الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعلام الحجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة
1301 -
1400 هـ
1883 -
1980 م
الجزء الثاني
محمَّد علي مغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
1404 هـ - 1984 م
المقدمَة
الحمد لله الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى أرسله ربه رحمة وهدى فأخرج البشرية كلها من ظلمات الجهالة إلى نور العرفان، وعن ضلالات الوثنية إلى عبادة الواحد الديَّان، وبعد فهذا هو الجزء الثانى من أعلام الحجاز وقد اشتمل على تراجم بعض العلماء والأدباء والمؤرخين والشعراء وكلهم عَلَمٌ في فنه ومجاله. ولقد كان حديثي عنهم بحثا في الآثار التي تركوها والتى ظهرت في حياتهم أو استخرجت مما خلفوه مخطوطا في أوراقهم، وقد اتخذ الحديث عنهم طابع الإسهاب لأني رأيت من الخير تلخيص بعض هذه الآثار التي تضمها الكتب الكبيرة في صفحاتها، ليسهل على الناس قراءتها والإحاطة بها، وخاصة ما يتعلق منها بتاريخ مضى وعهد انقضى، وليكون هذا الحديث دافعا لمن رغب الاستزادة للرجوع إلى الأصل الذى منه استقيت، والمورد الذى منه نهلت، وإني لأرجو أن يجد فيها القارئ بعض الفائدة والإمتاع.
أن أعلام الحجاز الذين يستحقون أن يترجم لهم أكثر من أن يحيط بهم كتاب، وإنى باذل الجهد في جمع كلما يتيسر لي من أخبارهم والاطلاع على ما تركوا من آثار وتقديمه للقارئ بالأسلوب الذى اتبعه في هذا الكتاب وفى الكتاب الأول الذى سبقه، متوخيا الصدق في الرواية، والبعد عن المطاعن مظهرا للحسنات، عملا بالحديث الشريف "اذكروا محاسن موتاكم" متجاوزا عن النقص الذى لا يخلو منه إنسان.
وبعد فلقد ظن بعض الناس أن أعلام الحجاز هم أعيانه وسراته ووجهاؤه
فأخذوا عليَّ أني أغفلت الحديث عن كثير من الرجال الذين قرنت أسماؤهم بالمال والجاه، أو الذين تقلدوا المناصب وحظوا بالألقاب، وأنى أكرر هنا ما سبق أن ذكرته للأخوة العاتبين والسادة اللائمين أني أكتب عن الرجال الذين تميزت حياتهم بما بذلوه من جهد مادي أو معنوي في خدمة المجتمع الذى عاشوا فيه فتركوا هذه الحياة وبقيت آثارهم شاهدة عليهم مشيرة إلى النافع من أعمالهم، وحسابهم أولا وأخيرا على الله المطلع على السرائر والذى لا يضيع عمل العاملين .. ومرة أخرى فإن هذه التراجم هي لرجال فارقوا هذه الحياة الدنيا إلى رحاب الله تعالى فالحديث عنهم هو للعبرة والذكرى إحياء للعمل الطيب، وتسجيلا للذكر الحسن ورغبة في اعتبار الأحياء لاتباع القدوة الحسنة ممن سبق من الآباء والأجداد.
وقبل أن أختم الحديث أود أن أقول أن أي عمل لا يخلو من نقص فإن رأى القارئ نقصا يستطيع أن يكمله فلا يبخل علي بذلك، فلست ادعى الكمال الذى لا يصل إليه بشر، وأسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم خالية من العجب والرياء، كما أسأله تعالى أن يوفقنى إلى الحديث عن طائفة أخرى من الأعلام في كتاب لاحق إن كان في العمر بقية والحمد لله أولا وآخرا ومنه أستمد العون والسداد.
الشيخ أحمد بن عبد الله القاري
بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ أحمد بن عبد الله القاري
أسمر اللون يميل إلى الصفرة معتدل القامة متوسط الجسم واسع العينين، أقنى الأنف مسبل اللحية والشارب، حليق العارضين، عرفته في النصف الأول من الأربعينات يرتدى الجبة والعمامة الألفي الحجازية ومن تحتها الشاية وهو زيَّ العلماء في ذلك الزمان، ثم تحول إلى العباءة والغترة بدون عقال وهو زي رجال الدين في العهد السعودى، أنيق الملبس، يكسو وجهه الوقار وتلوح مخايل الذكاء بين عينيه.
ولد بمكة عام 1309 هجرية وحفظ القرآن الكريم وجوده على يدى والده شيخ القراء الشيخ عبد الله القارئ والتحق بالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة وتلقى علومه بها إضافة إلى مواظبته الحضور لتلقى الدروس بالمسجد الحرام، وكان من أنبغ الطلاب بالمدرسة الصولتية كما توضح ذلك الترجمة المسهبة التي أوردها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان والأستاذ الدكتور إبراهيم أحمد على
(1)
وقد كان لهذا النبوغ المبكر تأثيره الحسن في نفوس أساتذته فانضم إلى سلك المدرسين بالمدرسة وهو طالب بها وكان هذا التقليد من الوسائل التشجيعية التي تتبعها المدرسة الصولتية مع تلاميذها النابهين.
(1)
انظر ترجمة المؤلف في مجلة الأحكام الشرعية صفحة 64 - 67.
وحصل الشيخ أحمد القارى على أجازة التدريس بالمسجد الحرام بتفوق عظيم وقد وصف العلامة الشيخ حسن المشاط الكيفية التي تم بها اختيار الشيخ أحمد القارى فقال:
كانت هيئة الامتحان مكونة من أربعة علماء يطرح كل واحد منهم سؤاله في مختلف العلوم ويناقشون المتقدم مناقشة قوية مفحمة قَلَّ من يستطيع النجاح فيها، وكان الأمر بالنسبة للشيخ أحمد القاري إنه إذا طرح عليه السؤال يسهب في الإجَابة بطريقة تحليلية عجيبة فإذا ما أراد احد العلماء الممتحنين مقاطعته قال له به - على رسلك فالكلام إلى نهايته - واستطاع بأسلوبه وقوة عارضته وعلمه الغزير أن يمتلك إعجاب الممتحنين والحاضرين، وعلى أثر ذلك إستحق بجدارة أن يكون من مدرسي المسجد الحرام
(1)
.
وهكذا أثمر هذا النبوغ المبكر ثمرته فاقتعد أستاذنا الشيخ أحمد القاري مقعده في رحاب المسجد الحرام في حصوة باب إبراهيم في هذه السن المبكرة وكان الطلاب الذين يجلسون بين يديه يكبرونه سنا، ويكبرهم هو مقاما وعلما.
تقلد الشيخ أحمد القارى وظائف علمية كثيرة إلى جانب استمراره في التدريس في المسجد الحرام والمدرسة الصوليتة في عام 1334 هـ.
وفى عام 1336 هـ انتخب معاونا لأمين الفتوى بمكة المكرمة.
وفى عام 1339 هـ عين عضوا بهيئة التدقيقات الشرعية إلى جانب عمله السابق. وانتقل إلى جدة في عام 1345 هـ ليتولى القضاء بها، في أوائل العهد السعودى.
كما تولى التدريس والدعوة والإمامة بمسجد عكاش بجدة وفى هذه الفترة عين مدرسا بمدرسة الفلاح بجده للعلوم الدينية حيث اتصلت أسباب كاتب هذه السطور به أستاذا بالمدرسة المذكورة كما سنوضح ذلك بعد، وفى عام 1349 هـ عين الشيخ أحمد القارى عضوا بمجلس الشورى في مكة المكرمة. وفى عام 1350 هـ
(1)
انظر ترجمة المؤلف في مجلة الأحكام الشرعية صفحة 65.
عين رئيسا للمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة فعاد إلى مركزه الطبيعى في سلك القضاء.
وقد استمر الشيخ أحمد القاري في هذا المنصب إلى أن عين عضوا في رئاسة القضاء - هيئة تمييز الأحكام حاليا - في عام 1357 هـ وكان رئيس القضاء هو الشيخ عبد الله بن حسن إمام وخطيب المسجد الحرام وهو والد الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي حاليا.
وقد بقى الشيخ أحمد القاري في هذا المنصب إلى أن توفاه الله تعالى في عام 1359 هـ كما سيأتى تفصيله بعد. وينحدر الشيخ أحمد القارى من أسرة تشتغل بالعلم والتعليم فوالده الشيخ عبد الله القارى كان شيخ القراء بمكة المكرمة إلى جانب اشتغاله بطلب العلم في المسجد الحرام والمدرسة الصوليتة فكان أستاذا لمئات التلاميذ في مكة المكرمة وعمه الشيخ عبد الرحمن بن محمد القاري كان كذلك من العلماء المشهود لهم بالفضل وكان مدرسا بالمدرسة الصوليتة كذلك، ثم سافر إلى الهند لنشر علم القراءات والتجويد فمكث بها طيلة حياته وأخواه حامد بن عبد الله القارى والشيخ محمود بن عبد الله القاري وهما كذلك من رجال التعليم وقد أورد الأستاذان الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي تراجم وافية عن هذه الأسرة الكريمة فليرجع إليها من شاء
(1)
.
عرفت المرحوم الشيخ أحمد القاري أستاذا لنا بمدرسة الفلاح بجدة في النصف الأول من الأربعينات وفى أوائل العهد السعودي وكان يدرس العلوم الدينية بالفصول العليا من المدرسة والتى كانت تسمى الفصول العلمية وتبدأ من السنة السابعة إلى السنة التاسعة وقد رأينا في أستاذنا الجديد نمطا فريدا بين أساتذتنا ومعلمينا، كان الرجل ذكيا لماحا، وكان في نفس الوقت متمكنا من العلم الذى يلقيه إلينا، وكان مهيبا لا يجرأ الطلبة على إزعاجه بما تعود بعضهم أن يفعله من ضوضاء وشغب وكان إلى جانب هذا وذاك شخصية محببة تجمع بين الوقار واللطف
(1)
مجلة الأحكام الشرعية صفحة 64 - 71.
ولا أذكر أنه عاقب أحدا من الطلبة حتى ولا بكلمة قاسية، وكانت له كلمة لطيفة يرددها أثناء الدرس وكلما انتهى من الشرح فيقول متسائلا مفهوم يا مشايخ؟ فنجيب في أدب مفهوم يا مولانا.
وكان المعروف عن أستاذنا أنه كان يتولى القضاء ثم حدث ما صرفه عنه فعين أستاذا للصفوف العليا بالمدرسة، وكان يعلمنا الأصول والتفسير وأذكر أنه كان يدرس لنا تفسير القرآن للإمام النسفي وهو من أجل التفاسير للكتاب الكريم، كما أنه كان الأستاذ الوحيد في المدرسة الذي يتقن علم الجبر، وكان يلقى دروسه علينا فيه في تؤدة يحاول أن يشرح لنا معمياته، وهو على أي حال كان من الدروس الصعبة لا بالنسبة لي وإنما لكافة زملائى في الصف.
وكنا نشعر أن أستاذنا له شخصية مستقلة فلم نره يخلط نفسه ببقية أساتذة المدرسة وإنما كان يصل إلى المدرسة في مواعيد الحصة الأولى ويأخذ طريقه إلى الصف الذى يلقى فيه درسه، فإذا انتهى الدرس جلس وحيدا في غرفة الانتظار أو مع كبار معلمي المدرسة، وكنت تلمح دائما أمارات الاتزان في حركاته وحديثه، في غير اعتداد بالنفس أو تعال على الآخرين.
وكان الشيخ أحمد القارى يتقاضى مرتبا ضخما من مدرسة الفلاح في ذلك الزمان خمسة عشر جنيها ذهبا في كل شهر ولعل هذا كان أعلى مرتب تصرفه مدرسة الفلاح لكل أساتذتها بما فيهم نائب مدير المدرسة الذى كان يتقاضى عشرة جنيهات فحسب، وكان الشيخ أحمد يستحق ذلك دون شك فالرجل عالم متمكن من علمه وقد ولي القضاء في العهد الهاشمي كما وليه في العهد السعودى.
لكن ظروف المدرسة ما لبثت أن تغيرت، كانت المدرسة تتلقى مصروفاتها من مؤسسها الحاج محمد على زينل رضا الذى كان من أغنى الأغنياء وكان يتجر في اللآلي ثم ظهر اللؤلؤ الصناعي فانهارت تجارة اللؤلؤ الأصلي وتعرض مؤسس الفلاح لازمة اقتصادية عظيمة اضطر معها إلى التخلي عن الصرف على مدارس الفلاح كما أسلفنا بيان ذلك في الجزء الأول من أعلام الحجاز
(1)
.
(1)
انظر الحلقة الخاصة بالحاج محمد علي زينل رضا في كتابنا أعلام الحجاز صفحة 278/ 292 الجزء الأول.
لما ظهرت بوادر هذه الأزمة اضطرت المدرسة أن تطلع الشيخ أحمد القاري رحمه الله على الظروف السيئة التي تعرضت لها، والتى اضطرت معها إلى أن تستغني عن خدماته لأنها لا تستطيع الاستمرار في صرف المرتب الضخم الذى يتقاضاه في هذه الظروف، ولم يكن من أستاذنا رحمه الله إلا أنه أصرَّ على البقاء في المدرسة والعمل فيها بدون مرتب، لم يقبل منهم أن يدفعوا له ما يدفع لزملائه الآخرين، ولم يقل أنه يقنع ببعض الراتب، وإنما أصر على أن يعمل بلا مقابل على الإطلاق وهكذا كان.
ولم يكن الشيخ أحمد غنيا ولا صاحب تجارة أو عمل، وإنما كان رجل علم وهب حياته للعلم وسلخ ما مضى من حياته طالب علم ومدرس علم ثم تدرج في وظائف المحاكم الشرعية حتى وصل إلى القضاء بين الناس ولقد كان صاحب أسرة ولكنه كان عظيم الثقة بالله تعالى، وأنه لن يضيع أجر من أحسن عملا، لهذا آثر إلبقاء بين طلابه في مدرسة الفلاح بجدة يقوم بأشرف عمل في هذه الحياة ابتغاء مرضاة الله تعالى حتى يجعل الله له وللمدرسة فرجا ومخرجا. ولقد طلب الشيخ أحمد القارى بعد ذلك للعمل مرة أخرى في مجلس الشورى ثم في سلك القضاء في مكة المكرمة وانتقل إليها كما قرأنا في صدر هذه الترجمة. هذا ولقد كان أستاذنا محبًا لتلاميذه حفيا بأمرهم.
حدث أني تركت المدرسة بعد نهاية العطلة المدرسية وحين بداية العام الجديد، إذ رأى أهلي أن من الخير لهم أن اعمل في إحدى الوظائف بدلا من الاستمرار في الدراسة، وكان المتخرجون من الفلاح يعملون في الوظائف الكتابية الحكومية أو الأهلية، ولم ير أهلي ما يوجب استمرارى عامين آخرين للانتقال من سلك الدارسين إلى سلك الموظفين، فالحقوني بمالية جدة بوظيفة ملازم، والملازم هو الموظف الذى يلازم الدائرة التي يلتحق بها ليتمرن على العمل الوظيفى إلى أن تخلو وظيفة فيعين بها بعد أن يكون قد اكتسب من الخبرة ما يؤهله لذلك، وبعد أن يكون قد اتيح لرؤسائه أن يطلعوا على مبلغ ما يحسنه من الكتابة أو الحساب.
وقضيت ما يقرب من شهر في وظيفة ملازم بمالية جدة وكان رئيسها المرحوم السيد
هاشم سلطان، وذات يوم لقيت أستاذنا الشيخ أحمد القاري وهو في طريقه إلى مدرسة الفلاح وأنا في طريقي إلى مالية جدة وكانت في مبنى الخزنة، وكان هذا المبنى يقع أمام باب جديد في مواجهة ميدان البيعة الحالي وكان يضم قائم مقامية جدة وإدارة المالية والمحكمة الشرعية وقد أزيل هذا المبنى بعد أن أصبح خربا وآل إلى السقوط.
وكان الشيخ أحمد رحمه الله يسكن في حارة الشام في مواجهة مبنى الخزنة المذكورة. لقيت الشيخ فوقفت أسلم عليه فسألني لماذا انقطعت عن الدراسة فأخبرته أن أهلي رغبوا لي أن أتوظف قال وما هي الوظيفة التي عملت بها قلت أني لا زلت ملازمًا - والملازم لا يتقاضى أي راتب - وقد يبقى بلا عمل إن لم يهتم به أحد من الموظفين أو يوصي عليه.
قال الشيخ حسنا، وقابلته مرة أخرى فاستوقفني وقال لي أنه وجد لى وظيفة حسنة وراتبها أربعمائة قرش ذهب وهي وظيفة معاون مأمور الحوالات والطرود بإدارة بريد جدة وقال لي اذهب إلى هناك وقابل الشيخ سالم ناظر مأمور الحوالات والطرود فقد حدثته في أمرك وهو محتاج إلى معاون له، شكرت الشيخ وقلت إني لابد لي الرجوع إلى والدي وخالي في الأمر فقال على بركة الله.
وهكذا أوجد لى الشيخ رحمه الله أول وظيفة عملت بها وأنا دون الخامسة عشرة وكانت في وقتها تعتبر أحسن ما يمكن أن يبدأ به موظف صغير مثلي، وهكذا أظهر الشيخ اهتمامه بتلميذ من تلاميذه يرحمه الله.
مجلة الأحكام الشرعية
هذا ولقد فوجئت كما فوجيء غيرى من الناس بالمرجع الشرعي الضخم الذى كرس الشيخ أحمد رحمه الله حياته لتأليفه، والذى قام على مراجعته وتحقيقه وشرح ما يتعلق به في الهوامش الضخمة كل من الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي الأستاذين المشاركين بجامعة أم القرى. وقامت -
تهامة مشكورة بإصداره في طباعة جيدة وإخراج حسن.
أن مجلة الأحكام الشرعية ليست كما يتصور القارئ مجلة من المجلات الدورية التي تصدر في كل أسبوع أو كل شهر أو في كل بضعة شهور وإنما هو اصطلاح سبقت إليه الحكومة العثمانية حينما أصدرت مجلة الأحكام العدلية في عام 1203 هـ وهو كتاب يشتمل على المعاملات الفقهية ووسائل الدعاوى وأحكام القضاء كما أوضح العالمان الفاضلان اللذين قاما بمراجعة المجلة المذكور وإخراجها للناس.
وهو علم الغرض منه وضع الأحكام الشرعية في صيغة قانونية إذا صح هذا الوصف، لتكون مرجعا لذوي العلاقة من العلماء والقضاة وطلاب العلم والمحامين وأصحاب القضايا وقد كانت الحكومة العثمانية وضعت هذه المجلة على أساس مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان الذى كان المذهب الرسمي لدولة الخلافة العثمانية.
وقد تفرغ الشيخ أحمد القارى رحمه الله لوضع الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في هذه المجلة التي أعطاها نفس الاسم الذى سبق أن أعطي للمجلة التي ظهرت في العهد العثمانى باعتبار أن هذا الاصطلاح أصبح علما على هذا الأمر.
وليس هنا مجال البحث في هذه المجلة الشرعية التي كرس أستاذنا الشيخ أحمد القارى رحمه الله حياته لجمع احكامها وتبويبها وترتيبها فهذا شأن المتخصصين من أرباب هذا العلم، وهم أحق بالحديث عنه مني ومن أمثالي. ولكني أستطيع أن أقول أن هذا العمل العظيم يضطلع به في العادة جماعة من أفاضل العلماء، يتفرغ كل منهم على ناحية من النواحى فيجمع أحكامها ويراجعها ويبوبها ويرتبها، ويعلق عليها، كأن يتفرغ واحد منهم مثلا لشئون البيع وأنواعه وأمور التجارة وما يجوز منها وما لا يجوز، ويتفرع الآخر مثلا لأحكام الشركات وأنواعها وما يتعلق بهما وما يتفرع عنهما. ويتفرغ الثالث لأحكام العقار وما إليه وربما اختص كل واحد
منهم بنوع من أنواع الأحكام الشرعية، وهكذا حتى تستكمل هذه الجماعة جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بحياة الناس وأمورهم. أما أن يقوم فرد واحد بعبء هذا العمل العظيم كله فهو الأعجوبة التي تنحني لها الرؤوس إجلالا وتقديرًا. ولقد ذكر العالمان الفاضلان اللذان قاما بتحقيق هذه المجلة الشرعية إن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله اعتزم تأليف لجنة من خيار العلماء المتخصصين لوضع مجلة للأحكام الشرعية تستقى الأحكام من جميع المذاهب الشرعية بما تراه في صالح المسلمين مدعما بأقوى الحجج ولكن جلالته تيقن أن هذا الأمر يقتضي الوقت الطويل والجهد الكبير فاكتفى بتعيين المراجع الشرعية التي يرجع إليها في القضاء بين الناس.
(1)
وإني لأنقل هنا ما كتبه الأستاذان الفاضلان اللذان قاما بدراسة وتحقيق هذا الكتاب العظيم تحت عنوان تقويم المجلة.
تعتبر هذه المجلة أول عمل علمي حديث في الفقه الحنبلي سبق غيره من الأعمال في هذا المجال وقد ساعد القاضي أحمد تأليفها وإخراجها في هذا الثوب الفقهى الجديد تكوينه العلمي ووضعه الوظيفى ذلك أنه يعتبر من كبار فقهاء الحنفية في البلد الحرام، وقد مارس المذهب الحنفي تعلما وتدريسًا فهو على معرفة وألفة تامة بالمذهب الفقهى لمجلة الأحكام العدلية العثمانية فسهل هذا عليه هضم منهجها والأسلوب الذى صيغت فيه أحكام ذلك المذهب.
أما معرفته بالفقه الحنبلي فهى معرفة عميقة لأنه عايشه قضاء ولسنين عديدة فلا عجب أن تكون هذه المجلة التي نقدمها للباحثين والدارسين ثمرة تلك الروافد الصافية والملكة الفقهية الأصيلة
(2)
. وجاء كذلك في تقويم المجلة ما يلى:
استطاع المؤلف في كثير من المواد والأحكام صياغتها وحبك عبارتها في صورة يمكن اعتبارها قاعدة وقانونا فاصلا في موضوعها. ومنها:
أظهر المؤلف رحمه الله تعالى جانبا مشرقا من ملكته الفقهية فقد ذكر في كتاب
(1)
انظر صفحة 29 مجلة الأحكام الشرعية.
(2)
مجلة الأحكام الشرعية صفحة 52 باب تقويم المجلة.
الوقف قضايا واقعية مأخوذة من سجلات المحاكم الشرعية مستشهدا بها لتطبيق علمي لحكم المادة، ولو قدر للمؤلف سعة في عمره لذيل كل مادة فقهية بقضية شرعية مناسبة لها خصوصا وهو يعمل في القضاء ويعتبر هذا الأسلوب فكرة متطورة سبق بها زمانه.
وختم الأستاذان الفاضلان حديثهما عن تقويم المجلة بما يلى:
أن هذه المجلة بما لها وما عليها تجربة رائدة في المذهب الحنبلى وعمل جليل في الفقه الإسلامي يتطلب من الباحثين متابعة هذا المنهح والمثابرة عليه نحو كتب تراث الفقه الإسلامي حتى تسهل الاستفادة منه، ويكسر الحاجز الذى حال بين المسلمين وبين ورود منابعه الصافية في وقت هم أحوج ما يكونون إلى ذخائر
(1)
وكنوزه هذا والمجلة سفر ضخم يتكون من ستمائة وتسعة وسبعين صفحة ويحتوى على واحد وعشرين كتابا شملت الأحكام الشرعية للبيع وأحكامه وأنواعه والإجارات وأنواعها وفى العارية والوديعة وفى الغصب والإتلاف والحجر والإكراه وفى الشفعة والصفح والإبراء وفى الشركات وأنواعها وفى القضاء والبينات والشهادة وخلافها وكل كتاب من هذا الكتب يحتوى على فصول كثيرة صيغت فيها مواد الأحكام الشرعية في تفصيل وتحقيق عظيمين وبلغ مجموع المواد التي صيغت فيها الأحكام ألفين وثلاثمائة واثنين وثمانين مادة.
ولقد بقيت المجلة الشرعية التي ألفها أستاذنا الشيخ أحمد القارى رحمه الله حبيسة خزانة الشيخ حتى توفاه الله تعالى فقام أخوه العالم الفاضل الشيخ حامد بن عبد الله القارى بحفظها والمحافظة عليها حتى أذن الله تعالى لها بالظهور بعد أن علم بها العالمان الفاضلان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان والأستاذ الدكتور محمد إبراهيم أحمد على الأستاذان المشاركان بجامعة أم القرى فقاما بعبء مراجعتها وتحقيقها والتعليق
(1)
مجلة الأحكام الشرعية صفحة 53، 54 باب تقويم المجلة.
عليها وإخراجها للناس في هذا السفر الضخم العظيم الذي يتألف من حوالي سبعمائة صفحة. وقامت تهامة مشكورة بطبعها وإخراجها للناس عملا رائعا عظيما ينتفع به الناس في كل زمان ومكان. ولقد لاحظت أن مجلة الأحكام الشرعية لم تتعرض لأحكام الزواج والطلاق والأرث، ولم يورد المحققان الفاضلان تعليلا لذلك، ولكن هذا لا يطعن بحال من الأحوال في قيمة العمل العظيم والجهد الكبير الذى بذله المؤلف الفاضل في تدوين أحكام المجلة وأرجو أن يقوم من علمائنا الأفاضل من يستكمل وضع الأحكام التي لم ترد في المجلة لتكون استكمالا لهذا العمل العظيم الذى بدأه أستاذنا الكبير رحمه الله.
إنها صدقة جارية ادخرها الله تعالى لشيخنا الجليل الأستاذ أحمد لتظهر بعد أن مضى عليه ما يزيد على ثلاث وأربعين سنة وهو في رحاب الله تعالى فخرجت إلى الناس بريئة من العجب والادلال لأن صاحبها قد غادر هذه الحياة الدنيا إلى دار الجزاء والحساب. سليمة من الفخر وتقبل الثناء لأنَّ ما عند الله أبقى وأجزل مثوبة.
وقد توفى الشيخ أحمد رحمه الله في عام 1359 هـ بمدينة الطائف بعد مرض طويل وفى فن في المقبرة الملاصقة لمسجد ابن العباس بعد الصلاة عليه في المسجد المذكور.
رحم الله أستاذنا الشيخ أحمد القاري بقدر ما أسدى للعلم وأهله وأحسن جزاءه في جنات عدن وشكر الله للأستاذين الفاضلين الذين قاما على مراجعة هذا العمل العظيم وتبويبه وترتيبه والتعليق عليه وإخراجه إلى النور لينتفع به الناس، وشكر الله لتهامة ما تقوم به من عمل طيب متواصل في نشر روائع العلم والأدب بين الناس.
حسين عبد الله باسلامة
حسين عبد الله باسلامة
معتدل القامة، حنطي اللون واسع العينين، كبير الأنف معتدل الجسم تزين وجهه لحية غلب البياض فيها على السواد يرتدي العباءة العربية ويضع على رأسه عقالًا أبيض وهوزي اتخذه بعض العلماء أما معظم رجال الدين فيكتفون بالغترة البيضاء على رؤوسهم، ولقد كان الشيخ محمد حسين نصيف كبير جدة في القرن الماضى إذا لبس العقال لبس عقالا أبيض كهذا الذى وصفناه في لباس الشيخ حسين باسلامة وعلى ذكر الشيخ محمد نصيف أو الأفندى نصيف كما كان يطلق عليه أهل جدة فهو صديق حميم للشيخ حسين باسلامة وقد كتب له ترجمة مسهبة نشرت كتعريف له في كتابه تاريخ عمارة المسجد الحرام الذى سنتحدث عنه بعد، وقد استندنا إلى هذه الترجمة في التعريف به ونختصرها فيما يلى:
ولادته وتعليمه
ولد حسين بن عبد الله بن محمد باسلامة آل باداس الكندي الحضرمي المكي بمكة المكرمة في غرة شهر صفر من عام 1299 هـ، وتعلم على أيدي أساتذة مختلفين في الكتاتيب البسيطة التي كانت سائدة في ذلك الزمان ثم انتقل مع والده
إلى مدينة الطائف فالتحق بالمدرسة الرشدية لمدة عامين ولم يكمل تعليمه بها، والمدرسة الرشدية أو المكتب الرشدى كما ذكره الشيخ محمد نصيف هو المدرسة الرسمية الابتدائية للتعليم في العهد العثمانى وكانت هذه المدارس موجودة في مكة وجده والمدينة والطائف
(1)
.
ثم قرأ بعض كتب الفقه ومبادئ التفسير على يد الشيخ يوسف اليمانى أمام مسجد الهادى بالطائف.
ولكن طالب العلم حسين باسلامة اضطر للانقطاع عن الدراسة لوفاة والده فاشتغل بالتجارة ليعول نفسه وأسرته.
يبد أن الرغبة الشديدة للدراسة لم تفتر في نفس حسين باسلامة فكان يجمع بين العمل والطلب كلما لاحت له الفرصة يقول الشيخ محمد نصيف.
تعرف المؤلف في عام 1320 هـ بحضرة محمد عبد الله أفندي الذى كان مبعوثا لايدين بمجلس المبعوثان العثمانى درس عليه فن الجغرافيا ومبادئ التاريخ وشيئا من فن الحساب ومبادئ علم الفلك ولازمه ملازمة تامة إلى 1323 فتلقى عنه كثيرا من العلوم العصرية المتعلقة بالسياسة والاجتماع وما أشبه ذلك.
وكما اتصلت أسباب حسين باسلامة بمن أخذ عنه بعض العلوم العصرية في زمانه فقد اتصلت أسبابه كذلك بعلامة المغرب الأقصى المحدث النابغة اللغوي الحافظ كما يصفه الشيخ محمد حسين نصيف وهو الشيخ محمد شعيب المغربى فتلقى عنه مصطلح الحديث وعلم التفسير وشيئا من أصول الفقه كما درس فن الحديث والتراجم على المرحوم الشيخ محمد الفا هاشم الفلاته التكرونى وكذلك درس فن الأدب على المرحوم الشيخ عبد الجليل براده إمام الأدب في الحجاز حال أقامته بمكة من عام 1323 إلى عام 1326 هـ.
ودرس العلوم الدينية فقها وتفسيرا للقرآن الكريم ولعلم الحديث وعلم اللغة
(1)
انظر ما كتبناه عن ماضى التعليم في الحجاز في كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة في تراجم السيد محمد طاهر الدباغ والحاج محمد على زينل رضا.
على علامة مكة الفقيه المحدث السيد حسين بن محمد الحبشى مفتى الشافعية لمكة وطالت ملازمته له نحوا من عشر سنين حتى توفي السيد حسين بمكة في شوال من عام 1331 هـ.
وهكذا تتجلى صورة طالب العلم حسين باسلامة الحريص على طلب العلم مع السعي في هذه الحياة للقيام على شؤون نفسه وأسرته.
كان يقيم بمكة وكانت مكة كما لا تزال مهوى لأفئدة الناس، يؤمها العلماء من كافة أقطار الأرض لأغراض شتى فكان صاحبنا يسعى إلى هؤلاء الرجال ليتلقى عنهم ما يتقنون من علوم الدين والدنيا حتى تزود بحصيلة طيبة من العلم والمعرفة في ذلك الزمان.
وكان موسم الحج يجمع الكثير من علماء المسلمين وأدبائهم فكان الشيخ حسين باسلامة يسعى إلى مقابلة هؤلاء الإعلام الوافدين للحج يبحث معهم قضايا العصر وشؤون العلم فأفاد واستفاد وباحث وناظر وتعرف على هؤلاء الأعلام من الرجال، ثم أكمل ثقافته بالرحلة إلى مصر وسوريا أكثر من مرة واجتمع إلى كثير من مشاهير العلماء في البلدين وخاصة من سبق له الوفود إلى مكة، كما اتصل في هذه الرحلات بأرباب الصحف والمجلات العربية في الاستانة ومصر وسوريا وكتب ونشر كثيرا من المباحث الاجتماعة والعلمية والسياسية كما نشر في الصحف الحجازية بعضا مما كتب وهكذا كان الرجل حركة دائبة في طلب العلم ونشره والاتصال بأهله في كل مكان يصل إليه.
وظائفه
اشتغل حسين باسلامة بالتدريس فكان أستاذا للجغرافيا والتاريخ في عام 1327 بالمدرسة الخيرية التي أنشأها الأستاذ العلامة الشيخ - محمد حسين خياط رحمه الله.
أما أول وظيفة باشرها فهى سكرتير مجلس الشيوخ في حكومة الملك
الشريف الحسين بن على في عام 1335 هجرية.
وحينما تولى المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز اختير الشيخ حسين باسلامة عضوا في المجلس التأسيسى الذى شكل آنذاك لوضع النظام الأساسى لحكومة الملك عبد العزيز وذلك في عام 1344 ثم انتخب عضوا في اللجنة التي شكلت لوضع التعليمات الأساسية، كما انتخب عضوا في المجلس التشكيلى الذى شكل بجده لترتيب دوائر الحكومة السعودية ثم انتخب عضوا في المجلس الاستشارى في عام 1345 تم تأسيس مجلس الشورى وانتخب الشيخ حسين باسلامة عضوا فيه، كما عين عضوا في لجنة الحج في بداية تأسيسها وعين كذلك عضوا في هيئة الأمر بالمعروف حين تأسيسها.
ويبدو أن عضوية بعض المجالس كانت تتم بالانتخاب فأعيد انتخاب الشيخ حسين باسلامة في عام 1349 مرة ثانية في لجنة الحج كما أعيد انتخابه للمرة الثانية في مجلس الشورى وكذلك ثم انتخابه عضوا في مجلس المعارف وفى عام 1354 انتخب عضوا في هيئة المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين.
هذا ما جاء في الترجمة الوافية التي كتبها الشيخ محمد نصيف عن الوظائف والأعمال التي تقلدها الشيخ حسين باسلامة.
مؤلفاته
ألف الشيخ باسلامة كثيرًا من الكتب لا يزال القسم الأكبر منها مخطوطا لم يظهر إلى النور، وربما يكون الكثير منها قد فقد أو تلف مع تطاول السنين وسنذكر أسماء هذه الكتاب كما وردت في الترجمة التي كتبها الشيخ محمد نصيف بعد.
أما القسم الآخر الذى تم طبعه فبعضه نفذ وسنذكره كذلك بعد، ولكن القسم المطبوع الذى وصل إلينا هو الذى سنتحدث عنه في هذه الترجمة وأهم ما وصل إلى يدى من مؤلفات الشيخ باسلامة كتاب.
تاريخ عمارة المسجد الحرام
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1354 للهجرة ثم أعيد طبعه مرة ثانية بعد عشرين عاما من وفاة المؤلف بتحقيق الأستاذ عمر بعد الجبار ومراجعة الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى مع إضافة فصول جديدة إليه ولم أطلع على هذه الطبعة، وقامت دار تهامة للنشر بإعادة طبع المطبوعة الأولى من تاريخ عمارة المسجد الحرام في عام 1400 هجرية وحرصت على إصدار هذه الطبعة الثالثة بالشكل الطباعى الذى صدرت به الطبعة في عام 1354 أي قبل ستة وأربعين عاما من تاريخ الطبعة الثالثة.
وكتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام يمكن وصفه بأنه أول كتاب من نوعه فهو يتحدث أولا عن صفة المسجد الحرام قبل الإسلام ثم يتحدث عن الزيادة الأولى التي أحدثها الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثم زيادة أمير المؤمنين عثمان بن عفان فزيادة عبد الله بن الزبير والزيادة الرابعة في عهد الوليد بن عبد الملك فزيادة الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور ثم زيادة الخليفة المهدى فزيادات الخلفاء العباسين المعتضد والمقتدر موضحا مقدار الزيادات التي زيدت فيها مساحة المسجد في كل عهد من العهود ومقدار ما أنفق على ذلك من الأموال في تفصيل دقيق.
وكما يتحدث المؤلف عن الزيادات التي زيدت في المسجد الحرام فإنه يتحدث كذلك عن العمارات التي أحدثت في المسجد عبر القرون واصفا ما تم في كل عمارة من إصلاح وما أدخل على المسجد من تحسين أو زخرفة مبتدئا بالعمارة التي تمت في عهد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان ثم عهود الخلفاء العباسين فملوك الجراكسة فسلاطين آل عثمان بدءا بالسلطان سليمان وانتهاءا بالسلطان مراد كل ذلك في تفصيل شائق ودقيق، فإذا كنت ممن يهتمون بالتاريخ فإن الكتاب يقدم إليك قصة شائقة تتسلسل إحداثها عبر مئات القرون ولكنها قصة حقيقة من واقع الزمان وليست من نسج الخيال، ولا أكتم القارئ أني حينما قلبت الصفحات
الأولى من كتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام لم أكن أقدر أن الكتاب سيستهوينى إلى حد إكمال جميع صفحاته كنت أقدر أنني ساقرأ بعض الفصول قراءة تامة، وأمُرّ ببعضها مرورا عابرا ولكني لم أستطع الانفكاك من تأثيره علي.
عمارة المسجد عبر التاريخ
ولعل من المفيد أن نذكر في إيجاز الأدوار التاريخية لعمارة المسجد الحرام كما وردت في كتاب الشيخ حسين باسلامة.
أن العماير التي تمت في المسجد الحرام عبر التاريخ كان معظمها يتم لظهور الحاجة إليها ولقد كانت مساحة المسجد الحرام محددة منذ أن بنى قصي بن كلاب الذى وحد قبيلة قريش مند أن بنى البيوت حول الكعبة إذ كانت الكعبة في المكان الذى بناها فيه الخليل إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل وكان ما حولها فضاءا يخلو من البناء فكان الناس يطوفون حول الكعبة وكانت قبائل قريش تسكن بعيدا عنها، فلما آل حكم مكة إلى قصي بان كلاب بنى الدور حول الكعبة وبهذا تحددت المساحة المحيطة بالكعبة بهذه الدور لأول مرة في التاريخ.
وأول توسعة تمت للمطاف كانت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في العام السابع عشر للهجرة الذى رأى ضيق المطاف بعد أن ازداد عدد المسلمين فاشترى الدور المحيطة بالمسجد ووسع المطاف وجعل له أبوابا لدخول الطائفين إليه، وتبعه في ذلك الخليفة الراشد عثمان بن عفان وزاد على الزيادة في مساحة المطاف بناء رواق مسقوف في المسجد للغرض الذى أجريت توسعة المطاف من أجله وهو زيادة المساحة للمصلين والطائفين وتمت هذه الزيادة في العام السادس والعشرين للهجرة.
ثم جاء عبد الله بن الزبير في سنة 64 للهجرة فزاد في المسجد زيادة عظيمة من جهاته الشرقية والجنوبية والشمالية واشترى دورا كثيرة بذل فيها مالا كثيرا وأدخلها في المسجد الحرام كما سقف المسجد وجعل فيه أعمدة الرخام وبلغت المساحة في
عمارة ابن الزبير اثنين وثلاثين ألفا وأربعمائة ذراع معمارى.
وفى سنة 75 للهجرة أجرى الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان عمارة في المسجد الحرام إلا أنه لم يزد في مساحته ولكن ابنه الوليد بن عبد الملك أجرى عمارة عظيمة في المسجد الحرام استورد لها أساطين الرخام من مصر والشام وزاد في مساحته رواقا واحدا دائرا على حافة المسجد الحرام وذلك في سنة واحد وتسعين للهجرة.
وفى سنة مائة وثلاثين للهجرة أمر الخليفة المنصور العباسى عامله على مكة بتوسيع المسجد الحرام فتم شراء دور كثيرة وزاد فيه في جهته الشمالية والغربية، وكانت زيادة المنصور رواقا واحدا دائرا على صحن المسجد الحرام بحيث أصبحت مساحة المسجد الحرام بعد هذه الزيادة ضعف ما كانت عليه قبلها، وتمت العمارة في ستة مائة وأربعين للهجرة.
وفى خلافة المهدي العباسي جرت للمسجد الحرام عمارتان عظيمتان الأولى أكمل بها عمارة أبيه الخليفة المنصور والثانية لما قدم للحج ورأى أن العمارة التي حدثت لم تجعل المسجد مربعا بحيث تظهر الكعبة المشرفة في وسطه تماما وقد أنفق الخليفة المهدى الأموال العظيمة في العمارتين وأصبحت مساحة المسجد الحرام بعد هاتين العمارتين ستة أفدنة ونصف وربع، الفدان عشرة آلاف ذراع بذراع العمل المستعمل في البناء بمصر وهو ثلاثة أشبار تقريبا.
وفى سنة 281 أدخل الخليفة المعتضد العباسى دار الندوة بعد أن تخربت أدخلها في المسجد الحرام وكانت مسجدا مستقلا عن المسجد وهذه الزيادة هي التي ينسب إليها باب الزيادة المعروف بمكة أو على الأصح الذى كان معروفا بها قبل العمارة السعودية.
وزاد الخليفة المقتدر بالله العباسى في سنة 306 زيادة سميت بباب إبراهيم وكان هناك ساحة بين بابين من أبواب المسجد الحرام أحدهما يسمى باب الخياطين أو باب الحزورة والثانى باب بنى جمح وكانت هذه الساحة أمام دارين لزبيدة أم
الخليفة الأمين فأدخلت هذه الساحة في المسجد الحرام.
وفى سنة 803 للهجرة شب حريق عظيم في المسجد الحرام أتى على الجانب الغربى من المسجد إلى أن وصل إلى الجانب الشمالي واستمر الحريق في هذا الجانب وهو يلتهم سقوف المسجد وأعمدته الرخامية إلى أن وصل الحريق إلى أسطوانتين هدمهما السيل العظيم وأسقط ما عليهما من الأعمدة والسقوف في باب الباسطية فتوقف الحريق، وقد قام السلطان أبي السعادات زين الدين فرج برقوق بتعمير ما أتلفه الحريق من سقوف المسجد وأعمدته ولم تحدث في هذه العمارة زيادة في مساحة المسجد الحرام.
أما عمارة السلطان سليم في سنة 981/ 984 فقد كانت شاملة للمسجد الحرام كله بعد أن ظهر الخراب في بعض أروقة المسجد وبرزت رؤوس أخشاب السقوف من مواضعها فجرت للمسجد عمارة عظيمة أبدلت فيها السقوف الخشبية بالقباب الموجودة حاليا في العمارة العثمانية للمسجد والقائمة على دعامات قوية من الحجر أو أساطين الرخام - وقد توفى السلطان سليم قبل إكمال العمارة فأتمها ابنه السلطان مراد خان قد استمرت هذه العمارة أربعة أعوام وكانت تجديدا كاملا للمسجد الحرام منذ عمارة الخليفة المهدى العباسى التي انتهت في سنة 164 للهجرة ولكن مساحة المسجد الحرام قد بقيت على حالها دون زيادة باستثناء الزيادتين اللتين تمتا في باب الزيادة وباب إبراهيم والتى أسلفنا الحديث عنهما قبل.
هذه خلاصة وجيزة للأدوار التاريخية التي مرت بها عمارة المسجد الحرام، وهناك عمارة أخرى تتصل بالمسجد وإن كانت لا تدخل ضمن مساحته فقد أنشأ سلطان مصر الجركسي قايتباى في سنة 882 للهجرة أول مدرسة تدرس فيها المذاهب الأربعة كما أنشأ الخلاوى المعروفة في المسجد فاستبدل بعض الأربطة المجاورة للمسجد كما اشترى بعض الدور فبنى فيها مجمعا كبيرا مشرفا على المسجد الحرام وعلى المسعى ومكتبا ومنارة كما بنى فيها اثنين وسبعين خلوة وصير المجمع المذكور مدرسة تدرس فيها علوم الدين على المذاهب الأربعة
وحبس عليها الأوقاف في مصر وفى مكة نفسها وقرر فيها أربعة مدرسين وأربعين طالبا وقد تم بناء هذه المدرسة بالرخام المكوف وسقفها بسقف مذهب وأرسل السلطان قايتباى لها خزانة كتب وضعها في المدرسة وأوقفها على طلبة العلم وقد بلغت إيراد غلة هذا الوقف ألفي دينار ذهبي خلاف غلات القرى والضياع الموقوفة عليه بمصر يقول القطب الحنفي بعد ذكر ما تقدم وذلك باق إلى الآن إلا أن الأكلة قد استولت على تلك الأوقاف وضعفت جدا وهي آيلة إلى الخراب وصارت المدرسة سكنا لأمراء الحاج في أيام الموسم وسكنا لغيرهم من الأمراء إذا وصلوا إلى مكة في وسط السنة وصارت أوقافها مأكلة.
وسأوجز للقارئ بعض المعلومات التاريخية الهامة والطريفة التي يشتمل عليها هذا الكتاب الفريد وسنبدأ بالأوليات في هذه المجال.
أوليات في المسجد الحرام
1 -
أول من بنى الدور حول الكعبة قصي بن كلاب.
2 -
أول من هدم الدور المنشأة حول المسجد الحرام وأدخلها توسعة للمطاف وأحاط المطاف بسور له أبواب هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وتبعه في ذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
3 -
أول من بنى السد لتحويل مجرى السيل لئلا يدخل المسجد الحرام هو كذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
4 -
أول من أحدث الأروقة وسقف المسجد أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
5 -
أول من جلب أساطين الرخام وأقامها في المسجد هو عبد الله بن الزبير وتبعه في ذلك الخلفاء.
6 -
أول من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد الله القسرى في خلافة عبد الملك بن مروان.
7 -
أول من سقف المسجد بخشب الساج وهو امتن أنواع الخشب ورفع جدار المسجد وزين رؤوس الأساطين في المسجد بالذهب عبد الملك بن مروان.
8 -
أول من أَزّر داخل المسجد الحرام بالرخام وجعل له شرفات وجعل في حوائطه العقود وزين واجهة هذه العقود بالفسيفساء الوليد بن عبد الملك وكذلك هو أول من جعل السرادقات في الحصوة ليستظل بها المصلون حينما يكثر الحجاج.
9 -
أول من البس جدار حجر إسماعيل الرخام هو الخليفة أبو جعفر المنصور.
10 -
أول من ربع المسجد الحرام لتكون الكعبة المعظمة في وسطه هو الخليفة العباسى المهدى وقد أمر المهندسين بتمثيل ذلك له وصعد على جبل أبي قبيس ليرى الدور التي ستدخل في المسجد وقد نصبت عليها الرماح ورأى ما سيهدم من البيوت وما يكون مجرى للسيل ومحلا للسعى لكي تكون الكعبة المعظمة قى قلب المسجد الحرام.
11 -
أول من شيد المنائر في المسجد الحرام الخليفة المنصور ثم الخليفة المهدى.
12 -
أول من وضع مصباحًا للطائفين بالمسجد الحرام عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني وكانت داره لاصقة بالمسجد من ناحية وجه الكعبة فكان يضع مصباحا على داره وكانت مساحة المسجد صغيرة فيضيء للطائفين وأول من وضع القناديل في المسجد لإضائته معاوية بن أبي سفيان.
13 -
أول من أضاء المسجد الحرام بالكهرباء هو الملك الشريف الحسين بن علي ثم الملك عبد العزيز آل سعود رحمهما الله.
14 -
أول من خطب على منبر في المسجد الحرام معاوية بن أبي سفيان.
15 -
أول من عمل مظلة في شارع المسعى للساعين بين الصفاء والمروة الملك الشريف الحسين بن علي في عام 1339 هجرية
(1)
.
16 -
أول من رصف شارع المسعى بالحجر الصوان الملك عبد العزيز بن سعود
(1)
291 - 294 تاريخ عمارة المسجد الحرام.
وذلك في عام 1345 للهجرة وكانت أرض المسعى موحلة وكان هذا أول شارع تم رصفه في مكة المكرمة
(1)
وبهذه المناسبة فإن مساحة المسعى في ذلك العهد كما ذرعها المؤلف بلغت ثلاثمائة وأربع وتسعين مترا وخمسة وثلاثين سنتما.
هذه بعض الأوليات التي استخلصتها من الكتاب وهي في غاية الإيجاز، فمن أراد الاستزادة من هذا المنهل العذب فليرجع إلى هذا الكتاب الثمين ليجد فيه ما يشفى الغلة فالكتاب يتميز بالتفصيل الدقيق المستند إلى مصادر تاريخية كثيرة .. وقد ناقش المؤلف ما كتبه المؤرخون السابقون مناقشة العالم المتمكن من فنه وقام بعد ذلك بتحقيق بعض الأمور بنفسه مثل قيامه بذرع المسجد الحرام من جميع جوانبه وتفسير ما قد يكون ظاهرا من أسباب اختلاف المؤرخين في ذلك ونورد هنا على سبيل المثال بعض المعلومات التي أوردها المؤلف بالنسبة لذرع المسجد الحرام في اختصار شديد.
مساحة المسجد الحرام
1 -
كانت مساحة المسجد الحرام بعد الزيادة الأولى التي أحدثها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا تتجاوز حدود المقامات الأربعة وسنتحدث عن هذه المقامات بعد.
2 -
بلغت مساحة المسجد الحرام بعد الزيادة التي أحدثها عبد الله بن الزبير رضى الله تعالى عنه اثنين وثلاثين ألف وأربعمائة ذراع.
3 -
بلغت مساحة المسجد الحرام بعد زيادة الخليفة أبي جعفر المنصور ضعف ما كانت عليه مساحة المسجد بعد زيادة ابن الزبير والوليد بن عبد الملك - أما زيادة الوليد بن عبد الملك فقد كانت رواقا واحدا من الجهة الشرقية.
4 -
زادت مساحة المسجد الحرام بعد الزيادتين اللتين أدخلهما الخليفة المهدى
(1)
295 - 298 نفس المصدر.
5 -
قام المؤلف بذرع المسجد الحرام قبيل تأليف كتابه الذى نتحدث عنه وبعد العمارتين اللتين أحدثتا فيه من قبل السلطان سليم والسلطان مراد خان العثمانيين فبلغ ذرعه ثمانية وعشرين ألفا وثلاثة أمتار وهذه المساحة هي التي بقيت إلى أن تمت التوسعة العظيمة للمسجد في عهد المغفور له جلالة الملك عبد العزيز آل سعود واستمرت بعد وفاته إلى أن تمت في عده أبنائه الملك سعود والملك فيصل رحمهما.
أبواب المسجد الحرام
ومن أمتع فصول الكتاب الفصل الخاص بأبواب المسجد الحرام ولعل مما يجدر ذكره أن أول من فتح الأبواب في المسجد الحرام هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -، فلقد كانت البيوت تحيط بالكعبة ويخرج الناس من بيوتهم إليها فلما نزع ملكية بعض الدور لتوسعة المطاف جعل لهذه التوسعة سورا وفتح فيها ابوابا يدخل الناس إلى المسجد منها، وقد بلغت أبواب المسجد بعد توسعة الخليفة العباسي المهدى تسعة عشر بابا، ثم توالت الزيادات في الأبواب حتى بلغت في عصر المؤلف في عام 1354 هـ ستة وعشرين بابا، وقد ذكر مواضع هذه الأبواب من جهات المسجد الأربعة بابا بابا وتحدث عن تاريخ أحداث هذه الأبواب وما كتب عليها كما تحدث عن أسماء هذه الأبواب في تسلسل تاريخى ممتع مع محاولة تعليل هذه التسميات وأوردهنا بعض المعلومات الخاصة بأبواب المسجد الحرام كمثال على ما يحتويه الكتاب من معلومات ثمينة قيمة.
1 -
بات أجياد الصغير ذكره بهذه الاسم ابن ظهيرة وقطب الدين في الأعلام وابن جبير في رحلته وسماه ابن جبير أيضا باب الخلفيين وعرفه الأزرقي بباب بنى مخزوم، أحدثه وانشأه أمير المؤمنين محمد المهدى في عمارته الثانية سنة 164 وقد جددت عمارته سنة 984 التي أجريت بأمر السلطان مراد خان ابن السلطان سليم خان وعليه 19 شرفة وله منفذان وله كذلك باب خشبي قوى بمصراعين ويعلو عن
أرض الرواق بتسع درجات وقد كتب عليه نقرا على الحجارة بالخط البارز.
"بسم الله الرحمن الرحيم، {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ".
2 -
باب النبي سمى بذلك لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل المسجد ويخرج منه من تلك الجهة حيث كانت في تلك الجهة دار زوجه خديجة رضوان الله تعالى عليها، يقول المؤلف ويقال لهذا الباب باب الجنائز والظاهر من تسميته بهذا الاسم أن الجنائز كانت تخرج منه في ذلك العصر حيث أنها تخرج الآن من باب السلام غالبا، ويقال له أيضا باب الحريريين لأنه كان يباع الحرير في الدكاكين التي بجواره من الخارج، ويقال له أيضا باب القفص لأن الصاغة كانوا يقطنون قديما تلك الجهة ويضعون الحلي في أقفاص بقرب الباب المذكور ويقول المؤلف ولا يزالون لحد الآن نحو الباب المشار إليه وقد أحدثه الخليفة المهدي في عمارته، وهذا الباب يعلو عن أرض المسجد الحرام بثمان درجات ولم يجدد بناؤه في العمارة الأخيرة التي وقعت في سنة 984 حيث أنه كان قويا بحكم البناء وإنما جددت الشرفات التي عليه وعددها (24) شرفه وقد عمره الملك الأشرف برسباي أحد سلاطين مصر وهو لا يزال على تلك العمارة إلى الآن - هذا بطبيعة الحال قبل التوسعة السعودية العظيمة - وقد كتب نقرا على الحجارة داخل دائرة مستطيلة على علو الباب المذكور بالخط البارز.
"بسم الله الرحمن الرحيم، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله. واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة".
أمر بتجديد الباب الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم سيدنا ومولانا المقام الشريف السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي خادم الحرم الشريف وأمير المؤمنين اللهم أعز نصره على يد الفقير إلى الله تعالى الوزير المقدم مقبل القديدى المكي الأشرفي بتاريخ ذى القعدة الحرام أحد شهور سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وهذه
الكتابة قديمة من عهد عمارة الباب المذكور ثم في سنة 1314 هـ جرت عمارة في المسجد الحرام ومرمات وكتب تاريخها على هذا الباب، وكتب اسم السلطان عبد الحميد خان بن السلطان عبد المجيد خان ضمن طرة سلطانية بالذهب وكتب بأسفلها تاريخ العمارة بالرقم وهي سنة 1314 هـ حيث جرت بأمر السلطان عبد الحميد خان العثمانى المذكور وهذا الباب يفتح على منفذين ولكل منفذ باب خشبي قوى بمصراعين.
هذا مثال لما ورد في الفصل الخاص بأبواب المسجد الحرام وهو كما يرى القارئ حشد من المعلومات التاريخية والطريفة في آن واحد جمعها المؤلف من المصادر المختلفة وحقق فيها وعلل مسمياتها المتعددة وهو جهد عظيم مشكور.
