليا المختلفة كالطب والهندسة والتعليم وخلافهم ومن تلامذتها تخرج الوزراء والأطباء والمهندسون والعلماء نذكر منهم على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر السادة أحمد جمجوم، الدكتور حسن نصيف، المرحوم السيد أحمد شطا، الدكتور عبد اللطيف جمجوم، الدكتور الهرسانى، السيد عبد الله الدباغ. العلامة الشيخ حمد الجاسر وكثيرون غيرهم ممن لا يتسنى ذكرهم في هذه العجالة.

هذا وكان الطلبة المبتعثون من قبل يتعثرون في دراساتهم حينما يصلون إلى مصر فيتضح أنهم أقوياء في بعض المواد بينما أنهم لم يكونوا قد تزَّودوا بالمقدار الكافى من المواد الأخرى العلمية كالرياضيات واللغة الإنجليزية وغيرها، فكان وجود مدرسة تحضير البعثات سببا في سد هذه الثغرة ومنطلقا للنهضة التعليمية التي هيأت للبلاد النواة الأولى من المتخصصين في مختلف فروع العلوم والفنون.

‌دَار البعثات في مِصْر

وكما عنى المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ بتأسيس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة عنى بتهيئة دار البعثات العلمية بالسعودية بالقاهرة وأسندت إدارتها إلى مديرين مشهود لهم بالكفاءة والإخلاص وأذكر منهم على سبيل المثال المربى القدير السيد ولى الدين أسعد رحمه الله، وكانت هذه الدار تضم الطلبة المبتعثين حيث يتهيأ لهم فيها المسكن والطعام ويشرف السيد ولى الدين رحمه الله ومعاونوه على إلحاقهم بالمعاهد المختلفة ويهتم بشؤونهم الدراسية والمعاشية في آن

ص: 274

واحد مما هيأ للطلبة الجو المناسب للدراسة المنظمة الجادة التي آتت أكلها فيما بعد ثمرا جنيًا ورجالا عاملين في شتى المجالات هذا وقد تم فيما بعد تأسيس دار للبعثات السعودية بالإسكندرية تولاه المرحوم الأستاذ صادق ماجد كردى وكان يرعى الطلبة السعوديين الذين يتلقون دراساتهم في جامعة الإسكندرية.

‌نشرُ المدَارس في أنحاء المملكة

ولم يكتف السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بالعناية بالدراسات العليا وتهيئة أسبابها فحسب وإنما بذل جهودا جبارة في نشر التعليم في كثير من مدن المملكة فبعد أن كانت مدارس المعارف في المدن الكبرى محدودة العدد توسعت المديرية العامة للمعارف في عهده بتشجيع من جلالة المغفور له الملك عبد العزيز في افتتاح المدارس وخاصة الابتدائية، والمتوسطة فكنا نرى في كل عام زيادة ملحوظة في عدد المدارس في جميع المدن وفى كثير من القرى مما هيأ الجو المناسب للنهضة التعليمية الكبرى فيما بعد مع إدخال الإصلاحات الجذرية على مناهج الدراسة وتهيئتها لتكون متساوقة مع المدارس المماثلة في البلاد العربية المجاورة

(1)

.

‌مَدْرَسة الأُمَراء في الرّياض

وقد قام المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ كذلك بتأسيس مدرسة الأمراء في الرياض أو على الأصح بتوسيعها وتنظيمها فقد كانت المدرسة موجودة من قبل ولكنها كانت في نطاق ضيق فقام بتوسعتها وتنظيمها وقد أصبحت هذه المدرسة فيما بعد تضم مختلف الطبقات ولم تكن قاصرة على الأمراء فحسب وهكذا فإن العلم مباح للجميع.

(1)

للاستزادة عن تطور التعليم في المملكة يراجع كتاب محمد طاهر الدماغ للأستاذ بكر الصباغ فهو يحتوى على معلومات قيمة في هذا الشأن.

ص: 275

وقد بقى السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله قائما بأعباء هذا العمل العظيم لسنوات طويلة من عام 1355 إلى عام 1364 هـ ثم عين عضوا بمجلس الشورى ثم أحيل إلى التقاعد عام 1372 هـ.

‌المَرَض وَالرحْلة إِلى مِصْر

وقد شعر السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بالمرض الذى بدأ يؤثر على بصره فسافر إلى مصر طلبا للعلاج ولكن الداء كان قد استشرى فذهب بصره ولكنه كان كالعهد به دائما شجاعا مؤمنا فتحمل المرض في صبر وإيمان ولم يكن يشكو ذهاب بصره، بل لم يكن يتحدث عن ذلك بتاتا، حدثنى أحد أبنائه وكان معه في مصر قال كنا نعرف أن لا علاج للمرض الذى ألمّ ببصره، وكنا نكتم عنه ذلك مراعاة لشعوره قال وكنت أشعر أن الوالد يعرف من أمر مرض عينيه ما نعرف وكان لا يتحدث عن ذلك اشفاقا علينا، لقد كان رحمه الله رحيما وزعيما عظيما، ورجلا من أشجع الرجال هذا وقد أدركته الوفاة رحمه الله بالقاهرة في 18 رجب 1378 هـ ودفن بها مأسوفا عليه من كل الناس الذين عرفوا فضله وجميل صفاته رحمه الله جزاء ما أسدى للأمة من خير وما عمل في سبيلها من جهد مخلص ونفع عظيم.

ص: 276

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 277

محمد علي زينل رضا

ص: 278

‌محَمَّد عَلي زيْنَل رضَا

معتدل الجسم وسط في الرجال لا بالطويل ولا بالقصير، مستدير الوجه أبيض اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، يضع على عينيه نظارة ذهبية ويرتدى الجبة والعمامة الحجازية وقد احتفظ بلباسه هذا حتى في زياراته الكثيرة إلى أوربا بعد أن افتتح مكاتب بها لأعماله التجارية الواسعة، قويُّ الشخصية وهبه الله مهابةً وأسبغ عليه محبة فإذا رأيته هبته واحببته في وقت واحد ولا عجب في ذلك فقد هيأه الله تعالى بتوفيقه للزعامة بما وهبه من صفات البذل في سبيل العلم من مال كثير وجهد عظيم استمر معه منذ نشأ إلى أن توفاه الله تعالى وقد أشرف على التسعين من عمر طويل قضاه في خدمة العلم والدين.

ولد الحاج محمد علي زينل رضا بمدينة جدة في أول القرن الهجرى سنة 1300 هـ في ظل والده الحاج زينل علي رضا وكان هو وأخوه الحاج عبد الله علي رضا من أكبر تجار مدينة جدة وأبرزهم وتعلم القراءة والكتابة في دار والده على أيدي بعض علماء عصره كما بدأ دراسته اللغة الإنجليزية والفارسية كذلك على أيدي من يعرفونها ممن يعملون في بيت والده التجارى وكان مجاله الطبيعى بعد هذا العلم المحدود أن يعمل في تجارة أبيه وعمه موظفا يتدرج في الأعمال

ص: 279

ويتمرن عليها حتى يستطيع أن يمسك زمام الأمور حين يشتد ساعده ولكن محمد علي زينل كان شغوفا بالعلم منذ الصغر وخاصة بعلوم الدين ولم يجد في مدينة جدة ما يشبع نهمته ويسد جوعته فاستأذن من أبيه في السفر إلى مصر والالتحاق بالجامع الأزهر وهو أكبر مصدر لتلقى علوم الدين في عصره، ولكن والده الذى كان يرغب في تهيئة ابنه للعمل التجارى له يوافق على هذه الرغبة، كما أنه كان راغبا في بقاء ابنه محمد على بجانبه وهو أكبر أبنائه ولكن حب محمد علي زينل للعلم والدراسة استحوذ على فكره وأخذ بمجامع قلبه فما هو الَّا أن حزم أمره وترك مدينة جدة دون علم والده، وذهب إلى مصر وبدأ الدراسة فعلا بالجامع الازهر. ولكن الحاج زينل الذى لم يطق فراق ابنه تبعه إلى مصر وأعاده إلى بلده، ورأى محمد على نفسه مرة أخرى في مدينة جدة وقد حيل بينه وبين ما يرغب من تعليم، رأى نفسه كما حدثنى رحمه الله في جدة وهو شاب في العشرين أو دونها وكان يصف حال العلم والتعليم في أوائل القرن الرابع عشر قال عن:

‌نشُوء فِكرة مَدارس الفلاح

" كان يقوم الجمَّال من مكة المكرمة بأحماله ومعه ورقه بها اسم الرجل الذى له البضاعة فيدخل من باب مكة إلى أن يصل إلى الخاسكية - قلب شارع الملك عبد العزيز الآن - فلا يجد من يحسن قراءة الورقة التي بيده إلى أن يُيسر الله من يقرأها بعد الجهد والتعب فيستدل على صاحب الأحمال وينزلها لديه قال وكانت في مدينة جدة كلها مدرسة واحدة هي - المدرسة الرشدية - كان موقعها أمام مسجد الباشا وقد هدمت بعد خرابها وتقرر إبقاء الأرض دون بناء توسعة للشارع - وكانت هذه المدرسة تعلم اللغة العربية بالتركية - كان هذا في أواخر العهد العثمانى - وحين انتشار حركة التتريك التي كانت تمارسها جمعية الاتحاد والترقى

ص: 280

التركية - قال الحاج محمد على وهالنى الأمر ووجدت أنه لا بد من عمل شئ لتغيير الحال وتعليم الأولاد القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة على الأقل ولم يكن مسموحا بافتتاح المدارس أو الكتاتيب في ذلك العهد، ولكن هذه العقبات جميعها لم تكن لتحول بين الرجل العظيم وما يريد قال فاستأجرنا مقعدا في بيت ذاكر بحارة الشام - المقعد هو المجلس الذى كان يوجد في مدخل كل بيت لاستقبال الرجال وجلوس صاحب المنزل به في ذلك الحين - واتفقنا مع أحد الفقهاء على تدريس الأولاد مبادئ القرآن الكريم والكتابة وتعليمهم صغار السور بين المغرب والعشاء قال الحاج محمد على وقد اخترنا هذا الوقت لنختفى عن عيون الدولة حيت لم يكن مصرَّحًا لنا بهذا العمل ولأوَّل مرةٍ وجدنا أن هناك مخاطر في خروج الأولاد للدراسة وعودتهم تحت جنح الظلام فاتفقت وأصدقائي عبد الرؤوف جمجوم ومحمد صالح جمجوم، ويحيى سليم ومحمد صالح نوار أن يذهب كل منا إلى منازل الأولاد (بعد الاتفاق مع آبائهم) لنأخذهم إلى هذه المدرسة الصغيرة ثم نعيدهم إلى منازلهم بعد انتهاء الدروس، وهكذا كان فكان هؤلاء الشبان وجميعهم في مطلع الشباب يذهبون إلى بيوت الأولاد لإِيصالهم إلى المدرسة ثم يعودون بهم بعد العشاء ليوصلوهم إلى أهليهم بأمان.

تخذوا الظلام إلى الضياء وسيلة

والفجر يولد في الدجى فيشيب

قال وكنا قد تقدمنا إلى الحاكم التركى بطلب التصريح لنا بافتتاح مكتب لتعليم القرآن الكريم وقد حصلنا أخيرا على هذا التصريح فأصبحت المدرسة تمارس نشاطها في وضح النهار وأخذنا نشجع الكثيرين على إرسال أولادهم إليها، وكان ما يأخذه الحاج محمد علي زينل من مرتب شهرى لقاء عمله في مكتب أبيه التجارى عشر روبيات

(1)

يذهب جميعه في نفقات هذه المدرسة

(1)

محمد علي زينل رضا لمؤلفه محمد أحمد الشاطري.

ص: 281

الصغيرة وبدأ يفكر في إيجاد موارد أكبر لتغطية نفقات المدرسة ومواجهة ما يحلم به من تكبيرها وتوسيع إغراضها ومن أهم ذلك إيجاد مبنى أكبر وأوسع، وفى ذلك الوقت عرض مبنى مدرسة الفلاح الحالى بباب مكة للبيع وكان هذا المبنى بموقعه وبنائه الحديث وكثرة غرفه هو أصلح مكان للمدرسة التي يحلم بها هذا الشاب العظيم".

‌تَبرُّع زَوجته بحُليِّها وَجَوَاهِرها

وأخذ الرجل يفكر في الطريقة التي يستطيع بها توفير المال اللازم وهو لا يملك منه شيئا وأخذت الفكرة بمجامع قلبه حتى أرقت جفنه وأقضت مضجعه ورأت زوجه - السيدة خديجة بنت عمه الحاج عبد الله علي رضا - ما هو عليه من تفكير فسألته عما يشغله فأسرَّ إليها بالأمر ولم يكن من هذه السيدة العظيمة الكريمة إلا أن قدمت كل ما تملك من مجوهرات وحلى لزوجها ليبيعه ويشترى به البناء المطلوب، وهكذا كانت هذه المكرمة العظيمة من تلك السيدة العظيمة سببا في شراء المبنى الكبير لمدرسة الفلاح في شهر شوال 1323 هـ

هبة تطوق كل أنثى عزة

أن كاثرتنا بالهبات وهوب

ولعله من المناسب هنا أن نذكر للتاريخ أن الجامعة المصرية - جامعة فؤاد الأول - أو جامعة القاهرة أخيرا حين تأسيسها كانت تفتقر إلى المال فتقدمت أحدى الأميرات المصريات إلى الجامعة بمصوغاتها ومجوهراتها فوهبتها للجامعة وقد أشادت الصحف المصرية إذا ذاك بهذا الحدث، نقول أن هبة السيدة خديجة بنت الحاج عبد الله علي رضا لشراء مدرسة الفلاح كانت قبل ذلك. وكان سبقها بهذه الهبة من الأعمال الجليلة التي تدل على سمو نفس صاحبتها جزاها الله خير الجزاء.

ص: 282

وبعد شراء مبنى المدرسة بدا لمحمد على جليا أن من الضرورى العمل على إيجاد موارد مالية كافية للمدرسة، فالمدرسة كل مدرسة كما هو معلوم كالمزرعة تبدأ فصلا واحدا ثم تنتهى إلى فصول عديدة بحسب تدرج قدرة الطلاب على الاستيعاب وهكذا قرر محمد على الهجرة إلى الهند طلبا لمجال أوسع من الرزق والعمل وسافر إلى الهند تاركا المدرسة في رعاية أصدقائه وزملائه وفى مقدمتهم الشابان عبد الرؤوف ومحمد صالح جمجوم وقد حدثنا الحاج محمد على شخصيا عن هذه الفترة، فترة البداية في مهجره بالهند قال كنت محتاجا إلى المال الذى ابدأ به العمل وكان صديقى يحيى سليم يعرف ذلك فحسَّن لوالده أن يرسل معى مبلغا من المال لأرسل لهم به بعض البضائع بعد وصولى إلى الهند قال محمد على وقد انتظر الشيخ سليم وقتا طويلا حتى وصلت إليه البضائع المطلوبة وكان ابنه يحيى سليم مطلعا على كل شئ.

‌ملك اللؤلؤ في العَالم

وفى الهند اشتغل محمد علي زينل بتجارة اللؤلؤ حيث كان يشترى اللآلئ في مواسم الغوص من الموانئ الخاصة بذلك وهي البحرين والكويت ودبى في الخليج ثم يصنف هذه اللآلئ حسب أحجامها بعد ثقبها وصقلها في عقود وأساور وحلقان ويبيعها حسب أصنافها وأحجامها في العواصم الأوربية العالمية فكان له مكتب في لندن وآخر في باريس بالإضافة إلى مكاتبه في بومباى بالهند وفى موانئ الخليج حتى أصبح من أشهر العاملين في هذا العمل وأطلق عليه ملك اللؤلؤ في العالم، وكان العهد العثمانى قد انتهى في الحجاز وبدأ العهد الهاشمى وتمكن محمد على بما أفاء الله عليه من خير من التوسع في التعليم بمدارس الفلاح فأسس مدرسة الفلاح بمكة المكرمة سنة 1330 هـ بعد مدرسة الفلاح في جده كما أسس

ص: 283

مدرسة الفلاح في بومباى سنة 1350 هـ ومدرسة الفلاح في عدن ومدرسة الفلاح في دبى سنة 1347 هـ ومدرسة الفلاح في البحرين وكان يزمع تأسيس مدرسة الفلاح في المدينة المنورة كذلك إلا أن ذلك لم يتم وقد حدثنى الشيخ محمد صالح جمجوم وكيل مدارس الفلاح في جدة ومكة أن مقدار ما كان ينفقه الحاج محمد علي زينل على المدرستين في مكة وجدة سنويا وصل إلى ثلاثة عشر ألف جنيه من الذهب، واستمر في هذا الإنفاق ما يقرب من ثلاثين عاما وحينما بدأ العهد السعودى في جدة كانت مدارس الفلاح تقريبا هي المدارس الوحيدة في مكة وجدة التي اشتهرت بحسن إدارتها وجودة برامجها التعليمية وكان متخرجوها هم الأساس الذى قام عليه بناء الإدارة الحكومية فكانوا يشكلون القسم الأكبر من موظفى الدولة كما كانوا يمسكون بالأعمال الكتابية في البيوت التجارية في المدينتين كما اشتغل الكثيرون منهم بالتدريس في مدارس الفلاح نفسها وفى المدارس الحكومية الأخرى في بداية العهد السعودى.

‌البعْثات التعليميّة

ولم يكتف الحاج محمد علي زينل بما تقوم به مدارس الفلاح في كل من مكة وجدة على علو برامج الدراسة فيهما في ذلك الزمان باختيار أجود المدرسين وأستقدامهم من مصر وسوريا بالإضافة إلى أفضل المدرسين الوطنيين فقد كان يفكر في إخراج جيل من الرجال المتعمقين في دراسة الإِسلام ليقوموا بأداء رسالة الإسلام الحقيقية في بلادهم ومن ثم عمد إلى اختيار أفضل المتخرجين من طلاب الفلاح وابتعثهم إلى الهند ليكونوا تحت إشرافه الخاص بعد أن أعدَّ لهم برنامجا

ص: 284

علميا حافلا واستقدم لهم أعظم المدرسين من البلاد الإسلامية وكان يهدف بذلك إلى إعداد جيل من الدعاة الإسلاميين الواعين لرسالة الإسلام وكان يغرى الطلاب بالاستمرار في الدراسة أو الابتعاث إلى الهند بترتيب مرتبات شهرية مغرية لهم وخاصة لمن يكون أهلوهم من ذوى الدخل المحدود وهكذا كانت هذه المرتبات الشهرية للطلبة ولأبائهم في السنوات الثلاث الأخيرة من الدراسة في الفلاح وهي السنوات العلمية كما أطلق عليها إذ ذاك وهي بعد الست سنوات العادية حافزا كبيرا للآباء لإِبقاء أبنائهم مستمرين في دراستهم كما كانت حافزا للموافقة على إرسال أبنائهم للاستزادة من العلم في بومباى في المدرسة التي أعدها الحاج محمد على هناك لهذه الغاية.

‌الدِّرَاسَة مجَانيَّة

ولست في حاجة لأن أقول إن الدراسة في مدارس الفلاح كانت مجانية لأبناء الفقراء والأغنياء على سواء ولم يكن يتكلف ولى أمر الطالب سوى شراء الكتب المدرسية في أول كل عام وكانت هذه الكتب تباع بأسعار زهيدة يسهل توفر ثمنها لكل إنسان.

‌انهِيَار تجَارة اللؤلؤ

وبينما كان الحاج محمد علي زينل يواصل جهوده العظيمة في حقل التعليم كما أسلفنا وينفق المال الكثير في هذا السبيل تعرضت أعمال هذا الرجل العظيم للانهيار بعد ظهور اللؤلؤ الصناعى اليابانى في الخمسينات من هذا القرن الهجرى وكان هذا الحدث بعد أن اشترى الحاج محمد على أكبر كميات من اللؤلؤ في مواسم الغوص من موانئ الخليج وهكذا وجد محمد على زينل نفسه بين يوم وليلة

ص: 285

يملك من اللآلئ الكثير الذى أنفق فيه الملايين ولكن هذه اللآلئ لا تشترى، فقد اتجه الناس إلى شراء اللؤلؤ اليابانى الزائف الرخيص والذى لا فارق بينه وبين اللآلئ الأصليه من ناحية النظر في شئ وتعرض الرجل لمصائب مالية تنوء بها العصبة أولو القوة ولو لم يكن الرجل على إيمان قوى بالله وعلى سمعة عالية لدى البنوك لكانت هذه المصاعب كافية للقضاء عليه ولكنه ثبت ثبات المؤمنين، وقال وقد سلمت كل ما لديَّ من لآلئ ومجوهرات إلى البنوك تأمينا لهم لقاء ما استدنته من أموال وكانوا يقدرون الموقف فصبروا حتى يجعل الله من بعد عسر يسرا.

‌تَوقُّف الصَّرف عَلى مَدَارس الفَلاح

وفى هذه الظروف البالغة السوء أنّى يستطيع الحاج محمد على زينل أن ينفق ما كان ينفقه على الفلاح، بل أنّى له أن ينفق أي شئ وقد بلغ به الأمر ما بلغ فاضطر الرجل العظيم آسفا أن يعلن ذلك للقائمين على شؤون الفلاح وكان لهذا الأمر أبلغ الأثر في نفوس الناس عامة.

‌الأُمَّة تَتَولى الصَرف عَلى الفَلاح

فقامت الأمة مجتمعة بما كان يقوم به فرد واحد هو الحاج محمد علي زينل رضا، وقد أجمع تجار مدينة جدة أن يتقدموا للدولة بفرض رسم مقداره قرش واحد على كل طرد يصل إلى ميناء جدة ويستوفى هذا القرش لصالح مدارس الفلاح، وكان الشيخ حمد السليمان الحمدان وكيل وزارة المالية مدعوا على العشاء بمنزل الشيخ عثمان باعثمان أحد أعيان جدة ومدير العين العزيزية فيما بعد - فتقدموا إليه

ص: 286

مجتمعين بهذا الطلب الذى وافق عليه في الحال وأصبحت حصيلة هذا الرسم تستوفى في جميع جمارك المملكة وتؤدى لمدارس الفلاح ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا القرش يضيفه التجار على تكلفة بضائعهم وهم يستردونه بطبيعة الحال ضمن هذه التكلفة حين البيع فهو ليس منحة من فئة معينة وإنما هو مشاركة عامة من الأمة كلها في الإنفاق على مدارس الفلاح.

‌الدَّوْلة تتولى تَغطية مَصَاريف الفَلاح

ولقد قامت الدولة فيما بعد مشكورة بتغطية مصاريف مدارس الفلاح في كل من مكة وجدة وأصبح هذا القرش الذى كان يستوفى باسم الفلاح عائدا لمصلحة التعليم كله باسم (قرش المدارس) لأن هذا القرش لم يعد يكفى لسد متطلبات الإنفاق على الفلاح بعد تطور التعليم فيها وتوسعه ليشمل المراحل الثلاث مثل مدارس وزارة المعارف وهكذا شملت الدولة أخيرا مدارس الفلاح برعايتها فأصبحت تعامل معاملة المدارس الحكومية سواء بسواء.

‌محمّد عَلي زيْنل لا يقبل التَبرُّع لِلفَلاح

ولعله من الخير ونحن نستعرض حياة الحاج محمد على زينل وتاريخ الفلاح أن نذكر هنا أنه كان لا يقبل تبرعا من أي إنسان، فحينما كان قادرا على الإنفاق أنشأ مدارس الفلاح وأنفق عليها من حرِّ ماله واستمر في هذا الإنفاق حتى عجز عنه تماما فتركه للأمة كلها تتولى الأمر نيابة عنه وهكذا كان ولقد حدث أن قدم الحاج محمد على زينل إلى الحجاز في إحدى زياراته المعتادة التي كانت تتم كل بضعة أعوام مرة، أقول قدم إلى الحجاز في الستينات وكانت مدارس الفلاح

ص: 287

معروضة للبيع في مكة المكرمة وكانت مدارس الفلاح تشغل مبنيين في القشاشية بمكة المكرمة قرب باب على - من أبواب المسجد الحرام - وكانت هذه المبانى مملوكة لأولاد الشريف على باشا أمير مكة الأسبق، وكان معلوما يومها أن ثمن هذين المبنيين هو مائة ألف ريال وإني أنقل هنا من كتابى حبات من عنقود ما سبق أن كتبته عن هذا الأمر قبل سنوات:

‌سَأَبْني رِجَالًا

(كنت عضوا في مجلس إدارة الشركة العربية للتوفير والاقتصاد بمكة المكرمة، وكان رئيس المجلس الصديق المرحوم الشيخ عبد الله باحمدين، وذات ليلة حضر إلينا الشيخ عبد الله في المجلس وقال هو بادى التأثر، لقد علمت اليوم أن البناية التي تشغلها مدرسة الفلاح بالقشاشية معروضة للبيع وأن ثمنها يبلغ مائة ألف ريال، وإننى لا أتصور ماذا يكون حال التلاميذ وحال المدرسة بعد أن تباع بنايتها؟ ثم استطرد قائلا ألا يوجد مائة شخص من خريجى مدارس الفلاح في مكة وجدة يستطيع كل منهم أن يدفع ألف ريال فيجمعون قيمة المدرسة ويقدمونها هدية للحاج محمد على زينل رئيس مدارس الفلاح الموجود حاليا بين ظهرانينا، قلنا إن ذلك واجب لا مناص منه وأن خير هدية تقدم للحاج محمد على وقد اعتذر عن قبول حفلات التكريم هي قيمة بناية هذه المدرسة التي غذَّاها بعقله وماله وجهده طوال ثلاثين عاما أو تزيد ثم قلت للمجتمعين، إن لدينا إلى جانب جمع التبرعات لشراء المدرسة وسائل أخرى بعضها في يدنا هنا في مجلس إدارة الشركة، فإن لدينا بندًا للأعمال الخيرية مخصصا له بموجب نظام الشركة خمسة في المائة من صافى أرباح الشركة سنويا، وفى يدنا أن نصدر قرارا في الحال باعتماد المخصص جميعه لمدارس الفلاح، كما أننا نستطيع أن نفعل مثل ذلك في الشركة العربية للسيارات وفى شركة الطبع والنشر، وكل منكم له صلة بهاتين

ص: 288

الشركتين من قريب أو بعيد، وإذا رغبتم فإنني سأشرح للشيخ محمد سرور وهو رئيس الشركات العربية جميعها الموقف كله وآخذ موافقته عليه، ونكون بهذا قد جمعنا قسما هاما من المبلغ المطلوب من أيسر طريق ثم نلجأ بعدها إلى جمع التبرعات، استحسن المجتمعون جميعا الفكرة ورحبوا بها وكلفونى أن أتحدث إلى الشيخ محمد سرور نيابة عنهم فيها، وأعددت تقريرا مفصلا أوضحت فيه المبالغ التي يمكن جمعها من الشركات العربية وشرحت فيه الأمر شرحا وافيا، وقدمته في اليوم التالى للشيخ محمد سرور وقرأ التقرير بإمعان ثم قال: إننى موافق على كل ما جاء في هذا التقرير، ولكن هل تحدثتم إلى الحاج محمد على وأخذتم موافقته؟ قلت: أننا نريد أخذ موافقتك أولا ثم نتحدث إليه، قال: إننى موافق فخذوا موافقته وأخبرونى، واتصلت بإخواننا في مجلس إدارة الشركة العربية للتوفير والاقتصاد وأخبرتهم بالأمر فقرروا انتدابى مع الأستاذ الشيخ عبد الوهاب آشى والأخ السيد هاشم زواوى لمقابلة الحاج محمد على زينل وأخذ موافقته على الأمر، وعهدنا إلى السيد هاشم بالاتصال بالحاج محمد على وتحديد موعد معه للمقابلة، واتصل بى السيد هاشم في اليوم التالى وقال: الاجتماع بعد صلاة الظهر مباشرة في بيت الآشى بالقشاشية، (هذا البيت هدم وأدخل ضمن التوسعة الأولى للمسجد الحرام) وذهبت إلى الموعد وبعد دقائق حضر الحاج محمد على وشرحت له الفكرة بحذافيرها، وأشرق وجه الرجل العظيم وتهلل وهو يستمع إلى ثم قال: لقد فكرت يوما من الأيام أن أشترى محلا كبيرًا هنا في القشاشية أشيد فيه بناء المدرسة وأحيطه بدكاكين تكون موردا للمدرسة نفسها، ولكن وقد حالت الظروف دون تحقيق هذا الطلب عزَّيت نفسى قائلا: إننى سأبنى رجالا، وإنى لأحمد الله تعالى أن جاء اليوم الذى رأيتكم فيه يا أبنائى، يا أبناء الفلاح تغارون على مدرستكم وتفكرون في شراء المبنى الذى يضم التلاميذ بعد أن علمتم أنه معروض للبيع وأنكم تخشون عليهم من الضياع .. ثم أردف

ص: 289

قائلا: أن أفكارى في الواقع تتلاقى معكم، وإننى هنا على اتصال بمالك الدار في هذا الشأن وأن لدى مبلغا أحضرته من الهند لهذه الغاية، هذا ولم أر في حياتى رجلا ساحر الحديث كالحاج محمد على زينل "مد الله في عمره" هذه الحلقة نشرت قبل وفاته رحمه الله، لم أجتمع إليه مرة إلا وانطوى الوقت وهو يتحدث وأنا أستمع، فلا نشعر بمرور الزمن ولا انقضاء الساعات، وظل يومها يتحدث عن مدارس الفلاح وكيف أنشأها وهو موظف في بيت أبيه بمرتب عشر روبيات في الشهر الواحد، وكيف كان وصحبه يأخذون التلاميذ من بيوت آبائهم بعد الغروب إلى المدرسة ثم يعيدونهم إلى دورهم في صدر الليل لأن الدراسة كانت في السر بعيدا عن أعين الدولة التركية ورقابتها، وكيف سافر إلى الهند طلبا لتدبير المال لهذه المدارس وكيف تبرعت زوجه بحليها لتساهم في شراء مدرسة الفلاح بجدة حينما عرضت للبيع ولم يكن يملك مالا لشرائها، واستمر يتحدث ونحن نستمع إليه مأخوذين ولم نشعر إلا وقد أذن للعصر ولم نتناول غداء ولم نفكر في راحة وانتبه الرجل العظيم فقال لقد أضعت عليكم وقتا كبيرا ولكنى سأجتمع إليكم مرة أخرى، قلت: ولكنى لم أسمع جوابا منك على اقتراحنا، أن الشيخ محمد سرور ينتظر موافقتك لنبدأ الخطوات الأولى للمشروع، قال: لا تفعلوا شيئا حتى أخبركم، وأردف سأتقابل مع الشيخ محمد سرور ثم اجتمع إليكم مرة أخرى، وانتظرنا وطال انتظارنا، وكلما قدم لزيارة الشيخ محمد سرور تعرَّضت له مذكِّرا فيعدنى بأنه سيخبر الشيخ محمد سرور بما يستقر عليه رأيه، وأخيرا سافر إلى جدة ومنها إلى الهند وسألت الشيخ محمد سرور ألم تتلق شيئا من الحاج محمد على؟ فقال في هدو كلا: ثم ابتسم وقال: أنك لا تعرف الحاج محمد على إنه لا يقبل تبرَّعا من أحد قلت: حتى ولا من أبناء الفلاح؟ قال لقد

ص: 290

خبرت بنفسك الأمر فلا داعى للجواب.

مد الله في عمر مؤسس الفلاح فلقد كان وما يزال بأخلاقه العالية وعصاميته الفذة وغيرته العظيمة مدرسة كبرى تبنى الرجال - (هذا ما نقلته من كتابى حبات من عنقود مما سبق نشره قبل سنوات في جريدة البلاد وهو مثل من أمثلة كثيرة تدل على أن محمد على زينل لا يقبل تبرعا من أى جهة كانت لمشاريعه العظيمة التي أسسها وحينما عجز هو عن الإنفاق على الفلاح لم يلجأ إلى جمع التبرعات وإنما ترك المدارس وديعة في يد الأمة كلها تحتضنها دون أن يتدخل في الأمر بصورة من الصُور وهو تصرف يدل على نفس عظيمة كريمة أبيَّة.