الخطبة والمنبر في المسجد الحرام
وفي الكتاب معلومات هامة عن الخطبة في المسجد الحرام بل عن المنابر والخطباء نوجز بعضها فيما يلى: -
كان الخلفاء الراشدون وولاة مكة يخطبون قياما على أقدامهم في المسجد تجاه الكعبة المعظمة فلما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة وكان جسيما وضع له منبر صغير ذو ثلاث درجات قدم به من الشام وذلك لما قدم للحج فكان هو أول من خطب على منبر في المسجد الحرام، وقد بقي هذا المنبر يخطب عليه الخلفاء كلما قدموا للحج، كما يخطب عليه ولاة مكة إلى أن حج الخليفة هارون الرشيد فخطب على منبر منقوش عظيم له تسع درجات أهدى إليه من عامله على مصر موسى بن عيسى فبقي هذا المنبر في مكة ونقل منبر معاوية إلى عرفات ثم أصبح الخلفاء والملوك يتنافسون في إنشاء المنابر العظيمة لا في مكة وحدها ولكن في مكة وعرفة ومنى فأرسل الخليفة العباسي الواثق منابر ثلاثة لمكة وعرفة ومنى ولما حج الخليفة المنتصر بن المتوكل جعل له منبرًا عظيمًا خطب عليه بمكة وخلفه بها، وكانت المنابر والخطابة في المسجد الحرام تعكس الحالة السياسية للبلاد الإسلامية في تلك
العصور فقد عمل وزير المقتدى العباسى منبرًا هائلًا استقام كما يقول المؤلف بألف دينار وبعثه إلى مكة ليخطب عليه باسم الخليفة المقتدى العباسى فمنع المصريون ذلك وأحرقوا المنبر ولم يبد أمير مكة محمد بن جعفر اعتراضا على ذلك وخطبوا للمستنصر العبيدى صاحب مصر وقد حذا ملوك مصر من الجراكسة لما اشتد ساعدهم حذو الخلفاء من بنى العباسى فأرسل الملك الأشرف في عام 766 منبرا خطب له عليه كما أرسل الملك الظاهر برقوق منبرا في عام 797 وكذلك فعل الملك المؤيد في موسم عام 818 يقول المؤلف فخطب عليه في سبع ذى الحجة وجرت الخطبة على المنبر الذى كان قبله وكان خطب على منبر الملك الأشرف واحدًا وثلاثين سنة.
يقول المؤلف لما أحرق المصريون المنبر الذى أرسله وزير الخليفة المقتدى العباسى وخطبوا للمستنصر العبيدى لم يبد أمير مكة محمد بن جعفر اعتراضا، وكان هذا الأمير هو أول من قطع الخطبة لملوك مصر وخطب لملوك بنى العباسى بعد أن قطعت الخطبة لهم نحو مائة سنة، وأبى أهل مصر الا أن تكون الخطبة للمستنصر العبيدى صاحب مصر فخطب له، ثم كان بعد ذلك يخطب حينا لبني العباس وحينا لملوك مصر، يقدم منهم من يجزل له العطاء.
وقد تتابع إرسال المنابر إلى مكة من مصر وكان يحرص مرسلوها على أن يخطب عليها في موسم الحج وقد استقر الأمر بالنسبة للمنابر بالمنبر الرخامى الذى بعث به السلطان العثمانى سليمان بن سليم في سنة 966 وهذا المنبر تحفة معمارية فريدة وهو موجود حتى هذا اليوم بالمسجد الحرام وقد مضى على وجوده حتى الآن أربعمائة وستة وثلاثين عاما وقد خطب عليه للخلفاء العثمانيين وغيرهم على تتابع العصور إلى أن أبطلت حكومة الملك عبد العزيز رحمه الله الخطبة للملوك بأسمائهم وجعل الدعاء بنصر الإسلام والمسلمين وإعلاء كلمة الدين فسلم المسجد من ضوضاء السياسة ووعثاء الساسه فجزاه الله خير الجزاء.
موكب الخطيب
وقد أورد المؤلف وصفا شائقا لموكب الخطيب إذا صح هذا التعبير في مختلف العصور ننقل منه ما يلى. في يوم الجمعة يلصق المنبر إلى صفح الكعبة الشريفة فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي ويكون الخطيب مستقبلا المقام الكريم، فإذا خرج الخطيب أقبل لابسا ثوبا أسود معتما بعمامة سوداء وعليه طيلسان أسود، وكل ذلك من كسوة الملك الناصر، وعليه الوقار والسكينة وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يتمسكهما رجلان من المؤذنين وبين يديه أحد القدمة في يده الفرقعة مفتول ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمع داخل الحرم وخارجه فيكون إعلانا بخروج الخطيب ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده ثم يقصد المنبر ورئيس المؤذنين بين يديه لابسا السواد وعلى عاتقه السيف ممسكا له بيده، وتركز الرايتان على جانبي المنبر فإذا صعد أول درجة من درج المنبر قلده المؤذن السيف فيضرب بنعل السيف ضربة على الدرج يسمعها الحاضرون وهكذا على سائر الدرج فإذا استوى عليه استقبل الناس وسلم عليهم ثم يقعد ويؤذن المؤذن على قبة زمزم فإذا فرغ من خطبته صلى وانصرف على الوضعية التي أتى بها ثم يعاد المنبر إلى مكانه إزاء المقام - انتهى.
أقول هذا ما أورده المؤلف لموكب الخطيب نقلا عن رحلة ابن جبير وهو وصف لما كانت عليه مراسم خطبة الجمعة في عهد الملك الناصر في سنة 578 في القرن السادس للهجرة.
وأورد المؤلف كذلك وصفا شيقا لموكب الخطيب في العصور العثمانية ننقل عنه ما يلى:
يصل الخطيب يوم الجمعة عند الزوال إلى المسجد الحرام فيدخل المدرسة الواقعة بين باب بازان وباب علي المسماة بقبة الساعات حيث وضعت في ذلك العصر ساعتان كبيرتان للتوقيت.
فيصلي فيها ركعتين ومن عادة الخطيب في ذلك العصر أن يرتدى جبة واسعة
الأكمام تسمى الفرجية ويعتم بعمامة من الشاش الأبيض على كفية هندية مصنوعة من القماش الحرير الملون ومبطنة بالخيزران اللطيف وتلف العمامة الشاش عليها لفا منتظما متراصا بعض الطيات على بعض وتسمى تلك اللفة بالمدرج
(1)
ثم يأتى المرقى إلى المدرسة المذكورة يحمل الطيلسان والعصا التي يعتنز عليها الخطيب حال صعوده المنبر، وهذه العصاة داخلها سلاح من نوع السلاح الأبيض رفيع السلة أشبه بسنان الرمح يسمى (بالغدارة) وهذا المرقي هو من ضمن المبلغين بالمسجد الحرام قد تخصص لهذه الوظيفة فيضع المرقي الطيلسان على رأس الخطيب فوق العمامة فيلتف به الخطيب ويخرج من المدرسة المذكورة ميممًا نحو المنبر، فإذا بلغ الحصوة الموالية لرواق المدرسة التي كان بها وجد هناك بيرقين من الحرير الأحمر، ونفرين من أغوات الحرم ونفرين من مشدية الحرم فإذا وصلوا إليهم ساروا جميعا أمام الخطيب يتقدمهم المرقي حامل عصا الخطيب، ثم يتبعه حاملا البيرقين ثم أغوات الحرم، ثم المشدية، ويسيرون على هذه الحالة إلى أن يصلوا المنبر فإذا وصلوه ركزت الرايتان على باب المنبر ووقف الأغوات عند باب المنبر أيضا ثم ترفع الستارة الخضراء المزركشة بأسلاك الفضة المموهة بالذهب الموضوعة على باب المنبر ويسلم المرقي العصا إلى الخطيب فيصعد الخطيب على درج المنبر وخلفه المرقي فإذا وصل الخطيب أعلى المنبر جلس على مسطبته وقام المرقي في وسط درج المنبر، وأذن أذان الجمعة الثانى تابعا في ذلك رئيس المبلغين من قبة زمزم، فإذا تم الأذان قام الخطيب وشرع في الخطبة الأولى فإذا أتمها جلس، فيقوم المرقي ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم رافعا بها صوته فمتى أتمها قام الخطيب وألقى الخطبة الثانية حتى إذا بلغ فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم جهر المرقي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا بلغ الخطيب ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر المرقي بالترضى عنهم فإذا ذكر الخطيب اسم الخليفة أو السلطان أو الملك جهر المرقي بالدعاء له بالنصر والظفر والتأييد، يقول المؤلف وكان من أدركتهم من سلاطيين آل عثمان هما
(1)
هذا الوصف مطابق لوصف العمامة الحجازية انظر ما كتبناه عنها في فصل الملابس والأزياء في كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة.
السلطان عبد الحميد خان الثانى والسلطان محمد رشاد الخامس وكان يدعى لهما بالخلافة. وهذا الوصف كما هو واضح لما كان عليه الحال في أواخر عهد الخلافة العثمانية حيث عاصر المؤلف ذلك.
ولم يختلف موكب الخطيب في العهد الهاشمي عما كان عليه الحال في أواخر العهد العثمانى إلا أن الرايتين أصبح لونهما أخضر وكانتا كذلك مزركشتين بإسلاك الفضة المموهة بالذهب.
وحينما استولى الملك عبد العزيز رحمه الله على الحجاز أبطل كل هذه المراسم والمواكب فعادت الأمور إلى بساطتها الأولى وأصبح الخطيب يأتي من بيته القريب من الحرم فيرقى إلى المنبر فيجد اثنين من أغوات الحرم الشريف واقفين عند باب المنبر فيحمل العصا المعتادة للخطابة ويصعد درجات المنبر فإذا بلغ أعلاه جلس على مسطبته وقام المؤذن على قبة زمزم في أذان الجمعة الثانى فإذا فرغ من الآذان قام الخطيب وألقى خطبة الجمعة أما ملابس الخطيب فهى لا تختلف عن ملابس أمثاله من العلماء ورجال الدين
(1)
.
كثرة الخطباء والأئمة في المسجد الحرام
هذا ولم تكن الخطابة ولا الإمامة مقصورة على شخص أو اثنين كما هو الحال في العصر الحاضر وإنما كانت كما يقول المؤلف على المذاهب الأربعة ومشاعة في كثير من أهل مكة المكرمة على اختلاف أجناسهم فمنهم آل ميرداد والعجيمي وآل خوقير، وآل الريس، وآل الكتبي، وآل شطا، وبيت المال من آل عبد الشكور، وآل الزواوي، وآل الكردى، وآلى الحريرى، وآل جمل الليل، وآل تقي، وآل المفتى، وآل كمال، وآل المالكي، وآل بن حميد، وآل صديق، وآل الفقيه، وآل حجي وآل البسيوني وآل القلعي، وآل دحلان، وآل الحبشي، وآل بابصيل، وغيرهم كما يقول المؤلف ممن لم تحضرني أسماؤهم، وكان من بعض هذه العوائل الخطيب والخطيبين وأكثر، والإمام والإمامين وأكثر وقد بلغ من تسجلت أسماؤهم
(1)
206 - 212 تاريخ عمارة المسجد الحرام.
من الخطباء في مديرية الأوقاف وشيخ الخطباء نحو الخمسين خطيبا ومن تسجل من الأئمة عشرين إماما في المذاهب الأربعة
(1)
.
المقامات الأربعة
ومن أمتع فصول الكتاب الفصل الذى عقده المؤلف عن المقامات الأربعة وهذه المقامات منسوبة إلى المذاهب الأربعة فلقد كان الناس قبل العهد السعودى يصلون جماعات أربعة بل كانوا يصلون في بعض العهود خمس جماعات بإضافة المذهب الزيدى كما وصفه ابن جبير في حج عام 588 هـ.
يقول المؤلف نقلا عن ابن جبير، وللحرم أربعة أئمة سنية وخامس لفرقة تسمى الزيدية وأشراف هذه البلدة على مذهبهم وهم يزيدون في الأذان - حي على خير العمل - أثر قول المؤذن حي على الفلاح، ولا يجمعون مع الناس إنما يصلون ظهرا أربعا ويصلون بعد فراغ الأئمة من صلاتها.
فأول الأئمة السنية الشافعي وهو يصلي خلف مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم المالكي وهو يصلي قبالة الركن اليمانى، وله محراب يشبه محاريب الطرق الموضوعة فيها، ثم الحنفي وصلاته قبالة الميزاب تحت حطيم مصنوع له وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها. وسبب ذلك أن الدول الأعجمية كلها على مذهبه، ثم الحنبلي وصلاته مع صلاة المالكي في حين واحد، وموضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليمانى وله حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفي وللشافعى مقام إزاء المقام - حطيم حفيل وصفة الحطيم خشبتان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على تلك الصفة قد عقدت هذه الخشبة على رجلين من الجص غير بائنة الارتفاع واعترض في أعلا الخشب خشبة فيها خطاطيف حديد فيها قناديل معلقة من الزجاج.
هذا ما وصف به ابن حبير المقامات الأربعة في حجته التي أشرنا إليها في القرن
(1)
210 تاريخ عمارة المسجد الحرام.
السادس الهجرى وقد تتبع المؤلف ما طرأ على هذه المقامات من كتب الرحلات والمؤرخين إلى العصر الذى عاش وألف كتابه فيه، وليس ما يهمنا هو ذكر هذه التطورات وإنما الذى يهمنا هو وصف كيفية الصلاة للأئمة الأربعة سواء في أوقات متتابعة أو في وقت واحد كما هو الحال في صلاة المغرب لضيق وقتها وما ينتج عن قراءة الأئمة الأربعة وتبليغ المبلغين عنهم في الركوع والسجود من اختلاط وتشويش على الناس في ركوعهم وسجودهم.
يقول ابن بطوطة فمن عاداتهم - أهل مكة - أن يصلي أول الأئمة أمام الشافعية وهو المقدم من قبل أولى الأمر وصلاته خلف المقام الكريم - مقام إبراهيم - وجمهور الناس بمكة على مذهبه فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية، ويصلى معه إمام الحنبلية في وقت واحد، ثم يصلى إمام الحنفية إلى أن يقول وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد كل إمام يصلي بطائفته ويدخل الناس من ذلك سهو وتخليط فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يُسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.
ولقد كان تقدم أئمة المذاهب في الصلاة قبل غيرهم مرتبط بالحالة السياسية في تلك العصور فما نقلناه عن ابن حبيران إمام الشافعية كان المقدم عليهم تغير عام 690 وأصبح المقدم إمام الحنفية وهكذا، ولقد كان بعض العلماء والوافدين في المواسم يعترضون على هذه الفوضى وصدرت بعض الفتاوي بكراهية تعدد الجماعات في المسجد الحرام ووصل الأمر إلى ملك مصر الناصر برقوق الجركسي فبرز أمره في ذلك العام أن يصلى إمام الشافعية المغرب وحده واستمر الناس يصلون المغرب في جماعة واحدة إلى أن تولى الملك المؤيد فأصدر مرسوما بأن يعود الأئمة الثلاثة إلى صلاة المغرب كما كانوا قبل ذلك.
وقد انتهى تحقيق المؤلف أن حدوث هذه البدعة وقع في القرون الوسطى على اختلاف أقوال المؤرخين في ذلك فمنهم من ذكرها في عام 497 ومن ذكرها في عام
540 و 551 وقد تحدث عنها ابن حبير في القرن السادس كما تحدث عنها التقي الفاسي بعده بمائة عام وقد استمرت هذه البدعة رغم اعتراض أئمة علماء المسلمين عليها طيلة هذه القرون حتى أبطلها المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله بعد استيلائه على الحجاز فوحَّد الصلاة في المسجد الحرام وفى غيره من المساجد بإمام واحد في عام 1343 للهجرة فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
(1)
.
معلومات عددية
ونواصل حديثنا عن كتاب عمارة المسجد الحرام بالمعلومات العددية التي وردت فيه: -
1 -
بلغ عدد الأساطين الرخام في المسجد الحرام التي أحصاها المؤلف ثلاثمائة وإحدى عشرة أسطوانة رخامية وستة عشرة أسطوانة من الحجر الصوان المنحوت.
2 -
كما بلغ عدد الدعائم المبنية من الحجر الشميسي أو الحجر الصوان مائتين وثمانية وسبعين عمودا وكان المتبع في بناء هذه الأعمدة أن يكون سفلها اللاصق بالأرض من الحجر الصوان إلى ثلث العمود ثم يبنى بقية العمود بالحجر الشميسي المنحوت على أربعة ألوان أسود وأحمر قاتم - وأصفر بلون البرتقال، ورمادى
(2)
.
3 -
وبلغ عدد العقود المطوية في المسجد الحرام تسعمائة وأربعة وثمانين عقدا وهذه العقود هي التي تقوم على الأعمدة والأساطين الحاملة للسقوف، أما العقود الكبيرة في الأماكن المختلفة من المسجد فتبلغ واحدا وثمانين عقدا
(3)
.
4 -
وبلغ عدد القبب في المسجد الحرام مائتين وسبع وعشرين قبة
(4)
.
5 -
كانت قناديل الزيت تضئ المسجد الحرام إلى عام 1335 هجرية وبلغ
(1)
224 - 240 تاريخ عمارة المسجد الحرام
(2)
101 - 106 تاريخ عمارة المسجد الحرام
(3)
106 - 109 نفس المصدر.
(4)
110 نفس المصدر.
عددها ألفا وأربعمائة واثنين وعشرين قنديلا خلاف ما كان يضيء المنائر من القناديل
(1)
.
6 -
جرى استبدال قناديل الزيت بالكهرباء والاتاريك الغازية الكبيرة اللوكس واستمر زيادة القوة الكهربائية حتى بلغت في عام 1354 هجرية ما يساوى عشرين ضعفا في قوة الإضاءة عما كانت عليه حين كانت الاستصباح بالقناديل
(2)
.
ونختتم الحديث عن كتاب عمارة المسجد الحرام بنبذة عن أهم الأحداث التي وقعت في المسجد كما وردت في الكتاب.
أحداث هامة في المسجد
1 -
في السنة السابعة عشرة للهجرة في خلافة الفاروق رضوان الله تعالى عليه جاء إلى مكة سيل عظيم يسمى سيل أم نهشل فدخل إلى المسجد الحرام من أعلى مكة من ناحية المدعى فاقتلع مقام الخليل إبراهيم عليه الصلاة السلام من موضعه وذهب به إلى أسفل مكة فلما جف السيل وجد المقام بأسفل مكة فجيء به وألصق بالكعبة وربط بها، وما أن علم الفاروق رضى الله تعالى عنه بالأمر حتى خف مسرعا إلى مكة فقدمها وأعاد المقام إلى مكانه وحول مجرى السيل ووضع المطاف في حديث طويل مبسوط في موضعه من الكتاب
(3)
.
2 -
في سنة ثمانمائة واثنتين للهجرة ظهرت نار في رباط يدعى رامشت الواقع بين باب إبراهيم وباب الوداع في الجهة الغربية من المسجد الحرام فاتصلت النار بسقف المسجد الحرام فالتهمت النار أسقف المسجد من الجهة الغربية وبدأت تلتهم سقوفه من الجهة الشمالية ولم يقف الحريق إلا بعد أن وصل إلى موضع كانت فيه أسطوانات مهدمة بفعل السيل الذى دخل المسجد في ذلك العام، وصار ما تجمع
(1)
250/ 254 نفس المصدر
(2)
256 - 260 نفس المصدر.
(3)
11 - 15 نفس المصدر
من آثار الحريق يمنع رؤية الكعبة المعظمة لعظم ذلك كما منعت الصلاة في ذلك الجانب من المسجد الحرام وقد بلغ عدد الأعمدة الرخامية التي احترقت في هذا الحريق مائة وثلاثين عمودا تحولت كلها إلى كسر فلما بلغ ذلك ملك مصر الناصر لدين الله بعث الأمير بيسق الظاهرى لعمارة المسجد الحرام وقد استمرت العمارة من عام ثمانمائة وثلاثة للهجرة إلى أن انتهت في عام ثمانمائة وسبعة للهجرة
(1)
.
3 -
في سنة تسعمائة وتسعة وسبعين للهجرة ظهر الخراب في المسجد الحرام وبدى الرواق الشرقي للمسجد مائلا إلى جهة الكعبة المعظمة حتى برزت أخشاب السقوف من أماكنها وظهر أن الخراب كان عظيما بحيث لا يجدي فيه الإصلاح ولا الترميم فأسندت السقوف بأخشاب تمنعها من السقوط ثم صدر أمر السلطان العثماني سليم خان بالمبادرة ببناء المسجد الحرام جميعه وتقرر البدء بهدم البناء القديم وبدأت المعاول تهدم في جدران المسجد وشرفاته في منتصف ربيع الأول سنة تسعمائة وثمانين وانتهت العمارة في آخر عام تسعمائة وأربع وثمانين في عهد السلطان مراد خان ابن السلطان سليم خان
(2)
.
وهناك مرمات كثيرة وتحسينات أدخلت على المسجد الحرام وعلى مقام إبراهيم وبئر زمزم وعلى المدارس التي أنشئت في المسجد وغيرها وهي مبسوطة في ثنايا هذا الكتاب الثمين.
لقد طال بنا الحديث عن كتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام وآن لنا أن نقول الكلمة الأخيرة فيه - أن الميزة التي يمتاز بها الكتاب تتلخص في أن المؤلف قد حشد كلما توفر لديه من سجل الأحداث والمعلومات المتعلقة بالمسجد الحرام في كتاب واحد.
وكانت هذه الحوادث متفرقة في كتب كثيرة، فالتاريخ لا يكتبه المؤرخون إنشاءًا من عندياتهم، وإنما يتتبعون أخباره ويتحرونها من مصادرها والمصادر هي الكتب والوثائق والرواة الذين شاهدوا هذه الحوادث أو سمعوا أخبارها ممن شهدها ويأتى
(1)
69 - 75 عمارة المسجد الحرام.
(2)
82 - 96 عمارة المسجد الحرام.
بعد ذلك تمحيص هذه الأخبار سواء كانت مروية أو مكتوبة وترجيح الراجح منها، والإشارة إلى المشكوك فيه، وتحقيق ما في الوسع تحقيقه، ولقد كان الشيخ حسين باسلامة مؤرخا أمينا لأنه أجهد نفسه في استخلاص هذه الحوادث والأخبار من مصادرها الكثيرة المتفرقة ثم في تحقيقها والتعليق عليها، كما قام بعمل مشكور في بعض هذه التحقيقات الخاصة بذرع المسجد الحرام وذرع شارع المسعي وغيرهما، ولا أكتم القارئ أنني مولع بهذه المباحث التاريخية وخاصة ما يتعلق منها بالمسجد الحرام والكعبة المعظمة والمسجد النبوي الشريف والمشاعر العظيمة التي خص الله تعالى بلادنا بها، وكثيرا ما كنت أسجل المعلومات التي أصل إليها في قراءاتى، لهذا فإن سرورى بكتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام وهو بالصفة التي ذكرتها لا يعدله له سرور.
أن الشيخ حسين باسلامة قد سد فراغا عظيما بكتابه القيم هذا وحبذا لو توفر من المؤرخين من يقوم بإكمال ما بدأ به فيؤرخ لعمارة المسجد الحرام والكعبة المعظمة من منتصف القرن الرابع عشر الهجرى حيث تمت العمارة السعودية العظيمة للمسجد الحرام والترميم للكعبة المعظمة في السبعينات والثمانينات من هذا القرن ليكتمل تاريخ عمارة أقدس بيت على وجه الكرة الأرضية منذ بدء الخليقة وحتى آخر أيام الزمان.
ولا يفوتنى أن أذكر أن الكتاب مزين بالصور الفوتوغرافية وبعض هذه الصور بل معظمها أصبح نادرا لأنَّ التغيير الذى أحدثته العمارة السعودية أبدل الصور القديمة بصور حديثة وحبذا لو أن العناية بهذه الصور كانت أفضل مما ظهرت عليه، كما أن الكتاب يخلو من الخريطة أو الخرائط التي توضح تطور الزيادة في مساحة المسجد الحرام، وكان المؤلف دائما يرجع القارئ إليها ولكن الطبعة التي بين يدى كانت خالية من هذه الخريطة، وعلى أي حال فهذه الأمور في الوسع تدراكها ليكون العمل تاما وسبحان من تفرد بالكمال.
العمارة السّعوديّة
مقدمة البحث
كنت حريصا بعد الحديث عن عمارة المسجد الحرام في العهود المختلفة كما وردت في كتاب الشيخ حسين باسلامة أن أكتب عن العمارة السعودية ولو بصورة موجزة ليكون تاريخ عمارة المسجد الحرام تاما أمام القارئ ولقد سعيت للحصول على المعلومات الخاصة بهذه العمارة ولقد وفقنى الله تعالى في هذا السعى فقدم إلي سعادة الأخ الأستاذ محمد أمين العطاس وكيل وزارة الحج والأوقاف لشئون الأوقاف الذى كتبت إليه أستعين به قدم لي ثلاث مجلدات أصدرتها وزارة المالية والاقتصاد الوطني وقام بإعدادها وطبعها اتحاد المهندسيين الإستشاريين الذي أشرفوا على عمارة المسجد الحرام لمدة عشر سنوات منذ عام 1385 للهجرة وحتى نهاية العمارة السعودية في عام 1396 هـ.
وقد ضمت هذه المجلدات معلومات وافية ومفصلة عن هذه العمارة وأطوارها كما ضمت العديد من الصور والوثائق والخرائط ومن هذه المجلدات الثلاثة استقينا المعلومات التي نوجزها للقارئ في الصحفات التالية: -
بقى المسجد الحرام ما يقرب من أربعة قرون بعد عمارة السلطانيين سليم ومراد العثمانيين في عام 984 إلى أن بدأت العمارة السعودية في عام 1375 وكان السبب الأول لهذه العمارة هو التكاثر المتصاعد في جموع الحجاج الوافدين إلى مكة المكرمة
لأداء فريضة الحج، وقد أورد الكتاب الذي أصدره اتحاد المهندسيين الإستشاريين الباكستانيين في عمارة المسجد الحرام بيانا لأعداد الحجاج الأجانب القادمين إلى مكة خلال خمسين عاما نستطيع أن نستخلص منه الحقائق الآتية:
كان تعدداد الحجاج الأجانب خلال السنوات 1346 - 1368 أقل من مائة ألف حاج وأعلى الأرقام كان في الأعوام 1346 - 1348 حيث كان تعداد الوافدين على التوالى:
96212 سنة 46
90764 سنة 47
81666 سنة 48
ثم هبط الرقم إلى أقل من النصف خلال السنوات 1350 - 1354 أما عام 1359 فقد سجل أدنى رقم وهو 9024 وذلك بأسباب الحرب العالمية الثانية.
ومنذ عام 1369 تجاوزت أعداد الوافدين مائة ألف حاج واستمر التصاعد إلى أن واصل إلى ذروته في عام 1374 حيث بلغ تعداد الوافدين 232971 حاجا.
وبهذا التصاعد الذى بدا أنه سيستمر كانت الحاجة ماسة إلى توسعة المسجد الحرام توسعة كبيرة تستوعب هذه الأعداد المتزايدة بعشرات الألوف بل ومئاتها في قابل الأعوام.
وكانت عمارة المسجد الحرام من أغلى أماني جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله وخاصة بعد أن وفقه الله تعالى إلى عمارة المسجد النبوى الشريف لهذا فقد اقترنت هذه الأمنية العظيمة مع الحاجة الداعية إلى توسعة المسجد الحرام، فصدر الأمر الملكي إلى المعلم محمد بن لادن بنقل المعدات التي استعملت في عمارة المسجد النبوي الشريف إلى مكة المكرمة استعداد للشروع في عمارة الحرم المكي الشريف، وقد بدأ المعلم محمد بن لادن باختيار المهندسين الذي يقومون بعمل التصميم اللازم للعمارة الجديدة وأسند هذا العمل في بداية الأمر إلى المهندس مصطفى مؤمن وكان من المتخصصين في العمارة الإسلامية فقدم تصميما
دائريا للمسجد الحرام باعتبار أن القبلة هي الكعبة وأن المصلين يدورون حولها ولكن هذا التصميم لم يحز القبول.
التصميم
فأسند الشيخ محمد بن لادن هذا العمل إلى المهندس طاهر الجوينى فقدم تصميما مثمنا يقتضى إزالة المسجد العثمانى القائم إزالة تامة وتخفيض مساحة الجزء المكشوف إلى النصف ثم جرى تعديل هذا التصميم بحيث يزال القسم الغربي من المسجد العثماني فحسب ولكن المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز أبدى رغبته في الاحتفاظ بالمسجد العثماني كاملًا وهذا هو الذى تم بالفعل.
وبدأ العمل في الرابع من شهر ربيع الثانى 1375 من جهة المسعى وأجياد وحول طريق القشاشية وتم نزع ملكية العقارات الكثيرة التي كانت قائمة في هذه المناطق والتى كانت تحيط بالمسجد الحرام إحاطة السوار بالمعصم وكان الساعون بين الصفا والمروة يؤدون نسكهم في شارع تقوم الحوانيت المتصلة على جانبيه وتعتلى فوقها الدور فهدمت هذه الدور والدكاكين وأصبح مكانها فضاء استعدادا للعمل الذى وضع الملك سعود بن عبد العزيز حجره الأساسي في شهر شعبان من سنة 1375 هـ.
ثم بدأ العمل في العمارة على مراحل:
المرحلة الأولى: تم فيها بناء القسم الخاص بالسعى بين الصفا والمروة وإيصاله بالمسجد الحرام.
المرحلة الثانية: تم فيها توسيع منطقة المطاف إلى شكلها الحالى كما أقيمت السلالم الحالية لبئر زمزم.
ولقد كان المطاف حول الكعبة بيضاوي الشكل بمحاور كبيرة وصغيرة وكان موضعه في مواجهة الكعبة يشكل عنق زجاجة تسبب ازدحام الطائفين كما كانت قبة زمزم التي يعتليها المؤذنون تواجه باب الكعبة والركن الذى به الحجر الأسود وقد
أزيل المبنى الخشبي للمقام وأبدل بالصندوق الزجاجى الذى وضع به المقام في موضعه السابق أما قبة زمزم فقد أزيلت تماما وجرى تأخير مدخلها إلى ما بعد منطقة الطواف وعمل للبئر مدخل من الصحن ينزل إليه بسلالم كثيرة، أما المؤذنون فقد بنى لهم مبنى خاص على حدود المطاف ووسع هذا المبنى بحيث أصبح يشمل قسما خاصا للأذان والبث التلفزيونى. وقد تم عمل البدروم في شارع المسعى على عمق أربعة أمتار لأن أساسات التحميل وجدت على هذا العمق.
ثم تم تجديد الحرم القديم وشطفت أركانه لتسمح بإنشاء البوابات الرئيسية الثلاثة وشقت الطرق المحيطة بالحرم الشريف كما أنشئت الميادين المحيطة به وكذلك الدكاكين.
وقد استخلصنا البيانات الآتية للمعارة السعودية وهي تبين مساحة المسجد قديما وحديثا ومقدار استيعابه للمصلين والطائفين في الأوقات المختلفة.
كانت مساحة المبنى القديم للمسجد الحرام ككل 29100 مترا مربعا وكان المسقوف منها 11450 مترا مربعا.
أما العمارة السعودية الجديدة فقد أضافت إلى المبنى السابق المساحات الآتية: -
46100 المساحة المغطاة داخل الحرم والمتصلة بالأبواب.
46100 المساحة المغطاة في الدور العلوى.
13250 المناطق المكشوفة المبلطة حول الحرم الشريف.
31200 مساحة البدروم وفيه أماكن فسيحة للصلاة علاوة على ما مائتين وخمسين غرفة للخدمات وللزمازمة.
136650
ويرتفع الدور الأول عن الدور الأرضى حوالى اثنى عشر مترا يرقى إليها
بواسطة ثلاثة عشر سلما كبيرا. ويرتفع جدار مبنى الحرم للدورين أربعة وعشرين مترا.
أما مقدار استيعاب المسجد الحرام للمصلين فقد قدره تقرير مكتب الخبراء الإستشاريين الذى ننقل عنه هذه المعلومات كما يلى:
عدد المصلين
11450 مساحة المبنى القديم للحرم المسقوف.
96650 مساحة المبنى الجديد للحرم في الدوريين المسقوفين.
23350 صحن المسجد والمناطق المحيطة به.
131450
وقد قدرت أعداد المصلين على أساس حجم سجادة الصلاة العادية إذا ما فرشت في المسجد ولكن الحرم بتسع في المواسم الدينية مثل شهر رمضان ومواسم العمرة إلى مائتى ألف مصل، أما في زمن الحج فإن عدد المصلين داخل المسجد والأرصفة المحيطة به يصل إلى 330 ألف بل إلى أربعمائة ألف مصل في وقت واحد - كما يقول تقرير الإستشاريين الباكستانيين.
عدد الطائفيين
تبلغ سعة المطاف الحالي 3058 مترا مربعا حول الكعبة ويتسع المطاف لحوالي ثمانية آلاف وخمسمائة طائف.
أما في وقت الحج فإن المطاف يتسع لأربعة عشر ألف طائف حيث يستعمل الطائفون الممرين المؤديان إلى المطاف وسعتها 4154 مترا.
الرخام
ونورد فيما يلي بعض المعلومات الخاصة بالرخام الذى استعمل في فرش المسجد وجدارنه وأعمدته.
1 -
يغطى الرخام المستعمل في الأرضيات ما مساحته 115450 مترا مربعا كما يغطى ستين ألف مترا مربعا من الجدران والأعمدة وحواجز السطح والشرفات والسلالم البالغ عددها ثمانية وستين سلما وكذلك الجزء السفلي من جدران المآذن السبع، كما يغطى ثمانية آلاف مترا من المناطق المكشوفة حول الحرم وبذلك يبلغ مجموع الرخام المستعمل في العمارة الجديدة 183550 مترا مربعا ويستخرج الرخام من محاجر في وادى فاطمة قرب مكة المكرمة، ومن محاجر المدركة وفرسان في الشواطئ الجنوبية للمملكة العربية السعودية ويتم نقله إلى جدة حيث يقطع ويلمع تحت إشراف خبير إيطالى وفنيين مصريين. أما الحجر الصناعي فتستخدم في صبه الأحجار المحلية ويقوم بهذا العمل صناع مصريون وسوريون.
صحن المسجد
يبلغ طول صحن المسجد مائة وستة أمتار وعرضه مائة وثلاثة وستين مترا.
المسعى
يبلغ طول المسعى 393 مترا وعرضه عشرون مترا وهو مكون من دورين ويبلغ ارتفاع المسعى 11.25 إحدى عشر مترا وربع المتر ..
أبواب المسعى
وللمسعى ستة عشر بابا منها خمسة أبواب في الجانب الغربى بعد باب السلام واحد عشر بابا في الجانب الشرقي في مواجهة شارع القشاشيه.
أبواب المسجد
أما أبواب المسجد الحرام الرئيسية فهي ثلاثة باب السلام في الجانب الشمالي ومنه يصل الداخل إلى الركن العراقي للكعبة المشرفة وباب العمرة في الجانب
الغربى وهو يفضي إلى الركن الشامى للكعبة، وباب الملك عبد العزيز في الجهة الجنوبية وهو يفضي إلى محور الركن اليماني للكعبة ويقابل الحجر الأسود كما يقابل القبة على الصفا.
صناعة الأبواب
وقد تم صنع هذه الأبواب الرئيسية الثلاث في مصر كما صنع فيها باب صغير واحد أما بقية الأبواب فقد صنعت في إيطاليا خلال الفترة من عام 1386 - 1390.
والأبواب مصنوعة من هيكل من الصلب مغطى بالنحاس المزخرف أما الجواجز فمصنوعة من الالمنيوم المؤكسد.
وتبلغ مساحة سطح الأبواب المعدنية أكثر من ستة الاف وستمائة متر مربع كما تبلغ مساحة الحواجز على واجهات الأبواب الخارجية والدربزينات والفواصل خمسة آلاف وأربعمائة متر مربع.
المآذن
وللمسجد الحرام سبعة مآذن، مئذنتان عند كل باب من الأبواب الرئيسية الثلاثة والمأذنة السابعة عند باب الصفا، وقد بنيت هذه المآذن بالخرسانة المسلحة وكسيت بالرخام وبالحجر الصناعى ويبلغ ارتفاع المئذنة الواحدة ستة وتسعين مترا عن سطح الأرض، وتمثل هذه المآذن معالم بارزة لقاصدى المسجد الحرام من مسافات بعيدة علاوة على ما ترمز إليه من المعانى الروحية حيث تنقل الأذان إلى مسامع المسلمين.
الخطوط والذهب
بخط كوفى واضح ظاهر في القشرة الذهبية على أرضية بيضاء تتكرر رسوم خطية في كل أنحاء المبنى الجديد للحرم وقد وضع فوق كل مدخل إطار مستطيل
كتبت فيه البسملة - بسم الله الرحمن الرحيم - وفى قاعة الصلاة الفسيحة كتبت كلمة - الله - لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أما في قبة الصفا فتوجد آيات قرآنية مذهبة على شريط متواصل متداخل. وقد استعملت قشرة ذهبية في كتابة الآيات كما استعمل الذهب في تغطية الأهلَّة في أعلى المآذن فهي مغطاة بقشرة من الذهب كما كسيت قاعدة القبة الزجاجية لمقام إبراهيم بطبقة سميكة من الذهب.
المواد
وقد بلغت الكميات المستعملة من الأسمنت العادى في المبنى الجديد مائة ألف وسبعمائة طن كما استعملت كميات كبيرة من الأسمنت الأبيض في صناعة الحجر الصناعى وأعمال التبليط والموزاييك.
أما كمية الحصى الذى استعمل في الخراسانات فقد بلغت مائتين وإحدى عشر ألفا وثلاثمائة متر مكعب.
كما بلغت كميات الحديد الذى استعمل في البناء سبعة عشر ألف وثلاثمائة طن.
عدد العمال
وكان يعمل في عمارة المسجد الحرام خلال الأعوام 1375 - 1377 ما بين ألف ومائة إلى ألفين وخمسمائة عامل يوميا بينهم حوالى خمسمائة من العمال المهرة.
وقد نقص هذا العدد إلى النصف خلال الأعوام 1378 - 1392 نصفهم تقريبا من العمال المهرة والفنيين. أما في الأعوام الثلاثة الأخيرة للمشروع فكان عدد العمال نحوا من مائتى عامل نصفهم من الفنيين والعمال المهرة.
تكاليف العمارة الجديدة
بلغت التكاليف الإجمالية للعمارة الجديدة ستمائة وواحد وعشرين مليونا وستمائة
واثنين وأربعين ألف ريال منها ثلاثمائة وثمانية وخمسين مليونا وتسعمائة وخمسة عشر ألف ريال قيمة ملكيات العقار المنزوع ومائتين واثنين وستين مليونا وسبعمائة وعشرين ألف ريال تكاليف العمارة.
إصلاح الكعبة المشرفة
وقد جرى إصلاح الكعبة المشرفة بعد عامين من بدء العمل في العمارة حيث كانت الأخشاب الحاملة لسقفى البيت العتيق قد تآكلت بفعل القدم وتقلبات الجو، بعد أن مضى على آخر إصلاح لسقف الكعبة ثلاثمائة وثمانية وثلاثين عاما. وقد تم إزالة سقف الكعبة المصنوع من الخشب وصنع بدله سقف من الخرسانة المسلحة وكذلك تم إصلاح الكمر الخشبي الذي يقع تحت السقف العلوى بمقدار 1.35 وهذا الكمر الخشبي في الواقع هو السقف الثانى للكعبة وكذلك تم إصلاح الجدران الداخلية وواجهاتها الرخامية وبدأ الإصلاح في يوم الثامن عشر من شهر رجب وانتهى في الحادى عشر من شهر شعبان عام 1377 للهجرة.
تاريخ بدء العمل ونهايته
استغرق العمل في العمارة السعودية للمسجد الحرام عشرين عاما حيث بدأ العمل الفعلى في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثانى سنة 1375 هـ وتم الانتهاء من هذه العمارة المباركة العظيمة في شهر رجب من سنة 1396 للهجرة.
أن العمارة السعودية للمسجد الحرام هي من أعظم المآثر التاريخية للدولة السعودية ممثلة في مؤسسها العظيم المعفور له الملك عبد العزيز وأبنائه الملك سعود والملك فيصل والملك خالد رحمهم الله جميعا وجزاهم خير الجزاء على عملهم الطيب إنه على ما يشاء قدير.
وأود أن أذكر أن يد الإصلاح والعناية لا تزال ممتدة إلى المسجد الحرام حتى الآن فهناك التوسعة المقررة لعمل الميادين حول المسجد الحرام والتى جرى الإعداد لها
وبدأ العمل في نزع ملكيات الدور والعماير المنوى إنشاء هذه الميادين في مكانها ليكون المسجد الحرام محاطا بالميادين الفسيحة التي ستكون مكانا طبيعيا لاستيعاب المصلين في زمن الحجاج علاوة على المنظر الجمالي الذى ستظهر معالمه بعد أحداثها.
وإذا كان من كلمة أخيرة تقال في هذا الشأن فهي أن لجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله الفضل في الاحتفاظ بالعمارة العثمانية للمسجد الحرام بإصراره على إبقائها وعدم المساس بها الأمر الذى يستطيع به المشاهد رؤية تطور العمارة الإسلامية عبر القرون ممثلة في أقدس بقعة على سطح الأرض.
تاريخ الكعبة المعظمة
للشيخ حسين عبد الله باسلامة كتاب آخر اسمه (تاريخ الكعبة المعظمة) يتحدث عن عمارة الكعبة وكسوتها وسدانتها وكلما يتعلق بشؤونها وهو كتاب ضخم يقع في أربعمائة صفحة، وهذا الكتاب مكمل لكتابه الذى تحدثنا عنه "تاريخ عمارة المسجد الحرام" وقد أصدره بعده بعام أو عامين ثم أعادت تهامه طبعه مرة أخرى في عام 1402 هـ.
والكتاب فريد في موضوعه فهو خاص بالكعبة المعظمة قبلة المسلمين في صلواتهم ومهوى أفئدتهم في دعائهم وتوجههم إلى ربهم، وهي أمل كل مسلم على سطح هذه الأرض في الوفود إليها حاجا ومعتمرا وزائرا لبيت الله، مطوفا به ومصليا فيه، وساعيا بين الصفا والمروة وواقفا بعرفات والمشاعر الكريمة المقدسة.
يتحدث الكتاب حديثا طويلا عن البيت الحرام منذ فجر التاريخ بل من قبل التاريخ المعروف فيتحدث عن بناء آدم للبيت كما يتحدث عن بناء الملائكة له ثم بناء شيث فبناء إبراهيم عليه السلام وهو البناء الذى نجد سنده التاريخي الصحيح في القرآن.
وقد خلص المؤلف من استعراض جميع الروايات التي تتعلق ببناء الكعبة المعظمة قبل بناء إبراهيم عليه السلام إلى أنها روايات لا يمكن القطع بصحتها،
كما لا يمكن القطع بأنها غير صحيحة والشيء الثابت الوحيد أنه كان هناك بناء للبيت قبل بناء إبراهيم عليه السلام الا أنه لا يمكن القطع بنسبته تاريخيا إلى من قام ببنائه، ولهذا فإن الأمر الثابت الذى اعتمد عليه المؤلف هو بناء إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه للبيت حيث يمكن اعتباره الأساس الذي تؤيده النصوص القرآنية والأحاديث الواردة في الصحيح من السنة النبوية ثم في كتب التاريخ والسير.
والكتاب كما ذكرت يستعرض تاريخ الكعبة المعظمة وكلما يتعلق بها وما ينسب إليها حتى يصل إلى منتصف القرن الرابع عشر للهجرة الذى أصدر فيه المؤلف هذا الكتاب الفريد. وقد رأيت أن ألخص للقاريء الأطوار التاريخية المختلفة للكعبة المعظمة منذ بناء الخليل عليه السلام لها إلى عصرنا الحاضر كما وردت في كتاب الشيخ باسلامة لأهمية الموضوع لكل مسلم، ولأهل هذه البلاد خاصة حيث شرفهم الله تعالى أن يكونوا من أهلها فلا أقل من أن يعرفوا ولو بصورة موجزة تاريخ أقدس بقعة فيها.
وسيرى القارئ أن هذا التاريخ مملوء بالعبر كما أنه لا يخلو من الحوادث والطرائف التي تستشير شوق القارئ إلى المزيد.
بناء إبراهيم للكعبة
كان مكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية وكانت السيول تأتيه فتأخذ عن يمينه وشماله.
وجاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى مكة من الشام وخاطب ابنه إسماعيل.
يا إسماعيل إن الله أمرنى بأمر
قال إسماعيل فاصنع ما أمر ربك
قال إبراهيم وتعيننى قال إسماعيل وأعينك.
قال إبراهيم فإن الله أمرني أن أبنى بيتا هنا، وأشار إلى أكمة ترتفع على
ما حولها، بدأ البناء وجعل إسماعيل يأتى بالحجارة وإبراهيم يبنى حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر.
مقام إبراهيم
فوضعه فقام عليه إبراهيم - فسمى ذلك الحجر - مقام إبراهيم، وإقدامه عليه السلام ظاهرة فيه واستمر يناول الحجارة لإبراهيم وهو يبنى البيت وهما يقولان:
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وجعلا يدوران بالبناء للبيت وهما يرددان هذا الدعاء.
صفة بناء إبراهيم
بلغ إبراهيم من الأساس أساس آدم عليه السلام، وجعل طول البيت في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض - المقصود دورة البناء - ثلاثين ذراعا وذلك بذراعهم، وكان موضع الحجر في بناء إبراهيم داخلا في البيت، وبناه بحجارة بعضها على بعض - المقصود أن البناء كان رضمًا لم تدخله مواد أخرى كالأخشاب وغيرها مما يتماسك به البناء - ولم يجعل له سقفا، وجعل للبيت بابا، وحفر له بئرا عند باب خزانة البيت يلقى فيها ما يهدى إلى البيت.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}
ورأى إبراهيم عليه السلام على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، وأطل من هذه الغمامة مثل الرأس فكلمه فقال يا إبراهيم ابن على ظلى أو على قدرى، ولا تزد ولا تنقص وفى ذلك يقول الله تعالى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
الحجر الأسود
بنى إبراهيم البيت وبقي موضع يحتاج إلى حجر لإكمال البناء وأمر إبراهيم
إسماعيل أن يذهب إلى الوادى فيحضر الحجر المطلوب وذهب إسماعيل إلى الوادى فنزل جبريل عليه السلام من السماء بالحجر الأسود وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض بالطوفان وعاد إسماعيل فرأى الحجر الأسود وقد وضع في مكانه وسأل أباه من جاءك بهذا؟ قال إبراهيم من لم يكلنى إليك ولا إلى حجزك.
(1)
جرهم والعماليق
انتشر العمران في مكة بعد بناء البيت ومرت أطوار تاريخية أصبح فيها أمر مكة إلى قبيلتي جرهم والعماليق وكانت تثور الحروب بين القبيلتين فتارة تكون الغلبة لهذه القبيلة وأخرى لتلك ومما يذكر عن هاتين القبيلتين أن ملك جرهم الحارث بن مضاض هو أول من ولي البيت وكان ينزل بقيقعان وهو جبل شهير بمكة يقع في الجهة الغربية من المسجد الحرام ويقابل جبل أبي قبيس المطل على المسجد الحرام وكان كل من دخل مكة بتجارة عشرها عليه ملك جرهم. وذلك للداخل من أعلا مكة، وكان ملك العماليق السميدع بن هود بن حدرة بن مازن وكان ينزل أجياد من أسفل مكة وكان يعشر التجارة الداخلة إلى مكة من أسفلها.
ومن هذا يتبين لنا أن الرسوم الجمركية على البضائع الداخلة إلى البلاد يرجع تاريخها إلى أزمان ممعنة في القدم. وكان آخر ملوك مكة هو الحارث بن مضاض الأصغر الذى تنسب إليه القصيدة الشهيرة.
كان لم يكن بين الجحون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
(2)
بناء قصي للكعبة
وقد انتهى أمر مكة إلى قصي بن كلاب الذى اجتمع أمر قريش على ولايته عليهم ويبدو أن البيت قد تخرب بعوامل القدم ومرور الزمان فجمع قصي نفقة ثم
(1)
"34 - 39 تاريخ الكعبة المعظمة".
(2)
"46 تاريخ الكعبة المعظمة".
هدم الكعبة فبناها بنيانا لم يبن أحد ممن بناها قبله مثله وسقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخيل.
(1)
أقول وإذا صح ما ورد عن بناء قصي للكعبة فإن هذا البناء لم يتجاوز الحد الذى قام عليه بناء إبراهيم عليه السلام، وسنرى أن قريشا حينما قامت ببناء الكعبة إنها اعتمدت على بناء إبراهيم لها وزادت ارتفاعها تسعة أذرع حيث كان بناء إبراهيم يرتفع تسعة أذرع فرفعت قريش البناء تسعة أذرع أخرى فكان طوله في السماء ثمانية عشر ذراعا، واقتصروا من عرضها ستة أذرع وشبر لقصور النفقة لديهم وجعلوا مكانها الحجر - حجر إسماعيل عليه السلام بسكون الراء - ورفعوا بابها وجعلوا في داخلها ستة دعائم في صفين ثلاثة في كل صف من الشق الذى في الحجر إلى الشق اليماني وجعلوا في ركنها الشامي عند مدخلها درجة يصعد منها إلى أسطحها وجعلوه سطحا وجعلوا فيه ميزابا يصب في الحجر
(2)
.
بناء قريش للكعبة
أجمرت امرأة الكعبة فطارت شارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فتشاورت قريش في أمر هدمها وهابوه فقال الوليد وفى رواية أبو وهب بن عمرو بن عائد المخزومي وهو خال النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفًا إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال اللهم لا نريد إلا الإصلاح ثم هدم فلما رأوه سالما تابعوه.
قالوا وأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبا من جده انكسرت فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذى فيها نجارا وكان اسمه باقوم وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن فانكسرت سفينته بالشعيبة فقال لقريش أن أجريتم عيرى من عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب ففعلوا وقدموا به وبالخشب ليبنوا به
(1)
"47 تاريخ الكعبة المعظمة"
(2)
"57 تاريخ الكعبة المعظمة"
البيت فهدمت قريش الكعبة وكانت مبنية بالرضم ليس فيها مدر وكانت قدر ما تقتحمها العناق وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة وذكروا أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها وكان رضمًا فوق القامة وبنوها بحجارة الوادى فرفعوها في السماء عشرين ذراعا وكان قد سرق كنز الكعبة فأرادوا تسقيفها.
النبي صلى الله عليه وسلم يشارك في بناء الكعبة
عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضى الله عنهما يقول - لما بنيت الكعبة ذهب العباس والنبي صلى الله عليه وسلم ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك فخرَّ إلى الأرض فطمحت عيناه السماء فقال أرني إزاري فشده عليه، وكانوا يضعون أزرهم على أعناقهم يحملون عليها الحجارة فإذا دنوا من الناس لبسوا أزرهم فلما وقع ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم سأله عمه ما شأنك؟ قال نهيت أن أمشي عريانا قال العباس فكتمته حتى أظهر الله نبوته.
قريش تبني الكعبة من طيب مالها
ولما أجمعت قريش أمرها في هدم الكعبة وبنائها قام أبو وهب بن عمرو عائد المخزومى فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة لأحد من الناس قال ابن إسحق ووهب خال النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا، وكانت النفقة على الكعبة قد قصرت بقريش فتركوا موضع الحجر وأحاطوه بجدار وقد جاء ذلك في حديث عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو؟ قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت فما شأن بابه مرتفعا؟ قال ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكسر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه بالأرض.
الحجر الأسود
لما بلغ البناء موضع الركن أرادت كل قبيلة أن تستأثر بوضع الحجر الأسود في مكانه فاختصموا حتى وصل بهم الأمر إلى الإعداد للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملؤة دما وتعاقدواهم وبنو عدي بن كعب على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم ثم اجتمعوا وتشاوروا واتفقوا ورضوا بأول داخل من باب بني شيبة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا الأمين كلنا نرضى به فحكموه في ذلك فوضع الحجر في ثوب وأمر واحدا من كل قبيلة أن يأخذ بطرف الثوب ثم وضعه في موضعه بيده الكريمة.
وقريش تقسم البناء أجزاء
وتجزأت قريش الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ابني عمر بن هصيص بن كعب بن لؤى، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد بن قصي ولبني بن كعب بن لؤى وهو الحطيم.
كنوز الكعبة
وكان في بطن الكعبة جب تحفظ فيه الهدايا التي تهدى للكعبة وقد سرق من الكعبة حلة وغزال من ذهب كان عليه در وجوهر قالوا وكان فيها قرنى الكبش الذى افتدى به إسماعيل عليه السلام فلما عزموا على هدم الكعبة أخرجوا هذه الكنوز وجعلوها عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وأخرجوا هبل وكان على الجب الذى في داخل الكعبة نصبه عمرو بن لحي - ونصب عند المقام، وهناك رواية تقول أنه كان في داخل الكعبة أفعى كبيرة مخيفة فلما أذن الله بهدم الكعبة أرسل إليها طائرا عظيما فأخذها من الكعة فقذف بها في أجياد.
(1)
(1)
"46 - 67 تاريخ الكعبة المعظمة".
بناء عبد الله بن الزبير للكعبة
أرسل يزيد بن معاوية جيشا إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير الذى استولى على الحجاز وبايعه أهله خليفة عليهم بعد موت معاوية ووصل هذا الجيش بقيادة الحصين بن نمير فاستولى على مكة كلها إلا المسجد الحرام، ولجأ ابن الزبير وأصحابه إلى المسجد فبنوا حول الكعبة خصاصا (بيوتا من القصب) ورفافا من الخشب كما نصبوا خياما يكتنون فيها من حجارة المنجنيقين الذين نصبا على أخشبى مكة أبي قبيس وقعيقعان وكان الحصين قد قدر على أصحابه عشرة آلاف حجر يرمون بها الكعبة وكانوا يرمون ويرتجزون، وأخذت حجارة المنجنيقين تنصب على الكعبة حتى تخرقت كسوتها فصارت كأنها جيوب النساء ترتج من أعلاها إلى أسفلها، واستمرت الحجارة تتساقط على الكعبة أياما.
احتراق الكعبة
وفى ليلة السبت لثلاث خلون من ربيع الأول عام 64 ذهب رجل من أصحاب الزبير يوقد نارا في بعض تلك الخيام بين الركن الأسود والركن اليمانى، والمسجد يومئذ ضيق فطارت شرارة في الخيمة فاحترقت الخيام والتهب المسجد حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق، وكان يوما شديد الرياح والكعبة يومئذ مبنية ببناء قريش مدماك من خشب الساج ومدماك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها وعليها الكسوة فطارت الرياح بلهب تلك النار، واحترقت كسوة الكعبة واحترق خشب الساج الذى بين البناء.