ولقد استطاع الرجل العظيم بمرور الزمن أن يتغلب على الأزمة العظيمة التي تعرض لها وأخذ يعمل في تجارة المجوهرات في نطاق محدود، وحيما علت سِنُّه أخذ يفكر في العودة إلى وطنه والاستقرار في الحجاز حيث تقيم أسرته الكبيرة وأحبابه الكثيرون، وكنت أراه في كل مرة يقدم فيها إلى الحجاز فأسأله عن موعد هذه العودة المرتقبة فيقول باق لى بالهند سنتان سنة تخليه وسنة تحليه، والذى ظهر لى أن ارتباطاته الكثيرة في الهند بعد أن قضى معظم عمره هناك لم تكن تسمح له بتركها. وقد علمت من شقيقته السيدة عائشة زينل التي زارته في السنوات الأخيرة من حياته أن بيته هناك كان مفتوحا للناس وخاصة للسيدات اللاتى لا عائل لهن، كما علمت أنه كان يساعد الحركات الإسلامية من ماله في صمت ما وسعه ذلك، وتعرض في أواخر حياته لمرض خطير سافر من أجله لال زينل بعد أن استقدموا له طبيبا من انجلترا لإِجراء جراحة عاجلة كللت بالنجاح ولم تمض فترة من الزمن بعد ذلك إلا وقد أدركته المنية في مدينة بومباى، وما أن علم جلالة المغفور له الملك فيصل بالأمر حتى أمر بإرسال طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى الحجاز ولكن الحاج محمد على رحمه الله أوصى أن يدفن حيث يقبض

ص: 291

فدفن في مدينة بومباي بالهند وقد تركت وفاته رنة حزن وأسى لدى كل عارفيه ونعته صحف الحجاز خاصة وكتب الكثيرون عنه رحمه الله رحمة الأبرار وكانت وفاته بتاريخ 2 شعبان 1389 هـ أحسن الله جزاءه وأسبغ عليه شآبيب رحمته ورضوانه فقد كان من أعظم الرجال ..

* * *

ص: 292

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 293

محمد عبد الصمد فدا

ص: 294

‌مُحَمَّد عَبْد الصَّمَد فِدَا

متوسط القامة معتدل الجسم أسمر اللون له لحية خفيفة يضع نظارة على عينيه ويرتدى العباءة والعقال.

ولد الأستاذ محمد فدا بمكة المكرمة عام 1343 هجرية وتلقى تعليمه في مدارس الفلاح بمكة المكرمة ثم ابتعث إلى مصر والتحق بكلية الشريعة بجامعة الأزهر متخصصا في القضاء وعاد منها إلى الحجاز عام 1370 للهجرة وعين عقب تخرجه قاضيا بمدينة رابغ إلا أنه كان يرغب العمل في سلك التعليم فاعتذر عن قبول الوظيفة التي أسندت إليه ومن ثم عين مدرسا بالمعهد العلمى السعودى أوائل عام 1371 هـ وحينما ظهرت مواهبه في التدريس عين في 1/ 11/ 72 هـ مديرا للمدرسة الرحمانية الثانوية وانتقل في 1/ 2/ 76 هـ إلى المدرسة العزيزية الثانوية مديرا لها ثم عين مستشارا بمكتب المستشارية لوزارة المعارف في 1/ 11/ 77 هـ إلى 1/ 5/ 78 هـ حيث اختير مديرا للمدرسة النموذجية بالطائف التي تحولت فيما بعد إلى مدرسة الثغر النموذجية بجدة.

ص: 295

‌المدرسَة النمُوذجيَّة بالطائِف

قام المرحوم إبراهيم أدهم وهو والد سعادة الأستاذ كمال أدهم بإنشاء المدرسة النموذجية بالطائف لغرض نبيل فقد أسست المدرسة في البداية لتكون مدرسة للأمراء وقام المرحوم إبراهيم أدهم باحتضان التلاميذ اليتامى في المدرسة المذكورة، لإِيوائهم وتعليمهم وسرعان ما أصح عدد هؤلاء التلاميذ اليتامى كبيرا وأصبحت العناية بالمدرسة المذكورة ضرورة حتمية فشملها برعايته صاحب السمو الملكى الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك - جلالة الملك فيصل فيما بعد - وحولها إلى مدرسة نموذجية ومن ثم اختير الأستاذ محمد عبد الصمد فدا رحمه الله مديرا لها لما عرف عنه من القدرة الإدارية الفائقة وقوة الشخصية إلى جانب مؤهلاته العلمية وخبرته السابقة في التعليم حوالى الثمانية أعوام ومنذ تولى الأستاذ محمد فدا إدارة المدرسة النموذجية بالطائف استطاع أن يكتسب ثقة جلالة الملك فيصل رحمه الله فاتخذ بتأييد من جلالته الإجراءات التي تكفل لهذه المدرسة أن تكون نموذجية فعلا لا اسما وقد رؤى إن تنتقل المدرسة إلى مدينة جدة ليكون الانتفاع بها شاملا لا يقتصر على سكان مدينة الطائف وحدها ولقد بدأت المدرسة النموذجية بالطائف تكتسب سمعتها الأولى فانتقل إليها بعض أبناء كبار رجالات مكة وخاصة من موظفى الدولة وحينما تم بناء المدرسة بجدة وإعدادها انتقلت المدرسة النموذجية إليها بكامل طلبتها وخصصت لها ميزانية ضخمة في كل عام وأطلق عليها اسم "مدرسة الثغر النموذجية".

وفى هذه الفترة عرفت المرحوم الأستاذ محمد فدا إداريا قديرا ومربيا عظيما. ورجلا قوى الشخصية لا يتهاون في تطبيق أنظمة المدرسة إزاء صغير أو كبير

ص: 296

فالطالب الذى يسقط في سنة من السنوات ولا ينجح في الملحق لا بقاء له بين صفوف طلاب الثغر وإنما ينتقل إلى مدرسة أخرى، والدراسة في المدرسة علمية في مرحلة التوجيهية فالطالب الذى لا يتفوق في المواد العلمية أو الذى لا يميل إليها لا بقاء له في المدرسة ولو كان متفوقا في المواد الأدبية ولن يشفع له قط أن يكون ابن أمير أو كبير ولن يشفع له كذلك أن يكون أبوه صديقا حميما لمحمد فدا بالذات، ولعله كان أشد ما يكون صرامة مع الطلاب من أبناء أصدقائه وذوى قرباه وعلامات الطالب تراقب في الاختبارات الشهرية وترسل نتائجها إلى آباء الطلاب وكنا نترقب هذه العلامات في كل شهر بقلوب واجفة خشية أن يكون أحد الأبناء مقصرا في بعض الدروس والويل لمن تأتى الشهادة الشهرية وفيها علامة حمراء فمعنى هذا أن الخطر على الأبواب.

وتحل المصيبة العظمى إذا أساء الطلاب أحدهم أو بعضهم سلوكه في المدرسة ولم يعترفوا بما اقترفوا ويدلوا على الفاعل هنالك ينتقل الأمر إلى آباء الطلاب وأولياء أمورهم وهناك ترسل الخطابات إلى هؤلاء الآباء بطلب الحضور وكنا نعرف أن المقابلة ستكون عاصفة وإننا لا نملك فيها الا التسليم بما يرتئيه الأستاذ فدا، وبهذه الوسائل كان البيت مرتبطا بالمدرسة أشد ارتباط وكان الآباء والأمهات على علم تام بأحوال أبنائهم الدراسية بل وبسلوكهم وأخلاقياتهم، وهكذا كان الأستاذ محمد فدا شخصية يحسب حسابها الجميع ويحبها الجميع أشد الحب، لأنهم يضعون بين يديه مستقبل أبنائهم ويعرفون أن هؤلاء الأبناء في يد أمينة كريمة.

ولتكتمل الصورة لدى القارئ عن هذه المدرسة أو المؤسسة العظيمة (مدارس الثغر النموذجية) لا بد أن نذكر أن المدرسة تضم قسما داخليا تهيئ

ص: 297

فيه للطلاب كل وسائل الراحة من المأكل والمضجع والتطبيب إلى مختلف النشاطات الرياضية التي تحفل بها برامج هذه المدارس وكذلك البرامج الاجتماعية والفنية وكان الاختيار لكل العاملين في هذه المدارس من مدرسين وعاملين في مختلف أعمال المدرسة وشؤونها يتم على أسس مؤهلات علمية وخبرات سابقة وكان الأستاذ محمد فدا يشرف على الكبيرة والصغيرة في شؤون هذه المدارس مواصلا الليل بالنهار في تقصى هذه الأمور لضمان سيرها على الوجه المطلوب وكانت الحفلة السنوية التي تقيمها المدرسة والتى تعرض فيها نشاطات الطلاب يتخللهما بعض البرامج التمثيلية الناجحة يدعى لها آباء الطلاب بل والأمراء والوزراء ويحضرها صاحب السمو الملكى الأمير فيصل ولى العهد - ولم ينقطع عن حضورها إلا بعد أن ولى العرش وأصبح وقته كله مشغولا بشؤون الدولة، نقول أن هذا الحفل السنوى كان أشبه بمظاهرة ثقافية يحرص الجميع على حضورها في كل عام.

وليس سرا أن مدارس الثغر النموذجية سبقت جميع المدارس إلى تقديم الوجبة الغذائية التي كانت إجبارية على جميع الطلاب والتى كانت غنية بأصناف الطعام ولقد سألت الأستاذ فدا رحمه الله لم لا تكون هذه الوجبة اختيارية؟ فقال حتى لا يشعر الطلاب الذين يحتاجون إليها بالفارق بينهم وبين زملائهم الذين يجدون مثلها في بيوتهم في كل يوم وليست هذه بأولى ملاحظات الأستاذ فدا بل ومحافظاته على شعور أبنائه من الطلاب وغرس روح المساواة بينهم، كما كانت مدارس الثغر أول مدرسة فما أعلم توحد زى الطلاب وهو إلزامي فيها، ولقد كان الأستاذ فدا يعرف قدرات طلابه ويرعاهم الرعاية الكاملة.

ص: 298

حدثنى مرة أنه يعرف طالبين من أنجب الطلاب في مكة المكرمة وكان يترقب لهما مستقبلا زاهرا إذا أتما دراستهما وكان يرغب أن ينقلهما إلى مدارس الثغر توطئة لابتعاثهما إلى الخارج ولكن والد الطالبين كان يعارض حتى في مجرد انتقالهما إلى جدة فضلا عن السفر إلى أمريكا وأوربا فما زال به حتى أقنعه وانتقل الطالبان فعلا إلى مدارس الثغر بجدة ولقد صحت نبوءة الأستاذ فدا رحمه الله حينما عاد أحد الطالبين مهندسا عظيما من الولايات المتحدة ولم يمض طويل وقت حتى أسند إليه منصب رئيسى في مجال عمله، بل أستطيع أن أقول أن معظم من عرفت من طلاب الثغر هم من أصحاب المكانة المرموقة فمنهم من أكمل الدراسة الجامعية إلى أقصى مراحلها وأصبحوا من الأساتذة المعروفين في الجامعات ومنهم من برز في ميدان الهندسة أو في الأعمال التجارية، والجميع يذكرون أستاذهم محمد فدا بالإِكبار والحب ولعلى لا أفشى سرا حينما أقول أن أبنائى وقد قرأوا ما أكتبه عن أعلام القرن الرابع عشر سألونى لماذا لا أكتب عن أستاذنا محمد فدا؟ ولقد أكبرت فيهم هذا الوفاء لأستاذهم العظيم ولم أكن له ناسيا فهو علم من أعلام هذه البلاد في مجاله يرحمه الله.

‌عُضْو جَامِعَة الملك عَبْد العَزيز

وفى رحاب مدرسة الثغر ولدت فكرة جامعة الملك عبد العزيز أو على الأصح ولدت الترتيبات الخاصة بها وكان المرحوم محمد فدا في رحلة في الخارج حينما ظهرت الفكرة ودعى الناس للاجتماع لانتخاب الهيئة التأسيسية للجامعة وكان المطلوب من الراغبين في عضوية هذه الهيئة ترشيح أنفسهم لها ولما كان الأستاذ محمد فدا

ص: 299

غائبا عن البلاد فقد ارتأت الهيئة التي تشرف على فكرة الجامعة أن يكون الأستاذ فدا من ضمن المرشحين لهذه العضوية فأعلن المرحوم السيد أحمد شطا اسمه كأحد المرشحين الذين لم يستطيعوا ترشيح أنفسهم لغيابهم وقد نال في هذا الانتخاب الكثير من الأصوات لما يتمتع به من سمعة طيبة ومقام ملحوظ، ولقد اختارت الهيئة التأسيسية للجامعة مدرسة الثغر مقرا لاجتماعاتها الأسبوعية والتى كانت حافلة بالجهود الكبيرة للتأسيس ولم تنقل منها إلا بعد أن تسلمت مبانى الجامعة التي قدمها لها المرحوم الشيخ عبد الله السلمان وتم إصلاح المبنى الأول فيها وهكذا ساهمت مدارس الثغر في احتضان فكرة الجامعة التي هي مفخرة من مفاخر مدينة جدة ومعلم من أكبر معالم النهضة في البلاد كما أن الحفل الذى نظم لجمع التبركات للجامعة أقيم كذلك في مسرح مدرسة الثغر بجده وحضره جلالة المغفور له الملك فيصل وتدفقت التبرعات السخية للجامعة في ذلك الحفل الكبير.

هذا وقد تفضل الأخ الأستاذ محمد سعيد طيب بزيارتى قبيل طبع هذا الكتاب وقدم لى قصاصات كان يحتفظ بها مما نشرته الصحف بعد وفاة المرحوم الصديق الأستاذ محمد فدا مدير مدارس الثغر النموذجية وتحدث إلى بمعلوماته عن الأستاذ فدا رحمه الله الذى كانت تربطه به زمالة الصداقة والعمل منذ فجر شبابه الباكر ولقد كنت حريصا دائما على إضافة معلومات الإِخوان الكرام إلى ما أكتبه في تراجم أعلام الحجاز وكنت ألجأ إلى أهليهم وأصدقائهم مستمدا ما لديهم من هذه المعلومات التي قد يكون بعضها بعيدا عنى، وحسنا فعل الأستاذ محمد سعيد طيب لأنه أتاح لى الاطلاع على أشياء جديدة كان من الواجب أن تضاف إلى ما كتبته عنه.

ص: 300

‌محَمّد فِدَا الشاعِر

إن أهم ما لفت نظرى فيما قدمه الأستاذ محمد سعيد طيب عن المرحوم الأستاذ محمد فدا أنه كان شاعرا مشرق الديباجة رائع المعانى والكلمات ولقد أورد المرحوم الأستاذ فؤاد شاكر بعض قصائده التي نظمها وألقاها في مناسبات معينه ذلك أن صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله الفيصل زار دار البعثات السعودية في مصر فاحتفل به الطلاب وكان محمد فدا أحد أعضاء البعثة فرحب بسموه بقصيدة شعرية قم دعا سموه أعضاء البعثة في رحلة ترفيهية إلى القناطر الخيريه فألقى محمد فدا كذلك قصيدة في هذه الرحلة وإننى أورد هنا بعضا من أبيات هذه القصائد التي أوردها المرحوم الأستاذ فؤاد شاكر الذى كان مشاركا في هذه الحفلات:

يقول في وصف مرابع القناطر الخيرية:

مشهد الحسن والخفر

فتنة الماء والزهر

معهد الفن والهوى

متعة الروح والبصر

يسعد العاشقون في

جوها الحالم العطر

ويخاطب الأمير الشاعر قائلا:

شاكر الحسن قف تز

ود لأيامك الأخر

واندفق يا فؤاد الشعر

نشوان وابتكر

واقتبس للقصيد من

رائد الفن والشعر

ص: 301

ومنها:

شاعر انت عندما

اخترت ذا الربع النضر

ومثال لفيصل

في طباع له غرر

والسؤال الذى ورد على ذهنى بعد قراءة ما أورده الأستاذ فؤاد شاكر هو أين ذهب شعر الأستاذ فدا؟ فمن المؤكد أن له قصائد أخرى كثيرة أو قليلة وقد عرف الناس محمد فدا خطيبا مفوها يعتلى المنبر فيرتجل من الكلام أحسنه غير مستعين بورقة مكتوبة أو بإعداد سابق - سوى الإِعداد الذهنى - إذا صح هذا التعبير كما أني علمت أنه كان لا يستسيغ الخطابة التي تعتمد على الأوراق المكتوبة أما اللحن اللغوى أو النحوى فإنه ينفر منه نفورا شديدا بل ويزدريه وكل هذا الذى ذكرته إنما يدل على أصالة الحاسة الأدبية وتمكنها وكل هذا يجعل ممارسة الشعر أمرا سهلا لمن توفرت له هذه الصفات ولئن استطاع الأستاذ محمد فدا أن يبعد الأنظار عنه كشاعر فلن يستطيع فيما أرى ألا يمارس نظم الشعر أو التدفق به في بعض المواقف لأن تجربتى في الشعر أنه يملى على الشاعر ما يقول وفى الوقت الذى تتجلى فيه الدوافع التي لا يملك الشاعر لها مقاومة أودفعا.

ولهذا فإن للشاعر محمد فدا أو يجب أن يكون له قصائد قليلة أو كثيرة ضمن محفوظاته وإن كان لم يظهرها للناس ولابد أن تكون كريماته وهن التقفات يعلمن كن هذا الأمر فلا أقل من إظهار هذه الآثار للنشر لتكون الصورة كن محمد فدا الشاعر مجلوة إلى جانب الجوانب الأخرى لهذه الشخصية الكريمة والعظيمة الصفات.

ص: 302

‌مَرضه وَوفَاته

في أحد اجتماعاتي بالأستاذ فدا بعد أن توثقت أواصر الصداقة بينى وبينه قال لى: إننى اقرأ ما تكتبه عن رحلاتك في الخارج وأود لو رافقتك في بعض هذه الرحلات فإننى أزور انكلترا ولكنى لا أعرف شيئا عن معالها السياحية فحركتى محدودة بين الطبيب والسفارة ومنازل بعض الأصدقاء إلى جانب جولات في شارع اكسفورد (استريت) الذى أنزل في أحد فنادقه بعد العشاء، قلت إننى مسافر هذا الصيف ورحلتى فيه تشمل مدنا في أواسط أوروبا وشمالها وإنه ليسعدنى كثيرا أن تكون رفيقى في هذه الرحلة وتواعدنا على الاجتماع في لندن وحضر رحمه الله في الموعد الذى عينه ونظمنا برنامج الرحلة بحيث نزور الدانمرك والمانيا وسويسرا معا وقبل سفرنا من لندن بثلاثة أيام حضر المرحوم الصديق الشيخ محمود عطار وكان معنا في لندن وقال لى أبلغ الأستاذ فدا أن الطبيب فلان يريد أن يراه فقد علم منى عرضا أنه هنا في لندن وهو يصر على ذلك وأبلغت الأستاذ فدا ما سمعت فوجم فألححت عليه أن يذهب طالما أن الأمر يتعلق بصحته فوافق وفى اليوم التالى قال لى وفى صوته رنة حزينة لا تنتظرنى فإنى سأطيل القام هنا حسب نصحية الطبيب وكنت أعلم عن مرضه فطمأنته وأعطيته أسماء الفنادق التي سأنزل بها وقلت له إننى سأتصل به فما بعد ومن مدينة ميونيخ بألمانيا اتصلت به وقلت له إنني سأكون موجودا في جنيف بعد ثلاثة أيام قال وستجدنى هناك وفى فندق مجاور للفندق الذى تنزل فيه وفى الموعد العين حضر وكان بادى الانشراح منبسط الأسارير وقضينا بضعة أيام في سويسرا نزور معالها كما نظمنا رحلة بالسيارة تشمل كثيرا من المدن السويسرية وتخترق بعض المدن الفرنسية وتناولنا الغداء في مدينة لوزان وخلال جلسة الغداء أدهشنى الأستاذ فدا

ص: 303

بمحفوظاته من الشعر وقد أسمعنى قصائد قديمة من الشعر الغزلى نشرت لى في الخمسينات فأدركت أن للرجل ذوقا أدبيا إلى جانب شخصيته الحازمة في التربية والتعليم. ثم اقترب موعد عودتنا إلى الملكة فافترقنا على أمل أن نجتمع مرة أخرى في الصيف القادم وقد صمت فجأة ثم قال يبدو لى أنه ليس في عمرى بقية لرحلة أخرى أننى اقترب من النهاية قلت اتق الله يا رجل فإِنك في خير حال وفى الصيف التالى قال إننى قررت الذهاب هذه المرة إلى أمريكا فإِنى لم أزرها من قبل فتمنيت له كل خير وقلت له إن الطب هناك متقدم كثيرا عنه في انكلترا التي تزورها دائما لهذه الغاية.

وسافر إلى أمريكا وما لبثنا أن علمنا أنه أدخل المستشفى ثم اشتد عليه المرض فكان هناك يتنفس في خيمة من الأوكسيجين وأن صحته تتداعى ومع ذلك فقد أصر على أن تعود زوجته وبناته إلى جدة للالتحاق بمدارسهن حيت كان موعد افتتاح المدارس قد أزف وفى مساء الخميس 11/ 7/ 1385 هـ أسلم الروح بمدينة واشنطن في أمريكا ونقل جثمانه بالطائرة حيث دفن بمقبرة العلاة بمكة المكرمة مساء الثلاثاء 16/ 7/ 1385 هـ في مشهد مهيب اشترك فيه أصدقاؤه وطلابه رحمه الله فلقد كان مربيا قديرا وأستاذا عظيما تغمده الله برحماته وأحسن جزاءه في جنات الخلود.

* * *

ص: 304

أعلامُ الحجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة

ص: 305

الشيخ محمد ماجد الكردي

ص: 306

‌الشَّيخ مُحَمَّد مَاجِد كرْدِي

ولد الشيخ محمد ماجد بن صالح كردى بمكة المكرمة عام 1294 للهجرة وتلقى العلم على أيدى علماء مكة المكرمة في عصره وحفظ القرآن الكريم وكان شغوفا بالعلم والدراسة منذ نعومة أظفاره كما كان شغوفًا بالقراءة فكان يقتنى الكتب المطبوعة والمخطوطة ومما لا شك فيه أن رغبته الصادقة في التزود من المعرفة هي التي هيأته لجمع هذه المجموعة العظيمة من الكتب مع ما وهبه الله من ثراء يسَّر له شراء الكتب المخطوطة والمطبوعة وضمها إلى مكتبته العظيمة قالوا: وكانت مكتبة الشيخ ماجد كردى في مكة المكرمة تعتبر أكبر وأغنى مكتبة خاصة بما تحويه من مجموعات قيَّمة في التفاسير والأحاديث النبوية وكتب الفقه واللغة ودواوين الشعر وكتب التراث وكانت تمتاز بالمخطوطات النفيسة النادرة التي تضمها هذه الكتبة القيِّمة، وكان الشيخ ماجد كردى على اتصال بأصحاب المكتبات وعشاق الكتب في جميع أنحاء العالم الإسلامى فكان يستورد كل جديد ونادر من الكتب المخطوطة والمطبوعة ويضمها إلى مكتبته الفريدة القيمة والتى أطلق عليها اسم الكتبة الماجدية.

ص: 307

‌المطبعَة المَاجديَّة

وكان الشيخ ماجد كردى من أوائل الناس الذين فكروا في تأسيس المطابع في الحجاز وفى مكة بصورة خاصة وله بحت قيم عن تاريخ المطابع نشر بجريدة أم القرى وكتب عنه كتابة مطولة الأستاذ عثمان حافظ في كتابه نشأة الصحافة وتطورها في الملكة العربية السعودية.

نعم لقد رأى الشيخ ماجد كردى بما وهبه الله من بصيرة نافذة أن نشر العلم يجب أن يستند إلى وسائل تتيح تعميمه وتيسيره للناس ولما كان الكتاب هو وسيلة نشر العلم وكانت الكتب في الماضي تعتمد على نسخ النساخ أو نسخ طلبة العلم أنفسهم فإن هذه الوسيلة البطيئة لم تعد قادرة على إشباع نهمة الطلاب الذين يتكاثرون وخاصة مع انتشار المدارس وتكاثر عدد الطلاب فقام أولًا بشراء مطبعة شمس الحقيقة الموجودة بمكة والمؤسسة عام 1327 هـ ولكنه وجد أن هذه المطبعة قديمة ولا تقوم بإنجاز ما كان يطمح إليه، فاستورد المطبعة الماجدية إلى مكة المكرمة، حدثنى ابنه الشيخ عادل ماجد كردى كضو مجلس الشورى قال حينما قام الوالد باستيراد المطبعة الماجدية واجه صعوبات جمة في نقلها إلى مكة المكرمة فإِن الأجهزة التي تتألف منها الطبعة ثقيلة الحجم ولم تكن هناك السيارات ولا الرافعات فإِن عصر السيارة لم يكن قد حان في الحجاز ولم تكن هناك وسيلة للنقل سوى الجمال والخيل والبغال فاختار الوالد أن تكون البغال هي وسيلة النقل إلى مكة لما تتمتع به من قوة على حمل الأثقال، ومع ذلك فإِن حجم الطبعة كان أثقل من أن تتحمله البغال في طريق صحراوى رملى غير معبد، فكانت البغال تنوء بحملها الثقيل وبعضها بضعف عن مواصلة الحمل والبعض الآخر ينفق

ص: 308

تحت وطأة هذه الحمولة الثقيلة فتستبدل البغال بغيرها وهكذا تم النقل على مراحل وفى عناء شديد ولولا رغبة الوالد الشديدة في إنشاء الطبعة بمكة المكرمة لكانت هذه الصعوبات كافية في إثنائه كما يريد، ولكن همم الرجال لا تقف أمام العقبات وإنما تتخطاها وتذللها وهكذا كان الشيخ ماجد كردى بهمته العظيمة وبحبه الكبير لنشر العلم مثالا فريدا في قوة الإرادة وفى البذل لبلوغ الهدف الذى يريد، ولم تقف العقبات عند وصول المطابع إلى مكة المكرمة وتركيبها فكان لابد من توافر الأيدى الفنية لتشغيل هذه المطابع وكان الطبع في ذلك الوقت يعتمد على صف الحروف التي تسبك سباكة مستقلة، ولم يكن قد عرف (اليونوتيب) وما إليه من أجهزة الصف الحديثة فكان جمع الحروف وتوضيبها يتم باليد، تصنف الحروف المسبوكة سابقا في أدراج معينة في الطبعة ويجمعها عمال الصف في سطور بطريقة معلومة لعدم تداخل الحروف في بعضها فاستقدم الشيخ ماجد عمالا لهذه الغاية وأمر أولاده أن يتعلموا كيف يقومون بصفِّ الحروف وبإدارة آلات المطابع كلها وكل ما يتعلق بها موفرا لمطبعته الاكتفاء الذاتى حتى لا تتعطل عن العمل، قال الشيخ عادل فكنا نعمل في المطبعة بأيدينا عمال صف وطبع ولم يأنف ماجد كردى أن يكون أولاده عمال صف وطبع وهو من هو في ثرائه ومكانته الاجتماعية الكبيرة بل رأى أن هذا العمل هو نوع من حسن التربية للأولاد الذين أمرهم من قبل بحفظ القرآن الكريم على عادة الكثيرين من أهل مكة المكرمة في ذلك الزمان وهكذا أنشأ الشيخ ماجد كردى الطبعة الماجدية. وهكذا كنا في مقاعد الدراسة في ذلك الزمان نجد بين أيدينا كتب الفقه.

والحديث والتاريخ والتجويد والنحو وما إليها وقد كتب على غلافها (طبع بالمطبعة الماجدية بمكة المكرمة) وهذا هو المجد الذى حققه ماجد كردى رحمه الله

ص: 309

إذ يسَّر لمدارس الحجاز حاجتها من الكتب المدرسية فلا تتعطل الدراسة انتظارا لوصول الكتب من الخارج وإنما هي مطبوعة في مكة المكرمة وموجودة بين أيدى المدرسين والطلاب في الموعد الصحيح ولم تقتصر الطبعة الماجدية على طبع الكتب المدرسية وإنما كانت تقوم كذلك بطبع المطبوعات التجارية والكتب الأخرى ومن أهم ما طبعته كتاب تاريخ مكة للأزرقى في مجلدين وهو من أقدم وأهم كتب التراث قام بتحقيقه الأستاذ رشدى ملحس رحمه الله وكان يعمل بجريدة أم القرى في مكة المكرمة في أواخر الأربعينات، وهكذا أنشأ ماجد كردى رحمه الله بمكتبته العظيمة ومطبعته منارة لنشر العلم في بلد الله الحرام وبذل في سبيل ذلك من المال والجهد ما جعله علما من الأعلام.

‌بَيت الكردي في القرارة

ولن يتم الحديث كن الشيخ ماجد كردى إلا إذا المحنا بشئ عن أخلاقه الشخصية فلقد كان الرجل طالب علم محبا للعلماء وكان بيته في مكة المكرمة بالقرارة مفتوحا للناس وخاصة للعلماء ورجال الدين والمقرئين من حجاج بيت الله الحرام وكان الرجل بحكم صلته العلمية بالعلماء محط الأنظار فكان يستضيف العلماء ورجال الدين وأعلام الأدب الذين يصلون إلى مكة المكرمة من جميع أنحاء العالم الإِسلامى فيجدون في داره حسن الضيافة وطيب المقام، وكانت هذه الدار علاوة على ما توفره لمن تستضيفهم تعتبر منتدى علميا وأدبيا في موسم الحج خاصة، فتعقد فيها الندوات يستمع الناس فيها إلى قراءة القرآن الكريم من مقرئين أصواتهم حسنة، وإلى تفسير للآيات من عالم بالتفسير وإلى أبحاث دينية وعلمية يسهم فيها أصحاب الاختصاص من الحاضرين كما يلقى فيها

ص: 310

الشعر ويتبارى فيها الأدباء وأصحاب الفكر فهى منتدى حافل بكل طريف ومفيد وكان الشيخ ماجد يحرص على أن يوفر للقادمين إلى هذا النادى ما يحببه إليهم من حسن الضيافة وكرمها وجميل الاستقبال والترحيب.

‌دَار الكُردي بمُنى

وللتاريخ فإن دار الشيخ ماجد كردى بمنى حتى بعد وفاته رحمه الله كانت تؤدى نفس الغاية ولكن على نطاق أكبر فكان يعقد فيها في ليالى التشريق هذه الندوات ومن أشهرها الندوة الخطابية التي بقيمها شباب مكة المكرمة وأدباؤها في كل عام للوافدين من حجاج بيت الله الحرام وكان كل من قدم من أعلام الرجال للحج يحضر هذه الندوة وقد شهدت الدكتور محمد حسين هيكل مؤلف الكتب الإسلامية الشهيرة في منزل الوحى وغيره يحضرها ويخطب فيها كما شهدت زعيم فلسطين الحاج محمد أمين الحسينى رحمه الله حضر فيها ومعه زعيم لبنان المرحوم رياض الصلح وقد طلب الحاضرون منهما الخطابة فألقى الحاج محمد أمين الحسينى كلمة فيها كما كانت للمرشد العالم للإِخوان المسلمين الشيخ حسن البنا رحمه الله فيها مواقف خطابية شهيرة كل عام، ولقد كانت الدار على رحبها تضيق بالمئات من الناس الذين يؤمونها في تلك الليلة المشهودة وإنى لأذكر أن هناك مَنَصَّةً في رحبة الدار ناءت بما تحمله من الناس، وكانت من الخشب فتكسرت ولم تحدث أى أضرار وكان الشيخ حامد الفقى رئيس جماعة أنصار السنة حاضرًا في تلك الليلة ففام وطلب التبرع لإِصلاح الدار ولكن سارع الشيخ كامل ماجد كردى أكبر أبناء المرحوم ماجد كردى إلى القول بأن أصحاب الدار يشكرون له وللحاضرين هذا الشعور ولكنهم بحمد الله قادرون على

ص: 311

إصلاح ما تضرر ويعتذرون عن قبول التبرع، قال هذا الدكتور محمد علي الشواف رحمه الله بلسان الشيخ كامل كردى وإخوانه وهكذا فإن حسنات الشيخ ماجد كردى امتدت إلى ما بعد وفاته فقد سار أبناؤه ما أمكنهم في الطريق الذى رسمه لهم والدهم العظيم.