وهناك رواية أخرى تقول أن أصحاب الحصين بن نمير رموها بالنفط فاحترقت ولكن الحصين وجماعته من أهل الشام ينكرون ذلك. وقد احترق مع الكعبة الحجر الأسود حتى اسود لونه، وكان لونه مثل لون المقام وتصدع الحجر ثلاث فرق فانشطرت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، وقد شده
ابن الزبير بعد ذلك بالفضة إلا تلك الشظية من أعلاه وضعفت جدر الكعبة حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها، وهي مجردة متوهية من كل جانب.
فزع أهل مكة وأهل الشام جميعا لما أصاب الكعبة، وتركها ابن الزبير ليراها الناس، ويروا ما صنع أهل الشام بها.
موت يزيد بن معاوية
وبقي الحصين بن نمير محاصرا ابن الزبير حتى وصل الخبر إلى مكة بنعي يزيد بن معاوية في ليلة الثلاثاء هلال ربيع الآخر. وعلم عبد الله بن الزبير بوفاة يزيد قبل أن يعلم الحصين بذلك، عندها أرسل ابن الزبير رجالا من أهل مكة من قريش وغيرهم فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ورجال من بني أمية إلى الحصين بن نمير فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا إن ذلك منكم وقد رميتموها بالنفط فأنكروا، وقالوا للحصين لقد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى ترى ماذا يجتمع عليه رأى صاحبك يعنون معاوية بن يزيد.
والحصين يرتحل
ولم يزالوا به حتى لان لهم ثم ارتحل الحصين من مكة إلى المدينة لخمس ليال خلون من ربيع الآخر.
وعبد الله بن عمرو بن العاص يبكي
لما ارتحل جيش الحصين بن نمير دخل عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما المسجد الحرام والكعبة محترقة تتناثر حجارتها فوقف ومعه ناس غير قليل فبكى حتى أن دموعه تحدر كحلا في عينه من إثمد كأنه رؤوس ذباب على وجنته.
ويعظ الناس
وقال يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم انكم قاتلوا ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرقوا بيت ربكم لقلتم ما من أحد أكذب من أبي هريرة، انحن نقتل ابن نبينا ونحرق بيت ربنا فقد فعلتم، لقد قتلتم ابن نبيكم وحرقتم بيت الله فانتظروا النقمة، فو الله الذى نفس عبد الله بن عمرو بيده ليلبسنكم الله شيعا وليذيقن بعضكم بأس بعض يقولها ثلاثا.
رفع عبد الله بن عمرو رضى الله تعالى صوته في المسجد فما في المسجد أحد إلا وهو يفهم ما يقول فإن لم يكن يفهم فإنه يسمع هذا الصوت. ثم قال عبد الله بن عمرو: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فوالذى نفس عبد الله بن عمرو بيده لو قد البسكم شيعا واذاق بعضكم بأس بعض لبطن الأرض خير لمن عليها لمن لم يامر بالمعروف ولم ينه عن المنكر.
ابن الزبير يستشير الناس في هدم الكعبة
وجمع ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاورهم في هدم الكعبة. انقسم الناس في آرائهم فاشار فريق بهدمها منهم جابر بن عبد الله وكان قد جاء معتمرا، وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن اميه وغيرهم. ولكن أكثر الناس لم يوافقوا على الهدم، وكان أبرز هؤلاء عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال لابن الزبير دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتى بعد ذلك آخر فلا تزال أبدا تهدم وتبنى، وأمر عبد الله ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت وبالمسجد فكنس مما فيه من الحجارة والدمار وتبين أن الكعبة قد مالت حيطانها مما اصابها من حجارة المنجنيق كما تبين أن الركن قد اسود واحترق وتقطع ثلاثة أجزاء. فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم ويتهاون الناس بحرمتها ولا أحب ذلك ولكن ارقعها.
ابن الزبير يرد على ابن عباس
قال الزبير، والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله سبحانه وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله حتى إن الحمام ليقع فتتناثر حجارته.
ابن الزبير يحزم أمره على الهدم
أقام ابن الزبير أياما وهو يفكر ويشاور ثم أجمع أمره على الهدم، وكان يحب أن يكون هو الذي يعيد البيت على قواعد إبراهيم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه لعائشة رضى الله تعالى عنها.
ابن الزبير يجمع المؤن قبل مباشرة الهدم
سأل ابن الزبير رجلا من أهل العلم عن المواضع التي أخذت قريش حجارة الكعبة منها حين قامت ببنائها، قالوا له أن حجارة الكعبة أخذت من حراء ومن ثبير والمقطع وهو الجبل المشرف على الطريق ومن قافية الخندمة، ومن جبل حلحله المشرف على ذى طوى وهو عند الثنية البيضاء في طريق جده ومن جبل بأسفل مكة على يسار ما انحدر من ثنية بنى عضل ويقال له مقطع الكعبة - يقول الشيخ باسلامة والظاهر أن هذا الجبل هو المسمى في العصر الحاضر - جبل الكعبة - وهو واقع على يمين الداخل ومن مردلة من حجرها يقال له الملجوى.
أمر ابن الزبير بنقل الاحجار التى يحتاج إليها في بناء الكعبة من الجبال التي ذكرنا وأرسل رجلا إلى صنعاء فاشترى قصة بأربعمائة دينار ليكون بناء الحجارة بها.
ابن الزبير يخرج كنوز الكعبة
لما استكمل ابن الزبير إعداد المؤن اللازمه للبناء عمد إلى كنوز الكعبة وكان
فيها الحلي والثياب والطيب فوضعها في خزانة الكعبة في دار شيبة ابن عثمان.
وأهل مكة يغادرونها إلى منى والطائف
ثم عزم على هدم الكعبة فخاف بعض أهل مكة أن ينزل عليهم العذاب لهدمها ففارقوا مكة إلى منى والبعض ذهب إلى الطائف، ولم يعودوا إليها إلا بعد أن تم الهدم وبوشر في البناء وكان ممن ترك مكة ابن عباس ولم يعد إليها حتى اكتمل بناؤها.
ابن الزبير يباشر هدم الكعبة بنفسه
أمر ابن الزبير العمال بهدم الكعبة فتلكأوا ولم يجترئ أحد منهم على مباشرة الهدم فعلاها بنفسه وأخذ المعول وأعمله في الهدم وبدأت الحجارة تتساقط والناس ينظرون إليه فلما رأوا أنه لم يصب بسوء اجترأوا على الهدم، وارقى ابن الزبير فوق الكعبة عبيدا من الأحباش يشاركون في هدمها، رجاء أن يكون فيهم الحبشى الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - يخرب الكعبة ذو السريقتين من الحبشة - عملت المعاول في هدم الكعبة فلم تترجل الشمس حتى الصقت بالأرض وجعل ابن الزبير الحجر الأسود في ديباجة وادخله في تابوت وقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وكان في بعض جدار الكعبة قرنا الكبش الذى فدى به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فلما هدمت الكعبة كشف ابن الزبير عن القرنين فوجدهما مطليين بمشق فتناولهما فلما مسهما همدا من الأيدى، وقيل أن قرني الكبش احترقا لما احترقت الكعبة وقد تم هدم الكعبة في يوم السبت نصف جمادى الآخرة من ذلك العام عام 65 للهجرة.
نصب الخشب حول الكعبة وتغطية بالستور
وأرسل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما إلى ابن الزبير يقول: لا تدع الناس
بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليه الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير وقال اشهد لسمعت عائشة رضى الله تعالى عنها تقول - وذكر حديثهما المتقدم.
الكشف عن أساس إبراهيم
لما تم الهدم كشف ابن الزبير عن أساس بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة فوجده داخلا في الحجر نحوا من ستة أذرع وشبر كأنها أعناق الأبل آخذ بعضها ببعض فإذا تحرك الحجر من القواعد تحركت الأركان كلها .. فدعى ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس فادخل رجل من القوم يقال له عبد الله بن مطيع العدوى عتلة كانت في يده في ركن من اركان البيت فتزعزعت الاركان كلها جميعا.
أشهد ابن الزبير أشراف الناس ووجوه أهل مكة على أساس إبراهيم عليه السلام للكعبة، ثم أمر بالبناء على ذلك الأساس، ووضع حداث باب الكعبة على مدماك الشاذروان الملاصق بالأرض، وجعل الباب الأخر بازائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذى في الشاذروان الذى في ظهر الكعبة قريبا من الركن اليماني وكان الناس يطوفون من وراء الستور والبناة يبنون في الداخل.
وضع الحجر الأسود في الركن
فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بنقر موضعه في حجرين من تحته ومن فوقه بمقدار حجم الركن وامر ابنه عباد بن عبد الله بن الزبير وجبير بن شيبه بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب وخاطبهم قائلا، إذا دخلت صلاة الظهر فاحملوه واجعلوه في موضعه واخبرهم أنه سيطيل في صلاته فإذا فرغتم من وضعه فكبروا حتى اخفف صلاتي، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فلما أقيمت الصلاة كبر ابن
الزبير وصلى الركعة الأولى خرج عباد وجبير بالحجر من دار الندوة واخترقا الصفوف حتى ادخلاه في موضعه من البناء فلما اقراه في موضعه وطرقا على الحجرين كبرا، لما سمع ابن الزبير التكبير خفف صلاته، وهكذا تم وضع الحجر الأسود في مكانه من الركن وقد ذكرنا أن الحجر الأسود انقسم إلى ثلاثة شظايا من تأثير الحريق فشد ابن الزبير الشظيتين اللتين وجدهما من الحجر بالفضة أما الشظية الثالثة فقد بقيت عند بعض آل شيبة دهرا طويلا.
غضب بعض الناس لعدم إشراك القبائل في وضع الحجر الأسود
تسامع الناس بما كان من أمر وضع الحجر من قبل عباد بن الزبير وشيبة بن جبير والناس في صلاة الظهر فغضب بعضهم أن لم تدع قبائل قريش لوضع الحجر كما تم حين بناء قريش للكعبة، ولكن ابن الزبير انفذ الأمر في هدوء وسرية تامتين منعا للخوض في الأمر.
زيادة ابن الزبير في طول البناء
هذا وقد ابلغ ابن الزبير طول بناء الكعبة سبعة وعشرين ذراعا وكانت ثمانية عشر ذراعا في بناء قريش وتسعة أذرع قبل بناء قريش فكانت زيادته في طولها تسعة أذرع عن بناء قريش وجعل عرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم في صفين وبناها بالرصاص المخلوط بالورس.
تزيين الكعبة بالرخام
واستقدم ابن الزبير رخاما من صنعاء اسمه البلق فجعله في الروزن الذى في سقف الكعبة للضوء.
الأبواب والميزاب
قالوا وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعا واحدا فجعله ابن الزبير مصراعين طولهما احد عشر ذراعا من الأرض إلى منتهى اعلاها اليوم وجعل الباب الآخر الذى في ظهرها بازائه وجعل إليها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة تصعد فيها إلى ظهرها وجعل في سطحها ميزابا يصب في الحجر.
تطييب الكعبة وكسوتها
لما أتم ابن الزبير بناء الكعبة خلق - طيَّب - جوفها بالعنبر والمسك ولطخ جدارها بالمسك من الخارج من اعلاها إلى أسفلها، وسترها بالديباج وقيل بالقباطي.
ويفرش حول الكعبة بالحجارة
وبقيت حجارة من بناء الكعبة ففرشت حول البيت واديرت بمقدار عشرة أذرع تاريخ انتهاء البناء.
وكان الفراغ من عمارة الكعبة المعظمة في سابع عشر من شهر رجب من نفس العام عام خمس وستين للهجرة.
ابن الزبير يطلب من الناس أن يعتمروا ويتصدقوا
لما أتم ابن الزبير عمله العظيم خاطب الناس قائلا: من كان لي عليه طاعة فليعتمر من التنعيم شكرا لله عز وجل، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر فليذبح شاة، فمن لم يقدر فليتصدق بقدر طَوْله.
خرج ابن الزبير يمشى حافيا وخرج معه رجال من قريش مشاة منهم عبد الله بن صفوان وعبيد بن عمير فأحرم وأحرم الناس معه من أكمة أمام مسجد عائشة بمقدار غلوة - ومسجد عائشة على مقربة من المسجد المنسوب لعلي - وجعل ابن الزبير طريقه على ثنية الحجون المفيضة إلى المعلاة، ولبى حتى نظر البيت فلما
طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعا، وقال إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والغربي لأن البيت لم يكن تاما. يقول ابن فهد القرشي وبقيت هذه العمرة سُنَّةَ عند أهل مكة في هذا اليوم يعتمرون في كل سنة من هذه الاكمة يقصد من الينبوع فما دونها.
ابن الزبير ينحر مائة بدنة
وكانت فرحة ابن الزبير وأهل مكة فرحة عظيمة بإعادة بناء الكعبة فأهدى ابن الزبير في ذلك اليوم مائة بدنة نحر بعضها في جهة التنعيم والبعض الآخر في طرف الحل ولم يبق من أشراف مكة وذوى الاستطاعة فيها إلا من أهدى ونحر، ولم ير يوم كان أكثر عتيقا ولا أكثر بدنة منحورة أو شاة مذبوحة، ولا صدقة من ذلك اليوم، وأقام أهل مكة يطعمون، ويتنعمون وينعمون شكرا لله على ما أنعم من التيسير في بناء بيته الحرام على الصفة التي كان عليها حين بناه إبراهيم الخليل عليه السلام.
تحلية أساطين الكعبة بالذهب
قالوا وجعل ابن الزبير على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب كما جعل مفاتيحها ذهبا، كما قالوا أنه أدخل الرصاص والورس في بناء الكعبة.
هكذا أعاد ابن الزبير رضى الله تعالى عنه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام وكان الاختلاف هو أن طول جدار الكعبة في بناء إبراهيم تسعة أذرع فجعلها ابن الزبير سبعًا وعشرين ذراعا وجعل لها سقفا ولم يكن لها سقف في بناء الخليل عليه السلام، وجعل في ركنها الشمالي درجا يصعد عليه إلى سطحها وحلاها بالذهب وغير ذلك مما أسلفنا بيانه فجزاه الله على عمله الطيب خير الجزاء
(1)
.
بناء الحجاج للكعبة المعظمة
تأبى السياسة ألا أن تدس أنفها في كل أمر فلم تمض عشر سنوات على بناء
(1)
"67 - 85 تاريخ الكعبة المعظمة".
عبد الله بن الزبير للكعبة المعظمة حتى اختلفت الأمور فعادت جيوش الشام مرة أخرى إلى مكة بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفى وحاصرت ابن الزبير في المسجد وضربت الكعبة بالمنجنيق مرة أخرى وحارب ابن الزبير حتى قتل فلما استتب الأمر في مكة للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كتب إِليه الحجاج بن يوسف عن الزيادة التي أحدثها بن الزبير في بناء الكعبة ووصف حديث عائشة رضوان الله تعالى عنها الذى اعتمد عليه الزبير في إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم وصف هذا الحديث بأنه مفترى على عائشة وأن الزبير يزعم أنه سمعه منها فكتب إليه عبد الملك، إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شئ أما ما زاد في طوله - طول بناء البيت - فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرد إلى بنائه، وسد الباب الذى فتحه، ولم يكذب الحجاج خبرًا فسارع إلى نقض الزيادة التي أدخلها ابن الزبير رضى الله تعالى في الكعبة، والتى أعادها بها إلى ماكانت عليه حين بناها الخليل عليه السلام وأعاد بناء الكعبة في الجدار الذى من جهة الحجر - حجر إسماعيل وهو بمقدار ستة أذرع وشبر كما قام بسد الباب الغربى في ظهر الكعبة عند الركن اليماني وهكذا أعيدت الكعبة إلى ما كانت عليه حين بناء قريش لها، أما ما أحدثه ابن الزبير من الطول في البناء فبقي على حاله.
عبد الملك يندم بعد فوات الآوان ويلعن الحجاج
ولقد ندم عبد الملك بن مروان على تعجله في الإذن للحجاج بنقض ما بناه الزبير من الكعبة فقد وفد عليه الحارث بن عبد الله في خلافته فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب - يقصد ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها؟
قال الحارث: بلى أنا سمعته منها.
قال عبد الملك: سمعتها تقول ماذا؟
قال الحارث: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدى
أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه - فأراها قريبا سبعة أذرع - وتكملة هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم لها - ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟
قالت عائشة: لا.
قال النبي صلوات الله وسلامه عليه تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخلوه دفعوه فسقط.
قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا
قال الحارث: نعم.
فنكث ساعة بعصاه ثم قال وددت أنى تركته - يقصد ابن الزبير وما تحمل، وقال أبو أويس أخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها ولعن الحجاج.
والحقيقة أن حديث عائشة رضوان الله تعالى عليها ثابت في كتب السنة، وكان الأحرى بعبد الملك بن مروان أن يتقصى الأمر قبل أن يحكم فيه وهو يعرف الحجاج وما جبل عليه من الحقد والبطش فالمسألة تتعلق هنا بهيبة البيت وقدسيته، حيث يجب عدم تعرضه للهدم والتغيير في غير موجب، وقد رأينا ابن العباس وهو من هو في فقهه وعلمه ينصح ابن الزبير أن يقوم بترقيع الكعبة، أى ترميمها وأن لا يقوم على الهدم، ثم يترك مكة إلى الطائف فلا يعود إليها إلا بعد إتمام بناء البيت مرة أخرى.
لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك
وهذا الذى فعله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هو ما أفتى به الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة حينما سأله هارون الرشيد وقيل أبوه المهدى العباسي ماذا يرى في هدم الكعبة وردها إلى بناء عبد الله بن الزبير.
قال الإمام مالك - يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد
أن يهدمها إلا هدمها، فتذهب هيبة البيت من صدور الناس فتركها الرشيد.
الطواف من خارج الحجر
ولهذا فإن الطواف يكون من خارج الحجر - حجر إسماعيل - لأن ستة أذرع من الحجر مما يلى البيت تعتبر محسوبة من البيت بلا خلاف.
خلاصة القول
وخلاصة القول كما يقول المؤلف، فكل شيء فيها - الكعبة - بناء ابن الزبير إلا الجدار الذى في الحجر - حجر إسماعيل - فإنه بناء الحجاج - كما سد الحجاج الباب الذى ظهر في الكعبة، كذلك رفع الباب الشرقي الذى يدخل منه إليها اليوم بمقدار أربعة أذرع وشبر وكان يصل إلى الأرض، وكذلك الدرجة التي في باطن الكعبة والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضا من عمل الحجاج.
(1)
السيل يهدم الكعبة
بقيت الكعبة المعظمة على بناء ابن الزبير لها والتعديل الذى أحدثه بها الحجاج بن يوسف تسعمائة وأربع وستين عاما لم يصبها وهن ولا خراب باستثناء بعض المرمات البسيطة، بقيت الكعبة المعظمة كذلك إلى عام 1039 للهجرة، ففى يوم الأربعاء التاسع عشر من شعبان عام تسع وثلاثين وألف للهجرة، هطل بمكة المكرمة مطر عظيم ابتدأ في الساعة الثانية صباحا - بالتوقيت الزوالى - واشتد نزوله بين صلاتي الظهر والعصر واتصل المطر إلى ليلة الخميس، يصاحبه برد عظيم.
وفى آخر النهار من يوم الأربعاء هبط من جراء هذه الأمطار سيل عظيم لم يرد مثله في الأزمان القريبة، دخل السيل إلى المسجد الحرام وامتلأ المسجد بالماء، ودخل الماء إلى الكعبة المشرفة من بابها ووصل ارتفاع الماء إلى نصف جدار الكعبة، كما بلغ ارتفاعه إلى طوق القناديل، ودخل السيل بيوت أهل مكة المكرمة
(1)
"86 - 91 تاريخ عمارة الكعبة المعظمة".
وأخرج أمتعة هذه البيوت وذهب بها إلى أسفل مكة، ومات فيه خلق كثير من مختلف طبقات الناس وصل تعدادهم كما يقول أحمد بن علان ألف إنسان من كبير وصغير وجليل وحقير، وبقى ماء السيل تلك الليلة بالمسجد الحرام إلى الصباح .. وفى عصر يوم الخميس عشرين من شعبان عام 1039 هـ سقط الجدار الشامي للكعبة، كما سقط بعض جداريها الشرقي والغربي كما سقطت درجة السطح بعد ذلك، ذعر الناس لما حدث من سقوط جدار الكعبة وضجوا وارتاعت القلوب لهول ذلك. وكان أمير مكة الشريف مسعود بن إدريس بن حسن قد حضر إلى المسجد صباح الخميس، وأمر بفتح سراديب المياه الخاصة بالحرم مما يلي باب إبراهيم وبعد أن تم تصريف معظم المياه عاد إلى داره باجياد ولكنه ما لبث أن عاد إلى المسجد فزعا حينما علم بسقوط جدار الكعبة وحضر معه أشراف مكة وعلماؤها وسادن البيت الشيخ محمد بن أبي القاسم الشيبي.
أمر الشريف مسعود بإيقاد الشموع فأوقدت وأمر السادن بالدخول إلى الكعبة وإخراج القناديل الثمينة الخاصة بالكعبة، وكانت عشرين قنديلا من الذهب أحدها مرصع باللؤلؤ، كما أخرج الميزاب والمعادن الثمينة، وحفظت جميعها في دار سادن البيت بعد أن تم ضبطها.
وفى اليوم التالى وهو يوم الجمعة 21 شعبان 1039 حضر أمير مكة الشريف مسعود إلى المسجد الحرام ومعه أشراف مكة وعلماؤها واعيانها وباشروا في تنظيف المطاف وما حوله فباشر الخطيب خطبة الجمعة وأقام صلاتها بالناس في موضع المطاف. وبعد الفراغ من الصلاة شرعوا في جمع الحجارة التي سقطت من الكعبة المشرفة فنقلوها من المطاف ووضعوها في أماكن قريبة حتى تكون في متناول اليد عند إعادة البناء.
كان الحجاز في ذلك العهد ضمن البلاد الإسلامية التابعة للخليفة العثمانى ولكنه كان مرتبطا في إدارته بمصر، وكان مقر الشرفاء أمراء مكة في مكة المكرمة، وكان مقر الولاة سواء أكان الوالي من قبل الخلافة العثمانى أو من قبل صاحب مصر
في جدة، وقد استدعى ما حدث السعي لإنقاذ الكعبة بإحضار مال عاجل من جدة فأرسل إلى صاحب مصر فيها فبعث خمسمائة دينار بصورة عاجلة.
استفتاء الشريف علماء مكة في إصلاح الكعبة
وقد حضر الشريف مسعود أمير مكة إلى المسجد الحرام وحضر لحضوره علماء البلد الأمين وأعيان الناس ومندوب من صاحب مصر فسأل أمير مكة العلماء الحاضرين الفتوى في إصلاح ما وهى من الكعبة وهل يجوز استعمال مال الكعبة في إصلاحها - والمقصود بيع القناديل الثمينة التي تحتويها خزانة الكعبة وغيرها مما أهدى إلى الكعبة - أم لا يجوز، ووجه السؤال مكتوبا إلى العلماء وعين لهم مكانا خاصا في باب الرحمة وقد اجتمع العلماء وتداولو الأمر ثلاثة أيام رجعوا فيها إلى المراجع الفقهية ثم أجابوا على السؤال بأن تعمر الكعبة من مالها، كما يجب المبادرة إلى العمارة ممن له أمارة على الحرمين الشريفين وأن المخاطب بهذا هو السلطان مراد خان ثم نائبه الشريف مسعود أمير مكة.
وقد جهز أمير مكة وفدا للسفر إلى مصر لمقابلة صاحب مصر وعرض الأمر عليه مصحوبا بفتاوى العلماء وشهادة أعيان مكة لرفع الأمر إلى السلطان مراد خان.
تنظيف المسجد وإحاطة الكعبة بسور من الأخشاب
وفى نفس اليوم أمر الشريف مسعود المهندسين والفعلة بمباشرة تنظيف المسجد الحرام وباطن الكعبة مما أصابها من الأحجار والوحول المتراكمة، ووصلت من والي جده خمسمائة دينار أخرى لصرفها كذلك على التنظيف والإصلاح الابتدائى. وقد استغرف تنظيف المسجد الحرام مما أصابه من الوحول ما يقرب من شهر كامل فتم تنظيف المسجد والكعبة ثم أحيطت الكعبة بستارة من الخشب بعد إحضاره من جده وغيرها، وأمر الشريف مسعود بعمل ثوب أخضر كسيت به الأخشاب المحيطة بها ودخل الأمير إلى داخل الستار الخشبي فصلى في داخل
الكعبة ثم خرج وطاف بالبيت وذلك في السابع من شهر شوال عام 1039 هـ.
الاهتمام بإصلاح الكعبة
وصل الوفد المرسل من مكة إلى مصر وقابل واليها محمد باشا الألباني فاهتم بالامر اهتماما عظيما ورأى المباشرة بعمارة الكعبة حتى قبل ورود أمر السلطان بذلك، فبعث من قبله مندوبا إلى مكة وخوله صلاحية تامة لاتخاذ التدبير المستعجلة للاصلاح، ووصل هذا المندوب إلى مكة المكرمة يوم 16 شوال وفى اليوم التالى لوصوله قابل أمير مكة الشريف مسعود وكان يصطحب معه خلعة سلطانية البسها لأمير مكة في المسجد الحرام. وكما اهتم صاحب مصر بالأمر فقد اهتم به السلطان مراد حينما وصل إليه الخبر فأرسل السلطان في شهر ربيع الثانى من عام أربعين بعد الألف رجلا اسمه السيد محمد أفندي قاضيا للمدينة المنورة ومعينا لعمارة الكعبة المشرفة وحينما وصل إلى مكة كان الشريف مسعود أمير مكة مريضا فاستقبله في بستان له خارج مكة المكرمة وألبسه الخلعة السلطانية وتوفى الشريف مسعود في الثامن عشر من ربيع الثاني عام أربعين وألف وقام بالأمر بعده الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي.
ووصلت المؤن اللازمة للعمارة من مصر في 21 من الشهر نفسه.
العمل في بناء الكعبة
وقد بدأ الاستعداد للعمل الجاد في بناء الكعبة في الأسبوع الأخير من شهر ربيع الثانى فأحاط النجارون الكعبة بسياج من الخشب للعمل من داخله وأخذوا من مدار المطاف نحو ستة أذرع لهذه الغاية. وكانت الأحجار الكبيرة التي اقتطعوها من جبل الكعبة المعروف حاليا قد أحضرت قريبا من باب العمرة وشرع النحاتون في نحتها. وهطل مطر بمكة في يوم السابع والعشرين من ربيع الثانى سقط على أثره حجران من الجدار الغربي وأحجار صغيرة أخرى مما دل على أن بناء الكعبة
جميعة قد وهى. وبالكشف على ما تبقى من بناء الكعبة ظهر أن الحاجة تدعو إلى إزالة البناء القديم جميعه وتشييدها على أسس جديدة واختلف الناس في ذلك.
فالبعض يحبذ الهدم والبعض يميل إلى البناء على ما تبقى من البناء ولكن تغلبت فكرة الهدم الكامل في النهاية، فتم الشروع في الهدم في آخر يوم من شهر جمادى الأولى واستمر المهندسون والعمال في إزالة البناء القديم كله وهو بناء ابن الزبير إلى الثانى والعشرين من شهر جمادى الثانية ولم يبق في مكانه من بناء ابن الزبير إلا الحجر الأسود وذلك خشية عليه من التفتت، وقد تم قلع أحجار الشاذروان - الشاذروان هو حجر الأساس - كما نقضوا سقف الكعبة وحفظوا كسوتها وأبوابها وما زينت به من النحاس المموه بالذهب والرخام في مواضع أمينة.
وفى ضحى يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربعين بعد الألف بدأ العمل في صب الأساسات في جدار الكعبة الشامي، وأقيم لذلك احتفال حضره أمير مكة الجديد الشريف عبد الله ومعه أولاده كما حضر هذا الاحتفال مندوب السلطان مراد خان ومندوب صاحب مصر وكثير من علماء مكة وأعيانها وسادن البيت وشارك الجميع على سبيل التبرك في عمل الأساسات كما جرى ذبح الذبائح عند باب السلام وباب الصفا وباب إبراهيم تقربا إلى الله تعالى رجاء قبوله وتوفيقه.
وقد استعملت الأحجار في المدماك الأول من البناء بسمك أربعة وعشرين قيراطا وفى المدماك الثاني بسمك اثنين وعشرين قيراطا وجرى صب الرصاص المذاب بين الأحجار لمساواتها وتقويتها.
ولما بلغ البناء إلى موضع الحجر الذى يستلمه الطائف في الركن اليماني وضع ذلك الحجر في مكانه بعد أن ضخمه السادن بالعنبر والمسك وبخره بالعود وكان طرف الحجر الذى نحته انكسر من أعلاه فوضع في محل ذلك رصاص مذاب
ليكون مسامتا لباقي الأحجار واستمر البناء بغاية الدقة والإتقان إلى موضع الحجر الأسود فحضر مندوب السلطان مراد خان والشريف عبد الله بن الحسين بن أبي نمي أمير مكه وأولاده وجمع كبير من العلماء والأعيان وأصحاب الوظائف الكبيرة في الحرم وسادن بيت الله الحرام وذلك للاحتفال بتثبيت الحجر الأسود في موضعه من الركن.
حادث مثير للحجر الأسود
أخذ كبير المهندسين ومعه العلم عبد الرحمن زين الدين بأصبع الحديد ما أطاف بالحجر الأسود والفضة التي أحيطت بالحجر وكذلك بالجير الذى ألصق به وكان ولد أمير مكة الشريف محمد يتلقى هذه المواد بمحرمة في يده وهم يتلطفون في الأمر ولكن الذى كان بيده المعمول ضغط دون قصد على الحجر فإذا به ينقسم إلى أربع شظايا وكادت هذه الشظايا أن تسقط فلما رأوا ذلك أحضروا السيد على ابن بركات فهاله ما رأى من أمر الحجر كما هال الحاضرين ما علموا من ذلك وما شهدوا وأخيرا أجمع الرأى على إبقاء الحجر فى مكانه من الركن وإصلاحه دون إخراجه من موضعه خشية أن يتحول إلى شظايا صغيرة متفرقة أن هم أخرجوه من الركن، وإصلاحه دون إخراجه من العنبر واللاذن وأعادوا الفتات التي خرجت من الحجر أثناء التنظيف إلى مكانها منه ووضعوا عليه طوق الفضة الذى أعدَّ له وباشر إتمام ذلك أمير مكة وأكابر الحاضرين، ولكن مركب العنبر واللاذن لم يدم طويلا فلما حميت الشمس ذاب هذا المركب فأوقدت الشموع ليلا وعملوا مركبا آخر من كثير من المواد الثابتة وأضافوا إليها المسك والعنبر وتم إلصاق الشظايا مرة أخرى بهذا المركب الذى انتهى العمل فيه عند منتصف الليل وقد بلغت شظايا الحجر ثلاثة عشر فلقة الكبار منها أربعة وقد حدث في التاسع من شهر شوال أنه لوحظ تحرك طوق الفضة المطيف بالحجر الأسود وتخلخل أحجاره وربما كان ذلك من كثرة اللمس والتقبيل للحجر بعد أن كان محجوبا عن الناس بضعة شهور فأعيد صنع مركب آخر ملئت به الثغرات بين أحجاره ليتم تماسكها، وفى أول يوم من ذى
الحجة من هذا العام جرى دهن الحجر وطلى بالسندروس فصلح ما تخلخل منه.
تاريخ انتهاء البناء في الكعبة
هذا وقد استمر العمل في بناء الكعبة المعظمة ستة شهور ونصف، أورد الشيخ باسلامة تفاصيلها نقلا عن المصادر التاريخية الكثيرة يوما بيوم إلى أن انتهى العمل النهائى فيها ثانى أيام ذى الحجة من عام أربعين وألف وهذه العمارة التي قام بها السلطان مراد خان هي الباقية حتى هذا اليوم ولم يطرأ عليها سوى بعض الترميمات التي كان آخرها في سقف الكعبة في العهد السعودى عام 1377 للهجرة.
ونكمل الحديث عن بناء السلطان مراد للكعبة ببعض المعلومات المتعلقة بالموضوع:
1 -
الباب الذى جعل للكعبة في هذه العمارة اشترك فيه أكثر من سلطان فقد أرسل السلطان بيبرس سلطان مصر بابا ثمينا من الخشب للكعبة، ثم قام السلطان سليمان العثمانى بتلبيسه بالفضة المموهة بالذهب.
2 -
تم تسقيف الكعبة بالأخشاب وبلغت الأعواد التي استعملت كحامل للسقف ثمانية وثمانين عودا وتم تلبيس هذه الأعواد بصفائح الخشب.
3 -
جعلت للكعبة ثلاثة بساتل من الخشب القوي وقد وصل البستل الأول وهو قطعة من دقل مركب وحمل من جده على عجل وجُرَّتْ باثنى عشر جملا، ولما وصلت إلى باب الصفا حملها اثنا عشر رجلا ثم ركبوا أربع بكرات بحبال قوية ليرفعو البستل إلى سقف الكعبة وهكذا فعلوا في البساتل الباقية، والبستل هو عمود ضخم من الخشب القوي الصالح لحمل الأثقال وقد تم دهن هذه العمد بالجير والزعفران وطليت بغراء الجلود.
4 -
للكعبة سقفان سقف يعلوه سقف.
5 -
الميزاب المركب في سطح الكعبة أرسله السلطان العثمانى أحمد خان هدية إلى الكعبة في سنة ألف وعشرين للهجرة وطوله ثلاثة أذرع ونصف الجزء البارز منه مصفح بالفضة المحلاة بالذهب وعليه اسم السلطان أحمد خان وقد بقي في مكة عشرين عاما ثم جرى تركيبه في العمارة الأخيرة التي أجراها السلطان مراد خان.
6 -
تم فرش سطح الكعبة بالرخام وكان قد تكسر من رخامه عشرر خامات أبدلت بعشر رخامات جديدة.
7 -
كان الجدار الذي بني به الحجر تم بناؤه في عمارة الملك الأشرف قانصوه الغورى من ملوك الجراكسه بمصر في القرن العاشر الهجرى، وقد أعيد بناء هذا الجدار في العمارة الأخيرة وفقدت رخامة من الرخام الملبس به البناء فأبدلت بغيرها - وكذلك أبدل الرخام المكسر في المطاف برخام سليم.
8 -
كان السلطان أحمد خان العثمانى قد بعث لوحا ذهبيا يعلق على أعلى باب الكعبة مكتوبا عليه باللون اللازوردى - الأزرق الفاتح - أن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعاملين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا - وتحت هذه الآيات ثلاث أبيات فيها تاريخ بعمل الحزام للسلطان أحمد خان وهو عام عشرين الف وهذه الثلاث أبيات تدل على الحالة التي كان فيها النظم الركيك يعتبر شعرا وكان هذا هو التفكير السائد في ذلك الوقت.
اللوح ذا لما استرم فجددا
…
قد بدل السلطان أحمد عسجدًا
فبدا له من جديد ذو جدا
…
الله انعم بالمجدد وايدا
الهمت في تاريخه لما
…
بدا اللوح للسلطان أحمد جددا
9 -
لما تم تجديد بناء الكعبة المعظمة كتب تاريخ العمارة على لوحة رخامية كتب فيها "بسم الله الرحمن الرحيم"، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، تقرب بتجديد هذا البيت العتيق إلى الله سبحانه وتعالى خادم الحرمين، وسائق الحجاج
بين البرين والبحرين السلطان ابن السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان بن السلطان محمد خان خلد الله تعالى ملكه وأيد سلطنته في أواخر شهر رمضان المبارك المنتظم في سلك شهور سنة أربعين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل التحية.
وقد ألصقت تلك اللوحة على الجدار الغربى بداخل الكعبة المشرفة ومن المعلوم أن هذا التاريخ ليس هو التاريخ النهائى للعمل في البيت وربما كان تاريخ الانتهاء من البناء، لأن التاريخ النهائى لعمارة البيت كان في الثانى من ذى الحجة من نفس العام المذكور كما أسلفنا بيانه.
10 -
زينت أرض الكعبة وجدرانها بالرخام الملون وفيها أربعة دعائم، والدرجة الصاعدة إلى السطح في بطن الجدار الشامي عليها باب صغير وعلى يسار الداخل كرسي من الخشب يجلس عليه فاتح البيت وقد كسيت من الداخل بحرير أحمر.
11 -
تبلغ مساحة الكعبة بالأمتار كما وردت في الكتاب كالتالى: -
أ - طول الكعبة من وسط الجدار اليماني إلى وسط الجدار الشامي 10.15
ب - طول الكعبة من وسط الجدار الشرقي إلى وسط الجدار الغربى 8.10
ج - يبلغ عرض جدار الدرجة التي بداخل الكعبة الواقعة في الركن الشمالي الشرقي المصعدة إلى سطح الكعبة من الشرق إلى الغرب مزين وثلاثين سنتما ومن الشمال إلى الجنوب مترا ونصف المتر.
12 -
يوجد في داخل الكعبة سبعة ألواح من الرخام تحمل أسماء السلاطين والملوك الذين قاموا بعمارة فيها وهي كالتالى حسب الترتيب الذى أورده المؤلف.
1 -
السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباى في مستهل رجب عام أربع وثمانين وثمانمائة للهجرة.
2 -
والدة السلطان العثماني خان مصطفى بمباشرة أحمد بيك شيخ الحرم المكى في عام مائة وتسع بعد الألف.
3 -
الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور عام تسع وعشرين وستمائة.
4 -
الملك المظفر صاحب اليمن الذى قام بتجديد رخام البيت المعظم عام ثماني وستمائة.
5 -
السلطان مراد خان بن السلطان محمد خان في شهر رمضان سنة أربعين وألف من الهجرة.
6 -
السلطان محمد خان الذى قام بتجديد سقف البيت الشريف وجميع داخل الحرم وخارجه سنة سبعين وألف.
7 -
السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي سنة ستة وعشرين وثمانمائة.
13 -
توجد في وسط الكعبة ثلاثة أعمدة من الخشب القوي التخين يقدر قطر تخن الواحدة منها بنصف متر ولون هذه الأعمدة بين الحمرة والصفرة وقد بقيت هذه الأعمدة ثلاثة عشر قرنا حيث وضعها عبد الله بن الزبير في بنائه للبيت وقد عمل لهذه الأعمدة قبل أربعين عاما دوائر من الخشب من أسفلها بإرتفاع متر ونصف من أرض الكعبة بعد أن ظهر بعض التصدع في هذه العمد التي عاشت طيلة هذه القرون كما يقول المؤلف في منتصف القرن الماضي.
14 -
أرض الكعبة مفروش بالرخام الأبيض والقليل منه ملون أما جدارها فهو مكسو برخام ملون ومزركش بنقوش لطيفه.
15 -
وصف المؤلف الستارة الحمراء التي بداخل الكعبة والتى أهديت لها من السلطان عبد العزيز خان عام 1290 للهجرة ومكتوب عليها بالنسيج الأبيض - لا إله إلا الله محمد رسول الله جل جلاله، ثم سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ثم يا حنان يا سلطان يا حنان يا سبحان - وهذه الأسماء مكتوبة على شكل دوائر وتوجد ستارة أخرى على باب الدرجة المصعدة إلى سطح الكعبة من الداخل وهي من الحرير الأسود ومطرزة بالقصب الفضي المذهب.
(1)
الحجر الأسود
أفرد المؤلف فصلا خاصا في كتابه تحت عنوان - خبر الحجر الأسود - استعرض
(1)
92 - 143 تاريخ عمارة المسجد الحرام.
فيه الحوادث للحجر ونبدأ بالحادثة الشهيرة التي أخذ فيها القرامطة الحجر من مكة وساروا به إلى هجر وغيبوه هناك اثنتين وعشرين عاما - يقول المؤلف نقلا عن التقي القاسي في شفاء الغرام وعن ابن فهد في إتحاف الورى ما ملخصه. أن أبا طاهر سليمان بن ربيعة الحسن القرمطي صاحب البحرين دخل مكة في شهر ذى الحجة سنة ثلاثمائة وسبعة عشرة للهجرة وكان قد حضر للحج بالناس نيابة عن الخليفة العباسي عمر بن الحسن بن عبد العزيز وفاجأ القرمطي هذا الناس بأن دخل المسجد الحرام يوم التروية أو معه تسعمائة رجل من أصحابه وكان يمتطى فرسا له وبيده سيف مسلول يقول ابن فهد فصفر القرمطي لفرسه فبال عند البيت وأسرف هو أصحابه في قتل الحجاج وأسرهم ونهبهم وكان الناس يطوفون والسيوف تأخذهم وقد بلغ عدد القتلى في المسجد الحرام ألفا وسبعمائة شخص في إحدى الروايات بينما بلغ في رواية أخرى ثلاثة عشر ألفا وأيا كان العدد فقد كانت حادثة رهيبة وفظيعة وقد امتلأ المسجد الحرام بجثث القتلى بعد أن امتلأ بهم بئر زمزم وحينما سمع أبو طاهر هذا الناس يصيحون - تقتل جيران الله في حرم الله؟ قال لعنه الله - ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه وتلا الآية الكريمة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
ثم صعد على باب الكعبة واستقبل الناس بوجهه وهو يقول: -
إنا بالله وبالله أنا
…
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
قالوا وضرب بعض أصحابه الحجر بدبوس فانكسر، وقيل أن الذى ضرب الحجر الأسود بالدبوس أبو طاهر نفسه وصاح يا حمير - أنتم تقولون من دخل هذا البيت كان آمنا فأين الأمن وقد فعلت ما فعلت؟ وعطف دابته ليخرج فأخذ بعض الحاضرين بلجام فرسه وقد استسلم للقتل فقال له - ليس معنى الآية ما ذكرت وإنما معناها من دخل فأمنوه فلوى القرمطي فرسه ولم يرجع إليه.
ثم استمر القتل والنهب من القرمطي وأصحابه في سكك مكة وظاهرها وشعابها من الحجاج المغاربة والخراسانين نيفا وثلاثين الفًا وسبى من النساء والصبيان مثل
ذلك ولم يقف أحد هذه السنة بعرفه ولا وفي نسكا إلا قوم يسيرون غرورًا فأتموا حجهم دون إمام وكانوا رجالة.
ونهب أبو طاهر ورجاله أموال الناس وحلي الكعبة، وهتك أستارها وقسم كسوتها بين أصحابه قال ابن فهد ونهب دور مكة وقلع باب الكعبة، وأمر بقلع الميزاب وكان من الذهب الإبريز فصعد أحد رجاله ليقلعه فأصيب ببسهم في عجزه أطلق عليه من جبل أبي قبيس فسقط فمات، وقيل أن الرجل وقع على رأسه فمات.
فقال القرمطي - اتركوه على حاله - يعني الميزاب فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعنى المهدى قالوا وأراد أخذ المقام فلم يظفر به لأن سدنة المسجد غيبوه في بعض شعاب مكة، فتألم لفقده فعاد عند ذلك على الحجر الأسود فقلعه جعفر بن أبي علاج البناء المكي بأمر القرمطى بعد صلاة العصر من يوم الاثنين رابع عشر ذى الحجه قالوا وقال عند ذلك شعرا يدل على عظيم زندقته حيث يقول:
فلو كان هذا البيت لله ربِّنا
…
لصب علينا النار من فوقه صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
…
محللة لم تبق شرقا ولا غربا
وأنا تركنا بين زمزم والصفا
…
جنايز لا تبغي سوى ربها ربا
قالوا وقلع القرمطي قبة زمزم وأقام هو وأصحابه بمكة أحد عشر يوما ثم انصرف إلى بلده هجر وحمل معه الحجر الأسود يريد أن يجعل الحج عنده، قال ابن فهد وهلك تحت الحجر أربعون جملا وبقى موضع الحجر الأسود من الكعبة خاليا يضع الناس فيه أيديهم للتبرك.
وكان القرمطي يخطب بمكة لعبد الله المهدى صاحب المهدية بأفريقية.
أقول - أن ما يلفت النظر في هذه الروايات التي سقناها عن القرمطي والمنقولة
عن ابن فهد أن تعداد جيش القرمطي كان تسعمائة رجل وقد عاث هذا الفساد كله في أقدس بقعة على وجه الأرض وقتل الألوف من الحجاج والأهليين، وسبى الألوف المؤلفة كذلك من الصبيان والنساء، وهتك حرمة البيت الحرام وبقى أحد عشر يوما ولم يتصد لقتاله ومناجزته أحد ترى ألم يكن لدى أمير مكة من الجنود والحرس من يتصدى لهؤلاء المفسدين في الأرض وقد حضر الحج مندوب الخليفة ومعه حتما من الجند والحرس من كان ينضم إلى أمير مكة وجنده، كما ينضم إليهم المتطوعون من أهل مكة والحجاج.
ولقد ذكر ابن فهد ضمن أسماء القتلى أمير مكة ابن محارب كما ذكر أسماء كثير من الأعلام الذين قتلوا في هذه المعركة الفظيعة.
على أي حال - يبدو أن هذا القرمطي اعتمد على مفاجأة الناس باعتدائه الفظيع الغاشم الذى تم في اليوم الثامن من ذى الحجة، وفى قلب المسجد الحرام، ويبدو أن هذه المفاجأة أذهلت الناس فشلت عقولهم كما شلت حركتهم، كما أن مقتل ابن محارب أمير مكة كان من أكبر الأسباب في استرسال القرمطي هذا وأصحابه في القتل والإفساد دون رادع أو واعز، أما تعداد القتلى والأسرى والسبايا فإن المبالغة فيه واضحة لا يفتقر تبينها إلى عناء، والناس في أمثال هذه الحوادث يعظمون الأمور ويبالغون في الروايات وقد ينطقون الناس ما لم ينطقوا أو يقولوا، ولكن الحادثة مهما صاحب روايتها من المبالغة والتهويل كانت من أسوأ الحوادث التي مرت في تاريخ المسجد الحرام وأفظعها، وهي سبة لهذا القرمطي وأصحابه ولعنة تلحقهم عبر الأزمان والدهور.
إعادة الحجر
ذكرنا أن هذا القرمطي الفاجر اللعين كان يخطب لعبد الله المهدى صاحب أفريقية قالوا فلما بلغ المهدى ذلك كتب إلى القرمطي يقول - والمعجب من كتبك
إلينا ممتنا علينا بما ارتكبت واجتريت باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم الدماء فيها وإهانة أهلها ثم تعديت ذلك إلى أن قلعت الحجر الذى هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك ورجوت أن نشكرك على ذلك، فلعنك الله ثم لعنك الله ثم لعنك، والسلام على من يسلم المسلمون من لسانه ويده.
لما وصل هذا الكتاب من الخليفة العبيدى عبد الله المهدى انحرف القرامطة عن طاعة العبيدين قالوا وأقام الحجر بالإحساء اثنتين وعشرين سنة يستميلون الناس إليهم، ثم يئسوا فردوه فلما كان يوم النحرمن سنة ثلاثمائة وتسعة وثلاثين وافى سنبر بن الحسن القرمطي مكة ومعه الحجر الأسود فلما صار بفناء الكعبة ومعه أمير مكة أظهر الحجر من سفط وعليه ضباب فضه.
وقد قيل أن الخليفة المقتدر العباسي اشترى الحجر من أبي سعيد الجنابي بثلاثين ألف دينار ولكن الناقل لهذه الرواية نجم الدين بن فهد ردها. قالوا ولما رد سنبر هذا الحجر إلى مكانه وجرى شده بالجص الذى أحضره معه قال سنبر - أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله.
ونظر الناس إلى الحجر فتبينوه وأقبلوا عليه يقبلونه ويحمدون الله تعالى على رده إلى مكانه من البيت الحرام.
وقد جرى إخراج الحجر بعد بضعة شهور من إعادته إلى مكة وتطويقه بالفضة كما كان عليه الحال في خلافة عبد الله بن الزبير وقد وقعت حوادث كثيرة للحجر الأسود عبر التاريخ نذكر منها ما يلي:
1 -
ذكر ابن فهد القرشى في حوادث سنة 363 أنه بينما كان الناس في وقت القيلولة وشدة الحر وانقطاع حركة الطواف بالبيت إلا من رجل أو رجلين شوهد رجل عليه ملابس بالية يغطى رأسه ويسير رويدا حتى دنا من الركن فأخذ معولا وضرب به الركن ضربة شديدة حتى ظهر أثرها فيه ورفع يده ليضرب الضربة الثانية فابتدره رجل من السكاسك من أهل اليمن وكان يطوف بالبيت فطعنه
بخنجر طعنة عظيمة فسقط أرضا وأقبل الناس من نواحي المسجد ونظروه فإذا هو رجل رومي يحمل معولا عظيما حديد السن وقد جعل له مال كثير على ذهاب الركن فأخرج من المسجد الحرام وجمع الحطب الكثير فأحرق بالنار.
2 -
وذكر ابن الاثير في حوادث سنة 414 جاء إلى المسجد في يوم النفر الأول ولم يكن الناس عادوا من منى رجل أحمر اللون أشقر الشعر تام القامة جسيم طويل وبإحدى يديه سيف مسلول وبالأخرى دبوس فقصد الحجر الأسود بعد أن أتم الإمام صلاته يظهر كان يريد استلامه فضرب وجه الحجر ثلاث ضربات متواليات بالدبوس فتقشر وجه الحجر من تلك الضربات وسقطت منه شظايا صغيرة.
وأقبل الرجل بوجهه متسائلا، إلى متى يعبد هذا الحجر الأسود ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله فإنى أريد اليوم أهدم هذا البيت فتهيب الحاضرون الأقدام على الرجل، وكان قد وضع على باب المسجد عشرة من الفرسان لينصروه، ولكن رجلا من أهل مكة احتسب حياته فثار به فطعنه بخنجر وتكاثر عليه الناس فقتلوه وقطعوه إربا وأحرقوه بالنار وقتل جماعة ممن شاركوه وأعانوه وأحرقوا بالنار.
قالوا وكان الظاهر منهم عشرين رجلا فثارت الفتنة وعلم أبو الفتوح أمير مكة بالأمر فأطفأ الفتنة التي كادت أن تعم المصريين لأن الرجل كان كما يقول ابن الأثير ممن استغواهم العبيدى حاكم مصر.
3 -
وجاء في منائح الكرم نقلا عن الشيخ محمد بن علان المكي أنه في عشر التسعين والتسعمائة جاء رجل أعجمي بدبوس فضرب الحجر الأسود، وكان الأمير ناصر جاوش حاضرا فطعن ذلك الأعجمي بالخنجر فقتله وأراد العجم المقيمون بمكة أن يثأروا له وزعموا أنه شريف فحال بينهم وبينه قاضي مكة حسين المالكي.
4 -
وقد أورد الشيخ باسلامة آخر الحوادث التي شهدها عن الحجر الأسود فقال: جاء رجل فارسي من بلاد الأفغان في آخر شهر المحرم سنة 1351 فاقتلع قطعة من الحجر الأسود وسرق قطعة من ستارة الكعبة، وقذعة فضة من مدرج
الكعبة الذى هو بين بئر زمزم وباب بني شيبة فشعر به حرس المسجد الحرام فاعتقلوه ثم أعدم عقوبة له كما حدث لأمثاله ممن تجرأوا على الحجر الأسود في مختلف أزمان التاريخ بحيث أصبح ذلك سنة متبعة.
يقول الشيخ باسلامة ثم لما كان يوم 28 ربيع الثانى من عام 1351 حضر جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود من مصيفه بالطائف قبل توجهه إلى الرياض ومعه رئيس هيئة القضاء الشرعي الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وحضر أيضا الشيخ عبد الله الشيبي نيابة عن والده رئيس السدنه المرحوم الشيخ عبد القادر الشيبي وحضر كذلك بعض الأعيان، ثم أحضر مدير الشرطة العام محمد مهدى بك تلك القطعة التي اقتلعها ذلك الفارسي التعيس وعمل الأخصائيون مركبا كيماويا مضافا إليه المسك والعنبر وضعه الأخصائيون لتثبيت تلك القطعة ثم وضع جلالة الملك عبد العزيز بيده قطعة الحجر في محلها وأثبتها الأخصائيون إثباتا محكما.
(1)
(1)
"149 - 161 تاريخ بناء الكعبة المعظمة".
كسوة الكعبة
تعددت الروايات في أمر كسوة الكعبة وقد استنتج الحافظ ابن حجر من هذه الروايات أن أول من كسى الكعبة إسماعيل عليه السلام ثم عدنان وهو الجد الأعلى للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ثم تبع ملك اليمن واسمه أسعد.
وفى كسوة تبع للكعبة أنه كان وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فسار إلى مكة بقومه حتى إذا كان قريبا منها بين عسفان وامج أتاه نفر من هذيل فقالوا له - أيها الملك ألا ندلك على بيت مال وأثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟
قال تبع بلى - قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده .. قالوا وإنما أراد الهذليون بذلك هلاك تبع وجيشه لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك بسوء قبله.
أجمع تبع أمره على السير إلى مكة والاستيلاء على الكنوز النفيسة التي وصفها له الهذليون فاستشار حبرين كان عنده باليمن يعلمان ما جاء في الكتب.
قال الحبران لتبع: ما أرادا القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، وما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن ومن معك جميعا.
قال تبع فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه؟
قالا تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده.
قال تبع للحبرين فما يمنعكما أنتما من ذلك؟
قالا - أما والله أنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه كما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالآوثان التي نصبوها.
استمع تبع لنصيحة الحبر بن وعاقب الهذليين بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سار إلى مكة، فلما وصل إليها طاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها الذبائح لأهل مكة ويسقيهم العسل.
ورأى تبع في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف وهي ثياب غلاظ وقيل نسيج من الخوص والليف وهو الأقرب إلى إسم الخصف
(1)
ثم رأى تبع في منامه أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافير ثم رأى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل وهي ثياب حبرة من صنع اليمن، وجعل للكعبة بابا يغلق وقال تبع في ذلك شعرا:
وكسونا البيت الذى حرم الله
…
ملاءًا معضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا
…
وجعلنا لبابه اقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا
…
قد رفعنا لواءنا معقودا
أقول وهذه الأبيات تدل على أن إقامة تبع بمكة طالت حتى بلغت شهورا عشرة كما وردت في البيت الثانى.
(1)
الحصف بسط تصنع من أوراق النخيل يستعمله الناس في الحجاز لأغراض كثيرة أهمها ما كان يفرش في البيوت والمساجد، انظر كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز.
وتروى النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت رضى الله عنه قالت: رأيت على الكعبة قبل أن ألد زيد بن ثابت وأنابه نسئ مطارف خز خضراء وصفراء وكرار وأكسية من أكسية الأعراب وشقاق شعر والكرار هي الخيش الرقيق واحدها كر.