‌مَصير المطبعَة

هذا وقد أدركت المطبعة الماجدية يديرها الشيخ طاهر كردى ابن الشيخ ماجد كردى رحمه الله في مكة المكرمة في الخمسينات وعهدى بها أنها استمرت بعد ذلك ولكنى لا أدرى ماذا تم فيها بعد ذلك وبعد التطور الكبير الذى أدخل على المطابع وانشغال أبناء الشيخ ماجد بالعمل الحكومى ووفاة البعض الآخر فقد كان الشيخ صادق ماجد كردى مديرا لدار البعثات السعودية بالإسكندرية لفترة طويلة كما أن الشيخ عادل ماجد كردى هو عضو مجلس الشورى في الوقت الحاضر هذا بالنسبة للمطبعة أما المكتبة فكما قدمنا أنها كانت تضم نوادر المخطوطات إلى جانب ما تحويه من الكتب المطبوعة القيمة في شتى العلوم والفنون ولعل الشيخ عادل كردى يتحدث إلينا عما آل إليه أمر هذه المكتبة الفريدة في زمانها فإِذا كانت المطابع قد فقدت قيمتها بما جدَّ من فنون الطباعة الحديثة وآلاتها فإِن الكتب والمخطوط منها لا تفقد قيمتها وإنما تزيد على الأيام

(1)

.

(1)

لقد تم نقل هذه المكتبة إلى دار الكتب التي أنشأها المرحوم الشيخ عباس قطان في موقع الدار التي ولد فيها التي صلى الله عليه وسلم راجع ترجمة الشيخ عباس قطان ..

ص: 312

‌وظائف الشيّخ ماجد كردي

وفى أوائل العهد السعودى عين الشيخ ماجد كردى مديرا للمعارف تقديرا لعلمه وفضله ثم أسندت إليه مديرية الأوقاف العامة بمكة المكرمة وفى عهد إدارته للمعارف تم إرسال أول بعثة علمية من أبناء المملكة للدراسة في معاهد مصر ومدارسها وكان هذا في الأربعينات من هذا القرن.

‌وفاة الشيخ ماجِد كردي

الحجاج على صعيد عرفات في يوم التاسع من ذى الحجة ومخيم الشيخ ماجد كردى في عرفات يغص بالوافدين من ضيوف الرحمن الذين يستضيفهم كل عام والجو عاطر بالتلبية والناس يضجون بالدعاء والكل مبتهل إلى الله سعيد في ضيافه الرحمن والشيخ ماجد كردى في لباس الإِحرام الأبيض يتفقد راحة ضيوفه من الحجاج وهو في أكمل صحة ولكن الله تعالى أراد له حسن الختام فاختاره إلى جواره في هذا اليوم العظيم وفي ذلك المشهد العظيم وهو في لباس الإِحرام فدفن حاجا محرما ملبيا في عرفات وكان هذا في التاسع من ذى الحجة 1349 هـ وهو في الخامسة والخمسين من العمر فكانت لوفاته رنة حزن وأسى في جميع أنحاء البلاد ولدى عار في فضله في جميع أنحاء العالم الإِسلامي، تغمده الله برحمته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود فلقد كان واحدا من أفذاذ الرجال ..

* * *

ص: 313

محمد الطويل

ص: 314

‌مُحَمَّد الطَّويل

قصير القامة، معتدل الجسم، أشقر الوجه واللحية، أزرق العينين، أقنى الأنف، أصلع الرأس، أنيق اللبس، كان يرتدى الجبة والعمامة الحجازية، ثم تحول عنها إلى العباءة والعقال، ذو سمت وهيبه، وقد استحوذ بكرمه وهمته على قلوب الناس فكان زعيما محبوبا، كما نال ثقة الحكام فكان رجل الدولة في العهد الهاشمى، وأحد كبار الرجال الذين تسند إليهم المهام في عهد جلالة المغفور له الملك عبد العزيز.

لم أستطع الحصول على تحديد دقيق لولادة المرحوم الشيخ محمد الطويل وكل ما نستطيع أن نذكره أنه ولد في أوائل القرن الرابع عشر الهجرى وكان في مطلع شبابه موظفا بدائرة الجمارك في جدة في العهد العثمانى، وحينما قام الغفور له الملك حسين بن علي بالثورة على الحكومة العثمانية عام 1334 هـ كان الشيخ محمد الطويل من أبرز الرجال الذين نالوا ثقته فكان ناظرا لعموم الرسوم في جدة، وقد أطلق عليه لقب الناظر - نسبة إلى هذا المنصب الرفيع إذ ذاك، وكانت موارد الدولة الهاشمية في ذلك الوقت تعتمد على الرسوم الجمركية وكان جمرك جدة الذى يتولى رئاسته الشيخ محمد الطويل هو أهم موارد الدولة لأن جدة

ص: 315

كانت ولا تزال أكبر موانئ الحجاز، وكان مقر الحكومة في مكة، ولكن الموارد كلها تأتى من جدة سواء من الرسوم الجمركية التي تمثل القسم الأعظم من هذه الموارد، أو من الضرائب التي كانت تجبى على وسائل النقل التي تتمثل في الجمال سواء ما كان منها خاصا بنقل البضائع أو الحجاج، وكان الشيخ محمد الطويل أشبه ما يكون بوزير كبير في عهد الدولة الهاشمية فإنى جانب رئاسته للواردات المالية الضخمة، كان يتولى تموين الحكومة بما تحتاجه من أرزاق ومستلزمات وكان الشيخ محمد الطويل بحكم منصبه الكبير وجاهه العظيم مقصودًا من الناس، وكان الرجل كريما عالى الهمة شهما ذا نجدة ومروءة فكان بيته مفتوحا للناس ويده مبسوطة لهم ورفده موصولا لكل طالب، فأحبه الناس وتعلقوا به، والتفوا حوله، ولم يكن يبذل للناس من ماله فحسب وإنما كان يبذل لهم من جاهه كذلك، حدثنى من أثق بروايته أن الشيخ محمد الطويل كان يتوجه إلى مكة لمقابلة الشريف حسين بن علي بين وقت وآخر حسب متطلبات منصبه. وكان أهل مكة يترقبون مقدمه حيت ينزل في بيت باناجه - في باب علي - هذا البيت هدم وأدخل مع غيره في التوسعة الجديدة للمسجد الحرام فإِذا قدم وفدوا عليه بحاجاتهم وكان أكثر هذه الحاجات طلب وساطته لدى الشريف للعفو عن الغرامات وإطلاق المساجين وكان الشريف الحسين رحمه الله مشهورا بصرامته وشدته في هذه الأحكام، وفى إحدى زياراته لمكة تجمع لديه حصيلة من هذه الوساطات فجمع أوراقها وكتب معها رقعة موجهة للشريف قال فيها ما معناه - إن ما حبانى به جلالتكم من عطفه وما شرفنى به من خدمته جعلنى مقصدا للناس ومحل حسن ظنهم وإنى أقدم لجلالتكم ما قدم به على الناس من مطالب فإن رأيتم أن تكرمونى بالعفو عنهم فليس هو بكثير على جلالتكم قال الراوي وقد استجاب الشريف لهذا الطلب فأطلق المسجونين وعفى عن الغارمين "وفى عام

ص: 316

1342 هـ هاجر الكثيرون من أهل مكة إلى جدة بعد أن دخل الجيش السعودي مدينة الطائف، ولم تكن هذه الهجرة منظمة فكان الناس يفدون بعائلاتهم وينزلون في بيوت من يعرفون من أهالى جدة ولكن البعض لم يكونوا يعرفون أحدا، كما أن منهم من كانت تنقصه وسائل النقل فكان البعض منهم يفد ماشيا أو يستعمل وسائل غير مريحة وما أن علم الشيخ محمد الطويل بذلك حتى استنفر الرجال لاستقبال القادمين من مكة في ضاحية الرغامة وزود المكان بالماء والدواب والأغطية ثم تولى أسكان القادمين وإنزالهم في بيوت الأهالى الذين كانوا يتسارعون إلى تلبية نداء النجدة والمروءة.

وقبيل نهاية الحرب السعودية الهاشمية هاجر الشيخ محمد الطويل بعائلته إلى مدينة اسمرا وقد أوشكت الحرب على النهاية وبدا أن البلاد كلها ستدين بولائها لجلالة المغفور له الملك عبد العزيز وكان الطويل بوصفه من أكبر رجالات العهد السابق يخشى أن يكون لهذا الأمر تأثير عليه في العهد الجديد فبقى خارج البلاد حتى أذن المغفور له الملك عبد العزيز بالعودة إلى وطنه فعاد إلى مدينة جدة مكرما آمنا على نفسه وماله

(1)

وكانت عودته مقترنة بدخول السيارات إلى الحجاز فقد كان الشريف حسين يحرم دخولها واستعمالها ويصر على استعمال الجمل كوسيلة للنقل سواء للحجاج أو البضائع واجتمع لفيف من تجار جدة وكلهم من أصدقاء المرحوم الشيخ محمد الطويل وألفوا شركة للسيارات سميت (شركة القناعة للسيارات) وعينوا الشيخ محمد الطويل رئيسا لها وخصص له مرتب شهرى مقداره ستون جنيها ذهبا في الشهر، وكان هذا المرتب كبيرا جدا في ذلك الحين،

(1)

لقد علمت فيما بعد أن الشيخ محمد الطويل كان ممن بايعوا جلالة الملك عبد العزيز بعد تسليم جدة ويبدو أن الشيخ محمد الطويل سافر مرة أخرى إلى مصر بعد أن دانت البلاد لجلالة الملك عبد العزيز رحمه الله انظر ترجمة الشيخ محد صالح أبو زناده.

ص: 317

وكان معروفا أن الغرض من ذلك هو تكريم الشيخ محمد الطويل وتأمين كفايته من المال حتى لا تتغير عليه الأمور والأحوال، ثم استقدمه جلالة الملك عبد العزير إلى الرياض وأبقاه فترة ثم ما لبث أن أذن له بالعودة إلى جدة مع موكب جلالته واستقبله الناس استقبالا عظيما وعاد مرة أخرى إلى عمله في رئاسة شركة القناعة للسيارات، وفى شركة القناعة للسيارات اتصلت أسبابي بأسباب الرحوم الشيخ محمد الطويل فقد كنت كاتبا بإدارة حسابات الشركة وكان هو رئيسها وقد أتاح لي ذلك الاطلاع على جانب من كرم الرجل إذ كانت ترد إلى الرقع بخطه الجميل يمنح بها أصحاب الحاجات من مرتبه حتى أنه أصبح بعد فترة من الزمن مدينا للشركة بمبلغ كبير من المال.

ولم تطل الأيام بالشيخ محمد الطويل في شركة القناعة للسيارات فقد اختاره جلالة الملك عبد العزيز لإِدارة جمارك وماليات الإِحساء والمنطقة الشرقية، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله ذا فراسة في الرجال وهكذا قام الشيخ محمد الطويل بتأسيس الجمارك ووضع الأسس لتنظيم الأموال وكان يفد كل عام إلى جدة لزيارة أهله فيفد الناس للسلام عليه وتمتلئ داره بالمهنئين والزائرين طيلة بقائه حتى يعود، ومضت سنوات ثم اختاره جلالة الملك عبد العزيز ليكون مستشارا له ضمن مجلس المستشارين الذى كان يسمى مجلس الربع ولكن الشيخ محمد الطويل ما لبث أن استأذن من جلالة الملك عبد العزيز طالبا السماح له بتأسيس شركة نجد للسيارات وحصل على امتياز للشركة بالنقل بين الحجاز ونجد وقام فعلا بتأسيس الشركة المذكورة ولكنها ولدت ضعيفة فلم يكتب لها البقاء إذ كان مساهموها من أصحاب السيارات الذين لم ينضموا إلى الشركة العربية للسيارات حين توحيدها ولم تتوفر لها الإِمكانيات المالية والادارية التي تضمن

ص: 318

حسن سيرها فتمت تصفيتها، وعاد الشيخ محمد الطويل إلى جدة وقد خلا من كل عمل حكومى أو أهلى، ولكنه أشغل نفسه بخدمة الناس، فقد فتح بيته لاستقبال أصحاب الحاجات وخاصة من الأرامل الضعيفات فكان بيته يؤوى الكثيرات منهن، وكان يستقل سيارته كل صباح إلى مختلف الدوائر الحكومية ليقضى حوائج الناس، فكان هو لسان من لا يستطيعون إيصال أصواتهم إلى رؤساء الدوائر من عائلة فقدت عائلها وتعثرت أوراق المتوفى بين أدراج الوظفين أو بين براثن الروتين وكثيرا ما سعى إلى إطلاق السجين وإغاثة الملهوف، أما الأرامل الضعيفات فقد نصب من نفسه مدافعا عنهن وكثيرا ما تحول بيته إلى محكمة صغيرة يستعين فيها بمن يختار من الناس فيحل الكثير من المشكلات العائلية المستعصية بإصلاح ذات البين أو الفراق بإِحسان، وكان يستخدم ماله الخاص في هذا السبيل، حتى أصبحت هذه الشؤون مشغلة له طيلة النهار وصدرا من الليل، وحتى أصبح من المعتاد أن يرى ضحى كل يوم وهو يؤم الدوائر الحكومية فينجز أمور الناس ويقضى حوائجهم حيث كان يقابل دائما بالترحيب والإكبار.

ونشب المرض العضال في دم الرجل الكبير فتوجه للاستشفاء بمدينة فينا بالنمسا وصاحبه إلى هناك بعض محبيه وأدركته المنيه غريبا عن وطنه فقد صرعه الداء ونعته الصحافة فتدفق الناس على منزله يعزون ابنه الأستاذ يوسف الطويل وبنتيه السيدتين نور وانجى الطويل وطال انتظار الناس لوصول الجثمان فكانوا يترددون يوميا للاستفسار عن موضد وصوله مما اضطر ابنه الأستاذ يوسف الطويل إلى نشر ما يرده من أنباء في الصحف يوميا وأخيرا وصل الجثمان وكان أهل جدة جميعا يشتركون في تشييع الرجل العظيم مما جعلهم يصلون عليه في الخلاء أمام

ص: 319

الثكنة العسكرية في جدة قريبا من مقبرة حواء التي استقر بها جثمانه بعد طول سعى في الخير، وبعد عمل دائب في خدمة الناس وكانت وفاته في ليلة الخميس 27 ربيع أول سنة 1381 هـ بالنمسا ودفن بمدينة جدة بتاريخ 4 ربيع ثانى ستة 1381 هـ تغمده الله برحمته الواسعه وأحسن ثوابه في جنات الخلود.

ص: 320

أعْلامُ الحجَاز في القرن الربع عشر للهجرة

ص: 321

الشيخ عبد الرؤف الصبان

ص: 322

‌الشَّيْخ عَبد الرَّؤُوف الصَّبان

قصير القامة، ممتلئ الجسم، حنطى اللون، له عينان صغيرتان يضع عليهما نظارة طبية، كان يرتدى الجبة والعمامة الحجازية في العهد الهاشمى، تم أصبح يرتدى العباءة العربية والعقال بعد عودته إلى المملكة مع من عاد إليها من الحجازيين الذين غادروا البلاد في أعقاب الحرب السعودية الهاشمية.

ولد الشيخ عبد الرؤوف الصبان بمكة المكرمة كام 1316 هجرية وهو هن أسرة الصبان التي كانت طائلة الثراء في ذلك الوقت وكانت تتخصص في تجارة الجلود فتجمعها من جميع أنحاء البلاد وتصدرها إلى عدن بعد دبغها دباغة ابتدائية وكان فريق من آل الصبان يسكنون القاهرة وكانوا يعملون في أعمال المواصلات بالعربات التي تقودها الخيول قبل دخول الترام وانتشار السيارات وكانت معروفة بخطوط الصبان ثم توقفت بعد دخول الوسائل الحديثة في النقل إلى القاهرة.