ويبدو أن الناس قبل الإسلام كانوا يكسون الكعبة تقربا فكل من أراد كسوتها وضع الكسوة التي عليه فعلقها بها فكنت تجد معلقا على وجه الكعبة الأكسية من الحرير والخيش والشعر وغيرها من مختلف الثياب التي تهدى إليها وتعلق عليها. وكانت هذه الأكسية تتكاثر على الكعبة وربما حفظ بعضها في خزانة الكعبة فإذا بلى شيء من الأكسية المعلقة عليها أزيل ووضع مكانه، وكان الطيب يهدى إلى الكعبة فتضمخ به كما يهدى إليها العود فتجمر به.
وفي وقت من الأوقات كانت قريش تفرض كسوة الكعبة على القبائل بقدر احتمالها فتسهم كل قبيلة بما فرض عليها من هذه الكسوة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان يتجر مع اليمن فأثرى ثراء عظيما فكان يكسو الكعبة سنة وتكسوها قبائل قريش سنة، وكان يأتى بالكسوة من أرض السكاسك باليمن وكانت هذه الكسوة حبرة جديدة واستمر على ذلك حتى مات وكانت قريش تسميه العدل لأنه عدل بفعله فعل قريش كلها واستمر هذا الاسم لأبنائه من بعده فكانوا يسمون بنو العدل.
وقيل أن أول من كسى الكعبة الديباج خالد بن جعفر بن كلاب، قالوا أنه أصاب لطيمة في الجاهلية فيها نمط ديباج فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها وقيل أن أول من كساها الديباج نتيلة بنت حبان والدة العباس بن عبد المطلب قيل أنها أضلت ابنها العباس، وقيل شقيقه ضرارا بن عبد المطلب فنذرت أن وجدته أن تكسو البيت فرده عليها رجل من جزام فكست الكعبة ثبابا بيضا.
(1)
(1)
"344 - 249 تاريخ الكعبة المعظمة".
كسوة الكعبة في الإسلام
أما كسوة الكعبة في الإسلام فقد ورد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كساها الثياب اليمانية ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي، وهي ثياب من صنع مصر كانت معروفة في ذلك الزمان، ثم كساها الحجاج الديباج بأمر عبد الملك بن مروان.
ويبدو أن كسوة الكعبة لم تكن تتم بشكل دورى في مواعيد فعينة، لهذا فإن الناس كانوا يساهمون في كسوتها فقد روى أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات كان يحرم بها فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان سادن البيت فناطها - علقها - على الكعبة. وروى أن عمر رضى الله تعالى عنه كان يكسو الكعبة القباطي يوصي عليها من مصر تحاك له هناك وفعل بعده ذلك عثمان فلما كان عهد معاوية كساها القباطى كما كان يفعل عمر وكساها الديباج فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء وتكسى القباطى في آخر شهر رمضان وأجرى معاوية لها وظيفة من الطيب لكل صلاة وكان يبعث بالطيب والمجمر والخلوف في الموسم وفى رجب وأخدمها معاوية عبيدا بعث بهم إليها فكانوا يخدمونها وعلى هذا فإن كسوة الكعبة انتظمت في عهد عمر رضي الله تعالى عنه حيث تحاك من مصر وترسل إليها ثم صارت تكسى في عهد معاوية مرتين في العام.
وكان يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير يكسوان الكعبة الديباج المصنوع من خراسان فلما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة كان يكسوها الديباج ويرسل به من الشام إلى المدينة فينشر يوما في مسجد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على أساطين المسجد ثم يطوى ويبعث به إلى مكة وكذلك كان يبعث بالطيب وبالمجمر - العود - إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الديباج إذا وضع على الكعبة يوم التروية علق على نصفها دون أن يخاط فتبدوا الكعبة وكانها محرمة كما هي العادة اليوم، فإذا أتم الناس حجهم وصدروا من منى أكملت كسوتها فإذا كان يوم العاشر من محرم أتموا الكسوة بخياطة أثواب الكعبة عليها فبدت كاملة وتبقى كسوة الديباج
على الكعبة إلى آواخر رمضان فتكسى القباطي المصرية لاستقبال عيد الفطر - القباطي هي نسيج حريرى من صنع مصر واليمن - فلما ولي المأمون العباسي الخلافة صار يكسوها الديباج الأحمر يوم التروية والقباطى يوم هلال رجب والديباج الأبيض في السابع والعشرين من رمضان.
وكان الخلفاء والملوك يكتبون أسماءهم على كسوة الكعبة كما هي العادة الجارية إلى يومنا هذا وكانت هذه الكسوة غالبا من الديباج والقز الرقيق وبألوان مختلفة فيها الأبيض والأحمر والأصفر، وكان بعض الخلفاء والملوك يحضرون الكسوة معهم إذا حضروا للحج ويتنافسون في ذلك.
وفى سنة سبعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة أوقف عليها الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون قريتين من نواحى القاهرة يقال لهما - بيسوس وسندبيس اشتراهما بماله من وكيل بيت المال ووقفها كلها على كسوة الكعبة ولم تزل تكسى من هذا الوقف كما يقول ابن حجر في فتح البارى إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر.
ولقد كانت الحالة السياسية في البلاد الإسلامية تنعكس آثارها على كسوة الكعبة كما كان الحال بالنسبة للخطبة والدعاء للخليفة مما سلف تفصيله في حديثنا عن المنبر والخطبة في المسجد الحرام فكان صاحب النفوذ الأكبر من السلاطين والملوك هو الذى تقدم كسوته فيكسى بها البيت الحرام فلقد ذكرنا ما كان من أمر إرسال الكسوة من مصر من ريع القريتين اللتين أوقفهما الملك الصالح إسماعيل لهذا الغرض، ولقد حاول ملك الشرق شاه بروخ في عهد سلطنة الملك الأشرف برسباي أن يكسو الكعبة وطلب الأذن له بذلك من الملك الأشرف فلم يقبل فراسله أن يسمح له بكسوة الكعبة من الداخل فأبى فكتب إليه مرة أخرى أن يرسل الكسوة إليه وهو يرسلها من قبله وتكسى بها الكعبة ولو يوما واحدا لأنه نذر كسوتها ويريد الوفاء بنذره، قالوا واستفتى الملك الأشراف علماء العصر فتوقف الكثيرون منهم عن الجواب، وأفتى بعضهم بعدم الجواز ممالأةً لهوى السلطان وقال
بعضهم أن خشي الفتنة فيجاب منعا للضرر، وتوفى الملك الأشرف دون أن يسمح لسلطان الشرق بالوفاء بنذره.
وفى بعض الأحيان كانت تكسى الكعبة من قبل ملكين من ملوك المسلمين في وقت واحد كما حدث لكسوة نظام الملك وزير السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي فأرسل بها إلى مكة وجعلت فوق كسوة أبي النصر.
وكان لملوك اليمن دور في هذا التنافس بين ملوك المسلمين فكانوا يرسلون بالكسوة إلى الكعبة فتكسى بها إذا كانت القوة والنفوذ في ركابهم أو تحفظ ويظفر بالكسوة صاحب القوة والسلطان.
وكانت بعض الكساوى توضع في داخل الكعبة، بل أن الكعبة كانت تكسى من الداخل ولكن لبس بصورة منتظمة، كما تكسى الحجرة النبوية بالمسجد النبوي الشريف بصورة غير منتظمة. ولكن ما يلفت النظر أن الوقفية التي أوقفها الملك الصالح إسماعيل بن الناصر قلاوون استمرت دهورا طويلة حتى حينما تحولت السلطة إلى الخلافة العثمانية فقد أبقى سلاطين العثمانيين المتعاقبين على هذه الوقفية بل وزاد السلطان سليمان بن السلطان سليم خان عدة قرى بمصر وأوقفها كذلك على كسوة الكعبة الشريفة وهي سبع قرى ذكرها مؤلف مرآة الحرمين وذكر أسماءها.
وفى عهد محمد علي باشا خديوى مصر جرى حل هذه الوقفية في أوائل القرن الثالث عشر للهجرة وتعهدت الحكومة المصرية بصنع الكسوة من مالها العام يقول المؤلف ولا يزال ذلك دأبها إلى الآن.
ومن أطرف الحوادث التي تتعلق بالكسوة أن هذه الكسوة كانت تصل مع ركب الحجاج المصريين وتحفظ ضمن أمتعتهم وقد سرقت بعض أجزاء الكسوة في أحد الأعوام ولم يستطع أمير الحج المصرى استرداد هذه الأجزاء إلا بعد أن بذل المال الكثير في سبيل هذه الغاية، وبعدها صار العمل على تسليم الكسوة لسدنة بيت
الله الحرام لحفظها لديهم إلى أن يحين وقت إسدالها على البيت الحرام.
(1)
مصر تمتنع عن إرسال الكسوة
ولقد أورد المؤلف صورة الوقفية الخاصة بهذه القرى التي أوقفها الملك الصالح إسماعيل والسلطان سليمان خان العثمانى، كما أورد ماتغله هذه القرى من المال وهو يكفى لكسوة البيت في كل عام وكسوة الحجرة النبوية الشريفة وكسوة داخل الكعبة في كل خمسة عشرعاما مرة بل وتفيض كثيرا كما ذكران حلَّ هذا الوقف من قبل محمد علي باشا والي مصر في أوائل القرن الثالث عشر الهجرى نتج عنه امتناع خديوى مصر عن إرسال الكسوة كما حدث في عهد الشريف الملك حسين بن علي وكذلك في أوائل عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وتفصيل ذلك.
أن اختلافا وقع بين الحكومة المصرية وحكومة الشريف الحسين بن على ملك الحجاز في سنة 1341 يقول المؤلف فلما وصل المحمل المصرى في باخرة خاصة إلى جدة وكان معه كسوة الكعبة وحنطة الجراية وحرس المحمل وبعثة طبية منع الشريف الحسين دخول البعثة الطبية إلى مكة المكرمة فعادت الباخرة التي تحمل الكسوة الشريفة وحنطة الجراية وما يتبعها من الصرر والصدقات وذلك في آخر شهر ذى القعدة من سنة 1341 للهجرة، ولقد استطاع الشريف الحسين التغلب على الوضع الخاص بالكسوة فابرق إلى أمير المدينة المنورة أن يرسل كسوة الكعبة الشريفة التي كانت الحكومة التركية أودعتها في المدينة إلى ثغر رابغ على وجه السرعة وأرسل الحسين احدى بواخره المسماة رشدي إلى ثغر رابغ لنقل الكسوة إلى جدة ومن ثم جرى الإسراع بنقلها إلى مكة المكرمة وتم كل هذا في سرية تامة وفى سرعة بالغة فكانت الكسوة معلقة على الكعبة المعظمة في اليوم العاشر من ذى الحجة.
يقول المؤلف، وقد حدثت ضجة عظيمة في مصر وتساءلت الصحافة المصرية
(1)
"249 - 270 تاريخ الكعبة المعظمة".
كيف أمكن عمل الكسوة وإحضارها في عشرة أيام ولم يدر بخلد الصحافة المصرية أن الكسوة كانت موجودة بالمدينة المنورة من العهد التركى حيث قامت الحكومة التركية بصنع كسوة متقنة للكعبة ظنا منها أن الحكومة الإنجليزية ستمنع وصول الكسوة إلى الكعبة بعد دخول تركيا الحرب مع المانيا ضدها بعد إعلانها الحماية على مصر وأرسلت هذه الكسوة بالسكة الحديدية برا إلى المدينة المنورة ولكن الحكومة المصرية لم تمنع إرسال الكسوة المعتادة بل أرسلتها وكتبت عليها اسم السلطان حسين كامل سلطان مصر فاتفق الشريف الحسين مع الوالي التركي في مكة على نزع اسم السلطان حسين ووضع اسم السلطان محمد رشاد خان العثماني وقام آل الشيبي بهذا العمل وبقيت الكسوة التركية بالمدينة المنورة فقام الحسين بإحضارها بينما كان المصريون حائرين كيف استطاع معمل للنسيج في رابغ أن يصنع الكسوة في عشرة أيام بينما لا تستطيع مصانع أوروبا صنع ذلك في شهور، وكان مراسل رويتر في جدة قد أبرق بوصول الكسوة من ميناء رابغ. هذا وقد سارع الشريف الحسين بعمل الكسوة للكعبة الشريفة في العراق وجرى نسجها من القيلان وكسيت بها الكعبة في عام 1342 لأن حكومة مصر امتنعت عن إرسالها، وفى عام 1343 استولى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على مكة المكرمة واستمرت الحرب إلى منتصف جمادى الآخرة عام 1344 فكسيت الكعبة بالكسوة المصنوعة من القيلان التي صنعها الشريف الحسين لها في عام 1343 هـ.
وبعثت الحكومة المصرية الكسوة في عام 1344 ولكن حدثت حادثة المحمل في موسم حج ذلك العام بمنى وكادت أن تكون معركة حربية بين الجنود المصريين وجموع الإخوان من أهل نجد الذين ثاروا لرؤية البدع ممثلة في المحمل المصرى والحجاج يتبركون به وبالجمل الذى يحمله الأمر الذى يعتبر مجافيا لصفاء العقيدة الإسلامية وسلامتها، وتطور الأمر إلى استعمال السلاح من قبل جنود المحمل المصرى والإخوان، وما أن علم الملك عبد العزيز رحمه الله بالأمر حتى سارع بنفسه
فوقف في ميدان المعركة معرضا نفسه للخطر وطلب من جموع الإخوان إغماد سلاحهم والعودة إلى السكينة حفاظا على أرواح الحجاج وعلى حرمة المشعر الحرام. وكان ذلك في ليلة التاسع من ذى الحجة ومقذوفات حرس المحمل المصرى من مدافع ورشاشات وبنادق تمطر نيرانها هنا وهناك حتى أمكن تغليب الحكمة وسكون الحال.
وفى العام التالى 1345 هـ لم تبعث الحكومة المصرية بالكسوة فسارعت الحكومة السعودية ممثلة في شخص الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بعمل كسوة مؤقته للكعبة من الجوخ الأسود الفاخر ومبطنة بالقلع القوى، كما صنع الحزام المعتاد للكعبة والمكتوب عليه الآيات بأسلاك الذهب والفضة وكذلك ستارة باب الكعبة ولم يأت العاشر من ذى الحجة إلا وكانت هذه لكسوة قد علقت على الكعبة المعظمة وتم هذا كله في بضعة أيام وهكذا فإن عزائم الرجال تخلق المستحيل
(1)
.
إنشاء مصنع الكسوة بمكة المكرمة
لما رأى جلالة الملك عبد العزيز أن موضوع كسوة البيت قد دخل في إعمال السياسة أمر بإنشاء دار خاصة لكسوة الكعبة المعظمة في مكة المكرمة، وأولى وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان اهتمامه للأمر فبنيت دار خاصة للكسوة على أرض مساحتها ألفا وخمسمائة متر بمحلة أجياد وتم البناء خلال ستة شهور، واستقدم عمال الحياكة كما استقدمت المواد اللازمة للكسوة وتطريزها من الهند كما استوردت الأنوال الخاصة للحياكة وعددها اثنى عشر نولا، كما بلغ عدد الصناع من النساجين والمطرزين أربعين عاملا وعشرين تابعًا وعين الشيخ عبد الرحمن. مظهر الموظف إذ ذاك مترجما بوزارة الخارجية مديرا لدار الكسوة وكان الشيخ إسماعيل الغزنوي أحد علماء الهند هو الذى أشرف على استيراد الأنوال والعمال الخاصتين بالعمل وتمت حياكة الثوب الجديد للكعبة بنفس الجودة والإتقان التي كانت ترد بها
(1)
"270 - 293 تاريخ الكعبة المعظمة".
الكسوة من مصرو كتب عليه اسم الملك عبد العزيز رحمه الله ولم يحل موسم الحج إلا وكانت الكسوة المصنوعة في مكة المكرمة حاضرة لتعلق على الكعبة المشرفة في موعدها المعتاد كل عام.
وفى عام 1347 هـ عينت الحكومة السعودية مديرا لدار الكسوة ويدعى الحاج محمد خان واشترطت عليه تعليم العمال السعوديين وتدريبهم وتم بالفعل الحاق الشباب الراغبين في تعلم هذه الصناعة بالدار وفي عام 1352 هـ أصبح جميع عمال الدار من الشباب السعودى وقد أتقنوا هذه الصناعة إتقانا كاملا بحمد الله.
أقول وقد تم بناء دار عظيمة للكسوة في مدخل مدينة مكة المكرمة قبل بضعة أعوام وهي تابعة في إدارتها لوزارة الحج والأوقاف وتقوم هذه الدار بصنع كسوة الكعبة الشريفة وما يبتعها في كل عام.
(1)
* * *
(1)
293 - 301 تاريخ الكعبة المعظمة.
باب الكعبة
قيل أن أول من جعل للكعبة بابا ملك اليمن واستدل على ذلك بما جاء في الشعر الذى روى عنه.
وأقمنا به من الشهر عشرا
…
وجعلنا لبابه اقليدا
ولقد كان بناء تبع للبيت قبل بناء قريش لها، فلما عمرتها قريش جعلت لها بابا بمصراعين ولما بنى ابن الزبير الكعبة جعل لها بابا بمصراعين وكان طول ذلك الباب أحد عشر ذراعا، فلما أعاد الحجاج بناء الكعبة على ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير لها ردم وبنى تحت بابها فجعل الباب ستة أذرع وشبر.
وفى سنة مائة وأربع وتسعين للهجرة أرسل الخليفة الأمين محمد بن هارون الرشيد ثمانية عشر ألف دينار إلى سالم بن الجراح عامله على الصوافي في مكة وأمره أن يجعلها صفائح على باب الكعبة، فقلع عامل الأمين ما كان من الصفائح على باب الكعبة وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار التي أرسلها الأمين فضرب على الباب الصفائح والمسامير وكذلك على حلقتى باب الكعبة وعلى الفيازير والعتب.
ووصف الأرزقى باب الكعبة في عصره في أوائل القرن الثالث فذكر أن طوله ستة أذرع وعشرة أصابع وعرض ما بين درفتى الباب ثلاثة أذرع وثمانى عشرة
أصبعا. والباب من خشب الساج المتين وملبس بصقائح الذهب المنقوش، وعلى الباب أربعة عشرة حلقة من حديد مموهة بالفضة في كل درفة سبع حلقات. والمسامير المضروبة على الباب مموهة بالذهب المنقوش، وباطن الباب ملبس بالفضة.
وبعث المعتصم العباسى في سنة 219 للهجرة قفلا للكعبة ثمنه ألف دينار وأرسل إلى الحجبة عامل مكة صالح بن العباس فدعاهم ليقبضوا القفل الذى أرسله المعتصم ويسلموه القفل القديم على باب الكعبة ليرسله إلى الخليفة فأبوا وطلبوا منه أن يأذن لهم بالخروج إلى الخليفة فخرجوا إليه وكلموه فترك لهم قفلها وأعطاهم القفل الذى بعث به إليها فقسموه بينهم، أقول ولعل الأصح أنه ترك لهم القفل القديم فقسموه بينهم.
وفى سنة خمسمائة وخمسين للهجرة بعث المقتفي العباسي بابا للكعبة مصفحا بالنقرة المذهبة وأخذ المقتفي الباب الذى كان قائما على الكعبة فصنع منه تابوتا لنفسه أوصى أن يدفن فيه إذا مات وقيل أن الباب الأول عمل منه تابوت لوزير المقتفي جمال الدين المعروف بالجواد وحمل فيه إلى المدينة ودفن بها.
هذا وقد تنافس الملوك والخلفاء في صنع الأبواب للكعبة عبر عصور التاريخ ونحن نذكر هنا بعضا منها.
صنع الملك المظفر صاحب اليمن بابا للكعبة وعليه صفائح الفضة وقد بلغت زنتها ستون رطلا ولم يذكر الفاسي تاريخ هذا الباب.
وفي سنة سبعمائة وثلاثة وعشرين صنع الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر بابا للكعبة مصفحا بالفضة وكان عليه من الفضة خمسة وثلاثين ألفا وثلاثمائة درهم والباب مصنوع من خشب السنط الأحمر، وقد أمر صاحب مصر بقلع الباب الذى صنعه الملك المظفر صاحب اليمن وتركيب الباب الذى أرسله قلاوون بدلا منه.
وفى سنة سبعمائة وواحد وستين أمر الملك الناصر حسن بن الناصر قلاوون بصنع باب الكعبة بمكة المكرمة وهو من خشب الساج وما لبث أن قلع منها في سنة
سبعمائة وست وسبعين لتحليته وأعيد إليها الباب الذى صنعه أبو الملك الناصر قلاوون ثم أعيد الباب الذى صنعه الناصر حسن بعد إتمام تحليته في سنة سبعمائة وواحد وثمانين وهذا الباب كان يحمل اسم الملك الناصر محمد بن قلاوون في أسفله واسم حفيده الملك الأشرف شعبان حسين في بعض فبادين الباب وفى جانب آخر من الباب كتب اسم الملك المؤيد أبي النصر شيخ صاحب مصر وما لبث أن حضر بعض خواص الملك المؤيد للحج في سنة ثمانمائة وستة عشر فأضاف حلية إلى جانب آخر من باب الكعبة من الفضة وطلاها بالذهب وكتب عليها اسم الملك المؤيد.
وهكذا نرى الملوك يتنافسون في نقش أسمائهم على باب الكعبة ويغيرون أبوابها ليكون لهم شرف ذكر أسمائهم على هذه الأبواب حتى رأينا بابا واحدًا يكتب عليه أسماء أربعة من ملوك مصر.
سرقة الفضة من أبواب الكعبة
وذكر قطب الدين في الأعلام أنه أدرك الباب الشريف مصفحا بالفضة، قال وكان يختلس من فضته أوقات الغفلة من قل دينه وخفَّتْ يده إلى أن انكشف سفل الباب الشريف عن خشب الباب، وقبض على من يفعل ذلك أكثر من مرة كما يقول قطب الدين المكي في الأعلام وحبسوا وبهدلوا، وجرى عرض الأمر على السلطان سليمان خان في سنة تسعمائة وستة عشر فأمر بتصفيح الباب الشريف بالفضة بعد أن أخرجوا الفضة التي كانت مصفحة على الباب وزادوا عليه فضة أخرى وجعلت صفائح وسمرت بمسامير الفضة وصفحت الفضة بالذهب.
باب الكعبة في العهد العثمانى
في سنة تسعمائة وثلاثة وخمسين أمر السلطان سليمان العثمانى بقلع الباب الذى عمله السلطان محمد بن قلاوون وعمل بابا غيره حلاه بحلية كثيرة. وفى سنة ألف وأربع وأربعين أمر السلطان مراد خان بن السلطان أحمد والي مصر أن يصلح ما وقع في سطح الكعبة المشرفة من الخلل وأن يجعل لها بابا جديدا وأن يرسل إليه الباب
القديم، وفى السابع عشر من ربيع الأول سنة خمس وأربعين بعد الألف وصل مندوب السلطان لهذا الغرض وجرى قلع باب الكعبة ووضع محله بابا من الخشب لم يكن محلى بشيء بل وضعت عليه ستارة بيضاء، وقد وزنت الفضة التي كانت على الباب المقلوع فبلغت زنتها مائة وأربعة وأربعين رطلا، وقد استعملت هذه الفضة في تحلية باب جديد للكعبة كتب عليه اسم السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان وتم تركيب هذا الباب في شهر رمضان من سنة خمس وأربعين بعد الألف.
وأرسل الباب القديم إلى السلطان مراد، وجدد السلطان أحمد خان حلية باب الكعبة في سنة ألف ومائة وتسعة عشر وكتبوا تاريح التجديد مضافا إليه اسم السلطان أحمد خان.
يقول المؤلف وهذا الباب الأخير الذى عمله السلطان مراد خان هو الباب الموجود على الكعبة المشرفة في العصر الحاضر وهو الذى تم تركيبه في شهر رمضان من سنة خمس وأربعين بعد الألف.
أقول هذا ما ذكره المؤلف الشيخ باسلامة في الخمسينات من القرن الرابع عشر للهجرة وهو يدل على إن هذا الباب الأخير الذى صنع بأمر السلطان مراد خان قد استمر مركبا على الكعبة ما يزيد عن أربعة قرون.
ولقد تم صنع أكثر من باب للكعبة المشرفة في العهد السعودى وكان آخرها الباب الذى أمر بصنعه المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز يرحمه الله وقد استعمل فيه كثير من الذهب مع ارتفاع أسعاره وعلو إثمانه في العصر الحاضر، وحبذا لو استطعنا الحصول على المعلومات التاريخية الصحيحة الخاصة بهذا الموضوع وإمثاله مما تم في المسجد الحرام والكعبة المعظمة لوصل ما انقطع من هذا التاريخ الهام لعمارة المسجد الحرام والكعبة المعظمة بعد كتابي الشيخ حسن باسلامة رحمة الله عنهما.
(1)
بعد كتابة ما تقدم اطلعت على الكتيب الذى أصدرته وزارة الحج والأوقاف في
(1)
"194 - 198 تاريخ باب الكعبة المعظمة".
22 العقدة سنة 1399 هـ عن أبواب الكعبة في العهد السعودى وخاصة الباب الحالى الذى صنع في عهد المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز ومن هذا الكتيب نقلنا المعلومات التالية.
باب الكعبة في العهد السعودى
الباب الأول في عهد الملك عبد العزيز
في عام 1364 هـ أمر جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بصنع باب للكعبة المعظمة وتم صنع الباب المذكور من الالمنيوم بسماكة 2.5 سم وبمقياس 310 × 168 سنتمتر ويتكون الباب المذكور من درفتين تتألف كل درفة من ثلاث قطع طولية تم صبها وتجهيزها في مكة المكرمة واستخدمت قضبان الحديد من خلف كل درفة لدعمها وربط القطع بعضها ببعض وهي ظاهرة من الخلف، كما ترتبط كل درفة بثلاث مفصلات من الحديد الصلب مثبتة على إطار - حلق من الحديد المتين - وضم صنع الوجه الخارجى للباب من الواح الفضة الخالصة المطلية بالذهب والمثبت على قاعدة خشبية من خشب التيك بسماكة 2.5 سم.
وقد صنعت الزخرفة ولوحات الخطوط في محل شيخ الصاغة بمكة المكرمة في ذلك الوقت المرحوم محمود يوسف بدر وبإشرافه كما قام بوضع الرسم والخط الشيخ عبد الرحيم أمين.
أما الجوانب فكانت مصنوعة أول الأمر من الخشب الجاوى سماكة 6 سم وفوقها كذلك الزخرفة واللوحات التي تحمل أسماء الله الحسنى بشكل بيضوى وعددها ثلاثة عشر لوحة من الفضة المطلية بالذهب، وقد استغرق صنع الباب المذكور ثلاث سنوات وفي عام 1395 هـ جرى تغيير القاعدة الخشبية لجوانب الباب حيث استبدلت بها صفائح من الألمنيوم المسكوب وذلك بعد فك اللوحات التي تحمل أسماء الله الحسنى والزخرفة وإعادتها إلى وضعها السابق.
الباب الثانى في عهد الملك خالد بن عبد العزيز
ظل الباب الذى أمر بصنعه الملك عبد العزيز ثلاثة وثلاثين عاما قائما في مكانه
من الكعبة المعظمة. وفى شهر جمادى الأولى من عام 1397 هـ تشرف المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز بالصلاة في جوف الكعبة المعظمة فلاحظ قدم الباب ووجوب تغييره فأصدر أمره إلى وزير الحج والأوقاف بأن يتم صنع باب للكعبة المعظمة الخارجى وكذلك الباب الداخلي للكعبة - باب التوبة من الذهب الخالص.
تصميم الباب
اتفقت وزارة الحج والأوقاف مع المهندس المعمارى المسلم منير الجندى أخصائى التصميمات والعمارة الإسلامية للمشاركة في التصميمات والدراسات الخاصة بالبابين ومتابعة التنفيذ وقد بلغت قيمة الدراسات ثلاثمائة ألف ريال.
وقد تم اختيار التصميم النهائى الذى روعي فيه أن يكون منسجما مع الزخرفة التي تتميز بها ستارة الباب وكان خط الثلث هو العنصر الهام المميز في هذه الزخرفة.
وروعي صنع داوئر لكتابة الأيات القرآنية الكريمة مع أضافات الزخاف في الزوايا العلوية بحيث يبدوا الباب غنيا بالفن الإسلامي بزخارفه العريقة وقد قام بكتابة الخطوط الشيخ عبد الرحيم أمين الذى تولى خطوط الباب السابق في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان اهتمام صاحب السمو الملكى الأمير فهد بن عبد العزيز - جلالة الملك فهد - في ذلك الوقت عظيما في اختيار التصميم الأمثل ومتابعة تنفيذ العمل حيث قام سموه بزيارة موقع العمل الذى عهدت به الدولة إلى أحمد إبراهيم بدر شيخ الصاغة بمكة المكرمة والذى أقام ورشة خاصة لصناعة البابين. وكتبت أسماء الله الحسنى وعددها خمسة عشر في دوائر فوق الباب وفى جانبيه الأيمن والأيسر.
وكتبت الآيات القرآنية الكريمة على لوحات من الذهب الخالص مزخرفة بطريقة النقش. ويبلغ ارتفاع باب الكعبة المشرفة أكثر قليلا من ثلاثة أمتار ويقارب عرضه المترين أما سماكة الباب فتبلغ نصف متر وهو مكون من درفتين،
ويتألف هيكل الباب من قاعدة خشبية سمكها عشرة سنتمترات من خشب التيك ووزنه النوعي 40.8 سم 2 وزودت نهاية الباب بعارضة من الأسفل لمنع دخول المطر إلى داخل الكعبة المشرفة وتحتوى على قضيب خاص يضغط حرف الباب على العتبة عند الإغلاق.
وقد ثبتت صفائح الذهب على هذه القاعدة الخشبية بوضع مادة لاصقة ركبت بطريقة تضمن استمرار التصاق الذهب بالخشب إلى فترة غير محدودة وتم كذلك صنع قفل الباب بنفس مواصفات القفل القديم مع تناسب التصميم الخاص بالباب الجديد. ولكى يتم تركيب الباب بسهولة أعد إطار من الصلب صنع خيصيصا وثبتت عليه المفصلات بحيث تتحمل كل درفة ما يزيد على خمسمائة كيلو جرام وجهزت المفصلات على عجلات دائرية لسهولة الحركة.
باب التوبة
أما الباب الداخلى الكعبة المشرفة وهو باب التوبة فقد جرى تصميمه مطابقا للباب الرئيسى من حيث الزخرفة وطريقة الكتابة بحيث يظهر التجانس بين البابين ويبلغ إرتفاع باب التوبة 2.30 مترين وثلاثين سنتما وعرضه 70 سم وصنعت قاعدته من نفس الخشب ولكنه أقل سماكة من باب الكعبة بمقدار سبعة سنتمترات.
التكاليف
وقد بلغت تكاليف صنع البابين ثلاثة عشر مليونا وأربعمائة وعشرين ألف ريال خلاف قيمة الذهب الذى قدمته مؤسسة النقد العربي السعودى والذى بلغ مائتين وثمانين كيلو جراما عيار 999.9.
مدة الصنع
بدأ العمل في صنع البابين اعتبارا من غرة ذى الحجة 1398 هـ واستغرق العمل عاما كاملا.
الكتابة التي على الباب
أسماء الله
فوق الباب يا واسع يا مانع يا نافع
الجانب الأيمن يا عالم يا عليم يا حليم
يا عظيم يا حكيم يا رحيم
الجانب الأيسر يا غني يا مغنى يا حميد
يا مجيد يا سبحان يا مستعان
وأضيفت في الزاويتين العلويتين زخارف متميزة لإبراز شكل قوس محيط بلفظ الجلالة - الله جل جلاله واسم رسول الله - محمد (صلى الله عليه وسلم) والآيات القرآنية الكريمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
ادخلوها بسلام آمنين، جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام.
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، كتب ربكم على نفسه الرحمة، وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.
ويلي ذلك حشوتان على شكل شمستين مشرقتين وسطهما كتابة "لا إله إلا الله محمد رسول (صلى الله عليه وسلم) على شكل بروز دائرى. وكتب تحت الحشوتين العلويتين الآية الكريمة.
كما كتبت العبارات التاريخية التالية بخط صغير:
"صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363 هـ".
وتحتها "صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن
عبد العزيز آل سعود سنة 1399 هـ.
وكتب في الدرفة اليمنى تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثانى والعشرين من ذى العقدة سنة 1399 هـ
وفى الدرفة اليسرى "صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة، صممه منير الجندى، واضع الخط عبد الرحيم أمين.
وقد تم صنع هذا الباب بإشراف مباشر من معالى وزير الحج والأوقاف الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع الذى عهد إليه جلالة المرحوم الملك خالد بهذا العمل التاريخي العظيم.
والباب المذكور هو الباب الحالي للكعبة المعظمة.
الحفرة التي أمام الكعبة
الحفرة التي أمام الكعبة المعظمة من الجهة الشرقية بين الركن الشامي وباب الكعبة والتى تسمى في الوقت الحاضر - المعجن - وردت فيها روايات كثيرة أشهرها رواية تقول أنها المصلى الذى صلى فيه جبريل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) حين فرضت عليه الصلوات الخمس، وهناك رواية تقول أنها موضع حجر مقام إبراهيم بعد بنائه للكعبة المشرفة وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الذى أخر المقام بعد ذلك وقيل في سبب تسميتها بالمعجن أنها المكان الذى عجن إسماعيل فيه الطين لبناء الكعبة حين بناء البيت المعظم يقول المؤلف ولا يوجد ما يؤيد صحة هذا الخبر، وقد ذكر ابن جبير في رحلته سنة خمسمائة وثمانية وسبعين أنها كانت مصبا للماء الذى تغسل به الكعبة ولم يقل بذلك أحد غيره وربما ظن ابن جبير ذلك حينما رأى الماء الذى تغسل به الكعبة يتجمع فيها.
وتبلغ مساحة هذه الحفرة أربعة أذرع طولا من الشمال إلى الجنوب وعرضها من الشرق إلى جدار الكعبة ذراعان وسدس ذراع وعمقها نصف ذراع كل ذلك بذراع الحديد.
وقد أمر بتلبيسها بالرخام أبو جعفر المنصور المستنصر بالله سنة ستمائة وواحد وثلاثين كما هو مثبت في لوحة بها كما ورد في تحصيل المرام للقطبي.
ميزاب الكعبة
أول من وضع ميزابا للكعبة قريش حين قامت ببنائها قبل خمس سنوات من البعثة النبوية ذلك أن بناء الخليل إبراهيم للكعبة لم يجعل لها سقفا ولهذا فلم تكن هناك حاجة للميزاب وفى بناء ابن الزبير للكعبة وضع لها ميزابا وجعله يصب في حجر إسماعيل وكذلك فعل الحجاج بن يوسف وأول من حلى الميزاب بالذهب الوليد بن عبد الملك ونذكر هنا شيئا عن الميزاب في العهود المختلفة.
1 -
ذكر الأزرقي أن الشريف رميثة صاحب مكة عمل ميزابا للكعبة طوله أربعة أذرع وسعته ثمانية أصابع في ارتفاع مثلها وأن هذا الميزاب كان ملبسا بصفائح الذهب من داخله وخارجه.
2 -
أرسل رامشت بن الحسين الفارسي صاحب الرباط المشهور بمكة في سنة خمسمائة وتسع وثلاثين ميزابا وركب في الكعبة في هذا العام ويبدو أن الميزاب السابق كان قد تلف.
3 -
في سنة خسمائة وواحد وأربعين أرسل الخليفة العباسى المقتفي ميزابا ركب بالكعبة وقلع الميزاب الذى كان ركبه رامشت الفارسي.
4 -
كذلك أرسل الناصر العباسي ميزابا كتب عليه اسمه وهو من خشب مبطن بالرصاص في موضع جريان الماء وظاهره محلى بالفضة.
5 -
قام سودون باشا بتعمير الميزاب ضمن العمارة التي أجراها في المسجد الحرام سنة سبعمائة وواحد وثمانين.
6 -
أمر السلطان سليم بعمل ميزاب حُلِّيَ بالفضة وطلي بالذهب وركب في سنة تسعمائة وتسع وخمسين وأمر السلطان بنقل الميزاب القديم إلى خزانة الروم فتعرض
1 - "186 - 190 تاريخ الكعبه المعظمة".
له بنو شيبة - سدنة البيت - فأعطوا مقابله فضة بوزنه من بندر جدة وقد قدر الوالي والقاضي قيمة ذلك بألفين وثمانمائة درهم فضة.
7 -
أرسل السلطان أحمد خان ميزابا في سنة 1020 وتم تركيبه في عمارة السلطان مراد بعد عشرين عاما من أرساله كما أسلفنا بيانه.
8 -
آخر ميزاب مركب في الكعبة هو الميزاب الذي بعثه السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان وقد صنع هذا الميزاب في القسطنطينية وجاء به الحاج رضا باشا وركب في سنة ألف ومائتين وست وسبعين للهجرة في ولاية أمير مكة الشريف عبد الله بن محمد بن عون، وحمل الميزاب القديم إلى الأبواب العالية، والميزاب الجديد مصفح بالذهب ويقدر وزنه بنحو خمسين رطلا.
وهذا الميزاب هو الموجود في الكعبة إلى العصر الحاضر كما يقول الشيخ باسلامة حيث لم يحدثنا التاريخ أنه وضع ميزاب بعد هذا الميزاب والله أعلم.
(1)
حجر إسماعيل
حجر إسماعيل هو الحائط المبني على شكل نصف دائرة والواقع شمال الكعبة، جاء في تاريخ الأزرقي أن إبراهيم عليه السلام جعل الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، وقيل أنه كان زربا لغنم إسماعيل. ومساحة المستقيم من الحجر كما ذرعه الشيخ باسلامة في عام 1352 للهجرة تسعة أذرع بذراع اليد منها ستة أذرع وشبر تعتبر من داخل الكعبة لأن هذه الستة أذرع هي التي تركتها قريش من البيت حين بنائه لقصور النفقة لديهم، ولما بنى ابن الزبير البيت لأدخلها فيه ثم جاء الحجاج فنقض بناء ابن الزبير وأعاد الحجر إلى ما كان عليه في بناء قريش وقد سبق تفصيل كل ذلك، وآخر مرة بنى فيها الحجر في عصر السلطان عبد المجيد خان الثانى سنة ألف ومائتين وستين للهجرة.
ولا يجوز الطواف من داخل الحجر كما أسلفنا من أن ستة أذرع وشبر منه تعتبر من البيت - وهذه المساحة هي الملاصقة للجدار الشمالي للكعبة والتى هي في الوقت
(1)
"190 - 193 تاريخ الكعبة المعظمة".
الحاضر تعتبر مدخلا إلى الحجر أما بقية المساحة فهى الحجر.
وقد سمى بعض المؤرخين الحجر بالحطيم وعللوا ذلك بأنه مال حطم من الكعبة ولم يدخل فيها بينما ذكر بعض المؤرخين أن الحطيم هو ما بين الركن الأسود والمقام وزمزم لأن الناس يزدحمون على الدعاء فيه ويحطم بعضهم حطما، والدعاء فيه مستجاب.
وقد تواترت روايات كثيرة أن إسماعيل عليه السلام دفن في الحجر بجوار أمه هاجر ولكن الشيخ باسلامة يقول أنه لا يوجد ما يثبت صحة ذلك رغم تواتر روايات المؤرخين له ويعزى ذلك إلى طول المدة بين بناء إبراهيم عليه السلام للبيت وبين العهد الإسلامي حيث أن بناء إبراهيم عليه السلام للبيت كان قبل ألفي عام.
وأول من زين حجر إسماعيل بالرخام هو الخليفة أبو جعفر المنصور العباسى في عام 140 هـ وجدده الخليفة المهدى العباسي في سنة 161 وفى عام 241 أمر بتجديده الخليفة المتوكل العباسى بعد أن رث رخامه، وفى هذا العام 241 بعث أحمد بن طريف مولى العباس بن محمد الهاشمي الرخامة الخضراء التي في الحجر تحت الميزاب وبعث معها رخامة أخرى خضراء وضعت في سطح الكعبة وقد وصفت الرخامة الخضراء هذه بأنها من الرخام الثمين النادر.
وفى عام 283 عمر الحجر المعتضد العباسي وألبسه الرخام من داخله وخارجه كما عمره الناصر العباسي وفرشه بالرخام في سنة 576.
وقد توالى تعمير الحجر وتزيينه على مدى عصور التاريخ من خلفاء المسلمين وملوكهم فكان من بينهم الملك المظفر صاحب اليمن، والناصر محمد بن قلاوون في سنة 781 والملك الظاهر برقوق صاحب مصر في سنة 801 وأبو النصر قانصوه الغورى في سنة 917. وفى سنة 822 عمره القائد علاء الدين عمارة حسنة وكان قد تداعى للسقوط وفى سنة 826 عمر بامرزين الدين مقبل القديدى بالجبس وأصلح الكثير من رخامه. وفى سنة 833 أحضر سودون المحمدى ستين ذراعا من الرخام من مصر لتعمير الحجر.
قال التقي الفاسي وقد خفي علينا شيء كثير من خبر عمارة الحجر من دولة المعتضد العباسي إلى خلافة الناصر فإنه لا يبعد أن يخلو في هذا الزمن الطويل من عمارة والله أعلم.
ثم قال وممن عمره الوزير جمال الدين المعروف بالجواد وذلك في عشر الخمسين وخمسمائة وذكر نجم الدين بن فهد القرشي في حوادث سنة 881 أنه تم تغيير رخام الحجر داخلا وخارجا ولم يذكر العامل لذلك.
وجاء في الارج المكي لعلي بن عبد القادر الطبري وعمَّره - الحجر - من ملوك آل عثمان السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان كما عمره السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان في سنة 1040 والسلطان عبد المجيد خان في سنة 1260 وفى سنة 916 أصدر السلطان الغورى أمره بهدم الحجر وإعادة بنائه يقول ابن فهد القرشي وكان الحجر كله بالرخام داخلا وخارجا ولم يكن به ما يعاب إلا أن الله قدر بالتلاعب فبنى من داخله بالحجارة ومن خارجه بالرخام فظهر الخلل فيه في سنة 917 فأرسل السلطان رخاما ومرخمين بالبحر وصلوا مكة في آخر رمضان وشرعوا في يومهم في إعادته بالآجرِّ والرماد ثم نقض ذلك ثانى يوم وأعيد الحجارة والجبس والرصاص وكتب على علوه في الرخام الأبيض أسماء من عمروه من الملوك وتاريخ عماراتهم وعمارته الأخيرة.
كسوة الحجر
وأرسل جقمق الجركسي في القرن التاسع كسوة لدائر خارج الحجر من حرير أسود ككسوة الكعبة الشريفة ولم توضع عليه ثم وصلت بعدها بعام كسوة لدائر الحجر من الداخل فألبست الكسوة للحجر من داخله وخارجه. وتعتبر كسوة الحجر هذه كما يقول الشيخ باسلامة الأولى والأخيرة في بابها حيث لم أقف فيما وقفت عليه أن أحدا كسى حجر إسماعيل كما تكسى الكعبة المعظمة ولا بعده، فكان قد تفرد بذلك ثم يقول الشيخ باسلامة والظاهر أنها لم تدم كثيرا ولم تجدد من قبله والله أعلم بذلك.
آخر عمارة للحجر:
وجاء في منائح الكرم أنه في سنة 1283 حصل تجديد نصف أرض الحجر من المقام الحنفى وذلك في سلطنة السلطان عبد العزيز خان وأمير مكة الشريف عبد الله بن محمد بن عون. وهذه العمارة هي آخر ما تم من عمارة للحجر إلى عصر المؤلف في أوائل النصف الثانى من القرن الرابع عشر للهجرة والله أعلم.
مساحة الحجر:
قام بذرع الحجر إبراهيم رفعت باشا مؤلف كتاب مرآة الحرمين فذكر القياسات الآتية:
ارتفاع جدار الحجر 31.1 متر عرض الجدار من الأعلى 1.52 متر وعرضه من الأسفل 1.44 متر وسعة الفتحة التي بين طرفه الشرقى إلى آخر الشاذروان 30.2 متر.
وسعة الفتحة التي بين طرفه الغربى ونهاية الشاذروان 2.23 متر.
والمسافة بين طرفي الدائرة ثمانية أمتار ووراء الحطيم بمسافة 12 مترا المطاف.
والمسافة بين منتصف جدار الكعبة الشمالى ووسط تجويف الحطيم 8.44 مترا.
وقد اخترت ما ذكره صاحب مرآة الحرمين لأنه أحدث قياس للحجر ولأنه استعمل المتر وكسوره فيه بينما استعمل المؤرخون السابقون الذراع وهو قد يختلف من شخص وآخر، لأنه بذراع اليد والله أعلم.
(1)
سدانة الكعبة المعظمة:
كانت سدانة الكعبة المعظمة بعد بناء إبراهيم الخليل عليه السلام إياها بيد ابنه إسماعيل عليه السلام ثم بعد وفاته صارت لولده ثابت بن إسماعيل إلى أن
(1)
"163 - 186 تاريخ الكعبة المعظمة".
اغتصبها من ولده أخواله جرهم ومكثت السدانة في جرهم عدة قرون إلى أن اغتصبتها منهم خزاعة ومكثت في خزاعة عدة قرون إلى أن آل أمر مكة والكعبة المعظمة إلى قصي بن كلاب بن مرة القرشى وهو الجد الخامس للنبى (صلى الله عليه وسلم) فاسترجعها من خزاعة بعد حرب دامية ثم صارت من بعده في ولده الأكبر عبد الدار ثم صارت في بنى عبد الدار جاهلية وإسلاما إلى أن آل أمر السدانة إلى شيبة بن عثمان بن طلحة واسمه عبد الله بن عبد العزى بن عثمان إلى العصر الحاضر يتوارثونها كابرا عن كابر.
عثمان بن طلحة يغلظ للنبى (صلى الله عليه وسلم
-)
جاء في طبقات ابن سعد عن عثمان بن طلحة قال كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عنى ثم قال: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت قال عثمان فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال بل عمرت وعزَّت ودخل الكعبة يقول عثمان فوقعت كلمته منى موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال فلما كان يوم الفتح قال يا عثمان أئتنى بالمفتاح فأتيته به وأخذه منى ثم دفعه اليَّ.
خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم:
وقال - خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان أن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.
أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها:
وفى رواية أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يجمع له الحجابة مع السقاية وذلك في فتح مكة حينما أخذ المفتاح من عثمان بن طلحة فقال بأبى أنت وأمى يا رسول الله أعطنا الحجابة مع السقاية فأنزل الله عز وجل
على نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها - يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه فما سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل تلك الساعة فتلاها ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: غيبوه وفى رواية أعينوه ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله واعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة لا ينزعها من أيديكم إلا ظالم.
آل الشيبى
والشيبيون أو آل الشيبي الذين لهم سدانة البيت في العصر الحاضر هم من نسل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان بن طلحة لأن عثمان هذا لم يكن له ولد فانتقلت الحجابة إليه بعد وفاة عثمان بن طلحة الذى بقى في المدينة إلى وفاة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ثم عاد إلى مكة.
وقد أسلم شيبة يوم فتح مكة وشهد حنينا وقيل أسلم بحنين، قال الزبير كان شيبة قد خرج مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين مشركا يريد أن يغتال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غرة فأقبل يريده فرآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه فقال يا شيبة هلم لا أم لك فقذف الله في قلبه الرعب ودنا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووضع يده الكريمة على صدره ثم قال: اخسئ عنك الشيطان فأخذه ونزع فقذف الله في قلبه الإيمان فأسلم وقاتل مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان ممن صبر معه يومئذ وكان من خيار المسلمين وحين أعطى صلوات الله وسلامه عليه مفتاح البيت أعطاه لعثمان وابن عمه شيبة هذا .. أقول وهذا يدل على أن شيبة أسلم يوم الفتح وليس يوم حنين وأيا كانت الرواية الصحيحة فإن الحجابة لأبناء أبي طلحة وقد توفى عثمان ولا ولد له فآلت الحجابة إلى ابن عمه شيبة وهي باقية في نسله إلى هذا اليوم وستبقى أبد الدهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها مصداقا لقول الرسول الكريم خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم.
شيبة بن عثمان يحج بالناس
ومن الحوادث التاريخية التي تتصل بالحجابة أن عليا رضي الله تعالى عنه بعث
قثم ابن العباس في سنة تسع وثلاثين ليحج بالناس وأرسل معاوية في هذا العام يزيد بن شجرة فتنازعا فسعى بينهما أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه وغيره فاصطلحا على أن يقيم الحج والصلاة بالناس شيبة بن عثمان.
الحجابة لأكبر العائلة سنا
وقد سار آل الشيبي على قاعدة إسناد الحجابة لأكبر العائلة سنا وهكذا أصبح الأمر بها إلى هذا الوقت.
صحة نسب آل الشيبى
وقد ذكر الشيخ باسلامة أن بعض من يضمر السوء لآل الشيبي ادعوا في أوقات مختلفة انقطاع نسبهم محاولين بذلك سلب الحجابة منهم وأورد من البراهين ما يثبت هذه الأكاذيب والافتراءات فقال.
إن سدنة الكعبة المعظمة من أجلِّ وأعظم الوظائف التي يتنافس المتنافسون عليها بل أشد المتنافسين عليها الملوك والسلاطين فلو أن الأمر كما قاله ذلك المفترى بأن نسبهم قد انقطع في زمن هشام بن عبد الملك فلماذا ترك المنافسون هذه الوظيفة للمنتسبين لآل الشيبي بدون أن يستلبوها منهم كما استلبوا كثيرا من الوظائف التي هي أقل مكانة وسؤددا وفخارا؟ هل هنا قوة قاهرة تمنعهم غير قوة القاهر فوق عباده إلى آخر ما قال.
(1)
(1)
"301 - 346 تاريخ الكعبة المعظمة".
هدايا الكعبة
كانت الهدايا الثمينة ترسل إلى الكعبة في مختلف العصور وأول ما ورد ذكر ذلك حين حفر عبد المطلب لبئر زمزم فوجد فيها غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا كثيرة قيل أن الذى أهداها للكعبة ساسان بن بابل وقيل أنها كانت لجرهم وروي كذلك أن كعب بن لؤى القرشي أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة هذا ما كان من أمر هدايا الكعبة قبل الإسلام.
الهدايا في الإسلام
ذكر الأزرقي رواية عن الواقدى عن أشياخه قال، لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدائن كسرى كان مما بعث به إليه هلالان فبعث بهما فعلقهما في الكعبة. أقول ولا نجد في كتب السير والتواريخ الموثوقة ذكرا لهذا الأمر وهو مما يستبعد على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فلقد كان حريصا على قسمة الفيء بين المسلمين مهما بلغ ثمنه ومهما كانت محتوياته ثمينة والله أعلم.
ونذكر هنا بعض هدايا الكعبة كما أوردها المؤلف:
بعث عبد الملك بن مروان الشمسيتين وقدحين من قوارير وضرب على الأسطوانة الوسطى بالذهب من أسفلها إلى أعلاها صفايح.
وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين.
أقول ولابد أن هذه الأقداح التي بعثها عبد الملك بن مروان وابنه الوليد من القوارير الثمينة النادرة.
وبعث الوليد بن يزيد بالسرير الزيني وبهلالين كتب عليهما اسمه وذلك في سنة إحدى ومائة.
وبعث أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين بالصفحة الخضراء.
وبعث أبو جعفر المنصور بالقارورة الفرعونية.
يقول المؤلف وكل هذا معلق في البيت.
وفي سنة مائة وست وثمانين وضع الخليفة هارون الرشيد قصبتين علقهما مع المعاليق وفيهما بيعة محمد وعبد الله ابنيه وما عقد لهما وما أخذ عليهما من العهود.
وبعث المأمون بالياقوتة التي كانت تعلق في كل سنة في وجه الكعبة في الموسم بسلسلة من الذهب.
وبعث المتوكل بشمسة عملها من ذهب تعلق في وجه الكعبة كل موسم.
ملك التبت يرسل سريره وصنمه
ذكر الأزرقي رواية عن سعيد بن يحيي البلخي قال: اسلم ملك من ملوك التبت وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان وكان على رأس الصنم تاج من الذهب مكلل بخرز الجوهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد وكان على سرير من الفضة مربع مرتفع عن الأرض على قوائم وكان على السرير فرشة الديباج وعلى أطراف السرير أزرار من ذهب وفضة مرخاة والأزرار قدر الكرين في وجه السرير.
فلما أسلم ذلك الملك أهدى السرير والصنم إلى الكعبة فبعث به إلى أمير المؤمنين هدية للكعبة والمأمون يومئذ بمرو من خراسان فبعث به المأمون إلى الحسن بن سهل بواسط وأمره أن يبعث به إلى الكعبة فبعث به مع نصير بن إبراهيم الأعجمي وهو من أهل بلخ فقدم به إلى مكة في سنة 201 وحج بالناس تلك
السنة إسحق بن موسى بن عيسى بن موسى فلما صدر الناس من منى نصب ابن إبراهيم السرير وما عليه من الفرشة والصنم في وسط رحبة عمر بن الخطاب بين الصفا والمروة فمكث ثلاثة أيام منصوبا ومعه لوح من فضة مكتوب فيه "بسم الله الرحمن الرحيم".
هذا سرير فلان بن فلان ملك التبت أسلم وبعث بهذا السرير هدية إلى الكعبة فاحمدوا الله الذى هداه إلى الإسلام.
وكان يقف على السرير محمد بن سعيد ابن اخت نصير الأعجمي فيقرأه على الناس بكرة وعشية ويحمدوا الله الذى هدى هذا الملك إلى الإسلام. ثم دفع السرير والصنم إلى الحجبة آل الشيبي وأشهد عليهم بقبضة فجعلوه في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان.
وكيل أمير مكة يأخذ السرير والصنم ويسكه دراهم
بقي هذا السرير والصنم والتاج الذى أهداه ملك التبت في خزانة الكعبة عاما كاملا ثم استولى عليه يزيد بن محمد وكيل أمير مكة حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان الذى استخلف يزيد على إمارة مكة حين خرج إلى اليمن، قالوا وأقبل إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي إلى مكة مقبلا من اليمن فسمع يزيد بأمره فخندق على مكة وسكها بالبنيان من أنقابها وأرسل إلى الحجبة فأخذ السرير وما عليه فاستعان به على حربه، وقال أمير المؤمنين يخلف لها وضربه دنانير ودراهم وذلك في سنة 202 وبقى التارج واللوح في الكعبة إلى اليوم - يعنى في عصر الأزرقي.
إهداء الجواهر إلى الكعبة
قالوا وأهدي إلى الكعبة طوق من ذهب مكلل بالزمرد وبالماس وياقوته خضراء وزنها أربعة وعشرين مثقالا ودفعت هذه الهدية إلى الحجبة فكتبوا في أمرها إلى أمير المؤمنين المعتمد على الله، وأخذوا الدرة وأخرجوها وجعلوها في سلسلة من
ذهب في وسط الطوق مقابلة الياقوت والزمرد وجاء الكتاب من المعتمد بتعليقها مع معاليق الكعبة في سنة 259.
تعليق بيعة أبناء الخلفاء
وكما أودع الرشيد بيعة الأمين والمأمون وعلقهما في الكعبة فقد أودع المعتمد قصبة من فضة فيها بيعة ابنه جعفر بن المعتمد وبيعة أبي أحمد الموفق.
إهداء القناديل الكعبة
وبعث المطيع العباسي قناديل للكعبة من الفضة ومعها قنديل من الذهب زنته ستمائة مثقال وذلك في سنة 359. وفى سنة 420 أهدى صاحب عمان إلى الكعبة قناديل ومحاريب مبنية زنة المحراب منها أكثر من قنطار وسمرت المحاريب في الكعبة مما يلى بابها.
وفى سنة 632 أهدى للكعبة المنصور عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن قناديل ذهب وفضة وفى سنة 718 بعث الوزير على شاه وزير السلطان أبي سعيد بن خدا بنده ملك التتر على يد الحاج مولا واح حلقتان مرصعتان باللؤلؤ والبلخش وكل حلقة زنتها ألف مثقال وفى كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات وبينهما ستة قطع بلخش فاخر ولما أراد تعليق ذلك بباب الكعبة منعه بن أمير الركب المصرى في ذلك العام وقال لابد من الإذن بذلك من السلطان الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر.
وكان الوزير علي شاه المذكور قد نذر أن ظفر بخواجه رشيد الدولة وقتله أن يعلق على باب الكعبة معلقتين، وقيل أن أمير الركب المصرى إذن لمولا واح هذا بتعليق الحلقتين زمنا قليلا ثم رفعتا وأخذهما إذ ذاك رميثة بن ابي نمي من آل قتادة. وأهدى السلطان شيخ إدريس صاحب بغداد في سنة 770 أربعة قناديل حجم كل قنديل منها مثل الدورق المكي اثنان منها من الذهب واثنان من الفضة وعلقت في
الكعبة فترة من الزمن ثم أخذها أمير مكة عجلان بن رميثه.
أين ذهبت هدايا الكعبة
قال التقي الفاسي، وأهدى بعد ذلك للكعبة قناديل كثيرة والذى في الكعبة الآن من المعاليق ستة عشر قنديلا منها ثلاثة فضة وواحد ذهب وواحد بلور واثنان نحاس والباقى زجاج حلبي وهي تسعة وليس في الكعبة الآن شيء من المعاليق التي ذكرها الأزرقي ولاما لم يذكره مما ذكرناه سوى الستة عشر قنديلا وليس فيها شيء من حلق الذهب والفضة التي كانت في أساطينها وجدارنها بسبب توالى الأيدي عليه من الولاة وغيرهم على ما ذكره الأزرقى في تاريخة ووقع ذلك بعده أيضا.
أقول ولعلم القارئ فإن التقى الفاسي من رجال القرن التاسع للهجرة وقد توفى عام 832 هـ
الذين أخذوا أموال الكعبة
ذكر ابن فهد القرشي في كتابه إتحاف الورى في حوادث سنة 200، قال وفى أول أيام المحرم بعدما تفرق الناس من مكة جلس الحسن بن الحسين الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية وأمر بالكعبة فجردها حتى بقيت حجارة مجردة ثم كساها كسوتين أنفذهما أبو السرايا من الكوفة من قز رقيق أحدهما صفراء والأخرى بيضاء مكتوب عليها:
"بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الأخيار أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل محمد صلى الله عليه وسلم بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس ليطهر من كسوتهم وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة".
علق الأفطس هذه الكسوة التي وصف فيها ولد العباس بالظلم على الكعبة، ثم أخذ ما في خزانة الكعبة وكان مالا عظيما نقله إليه، وقال ما تصنع الكعبة بهذا
المال موضوعا لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به وقسم المال مع كسوة الكعبة على أصحابه.
وفى سنة مائتين وواحد وخمسين أخذ إسماعيل بن إبراهيم الحسني ما في الكعبة من الذهب وما في خزانتها من الذهب والفضة والطيب والكسوة، يقول ابن فهد وذلك عقب فتنة عظيمة وقعت في مكة.
وفى سنة 462 قطع أمير مكة أبو هاشم محمد بن جعفر المعروف بابن ابي هاشم الحسن خطبة المستنصر العبيدى صاحب مصر وأخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب لما لم يصله شيء من جهة المستنصر العبيدى وأعاد الخطبة لبني العباس بعد قطعها من الحجاز نحو مائة سنة وخطب للخليفة القائم بأمر الله ثم للسلطان عضد الدولة.
وفى سنة 586 أخذ أمير مكة داود بن عيسى بن فليته ما في الكعبة من أموال وطوقا كان يمسك الحجر.
هدية السلطان مراد
قال قطب الدين في الأعلام: أرسل السلطان مراد سنة 984 ثلاثة قناديل من ذهب مرصعة بالجواهر لتعلق اثنان منها في سقف بيت الله تعالى والثالث في الحجرة - النبوية الشريفة فعلقا في الكعبة وهو أول من علق الذهب في الحرمين الشريفين من آل عثمان.
هدية ملكة بندر آشي
وقال الطبري المكي في الإتحاف: أرسلت ملكة بندر آشي خمسة قناديل ذهب للكعبة في إمارة الشريف سعيد أبي بركات سنة 1094 فعلقت بها.
أقول وبندرآشي أو جزيرة آشى هي من جزر جاوا التي تسمى في الوقت الحاضر اندونيسيا.
الهدايا المعلقة في الكعبة
يقول الشيخ باسلامة ويوجد الآن معاليق كثيرة في سقف الكعبة غير أني لا أعلم عن حقيقهتها هل هي معمولة من ذهب أو فضة أونحاس كما أن آل الشيبي سدنة الكعبة المعظمة لا يعلمون بالضبط عن حقيقتها لقدم تعليقها ولعدم تعهدهم لها بالتمسيح والتنظيف أجيالا.
ثم يقول الشيخ باسلامة: وربما أنها من عهد بناء الكعبة الأخير إلى الآن لم تنقل من موضعها ولذلك تعذر علي أن أصفها وصفا صحيحا والله أعلم بحقيقتها
(1)
.
تطييب الكعبة
ذكر التقي الفاسي في شفاء الغرام نقلا عن الأزرقي أنه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت/ طيبوا البيت فإن ذلك تطهيره، وروى عنها أيضا أنها قالت: لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدى لها ذهبا وفضة.
وقد ذكرنا أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أجرى للكعبة وظيفة الطيب لكل صلاة وكان يبعث لها بالمجمر والخلوق في الموسم وفى رجب وأخدمها العبيد وتبعه في ذلك الولاة
(2)
.
وكان عبد الله بن الزبير يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر ويجمر الكعبة كل جمعة برطلين وقد طيب الخليفة العباسى محمد المهدى الكعبة بالغالية والمسك والعنبر، وكان الملوك والسلاطين يرسلون إلى الكعبة بأجود أنواع الطيب والبخور ولما صارت ولاية البيت لسلاطين آل عثمان صار الطيب والبخور يرسل إلى الكعبة من القسطنطينية سنويا ضمن المرتبات التي خصصت للحرمين الشريفين، وفى عهد الشريف الملك الحسين بن علي خصص مبلغ من المال يصرف لرئيس السدنة
(1)
"209/ 217 ت تاريخ الكعبة المعظمة".
(2)
المجمر ما يتجمر به وهو عود الرطب لعله بخور العود المعروف في هذه الأيام والخلوق طيب يتخذ من الزغفران وغيره من أنواع الطيب ويغلب عليه الصفرة والحمرة.
من خزينة المالية برسم الطيب مع ما هو مخصص لها لغسيل الكعبة. وقد استمر الحال على ذلك في العصر الحاضر كما يقول الشيخ باسلامة.
(1)
خدام الكعبة وأغوات الحرم
ذكرنا أن أول من رتب العبيد لخدمة الكعبة معاوية بن أبي سفيان ثم تبعه الولاة في ذلك إلى العصر الحاضر يقول الشيخ باسلامة.
والقائمون بخدمة الكعبة الآن هم الأغوات وليسوا مماليك لأحد بل هم أحرار قد اعتقوا من قبل أوليائهم ولهم مرتبات شهرية تصرف من خزينة الدولة. ولهم إدارة خاصة ورئيسهم منهم وقد جرى العرف بينهم أن يكون رئيسهم أقدمهم خدمة ولهم بيت مال خاص بهم ويتوارثون بعضهم بعضا. ووظائفهم منحصرة في تنظيف المطاف، وحجر إسماعيل ومقام إبراهيم والفرش الحجرى المحيط بمدار المطاف الذى عليه مقامات الأئمة ولهم وظائف أخرى مثل وضع الشماعدين على باب الكعبة من الغروب إلى بعد صلاة العشاء ومن طلوع الفجر إلى الاسفار وكانوا قبل دخول الكهرباء بالمسجد الحرام يضيئون القناديل التي على الاساطين المحاطة بصحن المطاف والمقامات الأربعة.
ولهم نظام خاص في تسلسل الوظائف يسيرون عليه من أقدم الأزمان ونوجز هذه الوظائف فيما يلي:
حينما يبدأ الأغا العمل في الخدمة يسمى نفر ويستمر في ذلك ثم يرقى بالتسلسل حتى يصل إلى وظيفة شيخ المفتاح وهذه الوظيفة هي أمانة مفاتيح غرف الأدوات من شماعدين وأوانى تنظيف المطاف والحجر وأطراف الكعبة وغير ذلك. ثم يرقى إلى وظيفة (دورورى) وهي مراقبة الأغوات حال قيامهم بتنظيف الصحن وما حوله، ثم يرقى إلى رتبة ضابط ويسمى ضابط أول ويدخل في سلك البطالين ووظيفة البطالين كنس مدار المطاف وما يتبعه مع حجر إسماعيل وتنظيم صفوف المصلين
(1)
"362 - 263 تاريخ الكعبة المعظمة"
داخل الصحن والفرش الحجر المحيط بالصحن الذى عليه مقامات الأئمة فقط.
ثم يرقى إلى رتبة (خبزى) وهؤلاء الخبزية لا يتجاوز عددهم أحد عشر نفرا على الدوام فإذا مات أحدهم ارتقى إلى وظيفة أقدم البطالين خدمة ثم يرقى من الخبزيه فيبلغ وظيفة بيت المال الخاص لهم ثم يرقى إلى نقيب ثم يرقن إلى وظيفة شيخ الأغوات إذا خلت الوظيفة بوفاة الشيخ السابق.
(1)
غسل داخل الكعبة
أول من غسل الكعبة هو الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يوم فتح مكة، وذلك بعد إزالة الأصنام ومعالم الشرك التي كانت فيها، يقول مؤلف الكتاب فتجرد المسلمون في الأزر وأخذوا الدلاء وارتجزوا على زمزم وغسلوا الكعبة ظاهرها وباطنها فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا غسلوه ومحوه.
وقد صار غسيل الكعبة عادة جارية وسنة متبعة من عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى العهد الحاضر. وتغسل الكعبة كما يقول المؤلف مرتين في العام مرة قبيل الحج ومرة في الثانى عشر من شهر ربيع الأول.
أقول والذى أعرفه أن موعد الغسيل الثانى للكعبة هو في شهر رجب من كل عام، ويتم غسل أرض الكعبة وجدرها إلى ارتفاع قامة الإنسان بماء الورد الممزوج بماء زمزم وتطيب جدران الكعبة بعطر العود كما تجمر الكعبة بالعود والند والعنبر، بعد تجفيف أرضيتها ويحضو عادة الملوك والأمراء وكبار رجال الدولة والأعيان لغسيل الكعبة ويشاركون فيها تبركا مع رئيس الحجبة والمسئولين عن شئون المسجد الحرام ولا تزال هذه العادة سنة متبعة حتى هذا اليوم.
(2)
سرقة مفتاح الكعبة
جاء في تاريخ السنجارى أن سادن البيت الشيخ عبد الرحمن الشيبي فتح الكعبة
(1)
"363 - 365 تاريخ الكعبة المعظمة".
(2)
"365 - 367 تاريخ الكعبة المعظمة".
للنساء في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسعمائة وست وسبعين على ما جرت به العادة في ذلك الزمان فسرق مفتاح الكعبة من حجره وهو مصفح بالذهب. يقول السنجارى فوقعت الضجة وأغلقت أبواب الحرم وفتشت الناس فلم يظفروا بالمفتاح.
قال السنجارى ثم وجده سنان باشا باليمن مع رجل أعجمي فأخذ الرجل وكبست داره فوجد عنده المفتاح وغيره من السرقات التي أقر بها فقطع رأسه وأعيد المفتاح إلى السادن.
اشتعال ثوب الكعبة
ذكر الشيخ باسلامة أن حريقا وقع في ثوب الكعبة في يوم الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة 1344 أثناء الحرب التي وقعت بين الشريف الحسين بن علي والجنود الأتراك المحاصرين في قلعة أجياد بمكة المكرمة بعد أن أعلن الشريف الحسين نفسه ملكا على الحجاز وانفصل عن دولة الخلافة العثمانية.
وكان الجنود الأتراك يطلقون القنابل من مدافعهم باتجاه المسجد الحرام لأن رجال الحسين كانوا يحتلون الدور المجاورة للمسجد الحرام، وبعضهم اتخذ من منائر المسجد الحرام مكانا يطلقون منه نيران بنادقهم على قلعة أجياد. وكانت القنابل التي يقذفها الأتراك تصيب قباب المسجد الحرام وخاصة في باب الزيادة وباب أم هانئ.
وقد وقعت شظية من إحدى القذائف على الكعبة المعظمة من الجهة الجنوبية قريبا من سطح الكعبة واشتعلت النار في ثوب الكعبة قرب الحجر الأسود وقد فزع الناس لذلك فزعا شديدا وتجمعوا في المسجد الحرام من كافة أطراف مكة فسارع سادن البيت الشيخ محمد صالح شيبي بإرسال ابنه محمد ففتح الكعبة وصعد الناس فاطفأوا النار في لحظة.
(1)
هذا الحديث الطويل عن الكعبة المعظمة هو الخلاصة لكتاب الشيخ حسين
(1)
"378 - 382 تاريخ الكعبة المعظمة".
عبد الله باسلامة تاريخ الكعبة المعظمة الصادر في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وخمسين قبل ما يقرب من نصف قرن، وهو من أهم الكتب في موضوعه وهو يمتاز بأنه قد جمع كلما كتب عن الكعبة المعظمة في كتاب واحد يجعل القارئ ملما بتاريخها منذ فجر التاريخ وربما قبل ذلك حتى اليوم.
والكتاب هام ومفيد لأنه يؤرخ لا قدس بيت لله على سطح الأرض ومفيد بما احتواه من الحقائق التاريخية كما أنه لا يخلو من الحوادث الطريفة عبر هذه القرون الطويلة.
وهو كما ذكرنا مكمل لكتاب الشيخ باسلامة الذى تحدثنا عنه قبل تاريخ عمارة المسجد الحرام ومن المعلوم أن للشيخ باسلامة مؤلفات كثيرة ذكرها الشيخ محمد نصيف في ترجمته
(1)
ولكنى أود أن أذكر أنه لو لم يكن للشيخ باسلامة سوى هذين الكتابين اللذين تحدثت عنهما لكان ذلك جديرا بتسجيل اسمه بين الأعلام من المؤرخين في هذا المجال.
ذكرياتي عن الشيخ حسين باسلامة
سمعت باسم الشيخ حسين باسلامة لأول مرة حينما ثارت المعركة الأدبية بينه وبين الأستاذ محمد حسن عواد على صفحات جريدة صوت الحجاز في الخمسينات من القرن الهجرى الماضي إن لم تخني الذاكرة على أثر ظهور كتاب الشيخ حسن باسلامة تاريخ النهضة الإسلامية مع العلم والمدنية كان العواد
(2)
رحمه الله قد انتقد هذا الكتاب حين ظهوره وأجاب عليه المؤلف الشيخ حسين باسلامة وثارت بين الرجلين معركة عظيمة استمرت زمنا طويلا وشغل بها الناس، ولعل العواد وهو المجدد في الأدب كان ينظر إلى الشيخ باسلامة على أنه من الطبقة التي تسلك نهج القدامى من المؤرخين في الأسلوب والتعبير، وليس هذا مجال
(1)
انظر هذه الترجمة في كتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام.
(2)
انظر ترجمة محمد حسن عواد في كتابنا أعلام الحجاز.
الحكم بين الرجلين فكلاهما قد غادر هذه الحياة الدنيا إلى رحاب الله الذى نسأله لهما الرحمة والغفران.
وقد رأيت الشيخ باسلامة حينما انتقلت إلى مكة المكرمة بها وكنت من المواظبين على ارتياد المكتبات بباب السلام وكان هو يحضر لزيارة الأستاذ عبد الله فدا رحمه الله وهو أديب وصاحب مكتبة فكنت أراه في الأصائل يجلس في مكتبة الفدا ويتجاذبان أطراف الحديث.
ثم رأيت الشيخ باسلامة مع أعضاء مجلس الشورى في جلسة طويلة دعى فيها الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله أعضاء المجلس جميعا إلى عشاء في بستانه بالطائف وكانت هذه الجلسة حافلة بالطرائف التي كانت تحفل بها مجالس الأعيان والأفاضل من المكيين وكان مما يدور فيها ويتندر به الحاضرون أن أحدهم ينشد بيتا من الشعر فينشد الثانى بيتا يبدأ بالحرف الأخير من البيت الأول وينشد الثالث بيتا يبدأ بالحرف الأخير من إنشاد الثانى وهكذا حتى يكتمل الإنشاد من قبل الحاضرين جميعا في المجلس ولتمثيل هذه المجالس للقارئ نفترض أن أول من ابتدأ الانشاد أنشد البيت الآتى:
عيون المهابين الرصافة والجسر
…
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فينشد الثانى بيتا يبدأ بالراء المكسورة فيقول مثلا:
ريم على القاع بين البان والعلم
…
أحلّ سفك دمى في الأشهر الحرم
فينشد الثالث بيتا يبدأ بالميم فيقول:
من راقب الناس مات غما
…
وفاز باللذة الجسور
وهكذا يستمر الحاضرون في الإنشاد دون توقف وإلا تحول الإنشاد إلى التالى وهكذا كان يتخلل هذه الجلسات الكثير من المرح والطرائف فإذا انتهى الإنشاد اختاروا حرفا من الحروف وبدأوا بالسؤال عن اسم مدينة مثلا يبدأ بهذا الحرف ولنفترض أن هذا الحرف هو الألف فتذكر اسم المدينة (الطائف - فيسئل مثلا ما هي ميزتها؟ فيجيب ارتفاعها ثم يسئل من تعرف فيها؟ فيكون الجواب مثلا
أميرها؟ ثم يسئل ما الذي يعجبك فيها؟ فتقول أعنابها؟ وهكذا يمضى المجلس في هذه الندوة الطريفة وكثيرا ما يعجز المجيب عن الإجابة بنفس الحرف فيضطر إلى أن يجيب إجابة مضحكة يتندر عليه السامرون.
أقول رأيت الشيخ حسين باسلامة رحمه الله في هذا المجلس وكان بعض الحاضرين يلح عليه في الأسئلة وكان يجيب ببديهة حاضرة وظرف وجرأة وكان يشاركه تلك الصفة تلك اللية المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوى وكان سكرتيرا لمجلس الشورى رحم الله الجميع فلعل كل من حضرتلك الجلسة قد صاروا إلى رحاب الله تعالى فقد مضى عليها ما يقرب من نصف قرن من الزمان.
توفى الشيخ حسين باسلامة في عام 1359 للهجرة كان قد فارق هذه الحياة الدنيا فقد أبقى له ذكرا خالدا في مؤلفاته التي تحدثنا عن أهمها هذا الحديث الطويل الذى يستحقه كتاباه تاريخ عمارة المسجد الحرام وتاريخ الكعبة المعظمة.
رحم الله الشيخ حسين باسلامة وأجزل جزاءه في دار الخلد لقاء ما بذل من جهد في سبيل العلم النافع المفيد.
حمزة شحاتة
حمزة شحاتة
طويل القامة ممتلئ الجسم أسمر اللون أقنى الأنف واسع العينين يضع على عينيه نظارة طبية وهو لا يستطيع الرؤية بدون هذه النظارة أصلع الرأس، تزين وجهه لحية صغيرة، حليق العارضين، جسيم وسيم متناسق الأعضاء له قامة رياضية، عرفته في النصف الثانى من الأربعينات وكان يرتدى الثوب القصير وتحته السروال الطويل الذى يشبه البنطلون، وهذا هو زى الشباب الذين عاشوا في الهند يتعلمون أو يعلمون
(1)
وكان حمزة واحدا منهم كما سيأتى بعد. وفوق الثوب يرتدى الكوت الطويل ويضع على رأسه كوفية حجازية ويضع الشال على كتفيه أو يعتم به اتقاء للشمس، وعلى أي حال فقد كانت له هيئة متميزة في ملابسه، وكان أنيق الملبس دائما يختار الألوان الهادئة والأقمشة الجيدة، وأذكر أن أستاذا مصريا كان يعمل في المدرسة السعودية الابتدائية في جدة اجتمع به مرة فوصفه لأحد أصدقائنا قائلا - الأفندى اللي هيأته كويسة - وذلك تمييزا له عن الآخرين وربما لم يكن يعرف اسمه، وعلى أي حال فإن حمزة أصبح فيما بعد يرتدى العباءة العربية والعقال خاصة بعد أن عمل موظفا في وزارة المالية بمكة المكرمة، ومديرا للنقليات الحكومية
(1)
انظر تفصيل ما كتبناه عن الأزياء في كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز.
في عهد معالي وزير المالية الأسبق الشيخ عبد الله السليمان يرحمه الله.
ولد بمكة في سنة 1328 هـ وتلقى مبادئ تعليمه بها أولا، ثم في مدرسة الفلاح بجدة وكان الشيخ عبد الرؤوف جمجوم عميد آل الجمجوم
(1)
قد سافر إلى مكة وكانت تربطه بعلي شحاتة ومحمد نور شحاتة أشقاء حمزة صلات صداقة وعمل، وحينما انتقل آل شحاتة إلى مدينة جدة كان بيتهم ملاصقا لبيت الجمجوم، وكان الشيخ عبد الرؤوف يعنى عناية خاصة بالغلام حمزة شحاتة رحمه الله حتى أنه كلف إحدى بناته بالعناية بحمزة ومذاكرة دروسه فكان يقضي أوقات فراغه كلها بدار آل الجمجوم، وأتم حمزة دراسته في مدرسة الفلاح وكانت مدة الدراسة بها ست سنوات، وقد أدركته وهو طالب في آخر مراحل الدراسة بالفلاح وأنا مبتدئ بها ثم سافر إلى الهند ليعمل في دار آل زينل هناك وأقام في مدينة بومباي عدة سنوات ثم عاد بعد انتهاء الحرب السعودية الهاشمية ليتسلم أولى وظائفه الحكومية سكرتيرا للمجلس التجارى بجده الذى كان يرأسه الشيخ سليمان قابل
(2)
لم تطل مدة عمل حمزة يرحمه الله بالمجلس التجارى فقد كان من النمط القلق الذى لا يستطيع الاستمرار، وكانت طموحاته وتطلعاته تدفعه إلى التغيير.
وقد جاء هذا التغيير بإلحاح من أخيه المرحوم الشيخ محمد نور شحاتة الذى أسس شركة للنقل بالسيارات في أوائل العهد السعودى تعمل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة لنقل الحجاج وكانت هذه الشركة تسمى شركة السلام
(3)
وقد أخبرني حمزة أنه اضطر مرة إلى قيادة السيارة اللورى من جدة إلى المدينة المنورة والعودة بها بعد أن لاقت شركتهم كما لاقت غيرها من الشركات المصاعب الكثيرة
(1)
انظر ترجمته في كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة صفحة 101 - 110 ج أول.
(2)
انظر ترجمته في كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عر للهجرة صفحة 55 - 62 ج أول
(3)
انظر ما كتبناه من شركات السيارات في ترجمة الشيخ محمد صالح أبو زنادة في كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة صفحة 239/ 242 الجزء الأول.
من السائقين الأجانب الذين كانوا يتولون قيادة تلك السيارات .. وما لبثت هذه الشركة أن انضمت كما انضم غيرها من الشركات إلى الشركة العربية للسيارات، ولكن محمد نور وحمزة شحاتة كانا قد عملا في استيراد وبيع قطع الغيار للسيارات وفي هذا العمل بالذات اتصلت أسبابي بأسباب حمزة شحاتة يرحمه الله في النصف الثانى من الأربيعينات في جدة، حيث كنت أعمل في شركة القناعة للسيارات وكانت تبيع قطع الغيار للسيارات كما تبيع المحروقات والإطارات الخاصة بالسيارات وبحكم تجانس العمل كان يزورنا الشيخ محمد نور شحاتة وكذلك حمزة فاتصلت أسبابي بأسبابه وتوثقت عرى الصداقة بيني وبينه.
كان حمزة نمطا فريدا من الأدباء لم يكن يشبهه غيره وكان ساحر الحديث يمتلك قلوب سامعيه وأفكارهم وكانت لغة حديثه أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية ولكنها الفصحى المحببة التي لا تصدمك منها لفظه موحشة أو كلمة غريبة قاسيه، وكان يمزج أحاديثه بالطرائف والنكات في أسلوب أخاذ.
وكان إذا كتب لا يختلف كثيرا عنه حينما يتحدث وكانت رسائله قطعا أدبية رائعة، ولو جمعت هذه الرسائل التي كان يبعثها إلى أصدقائه الكثيرين لتكونت منها مجلدات ولكانت فنا عجبا في أدب الرسائل، وقد جمعت ابنته شيرين الرسائل التي كان يرسلها إليها وأصدرتها في كتاب يحمل هذا العنوان - إلى ابنتي شيرين - وحسنا فعلت السيدة شيرين بجمعها لهذه الرسائل وحسنا فعلت تهامة بطبعها ونشرها بين الناس.
أن هذه الرسائل تمثل فترة من حياة حمزة شحاتة هي لعلها فترة الكهولة في حياته ولو جمعت كل الرسائل التي كتبها في صدر شبابه ورجولته لرأينا فيها (العجبُ العاجب)، فلقد كان حمزة أحسن من يعبر عن عواطفه وخوالجه، ولقد كان يكتب الي كما كان يكتب إلى قنديل، وإلى عزيز ضياء، والى عبد الله عريف وإلى محمد عمر توفيق وإلى الأخ الشيخ محمد نور جمجوم وإلى غيرهم من أصدقائه الكثيرين، وبالنسبة لرسائله إلي فإني فقدتها كلها، فقدت بين الكثير من
أوراقي الضائعة، ولعلها تكون موجودة بين ركام الأوراق الكثيرة التي لا أستطيع فرزها والتي لا أعرف مكانها، على أي حال كان حمزة فريدا في أحاديثه وفريدا في رسائله (يشابهه أحد)، ولا يشبه أحدا فهو صاحب أسلوب خاص في الحديث وفي الكتابة على سواء. توثقت الصلة بينى وبينه عقودا من السنين فكنت ألقاه أصيل كل يوم وصدر كل مساء حينما كان بجدة ولكن حمزة ما لبث أن غاب عن جده مرتين، مرة بدون اختيار منه والمرة الثانية باختياره.
أما المرة الأولى فقد كان أحد المعتقلين الذين رحلوا إلى الرياض في أوائل الخمسينات وكان من بينهم الكثير من شباب مكة وجده أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذه محمد حسن عواد، وعبد الوهاب آشي، والشيخ سليمان أبو داود، والشريف محمد مهنا وعبد العزيز جميل وغيرهم، وعلى أى حال فإن التحفظ على هذا الفريق من الناس كان من باب الاحتياط فما لبث جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله أن أطلقهم، وقد روى لي المرحوم الشيخ إبراهيم السليمان بن عقيل رئيس ديوان النائب العام لجلالة الملك في الحجاز في تلك الأيام رواية طريفة أذكرها هنا للتاريخ.
قال: كان صاحب السمو الملكي الأمير فيصل - جلالة الملك فيصل فيما بعد - في زيارة والده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز في الرياض، وحينما قرب موعد عودته إلى الحجاز وكان لا يستطيع العودة الا إذا أذن له الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا الإذن يصدر ابتداء من الملك عبد العزيز بمعنى أن آداب الأسرة المالكة لم تكن تسمح لمن يرغب في السفر أن يستأذن الملك فيه، وإنما يصدر الأذن من الملك نفسه حينما يرى أن المدة التي قضاها الزائر في الرياض قد تمت وأن عليه أن يعود إلى عمله بالحجاز.
قال الشيخ إبراهيم: قال جلالة الملك عبد العزيز لسمو الأمير فيصل، يمكنك الآن أن تعود إلى الحجاز فقد طال غيابك عنه.
قال سمو الأمير فيصل، ولكن كيف أعود إلى الحجاز وكثير من أهل الحجاز هنا
في المصمك؟
(1)
هناك أمر جلالة الملك عبد العزيز بإطلاق سراحهم فوصلوا إلى الحجاز قبل عودة سمو الأمير فيصل إليها رحمه الله.
عاد حمزة من الرياض إلى مكة وبقى بها بعض الوقت وكتبنا له مهنئين وجاءتنا رسائله بنفس الأسلوب الساحر الساخر، لم يؤثر النفي في نفسه وعلمت أنه كان يقوم في بعض الأحيان بطبخ الطعام لزملائه في المصمك وكان حمزة من أكثر الناس إجادة في صنع الطعام وتذوقه يرحمه الله.
هذه هي المرة الأولى التي غادر فيها جدة مختارا بعد أن عرفته ولكنه لم يلبث أن عاد إليها أما المرة الثانية فقد ذهب إلى مكة للعمل سكرتير اللشيخ محمد سرور الصبان بطلب منه.
وكان حمزة كما ذكرت لا يطيق البقاء في عمل واحد حتى ولو كان هذا هو العمل التجاري الذى يمتلكه هو وأخوه، ولعل خلافا دب بين الأخوين رأى حمزة معه أن يترك عمله التجارى ليعمل سكرتيرا خاصا للشيخ محمد سرور الصبان، وقد بقي حمزة في هذا العملى عاما واحدا أو نحو ذلك إن لم تخني الذاكرة في تحديد الوقت. وكان من ضمن أعمال السكرتارية لدى الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله الإجابة على عشرات الرسائل التي ترد إليه يوميا من شتى أنحاء المملكة ومن مختلف طبقات الناس وكثير منها يتعلق بمعاملات لهم في وزارة المالية وفى شئون خاصة بهم، وضاق حمزة ذرعا بهذا العمل الروتيني فطلب من الشيخ محمد سرور إعفاءه ولكن الشيخ محمد سرور لم يوافق على إعفائه وما زال حمزة يلح حتى وافق الشيخ محمد سرور على إجابة الطلب، ولكنه ألزمه أن يختار له من يقوم بعمل السكرتارية بدلا منه، وكتب الي حمزة رحمه الله يعرض علي العمل لدى الشيخ محمد سرور في مكة فاعتذرت بادئ ذى بدئ لأن ظروفى العائلية لم تكن تسمح لي بالانتقال إلى مكة، وعاد حمزة إلى جدة ثم طرأ ما جعلني أقبل العمل لدى الشيخ
(1)
المصمك اسم القصر الذى كان المسجونون يعتقلون فيه في الرياض وللعواد فيه قطعة شعرية انظر مجموعة دواوين العواد.
محمد سرور في مكة وانتقلت إليها وكان ذلك في شهر ذى القعدة عام 1355 هـ، عاد حمزة مرة أخرى للعمل مع أخيه في جدة ولم يمض على هذه العودة الكثير من الزمن حتى رأيت حمزة يسافر إلى أبها وجيزان بصحبة المرحوم الشيخ عبد العزيز جميل وكان يعمل هناك مديرا لماليات وجمارك جيزان وتوابعها.
كانت هذه الرحلة رحلة تفقد للمنطقة وأحوالها وكان لحمزة صديق آخر في أبها هو المرحوم طلعت وفا الذى كان مديرا لشرطة أبها والذى وصل فيما بعد إلى منصب مدير الأمن العام في مكة المكرمة.
وقضى حمزة بضعة شهور وهو يتنقل بين جيزان وأبها وصبيا وأبو عريش ورجال المع ثم عاد إلى مكة المكرمه بصحبة الشيخ عبد العزيز جميل الذى نقل رئيسا لماليات وجمارك الأحساء وتوابعها، وبعد هذه العودة عهد معالي الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية الأسبق إلى حمزة بإدارة سيارات النقليات الحكومية وبقي فيها بضعة شهور، ثم انتقل بعد ذلك للعمل في ديوان المحاسبة في وزارة المالية.
ثم ترك العمل في وزارة المالية وعاد إلى جدة لإدارة العمل التجارى مع شقيقه محمد نور، الذى ما لبث أن سافر إلى مصر واستقر بها، إبان الحرب العالمية الثانية.
كان حمزة يحلم بالهجرة إلى مصر والاستقرار بها، وكان خياله الخصيب يصور له جمال الحياة على شاطئ النيل، وإمكانية النجاح الاقتصادى الكبير في أرض الكنانة.
ونسيت أن أذكر أن حمزة جاء إلى مصر قبل ذلك مريضا وكنت في القاهرة في تلك الأيام، فبعث إلي من يخبرني بوصوله إلى القاهرة ونزوله في مستشفى مورو بالدقى، وأسرعت إليه فوجدته في سرير المرض وقد أجريت له عملية استئصال الزائدة الدودية وكنت أزوره يوميا وكان هذا في عام 1942 مـ خلال الحرب العالمية الثانية وترك المستشفى بعد أن تماثل للشفاء، ولكنه لم يعد إلى جدة وتزوج بإحدى الفتيات المصريات وبقي هناك بضعة شهور، وحينما حان أوان عودته إلى الحجاز سافر وطلب إليها أن تلحق به فيما بعد، ولكنها لم تحضر.
وكانت ابنته الطفلة شيرين في القاهرة في حضانة أمها هناك وكانت هي بكر أولاده من زوجته الأولى التي تزوجها في جدة، وكان حريصا على ضمها إليه بعد أن تعذرت سبل الوفاق بينه وبين زوجته وأسرتها.
تهيأت الأسباب لسفره إلى مصر فسافر إليها مع بناته وأسرة أخيه جميعا ونزلوا أول نزولهم في مدينة حلوان ثم استقر بهم الأمر في القاهرة وكان هذا في عام 1364 هجرية وكنت هناك وكنت أرى حمزة تقريبا في كل يوم، وكان أخوه الشيخ محمد نور قد اشترى قطعة أرض في الدقى وكانت البعثات السعودية تسكن في دار مؤجرة وكان القائمون على شئون البعثة يتمنون لو أنهم سكنوا في دار مملوكة لأحد السعوديين، وقام حمزة وأخوه محمد نور ببناء دار للبعثات السعودية على جزء من الأرض المملوكة لهما بالدقى وأصبحت هذه الدار مقرا للبعثات السعودية ثم تعين حمزة محاسبا لإدارة البعثات لبعض الوقت ولكنه ما لبث أن ترك العمل في دار البعثات.
وعاد إلى مكة بناء على طلب الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله تعالى ليكون أول رئيس لنقابة السيارات في عهدها الجديد في 1372 هـ ولم تطل إقامته في هذا العمل كما لم تطل في أي عمل مارسه من قبل.
كان قلق النفس لا يستقر على حال، كانت طموحاته تتمرد على العمل الروتيني الرتيب، وكانت أفكاره أقوى من واقع حياته، كانت تلك هي ضريبة العبقرية التي تتحدى القيود والأعراف.
وعاد حمزة أخيرا ليستقر في القاهرة، وقد استشرت الخلافات بينه وبين أخيه حتى بلغت حد القطيعة، قلت له يوما إن وفاقك مع أخيك وتعايشكما ملزم لكما جميعا فأنتما لم تنجبا ولدًا، كل ذريتكما من البنات فاطويا صفحة الخلاف، وليضع أحدكما يده في يد الآخر، ولكنهما كانا عنيدين.
ولقد ضعف بصر حمزة في السنوات الأخيرة فكان إذا خرج صحبته صغرى بناته وكان قد أصيب بانفصال الشبكية، كما أصيب قبله أخوه محمد نور بها، وفقد كل
منهما بصره في آخر حياته غفر الله لهما.
إن فقد حمزة لبصره في آخر حياته أثر في نفسه وأستطيع أن أقول إنه أدخل الكثير من التغيير على أفكاره، ويتضح هذا في حديثنا عن رسائله إلى ابنته شيرين.
إلى ابنتي شيرين
اسم الكتاب الذى يضم ستين رسالة كتبها حمزة إلى كبرى بناته بعد أن غادرت مصر عائدة إلى الحجاز إثر زواجها، وهذه الرسائل تظهر بجلاء الحب الكبير الذى يربط شيرين بأبيها فقد أصبحت له كل شئ البنت وسيدة البيت والصديقة التي يتحدث إليها ويبثها مكنون صدره وأفكاره، وليس هذا بغريب على أى حال وقد اخترت بعض المقتطفات من بعض الرسائل التي كتبها حمزة إلى شيرين وهي تمثل أسلوبه في كتابة الرسائل كما تمثل أفكاره وخوالجه.
وأبدأ بالنماذج التي تمثل حالته النفسيه فهو يقول في الرسالة (30) لقد تحطمت قبل أن أبدأ قصة حياتى التي شغلنى عنها ولوعي بإنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق
(1)
.
ويقول في الرسالة الرابعة: تمت عزلتى الآن ولم تعد لي علاقة بأحد إلا بالمقدار الذى لا يزيد عما يتهيأ لأي نزيل في فندق صغير. ومنها:
أننا في سفينة أو أتوبيس وكل الفرق أن الرحلة أطول، أنني أشعر بضغط الوحدة ضغطا مخيفا أراني غريق أتخبط وأرسل صرخات الهلع، وأسمع أصوات ضحكات السخرية ممن يتظاهرون بإنقاذي.
أبدا أبدا لم أعد اقوى على احتمال هذا الشقاء وحدى بلامعين، أنني أبدأ الفكرة ولا أعرف كيف أتمها، وفى الليل عندما يهدأ كل شيء وينام، أظل أنا كالآلة الدائرة تدور بلا نهاية
(2)
.
(1)
صفحة 127 إلى ابنتي شيرين.
(2)
صفحة 54 إلى ابنتي شيرين.
ويقول في الرسالة العاشرة: بعد أن فقد البقية الباقية من بصره فيما أظن.
أني لا أنام الليل أبدًا حتى الساعة السابعة أو الثامنة، لا تسألي لماذا؟ فأنا لا أعرف شيئا يقتضى هذه الأرق الثابت، ربما كانت الشيخوخة، أو طبيعة إنعدام الشاغل الليلي كالقراءة والتلهي بنظم الشعر أو على الأصح ما اصطلح الناس على تسميته بالشعر لتمييزه بأنه الكلام غير المألوف، وربما كانت طبيعة الوحدة، والشعور بالظلمة التامة، ويظهر أن وقتا كافيا للاعتياد لم يمر على هذه التجربة القاسية
(1)
.
ويقول في الرسالة السابعة والعشرين:
لا تتأثري إنها النهاية الطبيعية لإنسان لم يسر على الطريقة التي يسير عليها الآخرون، بل ظل يحلم بأن يعلو على مستوى الطين والتراب ويخالف معرفته للحقيقة التي فهمها الجهلاء والأغبياء على الوجه السليم، لا تظني أنني أبكي بهذه الكلمات.
أني أضحك وأقهقه ساخرًا بنفسي لأني كنت الغبي الذى يتهمه الناس بالفطنة، والضحك بهذا الأسلوب هو العزاء الوحيد الذى بقي لي
(2)
.
والرسائل تتضمن أفكارا وآراء كثيرة تستوقف القارئ والمتأمل.
يقول في الرسالة الرابعة عشر:
إن غايات الحياة والعقل والقدرة لا تنتهى، وهذا ما يجعل الحياة تجددا مستمرا، ومتعة دائمة وأمجادًا مضيئة
(3)
ويقول في الرسالة الثامنة:
إن شقاء الإنسان وعذابه ليس نتيجة لأخطائه، هناك أناس يخطئون دائما، ولا يفعلون إلا الخطأ ولكنهم لا يدفعون ثمن أخطائهم، ويعيشون في انفصال
(1)
52 إلى ابنتي شيرين.
(2)
118 إلى ابنتي شيرين.
(3)
56 إلى ابنتي شيرين.
عنها وعن تأثيراتها، وأناس لا يخطئون على الأقل لأنهم لا يجدون الوقت، ولا الإمكان للخطأ مع ذلك فهم في عذاب بأخطاء غيرهم، إن العاطفة البشرية أقل الأشياء أمانا وثباتا، ولاسيما عندما تتوهج انفعالاتنا بها. وفى هذه الرسالة كذلك يقول:
ما يعزينا أن الناس لا يموتون، ولاسيما عندما يفقدون حبهم، وإن العلاقات لا تنتهى إذا حدث إشكال.
إن الإنسان يعيش طويلا وهو يحمل مرض موته ويصارعه، والعلاقة تعيش بين قلبين متنافرين وربما يجئ ظرف يتغير فيه التنافر إلى حب
(1)
وفى الرسالة العاشرة يقول:
لا تصدقي إن كلمة الطموح تعني شيئا من الجشع، وهو التطلع إلى المزيد .. إن مطالبنا في الحياة لا يمكن أن تريحنا ما لم نضع لها حدا بالبساطة والقناعة. أقول تريحنا لأن لاشئ يتعب ويجهد كالرغبة في المزيد هذا ينطبق على كل شيء.
أن طلب المزيد لا يحقق الأحلام بقدر ما يقضي عليها، يقضي عليها ليحلم بغيرها بما لم يتحقق بعد
(2)
ويقول في الرسالة الحادية عشر.
عندما نفعل خيرا للغير ينبغي لنا أولا أن لا ننتظر أو نتقبل جزاء عليه من غير الله، وأن نحتمل ما يقابلنا من مكاره أقلها الجحود (سوء الجزاء) إلا إذا عافانا الله من التعرض لها إن احتمال مغارم الخير وما قد يجره علينا من البلاء مضاعفة لجزائنا عليه من الله
(3)
.
ويقول في الرسالة الثامنة عشر
هناك إشاعات يرفضها العقل تتوفر لها القدرة بإستمرار على قتل الحقائق وعلى
(1)
47 إلى ابنتي شيرين.
(2)
53 إلى ابنتي شيرين.
(3)
56 إلى ابنتي شيرين.
التشكيك في الواقع وتزييفه، وهي ليست أكثر من إشاعات ترفضها كل مقاييس العقل والمنطق والواقع الملموس.
يقول كذلك في هذه الرسالة:
كثير من الانتصارات باهظ التكاليف أكثر كثيرا من أية هزيمة. وفيها أيضا يقول.
إن بعض الظروف تضع الإنسان فجاة أمام مثير من نوع ما فتكون الاستجابة المتسرعة مانعة من صحة التقدير والتروى ولا غرابة في هذا
(1)
.
ولقد كان حمزة يفكر في العودة إلى الحجاز ويبدوا أنه كان يتحدث بآماله هذه إلى شيرين حينما كانت معه في القاهرة ولا غرابة في هذا وقد عبر عن سعيه للهجرة إلى مصر والإقامة بها ثم سعيه للنزوح عنها والعودة إلى بلاده تعبيرا ساخرا طريفا في الرسالة السادسة عشر قال:
وصف مفكر الرجل الأمريكى من الطبقة العادية بأنه يقضى نصف عمره في الريف في محاولة الانتقال إلى المدينة، ويقضى النصف الآخر في محاولة العودة إلى الريف، وهذا بالضبط ماحدث لي ولم أعد بعد إلى الريف
(2)
.
إلى جانب رسائل إلى ابنتي شيرين كتاب آخر نشرته تهامة كذلك مشكورة لحمزة شحاتة، بعنوان رفات عقل، وهي عبارة عن مذكرات كان يكتبها حمزة لنفسه كما يقول الأستاذ عبد الحميد مشخص الذى استخلصها من بين أوراقه المتناثرة، وليست هي مذكرات بالمعنى الذى يسبق إلى ذهن القارئ لأنها عبارة عن أفكار وآراء في شكل مفكرات أو مذكرات يرجع إليها فيما بعد وحسنا فعل الأستاذ عبد الحميد مشخص بجمعها ونشرها، فهي تصور حمزة شحاتة الكاتب والمفكر ويفتتح حمزة الحديث في هذه المذكرات بسؤال عنوانه من أنا؟ فيقول:
يبدو لي أنني لم أستقبل حياتي منذ وعيت حتى هذه الساعة .. كنت أعيش
(1)
84 رسائل إلى ابنتي شيرين.
(2)
76 رسائل إلى ابنتي شيرين.
متأثرا بجملة الظروف والدوافع والمقاومات .. أسير .. وأتقهقر .. وأقف ..
وأحيانا أعدو بجنون. وحيث يتاح لي أن أتأمل ذاتي أرى أنني أداة تملى عليها مقدرات حركتها وسكونها، لم أشعر قط بتحرير إرادتي، وحين بدا للآخرين أنني اكتهلت بحكم السن، وإتساع أفق التجربة، وجدت أن ما يسمى الإرادة فينا، ليس إلا حاصل ظروف وعوامل ينسحق فيها ما هو ذاتي وداخلى تحت وطأة ماهو خارجي.
فإذا قلت الآن بصدق أنني أجهل من أنا .. أو ما أنا فلأنى لم أستقبل قط ما أستطيع أن أسميه حياتي ولكيلا يعتبر كلامي عن حياتى كلاما يكتنفه الغموض أقول .. إنني كنت كالجندي الذى قضى أيامه ولياليه في التدريب والاستعداد لمعركة لم يقدر له أن يخوضها، أو كالمتعلم الذى قضى شطر عمره للتخصص في مجال معين وقضى الشطر الثاني عاملا غير ثابت في كل مجال غير مجال تخصصه. هذا هو أنا، وهذا ما استقبله واستدبره من حياة هذا الإنسان
(1)
.
ويقول تحت عنوان لم أنتم لأية مدرسة:
أحب أن أوضح أننى قرأت الكثير، كل شئ وصل إلى يدى .. تأثرت وانفعلت بكل ما كان له صدى في نفسي وفكرى ولم ألتزم منهجا معينا ففاتني التخصص في أي شئ، كما فاتنى الاحتراف.
ومنها يقول لم أمارس الأدب على أنه وسيلة، ولا على إنه غاية، وإنما كان تنفيسا عن شعورى بمرارة العيش وحرارة القلب
(2)
ويقول عن الأدب والمجتمع مايلي:
سيظل الأدب فنا قوامه الجمال والتأثير والفكرة والعاطفة وهدفه الإنسان متابعًا لتحولاته، قائدا لمشاعره، موجها لاهتماماته.
(1)
رفات عقل - 12 -
(2)
رفات عقل
وفيها يقول: أن الإنسان هدف الوجود وغايته ومغزاه والإنسان وعلاقاته بالطبيعة مجتمعين أو متفرقين هدف الأديب والفنان. ومنها - والأدب في خدمة المجتمع لا يكون ولن يكون أدبًا متجردا من جمال الفن، وفن الجمال
(1)
.
وقد تضمن كتاب رفات عقل المقدمة التي كتبها حمزة لكتاب شعراء الحجاز في العصر الحديث للمرحوم الأستاذ عبد السلام الساسي وفى هذه المقدمة يتحدث حمزة عن رأيه في الشعر وعن الفوارق بين الكاتب والخطيب والشاعر فيقول: والشاعر يستهدف ما شاء في حياة الفكر والخيال والشعور وحركة النفس وخلجاتها، واستجاباتها وحقائقها وأوهامها، أو في حياة الواقع والقانون والمنطق والقاعدة والعمل والتكوين والرأى والعقيدة ولكن من هذا السبيل، وبهذا الأسلوب سبيل الجمال وأسلوبه الخاص.
ويصف الشعر بأنه: الترف الحافل بمعاني القدرة المعبرة وذخائرها النفيسه في أبهى الحلل والأثواب حتى بساطته وهي أسمى صفاته وغاياته إنما تكون ترف البساطة الفنية بالمزخورات، لا فقرها العارى أو المتكلف.
ومنها - ولو سألنا الآن - ما هي أغراض الشعر لوجدنا أنها الجمال والتأثير وإبداع الصور واستعادتها لتوشيتها وجلائها، وتلوين الحقائق والأفكار أو صنعها أو صنعهما لا ما شاءت المذاهب والطاقات والكتاب يضم قصائد لثلاثين شاعرا حجازيا يقول حمزة عنهم في هذه المقدمة:
وبعد فإن من شعراء هذه المجموعة من لا يفخر الحجاز وحده بهم ويتيه، بل كل بلد عربى وهم السرحان وعواد وقنديل وحسين عرب وإشباههم في معظم السمات وفى بعضها دون جملتها.
ومنهم من يستحق الرثاء، ومنهم مستوجب التعزير حتى يعلن التوبة عن رفع عقيرته يمثل هذا الهراء ظنه شعرا فأفسد به أو كاد جو هذه المجموعة الرقيق حتى
(1)
22/ رفات عقل.
أوشك أن يتحول به إلى جو مظاهرة من المظاهرات التي يغلب عليها عنصر الرعاع والدهماء
(1)
.
ويتحدث عن القديم والجديد فيقول:
التزام القديم هروب طبيعى من مشقات الجديد، ولكن من حسن الحظ أن الحياة هي التي تتولى دائما دفع الإنسان إلى الإمام مكرها كان أو راضيا. إن الشعوب التي تتوقف عن السير مع تيار الحياة والتغيير تضطر بعد إلى أن تعدوا لاهثة بجنون لكي تعوض ما فاتها من الوقت وفى هذا العَدْو الاضطرارى مزالق الخطأ وكبواته
(2)
.
وهذه مقتطفات أخرى نختتم بها هذه المقتبسات:
الذى يسيء إلى من أحسن إليه ليس شريرا .. أنما هو نذل.
إذا كان الطعام ردئيا أو قليلا تنعدم المجاملات على المائدة.
إن للنذل ضميره أيضا .. ولكنهما دائما على وفاق.
العمل لا يقتل مهما كان شاقا وقاسيا ولكن الفراغ يقتل حتى أنبل ما في الإنسان.
إن من لا يندفع إلى الأمام. يدفعة تيار الحياة إلى الوراء.
أن الفاقه تقتل أشرف الدواعى في النفس.
لو كان للتاريخ أن يسألنا ماذا تنتظرون؟ لقلنا المعجزة وهذا صحيح ولكن أتراه ميسورا
(3)
.
وهناك كتاب ثالث أصدرته تهامة لحمزة شحاتة بعنوان - الرجولة عماد الخلق الفاضل - وهذا الكتاب عبارة عن محاضرة طويلة ألقاها حمزة يرحمه الله في مقر جمعية
(1)
24/ 36 رفات عقل
(2)
41/ رفات عقل
(3)
44/ 49 رفات عقل
الإسعاف الخيرى بمكة المكرمة في شهر ذى الحجة عام 1359
(1)
وأستطيع أن أقول إني عايشت كتابة هذه المحاضرة أو على الأصح هذا البحث القيم، كما استمعت إليها مع الجمهور الذى حضر لاستماعها وكان حمزة يرحمه الله يشكو ألمًا في الحلق قبل إلقاء المحاضرة بيوم وقد عرض علي أن ألقيها نيابة عنه فاعتبرتها مزحة من مزحاته، وقد ألقاها واستغرق إلقاؤها أربع ساعات كما يقول الأستاذ عزيز ضياء مقدم الكتاب، وكان الشيخ محمد سرور رئيس جمعية الإسعاف يفضل لو أن حمزة جزأها وألقاها في عدة محاضرات بدلا من محاضرة واحدة لأن الوقت طال فعلا وهو يتكلم ولكن أحدا من الحاضرين لم يترك المكان أو الاستماع.
على أي حال إن القارئ لهذا الكتاب يشعر أنه أكثر من محاضرة تلقى في مكان عام يحضره جمهور متفاوت الثقافة والفهم والذوق، ولقد أحسنت تهامة بإصدار هذه المحاضرة في كتاب فهو للقراءة المتأملة المتأنية، وليس للإلقاء في حشد من الناس، ولو حاولت أن أصور المحاضرة أو ألخصها لما استطعت ولجاء هذا التصوير أو التلخيص في صورة مبتورة لا أرضى عنها ولا يرضى عنها أحد لهذا فإنني انصح القراء بقراءتها قراءة متأنيه والتأمل في معانيها في هدوء وأكتفى بأن أقتبس نتفا صغيرة منها وأنا أحذر القارئ سلفا وأعترف له بأنها لا تهدف إلى شيء أكثر من تشويقه إلى هذه القراءة وتحبيبه فيها فلنبدأ الاقتباس وأمرنا إلى الله - يقول الكتاب:
لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة، إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظ الصفات والمبادئ والنزعات يرتبط بحظ الداعين إليها والمتصفين بها من الإنجاح والفشل.
ويقول: ونحن نحلم بالقمم الشامخة، ولكنا نرجو أن نصحح مقياسا من
(1)
انظر ما كتبناه عن المحاضرات في هذه الجمعية في كتابنا أعلام الحجاز في ترجمة السيد صالح شطا.
مقاييسنا الفكرية ولو بالشك فيه، لأن الركود في تاريخ أمة تتطلع إلى ما وراء حدودها الجامدة شر من الخطأ.
ويقول كذلك:
والإيمان بالفضيلة قديم، كما أن الكفر بالرذيلة قديم، والحرب بينهما لا تزال قائمة، ما تهدأ لها ثائرة وهي سجال بينهما، ميدانها النفس الإنسانية تارة ومجال الحياة الظاهرة تارة أخرى وستبقى سجالا هكذا إلا إن أراد الله، فإذا انهزمت الرذيلة في مجال الحياة الظاهر لم تنهزم في مجالها الباطن فعرشها ما يزال موطد الأركان في النفوس.
ثم يقول: ولا مراء في أن الإيمان الكامل الصحيح بالفضيلة معرفة وعمل تقتضيه هذه المعرفة وإرادة وحرية.
ويقول أيضا:
وحب الوطن فضيلة ولا شك، هو فضيلة المتوحش والهمجى والاجتماعى والمتمدن وفضيلة قد تتسع وتمتد حتى تكون أساسا لحب الموطن العام للبشرية كما كان حب المأوى الخاص أساسا لحب الموطن الجماعى فالموطن القومي فهل كان أساسها إلا الضرورة؟ وهل كان الوطن عند الإنسان القديم إلا هذه المعاني وإلا قرابة مدلولاتها من حياته؟
ويقول كذلك:
كان الناس يتحاربون على سطح الأرض، صاروا يتحاربون في أعماق البحار وفى أجواء الفضاء.