تلقى الشيخ عبد الرؤوف الصبان تعليمه الابتدائى في مكة المكرمة ثم ابتعثته أسرته إلى مصر فدرس بها وتخرج من دار العلوم وهو يعتبر من أوائل المتعلمين الذين تلقوا دراسة منتظمة خارج البلاد في ذلك العهد، وحينما عاد إلى الحجاز كان ثائرا على ما تحفل به حياة المجتمع إذ ذاك من الخرافات نتيجة التأخر

ص: 323

والجمود، وقد أخبرنى أنه كان من أصدقاء الشيخ محمد حسين نصيف وكان يقضى الأماسى في مجلسه بدار نصيف وكان هو والشيخ محمد حسين نصيف يتعرضون للمواكب الخاصة بمشايخ الطرق ومريديهم فيسفهون آراءهم ويحصبونهم بالحجارة وكان هذا في أواخر العهد العثمانى ثم في العهد الهاشمى لأن العهد السعودى قضى على كل هذه البدع والخرافات من اليوم الأول لتسلمه زمام الأمور وإنى لأذكر أنه كان في محلة المظلوم قرب سوق الجامع زاوية السيد البدوى وكانت تعلق فيها مسبحة من الخشب كبيرة، حجم حباتها مثل حجم البيضة وكان يدعى أنها السبحة التي كان يستعملها السيد البدوى للذكر، كما كان هناك جبة خضراء وعمامة عظيمة وغيرها وكنت وأنا صغير السن أتسلق الشباك لأرى المسبحة والعمامة وكان عقلى الصغير لا يسلم بصحة ما أرى لأن المبالغة فيها والتهويل واضحان بجلاء.

كما كان في حارة المظلوم زاوية أخرى للطريقة القادرية، وفى حارة الشام زاوية للطريفة الجيلانية وفى العيدروس قريبا من مستشفى جدة الحكومى العام زاوية العيدروس، وكانت الزوايا كثيرة والطرق عديدة وكانت لهم احتفالات كثيرة ومتعددة فهم يحتفلون مثلا بالمواسم التي اعتاد الناس الاحتفال بها في ذلك الزمان مثل ليلة النصف من شعبان وليلة القدر وغيرها وغيرها علاوة على أيام خاصة بالطرق نفسها وكانت لهذه الاحتفالات شنة ورنة تذبح فيها الذبائح ونمد فيها موائد الطعام الكثيرة وتوزع فيها الحلوى ويمارس فيها شيخ الطريقة وأتباعه أسلوب طريقتهم وتتخللها الأغانى التي ينشدها المنشدون وتسير فيها مواكب كبيرة يتقدمها شيخ الطريقة وأتباعه ويشترك فيها الدهماء والأطفال وهم يغنون ما يعتبرونه ذكرا وفى مثل هذه التجمعات قد يحدث من المساوئ ما يبرأ منه الذكر

ص: 324

الصحيح وما لا يرضاه الخلق القويم وهي في جملتها من البدع السيئة التي نحمد الله تعالى على تخلص البلاد منها فهى منافية للدين ومضيعة للمال والوقت وملهية للناس عن الصالح من الأعمال.

‌الهجرَة مِن الحِجَاز

نعود بعد هذا الاستطراد عن الطرق ومشايخها وأساليبها إلى الشيخ عبد الرؤوف الصبان فنقول أنه كان من أصدقاء الشيخ محمد نصيف وجلسائه فهو سلفى بحكم ثقافته المستنيرة وصفاء عقيدته كما كان أحد الأعضاء البارزين في الحزب الوطنى الذى طالب الحسين بالتنازل عن العرش والذى مارس نشاطه في الفترة الأولى لولاية الشريف على بن الحسين عرش الحجاز، ولكنه لأمر ما انضم إلى قافلة الرجال الذين هاجروا من الحجاز في نهاية العهد الهاشمى، وقد علمت منه أنه سافر إلى مصر وإلى العراق، وكان في العراق بعمل سكرتيرا خاصا للملك غلى بن الحسين وقد روى لى رحمه الله قصة طريفة عن الملك على وابنه الأمير عبد الاله، قال كان الأمير عبد الاله يدرس في انجلترا ورغب في العودة إلى العراق فاستأذن أباه فلم يأذن له فلم يكن منه إلا أنه استقل الطائرة وعاد إلى بغداد ولم يعجب الملك على تصرف ابنه الشاب فأوعز إلى الشيخ عبد الرؤوف أن يلومه ويعاتبه قال الشيخ عبد الرؤوف للملك على، إننى سأعاتبه على مخالفة أوامرك له، ولكنى لا أملك الا أن أقدر فيه إصراره على تحقيق ما يريد وهكذا كان، كما علمت من الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله أنه كان صديقا للمرحوم الشيخ إبراهيم بن معمر وكان ابن معمر وعبد الرؤوف يقيمان في مصر بغرض الدعاية الإِعلامية وكان الشيخ إبراهيم بن معمر يعمل في خدمة المرحوم

ص: 325

الملك عَبد العزيز بينما كان الشيخ عبد الرؤوف في خدمة اللك على بن الحسين، قال لى الشيخ عبد الرؤوف كنا صديقين إلا فيما يتعلق بالعمل السياسى فقد كنا ضدين ولم يكن الواحد منا يسمح للآخر بالاطلاع على عمل الثانى بحال من الأحوال رحمهما الله جميعا.

‌العودَة إلى الوَطن

وحينما أصدر الملك عبد العزيز رحمه الله في عام 1354 هـ نداءَه إلى المهاجرين بالعودة إلى بلادهم والعمل لإِنهاضها كان الشيخ عبد الرؤوف من أوائل الرجال الذين استجابوا لهذا النداء وعاد إلى الملكة وكتب في جريدة صوت الحجاز يعلن استجابته لهذا النداء ويقدم ولاءه وإخلاصه وقد عينه جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله غضوا في مجلس الشورى فكان من أبرز الأعضاء العاملين في المجلس وبعد وفاة المرحوم السيد عبد الوهاب نائب الحرم - والد الأستاذ أحمد عبد الوهاب رئيس التشريفات الملكية عين محله مديرا عاما للأوقاف بمكة المكرمة ثم عين أمينا للعاصمة وبعد عودته إلى الحجاز توثقت صلته بصاحب السمو الملكى الأمير فيصل النائب العام - جلالة الملك فيصل فيما بعد - ومما أذكره عن هذه الصلة إننى حينما أصدرت قصة البعث وهي أول مؤلف لى في الستينات أهديت الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله نسخة من هذه القصة وفوجئت بعد أيام بخطاب كريم من صاحب السمو الملكى الأمير فيصل بن عبد العزيز يقول فيه إننى اطلعت على قصتكم - البعث - وإننى أتمنى لكم النجاح في أعمالكم الأدبية، ولم أكن قد قدمت الكتاب لسموه فلقد كنت أخشى أن يكون فيه ما لا يعجب بعض الناس لأن القصة كانت وصفا للحاضر بما فيه من نقص وتطلعا إلى

ص: 326

المستقبل المرجو بما فيه من خير، وذهبت إلى دار المرحوم الشيخ محمد سرور فوجدت الشيخ عبد الرؤوف هناك وأطلعته على الكتاب وقلت إننى لا أعرف كيف وصل الكتاب إلى سموه وإننى محرج لأننى لم أقدمه لسموه شخصيا أو أبعثه إليه ولكنى سعيد بأن الكتاب قد مرَّ بسلام فضحك وقال إننى بعد أن قرأت القصة قدمتها لسموه وألححت عليه أن يقرأها وإننى لسعيد أن يكون سموه قد فعل وكتب إليك مهنئا بها، وإن هذه اللفتات الكريمة من هؤلاء الرجال إنما تدل على علو نفس، وأصالة طبع وكرم أخلاق.

ولقد كان الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله دائم التشجيع لى في أعمالى الأدبية وأذكر أن المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان أقام حفلة في موسم الحج في الستينات لمجموعة كبيرة من كبار الحجاج المصريين وعلمنا أنه ستلقى فيها بعض الخطب فطلب منى رحمه الله أن أكد شيئا لإلقائه في الحفل ردا على ما سيلقى من كلمات فنظمت على عجل قصيدة كان مطلعها.

هذا الحجاز وهذه مصر

جمعا فكان الماء والزهر

ولا أذكر الآن بقية القصيدة فقد فقدت ضمن ما لقد من شعرى وألقيتها بعد أن انتهى الضيوف من إلقاء كلماتهم وكان الشيخ عبد الرؤوف حاضرا فكان أول المهنئين لي وقال لقد سددت خانة كان لابد وأن تسد فلم يكن من اللائق أن يخطب الخطباء فلا يجدون من يرد التحية بمثلها من قبلنا. وحينما رجعت في اليوم التالى إلى القصيدة وجدت فيها خطأ لغويا لم أتنبه إليه حينما نظمتها بتلك الصورة المستعجلة، وقلت للشيخ عبد الرؤوف إن القصيدة التي هنأتنى كليها كان فيها خطأ لا أغفره لنفسى قال لقد أدركت هذا الخطأ وأنت تلقيها ولكنى أؤكد لك أن أحدا لم يلتفت إليه وأضاف إن مثل هذه الأخطاء تغفر في هذه

ص: 327

المناسبات على شرط تدارك الخطأ وتصحيحه، وهكذا كان الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله رجلا واسع الأفق نيِّر الذهن وكنت أعجب به كرجل فكر فكر تمرس بأمور الحياة وخاض لججها محتفظا بقوة شخصيته وصفاء ذهنه وكان هو بتنبأ لى بمستقبل طيب، وأذكر أننى حينما بدأت عملى التجارى لم يكن راضيا من تحولى إلى التجارة وقال لى إننى أعرف إنك ستحقق نجاحا عظميا ولكنى أريد لك أن تكون محمد على مغربى الكاتب والشاعر ومع ذلك فحينما أسندت إليه أمانة العاصمة كلفنى بأعمال كثيرة للأمانة كان في حاجة إليها على وجه السرعة كما كلفنى بأعمال أخرى للأوقاف العامة ولم يبخل بتشجيعه وإعلان رأيه الطيب في كل مناسبة رحمه الله.

‌إِدخال الميكروفونات إلى المسجد الحرام

ولعل من أهم ما تميز به عهد الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله في الوظائف الحكومية، أنه كان أول من أدخل الميكروفونات إلى المسجد الحرام وكان التبليغ سواء للأذان أو للتلاوة من الإمام إنما تعتمد على أصوات المؤذنين والإمام وكانوا يُختارون من ذوى الأصوات الحسنة والقوية في آن واحد وكان المؤذنون يرتقون المنائر العالية المشيدة في أطراف الحرم وحينما بدأت الإِذاعة السعودية في البث بعد الحرب العالمية الثانية اتصل بى الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله وقال لى إننا سندخل الميكروفونات إلى الحرم الشريف لنقل الأذان وإننا نحتاج إلى مولدات كهربائية ذات تيار معين فسألته عن التفاصيل المطلوبة فقال إن المهندس المختص بجوارى وهو الذى سيخبرك بذلك وتحدث إلى مهندس مصرى لعل اسمه أبو بكر ولا أذكر بقية الاسم فأخبرنى بالمطلوب وأضاف أننا لم نجد هذه المولدات في المملكة وحينما رفعنا الأمر للشيخ عبد الرؤوف قال إنك تستطيع

ص: 328

إيجادها قلت أرجو ذلك، وكان وجود المولدات الكهربائية قليلا ونادرا في تلك الأيام وكان الشيخ عبد الرؤوف يتعجل الأمر وقد وفقنى الله تعالى إلى تحقيق طلبته فقد علمت أن شركة جلاتلى هنكى في جدة وهي شركة انجليزية ضخمة اشتراها فيما بعد صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله الفيصل وحولها إلى شركة سعودية باسم المؤسسة العربية للملاحة، أقول علمت إن هذه الشركة الإنجليزية استوردت كمية من المعدات من مخلفات الحرب فذهبت إلى هناك ولحسن الحظ وجدت المرحوم الشيخ أحمد عشماوى مؤسس شركة - الأسواق السعودية فيما بعد - وكان مدير المبيعات في شركة جلاتلى هنكى في ذلك الوقت وأخبرته بحاجتنا إلى هذه المولدات فقال لى أننا لا نعرف أن كان الموجود لدينا ضمن هذه المخلفات تتوفر فيه المواصفات الكطلوبة فاستعنت بمهندس آخر وأخذنا نبحث بين هذه المخلفات حتى وجدنا مولدين جديدين بالتيار المطلوب وأخبرت الشيخ عبد الرؤوف أن المولدات موجودة وطلبت منه أن يبعث إلى مهندسا من قبله لفحصها واستلامها وهكذا كان ونقلت المولدات إلى مكة وما هي إلا أيام قليلة حتى سمعنا صوت الأذان ينطلق من المسجد الحرام من خلال الميكروفونات مما جعل إدارة الحرم تتوسع في المشروع فيما بعد فأعفى المؤذنون من صعود السلالم الكثيرة الدرجات في المآذن خمس مرات في اليوم.

‌تسقيف المسْعى

ولكن أهم إنجاز قام به الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله حينما أسندت إليه أمانة العاصمة أنه قام لأول مرة في التاريخ بتسقيف المسعى، ولعل الكثيرين من الناس لا يزالون يذكرون أن المسعى كان سوقا تجاريا من أهم أسواق مكة المكرمة

ص: 329

تقوم على جانبيه الدكاكين التجارية بمختلف أنواعها وترتفع فيه العمائر الشاهقة على جانبى الشارع ابتداء من الصفا وحتى المروة وكانت دكاكين الصرافين والحلاقين وبائعى المشروبات وأصحاب المتاجر المختلفة تنتتشر على جانبى الشارع كما كانت أهم عمارات مكة المكرمة في ناحية الصفا بل وأغلاها وأعلاها. وكان الساعون بين الصفا والمروة يؤدون نسكهم في وسط هذه الأسواق وضجيجها مما يضطر المرء إلى الشعور بالخروج عن حالة النسك والعبادة إلى ضجيج الحياة وزحامها وكانت المسعى إلى ذلك في بعض أجزائها مكشوفة تخترقها الشمس فكان الناس يتحاشون السعى في أوقات الحرارة ويؤدون نسكهم بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر أو في الليل في أوقات الصيف وكان القسم الآخر مسقوفا بسقف من الخشب كئيب المنظر إن حمَى من حر الشمس فهو لا يحمى من المطر في الشتاء وإننى لأذكر أننى اجتمعت بأحد كبار تجار الكويت الذى قدم حاجا في تلك الأيام فقال لي إن المسعي باقية على حالها منذ مئات السنين ألا تفكرون في إدخال شئ من التغيير عليها قلت إن هذا موضع نسك فكيف تريدنا أن نغيره؟ قال وهل من النسك أن يكون موضعه سوقا للبيع والشراء؟ والواقع أن كل عاقل كان يتمنى للمسعى أن يكون مصانا وقد أذن الله بذلك فيما بعد حينما تمت توسعة المسجد الحرام وأدخلت المسعى ضمن نطاق الحرم فتخلصت من السوق وضجيجه وغوغائه. أما دور الشيخ عبد الرؤوف رحمه الله فقد كان قبل هذه التوسعة بسنوات طويلة وقد بدأ هذا الدور بقيام الحكومة ممثلة في شخص وزير المالية الأسبق الشيخ عبد الله السلمان برصف شارع المسعى وكان شارعا ترابيا غير مبلط ومما أذكره عن هذا الرصف أن المهندس المصرى الذى كان يشرف عليه وكان اسمه بهجت سلمان أعاد الرصف مرات في المنطقة التي تصل بين شارع القشاشية وأجياد جهة باب على وما حولها وكل ما تم الرصف أو أوشك جاء السيل من أعلى مكة مخترقا شارع القشاشية فأزال الرصف في طريقه إلى أسفل مكة وأخيرا تم الرصف والحمد لله. هنالك تحرك الشيخ عبد الرؤوف فتقدم إلى المسؤولين بإكمال تجميل المسعى وذلك بإزالة السقف

ص: 330

القديم المتآكل الكئيب المنظر بسقف جميل حديث وهكذا تم له ما أراد وأسند الشروع إلى شركة عرين التي أسسها الأستاذ كمال أدهم والتى كان يديرها مهندس مصرى ضابط اسمه إبراهيم عويس وقامت الشركة المذكورة في عهد الشيخ عبد الرؤوف بإزالة السقف القديم وتركيب سقف حديث جميل مرتفع قائم علي أعمدة حديدية وكان هذا السقف مع الرصف أولَ تحسين أدخل عل شارع المسعى في التاريخ إن صحَّ هذا التعبير إلى أن تم العمل العظيم الكامل بإدخال المسعى نفسه كاملا في الحرم كما هو بوضعه الحاضر مما أتاح للحجاج والمعتمرين أداء نسكهم في جو صاف هادئ لا تعكره ضوضاء الشارع ولا أصوات الباعة والمشترين.