كانوا يفتتحون المدن بالقوة، صاروا يفتتحونها، ويفتتحون النفوس والأفكار بتسميم عقائدها بالدعاية.
كانت الحرب حرب أجساد، صارت حرب أعصاب وعقول وأفكار، ليس هذا هو الفارق بين الأمس واليوم إنما هو الفارق بين إنسان الأمس وإنسان اليوم.
تقدم الذكاء والعقل والعلم، هزم القوانين المسلحة وهزأ بها لأنه أقوى منها.
ويقل أيضا:
كانت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم تضحية صادقة إلى آخر حدود طاقة النفس الإنسانية واحتمالها. كانت حياء يدفع الناس ألَّا ينهزموا في مواطن الجهاد، أمام الكثرة وأمام الموت المحقق كانت حياء لا يترك الغنى يأكل حتى يشبع الضعيف. وكانت مثلا أعلى تضربه قطعة لحم كما تضربه قافلة ضخمة يجلبها عثمان للتجارة فينفقها للحياء.
قطعة من لحم تطوف على بيوت الأنصار والمهاجرين مطافها الطويل حتى تعود إلى الأول، وكانت مثلا تضربه شربة ماء يدفحها جريح يعالج سكرات الموت، يستحي أن يشرب وهو يسمع أنين أخيه الجريح فيقول حياؤه ربما كان أحوج إليها مني فتدور يدفعها جريح إلى جريح حتى تعود إلى دافعها فإذا هو قد مات وإذا هم قد ماتو.
وأمسك عن الاقتباس بعد هذا الإبداع الذى نقلت إليكم صورة باهتة منه لتقرأوا بأعينكم وتستمتعو بقلوبكم.
أن كتاب الرجولة عماد الخلق الفاضل يمثل حمزة شحاتة كاتبا مفكرا رائع الأسلوب بعيد الغور ثاقب النظرات فإذا أردتم أن تعرفوا حمزة شحاتة الكاتب المفكر فاقرأوا هذا الكتاب.
ونكتفى الآن عن نثر حمزة شحاتة بما كتبناه عن رسائله ومذكراته وكتابه الأخير لنفتتح الحديث عن شعره وهو في القمة ليس بين شعراء بلادنا وحسب ولكن بين شعراء العرب في الوطني العربى كله.
حمزة شحاتة الشاعر
عرفت حمزة شحاتة في أواخر الأربعينات وكان يومها في العشرين من عمره وكان في هذه السن الباكرة شاعرا مرموقا يحتل مكانه بين كبار الشعراء في الحجاز وقد أطلعنى حمزة على قصائد له نظمت قبل ذلك بسنوات وهي في نفس المستوى العالي الذى عرف به شعره فيما بعد، لقد ذكرت في تراجمى لكثير من الأعلام أن بداياتهم دائما كانت تبشر بالإجادة والإبداع، أما حمزة فكان الإبداع سمته البارزة مند أن عرف الناس شعره، فهل أخفى هو ما لا يرتضيه من بداياته حتى يظهر للناس بالصورة المشرقة التي أراد بها أن يواجه الناس؟
أن كان ذلك فهو دليل جديد على تمكن حمزة من ناحية الفن الذى يزاوله فلا يطلع الناس منه إلا على الجودة والإبداع.
لقد تأخرت في الكتابة عن حمزة لأني لم أجد المراجع التي أرجع إليها بالنسبة لشعره، فلقد كان كلما نشر في حياته بعض القصائد المتداولة والتى سجلت في بعض المراجع ولكنها لا تطفئ الغلة لمن يعرف مقدار ما نظم من الشعر وخاصة بعد رحيله إلى القاهرة وبقائه بها السنوات الطوال.
والقصائد الوحيدة التي نشرت بانتظام كانت هي المباراة الشعرية التي حدثت بينه وبين الأستاذ محمد حسن عواد في صوت الحجاز والتى سنتحدث عنها حديثا مستقلا فيما بعد.
وهذه المجموعة على تعدد القصائد فيها وكثرة تعداد أبياتها لا تمثل إلا جانبا واحدا من الجوانب الشعرية لحمزة، وهو متعدد الجوانب فالحديث عنها لا يكون إلا حديثا مبتورا، لهذا فأني لجأت إلى الصديق الشيخ محمد نور جمجوم رجل الأعمال المعروف وهو صديق عمر الشاعر وصفيه ووصيه بعد وفاته لجأت إليه حيت علمت إنه يحتفظ لديه بمجموعة كبيرة من قصائد حمزة شحاتة، وكان الشيخ محمد نور جمجوم عند حسن الظن به فوضع بين يدي المجموعة الكاملة لشعر حمزة شحاتة وأضاف إليها القصائد المطبوعة بعد وفاته بعنوان "شجون لا تنتهى" وكذلك بعض
المؤلفات التي سجلت بعض قصائد حمزة، وكان لاطلاعى على المجموعة المكتوبة بخط الشاعر أكبر الأثر في تشجيعى على إظهار ترجمته وهي تحمل صورة لا أقول كاملة ولكني أرجو أن تكون وافية بإذن الله.
وقبل كل هذا أود أن أذكر أن صديقنا الشيخ محمد نور جمجوم باحتفاظه بهذه الثروة الشعرية ومحافظته عليها طيلة هذه العقود من السنين قد أسدى يدا عظيمة للشعر في هذه البلاد سيذكرها له المعنيون بتاريخ الأدب والشعر وخاصة حينما يظهرها إلى النور مجموعة بين دفتي كتاب كبير بإذن الله، والآن فلنفتتح صفحات هذا الكتاب أو هذه المجموعة التي ستكون كتابا لنختار من هذه العقود الثمينة بعض اللآلئ التي نتحف بها القراء، من هذا الكنز المخبوء.
نظم حمزة في فنون الشعر المختلفة وأبدع فيها أيما إبداع، والقارئ لمجموعة أشعاره يخرج بانطباع يصورا الشاعر متشائما بالحياة، هازئا بما اصطلح الناس على الاحتفال به والتطلع إليه حتى ليذكرك بالمعرى.
ما أرى في البقاء إلا علالات خيال مآلها التنغيص
والردى صائد النفوس فما فر كناس منه ولم ينج عيص
فعلام العناء يضني المجدين ويصلاه طاعم وخميص
يا لها رحلة برانا بها الجهد ولكن قد عز فيها النكوص
هذه زفرة متشائمة يرى فيها الشاعر أن لا جدوى من السعي في هذه الحياة والعناء فيها فالردى بالمرصاد لم ينج منه كبير ولا صغير.
ولكن متى وصل الشاعر إلى هذا، أنه جدَّ وكافح فلم يصل به السعي إلى نيل ما يريد.
قطعنا سبيل الغمر جهدا وراحة
…
نروم منى ضنت بهن العواقب
فها نحن والآمال رهن مصيرها
…
فلول روت مأساتهن الغياهب
ومنها
شقينا بما قد كان في مشرق الصبا
…
فها نحن في ما كان والعمر غارب
مرامي نضال طول الايْن عمرها
…
فطالت به آصارنا والمتاعب
إلى أين لا تدري وقد أبهم السرى
…
سوى أنَّ وهمًا في الدجنة ضارب
وفيم وغايات لمساعي موارد
…
تطيب بها للناعمين المشارب
ويختتم هذه القصيدة بهذا البيت:
وتقضى بما تلقى نفوس كريمة
…
وتدفن في ظل الخمول مواهب
وهذه قصيدة أخرى تذكرنا بأبي العلا كذلك
علام بكى الباكون في الحيِّ هالكا
…
وكل وجود شعلة سوف تطفأ
وهل يعقل المفجوع في غمرة الأسى
…
مقالك أن الصبر للحزن تطفأ
إلا ربَّ شاك من مساءة يومه
…
تطامن لليوم الذى هو أسوأ
تنبأت بالأحداث قبل وقوعها
…
فما حاطني مما حذرت التنبؤ
ومنها
تسائلني كيف انتهيت إلى الرضا
…
وما علمت أن العزائم تصدأ
أهبت بعزمي فاستجاب فردني
…
لسالف طوارى حياء ومبدأ
تشبهت بالساعين عزما واهبة
…
فأخرني أني عجلت وابطأوا
ومنها:
رأيت دروب العيش شتى لمن وعى
…
مسالكها واحترت من أين أبدأ
وقد حَظِيَ اللاهون بالصيت والغنى
…
فشادوا وسادوا وانتشوا وتبوأوا
وهذه قصيدة عنوانها إلى صديق
من ذاكر العهد إلى ذاكر
…
تحية الشاعر للشاعر
فيها الهوى الماضي بآثاره
…
مكتومها المطويِّ والظاهر
والود والصدق وذكرى المنى
…
في يومنا أو أمسنا الغابر
ومنها:
تحية الباكي على ما مضى
…
والهازئ الكافر بالحاضر
تؤوده أعباء إحساسه
…
مما يرى في كونه السادر
من صور العيش وأسراره
…
أعيت على القائف والزاجر
مكرورة في أبد آبد
…
مطوية في لجه الزاخر
من أين؟ لا تدرى وحتى متى؟
…
وأين مرسى فلكها الحائر
ما هي؟ ما الغاية من قذفها
…
على متون الثبج الثائر
ومنها:
تحية المفجوع في قلبه
…
وفكره وحظه العاثر
عاف الهوى والحسن مذ جافيا
…
إيمانه بالخلق الطاهر
وجانب الناس لما هاله
…
من شبه الفاضل بالفاجر
ويقول أخيرا
تحية الشاكي إلى مثله
…
والساهر المكدود للساهر
عاشا على ضنك سواء فما
…
هانا لمستعل ولا هاجر
حالاهما حال على سوئها
…
خليقة بالفخر من فاخر
وحلقا في الجو لم يعبآ
…
بجارح ينقض أو كاسر
ونكتفي بما أوردناه من هذه الصور المتشائمة لننتقل إلى صور أكثر إشراقا وأوفر بهجة تتجلى في شعره الغزلى الرائع.
يقول في قصيدة بعنوان نفيسه وهي من شعره في المهجر - في مصر -:
الهمت والحب وحمي يوم لقياك
…
رسالة الحسن فاضت من محياك
من أين يا أفقي السامي طلعت بها
…
حقيقة ما اجتلاها النور لولاك
كانت بنفسي وقد طال المدى حلما
…
فصورته لعينى اليوم عيناك
لم أشهد الحسن يبدو قبل مولدها
…
إلا صناعة أصباغ وأشراك
حتى برزت به في ظل معجزة
…
يضاعف الصدق معناها بمعناك
ومنها:
يا شاطئ النيل ما فاضت شواطئه
…
سكرا وعربدةً ألا ليلقاك
ولا استهل شراع فوق صفحته
…
مغالبا وجده الا ليلقاك
ولا سرت عبر مجراه نسائمه
…
إلا لتلثم في صمت الدجى فاك
ولا تنفَّس فجر في خمائله
…
إلا ليملأ عينيه بمرآك
ومنها:
يا منحة النيل يا أحلى روائعه
…
هل أنت من سحره أم قد تبناك
وهل ترعرعت طفلا في معابده
…
أم كاهن في ربا سيناء ربَّاك
أم كنت لؤلؤه في يمّه سحرت
…
فصاغك اليمَّ مخلوقا وأنشاك
أم أنت حورية ضاقت بموطنها
…
فهاجرته صنيع المضنك الشاكي
أم أنت روح ملاك حلَّ في امرأة
…
فخافك الملأ الأعلى فأقصاك
فضمَّك النيل في رفق فهمت به
…
حبا ووثَّقت نجواه بنجواك
ومنها:
يا فجر يا بدر يا زهر المنى ابتسمت
…
يا خمر يا جمر في إحساسي الذاكي
ما كنت قبلك إلا صادحا صمتت
…
به الهموم فلما لحت غنَّاك
ومنها:
الحب قلبان في مسراهما التقيا
…
فكيف الزمنى قيدى وخلَّاك
وفيم انفذ في قلبي إرادته
…
وقادني لمصيرى إذ تحاماك
لم يعطني منك إلا الحسن همت به
…
حتى استردك غيْر أنا وحاباك
وأين قلبك لم أسمع لخفقته
…
صدى ألم يعنه أني معنَّاك
ومنها:
يا بنت حواء هل بالدنِّ باقية
…
تغني فيشربها من ليس ينساك
فقد حملت غليل الوجد مرتضيا
…
نعماك ودا فلم أظفر بنعماك
اظمأتني وصرفت الكأس ظالمة
…
عني بثغر على الحالين ضحاك
ومنها:
طامنت من كبريائي فيك فاحتكمي
…
فالحب أرخص من قدرى وأغلاك
أنت الحياة بلونيها محببة
…
فما أرقك في نفسي وأقساك
فليت لي منك بالدنيا وما وسعت
…
يوما تجود به للوصل مسراك
والقصيدة طويلة تبلغ المائة بيت أو تزيد وكلها من هذا النسق العالي عاطفة ثائرة متدفقة، وديباجة مشرقة ناصعة وتسلسلا عذبا كالغدير الصافي لا تصدمك فيه لفظة موحشة أو كلمة نابية أو معنى دخيل وفوق كل هذا وذاك تحس فيه بهذا الوهج الذى يصهر القلب، ويثير العاطفة ويسيطر على الإحساس وهذا هو الشعر في صورته الرفيعة الحافلة بالجمال.
حمزة وقنديل
وهذه قصيدة أخرى بعنوان "لم أهواك" ولهذه القصيدة قصة يحسن بنا أن نذكرها فقد نشر الشاعر الأستاذ أحمد قنديل يرحمه الله قصيدة في صوت الحجاز بعنوان - "مالذي فيك" ومطلعها:
مالذي فيك يا معيدا إلى القلب صباه من بعد أن عاد كهلا
وهي من غرر شعر القنديل وقرأها حمزة وأعجب بها أيما إعجاب وكأنما كان هذا الإعجاب بالقصيدة وما تضمنته من المعاني الجميلة الرائعة باعثا له على نظم قصيدة لم أهواك ومطلعها:
يا حبيبي يا ملتقى السحر والفتنة
…
يا غالبي على أمر نفسي
لم كانت ولا أسومك لوما
…
قسمتي في هواك قسمة وكسى
الانى آثرت في حبك القاهر
…
عزى ذهبت تطلب تعسى
ثم يتساءل:
لم أهواك؟ أيها المفعم النفس شجونا وحيرة وشقاء
الحسن؟ فالحسن في البدر والزهرة أندى وقعا وأضفى رواء
أم لمعنى شفت مفاتنك العذبة عنه فكاد أن يتراءى
فالمعاني في الكون ليست على الإنسان وقفا إلا هوى ودعاء
ومنها:
فتراها في قطعة الأرض والصخرة شعرا لم يبله الترديد
وتراها في نامة الظبي للظبية سحرا يبدى وحبا يعيد
وتراها فيما ترى من جميل
…
وقبيح وهين وعظيم
صورا حية يناجيك منها
…
ألف وجه من كالح ووسيم
كل وجه دنيا بتاريخه النابض
…
تصبي بحادث وقديم
وفضاء لا يعرف الحد والقيد
…
ولا وغرة الضنى والسهوم
ومنها:
أتراني أهواك حقا؟ فما فيك لمثلي معنى يمازج حسي
أم تراني اهواك زورا؟ فلم يصبح قلبي على هواك ويمسى
أم تراني أحب فيك وما أشعر نفسي وأنت عندى نفسي
لأنا منك في سبيل من الحيرة
…
تضني عقلي وتثقل حدسي
والقصيدة طويلة في أكثر من ستين بيتا وهي حافلة بهذه المعاني التي يتساءل فيها الشاعر لم يهوى حبيبه ويدفعه هذا التساؤل إلى الشك ولكن الإحساس الذى
يعانيه يرده إلى دنيا الواقع وبين هذا الشك وتساؤلاته، والواقع وإحساساته تتجلى هذه الروائع التي أبدعها الشاعر فنا معجبا وشعرا مطربا يشرق فيه الفكر، كما تشرق فيه العاطفة أيما إشراق.
وما دمنا نتحدث عن علاقة القنديل بحمزة وهما صديقان حميمان جمعت بينهما الصداقة في آواخر الأربعينات فهناك قصيدة أخرى لحمزة أو على الأصح قصيدة للقنديل أوحت إلى حمزة بنظم قصيدة من أجمل قصائده، هذه القصيدة هي قصيدة جدة وهي من مشهور شعر حمزة، وقد سجلت بعض أبياتها في نصب في مغنى الكورنيش على ساحل البحر الأحمر في جدة.
أما قصيدة قنديل فقد نشرت كذلك في صوت الحجاز وأعجب بها حمزة فكانت سببا في إظهار رائعته الشهيرة عن جدة. وقصيدة قنديل مطلعها:
لك يا جدة الحبيبة في القلب مكان محبب مألوف
طار فيه صدى الجديدين بالأمس وما زالت الحياة تطوف
أما قصيدة حمزة فمطلعها:
النهى بين شاطئيك غريق
…
والهوى فيك حالم ما يفيق
ورؤى الحب في رحابك شتى
…
يستفزُّ الأسير منها الطليق
ومعانيك في النفوس الصديَّات
…
إلى ريِّها المنيع رحيق
سحرته مشابه منك للخلد
…
ومعنى من حسنه مسروق
كم يكرَّ الزمان متئد الخطو
…
وغصن الصبا عليك وريق
هذا وإني لأخشى أن الاقتباس هنا يفسد تسلسل المعنى فالقصيدة وحدة كاملة مترابطة الأجزاء ولوتركت لنفسي لأثبتها كاملة ولست أقصد لهذا وإنما أنا أرمي إلى إعطاء القارئ صورة مصغرة عنها فليرجع إليها كاملة من أراد الاستمتاع حقا بما فيها من المعاني والصور الرائعة.
ومنها
أنت دنياي رفافة بمنى الروح
…
وكونٌ بالمعجزات نطوق
رضى القيد في حماك فؤاد
…
عاش كالطير دأبه التحليق
ما تصبته قبل حبك يا جدة
…
دنيا بسحرها أو عشيق
حبذا الأسر في هواك حبيبا
…
بهوى الفكر والمنى ما يفيق
منهجى فيه منهج الطائر الآلف
…
ينزوا به الجناح المشوق
فإذا همَّ اشغلته فروض
…
من هواه واثقلته حقوق
وهذا معنى جديد في حب الوطن صاغه الشاعر في هذه الصورة البارعة الساحرة تابى طبيعة مزاج الشاعر إلا أن تظهر في هذه القصيدة كما تظهر في كل شعره فيقول:
كم معنى مثلي يطارحك الحب
…
فينبو به السبيل الزليق
ودعيٌّ يصطك في فمه القول
…
عثارا مكانه مرموق
أمن العدل أن يشاركني فيك
…
جبان عما اريغ فروق
وقصاراه في هواك هوانا
…
أمل ضارع ووجه صفيق
لا تلومي على عتابك حرًّا
…
قلبه منك بالجراح شريق
والقصيدة كذلك في نحو ستين بيتا وهي من أروع الشعر وأعذبه، وأودُّ هنا أن أنبه القارئ إلى أن مجاراة شاعر لشاعر في النظم في موضوع معين لا يعيب الشاعر ولا ينقص من مكانته، فالشعر فن يتصل بالعاطفة في صورها المختلفة وقد يتفق الشعراء في المعانى بل وفى الألفاظ وفى الموسيقية الشعرية ولكن هذا لا يقدح في قدراتهم وللنقاد مقاييس يلجأون إليها في هذه المواقف ليس هنا مكان بسطها، وبالنسبة للشاعرين فكلاهما عبر عن الموضوع بإسلوبه الخاص، وهو أسلوب متميز عن أسلوب الآخر، وقد تصرف حمزة في كلا الحالتين تصرف الشاعر القادر المتمكن، ولقد كان شوقي يعارض قدامى الشعراء في روائعهم فينسج قصائده على مثل القافية والوزن، وقال الرافعى رحمه الله واصفا ذلك من شوقي فأراهم غباره ووليَّ ولكنه وقف عند المتنبي، وقول الرافعى هذا كان في مجال الأكبار لما صنع شوقي وليس في مقام الأزراء عليه.
ونكمل الآن حديثنا عن حمزة والقنديل بالشعر الضاحك الذى اشتهر به قنديل فنقول إن حمزة نظم هذا الشعر ولكنه احتفظ فيه باللفظ الفصيح ولم يلجأ إلى اللهجة العامية كما فعل قنديل وأذكر هنا بعضا من قصائده التي عثرت عليها في هذه المجموعة التي تصور هذا النوع من الشعر الضحاك ولكني أنقل هنا من كتابي أعلام الحجاز ما ذكرته عن بداية قنديل في نظم هذا الشعر وعن القصيدة التي نظمها حمزة منه في مناسبة من المناسبات، كانت دار الهلال في القاهرة تصدر مجلة أسبوعية اسمها الفكاهة وهي مجلة فكاهية كما يدل عليها اسمها، وكان يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ حسين شفيق المصرى وهو شاعر مجيد وزجال مصرى معروف، وكان الأستاذ حسين شفيق فيما أعرف هو أول من نشر الشعر الضاحك في أسلوب عامي، ولكن هذا الشعر العامي كان يحتفظ بالوزن والقافية، وكانت الطريقة أنه يفتتح القصيدة بمطلع قصيدة من عيون الشعر العربى القديم ثم ينسج على منوالها كلاما موزونا مقفى تختلط فيه العامية بالعربية الفصحى وكانت مواضيع هذا الشعر دائما انتقادية ولكنها في أسلوب فكاهي مقبول، وكنا نجتمع في مكة المكرمة مع الأستاذين حمزة شحاتة وأحمد قنديل رحمهما الله وجاء يوما ذكر هذا الشعر الذى كان يسميه الأستاذ حسين شفيق المصرى الشعر الحلمنتيشي - فسأل حمزة قنديل أن كان يستطيع النظم على هذا النسق فأجاب قنديل بالإيجاب وفى اليوم التالي بدأت المحاولات الأولى للقنديل في هذا الشعر وكانت موفقة جدا وما هي إلا فترة بسيطة حتى بدأ القنديل في نشرها في صوت الحجاز ووجدت صدى شعبيا واسعا واستقبالا حسنا .. الخ
ثم قلت بعد ذلك ولعل معظم القراء بل والأدباء لا يعرفون أن المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة ينظم هذا الشعر ولكنه لم يستمر عليه، وإنما نظمه مرة واحدة أو مرتين وله قصيدة جميلة أذكر بعض أبياتها فيما بعد، وهذه القصيدة لها قصة لا بأس من إيرادها، فقد عُلم أن العراق سيرسل بعثة كشافة إلى المدينة المنورة ومكة، ولعل ذلك في زمن الحج وارادت الحكومة أن تكرم كشافة العراق فأعدت لهم برنامجا
حافلا كان من ضمنه إقامة حفل تكريم لهم في جدة وتولى الأخ الشيخ محمد عبد الله رضا يومها أمر ترتيب هذا الحفل الشعبي فأرسل دعوة إلى شباب مدينة جدة للحضور إلى منزله ودعاهم للتبرع لإقامة هذا الحفل، ولكن المرحوم حمزة شحاتة لم يدع إلى هذا الاجتماع مع أننا كنا جميعا على علم بالحفل الذى كان سيقام في بيت نصيف، وكان صديقنا المرحوم الأستاذ حسين محمد نصيف - مؤلف كتاب ماضي الحجاز وحاضره - يخبرنا يوميا عن هذا الحفل ويحثنا على الحضور فيه، وغضب حمزة لعدم دعوته من قبل الشيخ محمد عبد الله رضا فأنشأ قصيدة ضاحكة صور فيها ما وقع من المجتمعين للتبرع في أسلوب ضاحك جميل والقصيدة أخذ مطلعها من قصيدة أبي تمام المشهورة:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
…
ويضرب سيف الله أيان تضرب
وبالأمس قد أرسلت حتة دعوة
…
إلى فتية بالصالحات تحزبوا
فلم تك إلا ساعة أو دقيقة
…
تجاروا سراعا بعدها وتكركبوا
ومنها يصف كيف حاول المجتمعون الهرب حينما علموا أن عليهم التبرع للحفل:
وبصوا إلى الباب الكبير ليهربوا
…
ولكن باب الدارما منه مهرب
لأن حواليه الحضارم وقَّفٌ
…
وفى يد كل منهمو كان شبشب
ثم يصف ملابسات التبرع
فقام فتى منهم حريئ حجنجل
…
فجاد بربع ريال فانبروا وتعجبوا
وقالوا استحى ياسي فلان فإنه
…
قليل ومن يكتب قليلا يؤنب
فقال لهم ليش نسبتي تقتضى كدا
…
فإن راقكم قولي وإلا فاحسبوا
فبان حماس فوق وجه زعيمهم
…
فسجل عشرينا وقد كاد يغضب
والقصة أن المرحوم الأستاذ محمد لارى - والد الأستاذ رضا محمد لارى - كان من ضمن من حضروا الاجتماع فجاد بربع ريال فقال المجتمعون أنه قليل فقال
لهم أنه ليس قليلا بالنسبة لما تبرع به الشيخ محمد رضا فتحمس الداعي وسجل عشرين ريالا أخرى وسواء أكانت القصة حقيقية أم من خيال الأستاذ حمزة رحمه الله وأغلب الظن أنها حقيقية فإن إيرادها على هذا النحو في هذا الشعر الضاحك كان مناسبة يتفكه بها مجتمع جدة كلها، فكاهة تخلو من الحرج والبذاء
(1)
وهنا قصيدة تبدأ بهذه الأبيات:
ماذا وقوفك بالأطلال والدمن
…
موزع النفس بين الشعر والشجن
يرمي بك الوجد في صحراء مجدبة
…
طوت حياتك طي البحر للسفن
تهيم فيها شريدًا لا قرار له
…
وترسل الدمع مدرارا بلا ثمن
ثم يقول بعدها
(بعزقت) عمرك لا الأحباب منك دنوا
…
ولا بلغت مكانا في ذوى الفطن
الكاسبين ملا يينا وما كدحوا
…
وأنت في قفص من عقلك الزِّمن
تمرجلوا واستغلوا كل سانحة
…
من المصالح في سرٍّ وفى علن
وقدت انت رعيل الفن متكئا
…
على مبادئ سقراط واهر من
ومنها:
وكان درسك فيها لو فطنت له
…
درسا تفيق به من سكرة الوسن
إذ قام يصرخ والملقاط في يده
…
كالسيف يهتز في كف بن ذى يزن
وجاء من كركون الريع ضابطه
…
على الزعيق وحشد من ذوى حسن
وكان يوما تشاطرناه بهدلة
…
وكنت فيه وحدى دافع الشلن
كيوم وقعتنا بعد الغداء على
…
قرشين لم يدفعا في مطعم البُيِنِ
خرجت فيه بلوح الكتف منخلعا
…
ورحت خلفك فيه دارم الأذن
(1)
انظر كتابنا أعلام الحجاز صفحة 22 - 26.
تجاربٌ وحشة خضنا معاركها
…
وكان شعرك فيه مصدر المحن
اما لنا غير قرض الشعر مشغله
…
نقضى بها فضل عمرينا على سنن
إلا وظيفة نرجوها ولو صغرت
…
نقضي بها دين راعي العيش واللبن
ونستردُّ بها في الناس سمعتنا
…
بعد الضياع بلا شعر ولا سفن
وحسبنا ما لقينا من بهادلها
…
وأنها مهنة من أخسر المهن
ويقول في آخرها
فما وراءك إلا النحس ملتطم
…
الأمواج في دهمل ارطالا ودهملني
وأيه لزوم كلامي منت عارفه
…
مذ ضاع عمرك بين الشام واليمن
وداب ضهرك بين الآخذين به
…
رقعا تمثَّلت فيه لعبة الأنِنِ
قد شدتها من صميم الفن أبنية
…
فهل بنيت بها حوشا من اللبن
بل نمت في دكة الزيدان منطرحا
…
على البلاط طوال الصيف كالورن
لا انت ضيف فيرجى يوم رحلته
…
ولا انت في نفقات البيت ذا شطن
وزغت من فندق التيسير لا هربا
…
من نامس الليل بل من اجرة السكن
باظت حياتك ماضيها وحاضرها
…
ما دام شعرك فيها عقدة الكفن
وخضت من غمرات الصبر أحلكها
…
في قهوة السد أو فى مقعد اللبني
والقصيدة كما يرى القارئ صورة لشاعرين صديقين يندبان حظهما العاثر بعد أن صفرت أيديهما من المال، كما خلت أوقاتهما من العمل، وكيف تعرضا للفضائح في مركز الشرطة بالريع - والريع كما لابد وأن يعلم القارئ هو باب الريع في مدينة الطائف وهو مسرح هذه القصيدة أما المعركة التي تعرضا فيها لخلع الكتف وورم الأذن فهى في مطعم بُينُ وبُينُ هذا كما لابد أن يعلم القارئ صاحب مطعم شهير للأكل الجاوى في مكة المكرمة أما الأنن الذى ورد في البيت:
وداب صهرك بين الآخذين به
…
رقعا تمثلت فيه لعبة الانن
الأنَنِ هذه لعبة شعبية يغمض فيها أحد اللاعبين عينيه، ويضربه أحد اللاعبين حوله وعليه أن يمسك اليد التي صفعته أو على الأقل يميزها فإن اهتدى إليه حل
الضارب محله وإذا فتح المضروب عينيه هز الجميع حوله أياديهم وهم يقولون إننن، إننن أما الزيدان فهو صديقنا الكاتب والمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان والمعروف للجميع وكان له منزل قروى في مدينة الطائف ولعلهما كانا ضيفين عليه.
أقول والقصيدة كما ترى فصيحة في جملة تعابيرها بإستثناء بعض الألفاظ التي وضعناها بين قوسين والفارق بين ما نظمه قنديل من الشعر الضاحك أن قصائد قنديل تغلب عليها العامية ألفاظا ومصطلحات وأمثالا، بينما يحتفظ حمزة بالألفاظ الفصيحة .. باستثناء بعض الكلمات وعلى أى حال فإن ما نظمه حمزة من هذا النوع من الشعر لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة عددا بينما أن قنديل نظم الكثير من هذه القصائد والرباعيات حتى أصبحت له دواوين كاملة منها.
حمزة شحاتة والعواد
المعركة الشعرية العظيمة التي دارت بين الشاعرين حمزة شحاتة والعواد في النصف الثانى من الخمسينات أو في أوائل الستينات أن لم تخنى الذاكرة معروفة في أوساط الأدباء، دارت رحى هذه المعركة على صفحات جريدة صوت الحجاز قصائد شعرية تبادلها الطرفان بعد أن رمز كل منها لنفسه باسم مستعار أخذ حمزة لنفسه اسم الليل رمزا واتخذ العواد لنفسه اسم الساحر العظيم رمزا وبدأت المعركة بقصائد رمزية ينتصر فيها كل منهما لنفسه تحت ستار الحرب بين عناصر الطبيعة وما إليها وقد تحولت المعركة بعد ذلك إلى هجاء مقذع تناول الأعراض ولم يكن ينشر بصحيفة صوت الحجاز وإنما كان يكتب باليد ويوزع على أحياء مكة
(1)
ونواديها وشاع أمر هذا الهجاء وذاع حتى بلغ إلى سمع المعنيين في الحكومة فخاف الشاعران وطوى كل منهما هذه الصفحة السوداء بعد أن انزلق معهما في هذا الطريق الأستاذان أحمد قنديل ومحمود عارف وكانت القصائد التي نظمها حمزة في هذه المعركة ونشرها مفقودة بينما أن العواد اثبت قصائده في ديوانه الشعرى لعلها تحت عنوان (يد الفن تحطم الاصنام وهي تمثل، جزءًا هاما من شعر العواد ويسرني أن أذكر هنا أني وجدت القصائد التي نظمها حمزة ضمن المجموعة التي احتفظ بها صديقنا وصديقه الشيخ محمد نور جمجوم وإنه ليسرني هنا أن اثبت بعض مقاطعها، وحينما يتم نشر ديوان حمزة شحاتة وتنشر فيه هذه القصائد سيتمكن الدارسون لشعر الشاعرين من الحكم في هذه المعركة الشعرية التاريخية إذا صح هذا التعبير.
ملحمة
هذه الملحمة تتكون من سبعة عشر مقطوعة كل مقطوعة تتألف من خمسة أبيات، وهي تصور مفاخرة بين البحر والعاصف يرويها الليل، وقد رمز حمزة لنفسه بالعاصف ولخصمه العواد بالبحر وتبدأ الملحمة هكذا:
(1)
انظر تفاصيل أوفى عن هذه المعركة في كتابنا أعلام الحجاز في الحلقة الخاصة بمحمد حسن عواد.
حدث الليل والحديث شجون
…
وحديث العظيم لهوٌ وجَدُّ
تتلهى به نفوس الخليلين
…
ويعنى بلبه المستمد
قال: كانت عناصر الكون كالاحياء قدما تروح فيه وتغدوا
لم يقيد كل بقانونه الصارم
…
والقيد حاكم مستبد
فتلاحت يوما وجدبها الشر
…
وللشَّرِّ ثورة ما تُحَدِّ
وادعى كل عنصر قصب السبق
…
وادلى بحجة المتحدى
قالت النار، انني عنصر الفتك
…
إذا اورت المطامع زندى
اتلقى الحديد بالجاحم المودى
…
واردى الصلاب إن جد جدى
ويعيد الاجرام حرَّى رمادا
…
وينير السبيل ضوءًا ويهدى
انا للكون بدء تاريخه النابض
…
مذ قلت يا حياة استعدى
هكذا قالت النار فاجاب التراب أنه هو العنصر الذى صنع منه الإنسان والوحش والنبت فهو سر البناء ولم يكن للوجود أصل لو لم يكن التراب فاندفع البحر غاضبا قائلا:
قال ماذا الست من يطفئ النار
…
إذ آذنت بوشك شبوب
الذى يسكن العناصر أن ثارت
…
وتعنوا من خيفة ووجيب
والذى اغرق الشواطئ لو شاء
…
وجاز الأمداء غير هيوب
ثم يقول:
حدث الليل قال واندفع البحر يظن الشطآن كل الوجود
ومنها
من له بالجبال ترميه بالهزء
…
صنيع القوى بالمكدود
شامخات إذا تطامن بحر
…
أو تنزى به عرام الحقود
من له بالنجوم بالبدر بالشمس اليست بصيرة وهو اعمى
من له بالطيور تسبح في الجو خفافا معنى وروحا وجسما
من له بالنسيم بالريح بالعاصف تغزو الحياة حربا وسلما
ثم:
حدث الليل قال واستقبل العاصف هذا الطاغى الجهول وهما
همَّ فارتَدَّ فارتمى فطوى الدنيا حياة ومسرحا وخضمَّا
هذه هي المعركة مفاخرة بين العناصر تنتهى بالعاصف يثور على البحر فيطويه فاذ بالبحر يلفظ كلما اشتمل عليه وإذا شطآنه ساكنة هادئة، وإذا به يرجف من هول ما لقي من العاصف فيرتد إلى قرار مهين.
واستنجد البحر فلانا أو قال طودا أشمَّا
معلنا ضعفه وقد آنس الموت عيانا يدعو الضراعة حزما
وترامى إليه يلتمس العون والقى قياده واستذما
قال هيهات أن يجير من العاصف طود يرى غرورك جرما
بيد اني محاول لك ما رمت وملق على سجاياى غرما
هكذا وسط البحر الطود حتى يرحمه العاصف مما حل به من المصائب والخذلان، فيمشى الطود بالوساطة الكريمة التي تنتهى بعفو العاصف عن البحر فكم كان هذا العاصف كريما عظيما.
حدث الليل قال ما أكرم العاصف، ما أكرم القوى الرحيما
والقصيدة كما ترى فن مبدع في وصف خواص العناصر الطبيعية في أسلوب مفعم بالحماسة والمفاخرة يذكرنا بالملاحم اليونانية في الالياذة عن أساطير اليونان.
ولم يكتف حمزة بهذه الملحمة التي لخصناها عن البحر والعاصف والتى يرويها بلسان الليل فاتبعها بملحمة عظمى تتكون من خمس وأربعين مقطوعة وتزيد
أبياتها على مائتين وعشرين بيتا ووجهها إلى الساحر العظيم تتناول الموضوع ذاته بأساليب شتى ولن نقتبس منها خشية الاطالة.
وفي القصيدة الثالثة - الليل والشاعر - تحول فيها الشاعر إلى تمجيد الليل، بعد أن استكملت ملاحم البحر والعاصف اغراضها فيما يبدوا - فاتخذ الليل رمزا له واكتفى باقتباس بعض أبياتها:
يا ليل يا ليل الهوى والرؤى
…
يا ملتقى الفن وديوانه
ويا شعاع السحر يا نبعه
…
ومشعل الفكر وربانه
يا نافث الفتنة رفافة
…
وعبقر الشعر ودهقانه
تلقِّن المطرب الحانه
…
وتلهم الشاعر اوزانه
رداؤك الأسود ملقٍ على
…
الدنيا رؤى الحسن وأفنانه
وإلى جانب ما ذكرنا قبل هناك ثلاث قصائد أولاها بعنوان ضلاله، والثانية موجهة إلى الصنم الخاوى وعصبته والثالثة بعنوان إلى، والقصائد في مجموعها كسب للأدب والشعر لأن التنافس بين الشاعرين حفزهما إلى الإبداع، والشعر لا يصدر إلا عن حوافز عظيمة، والحافز هنا هو طلب النصر في معركة أدبية يشاهدها الناس ويترقبونها وتسرى أنباؤها في كل مكان.
أن القصائد التي نظمها حمزة في هذه المعركة الشعرية تمثل ديوانا قائما بذاته يتميز بوحدة الموضوع، كما يتميز بالشاعرية الأصيلة والإجادة البارعة لشاعر عظيم.
حمزة وبناته
تزوجت شيرين وتركت بيت أبيها وكانت تقوم بوظيفة الأم وسيدة البيت فهى الأخت الكبرى لاخواتها الصغار، ولقد سجل حمزة واقع البيت بهذه القصيدة الجميلة التي يوجهها إلى شيرين:
وكما تركت البيت ما زالا
…
قلقا واعباء وأطفالا
ومعاركا بين الصغار غدا
…
حُلم النظام بهن أطلالا
أخذت كتابى ضيعت قلمي
…
شدت يدى قفزت على ظهرى
ذات الحياة وربما اختلفت
…
عما كرهت، ونحن لا ندرى
* * *
فإذا الصباح اطل خضناها
…
حربا يكون وقودها اختى
عامان مرَّا أو لعلهما
…
هذى تقول حذاؤها ضاعا
زلفى تسائل اين مريلتي
…
وسهام تبحث عن حقيبتها
وتصيح ليلى لم اجد قلمي
…
فتجيبها نجلا بدمعتها
وأنا صحوت فلم أجد كتبي
…
ويجد أهل البيت في الطلب
كلثوم
وهناك قصيدة بعنوان كلثوم وفيها يتحدث الشاعر إلى طفلة لا أدرى مكان قرابتها منه ولكن في القصيدة لمسة إنسانية رقيقة لا يملك القارئ الا امشاركة الشاعر شعوره إزاء هذه الطفلة التي تعلق بها ويوجه إليها حديثه قائلا:
حدقي في عابسا أو طروبا
…
لا تراعى لظاهرى أو تسرِّى
لك مني صدر رحيب وإن
…
ضاق بما في الحياة ذرعا فقرِّى
والصقى وجهك الصغير بكتفي
…
وكلى لليدين تجميش صدري
وإذا شاقك الوصول إلى رأسي
…
لكي تعبثي قليلا بشعرى
فاقفزى قفزة المجازف في رفق
…
تكوني في لحظة فوق ظهري
وافعلي بي ما شئت وافترضيني
…
لعبة بادلتك فرأ بكرِّ
فقريبا ستصبحين فتاة
…
لا ترى الشمس حسنها ذات خدر
ليت شعرى ماذا تكون حياتى
…
أن خلت منك يا نضارة عمرى
اقسمي لي بحب أمك الا
…
تتناسي في يوم عرسك ذكرى
ومنها:
سوف أحيا نعم ولكن حياة
…
تتهادى بها أعوامل قهر
قانعا من اليم عيشي بالذكرى
…
أداوى مريرها بالأمر
وأقدر أن هذه القطعة من شعر الشاعر في صدر شبابه قبل أن يتزوج وأن يصبح أبا لخمس بنات، وهي على أى حال من أعذب الشعر وأطربه.
الحنين إلى الوطن
هاجر الشاعر إلى مصر وابتعد عن الوطن وطالت غربته فكان الحنين يعاوده إلى مغانى بلاده وفى هذه القطجة بعنوان وج يعبر الشاعر عن هذا الحنين، ووج كما يعلم القراء هو واد مشهور في مدينة الطائف.
وج
أن وُجًا وسامح الله وجا
…
لم يدع لي إلى السلامة نهجا
كان ليلي به مسيلا من النور
…
يغشى جوانب العيش وهجا
فانا اليوم بعده في ظلام
…
انتحيه وعمرا اطويه لجا
بين قيدين من حنين وعجز
…
كلما قرت المراجع لجا
يا رمال الوادى الحبيب تناسيت
…
طويلا هذا العليل المسجَّى
أنه جارك القديم ونجواه
…
لعهد من الوفاء مرجى
اطلقت ذكرياته دمع عينيَّ
…
بما سرَّ في هواك واشجى
اترانى إليك استقبل الفجر
…
ملاذا بعدوتيك ومنجى
كذب العيش بعد يومك يا وج
…
مريرا والعمر بعدك فجا
الشعر الحر
لحمزة شحاتة قصائد قليلة من الشعر الحر ولكنها لا تتجاوز أَصابع اليد الواحدة وجميعها مما أنتجه الشاعر وهو في مصر والمتأمل في بعض هذه القصائد يجد أنها تحتفظ بالموسيقية بل أنها تلتزم في بعض المقاطع بالقوافي حتى ليخيل للقارئ انها من الشعر العمودى وإن تعددت فيها الأوزان والقوافي وسنورد بعض المقاطع منها استكمالا لتصوير جوانب شعر حمزة شحاتة.
أما أنا فقد انتهيت
…
وشربت من حلو الكؤوس
ومرها حتى ارتويت
…
وبلغت من غايات حبك
ما كرهت بما اشتهيت
…
وافقت من حلمي الجميل
على الحقيقة
…
وهي كابوس ثقيل
وتسللت من حاضرى
…
أوهام ماضيك الحفيل
وفرغت من رهب الخيال
…
فلا أشتياق ولا غليل
وإذا كان الشعر الحر يتخذ هذا السمت فلا اعتراض عليه وعلى أى حال فإن الحكم على ما أنتجه حمزة شحاتة من هذا الشعر سواء انتظمت فيه الموسيقية أو لم تنتظم بالقياس إلى المجموعة الضخمة من قصائده الغراء من الشعر العمودى، هذا الحكم سيكون ميسورا للنقاد والقراء حينما تنشر هذه القصائد مع ما ينشر من شعره كله بإذن الله.
الكلمة الأخيرة
وبعد فكل هذا الذى قدمته للقارئ إنما هو زهرات مقتطفة من هذه الروضة الغناء لشاعر عظيم، ظهرت عبقريته الشعرية منذ بواكير إنتاجه وهو في مطلع الشباب، وريق العمر، وهو يذكرك حينما تقرأه بفحول الشعراء العرب في العصر العباسي أمثال مهيار الديلمي والشريف الرضي واضرابهما من كبار الشعراء والقارئ للديوان يجد هذه الملامح واضحة في شعره، ديباجة مشرقة وكلمات ناصعة وسلاسة تركيب، وتدفق كل هذا تنتظمه عاطفة شعرية حارة تحس فيها
بهذا الوهج الذى انصهرت فيه عواطف الشاعر وأحاسيسه حتى خرج إلى الناس بيانا هو الإبداع الذى لا يتأتى إلا للموهوبين والعبقريين.
عازف العود
هذا ولعل مما يحسن ذكره أن حمزة رحمه الله كان إلى جانب إبداعه في الشعر والأدب عازف عود مجيد، وقد كانت له مكتبة للتسجيلات يحتفظ بها ويرجع إليها وكانت هذه المعزوفات مسجلة على الاسطوانات، فلم يكن الكاسيت قد عرف يومها لأكابر الموسيقيين العرب والشرقيين وكان يستمع إليها كلما كان يعزف بانتظام.
لقد كان فنانا أصيلا، أخذ بجوانب متعددة من الفنون فهو كاتب، شاعر، عازف، مفكر فنان هذا وقد توفى حمزة في القاهرة في 12/ 12/ 1390 هـ ونقل جثمانه إلى مكة المكرمة حيث دفن بها.
رحم الله حمزة شحاتة وغفر له فلقد كان من أعلام الشعراء ليس في الحجاز فحسب وإنما في بلاد العرب جميعا.
* * *
عبد السلام طاهر الساسي
عبد السلام طاهر الساسي
قصير القامة، نحيل الجسم، قمحي اللون، تكسو وجهه صفرة، واسع العينين، كبير الأنف ناتئ الجبهة، لم يكن يطلق لحيته ولكنه لم يكن من المواظبين على استعمال شفرة الحلاقة، فغالبا ما ترى الشعر النابت يكسو عارضيه وشاربه، ذكى تبدو أمارات الذكاء في عينيه. يرتدى الكوت ويعتمر بالعقال ولا يرتدى العباءة إلا في المناسبات والواجبات.
ولد عبد السلام رحمه الله في عام 1335 هـ بالمدينة المنورة وتعلم القراءة والكتابة في كُتَّاب الشيخ محمد بن سالم وكان له كُتَابٌ لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن في باب المجيدى داخل المسجد النبوى الشريف، وقد أزيل هذا الكُتَّابٌ مع الجزء الذى أزيل من المسجد النبوى الشريف حين أجراء العمارة التي أمر بها جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وتمت في عهد جلالة الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله.
مات والد عبد السلام صغيرا وتركه في كفالة أخيه الأستاذ عبد الله الساسي رحمه الله وهو من رجال التعليم، انتقلت وظيفة عبد الله الساسي إلى مكة في عام 1346 هـ فانتقل عبد السلام بصحبته إليها حيث ألحقه أخوه بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة فحفظ القرآن الكريم وحصل على الإجازة بذلك ولكن عبد الله الساسي لم يستقر به المقام في مكة المكرمة فنقل إلى جده في عام 1348 هـ وانتقل
عبد السلام معه إليها والتحق بالمدرسة السعودية فيها حتى حصل على الشهادة الابتدائية وتخرج منها.
ونما هذه المدرسة اتصلت أسبابه لأول مرة بالمرحوم الأستاذ محمد حسن عواد الذى كان مدرسا بها بعد أن انقطع عمله بمدرسة الفلاح إثر ظهور كتابه خواطر مصرحة وما ثار بسببه من الجدل الذى أدى إلى محاكمته بعد
(1)
.
يقول عبد السلام وكان من أساتذته في هذه المدرسة الأستاذ محمود محمد شاكر والأستاذ الشيخ حسن أبو الحمائل أما الأستاذ محمود محمد شاكر فكان قد قدم مهاجرا من مصر بعد أن وقع بينه وبين الأستاذ الدكتور طه حسين رحمه الله من الخلافات ما آثر به البعد عن بلده ولقد ألف الأستاذ محمود محمد شاكر وهو من أدباء مصر الكبار كتابين خصص واحدا منها للحديث عن معاركه مع طه حسين وغيره من أدباء مصر والتالى حول بحثه الخاص بالمتنبي الشاعر العظيم.
بعد أنْ حصل عبد السلام على الشهادة الابتدائية انتقل مع أخيه مرةً أخرى إلى مكة المكرمة فعمل في وظائف كتابية صغيرة كثيرة كما كان الحال بالنسبة لأمثاله من حديثي التخرج، عمل بإدارة الأمن العام في مكة المكرمة كما عمل في إدارة سيارات الحكومة، وناسخا على الآلة الكاتبة في وزارة المالية ولم يطل به المقام في الحجاز فانتقل للعمل في منطقة الأحساء كاتبا في جمرك أم رضمه وانتقل منها إلى ممثلية المملكة في الدمام وكان هذا الاسم يطلق على المكتب الذى يقوم بالتنسيق بين الدولة وشركة ارامكو.
وفى عام 1360 هـ عاد إلى الحجاز فالتحق بالعمل في وظائف شتى بوزارة المالية حتى انتهى به الأمر إلى أن عين رئيسا لمكتب مشروع توسعة الحرم المكي الشريف
(2)
(1)
انظر تفصيل ذلك في كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر.
(2)
استقينا هذه المعلومات من الترجمة التي كتبها عبد السلام عن نفسه، انظر صفحة 62 الموسوعة الأدبية الجزء الثالث.
عشق عبد السلام رحمه الله الأدب فكان يلتهم كلما يصل إلى يديه من الكتب والصحف، وعشق الأدباء المبرزين فاتصلت أسبابه بأسبابهم صديقا يمحضهم الحب الخالص، ويتحمل بدواتهم ونزواتهم كما يتحمل المحب دلال المحبوب ولكنه كان يجد مكانه بينهم كراوية متميز فريد.
وكتب عبد السلام كما يكتب أمثاله في الصحف ولم يكن كلما يكتبه يجد طريقة إلى النشر ولكنه على أى حال بعلاقته الخاصة بالأدباء ورؤساء تحرير الصحف كان أحسن حظا من غيره من الناشئين. ولكن الميزة الكبرى التي تميز بها عبد السلام بين أبناء جيله ومن تلاهم هي الحماس الدائم والشديد لقضية الأدب والفكر، وقوة الحفظ التي كانت معلما من معالم حياته الأدبية إذا صح هذا التعبير.
وقد ظهرت هذه الميزة حينما تولى الأشراف على الصفحة الأدبية في الندوة حينما كانت مملوكة للأستاذ صالح محمد جمال. كما ظهرت في مؤلفاته التي توالى ظهورها قبل عمله في الندوة وبعدها.
وإذا استعرضنا هذه المؤلفات نجد معظمها مجموعات شعرية ونثرية للآخرين وهي كما أثبتها عبد السلام نفسه في الجزء الثانى من الموسوعة الأدبية.
1 -
نفثات من أقلام الشباب الحجازى 1355 وهو كتاب تعاون في إصداره مع صديقيه الأستاذ هاشم الزواوى وعلى حسين فدعق.
2 -
في ظلال الصراحة في عام 1372 هـ.
3 -
نظرات في الأدب المقارن في عام 1377 هـ.
4 -
الشعراء الثلاثة في عام 1368 هـ.
5 -
شعراء الحجاز في العصر الحديث عام 1370 هـ.
6 -
الموسوعة الأدبية وقد صدر منها ثلاثة أجزاء.
ولسنا بسبيل دراسة هذه المؤلفات أو نقدها، فليست الدراسة والنقد من أغراض هذه الترجمة المراد منها إعطاء صورة عن الشخصية التي تتحدث عنها وعن ملامحها البارزة.
لم يكن الساسي رحمه الله أديبا مبدعا ولكنه كان يعشق الإبداع، ولم يكن شاعرا ولكنه كان يحفظ روائع الشعر، ويرويها وهذه ميزته العظمى التي ظهرت في ما جمع من آثار في هذه المؤلفات التي ذكرنا أسماءها قبل.
وإذا قرأت ما كتب الساسي أو كنت ممن يستمعون إليه حين يتحدث فستخرج بفكرة واحدة عنه هي حماسه العظيم للأدب والفكر، ولروائع الشعر وكان إذا انفعل تدافعت الكلمات في فمه لتنطلق من بين شفيته في سرعة وحماس وقد ظل هذا الحماس ملازما له طيلة حياته وبسببه أخرج ما أخرج من مؤلفات تجمع آثار الشعراء والأدباء، لهذا فإننا قبل أن نتحدث عن أهم مجموعة أخرجها للناس وهي الموسوعة الأدبية التي صدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء الأول والثانى منها على نفقته وهو محدود الموارد وقام النادى الأدبي في الطائف بطبع الجزء الثالث منها، وحديثنا عن الموسوعة الأدبية هذه هو لإعطاء القارئ فكرة موجزة عن محتوياتها وعن الجهد الذى بذله الساسي رحمه الله في جمعها وإخراجها، سنتحدث أولا عن كتابين للساسي أحدهما شارك في تأليفه والآخر قام وحده بعبء تأليفه وإخراجه.
نفثات من أقلام الشباب الحجازى
هذا الكتاب كما يدل عليه اسمه نفثات من أقلام الشباب الحجازى اشترك في جمعه وتأليفه مع الساسي الصديقان السادة هاشم يوسف الزواوى وعلى حسن فدعق، ولعل نصيب صديقنا الأستاذ السيد هاشم في الجهد كان أوضح كما يظهر ذلك من المقدمة التي كتبها المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان لهذا الكتاب الذى طبع في أوائل عام 1355 هـ.
والكتاب مقتصر على نشر آثار طبقة معينة من الأدباء كانت في ذلك الزمان تضع خطواتها الأولى في الطريق الطويل، لتظهر في دنيا الفكر وبين حملة الأقلام،
ولست أشك أن الساسي رحمه الله بما وهب من حماس دافق كان من المساهمين بحق في جمع هذه الآثار وأنه بذل من الجهد ما يستطيع في سبيل إظهار هذا الكتاب.
هذا الكتاب ونحن نتحدث عن الساسي لا يخرج عن الأسلوب الذى تميز به والذى تحدثنا عنه وهو الحماسة والجمع ولكنه مختص بطبقة معينة من الكتاب والشعراء كانوا يعتبرون في ذلك الوقت الجيل الثانى أو الثالث من الأدباء بحكم أسنانهم ولهذا أعطى المؤلفون اسم الشباب لهذه الأقلام - نفثات من أقلام الشباب.
الطريف في هذا الكتاب أن بعض من اشتركوا فيه أصبحوا فيما بعد من ذوي الأسماء اللامعة المحلقة مثل المرحوم عبد الله عريف، والعلامة الفاضل الشيخ حمد الجاسر، والأخ الصديق الأستاذ حسين عرب، وصديقنا الباحث الكبير الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، وغيرهم ومن الطرائف الأخرى في هذا الكتاب أننا نقرأ شعرا للعلامة الشيخ حمد الجاسر وللصديق الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار وكذلك للمرحوم الأستاذ عبد الله عريف وهم الذين عرفوا بأبحاثهم الجادة والذين لم يشتهروا بالشعر أما بالنسبة لصديقنا الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار وكذلك اسمعنى قبل بضع سنوات قصيدة معجبة رجوت أن ينشرها، وأن يستثير هذا الوتر الآخاذ ليضرب عليه كلما تهيأت له الأسباب.