‌عُضو مَجلس إدارة الشركة العربية للسَيّارَات

هذا وقد انتخب الشيخ عبد الرؤوف عضوا في مجلس إدارة الشركة العربية للسيارات لفترة من الوقت ثم سافر إلى مصر في السبعينات بعد أن تقاعد عن العمل وأقام بها بضع سنين ثم انتقل إلى لبنان وقد توفى رحمه الله بعد مرض قصير يرحمه الله فلقد كان من أعلام الرجال.

* * *

ص: 331

‌مُحَمَّد جَميل حَسن

طويل فارع، حنطى اللون، واسع العينين، أقنى الأنف، يضع على عينيه نظارة طبية، وكان له زى متميز عن الزى العادى لملابس الشباب من أمثاله فلقد كان يلبس القصير من الثياب تحتها سروال أشبه بالبنطلون السابغ كما كان يرتدى الكوت الطويل ولعله سافر إلى الهند فأعجبه الزي السائد هناك ولقد لاحظت أن كثيرا من الشبان الذين سافروا إلى الهند عادوا إلى الحجاز وهم يرتدون زيا مشابها لهذا مع اختلاف في بعض التفاصيل.

ولد الأستاذ محمد جميل حسن سنة 1322 هـ بمكة المكرمة وتعلم في مدارسها وأرجح أنه تعلم في مدرسة الفلاح لأنه عمل بعدها أستاذا فيها وقد عرفت الأستاذ محمد جميل حسن مدرسا بمدرسة الفلاح بجدة في النصف الأول من الأربعينات وبالتحديد خلال الحرب الهاشمية السعودية وكان الأستاذ محمد جميل حسن نمطا فريدا من الناس له شخصية مستقلة تحدث عن نفسها فلم يكن يكثر الاختلاط بزملائه المدرسين والأساتذة ما بين الحصص وإنما كان يصطحب معه كتابا يعكف على قراءته في أوقات الفراغ فإذا دخل إلى الفصل ساد النظام وبطل الهرج ووقف الجميع تحية له فيحييهم مشيرا بالجلوس وهو نفسه الذى عودنا على هذا النظام فاتبعناه طائعين، وكانت الحصة التي يقضيها في التدريس حصة

ص: 333

جادة إذا صح هذا التعبير فالرجل كان متمكنا من العلوم التي يدرسها فيشرحها شرحا جيدا ويفيض في هذا الشرح ويوجه الأسئلة إلى بعض الطلاب ليعرف مدى استيعابهم لما ألقى إليهم، وقد يكون كل هذا الذى ذكرت من الأمور التي يتميز بها كثير من الأساتذة ولكن الظاهرة الفريدة التي تميز بها محمد جميل حسن عن غيره من المدرسين أنه كان يلقى الدروس الوطنية على طلابه فيعرفهم بتاريخ بلادهم وأمجادها وما يجب أن يفعلوه لاسترجاع ما سلب وإعادة ما اغتصب، ولم يكن الرجل مدرس تاريخ ولكنه كان مدرس جغرافيا "علم تقويم البلدان" وكنا نتلقى هذا العلم على أيدى مدرسين قبله وبعده فكان حديثهم منحصرا في تقسيم البحار والأنهار والجبال والوديان وحدود الممالك والدول، ولكن محمد جميل حسن كان نمطا آخر غير هذا.

كانت الخرائط الجغرافية معلقة في الجدار أمام التلاميذ وكان الأستاذ محمد جميل حسن يقف أمام هذه الخرائط فيتحدث الحديث المعتاد عن تقسيم البلاد بحارها وأنهارها وسهولها وجبالها والقارات وحدودها وما إلى ذلك، ولكنه سرعان ما يدخل في الحديث التاريخى الذى يصل به إلى دروس الوطنية التي خالطت قلبه وملأت شعوره وجوارحه.

أذكار أنه كان أول من حدثنا عن فلسطين وكان هذا في النصف الأول من الأربعينات وكانت تحت الانتداب الإِنجليزى ولم يكن اليهود فيها ألا أقلية ولكن أطماعهم فيها كانت معروفة فكان يضع يده على موضع فلسطين في الخريطة ويتحدث عن تاريخها وأطماع اليهود فيها ويقول هذه القطعة السليبة من بلاد العرب لابد أن تعاد إلى أهلها، هذا الجزء الغالى من أرضنا الحبيبة تتكالب عليه

ص: 334

قوى الشر مؤيدة بالاستعمار الإنجليزي الغاشم ولا يكتفى بذلك فإذا به يحدثنا عن تاريخ فلسطين منذ الفتح العربى إلى تسلم الفاروق مفاتيح الدينة القدسة، ثم ينحدر إلى صلاح الدين واسترجاعه لبيت المقدس ووقعة حطين وكنا نصغى مشدوهين إلى مدرس الجغرافيا الذى تحول درسه إلى درس عظيم في التاريخ، وإلى خطاب حماسى في حب الأوطان.

كانت البلاد العربية كلها باستثناء الجزيرة العربية تحت الاستعمار الغربى في ذلك الوقت فكانت مصر والعراق والأردن وفلسطين والخليج تحت الحكم الإنجليزي، وكانت سوريا ولبنان والمغرب العربى كله تحت الحكم الفرنسى، وكان محمد جميل حسن يتحدث عن هذه البلاد جميعها وعن مكافحتها للاستعمار ولكنه يطيل ويفيض إذا وصل حديته إلى فلسطين وكأنه رحمه الله كان يتنبأ أن هذه البلاد جميعها ستحظى باستقلالها وأن العقبة الكبرى ستكون هي فلسطين، ولا أريد أن أطيل فلقد كان الرجل شعلة متقدة من الحماس والنضال وكان ملما إلماما تاما بالمادة التي يدرسها وكثيرا ما ذكرنا بأمجاد المسلمين والعرب وفتوحاتهم في أوروبا ولست في حاجة إلى أن أقول إننا كنا نترقب الحصص التي يدخل فيها علينا وأننا نتحول جميعا إلى آذان صاغية وقلوب متفتحة تموج بالعواطف والأحاسيس وكان الرجل على صلة بالملك الشريف على بن الحسين أيام حكمه وكان يرى دائما في القصر ولعله كان على صلة بالأسرة الهاشمية كلها فلقد كان واضحا في أحاديته معرفته بالملك فيصل الأول ملك العراق، والملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن رحمهما الله، وكان يوما يلقى علينا درسه المعتاد وإذا بنا نسمع ضجيجا وأصوات طلقات نارية، فانفلت الأستاذ محمد جميل حسن من القاعة لينظر ما الخبر؟ وكان الجنود المرتزقة الذين استقدمهم الملك على بن

ص: 335

الحسين للدفاع عن مدينة جدة وهم من الدروز يتظاهرون مطالبين بصرف مرتباتهم التي انقطعت عدة شهور فلم يكن من محمد جميل حسن ألا أنه خرج إليهم منفردا وتحدث إلى رؤسائهم فانقطع صوت الرصاص وخفتت الضجة ومضوا مواصلين مسيرتهم في هدوء، ولقد سمعته بعدها يحدث مدير المدرسة والأساتذة الذين التفوا حوله أنه أفهم رؤساء المتظاهرين أنهم يمرون أمام مدرسة تضم المئات من التلاميذ وأنه لا حاجة لإِطلاق النيران في هذا المكان بالذات فاستمعوا لنصحيته وهو موقف يدل على الشجاعة والإِقدام.

وعلى ذكر الجنود المرتزقة نذكر أن هؤلاء الجنود كانوا من الدروز الذين يسكنون في أراضى سوريا ولبنان وفلسطين، وكان الملك الحسين بن على حينما غادر جدة بعد خلعه وتولية ابنه الملك على ذهب إلى العقبة وكان ابنه الملك عبد الله بن الحسين يرسل إليه هؤلاء الجنود المرتزقة لترحيلهم إلى الحجاز وكان قائد هؤلاء الجنود ضابطا سوريا اسمه تحسين الفقير وكان الدفاع عن مدينة جدة مقسما على ثلاث فئات الدروز واليمنيين والمتطوعين من أبناء البلاد وكان يحيط بمدينة جدة سور من الأسلاك وكانت كل فئة تتمركز في ناحية من النواحى وقد باع الملك على شارع قابل كما أسلفنا في حلقة سابقة لمواجهة مصاريف الحرب بأبخس الأثمان، وحينما تظاهر الدروز في المرة التي أشرنا إليها اعتصموا بمسجد عكاش في قلب مدينة جدة ذهب إليهم كبير جدة المرحوم الشيخ محمد الطويل وتعهد لهم بتسديد استحقاقاتهم وباع المنزل الوحيد الذى كان يملكه لسكنه الخاص وأوفى لهم بجميع حقوقهم وأعادهم إلى بلادهم، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الأستاذ محمد جميل حسن فنذكر طرفة عنه سبق أن ذكرتها في كتابى حبات من عنقود والطرفة بعنوان "رجل في التراب ورأس في السحاب" ..

ص: 336

كان الأستاذ محمد جميل حسن رحمه الله أستاذا لنا بمدرسة الفلاح - بجدة وكان يعلمنا الجغرافيا والإِنشاء والحساب، وكان مربيا قديرا وأستاذا مثاليا وقدوة تحتذى، وكان بختصنى بكثير من الرعاية والتشجيع وكان درس الجغرافيا أو علم تقويم البلدان كما يسمونه الآن من أحب الدروس إلينا على عهد الأستاذ جميل حسن فلقد كان درسا في الوطنية والاقتصاد قبل أن يكون درسا في أسماء المدن والمالك والبحار والغابات .. وإننى لأذكر كيف يفيض ويتدفق حينما كان يقف أمام خريطة البلاد العربية فيتحدث عن كل قطر منها وما تضمه أرضه من خيرات، وكيف كان يهاجم الاستعمار الذى كان ما زال رابضا على أرض أجزاء كثيرة من البلاد العربية، وكان يتجلى حنقه وسخطه حينما كان يصل إلى فلسطين فينقلب إلى خطيب مصقع وهو يومئ بعصاه الصغيرة إلى موقعها من الخريطة ويقول هذه القطعة المغتصبة من أرض الوطن العربى، هذا الجزء العزيز على نفوس الأمة العربية جمعاء لن نقبل بتسليمه لليهود، ويفيض في مثل هذه الموافف بحماس يملأ التلاميذ شعورا متدفقا من الغيرة والحمية .. وأعطانا الأستاذ يوما في درس الإِنشاء بيتا من الشعر وطلب منا أن نشرح مقصد الشاعر منه وهذا البيت ..

وكن رجلا رجله الثرى

وهامة همته في الثريا

ولم يفتح الله علينا بشئ، فهمنا أن المقصود أن يكون الرجل رجله في الثرى، ولكن ما هي هامة الهمة هذه المطلوب أن تكون الثريا؟ وحضرنا في اليوم التالى وجاء زميلنا الأستاذ عبد الكريم بكر وهو الآن من كبار موظفى الشركة التجارية العربية بجدة - وقال: لقد عرفت حلَّ البيت قلنا هات .. قال: إن مقصد الشاعر أن يكون الإنسان رجله في التراب، ورأسه تدق السحاب - ثم قال: إن الهامة هي الرأس والثريا هي نجم مشهور في السماء فهل تريدون أن

ص: 337

تخلقوا معانى من غير كلمات الشاعر، وفهمنا ضمنا أنه استعان بأحد العارفين في الشعر .. فتوصل إلى هذه المعانى، وكتبنا جميعا ما قال الزميل عبد الكريم، أن مقصد الشاعر أن يكون الإنسان له رجل مغروسة في التراب، ورأس ملتصق بالسحاب، وقدمنا الكراسات للأستاذ وكلها مكتوبة في سطر واحد وصيغة واحدة دون تنويع أو تغيير، واعتقد الأستاذ جميل أننا نسخر منه وكان صارما بقدر ما كان مخلصا ونظر إلى كراستى واستدعانى من دون التلاميذ وقال، حتى أنت فعلتها معهم؟ وصمت حياء وخجلا وعاقب التلاميذ جميعا دون استثناء وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أتعرض فيها لعقابه فكان شعورى بالخزى من العقاب أكبر من شعورى بالعقاب نفسه.

وفى مساء هذا اليوم بالذات كنا نسير خارج البلدة وكان الأستاذ جميل حسن يقوم بنزهته المسائية وحيدا كعادته واقترب منى أحد الناس وسألنى هل تعرف الأستاذ جميل حسن المدرس بمدرستكم؟ قلت نعم قال: أين يسكن؟ قلت لا أدرى ولكنه أمامك وأشرت إليه فذهب إليه وتحدث معه قليلا .. وعدت إلى منزلى وعدنا في اليوم التالى إلى المدرسة ولكن الأستاذ جميل لم يحضر في ذلك اليوم ولا فيما تلاه من أيام وقيل لنا أخيرا إنه سافر إلى مكة وانقضت شهور طويلة علمت بعدها أن الله تعالى اختاره إلى جواره فتأثرنا جميعا لوفاته رحم الله الأستاذ محمد جميل حسن فلقد كان أستاذا عظيما ومربيا قديرا وكان أول من علمنا الوطنية، انتهى ما نقلناه بنصه من كتابنا حبات من عنقود.

وقبل أن نختتم الحدبت عن الأستاذ محمد جميل حسن نقول إنه كان من أوائل الأدباء الذين شاركوا في كتاب أدب الحجاز الذى أصدره المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان في عام 1344 هـ وله في قسم المنثور مقالان يفيضان حماسة

ص: 338

ووطنية وقد علمت أنه بعد عودته إلى مكة المكرمة أصيب بمرض عضال وكان يقضى أيامه في المطالعة ولم يتزوج وتوفى في أواخر الأربعينات في حوالى الثلاثين من العمر تغمده الله برحمته الواسعة وأجزل ثوابه في عليين ..