أما صديقنا الأستاذ حسين عرب فقد أصبح من أعلام الشعراء في هذه البلاد ولكنه يختص نفسه بهذا الشعر أكثر مما يخص به الآخرين. أما الأستاذ حمد الجاسر مد الله في حياته فإنني أنقل هنا بعض أبيات من القصيدة التي نشرت له في هذه النفثات ومطلعها.
عاش الشباب الذى للمجد قد طلبا
…
واستشعر الحزم حتى يدرك إلا ربا
وجدَّ يدأب في تنفيذ خطته
…
ولم يهن عزمه عجزا وما رهبا
ومنها:
فتى العروبة هل في القوم مستمع
…
فبين جنبيَّ نار جمرها التهبا
إذا تذكرت ما قد فات من زمن
…
كنا برغم عدانا في الورى شهبا
كنا الملوك لأهل الأرض نحكمهم
…
بالعدل طرا وكنا سادة نجبا
العدل منتشر والجور منحدر
…
والعلم مزدهر والجهل قد غربا
ولست أقول أن القصيدة من روائع الشعر، ولكني أقول أن هذه البداية كان يمكن أن تبشر بميلاد شاعر عظيم لو أن صاحبها استمر في إحياء هذه الملكة التي كانت من أحسن البدايات ولست أدرى أن كان اشتغال الشيخ حمد بالتحقيقات التاريخية العظيمة التي يضطلع بها عن الأماكن التاريخية في الجزيرة العربية قد صرفته عن الشعر أم أنه يعود إليه بعد الحين والحين ولكنه يطويه عن الناس كما يفعل صديقنا الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار. ونكتفى بهذا القدر في حديثنا عن النفثات لنتحدث عن كتاب آخر من مؤلفات الساسي هو.
في الأدب المقارن ومساجلات الشعراء
حينما قرأت عنوان هذا الكتاب ظننت أني سأقرأ بحثا في الأدب المقارن يعقده صديقنا الساسي رحمه الله وإذا بي أفاجأ بأن الكتاب عبارة عن سؤال وجهه الساسي إلى كثير من الأدباء يطلب منهم المقارنة بين أدب العقاد وطه حسين وإبداء الرأى في أى الأديبين الكبيرين ينتهج الأسلوب العلمي في بحثه ودراساته، وجه هذا السؤال إلى كثير من أعلام الشعراء بينهم المرحومين الأستاذة أحمد إبراهيم الغزاوى ومحمد حسن عواد والسادة محمد سعيد العامودى وأحمد محمد جمال وغيرهم وقد أجاب السادة الأدباء فنشر الساسي إجاباتهم وليس هنا مجال البحث في الإجابات ولا في السؤال نفسه، ولكن الساسي يؤكد الرأى الذى ذكرته عنه وهو أنه جامع للأدب والشعر وليس مبتدعا فيه وليست هذه الصفة بالتى تنقص من قدره فكل امرئ ميسر لما خلق له، وقد حفلت كتب التراث في الأدب العربى بالروائع لما جمعه الرواة ويكفى أن تعلم أن ياقوت الحموى مؤلف الأغاني ومعجم الأدباء وغيرها من أمهات كتب التراث لم يؤثر عنه الكثير من الشعر والإنشاء،
كان الرجل خزانة أدب تنقله إلى الناس وتتوارثه الأجيال وقد احتل اسمه مكانه العظيم بهذه الصفة وحدها صفة الجمع والتدوين.
ولست أقول أن الساسي يأتى في هذه المرتبة من الرواة ولكني أستطيع أن أقول أنه كان فرعا صغيرا في شجرة عظيمة، وان هذا الفرع الصغير فيه من الشذى والثمر ما يزكو ويطيب وعلى هذا الأساس وحده نقوّم عمل الساسي في الحفظ والجمع فإبداعه هو في حفظ الإبداع وجمعه ثم نشره على الناس.
وكأنما أبت طبيعة الساسي عليه أن يقتصر كتابه في الأدب المقارن على إجابات الأدباء فأضاف إلى الكتاب بعض مساجلات الشعراء أنه عاشق شعر وقد ضمت هذه المساجلات الشعرية قصائد ومقطوعات شعرية للأساتذة العواد والغزاوى وحمزة شحاتة وأحمد قنديل رحمهم الله وحسين عرب وحسين سرحان مد الله في حياتهما ولعل بعض ما سجله الساسي في هذه المساجلات لم يرد فيما نشر من دواوين هؤلاء الشعراء، فهي بصورة من الصور يمكن أن تكون مما يرجع إليه الدارسون لشعر هؤلاء الشعراء.
ونقتطف الآن شيئا من هذه المساجلات ونبدأها بالمساجلة بين الشاعرين الكبيرين محمد حسن عواد وأحمد إبراهيم الغزاوى: بعث العواد إلى الغزاوى يقول:
أيها البلبل المغرد بالشعر
…
ألا أين ذلك التغريد؟
لم آثرت تنزوى الشهر
…
تلو الشهر مستعصيا عليك القصيد
(ادلالا هجرته أم ملالا)
…
أم اتاه منك القلى والصدود
لا تغادر فن النظيم يعانى
…
منك ما لا يطيقه المعمود
فلقد كنت والنظيم شقيقين
…
وسيان منشد ونشيد
وقد أجاب الغزاوى العواد بهذه الأبيات
أيهذا الذى تواضع شكرا
…
إنما انت في البيان المجيد
كيف لا أوثر السكوت وأصغى
…
لشعور يصوغه التجديد
أنا ما قلته تظالع ضعفا
…
والذى حكته الضليع الشديد
وتعالى جد الآله فماذا
…
بعد فرقانه يحيط النشيد
مازج الروح فهو حي
…
وهو الرشد والهدى والخلود
ونجد في هذه المساجلات أن الشاعر الأستاذ حسين سرحان يوجه قصائده إلى الشعراء أحمد قنديل، حمزة شحاتة، فيقول في القصيدة المهداة إلى القنديل:
أقتات من روحي وأشرب من دمى
…
إن كنت عالمة وإن لم تعلمى
حتى إذا حم الردى لاقيته
…
غراد كمثل الطائر المترنم
ومنها
يا بنت ذى سيارة حسانة
…
تنساب في الترب إنسياب الأرقم
لا تعنفى في القول اني فاهم
…
من غمرة الأحداث ما لم تفهمى
ما هذه الدنيا وما غاياتها
…
ومن الذى تكوين كي الميسم؟
المال؟ اهون ما يكون طلابه
…
إن كنت اعبده عبادة درهم
الجاه ايسر ما يكون مناله
…
لثقيل غنم أو لخفة مغرم
ماذا وراء حياتنا .. تبابها
…
إن لم تتمَّ بجنة وجهنم؟
ويوجه إلى حمزة شحاتة قصيدة بعنوان سراب يقول فيها:
انس وربك قد ملأن شغافا
…
حبا وهجن بك الهوى الرجافا
هاتيك أم هاتيك؟ كل خريدة
…
هيفاء زانت ثوبها الهفهافا
علقت بهن العين ذات عشية
…
فحبونها الاتحاف والالطافا
يخطرن في بسط النسيم وقد رأى .... ما فيه فاستشفى بهن وشافى
الحسن زخرف كل طرف رامل
…
والطيب فوق نشره الآنافا
والقصيدة كلها كبقية شعر السرحان من هذا النمط العالي الفريد في أسلوبه ومعانيه ولقد سجل لنا الساسي استجابة حمزة شحاتة لقصيدة السرحان من نفس
الوزن والقافية وبنفس هذا النسق العالي في معانيه وأسلوبه يقول حمزة شحاتة:
أفبعد ما سنح الخيال ووافى
…
ودَّعْنَ سرحك وانطلقن خفافا
وعدت سوابق وُدِّهنَّ ذواهبا
…
بالبرء ليس وراءهن معافى
من كل نافرة الهوى لم تقضها
…
حقا فكيف تميلها استعطافا
ومنها
يا أنت ما كل الغيوم تحملت
…
مطرا فشيمى العارض الوكافا
ومنها
صرنا إلى زمن ينازع قاعد
…
فيه الفخار الراحل الطوافا
ليت الذى خلق المطامع كالها
…
للحالمين كما تراد جزافا
أوليت ملتمس السلامة نالها
…
عرضا كما تجني الزهور قطافا
ولقد استهوت هذه المساجدة صديقنا الأستاذ حسين عرب فوجه إلى حمزة شحاتة قصيدة من نفس الوزن والقافية يقول فيها:
تركتك مسلوب الفؤاد مجافى
…
مضنى الهوى تتعجل الانصافا
هيفاء ذابلة العيون كأنما
…
تسقيك من نظراتهن سلافا
لاحت لعينيك العشية فانطوى
…
فيها خيالك هائما رفافا
ومنها
والغانيات وعودهنَّ خديعة
…
تبدى الوفاء وتضمر الاخلافا
هن الرزان إذا خطون على الثرى
…
فإذا اسرن القلب طرن خفافا
والقصد كما يرى القارئ ناصعة الأسلوب، فريدة المعاني، وليت شعرى مالذى يجعل صديقنا الأستاذ حسين عرب يضن بهذا الشعر أن يضمه كتاب أو ديوان ليكون غذاءا للقلوب والأذهان. ولقد اعدانا الساسي بإسلوبه فإذا بنا ننقل هذه الروائع من المساجلات التي أوردها في كتابه، ولم يكن في حسباني أن افعل،
فلست أترجم الآن لهؤلاء الشعراء حتى أنقل عنهم ولكن الساسي هو الساسي رحمه الله، عاشق شعر وناقل إبداع، فنحن ننقل عنه هذا الشعر وذلك الإبداع.
الموسوعة الأدبية
الموسوعة الأدبية هي أكبر الأعمال التي قام عبد السلام بعبئها ابتدأ فيها النشر للأدباء والشعراء على ترتيب الحروف الهجائية.
فبدأ بحرف الألف في الجزء الأول وانتهى إلى حرف الغين في الجزء الثالث.
وقد أحصيت عدد الأدباء والشعراء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الغين فكانوا خمسة وثلاثين ادبيا وشاعرا، ويكاد الجزء الثالث من الموسوعة أن يقتصر عليهم فهم يشكلون مائتين وسبع وخمسين صفحة من هذا الجزء البالغ مائتين وسبعين صفحة، كان عبد السلام نفسه ضمن الأسماء التي وردت في هذا الجزء ولكن الحيز الذى منحه لنفسه كان حيزا ضيقا للغاية فقد نشر لنفسه مقالين في خمس صفحات احدهما بعنوان وجوب التفرغ للأدب الخالص، لا ينبغى أن نظل عالة على ممارسة بعض أنواع الفن، هذان عنوانان لمقال واحد اما المقال الثانى فهو كذلك يحمل عنوانا طويلا هو نقد الأدب، والحياة النقد الزم ما يكون للبناء وضبط القواعد والأصول ونبذ المساوئ
(1)
. كانت ميزة عبد السلام الأولى كما ذكرنا هي حماسة الشديد لقضية الأدب والفكر وكانت ميزته الثانية هي قوة الذاكرة التي تشبه الكمبيوتر فهي تحفظ كلما يلقى إليها وتختزنه، ولم يكن عبد السلام يكتفى بحفظ ما يعجبه من الشعر والنثر ولكنه كان يلقى ذلك إلى الناس رواية شعرية أو نثرية تصاحبها الحماسة والانفعال وكان يحتفظ بما يعجبه مما ينشر في الصحف ويختص به نفسه ليحفظه ويثرى به المجموعة الضخمة التي تختزنها ذاكرته العجيبة.
ومن الطرائف التي أذكرها في هذا المجال إنه نشر لي قصيدة غزلية حينما كان
(1)
الموسوعة الأدبية للساسي الجزء الثالث من 53 - 68
مشرفا على تحرير الصفحة الأدبية بالندوة، كانت القصيدة غزلية كما ذكرت تعود إلى عهد الشباب وكانت قد نشرت قبل سنوات طويلة في جريدة صوت الحجاز في الخمسينات، وكتبت إلى عبد السلام رسالة أعاتبه فيها على نشر هذه القصيدة التي جعلتني أشعر بالحرج أمام أولادى وأرسلت إليه قصيدة طويلة بعنوان التجاريب اشترى بها نفسي منه حتى لا يعود إلى نشر أمثال القصيدة السابقة، ولم يكن من عبد السلام إلا أن قام بنشر الرسالة والقصيدة معا .. ثم حضر إلى جدة فسألته عاتبا ما هو الداعي لنشر الرسالة؟ ألم تكتف بالقصيدة التي نشرت على حلقتين؟
قال في حماسة وانفعال هذا أدب الرسائل .. ثم أضاف وهذا هو رأى الأستاذ صالح جمال وإلى هنا نستطيع أن نعتبر الحادث عاديا، ولكن الذى حدث بعد ذلك أني كتبت إليه منذ عام تقريبا أخبره أننى أقوم بإعداد ديواني للطبع وسألته أن يبعث إلي بنسخ من القصائد التي يحتفظ بها من شعري أو التي تصل يده إليها. ولم يرد عبد السلام على هذه الرسالة وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي لا يرد فيها، وبعد فترة بسيطة أرسل الي الجزء الثالث من موسوعته الأدبية وبمطالعتها أدركت أن عبد السلام لم يمتنع عن الرد إلا لأنه أراد أن يحتفظ لموسوعته الأدبية بما لديه خاصة إذا كان البعض من أمثالي لا يحتفظون لأنفسهم بما يحتفظ به هو عنهم.
ولقد كنت انتظر صدور الجزء الرابع من الموسوعة الأدبية وكنت على ثقة انني ساجد فيه بعضا مما فقدت، ولكن المنية أدركت عبد السلام رحمه الله قبل إصدار الجزء الرابع الذى لعله يكمل موسوعته الأدبية واغلب الظن أن هذا الجزء مكتمل لديه لأنه ذكر في الجزء الأخير من الموسوعة أنها ستكون من أربعة أجزاء.
ونعود الآن إلى الموسوعة نفسها أو إلى ماصدر منها من أجزاء.
لقد ذكرت أن الجزء الثالث يضم آثار خمسة وثلاثين اديبا وشاعرا، ويضم الجزء الثاني آثار واحد وثلاثين أديبا وشاعرا، ولا شك أن الجزء الأول يضم هذا العدد أو ما يقرب منه، ولعل الجزء الرابع والأخير يضم مثل ذلك ونستطيع أن نقدر أن عدد
الأدباء والشعراء الذين تضمهم الأجزاء الأربعة من موسوعته الأدبية بحوالى المائة وعشرين أديبا وشاعرا وهو عدد ليس بالقليل.
بعض هؤلاء الذين تضمهم الموسوعة من أصحاب الأسماء الجهيرة الذين فرضوا أسماءهم في دنيا الأدب والفكر ولكن آثارهم لم تجمع حتى ظهور مجموعة الساسي في كتاب أو ديوان، البعض منهم غادر هذه الحياة الدنيا ولم ينشر له ديوان مطبوع فالمجموعة على هذا الاعتبار تعتبر مرجعا من المراجع التي تنير سبيل الدارسين لآثار هؤلاء الشعراء والأدباء إلى أن ينتظم، لكل منهم مرجع يضم كلما انتج من أدب وشعر وعلى سبيل المثال فإن ما نشره الساسي لحمزة شحاتة وضياء الدين رجب قبل ظهر المجموعات الشعرية لهما. لم يضمه كتاب قبل ولا يزال ما نظمه صديقنا الأستاذ عبد الوهاب آشي مد الله في اجله من الشعر مطويا بين أوراقه إن لم يكن مفقودا بينما تطالعنا موسوعة الساسي بقصائد ومقطوعات جميلة للأستاذ الكبير. ولقد غادر الأستاذ عبد القادر عثمان رحمه الله هذه الحياة دون أن تحتمع آثاره في كتاب فجاءت موسوعة الساسي لتضم بعضا من هذه الآثار وهذا وذلك ينطبق على كثير ممن تضمهم المجموعة من أسماء.
ليست الموسوعة الأدبية عملا متكاملا ولكنها نواة طيبة للدراسين وخاصة بالنسبة لأولئك الذين عزفوا عن النشر أو الذين غادروا هذه الحياة ولم تجمع لهم آثار في كتاب مطبوع.
قد يأخذ البعض على المجموعة أنها تضما آثارا لا وزن لها وهذا ليس عيبا فيها وقد كان الأجدر بالعمل الموسوعي أن تتفرغ له مجموعة من الرجال المتخصصين ولكني احكم سلفا بأن تحقيق مثل هذا الحلم لا يزال بعيد المنال.
ولقد قام الساسي بجهده الخاص وحده بعبء إخراج هذه الموسوعة وجمعها وطبع الجزء الأول والثانى على نفقته الخاصة وهو محدود الموارد ولقد شكى مر الشكوى في مقدمة كل جزء منها مما لقيه من تحاهل الأدباء والشعراء وتثاقلهم في الاستجابة إليه وأنا بتجربتي الخاصة أصدق كما ذكره رحمه الله في هذا المجال. نستطيع أن نعتبر الموسوعة الأدبية هي أهم عمل قام به الساسي يرحمه الله وهو
يستحق على هذا العمل الذى قام به بحب وإخلاص كل التقدير.
شخصية الساسي
عرفت عبد السلام رحمه الله في منتصف الخمسينات من القرن الماضي واتصلت أسبابي بأسبابه حينما كنت أعمل بمكة المكرمة في مكتب الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله فكنت أراه في معظم الأيام إما زائرا في المكتب أو في جريدة صوت الحجاز أو في منتزهات مكة في الأمسيات حيث يجتمع الأدباء والشعراء من الأصدقاء.
كان الأستاذ أحمد قنديل رحمه الله رئيسا لتحرير جريدة صوت الحجاز في منتصف الخمسينات وكنت إذا فرغت من عملي في آخر النهار: أمرَّ به في الجريدة ونخرج معا إلى المسفلة ثم ينتهى بنا المطاف في جرول حيث نبيت في مقهى هناك في ليالي الصيف هربا من الجو القائظ في مكة المكرمة وكان عبد السلام رفيقا ثالثا لنا في المبيت وأنني أنقل هنا من كتابي حبات من عنقود الطرفة التالية عن عبد السلام.
كنا في ليالي الصيف نخرج إلى ظاهر مكة فنقضي الليل بعيدا عن البعوض والجو القائظ في البيوت، وكنا جماعة من الأصدقاء، الأستاذ أحمد قنديل وأنا والأستاذ عبد السلام الساسي وغيره من الأصدقاء، وكنا في تلك الأيام نتخذ من قهوة - العم حمزة - بالشهداء، وفى موضع جراج الشركة العربية للسيارات الآن، نزلا مختارا للعشاء والمبيت، نقضي الأصيل بالمسفلة مع أصدقائنا من الأدباء الكثيرين، ثم نعود إلى الشهداء فنأخذ عشاءنا من جرول، ونمضي به إلى العم حمزة فنجد المركاز مهيئا للمبيت، وكان عبد السلام ولا يزال أعجوبة من الأعاجيب فنقضي صدرا من الليل نسمع روايته للشعر، وحماسته للأدب، فتندر معه، وربما هجاه القنديل هجاء الأصدقاء الألداء .. ووفد علينا من جدة الأستاذ أحمد عمر عباس - يرحمه الله - موظفا جديدا في مكة، وانضم إلى الحلقة في مركاز العم حمزة، وفى الليلة الأولى التي وفد علينا فيها الأستاذ أحمد وكان ضيفا علينا قال أنه كان يعمل في شركة التعدين في مهد الذهب .. وإنه تعود أن يشرب قهوة باللبن كل
صباح وأبدى إنه لا طاقة له بالسير على الريق من الشهداء إلى القشاشية دون شرب هذه القهوة بالحليب.
وعقدنا جلسة مستعجلة مع العم حمزة لبحث الموضوع، ولم يخيب العم حمزة أمل الأستاذ أحمد فأبدى استعداده لصنع القهوة وإحضارها قبل مطلع الشمس ليستيقظ الأستاذ أحمد فيجدها طوع يديه، وكان عبد السلام أكثر الحاضرين حماسا لهذه القهوة .. فلقد حاول معنا من قبل تناول شيء في الصباح ولم نوافقه بحال من الأحوال.
وكان من عادة عبد السلام كل ليلة أن يحافظ على أمتعته فيضع الكوت والغترة تحت المخدة ويرفع الحذاء - أكرمكم الله - في جوانب الكرسي الذى ينام عليه، وكنا نعجب لهذا الحرص، ونتنذر عليه ولكنه أفهمنا أنه رقدي قديم، وليس حديث عهد بالنوم في المقاهى، وهو يعرف أصول الرقدية وقوانينهم والرقدي كما لابد وأن يعرف القارئ بضم الراء وتشديدها وفتح القاف دون تشديد هو مفرد راقد ويختص ذلك بمن تعود النوم في المقاهي، وهو اصطلاح لا تتنكر له اللغة الفصحى فيما أظن.
ونام عبد السلام ليلتها في موجة عارمة من الفرح، ونسي في غمرة هذه الفرحة أن يقوم بالإجراءات الاحتياطية التي يتخذها لامتعته وحذائه، ونمنا. واستيقظت في الصباح الباكر على حركة قدوم العم حمزة بالقهوة واستيقظ عبد السلام وادخل قدميه في الحذاء، وصرخ صرخة مفزعة طارت منها بقية النوم من عيني، واستيقظ لها كل من في المقهى من الناس، وسألنا عبد السلام ما بك؟ ولكن اجاباته كانت مختلطة بالصراخ فلم نفهم شيئا، ولكنا أدركنا أن هناك حدثا إصابه، وسارعنا إليه فرفعناه إلى الكرسي فإذا بقدمه التي ادخلها في الحذاء يصب منها الدم وقد بدا عليها التورم والاحتقان ووجدنا في الحذاء عقربا.
وتجمع الناس وفى السيارة الوحيدة الموجودة في المقهى في ذلك الصباح بعثنا عبد السلام إلى مستشفى أجياد لاسعافه ولم يشرب القهوة، ولم يتمتع بها، ومن مأمنه يؤتى الحذر. حيا الله صديقنا عبد السلام فلقد كان مصدر سرور حتى حينما
يتعرض للأذى .. وقاه الله من كل سوء.
انتهى ما نقلناه من كتابنا حبات من عنقود الذى نشر في الحجة من عام 1387 هـ.
ونعود الآن إلى مواصلة الحديث عن شخصية الساسي فنتحدث عن دوره في المعركة بين الشاعرين الكبيرين حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد رحمهما الله.
صلة الساسي بالعواد وشحاتة
عاصرت المعركة الشعرية التي نشبت بين المرحومين الاساتذه محمد حسن عواد وحمزة شحاتة والتى بدأت على صفحات صوت الحجاز ثم انتهت إلى الهجاء المقذع الذى لا يمكن نشره في الصحف فكانت القصائد تنسخ باليد، ولم تكن الآلات الناسخة موجودة إلا في دوائر الحكومة، وتوزع في أماكن معينة في مكة المكرمة وقد اشترك بعد ذلك في المعركة المرحوم الأستاذ أحمد قنديل متحزبا لصديقه الأستاذ حمزة شحاتة، والأستاذ محمود عارف مد الله في أجله متحزبا للعواد.
كان حمزة مقيما في مكة المكرمة في تلك الأيام وكنت أنا وقنديل على صلة مستمرة به وكان ينظم القصيدة فيأخذها عبد السلام ويقوم بمساعدة البعض بكتابة عدة نسخ منها ويبدأ توزيعها على أناس يعرفهم في حارة الباب وأجياد، والقشاشيه والمسفلة والمعلاة وجرول وهكذا ومن المؤكد أنه كان يوصل القصيدة أولا إلى عواد الذى يقوم بدوره بالرد عليها ولعل عبد السلام كان يقوم معه بنفس الدور ولم يكن الساسي يظهر أنه كان على خلاف مع العواد، لم ألمس ذلك منه إطلاقا ولكنه كان متحمسا للمعركة باعتبارها معركة أدبية تثير شاعرية الشاعرين الكبيرين وتدفعهما إلى موالاة النظم والانتاج وان كان هذا الشعر يجافى الخلق الكريم فلقد اسرف الشاعران حين احتدمت بينهما المعركة في الهجاء ولم يكفَّا الا حينما شعرا بأن الأعين قد التفتت لرصدهما، وحسنا فعلا.
ولست أشك أن عبد السلام كان مسرورا ومزهوا لصلته بالشاعرين الكبيرين ولقد كان يحب حمزة كما يحب العواد ولقد سمعته مرارا وهو يقسم على هذا الحب
وكان حمزة كذلك ولكنه لم يكن يعفيه من السخرية اللاذعة وكان عبد السلام يتقبل ذلك ضاحكا، ولقد كان قنديل رحمه الله يطلق السجع الساخر مستخدما لقب الساسي فيه وهو يستمع إليه في سرور وجذل، أما عواد فقد هجا الساسي بقصيدة مقذعة خاصمه الساسي بسببها بعض الوقت ولكنه ما لبث أن عاد إلى الاتصال به والاشادة بأدبه وشعره في كل زمان ومكان.
وكان الساسي على أى حال إنسانا سمحا يحب الناس ويكثر من الاتصال بهم ويألفه الناس ويحبونه ويكثرون ممازحته، ويتقبل هو ذلك المزاح ضاحكا وإذا غضب فما يلبث أن يفئ إلى الرضا والسكون.
وكما كانت صلة الساسي قوية بكبار أدباء عصره فلقد كانت صلته قوية في كذلك بشباب الأدب وناشئته وكان الساسي يتخذ بينهم مركز الأستاذيه ويستقطب اهتمامهم بما يرويه لهم من أحاديث أصدقائه من كبار الأدباء والشعراء وبما ينشده لهم من محفوظاته الشعرية لهؤلاء الشعراء واخبارهم، ولهذا يمكن اعتبار الساسي همزة وصل بين كبار الأدباء وصغارهم في ذلك الزمان.
ولابد أن نذكر أن الساسي لم يتزوج في سن مبكرة وحينما تزوج لم ينجب فخلت حياته من مسئوليات الولد وهموم العائلة، ولم يكن هناك إلا زوجه التي رأيتها ترافقه في إحدى رحلاته إلى لبنان ولقد ساعده هذا على التفرغ للأدب الذى أحبه طيلة حياته.
والساسي على أى حال نشأ في أسرة تشتغل بالعلم والأدب فأخوه الأكبر المرحوم الشيخ الطيب الساسي كان رئيسا لتحريرة جريدة القبلة في العهد الهاشمي وقد هاجر مع من هاجر في بداية العهد السعودى ثم عاد ليعمل رئيسا لتحرير جريدة أم القرى في مكة المكرمة وهو رجل يتميز بالعلم والفضل.
وأخوه الشيخ عبد الله الساسي الذى كفل عبد السلام وقام على تربيته كان مدرسا في مدارس المدينة المنورة وجدة ومكة ولقد أدركته في مكة المكرمة في منتصف
الخمسينات وهو مدير لإحدى المدارس الحكومية.
والدكتور عمر الطيب الساسي الذى يصافح إسماع القراء في الإذاعة بحديثه عن الكتب والذى كان من أساتذة كلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز، وأظنه يعمل الآن في ألمانيا هو ابن شقيق عبد السلام رحمه الله فلا عجب أن يكون عبد السلام متعلقا بالأدب والرواية وقد نشأ في هذه الأسرة الكريمة التي تعمل في هذا المجال.
هذا وقد ألم المرض بصحة عبد السلام فبقى في داره لبعض الوقت ولكن المنية كان قد حانت حينها فأسلم الروح صباح الأربعاء 23 ذى الحجة 1401 هـ ودفن في مكة المكرمة البلد التي نشأ فيها وأحبها وقضى معظم حياته بها.
رحم الله عبد السلام رحمة واسعة فقد قضى حياته منشغلا بالأدب والشعر وعمل ما وسعه الجهد لتسجيل هذا الأدب وحفظه ثم أذاعته بين الناس، وحبذا لو قامت النوادى الأدبية بطبع الباقى من مؤلفاته وأهمها الجزء الرابع من الموسوعة الأدبية، وشعراء الحجاز في القرن الماضي الذى نوّه عنه في كتابه الأخير وبالله التوفيق.
عبد القدوس الأنصاري
عبد القدوس الأنصاري
معتدل القامة، أقرب إلى الطول منه إلى القصر، معتدل الجسم أقرب إلى النحافة منه إلى الامتلاء شديد إسمرار الوجه عالي الجبين واسع العينين عظيم الشفتين.
ولد الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في سنة 1324 للهجرة بالمدينة المنورة وتوفى والده وهو فى الخامسة من العمر فكفله قريبه الشيخ محمد الطيب الأنصارى العالم والمدرس بالمسجد النبوي الشريف.
تلقى عبد القدوس دروسه الأولى في قراءة القرآن الكريم بالمسجد النبوي الشريف وهو في السابعة من العمر وأتم حفظه في سنتين وكان يتلقى دراسته في مختلف الدورس الدينية في حلقات المسجد النبوي الشريف خاصة على يد أستاذه وكافله الشيخ محمد الطيب الأنصاري كما تعلم الكتابة على يد أحد الحطاطين الأتراك. وحينما بلغ السادسة عشرة من العمرة انتقل للدراسة بمدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة في عام 1341 هـ عند بداية تأسيسها وكان الشيخ الطيب الأنصاري مشرفا عليه وحصل على الشهادة النهائية منها في سنة 1346 للهجرة.
وبعد تخرجه من مدرسة العلوم الشرعية شغل بها وظيفة أستاذ الأدب العربي، ثم انتقل إلى العمل الحكومي فعمل بديوان الأمارة بالمدينة المنورة معاونا لرئيس
الديوان، وفى سنة 1359 هـ عين رئيسا لتحرير جريدة أم القرى فانتقل عمله إلى مكة المكرمة فبقي بها إلى نهاية سنة 1361 هـ
(1)
. حيث انتقل للعمل بديوان نائب جلالة الملك في مكة المكرمة، ثم عين سكرتيرا لمجلس الوكلاء وتنقل في الوظائف الإدارية إلى أن عين مستشارا في الديوان ثم مديرا للشئون المالية بديوان. رئاسة مجلس الوزراء ثم تفرغ بعد ذلك لأعماله الخاصة.
ثقافته
لم يكتف عبد القدوس بما تلقاه من العلوم في حلقات الشيخ الطيب الأنصارى بالمسجد النبوي الشريف ولا بما تعلمه في مدرسة العلوم الشرعية فلقد كان الشاب عبد القدوس محبا للقراءة منذ نشأته فأكب على ما كان يصل إلى يديه من كتب الأدب والشعر قديمه وحديثه يقرأ ويحفظ ويتحدث إلى زملاء دراسته وأصدقاء صباه في كل هذا الذى يصل إليه. ولقد كانت حلقة قريبه وكافله الشيخ الطيب الأنصاري تضم الكثير من شباب المدينة الذين لمعت أسماؤهم فيما بعد، وكان من زملائه في حلقة الشيخ الأنصاري الشيخ ضياء الدين رجب والسيد عبيد مدني والأستاذ عبد الحميد عنبر رحمهم الله ومعالي الشيخ محمد الحركان والأستاذ عبد الحق نقشبندى وغيرهم ممن نسأل الله لهم العافية والعمر المديد.
(2)
كانت قراءات عبد القدوس الأولى تجعل الأدب القديم هو القدوة التي يحذو حذوها ولكن صلته بصديق صباه وزميله في حلقة الشيخ الطيب الأنصارى السيد عبيد مدني رحمه الله فتحت له المجال للاطلاع على الأدب الحديث فقرأ دواوين شوقي وحافظ والزهاوى وسامي البارودى، كما قرأ مؤلفات المنفلوطي والرافعى فتفتحت أمامه الآفاق ليسلك هذا الطريق الجديد وكان لتشجيع صديقه السيد عبيد مدني الذى وصفه بأنه رائد الأدب الحديث في المدينة المنورة كما وصف نفسه
(1)
114 تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية لعثمان حافظ.
(2)
انظر الحلقتين المنشورتين بجريدة المدينة المنورة عن السيد عبيد مدني في سلسلة أعلام الحجاز.
بأنه الرجل الثانى بعده في ريادة الأدب الحديث في مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ذكرياتي عن الأنصارى
عرفت عبد القدوس رحمه الله من مقالاته التي كان تنشر في صوت الحجاز أولا ثم من مجلة المنهل التي أصدرها في الحجة من عام 1355 هـ وتوثقت صلتي به بما كنت أنشره في مجلة المنهل من قصص ومقالات وشعر ثم حضر إلى مكة المكرمة للحج في النصف الثاني من الخمسينات على ما أذكر ونزل ضيفا على معالى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان الذى كنت سكرتيرا له فكنت أراه في كل يوم، وقد زادتني هذه اللقاءات معرفه به فرأيت فيه الأديب الذى يجمع بين الأدب والعلم، فكان أديبا محققا يزن الكلام الذى يكتبه ويقوِّم الكلام الذى يقرأه ويتنبه إلى مايقع فيه الكثيرون من أخطاء في اللغة في نطق بعض الكلمات وتصريفها ومن يتتبع مجلة المنهل يجد الكثير من هذا الذى أذكره مبثوثا بين صفحاتها، وكان الرجل إلى جانب هذا وذاك أديب الطبع والخلق فكان يتنزه في مجلسه وفى كلامه عما يسف به الكثيرون.
غرامه بالآثار
وكان مغرما بالآثار وتحقيقها وله في ذلك المؤلفات التي سنتحدث عنها بعد ومما أذكره عن ولعه بالآثار اني ذكرت له يوما وكنا نصطاف بالطائف ولعل ذلك كان في أوائل الستينات أني بينما كنت أسير في ضواحى الطائف عثرت على مقبرة وجدت بها شواهد على كثير من قبورها وقد كتب في هذه الشواهد أسماء المتوفين ومن أعجب ما رأيت شاهدا وضعه زوج ثكل زوجته وبعد أن ذكر اسمها وتاريخ وفاتها سأل الله أن يلحقه بها فكتب هذه الجملة "وألحق بها زوجها" واهتم عبد القدوس رحمه الله بأمر هذه المقبرة وطلب أن أصفها له فأخبرته أنني كنت أمشى على غير جادة بعد عصر أحد الأيام وكانت الطائف محصورة بين أسوارها ولم يكن خارج
مسجد ابن العباس إلا بعض البيوت والبساتين وكانت الأرض خلوا من البناء بين شهار وحوايا وقروى والسلامة، وبعد إلحاح منه تواعدنا على الخروج معا، وكنا نسير على الأقدام، فلم يكن لواحد منا في ذلك الزمان ما يركبه من دابة فضلا عن السيارة والحمد لله على ما أعطى ووهب، وكنا في اكتمال الشباب ومطلع الرجولة قويين نشطيين فخرجنا وقضينا الوقت من بعد العصر إلى أن أدركنا الظلام نضرب على غير هدى ولم أستطع العثور على المقبرة التي رأيتها والتى حرص عبد القدوس رحمه الله أن يراها.
اطلاعه الواسع
وكان عبد القدوس رحمه الله واسع الاطلاع على الكتب قديمها وحديثها وكان يخص الكتب القديمة منها بكثير من اهتمامه ولعل ذلك يعود إلى ولعه بالتاريخ والآثار والمتتبع لمؤلفاته المطبوعة وآثاره المنشورة يدرك سعة اطلاعه وعظيم معرفته.
أخبرني رحمه الله أن مكتبته الخاصة تشغل شقة كاملة في العمارة التي يملكها والتى يدير منها مجلة المنهل وقال لي فيما قال أن كتب الرحلات في المكتبة أصبحت تشغل جزءا كبيرا منها. ومما أذكره في هذا الباب أنني كنت أقيم في مكة منذ عام 1355 إلى عام 1364 هـ وقد استلفت نظرى ما رأيته في المسجد الحرام مما لم يكن معهودا أو مذكورا في العهد النبوي وفيما تلاه مثل المطوفين الذين يقودون الطائفين بالبيت الحوام وبين الصفا والمسعى، وكذلك الحمام الموجود في المسجد الحرام وهو بلون واحد وشكل واحد مما يدل على أنه من فصيلة واحدة وكذلك الأغوات الذين ينظمون الصفوف في ساحة المطاف ويقومون على شئون النساء.
استلفتت هذه الأمور كلها نظرى وبدأت أسأل عنها فضلاء المكيين وأبحث عن جذورها الأولى ومتى بدأت، وكنت أعد لذلك كتابا ذهبت مع كل أسف أصوله كما ذهب الكثير من أوراقى عبر السنين وكنت قد كتبت بعض الفصول عن بعض هذه المواضيع ونشرتها قديما في جريدة البلاد السعودية.
كما نشرت أخيرا شيئًا من ذلك في جريدة المدينة المنورة.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى صديقنا المرحوم الأستاذ عبد القدوس، فقد كتبت إليه وهو في المدينة المنورة قبل انتقاله إلى مكة ورجوته أن يبحث في مكتبات المدينة المنورة عن كلما يتعلق بأغوات الحرمين ويزودنى به، ولم يكذب عبد القدوس رحمه الله ظني فلما لم يجد كتابا باللغة العربية في هذا الشان أرسل الي بترجمة كتاب باللغة التركية في هذا الموضوع. اريد بذكر هذه الحادثة أن أثبت سعة اطلاعه ومدى اهتمامه بالأبحاث التاريخية والأثرية رحمه الله.
مجلة المنهل
أصدر عبد القدوس مجلة المنهل في ذى الحجة من عام 1355 هـ وهو مقيم بالمدينة المنورة وقد اتخذ لها مقرا بشارع العنبرية قريبا من المسجد النبوي الشريف وكان يصدرها وهو يعمل بالوظائف الرسمية التي كان يتقلدها.
ومجلة المنهل تمثل الكثير من شخصية عبد القدوس رحمه الله فقد أصر على إصدارها واستمرارها رغم قلة الموارد ولست أشك أنه لقي الكثير من الصعوبات المالية خاصة حتى أبقاها مستمرة ما يقرب من نصف قرن دون كلل أو ملل، فالمنهل ليست من المجلات التي تحظى بإعلانات المؤسسات والشركات أو الأفراد ولقد كانت ارامكو تنشر بها إعلانات ثابتة لا أشك أن الباعث عليها هو التقدير لهذا العمل الثقافى الرائد ولم تكن الجدوى الإعلامية للإعلان في حسبانها.
ومجلة المنهل كما يعلم قراؤها مجلة متخصصة تعنى بالشئون الثقافية والأدبية والعلمية فليس للإعلان فيها سوق رائج لأن قراءها طبقة خاصة من الناس. ولكن عبد القدوس استمر في إصدارها رغم العوائق بل واستمر في تطوير طباعتها عاما بعد عام فأخذت تساير المجلات الأخرى في الطباعة الأنيقة المزودة بالصور والرسوم مع جودة الورق وجمال الإخراج.
والمنهل تصدر شهرية منذ بدء تأسيسها ولكني لاحظت في السنوات الأخيرة أن
المجلة تصدر كل شهرين مرة إلا في بعض الشهور التي تتجمع فيها المواد فيصدر بها عدد خاص لكل شهر، وعلى أي حال فإن هذا الدمج قابله زيادة عدد الصفحات وكثرة المواد التي تحتويها. وإلى جانب تطور المجلة هذا من الناحية المادية فإن المحتوى كان دائما يزخر بالمواد الثقافية في شتى فنون العلم والأدب وبعض هذه المواد كان يتميز بالتحقيق والتدقيق وخاصة في المباحث التاريخية والأثرية واللغوية التي كان عبد القدوس نفسه يرحمه الله يعنى بها.
وقد حظيت مجلة المنهل بتقدير كثير من العلماء والباحثين من خارج المملكة العربية السعودية فكانوا يرسلون إليها بعضا من آثارهم تقديرا لدورها البارز في نشر العلم والأدب والدين. وقد احتفظ عبد القدوس للمنهل بمكانتها الطيبة بابتعاده عن المهاترات وترفعه عن الإسفاف في الجدل أو الخروج عما رسمه للمجلة من حدود البحث في نطاق مقارعة الحجة بالحجة والمجادلة بالحسنى، وتخير النافع والمفيد. ولقد كان لاحتفاظ المجلة بهذا المستوى أكبر الأثر في استثنائها حين صدور قرار دمج الصحف وتحويلها إلى مؤسسات فكانت المنهل هي المجلة الوحيدة التي استثنيت من بين جميع المجلات والصحف التي كانت تصدر في المملكة العربية السعودية وبقيت خالصة باسم صاحبها دون شريك، ولقد كان هذا الاستثناء سببا في احتفاظ المنهل بملامحها الخاصة دون تغيير.
المنهل مرجع هام
وأستطيع أن أقول أن إعداد المنهل عبر هذه العقود من السنين تعتبر مرجعا هاما لكثير من الشخصيات والمباحث ولقد رجعت إليها في ترجمتى للسيد عبيد مدني رحمه الله في أعلام الحجاز كما رجعت إليها فيما أنا بسبيل إعداده من ترجمة للشيخ أحمد إبراهيم غزاوى الشاعر المعروف يرحمه الله، وستبقى مرجعا للباحثين بما تضمه بين جوانبها من كنوز الثقافة والعرفان، وإني لارجو أن يعنى الأستاذ نبيه الأنصارى بالسير بها على خطى والده الكريم وأن يحافظ على تطويرها مادة ومعنى وهو
القادر على ذلك بعون الله.
مؤلفات عبد القدوس
ألف عبد القدوس رحمه الله مؤلفات كثيرة نثبت هنا أسماءها:
التوأمان - قصة اجتماعية
آثار المدينة المنورة
بين التاريخ والآثار
الأنصاريات - ديوان شعر
بناة العلم في الحجاز وهو ترجمة للسيد أحمد فيض آبادى مؤسس مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة.
موسوعة تاريخ جدة وهو كتاب ضخم في تاريخ جدة.
الملك عبد العزيز في مرآة الشعر وهو البحث الذى قدمه إلى مؤتمر الأدباء السعوديين الأول الذى عقد بمكة المكرمة في 3/ 4/ 1394 هـ
تاريخ الكعبة المعظمة قبل الإسلام
شاعر العرب عبد المحسن الكاظمي
إصلاحات في لغة الكتابة والأدب
بنو سليم
رحلة في كتاب من التراث
التحقيقات المعدة بحتمية ضم جدة.
مع ابن جبير في رحلته
طريق الهجرة النبوية
تحقيق أماكن مجهولة بالحجاز وتهامه.
والقسم الأكبر من هذه المؤلفات يتسم بطابع التحقيق التاريخي، ويدل على اهتمامات عبد القدوس رحمه الله بالآثار والتاريخ أما القسم الآخر فيدل على
اهتماماته بالتحقيقات اللغوية والأدبية وهي مكملة لاهتماماته التاريخية والأثرية.
هذا هو المطبوع من مؤلفاته ولقد ترك بعض المؤلفات التي لم تطبع فمنها ما قد كمل وما هو تحت الإكمال، ولن تتسع هذه الترجمة للكتابة عن كل هذه المؤلفات لذا فقد اخترت الكتابة عن أضخم كتبه وهو موسوعة تاريخ مدينة جدة والذى بذل الكثير من الجهد والوقت في جمعه وتحقيقه.
وكذلك عن كتابه الهام آثار المدينة المنورة الذى ظهرت طبعته الأولى قبل نصف قرن ولنبدأ بآثار المدينة المنورة
آثار المدينة المنورة
لعبد القدوس رحمه الله كتاب صغير الحجم ولكنه عظيم القيمة والقدر هو كتاب آثار المدينة المنورة الذى ألفه قبل نصف قرن، فقد ظهرت طبعته الأولى في سنة 1353 هـ، وعبد القدوس يومها في الثلاثين من العمر ثم أعيد طبعه في عام 1378 هـ وطبع للمرة الثالثة في سنة 1393 هـ وقد قسم الكتاب إلى عشرة أقسام هي كما يلي: -
1 - قسم الدور
وقد تحدث فيها المؤلف أولا عن الدور التي نزل بها الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أول وصوله إلى المدينة المنورة وهي دار كلثوم بن الهدم وسعد بن خيثمه بقباء ثم دار أبي أيوب الأنصارى التي اتخذها {صلى الله عليه وسلم} مسكنا إلى أن بنى دوره بجوار المسجد. كما تحدث عن دور عبد الله بن عمر وجعفر الصادق وعثمان بن عفان وأبي بكر الصديق ودار ريطة ودار خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ودار مروان بن الحكم. وحدد المؤلف مواقع هذه الدور مستشهدا بالأدلة التاريخية التي توصل إليها.
2 - قسم القصور
أما عن القصور الأثرية فقد تحدث الكاتب عن قصر سعيد بن العاص الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم تشهد بماضٍ عريق لهذا القصير الذى قال الشاعر في وصفه:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
…
أحلى إلى القلب من أبواب جيرون
وزين حديثه عن القصر بصورة فوتوغرافية لبقاياه الشاهدة بماضيه الغابر التليد. وكذلك تحدث عن قصر عاصم والسد الذى بناه بجوار قصره.
3 - قسم الحصون
وفى هذا القسم تحدث المؤلف عن حصن كعب بن الأشرف في بنى النضير وأثبت له أو على الأصح لبقاياه صورة فوتوغرافيه، وقد زار عبد القدوس رحمه الله الحصن ثلاث مرات ليتثبت من أن هذه البقايا هي حصن كعب بن الأشرف، وليست بقايا حصن آخر أو منازل أخرى ويقص علينا الشكوك التي قامت في نفسه، والأدلة التي توصل إليها بعد البحث في كتب التاريخ والاستفسار من سكان المنطقة من الأحياء، وكذلك الأمر بالنسبة لأطم الضحيان الذى أثبت صورة فوتوغرافية لبقاياه وهو لاحيحة بن الجلاح وما ذكرناه عن اطم ألضحيان ينطبق على أطم أبي دجانة الساعدي الأنصارى.
4 - قسم المساجد
تحدث فيه المؤلف عن مسجد قباء ومسجد الجمعة والمسجد النبوي الشريف ومسجد المصلى أو مسجد الضمان ومسجد الفتح ومسجد ذباب ومسجد القبلتين ومسجد بني ظفر ومسجد السقيا ومسجد الإجابة ومسجد السجدة ومسجد الشمس.
المسجد النبوى الشريف
وقد رأيت أن استخلص للقارئ بعض المعلومات عن المسجد النبوى الشريف لما لهذا المسجد من مقام عظيم في نفوس المسلمين عامة ولأثره البالغ في تاريخ الإسلام.
1 -
بني المسجد النبوي الشريف في السنة الأولى للهجرة على يدى النبي صلوات الله وسلامه عليه وكان بناؤه بسيطا بالغ البساطة كان أساسه الحجارة وجدره من اللبن وعمده من جذوع النخل وسقفه الجريد وكانت مساحته نحوا من 35 مترا من الجنوب إلى الشمال و 30 مترا من الشرق إلى الغرب وقد اشترك المسلمون في البناء وشاركهم في ذلك النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
2 -
زاد النبي {صلى الله عليه وسلم} في المسجد في السنة السابعة للهجرة فأصبح مربعا.
3 -
زاد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه في المسجد في السنة السابعة عشرة للهجرة خمسة أمتار في الجنوب وعشرة أمتار في الغرب و 15 مترا في الشمال.
4 -
جدد عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه في عمارته في سنة 29 للهجرة فبناه بالحجارة والجص والعمد المحشوة بالحديد وسقفه بالساج وزاد في الشرق والغرب والشمال والجنوب، يقول المؤلف وهي منتهى الزيادات بجنوبي المسجد حتى الآن.
5 -
جدد الوليد بن عبد الملك عمارة المسجد في عام 88 للهجرة وانتهت العمارة في سنة 91 للهجرة، وزاد فيه من الغرب والشرق وأدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد وأقام الدائر المخمس على الحجرة، وعمره بالحجارة المطابقة، والجص والعمد، ونقش جدرانه بالفسيفساء والمرمر وسقفه بالساج وذهبه.
6 -
زاد المهدى العباسي في عام 161 هـ فيه وانتهت عمارته في سنة 165 هـ ولم يذكر المؤلف مقدار هذه الزيادة.
7 -
وقع حريق في المسجد النبوي الشريف فقام الخليفة المستعصم بتجديده وبدأت العمارة في سنة 655 للهجرة وانتهت في عصر الظاهر بيبرس البندقدارى.
أقول ولإيضاح الأمر نذكر أن الخليفة العباسى المستعصم أمر بتجديد عمارة المسجد النبوي الشريف وبدأت العمارة في سنة 655 هـ وفى عام 656 هاجم التتار بقيادة هولاكو بغداد واجتاحوا وأسرفوا في قتل أهلها حتى يذكر أن عدد القتلى بلغ أكثر من ألف ألف نسمة - مليون قتيل - وقتلوا الخليفة رفسا.
ثم ساروا إلى الشام فالتقى بهم المصريون بقيادة قطز في عين جالوت وهزم الله التتار على يد جيش المسلمين في الخامس عشر من رمضان سنة 658 هـ، ثم تولى الظاهر بيبرس البندقدارى السلطنة في مصر بعد أن قتل قطز ومد نفوذه إلى الحجاز فقام بعدة إصلاحات بالحرم النبوى الشريف وأرسل الكسوة إلى الكعبة كما أرسل الصدقات والزيت والشموع، ويبدو أنه بدأ سياسته في مد نفوذه إلى الحجاز بإكمال العمارة في المسجد النبوى الشريف التي بدأها الخليفة المستعصم العباسي في سنة 655 هـ.
(1)
8 -
جدد الملك الناصر محمد بن قلاوون سقفه شرقي رحبته وغربيها وزاد رواقين في السقف الجنوبي مما يلى الرحبة عام 775 و 706 و 729 للهجرة.
9 -
وقد تم تجديد الرواقين المذكورين آنفا في عهد الأشرف برسباى عام 831 للهجرة.
10 -
جدد الظاهر سقف الروضة وسقوفا أخرى عام 853 للهجرة
(2)
11 -
عمره قايتباى سنة 879 هـ.
12 -
قام بعمارته العظمى المنتهية في أواخر القرن التاسع الهجرى.
(1)
"308/ 316 تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين للسيوطى "195/ 198 قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام لأحمد مختار العبادى"
(2)
أقول هو الظاهر جقمق من سلاطين المماليك الجراكسة. جاء في وفاء الوفاء للسمهودى ما يلى:
(ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وما قبلها على يد الأمير بردبك الناصر المعمار وغيره. "268 المماليك للدكتور السيد الباز العريفى "433 وفاء الوفاء .... الجزء الثاني"
…
أقول والظاهر مما ذكره المؤلف أن قايتباى قام بعمارتين للمسجد الأولى في سنة 879 هـ والثانية التي وصفها بالعظمى هي التي انتهت في سنة 879 هـ.
13 -
جدد السلطان سليمان كامل الجدار الغربي من حذاء باب الرحمة إلى المنارة السليمانية سنة 974 هـ كما هو منقوش بعلو الجدار المذكور من الداخل قرب باب الرحمة، وبنى المحراب السليماني عام 938 هـ والمحراب النبوي على ما يبدو من هيئته.
14 -
عمره السلطان سليم الثاني سنة 985 هجرية.
15 -
بنى السلطان محمود القبة على القبر الشريف ثم أمر بترميمها ودهنها باللون الأخضر الذى لا تزال تصبغ به إلى اليوم وذلك في سنة 1233 كما ورد في مرآة الحرمين لإبراهيم رفعت، وقد ذكر المؤلف نقلا عن كتاب مرآة الحرمين لأيوب صبرى المؤلف باللغة التركية والمطبوع في الآستانة سنة 305 هجرية ما ملخصه:
في عهد السلطان محمود خان الثانى وجد في القبة الخضراء تشقق، بسبب عدم متانة جدرانها، وعدم متانة حزامها العلوى، فأمر السلطان محمود بهدمها من قواعدها، وبناها على قواعد مثبتة ورفع بناءها الحالي.
ويعلق المؤلف على ذلك قائلا، ويتضح من ذلك أن القبة التي بناها قايتباي هي غير هذه القبة الخضراء الحالية ويؤيد أن القبة الخضراء الحالية عثمانية البناء هذا الهلال الموضوع فوقها وهو شعار الدولة العثمانية كما هو معروف.
أقول: والذى استطعت إستخلاصه مما نقلناه آنفا هو أن السلطان قايتباى بنى القبة الخضراء على القبر الشريف في عمارته العظمى للمسجد والتى انتهت في أواخر القرن التاسع الهجرى، ثم أن هذه القبة ظهر فيها التشقق في عهد السلطان محمود خان في سنة 1233 هجرية فقام بهدمها وإعادة بنائها ومن ثم اتخذت هذه العمارة الطابع العثماني الذى أشار إليه المؤلف وعلى هذا فإن القبة الخضراء المقامة على القبر الشريف يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الهجرى التاسع والله أعلم.
16 -
قام السلطان عبد المجيد العثماني بالعمارة الكبرى للمسجد في عام 1265
هـ وانتهت في عام 1277 هـ وفى هذه العمارة فتح الباب المجيدى وسمي باسم فاتحه السلطان عبد المجيد العثماني.
الترميمات في المسجد
1 -
رمم فخري باشا الوالي التركي المحرابين النبوي والسليماني ورمم البئر التي كانت في صحن المسجد عام 1336 هـ ومعلوم أن هذه البئر قد طمت.
2 -
رمم المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود أرض المسجد مما يلى رحبته في الجهات الأربع عام 1348 هـ ووضع أطواقا حديدية على بعض الأساطين التي حدث فيها تشقق بغربي الرحبة وشرقيها وذلك في سنة 1350 هـ.
3 -
رممت الحكومة المصرية المسجد في سنة 1354 هـ من غلة أوقاف الحرمين الشريفين بمصر ولم يورد المؤلف تفاصيل هذا الترميم.
العمارة السعودية للمسجد النبوى الشريف
على أثر ظهور الخراب في بعض أعمدة المسجد النبوى الشريف أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بتوسعة المسجد النبوى الشريف وقد أصدر أمرا بذلك بتاريخ 5 رمضان 1368 هـ وبدئ بتنفيذ العمارة السعودية في 5 شوال 1370 هـ.
هدم الدور والأماكن المحيطة بالمسجد
وبدأ المشروع بهدم الدور والأماكن المحيطة بالمسجد بعد انتزاع ملكيتها وتعويض أصحابها تعويضا سخيا وبلغت الدور والأماكن المنزوعة للتوسعة وللميادين والشوارع المحيطة بالمسجد 22955 مترا مسطحا.
استمر العمل في البناء من 5 شوال 1370 هـ وانتهى في أوائل 1375 هـ وقدرت المواد التي استعملت في العمارة السعودية بثلاثين ألف طن من الأسمنت والحديد والأخشاب والمؤن حملتها إلى ميناء ينبع أكثر من ثلاثين باخرة ونقلت
بالسيارات الضخمة من ميناء ينبع إلى المدينة المنورة، وأقيم مصنع خاص لأعمال الموازييك في منطقة ذى الحليفة وجلب له المهندسون والأخصائيون.