* * *

ص: 339

‌الشّيْخ مُحَمَد عَلي مَلطَاني

طويل فارع، حنطى اللون، مستطيل الوجه، واسع العينين، له لحية متكاملة خفيفة، يلبس العباءة العربية ويضع على رأسه غترة بيضاء في الصيف أما في الشتاء فيعتم بعمامة من الصوف، وكان يشد وسطه بحزام خفيف من القماش وكان يحمل ساعة معدنية مربوطة بخيط أسود إلى عروة الثوب لتستقر بين ثنايا هذا الحزام فهو في لباسه هذا يمثل طبقة الأعيان من رجال الحارة الذين أخذوا بنصيب من عادات المتحضرين من أهل المدينة واحتفظوا في نفس الوقت بشارات زعماء الحارة وتقاليدهم والواقع أن الملابس في النصف الأول من القرن الهجرى الرابع عشر كانت تمثل الطبقة التي ينتمى إليها المرء تمثيلا يكاد أن يكون دقيقا فبالنسبة لطبقة التجار يلبس الثوب من الشاش الرفيع في الصيف ويشد الوسط بشال من القرمسود غالبا ما يكون مشغولا من صنع الشام وهو من الحرير الخالص ويكون هذا الحزام رفيعا رقيقا وفوق التوب تلبس الشاية من الكتان الأبيض وفوقها الجبة والعمامة الحجازية المعروفة أما في الشتاء فتكون الجبة من الصوف وأحسن أصنافه نوع اسمه "الانقورى" وفى هذا الحزام توضع الساعة "الراسكوف" والتى تشد إلى عروة الثوب بسلسلة من الذهب وربما كانت الساعة ذهبية كذلك، كما يوضع بين ثنايا الثوب كيس من القماش من نوع قماش

ص: 341

الجبة فيه بعض النقود الفضية أما طبقة الأفنديات من أبناء التجار فيلبسون الثوب وفوقه الكوت ويضعون على رؤوسهم أو على الأصح على أكتافهم شالا مشغولا إما من اللاس وهو قماش كذلك من الحرير أو هو من البريسمى وهو من الإبريسم الذى كان يصنع في تركيا أو في سوريا ويكون داكن اللون مشغولا وغالى الثمن، وفوق الثوب كوت من نفس القماش يوضع فيه القلم الذهبى والساعة وذلك قبل انتشار ساعات اليد وبينما ينتعل الرجال الحذاء الحجازى الذى يصنع محليا في جدة ومكة والذى كان يتزين بشئ من القصب وأحسن أنواعه يسمى "أبو خرزين" فإن الشبان يلبسون الأحذية الجلدية الواردة من الهند فإذا ترك هؤلاء الشبان عهد الدراسة لبسوا الجبة فوق الكوت والعمامة الحجازية بدلا من الشال فالفارق بينهم وبين الكبار هو تميز الأولين بالشاية وحزام الوسط وتميز الآخرين بالكوت دون حزام للوسط فإذا انتقلنا إلى الطبقة الشعبية الوسطى وجدنا أن الثوب يكون من قماش متين وغالبا ما يكون ملونا كما أن السروال الذى يرتديه التجار والأفنديات طويل سابغ يغطى العقبين مشغول الأطراف تشده دكة كذلك مشغولة بينما يكون السروال الشعبى قصيرا إلى حد الركبة والحزام الذى يشد الوسط عريض من الصوف المشغول وغالبا ما يكون أخضر اللون أو أحمره ويجئ الشال الذى يوضع على الكتف من نفس النوع أما الرأس فتوضع عليه كوفية صغيرة لا تغطى إلا الجزء الأوسط من الرأس بينما تكون هذه الكوفية لأبناء الطبقة الوسطى وأبناء الذوات سابغة كبيرة تغطى الرأس جميعه وتميل على الجبين، ويغلب حفاء الأقدام على الطبقة الشعبية الفقيرة وإذا كان منهم من يلبس الأحذية فهى من الأحذية المحلية التي تصنع في مكة وجدة فإذا وصلنا إلى زعماء الطبقة الشعبية كالعمدة ومن يتصلون به من أعيان هذه الطبقة وجدنا أن لباسهم هو كما وصفناه ويزيد على ذلك عمامة كبيرة على الرأس

ص: 342

إما من البغدادى في الصيف أو الصوف المشغول في الشتاء ثم مِصْنف أو حَمُّودى وهو قماش متين مخطط يوضع على الكتف ويمسكون في أيديهم عصا من العصى الغليظة التي تسمى "الشون" هذا بالنسبة للباس أهل الحجاز أما الجاليات الأجنبية فكانت تتميز بملابسها الخاصة التي تدل على جنسياتها والواقع أن الحديث عن الأزياء وخاصة في النصف الأول من العام الهجرى الرابع عشر طويل ومتشعب ولا تتسع له هذه العجالة.

نعود بعد هذا إلى الشيخ محمد على ملطانى رحمه الله فنقول إن الرجل كان زعيما محبوبا لدى معارفه بحق فهو يعرف الكثيرين من الطبقة الوسطى والشعبية بحكم نشأته بينهم كما أن مواهبه رشحته لصداقة عظماء الرجال في عصره وخاصة من كان بيدهم الحل والعقد فكان هو واسطة هؤلاء الناس لديهم لقضاء حوائجهم، وقد عرفته في منتصف الخمسينات حينما عملت بمكتب الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بمكة المكرمة فعرفت رجلا لمَّاحًا بارع الذكاء رغم ضآلة تعليمه ولكنه كان عظيم الخبرة بالحياة والناس وكان يخاطب الناس على قدر كقوم ويتفانى في خدمتهم بل ولا يتأفف من ذلك.

كان يحضر إلينا في مكتب الشيخ محمد سرور عصر كل يوم تقريبا وبيده قائمة بطلبات الناس هذا يريد إركابا بالبريد وكانت سيارة البريد الوسيلة الوحيدة للسفر سواء إلى مكة أو المدينة أو الطائف وكانت تابعة للشركة العربية للسيارات فلم تكن هناك أتوبيسات أو تاكسيات وإنما كان الناس يركبون في سيارات البريد والمحظوظ منهم من يجد محلا له بجوار السائق أما بقية الركاب فيتخذون مقاعدهم داخل الصندوق مع طرود البريد وأكياسه نقول إن الشيخ محمد على ملطانى يحضر إلينا عصر كل يوم وبيده قائمة بطلبات الناس ابتداء من طلبات الإركاب إلى طلبات المساعدة إلى تعقيب المعاملات إلى غير ذلك من

ص: 343

مختلف الأغراض والطلبات، وأذكر أنه حضر إلى يوما وكنت مشغولا وكان المكتب يغص بالزائرين ورأى بعضهم كيف أطال الشيخ الملطانى الكلام معى وهو بنظر في القائمة وأنا أخبره بما تم إنجازه من الطلبات السابقة، وبما وعد به الشيخ محمد سرور أو أشار به في الطلبات الأخرى فقال لى أحدهم بعد أن ذهب الشيخ الملطانى لقد أخذ هذا الرجل من وقتك الكثير فهلا اختصرت الحديث معه؟ فإن غيره من الجالسين ينتظرون على أحر من الجمر قلت إن الرجل لم يطلب شيئا لنفسه وإنما كان يسعى في طلبات الناس فهو لسان من لا يستطيع إيصال حاجته، أو يمنعه الحياء أو يقعد به المرض أو الحاجة فسكت والواقع أن صلتى بالمرحوم الشيخ محمد على ملطانى امتدت إلى أن توفاه الله وعلى كثرة ما كان يسعى لقضاء حاجات الناس لم أره يوما يطلب شيئا لنفسه أو يسعى إلى منفعة وكان الرجل مضيافا له بيت مفتوح في الطائف صيفا يستقبل فيه الضيوف من معارفه الكثيرين كما كان يسافر إلى المدينة كل عام فتكون داره في المدينة المنورة مفتوحة للناس ليل نهار وكان الرجل مغرما بألعاب الورق والطاولة والبجيس وغيرها وكان بارعا فيها فكان يسهر بعض الأحيان إلى الهزيع الأخير من الليل وربما صلى الفجر ثم نام، ومع إسرافه في هذا اللهو البرئ فقد كان رجلا كاملا غير هامل.

‌مَصنَعُ الخِيَام

فكان له بيت في القرارة جهة المروة يتخذ منه مكتبا وإدارة لمصنع الخيام ولعله كان أول من صنع الخيام بمكة المكرمة وكنت أزوره في هذا الكتب فأجد العمال الذين أحضرهم وجميعهم من أهل مكة المكرمة يعكفون على صنع الخيام وكان يشترى لهم القماش الجيد المتين ويصنعون الخيام الكبيرة والصغيرة ويؤجرها في

ص: 344

زمن الحج وقد استأجرت منه بعض الخيام الكبيرة في حج أحد الأعوام وأدركنا المطر في عرفات وكان مطرًا عظيما فأظلتنا الخيام دون أن تنزل منها قطرة ماء بينما كانت بعض الخيام المصنوعة في مصر أو الهند لا تظلل المحتمين بها ولو أن الشيخ محمد علي رحمه الله توسع في مشروعه هذا وحسنه واستعان فيه ببعض الآلات الحديثة لكان لنا مصنع أو مصانع كثيرة للخيام الجيدة بدلا من استيراد عشرات الألوف منها كل عام ..

والشيخ الملطانى كان رجلا أنيس المجلس حاضر البديهة وقد رويت في كتاب حبات من عنقود بعض الطرائف عنه أوردها فما يلى:

‌وَاحِدَةٌ مِن أعدَاءِ الله تكفي

كان المرحوم الشيخ محمد على ملطانى يجمع الكثير من حميد الخصال، فلقد كان محبا للخير مشاء في خدمة الناس، وكان يحضر إلينا يوميا في مكتب الشيخ محمد سرور الصبان ومعه قائمة بطلبات الناس، هذا يريد له إركابا إلى المدينة أو الطائف، وهذا يعقب له على معاملة بوزارة المالية وذلك يحتاج إلى مساعدة أو وظيفة، وتوثقت صلتى به رحمه الله حتى أصبحت أعتمد عليه في كثير من أمورى الخاصة، وكان رجلا عاملا يجمع إلى الجد في العمل أنس المحضر، ومحبة الناس وكان منزله في الطائف أو في المدينة المنورة مجمعا للأصدقاء والأحباب من جميع الطبقات.

وكان قديرا على إرضاء النزعات المختلفة بأساليب غاية في اللطف وحسن المخرج وله طرائف عجيبة أذكر منها أن إحدى بناته ولدت ولدا وأرادت هي وزوجها أن يسمياه أحد الأسماء الحديثة في ذلك الوقت كفاروق ولطفى وفؤاد وما إلى ذلك، وأراد جد الطفل لأبيه أن يسمى باسمه وكان هذا الجد هو الشيخ

ص: 345

حامد مؤمنة، وتدخل الشيخ محمد على رحمه الله بوصفه جد الطفل لأمه وهنا تظهر براعته في إرضاء جميع الأطراف مع تحقيق ما يريد، واجتمع الناس لحضور التسمية وكان السيد محمد السقاف رحمه الله الذى كان فعروفا في أوساط مكة المكرمة يقوم بمراسم التسمية ونهض الشيخ محمد على وقال "نعمل قرعة" وأحضر أوراقا صغيرة مكتوبا فيها الأسماء المقترحة ودعى السيد السقاف لاختيار أحدها وفض السيد الورقة فإِذا الاسم المكتوب بها هو حامد اسم جد الطفل وتهلل وجه الجد وأشرق، وقال الشيخ محمد على بلهجته المعروفة للسيد السقاف هيا سم الطفل حامد وتمت التسمية بين سرور الجميع، وحضر المرحوم الشيخ محمد على في اليوم التالى وحدثنى عن الأمر وهو يضحك قال أرادت البنت وزوجها أن يسميا طفلهما الأول بأسماء الملوك ولم يراعيا شعور جد الطفل وهو أحق بالراعاة فقلت لهم سنعمل القرعة وكتبت الأوراق جميعها باسم الجد وهو حامد ودعوت السيد السقاف لاختيار الاسم وكان الاختيار واحدا لا مفر منه وهكذا حققت رغبة الجد دون أن أشعر الآخرين بأن هذا الاسم قد أملى عليهم، قلت ولكن ماذا لو رجعوا إلى الأوراق فوجدوها جميعا باسم واحد؟ قال لقد مزقت الأوراق كلها حالما أعلن الاسم لئلا يعود إليها أحد ..

وذات يوم كنا مسافرين من مكة إلى الطائف مع معالى الشيخ محمد سرور وكان المرحوم محمد على ملطانى معنا، ووصلنا إلى السيل وتناولنا عشاءنا بها، ويبدو أن الشيخ محمد سرور كان راغبا في المبيت تلك الليلة بالسيل ولاحظ الشيخ محمد على ملطانى ذلك فقال أليس الأولى أن نواصل السير فنبيت في بيوتنا بالطائف؟ ونظر إليه الشيخ محمد سرور وقال له مداعبا أتنوى الزواج الليلة؟ فضحك رحمه الله وقال واحدة من أعداء الله تكفى وكان يعنى بهذا .. ومعذرة إلى القارئات الكريمات أن زوجة واحدة تكفيه فما له وللثانية .. وواصلنا

ص: 346

سفرنا إلى الطائف ومضت بضعة أيام علمت بعدها أن الشيخ الملطانى أعرس في تلك الليلة بالطائف وأن واحدة من أعداء الله كما وصفها أو من أحبائه كما يصفها غيره لا تكفى .. وقلت له مداعبا لقد فعلتها .. وكتمت الأمر عنا حتى ونحن رفاقك في السفر .. فضحك ثم قال إنك تعلم أن لى سبعا من البنات ليس لهن أخ ولقد تزوجت الزوجة الثالثة آملا أن يزرقنى الله منها أخا لهم.

ولم تمض عدة شهور حتى انتقل الشيخ محمد علي إلى رحمة الله تعالى مأسوفا عليه من محبيه الكثيرين وكانت الزوجة الجديدة حاملا وبعد وفاته وضعت بنتا أخرى .. رحم الله الشيخ محمد على ملطانى فلقد كان يمثل الرجل المكى الأصيل بما طبع عليه من خلق يجمع بين الجد والفكاهة، وكان واسطة عقد الأصدقاء يوسع لهم من نفسه وداره ويختصهم بالسعى في شؤونهم مع أنس المحضر، ولطف المدخل وعدم الإِدلال بشئ مما يفعل رحمه الله ..

انتهى ما نقلناه بنصه من كتاب حبات من عنقود المطبوع عام 1387 هـ.

‌شَارع المطاني

وقبل أن نختتم الحدبت عن المرحوم الشيخ محمد على ملطانى نذكر أنه كان يملك بيتا كبيرا في مدينة الطائف أمام باب شبرا وقد قام بهدمه وأنشأ في موضعه شارعا به حوانيت كثيرة على الجانبين وبنى في واجهته منزلين يطلان على باب سبرا ولعله بنى في مؤخرته مثلها وكان يسعى رحمه الله إلى جعله شارعا لمهنة من المهن ولكن الوفاة أدركته فجأة قبل أن يتحقق له ما أراد فقد توفى بعد الانتهاء من عمارة الشارع مباشرة وقد علمت فيما بعد أنه أصبح شارعا للخياطين أو خلافهم وهو عمل جرئ وجيد اختتم به الشيخ محمد على رحمه الله حياته المعاملة الطيبة.

ص: 347

هذا وكانت وفاة الشيخ محمد على ملطانى رحمه الله بالطائف في النصف الأول من الستينات عن عمر بقرب من الخمسين تغمده الله برحمته الواسعة وأسكته فسيح جناته.

* * *

اتبعنا في ترتيب نشر هذه التراجم أن تكون مسلسلة على الحروف الأبجدية وقد حدث بعض الخطأ في هذا الترتيب بصورة غير مقصودة ولم يكن من الممكن تفادى هذا الخطأ بعد إتمام الطبع فإلى ذلك نلفت الانتباه.

ص: 348

‌مراجع الكتاب

اسم الكتاب .................................. المؤلف

ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام .................................. محمد بن عبد الله بن بلهيد

أبو عرام والبشكة .................................. أحمد قنديل

أدب الحجاز .................................. محمد سرور الصبان

الراعي والمطر .................................. أحمد قنديل

المركاز .................................. أحمد قنديل

المعرض .................................. محمد سرور الصبان

اللوحات .................................. أحمد قنديل

الموسوعة الأدبية .................................. عبد السلام طاهر الساسي

أوراقي الصفراء .................................. أحمد قنديل

تاريخ مدينة جدة .................................. عبد القدوس الأنصاري

تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية .................................. عثمان حافظ

خواطر مصرحة (جزئين) .................................. محمد حسن عواد

ديوان العواد (جزئين كبيرين) .................................. محمد حسن عواد

سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر

للهجرة .................................. عمر عبد الجبار

شمعتي تكفي .................................. أحمد قنديل

عروس البحر (جزئين) .................................. أحمد قنديل

قاطع الطريق .................................. أحمد قنديل

ماضي الحجاز وحاضره .................................. حسين محمد نصيف

مجموعة جريدة بريد الحجاز ..................................

مجموعة جريدة بريد الحجاز ..................................

بعض المجلات والصحف المحلية العربية ..................................

محمد طاهر الدباغ .................................. بكر الصباغ

محمد علي زينل رضا .................................. محمد أحمد الشاطري

نار .................................. أحمد قنديل

همسات التعريف .................................. زهير محمد جميل كتبي

ص: 349