وبلغ عدد العاملين في عمارة المسجد النبوى ألفا وخمسمائة عامل يشاركهم مائتي صانع ويشرف عليهم أربعة عشر مهندسا جميعهم من الدول الإسلامية من مصر وسوريا والباكستان والسودان واليمن وحضرموت علاوة على السعوديين وبلغت مجموع الزيادة التي تمت في العمارة السعودية للمسجد ستة آلاف وأربعة وعشرين مترا.
مراحل الزيادات في المسجد النبوى الشريف
وننقل فيما يلى مراحل الزيادات التي تمت في مساحة المسجد النبوى الشريف منذ تأسيسه على يدي الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وحتى هذا الوقت الحاضر كما أثبتها المؤلف وهي موضحة بالأمتار:
أمتار مربعة
2475 مساحة بناء النبي {صلى الله عليه وسلم}
1100 زيادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
496 زيادة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه
2369 زيادة الوليد بن عبد الملك الأموى.
2450 زيادة المهدى العباسى
120 زيادة الملك الأشرف قايتباى
1293 زيادة السطان عبد المجيد العثمانى
10303 مجموع المساحة العامة للمسجد قبل التوسعة السعودية
6024 الزيادة السعودية الحالية الأولى
والواقع أن العمارة السعودية تنقسم إلى قسمين، القسم الأول هو هدم بعض
أجزاء المسجد القديم وإعادة تعميرها وكذلك ترميم بعض أجزائه والقسم الثانى هو التوسعة التي زيدت في مساحة المسجد وقد أوضح المؤلف ذلك كما يلى:
6029 مقدار التوسعة السعودية
6247 مقدار الأجزاء القديمة التي هدمت وأعيد تعميرها وهي الجهات الثلاث
12271
4056 مساحة الجهة القبلية - الجنوبية - الباقية من البناء القديم.
16327 المجموع الكلي لمساحة المسجد النبوى حاليا.
معلومات عامة عن المسجد
أساطين المسجد ونوافذه
يبلغ عدد الأساطين في المسجد النبوى الشريف قبل العمارة السعودية 327 أسطوانة: يبلغ عدد الأعمدة في العمارة السعودية 474 عمودا محيطة بالجدار و 232 عمودا مستديرا. يبلغ طول كل من الجدار الغربى والشرقي للمسجد 128 مترا ويبلع طول الجدار الشمالي 91 مترا. يبلغ عدد النوافذ في الجدار القبلى للمسجد أربعة عشر نافذة مكونة من شبكة حديدية في منتهى الدقة والجمال وأمام الواجهة الشريقة نافذة تطل على دار عبد الله بن عمر.
المحراب العثمانى
يقع المحراب العثمانى قبلي المسجد وهذا المحراب هو الزيادة التي زادها الخليفة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في المسجد ويدخل إليه من باب السلام وفيه محراب الإمام وفى نهاية المحراب موضع الزيارة للقبر الشريف.
المحراب النبوي - والروضة الشريفة
يقع المحراب النبوى في شرقي المنبر وما بين المنبر والقبر الشريف هو الروضة ومساحة الروضة 22 مترا في عرض 15 مترا، وفى الجانب الغربي من المحراب كتب بخط نافر هذا مصلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يقول المؤلف وشكل بناية هذا المحراب ينبئ بأنه قرين المحراب السليماني في طراز العمارة وقد حصل فيه ترميم أيام فخرى باشا وبعدها.
المحراب السليماني
أما المحراب السليماني فيقع في غربي المنبر وهو على شكل المحراب النبوي في زخرفته وبنائه وقد بناه السلطان سليمان العثماني في سنة 938 هـ كما يظهر من الكتابة المثبتة فيه وقد رمم في عهد الوالي التركي فخري باشا إبان الحرب العالمية الأولى.
المنبر
يقع غربي المحراب النبوي وبه اثنتا عشرة درجة ثلاث بخارجه وتسع بالداخل وهو مصنوع من المرمر وظاهره مغمور بالتذهيب والنقوش الفائقة وفوقة قبة لطيفة تقوم على أربعة أعمدة مضلعة من المرمر، وقد أمر ببنائه السلطان مراد العثماني وأرسل إلى المدينة سنة 998 هـ كما هو مثبت على بابه شعرا ويتم طلاء المنبر والمحراب في المسجد النبوى الشريف بالذهب.
الحجرة النبوية الشريفة
وكانت تسمى قديما المقصورة ومساحتها من الشمال إلى الجنوب ستة عشرا مترا ومن الشرق إلى الغرب خمسة عشرا مترا وقد أمر ببنائها الملك الأشرف قايتباي وجعل لها السور الخارجي من النحاس الأصفر ووضع عليها القبة الداخلية وهي مبنية بالحجر الأسود والأبيض وتقع فوق الحجرة الشريفة وللسور الخارجى المعروف
بالشباك باب قبلي أي جنوبي ويسمى باب التوبة، ويقول المؤلف وعليه صفيحة فضية مرقوم عليها تاريخ صنعها سنة 1026 هـ.
أقول: لعل المقصود وهو تاريخ صنع الباب المذكور.
والمحجرة الشريفة باب في الشمال يقال له باب التهجد.
وباب في الشرق يدعى باب فاطمة. وكذلك باب في الغرب.
صب الرصاص حول الحجرة
وقد حفر الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 557 هـ خندقا عميقا حول الحجرة وصب فيه الرصاص للحيلولة بين الجسد الشريف ومن يريد الوصول إليه.
الكوكب الدري
وكانت الهدايا تهدى إلى الحجرة النبوية الشريفة، وقد ذكر المؤلف نقلا عن كتاب مرآة الحرمين لإبراهيم رفعت باشا أن من ضمن ما كان في الحجرة الشريفة من الذخائر قطعتان كبيرتان من الألماس نقلتا إلى الاستانة خلال الحرب العالمية الأولى ولم تعادا إلى الآن.
حجرة فاطمة
وبشمالي الدائر المخمس في داخل الشباك حجرة فاطمة أو قبرها - والأصح أن فاطمة دفنت في بقيع الغرقد كما يقول المؤلف - وبخلف هذه الحجرة محراب يقال له محراب فاطمة.
محراب التهجد
وفى شمال الشباك من الخارج محراب يسمى محراب التهجد جدد في عهد
السلطان عبد المجيد وقد أزيل أخيرا.
الصُّفَّة
وتسمى في الوقت الحاضر دكة الأغوات وكانت هي المكان الذى يجلس فيه فقراء المهاجرين في حياة النبي {صلى الله عليه وسلم} وهي مواجهة لمحراب فاطمة وهي عبارة عن دكة طولها 12 مترا في عرض 8 أمتار تعلو عن الأرض التي حولها بنصف متر. وعليها داربزين من الصفر وبجانبها إلى الشرق مخزن أمامه دكة كانت معدة لجلوس شيخ الحرم النبوي في أيام الدولة العثمانية.
المآذن
مآذن المسجد خمس أربع منها شامخة وهي:
1 -
الرئيسية بالجنوب من المسجد بناها قايتباي.
2 -
منارة باب السلام بالجنوب الغربي منه.
3 -
السليمانية شرقي الباب المجيدي.
4 -
الشكلية بشماله.
5 -
منارة باب الرحمة وقد أزيلت وضم مكانها إلى رحبة باب الرحمة وكان بناؤها في عهد قايتباى وهي أقصر من جميع المآذن وقد حصل في كل المآذن ترميم في العمارة السعودية الجديدة.
أبواب المسجد النبوي الشريف
كان للمسجد خمسة أبواب كعدد مآذنه قبل التوسعة السعودية وهذه الأبواب هي:
باب السلام في الجنوب الغربي وكان يسمى باب مروان.
باب الرحمة بالشمال الغربي وكان يقال له باب عاتكة.
باب النساء وهو يقابل باب الرحمة من المشرق وكان يسمى باب ريطة باب جبريل بحذاء باب النساء من الجنوب.
الباب المجيدى بشمال شرقي المسجد ونسبته إلى السلطان عبد المجيد العثماني الذى عمر في عهده المسجد النبوي العمارة التي سبقت التوسعة السعودية مباشرة.
وقد زيد في التوسعة السعودية خمسة أبواب هي: -
باب الصديق أبي بكر وهو بثلاث فتحات متلاصقة ويقع بين باب السلام وباب الرحمة غرب المسجد.
باب الملك وله ثلاث فتحات متلاصقة أيضا ويقع كسابقه في غرب المسجد.
باب عمر بن الخطاب في شمال المسجد الغربي.
باب عثمان بن عفان في شمال المسجد الشرقي.
باب عبد العزيز وهو ذو ثلاث فتحات متلاصقة وموقعه في الجهة الشرقية من المسجد النبوي.
جدران المسجد
هي بصفة عامة مبنية من الحجر الأسود المنحوت المطابق وهي في غاية المتانة وسمكها نحو 3 أمتار وكلها مطلية بالجير داخلا وخارجا وهذا الوصف للجدران في العمارة العثمانية وقد هدم بعضها في العمارة السعودية وبنيت بقوالب الأسمنت وطليت من الداخل والخارج بالدهانات.
إنارة المسجد النبوي
كانت الإنارة في المسجد النبوى تعتمد على قناديل الزيت التي لا تزال بقاياها معلقة في العوارض الحديدية بين أعمدة المسجد، كما كانت الشموع توقد في المسجد للإضاءة إلى جانب القناديل، وأول من أضاء المسجد النبوي بالكهرباء هو السلطان عبد المجيد الثانى العثماني الذى بعث مكينة كهربائية لإضاءة المسجد وكان بدء الإنارة بالكهرباء يوم 25 شعبان 1326 هجرية وهو يوم الاحتفال بإفتتاح السكة الحديدية الحجازية بالمدينة المنورة.
ولما قدمت المكينة المذكورة أهدى الحاج الشاوي الجزائري المغربي مكينة جديدة لإضاءة المسجد الشريف وبقيت هذه المكينة مستعملة كما يقول المؤلف إلى سنة 1353 هجرية وهي سنة تأليف كتابه هذا.
التوسعة الثانية للمسجد النبوي
لقد ظهرت الحاجة إلى توسعة المسجد النبوي الشريف على أثر تكاثر الحجاج عاما بعد عام وكذلك لسهولة المواصلات بين مدن المملكة مما سهل للمواطنين القدوم إلى المدينة المنورة بطريق الجو والبر ولهذا فقد جرى الإعداد للتوسعة الثانية للمسجد وتم نزع ملكيات كثير من المباني والأماكن ويقول المؤلف أن هذه التوسعة ستتم باتجاه الغرب وستمتد من الجدار الغربي للمسجد إلى الشارع العيني بطول يبلغ مقداره 165 مترا كما ستمتد من الجنوب الغربي إلى الشمال الغربي حتى محلة الساحة ويبلغ مجموع مساحة التوسعة الجديدة ما يزيد على ستة وعشرين ألف متر وتزيد قيمة التعويضات فيها على خمسين مليون متر.
هذا ما كتبه المؤلف في سنة 1393 هـ في آخر طبعة لكتابه القيم الذى نتحدث عنه، وقد تم نزع ملكيات أخرى حول المسجد النبوي الشريف كما وألحقت مساحات كبيرة من الأرض به وأحيطت بالأسوار وأضيئت بالكهرباء وأعدت للصلاة والمأمول أن تجرى العمارة الجديدة المنوية وأن تتم كما تمت سابقتها في المسجد النبوي والمسجد الحرام وفق الله ولاة الأمور وأعانهم على إتمام ذلك أنه سميع مجيب.
وقد تحدث المؤلف في كتابه القيم عن أودية المدينة وعيونها ومحلاتها الشهيرة إلى غير ذلك من المباحث الهامة والقيمة التي نكتفي بالإشارة إليها خشية الإطالة ونحيل الراغب في الاستزادة إلى هذا الكتاب الصغير في حجمه والكبير في قدره ومحتواه.
أن كتاب آثار المدينة المنورة الذى الله عبد القدوس رحمه الله وهو في الثلاثين من العمر من الكتب النادرة في موضوعه وهو خلاصة جهد عظيم ودأب وتحقيق كبيرين، ولقد كنت أتمنى لو أنه رحمه الله أفاض في بعض المواضيع التي عالجها لكن ذلك أشفى لنفس القارئ وأكثر فائدة لأن هذه المباحث العزيزة يتشوق إليها
الراغب في المعرفة وهي مرتبطة بتاريخ المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى ومنطلق الجهاد ومهبط الوحي ومستقر صحابة رسول الله ومن تبعهم من اعلام الإسلام.
وأخيرا فإن هذا الذى ذكرت لا ينقص من قيمة الكتاب فالمؤلف كان يكتب الآثار ولم يكن يكتب التاريخ ولكل كاتب أسلوبه فيما يكتب وطريقته فيما يعالج من الأمور.
أن الكتاب من المراجع الهامة التي لم يؤلف مثلها في بابها ولهذا يقرأ على توالى السنين والأيام.
موسوعة تاريخ مدينة جدة
ألف عبد القدوس كتاب تاريخ مدينة جدة وظهرت طبعته الأولى في سنة 1383 هـ بطلب من رئيس بلدية جدة ثم أصدر طبعته الثانية في سنة 1400 باسم موسوعة تاريخ مدينة جدة وأضاف إليه إضافات كثيرة كما ذكر لي أن للكتاب جزءا ثانيا هو بسبيل إعداده وإظهاره للناس وهذا الجزء هو لتاريخ جدة بعد عام 1383 هـ حيث شهدت المدينة بعد هذا التاريخ الكثير من التطور والامتداد بحيث أصبحت تسابق الزمن في تطورها واتساعها كما سبقت المدن الأخرى بما نالته من عناية في جميع الأحوال.
ولقد أخبرني نجله الأستاذ نبيه أن القسم الأكبر من الجزء الثاني من هذا الكتاب قد أتمه عبد القدوس رحمه الله قبل وفاته وأنه كان قد حدد مواد المواضيع الباقية لهذا الجزء لإكمالها.
على أي حال فإن الجزء الأول بين أيدينا والذى يحتوى على ما يقرب من ألف صفحة والمحلى بكثير من الصور وبعضها نادر وبعضها قديم يمثل الجهد الضخم الذى بذله المؤلف في إعداده وتأليفه. وبعد هذه المقدمة عن الكتاب فلنتحدث عن مدينة جدة التي هي موضوع الكتاب.
قدم مدينة جدة
تعددت الروايات التي أوردها المؤلف عن قدم مدينة جدة فبعض الروايات يذكر أن عمرو بن معد بن عدنان نزل بها واتخذها له ولقومه سكنا ومرعى، وعمرو هذا هو قضاعه ويستشهد على ذلك بأن أحد أحفاده - جدة بن حزم بن ريان بن حلوان بن عمرو بن الحارث بن قضاعة ولد بجدة فسمى باسم الموضع الذى ولد فيه.
وحدد عاتق بن غيث البلادى في معجم معالم الحجاز مساكن قضاعة ومراعيها من شاطئ البحر وما دونها إلى منتهى ذات عرق إلى حيز البحر من السهل والجبل. ويحدد الأستاذ عبد القدوس هذا التاريخ بصورة تقريبية إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
(1)
بناء الفرس لمدينة جدة
أما الرواية الثانية فتذكر أن الفرس - العجم - هم الذين بنوا مدينة جده في عهد ملكهم يزدجرد وبنوا عليها سورا من الحجارة عرضه خمسة عشر شبرا كما أحاطوها بخندق من الماء يدور حول المدينة بما يجعل وضعها الجغرافي في شكل شبة جزيرة. ويحدد المؤلف هذا التاريخ بمنتصف القرن السادس الميلادي.
(2)
أما سبب بناء فرس لمدينة جدة فهو خراب الميناء الفارسي سيراف ورغبة ملك الفرس في إيجاد ميناء آخر بدلا عنه. وهناك رواية أخرى تجعل بناء القرس لمدينة جده مرتين المرة الأولى ممعنة في القدم والثانية هي التي تمت في عهد الملك يزدجرد في القرن الميلادي
(3)
.
على أى حال فإن ارتباط مدينة جدة بالفرس يبقى واضح المعالم خلال القرون المتتالية بعد الإسلام كما ورد على ألسنة الرحالة والمؤرخين مما سنتعرض له بعد.
(1)
"ص 66 موسوعة تاريخ مدينة جدة".
(2)
"ص 66 نفس المصدر".
(3)
"ص 66 نفس المصدر".
جدة قبل الإسلام
فإذا تركنا العهود الممعنة في القدم التي أشرنا إليها نجد ذكرا لشاطئ جده قبيل الإسلام حينما اعتزمت قريش بناء الكعبة قبل الإسلام بعد احتراقها فعلموا أن سفينة لبحار رومي كسرت قريبا من شاطئ جدة وقد بعثت قريش فاشترت أخشاب السفينة وأحضرت صاحبها باقوم وكان نجارا ليساعدهم في بناء الكعبة وهذا البناء هو الذى وضع الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه فيه - الحجر الأسود - بيده الشريفة حين اختلفت قبائل قريش في الأمر كما هو معلوم وكان هذا قبل البعثة النبوية بخمس سنين
(1)
.
جدة في العهد الإسلامي الأول
فإذا وصلنا إلى العهد الإسلامي وجدنا أن أهل مكة طلبوا من الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه أن يجعل ميناء مكة في ساحل جدة بدلا من الشعيبة، ويتطرق المؤلف إلى الشعيبة ويناقش ما ورد في بعض الروايات من أنها ميناء مكة قبل جده ويخلص إلى القول أن جدة هي المدينة وهي الميناء القديم وأن الشعيبة لا تعدوا أن تكون قرية صغيرة كل ميزتها أن ميناءها لا تكثر فيه الشعاب المرجانية التي تضطر السفن في ميناء جدة للرسو بعيدا عنها وأن الخليفة المهدى العباسي اختارها - الشعيبة لرسو السفن التي تحمل الرخام المرسل لعمارة الحرم المكي الشريف في عهده لهذه الغاية ليسهل نقله من السفن إلى مكة ويقول المؤلف أن بعض هذا الرخام لا يزال حتى اليوم مدفونا في رمال الشعيبة.
(2)
(1)
انظر ما كتبناه عن تاريخ الكعبة المعظمة في ترجمة الشيخ حسين عبد الله باسلامة ضمن أعلام الحجاز.
(2)
"60 موسوعة تاريخ مدينة جدة"
جده في روايات الرحالة والمؤرخين
وصف البلخي المتوفى سنة 322 هجرية جدة في كتابه ذكر المسافات والأقاليم. بأنها كثيرة التجارات والأموال وليس بالحجاز بعد مكة أكثر مالا وتجارة منها وقوام تجارتها الفرس
(1)
.
ووصفها البشارى في كتابه احسن التقاسيم في معرفة الأقاليم بانها:
مدينة حصينة عامرة آهلة أهلها أهل تجارات ويسار، خزانة مكة مطرح اليمن ومصر وأهلها في تعب من الماء وقد غلب عليها الفرس، ولهم بها قصور عجيبة وازقتها مستقيمة ووضعها حسن شديدة الحر جدا.
(2)
أقول ولإيضاح ما ذكره البشاري في وصف جدة أنها مطرح اليمن ومصر - أن هذا الوصف كان لجدة في القرن الرابع الهجرى، ولقد كانت جدة حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي الموافق للقرن الثالث عشر الهجرى مطرحا لمصر واليمن والقصد بالمطرح هنا أن البضائع التي ترد إلى مصر من الهند تطرح بمدينة جدة، ثم يجرى نقلها بالسفن الشراعية إلى القاهرة وذلك قبل حفر قناة السويس في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد. والواقع أن تجار جدة كانوا يحتفظون بهده البضائع في السفن التي كانت عبارة عن مخازن عائمة ثم يصدرونها إلى مصر بطريق البحر إلى ميناء السويس حسب الحاجة
(3)
.
ونعود بعد هذا الاستطراد الإيضاحي لنتابع وصف الرحالين لمدينة جدة عبر القرون، وصف ناصر خسرو جدة في القرن الخامس الهجرى بأنها مدينة جميلة محصورة في داخل سورها الحصين كما لفت الانتباه إلى عدم وجود الأشجار والزرع بها رغم ازدهارها العمراني، وعلل ناصر خسرو ذلك إلى ندرة وجود الماء العذب
(1)
صفحة 77 موسعة تاريخ مدينة جده.
(2)
صفحة 77 نفس المصدر.
(3)
انظر ما كتبناه مفصلا عن ذلك في كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز صفحة 172/ 173.
بها، وقدر ناصر خسرو سكان مدينة جدة بخمسة آلاف ووصف أسواقها بأنها نظيفة جدا ولها بابان مما يلى مكة، وباب البحر وقال أن أميرها مملوك لأمير مكة الذى هو في نفس الوقت أمير المدينة المنورة
(1)
واسمه أبو المعالي بن أبي الفتوح.
فإذا وصلنا إلى القرن السادس الهجرى نجد الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير يقدم لنا وصفا مخالفا كل المخالفة لوصف من سبقه من الرحالين في القرنين الماضيين فعمارتها الضخمة استحال أكثرها إلى خصاص أما أهلها الذين وصفوا بالثراء وكثرة المال فيصفهم بأنهم يستخدمون أنفسهم في كل مهنة لتحصيل لقمة العيش فكان منهم من يكري الجمال ومنهم من يبيع اللبن أو الماء للحجاج وإذا لم يكن لأحدهم شيء مما ذكر فهو يلتقط التمر من الشوارع أو يحتطب الحطب من ضواحى البلد ويبيع ما جمع، وربما تناول نساؤهم الشريفات ذلك بأنفسهن
(2)
.
ويعلق المؤلف على وصف ابن جبير بأن الحالة السياسية المضطربة في العالم الإسلامي واشتغال السلطان صلاح الدين الأيوبي بالحروب الصليبية في فلسطين ومهاجمة الصليبين للسواحل الإسلامية كل هذا أدى إلى الاضطراب السياسي الذى انعكست آثاره على الحالة الاقتصادية مما أدى إلى رحيل ثراة جدة وسراتها بأموالهم وأهليهم وخدمهم إلى مكان أمين وأن هذا الرحيل أخلى مدينة جدة من عناصر الثروة والقوة بها فلم يبق فيها إلا الضعفاء الذين ليست لهم القدرة على الهجرة أو القلة القليلة المتمسكة بالبقاء في البلاد رغم المتاعب والصعاب
(3)
ابحر
ومن الأخبار الطريفة في رحلة ابن جبير وصفه لمرسى ابحر الذى رسى المركب
(1)
79/ 80 تاريخ موسوعة مدينة جدة.
(2)
80 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
(3)
80/ 82 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
القادم به ابن جبير فيها فيقول وفى عشي يوم الأحد ثانى ربيع الآخر أرسينا بمرسى يعرف بابحر وهو على بعض يوم من جدة وهو من اعجب المراسي وضعا وذلك أن خليجا من البحر يدخل إلى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فترسى الجلاب به من قرارة هادئة
(1)
.
عودة إلى الرحالين
قدم المؤرخ العربي جمال الدين أبو الفتح بن يوسف بن يعقوب المعروف بابن المجاور إلى الحج بعد ابن جبير بنحو قرن من الزمان فوصف جدة بأنها مدينة صغيرة على ساحل البحر مزدحمة الحجاج وذكر أن الماء بها قليل وأنه يجلب إليها من أماكن بعيدة كما ذكر أن أهلها من نسل العجم وأن ابنيتها من الحجر الكاشور ومن الخوص وأنه يوجد بها خانات من الخوص تؤجر فيها الغرف للمسافرين، وقال أن بها خانيين كبير بن متقابلين بمخازن كبار وأنه كان تجبى بها رسوم - ضرائب - للعقار من قبل سلطان مصر مقابل تعمير كل بيت مبني بالخوص ومقدار هذه الرسوم العقارية هي ثلاثة دراهم على كل بيت
(2)
والمتأمل يرى أن وصف ابن المجاور الدمشقي يقترب من وصف الرحالة السابقين باستثناء وصف ابن جبير، الذى يقول المؤلف أنه ربما أنزل في هذه الخانات المبنية من الخوص فأخذ الانطباع القاتم عن المدينة وأحوال أهلها.
أهل جدة يرحلون منها
ويقدم المجاور الدمشقي قصة تحمل في طياتها أسباب ترك ثراة جدة لمدينتهم في سنة 473 هـ ليقول ما معناه:
أرسل أمير مكة إلى شيخ تجار جدة يطلب منه إرسال حمل من الحديد فامر شيخ
(1)
80/ 82 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
(2)
32 موسوعة تاريخ مدينة جدة ويقول الأستاذ حمد الجاسر أن كتاب المستبصر ليس من تأليف ابن المجاور الشيباني الدمشقي وإنما هو منسوب إليه خطأ وأن مؤلفه فارسي الأصل.
التجار غلامه بإرسال الحديد إلى مكة وأرسل الغلام الحديد المطلوب فلما وصل إلى صاحب مكة وجد أن الحمل الذى أرسل كان من الذهب الخالص وقد علاه الصدأ من طول بقائه فتغير لونه فظنه الغلام حديدا فبعثه على أنه من الحديد، ولكن والي مكة الذى عرف أن الذهب في مخازن تجار جدة موجود على شكل قضبان من الحديد طمع في حمل آخر فأرسل إلى شيخ التجار يطلب حملا آخر من نفس الصنف، وقد تنبه التاجر فاستدعى غلامه الذى أرسل الحمل الأول وسأله عن الحديد الذى أرسله إلى مكة فقال حمل حديد اصفرَّ بتشديد الراء.
أيقن شيخ التجاران الحمل الذى أرسل إلى صاحب مكة كان من الذهب الخالص وليس من الحديد كما أيقن بأطماع أمير مكة وما تجره هذه الأطماع عليه على تجار المدينة جميعا، وهنا تختلف الرواية، فتقول إحدى الروايتين أن أمير مكة الأمير داود بن إبراهيم هاجم جدة بالأعراب وحاصرها فهرب التجارب بأموالهم واهليهم وكلما يملكون، والرواية الأخرى تقول أن شيخ التجار استشار أحد كبار السن في المدينة فأشار عليه بالنزوح من المدينة فنزح تجار جدة بكل ما يملكونه وركبوا البحر فسكن قوم منهم السرين والراحة وعتر والجرعة والدرعة والشميد وجزيرة ذهبان وكسران وبنو موسى وباب موسى، ويعلق ابن المجاور على القصة فيقول فلما خلت الأرض من الأحباب ملكها الأعراب.
(1)
ويعلق المؤلف على ذلك أن هجرة أهل جدة نتيجة لمحاصرة الأعراب لها كانت جماعية وأنها كانت إلى ناحية الجنوب لأن أكثر الأسماء التي أوردها الدمشقي هي من مدن اليمن.
أقول والمتأمل في الرواية التي أوردها ابن المجاور لا يطمئن إلى حكاية الحديد الذى طلبه أمير مكة فأرسل إليه حمل ذهب بدلا منه فالذهب مهما كثر عند شيخ
(1)
87 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
التجار أو أي ثري لا يلقى في المخازن حتى لا يفرق بينه وبين الحديد، ولقد أدركت الناس يبنون الغرف السرية في بيوتهم أو متاجرهم ليودعوا بها ما يخشون عليه ولكن الحقيقة التي يمكن استخلاصها من رواية ابن المجاور أن حصار الأعراب والبادية لمدينة جدة طمعا في ثروات أهلها وعدم اطمئنان الناس إلى وجود الحماية الكافية لهم تجاه هذا الغزو هي التي دفعتهم إلى الرحيل بأولادهم وثرواتهم هذا إذا صحت الرواية وليس هناك ما يمنع صحتها.
وذكر ابن المجاور كذلك شيئا عن الرسوم التي كانت مفروضة على الحجاج المغاربة والتى تستوفى منهم بأمر والي مكة المكرمة كما ذكر أن بعض الحجاج الذين لم يستطيعوا دفع الرسوم جرى إيقافهم في جزيرة قريبة من جدة
(1)
.
أما الرحالة الشهير ابن بطوطه الذى قدم إلى الحج بعد قرن من قدوم ابن المجاور لها في القرن الثامن الهجرى فيقدم لنا وصفا يشبه وصف ابن جبير فيذكر أن سكان المدينة قليل بحيث لا يجتمع النصاب لصلاة الجمعة فسبحان مغير الأحوال.
ويعلل المؤلف هذا الانحدار المؤسي الذي آلت إليه أحوال جدة إلى اضطراب الأحوال السياسية في العالم الإسلامي فالأندلس يتقاسمها المسيحيون وبنو نصر، والصوماليون الوثنيون انتزعوا الساحل المناوح لمدينة جدة، والحجاز نفسه كان طعمة سائغة لأطماع ونزوات أمرائه الأشراف وكانوا شيعا ذوى أهواء متفرقة، والبادية في الحجاز تعيث فسادا في الأرض بدون رادع أو زاجر، ويد السلاطين خارج الحجاز قاصرة عن أن تمتد إليهم لإعادة استقرارا الأمن إلى ربوعه، فلا غرو أن يهبط كما يقول المؤلف مستوى التجارة البحرية في البحرين الأحمر والأبيض الذين تعتمد عليهما تجارة جدة في تقدمها وازدهارها، وهكذا فإننا نرى أن فقدان الأمن في المدينة بسبب تنازع وتسلط البادية وأطماعها أدخل الرعب
(1)
85 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
إلى قلوب الناس فتركوا ديارهم ورحلوا بأموالهم وذرياتهم إلى حيث يجدون الأمن والاطمئنان.
البرتغاليون يهاجمون جدة
في سنة 948 للهجرة هاجم البرتغاليون مدينة جدة بحرًا بنية الاستيلاء عليها وكان الاستعمار الغربي قد بدأ يزاول نشاطه في احتلال الشرق الأقصى والأوسط والاستيلاء على البلاد الهامة في آسيا وأفريقيا وكان البرتغاليون هم أول الشعوب الغربية المستعمرة للبلاد البعيدة، وكانت نواياهم قد أصبحت معلومة بعد أن استولوا على أجزاء من الهند، كما حاولوا الاستيلاء على بعض مدن المغرب العربي، ولما كان الله تعالى قد تكفل بحماية الحجاز من هذه الشرور لأنه موضع المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة فقد ألهم الله السلطان قانصوه الغورى قبل ذلك بتحصين مدينة جدة ضد الغزو المنتظر وكان الحجاز في تلك الحقبة تابعا لولاية سلاطين المماليك في مصر. أمر السلطان قانصوه الغورى بإحاطة مدينة جدة بسور حصين وبناء القلاع في مواجهة البحر وتزويدها بالمدافع الحربية وبالرجال لصد المغير بن على المدينة وأرسل جيشا من الترك والمغاربة للدفاع وعهد برئاسة الجيش إلى حسين الكردي الذى أمر أهالى المدينة عامة بالمشاركة في بناء السور وتم بناؤه في سنة 915 للهجرة ولكن البرتغاليون لم يفدوا للغزو الا في سنة 948 للهجرة الموافقة لسنة 1559 للميلاد.
دفع البرتغاليون حملتهم البحرية من الهند إلى جدة وكانت مدينة جدة مستعدة للدفاع عن المدينة وكان أمير مكة الشريف أبو نمي على علم بخطورة الحالة فترك الحج وحضر إلى جدة مع جنوده والمتطوعين من الناس لمواجهة الغزاة فحاصر البرتغاليين وأصلاهم نارا حامية وشاركت القلعة البحرية التي كانت في مواجهة السور بإطلاق النيران من المدافع ولم يجد البرتغاليون سبيلا إلى المدينة فلاذوا بالفرار مخلفين الذخائر والسلاح.
وقد شكر السلطان سليمان للشريف أبي نمى صنيعه هذا وقدر عمله الطيب
وجهاده في صد البرتغاليين عن مدينة جدة مدخل مكة المكرمة ودهليز الحرمين الشريفين
(1)
.
أقول لقد أدركت سو رجدة الذى كان يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم والذى أزيل في سنة 1364 تقريبا كما أدركت القلعة البحرية التي ورد ذكرها وكانت قد تحولت إلى سجن جدة
(2)
ولم يبق من آثارها سوى ملامح البناء القديم.
الشريف والوالي
انتقل الحكم في الحجاز من سلاطين مصر إلى دولة الخلافة بالقسطنطينية وكان لما أبداه الشريف أبو نمي أمير مكة من استبسال في صد الغزاة النصارى عن مدينة جدة أثره الطيب لدى السلطان فأصبح الحكم في الحجاز مشتركا بين شريف مكة والوالي التركي الذى تعينه السلطنة بمرسوم من الخليفة، وكان لابد لهذه الازدواجية في الحكم أن تظهر آثارها منافسة بين الشريف والوالي وكان لكل منهما أنصاره ورجاله وكان الشريف يقيم بمكة ويعين وكيلا له بجدة والوالي يقيم بجدة وكان لكل من الشريف والوالي أنصاره الذين يلجأ إليهم في دار الخلافة وهكذا يقع الشد والجذب وتعانى المدينة من جراء التنافس بين الحزبين هزات تهدد أمنها واقتصادها وقد أورد المؤلف بعض الأمثلة على ذلك.
كان أمير مكة في سنة 1182 هـ الشريف مساعد وطمع شريف آخر هو الشريف أحمد بن الشريف عبد الكريم في الأمارة ولم يجد وسيلة لذلك إلا إظهار الشريف مساعد بمظهر الرجل العاجز عن السيطرة على الأعراب والبدو الذين يتبعون أمير مكة عادة فهاجم الشريف أحمد مدينة جدة بواسطة البدو لنهب أموال تجارها ودافعت جدة عن نفسها متحصنة بسورها واصلت المهاجمين نارا حامية ولكن المهاجمين أطلقوا على المدينة قنابل المدافع وسهام الكبريت الموقد في رؤوسها كالرياش فاحترقت عشش جدة.
(1)
88 - 91 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
(2)
يراجع تفصيل كل ما يتعلق بسور مدينة جدة في كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز صفحة 59/ 62.
ويرى المؤلف أن الوالي التركي كان ضالعا في هذه المؤامرة وإلا ما تمكن المهاجمون من أحداث الحريق في جدة
(1)
.
ولكن المؤلف لم يعط مصدرا تاريخيا لهذا الاستنتاج والذى أراه أن الطمع في إمارة مكة هو الذى أحدث الحريق وليس من المعقول أن يساعد الوالي الشريف الذى يمهد لعهده بالإخلال بالأمن وحصار مدينة تجارية كبيرة كمدينة جدة والله أعلم.
والواقع أن الفتن بين ولاة مكة من الأشراف كانت أظهر من الخلافات بين الوالي التركي والشريف المكي وأخطر وقد أورد المؤلف بعد ذلك حادثة توضح هذا الرأى نوجزها فيما يلى:
في سنة 1185 هـ كان شريف مكة أحمد بن سعيد وكان وكيل الأمارة في جدة التاجر الشهير يوسف قابل أحد أعيان جدة ودهاتها كما يصفه المؤلف غضب شريف مكة على وكيله هذا فعهد بوكالته في جدة إلى حسين بن إبراهيم الشامي وكان حاضرا في مجلس الشريف بمكة وأمره أن يتوجه إلى جده ليقبض على يوسف قابل ويضعه في الأغلال ويتولى وكالة إمارة مكة بدلا منه. يقول المؤلف ولحسن حظ يوسف قابل وسوء حظ شريف مكة أن صديقا للتاجر يوسف قابل كان حاضرا بالمجلس وسمع في شأن صديقه ما سمع هذا الصديق هو الشريف سرور بن مساعد فأسرع بالسفر إلى جدة وأخبر صديقه يوسف قابل بما يراد به، وكان سرور ابن مساعد يطمع في إمارة مكة كما أن يوسف يريد دفع الأذى عن نفسه فاتفقا أن يمد يوسف قابل الشريف سرور بالمال الوفي ليستولى على إمارة مكة ويعزل الشريف أحمد بن سعيد، وهكذا تمكن الشريف سرور بمساعدة يوسف قابل من عزل شريف مكة والاستيلاء على إمارتها لإبقاء يوسف قابل وكيلا للإمارة بجدة.
(2)
(1)
92/ 93 موسوعة مدينة جدة.
(2)
93/ 94 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
ويذكر المؤلف أن قبائل حرب اشتبكت في قتال مع أمير مكة الشريف سرور بن مساعد في سنة 1195 للهجرة وأن مدينة جدة قد وقفت إلى جانبه وأنجدته في هذه الحروب ولكنه كذلك لا يعطى تفصيلا عن هذا الأمر
(1)
.
الإنكليز يقذفون جدة بالقنابل
في سنة 1274 للهجرة أرسل الإنجليز بعض قطع الأسطول إلى مدينة جدة وقذفوا المدينة بالقنابل وذلك على أثر مقتل القنصل الانكليزي والقنصل الفرنسي وبعض الفرنجة من قبل الأهالى والسبب في ذلك هو أنه سرت أشاعة بأن القنصل الإنجليزي دعس بقدمه علم الدولة العثمانية فاعتبر الأهالي ذلك إهانة للإسلام وقام عبد الله المحتسب ومعه جماعة من الأعيان بتهييج الأهالي على الإفرنج فأقدموا على قتل القنصليين كما ذكرنا ورأت انكلترا أن تنتقم لمقتل قنصلها ومن معه بإرسال أسطولها إلى جدة ولم تكن المدينة مستعدة لمقابلة الأسطول الإنجليزي فتدخلت الحكومة العثمانية في الأمر ووعدت الإنجليز بالتحقيق في الحادث ومعاقبة المعتدين وتم بالفعل القبض على المحرضين وصدر الأمر بقتل المحتسب وسعيد العامودى ونفي الآخرين إلى جزيرة قبرص وإطفاء الفتنة
(2)
.
إرسال الأسطول الإنجليزي مرة أخرى إلى جدة
وفى سنة 1311 للهجرة أرسل الانجليز قطعا من اسطولهم مرة أخرى إلى جدة أثر قتل الأعراب لوكيل القنصل الإنجليزي وقد جرح في هذه الحادثة كذلك وكيل القنصل الفرنسي والقنصل الروسي وتدارك الشريف عون الرفيق أمير مكة الأمر قبل أن يستفحل فحضر إلى جدة وعالج الأمر صلحا وعادت المراكب الانجليرية
(1)
93 نفس المصدر.
(2)
94/ 95 موسوعة تاريخ مدينة جدة وانظر تفصيل هذه الحادثة في ترجمة عبد الله باشا باناجه في الجزء الثاني من كتابنا أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة.
دون أن تتعرض للمدينة بأذى
(1)
هجرة أهل جدة إلى مكة
في سنة 1331 هجرية هاجر كثير من سكان جدة إلى مكة خشية من أن تتعرض المدينة لمهاجمة الأسطول الإيطالى من البحر وذلك على إثر نشوب الحرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا في طربلس الغرب، ويبدو أنه وردت بعض الأخبار بذلك ولكن شيئا من ذلك لم يحدث
(2)
.
الانجليز يضربون جدة بالقنابل
وفى سنة 1334 للهجرة أطلقت البوارج الإنجليزية قنابلها على المدينة واستهدفت بالذات الثكنة العسكرية التي كانت الحامية التركية معتصمة بها وذلك على أثر إعلان الشريف الحسين بن علي الثورة على الحكومة التركية وقد قاومت الحامية التركية خمسة عشر يوما فاستقدم الانجليز بعض الطائرات التي ألقت منشوراتها على المدينة محذرة ومنذرة وكان الشريف الحسين قد حاصر جدة برًّا فلما طال الأمر اتصل الشريف الحسين بأهلها وأنذرهم بضرورة التسليم وتم ذلك بالفعل واستسلمت الحامية التركية وغنم الشريف الحسين الأسلحة والذخائر الموجودة لديها في جدة وتم نقلها إلى مكة لمحاربة الحامية التركية المعتصمة بقلعة أجياد
(3)
.
جدة مقرا للملك علي بن الحسين
وفى سنة 1343 هـ على أثر خروج الملك حسين بن علي من الحجاز بعد أن
(1)
95 موسوعة تاريخ مدينة جدة.
(2)
9695 نفس المصدر.
(3)
96 نفس المصدر.
خلعه أهل الحجاز عن الملك وتولية ابنه الملك علي بن الحسين ملكا على الحجاز اتخذ الملك علي من جدة عاصمة له وكانت جدة معرضة للحصار من قبل جيوش السلطان عبد العزيز آل سعود الذى استولى على الطائف واستسلمت مكة له دون حرب وكانت الحرب مستمرة بين الهاشميين والسعوديين في جدة إلى إن تم الصلح بين الطرفين في جمادى الثانية 1344 هـ وغادر الملك على جدة نهائيا 3 جمادى الثانية 1344 هـ ثم دخلها السلطان عبد العزيز آل سعود - جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وانتهت بذلك المحنة التي تعرضت لها البلاد
(1)
.
وهكذا طاف بنا المؤلف عبر التاريخ لنرى كيف تقلبت الأحوال بمدينة جدة عسرا وشرا وحربا وسلما وخوفا وأمنا فسبحان من له البقاء والدوام والعزة والملكوت.
كان الحكم في الحجاز وخاصة في العهد العثماني مناصفة - إذا صح هذا التعبير - بين أمراء مكة الذين جرت العادة على إسناد الإمارة إليهم وهم من الأشراف، والولاة الأتراك الذين تختارهم الحكومة العثمانية وترسلهم من قبلها. وكان أمير مكة يعين له وكيلا في جدة يطلق عليه لقب - الوزير - وكان أمراء مكة من الأشراف يناط بهم شئون البادية والأعراب والمحافظة على الامن وخاصة في الطريق بين مكة وجدة وبينهما وبين المدينة الذى تعبره قوافل الحجاج إلى جانب إدارة الأمور في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
وكان مقر الولاة الأتراك في جدة وكان هؤلاء منوطا بهم الشؤون الإدارية والمالية المتعلقة بجباية الضرائب الحكومية والرسوم الجمركية وإدارة شئون جدة من النواحى الإدارية والعسكرية والمالية، وكان لأشراف مكة معاليم تدفع لهم من واردات جدة ويبدو أن هذه المعاليم مرتبطة بنسبة ما يتحقق من الواردات التي كان أهمها الرسوم الجمركية ولما كانت الواردات المالية تستوفى بجدة فإن شريف مكة يتسلم استحقاقاته بواسطة وزيره في جدة من الوالي التركي.
(1)
98/ 97 نفس المصدر.
وكانت هذه الازدواجية في السلظة بين الوالي التركي والشريف المكي توجد الكثير من التنافس لرغبة كل طرف بالاستئثار بالسلطة الكاملة، ولهذا فإن تاريخ جدة حافل بالكثير من الحوادث التي وصل الأمر فيها بين الشريف والوالي إلى الحروب ونحن ننقل هنا بعض الحوادث الهامة الواردة في الكتاب عن هذه الأمور لأهميتها التاريخية التي تنبئ عما كانت عليه أحوال البلاد من الاضطراب في تلك العصور.
حكام جدة
كان حسين الكردي حاكم جدة من قبل السلطان قانصوه الغوري وهو الذى بنى بأمر السلطان قانصوه سور جدة وقلعتها البحرية التي صدت البرتغاليين حينما هاجموا البلدة وكان حسين الكردي هذا جبارا صارما فعندما أمره قانصوه ببناء السور فرض على عامة أهالي البلدة وتجارها المشاركة في البناء وحمل الطين والأحجار حتى أتم السور في أقل من عام وقد حدث أن أحد البنائين تأخر يوما في الحضور فأمر حسين الكردي ببناء السور عليه وهكذا دفن الرجل حيا تحت هذا السور.
وقد انفصل الحجاز عن حكم السلطان الغوري وانتقلت السلطة إلى السلطان سليم أول السلاطين العثمانيين الذين الذى حكموا الحجاز في سنة 923 ويبدو أن الشكوى من حسين الكردي وجبروته وصلت إلى مسامع السلطان فأصدر أمره إلى والي جدة قاسم الشرواني بإغراق حسين الكردي في بحر جدة ونفذ الشرواني أمر السلطان فربطت على ظهره صخرة وألقي في البحر
(1)
.
قيطاس بك
وفى سنة 1060 ولي حكم جدة غيطاس أو قيطاس بك وهو أحد مماليك رضوان العقادي أمير الحج المصرى ولّاه سيده إمارة جدة نكاية بالشريف زيد أمير مكة فدس أنفه في شؤون الأمارة وأخذ يناصر الشريف عبد العزيز بن الشريف إدريس
(1)
"298/ 299 نفس المصدر"
على أمير مكة ويغريه بالاستيلاء عليها حتى انتهى الأمر إلى نشوب قتال عظيم بين الطرفين في مكان يقع قريبا من السيدة ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد أصيب عدد كبير من الجانبين.
ولما اشتد القتال وخشي الشريف عبد العزيز من الهزيمة طلب الأمان لنفسه ولقيطاس بك ومن معهما فأعطاهما الشريف زيد الأمان وأرسل مع غيطاس أشخاصا يوصلونه إلى جدة وبعد ذلك صدر الأمر بعزل غيطاس بك وترحيله إلى مصر مع الشريف عبد العزيز الذى نآمر معه.
(1)
حسين باشا
وفى سنة 1079 أسندت الدولة إلى حسين باشا أمر جدة ومشيخة الحرم المكي والنظر في أمر مكة وكان هذا الوالي طموحا، غاضب الشريف سعد بن زيد أمير مكة وعاكسه في توزيع الصرِّ المرسل معه لمستحقيه ولم يعتن به ثم توسط بينهما بعض أمراء الحج فتواصلا على مضض وحذر، وبعد انتهاء حج عام 1079 عاد إلى جدة مقر إمارته وظهر منه شقاق كبير على أمير مكة الشريف سعد وبارزه بالعداوة وقطع معاليمه من جدة - المعاليم - هي المخصصات المالية التي كانت مخصصة لشريف مكة بأمر السلطان - ثم قدم إلى مكة في حج 1081 فلما كان اليوم الثالث من منى أطلقت عليه رصاصة وقيل ثلاث رصاصات فأصيب في فخده عند جمرة العقبة في وقت الغروب وهو منحدر إلى مكة فوقع من حصانه فاحتمله العسكر إلى التخت ونزلوا به إلى مكة بعد أن قتلوا من وجدوه تجاههم من الحجاج الفقراء إلى أن وصلوا إلى بيته في باب الباسطية بمكة.
وبلغ الخبر الشريف سعدا فنزل من منى بمن معه من العسكر والأشراف في لباس الحديد، واستعدت عساكر حسين باشا للحصار وجعلوا المدافع على باب السدرة ورباط الباسطية ومن جهة باب الشبيكه بمكة. واجتمع أمراء الحج بالشريف فأخبرهم أنه لم يعلم بهذا ولم يأمر - وطلب الشريف محاسبة حسين باشا
(1)
"301/ 302 نفس المصدر"
عن استحقاقه الذي منعه حسين باشا بدون حق. ووكل الشريف وكيلا من قبله فأقام الدعوى لدى قاضي مكة على الباشا وأحضرت دفاتر بندر جدة فصح للشريف عند الباشا مبلغ 24000 قرش وتوسط الأمراء بينهما فأخذ الشريف عشرة آلاف وسامح في الباقي، ثم توجه حسين باشا عائدا إلى جدة في السابع عشر من ذى الحجة وتوجه منها إلى المدينة المنورة وكان يضطرم غيظا على شريف مكة فاستدعى الشريف أحمد بن محمد الحارث بن الحسين بن أبي نمي وولاه شرافة مكة وألبسه الخلعة في الروضة الشريفة ونادى له في البلد وأمر بالدعاء له على المنبر.
وأرسل إلى جدة يطلب الذخيرة والسلاح ليتوجه إلى مكة لخلع الشريف سعد وبلغ الشريف سعدا ما حدث فسافر من مكة إلى ينبع لقتال حسين باشا ثم توالت الحوادث حتى ورد عزل حسين باشا إلى الشريف سعد وجاءته البشرى بإمداده بالذخيرة والخزانة التي طلبها حسين باشا فارسلت إليه من جدة، ثم وافى خبر العزل حسين باشا فتوجه من المدينة إلى غزة وتوفي بالطريق.
(1)
الأشراف يشكون أمير مكة إلى الوالي سليمان باشا
وفى سنة 1111 أسندت ولاية جدة إلى سليمان باشا واستمرت ولايته لها إلى سنة 1118 وخلال هذه السنوات اختلف الأشراف مع أمير مكة الشريف سجد، وأخذوا يعيثون في الأرض فسادا فتعرضوا لنهب المسافرين بين مكة وجدة من الحجاج وغيرهم وكان أمير مكة الشريف سعد قد امتنع عن دفع استحقاقات الأشراف إليهم فكاتبهم الوالي سليمان باشا ووعدهم بضمان حقوقهم وإعادتها إليهم وطلب منهم تأمين طريق مكة للحجاج فانصاع الأشراف لرغبة الوالي وأمنوا الطريق بل وصار البعض منهم يصطحبون القوافل في ذهابها إلى مكة وإيابها محافظة عليها وكتب الوالي إلى الشريف بما فعل
(1)
"302/ 303 نفس المصدر".
وطلب منه اطلاق حقوق الأشراف إليهم، ولكن الشريف سعيدا أمير مكة لم يحفل
بالأمر فما كان من الأشراف إلا أنهم اجتمعوا وعزلوا الشريف سعيد وولوا بدلا منه الشريف عبد المحسن وتجمع الأشراف قرب جدة في منطقة غليل وأرسلوا إلى سليمان باشا يذكرونه بوعده لهم وبما تم الاتفاق عليه معهم وطلب منهم سليمان باشا الدخول إلى جدة فدخل بعضهم وبقى البعض الآخر في غليل على حذر.
ويبدو أن سليمان باشا كان من دهاة الرجال وقد أحكم خطته فاستبقى الأشراف في جدة وكتب إلى الشريف سعيد أمير مكة وكذلك إلى والده رسالة يقول فيها:
أن الأشراف نزلوا غليلا لمحاصرة جدة ومنعهم أهلها من الماء
(1)
وربما يحدث منهم خلاف على البندر - مدينة جدة - وليس لنا قدرة على دفعهم، وأرجو أن تخرجوا إليهم ونحن من عندنا معكم أو تدفعوا ما هو لهم من المعاليم ليرجعوا عما هم فيه من مضرتنا ومضرتكم وليدخلوا تحت الطاعة، وإن كنتم عاجزين عن ذلك فأخرجوا من البلاد فقد نعين لها من يقوم بحفظها.
إن المتأمل في رسالة الوالي يجدها مبطنة بالتهديد فهو يخيره بين القضاء على مشكلة الأشراف الذين يعبثون بالأمن إما بالقوة ويعده بالمساعدة على ذلك، أو بالحسنى بدفع مالهم من استحقاقات وفى حالة عدم استجابته لأي الأمرين يدعوه إلى ترك إمارة مكة لأنه يصبح عاجزا عن القيام بواجباته.
وركب الشريف سعيد رأسه فكانت إجابته لسليمان باشا - ليس لهم عندنا إلا السيف أو يرضون بالحيف.
لم يضع سليمان باشا وقتا فاستدعى الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد فعقد له إمارة مكة بحضور القاضي والأشراف والأعيان وهيأ له كل ما يحتاجه من عساكر خيالة ومشاة وأمن له المرتبات اللازمة من المطعم والمشرب، وكتب إلى المدينة المنورة
(1)
منطقة غليل فيها عين الماء التي تستقي منها جدة.
بإمرته فنودى به أميرا لمكة وخطب باسمه على المنبر النبوي كما كتب إلى قبائل حرب وإلى شمال الحجاز وإلى اليمن والطائف بإمرته فأطاعوا. ولكن والي مكة الجديد بقي بجدة لأن الأمير الشريف سعيد ما زال بها.
ولم يرضخ الشريف سعيد للأمر الواقع فقابل الكيد بالكيد إذ استصدر فتوى شرعية من قاضى مكة المكرمة بإبطال البيعة للشريف عبد المحسن وبعزله هو وسليمان باشا من منصبيهما، ولكن سليمان باشا كان فيما يبدو قد استصدر أمرا سلطانيا بإطلاق يده في تولية إمارة مكة من يشاء وعزل من يشاء وكان قد أعذر إلى الشريف سعيد برسالته التي أرسلها إليه.
أبرز سليمان باشا الأوامر السلطانية بتفويضه في أمر ولاية إعارة مكة فلم يستطيع الشريف سعيد أن يفعل شيئا واضطر في نهاية الأمر إلى الخروج من مكة ليدخلها الشريف الجديد عبد المحسن بن أحمد بن زيد.
وكما ولي سليمان باشا الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد فإنه قام بعزله عن منصب الأمارة وتولية الشريف عبد الكريم بن محمد بدلا منه، ويقول المؤلف أن الباشا شعر أن الشريف عبد المحسن يعمل على التخلص من نفوذ الباشا.
وعلى أى حال فإن هذه الوقائع تظهر قدرة هذا الوالى على السيطرة على حكام مكة من الأشراف واخضاعهم لنفوذه استنادا إلى ما بيده من تفويض من السلطان، وقد اقترنت ولاية سليمان باشا بالقضاء على تمرد المتمردين من الأشراف والبدو سواء بالحسنى كما رأينا في تأمينه طريق القوافل بين مكة وجدة وبالقوة حينما جرد حملة بحرية قوامها السفن الشراعية على الشريف عبد الله بن عبد الكريم الذى استولى على مدينة ينبع وكذلك حملة بحرية أخرى على الشريف سعد والد الشريف عبد الكريم الذى حاول انتزاع القنفذة بواسطة الأعراب في الجنوب ولكن الشريف سعيدا لم يهدأ بالا حتى استصدر أمرا من السلطان بإعادته إلى الإمارة مرة أخرى وفوجى سليمان باشا بأمر السلطان الذى رضخ له فبايع الشريف سعيدا بالإمارة وبذل الشريف سعيد لسليمان باشا الأمان ولكن هذا لم يلبث أن استصدر
فرمانا من السلطان أحمد بعزل الشريف سعيد وتولية الشريف عبد الكريم مكانه، وهكذا انتصر سليمان باشا الوالي الداهية أخيرا وأجلس صديقه الأمير عبد الكريم على دست الأمارة في سنة 1117 للهجرة
(1)
.
شريف مكة يهاجم جدة
أدت الخلافات المتفاقمة بين أمراء مكة من الاشراف وولاة جدة من الترك إلى حدوث احتكاكات أدت إلى هجوم أشراف مكة بجيوشهم على مدينة جدة ومحاصرتها وإجبار الوالي التركي على الهرب من جدة.
فقد أسندت ولاية جدة سنة 1146 إلى الوالي علي باشا وحدثت بينه وبين الشريف مسعود أمير مكة منازعات بسبب المقررات الخاصة للشريف في بندر جدة وقدمت جنود الشريف مسعود لمحاصرة جدة وكان الوالي قد استعد لهذا الحصار ونشبت المعارك إلا أن وكيل شريف مكة في جدة وأنصاره فيها أشاروا على قائد جيش الشريف مسعود بمهاجمة المدينة من الجهة الجنوبية لضعف الدفاع في تلك الجهة وبالفعل تمكن الجنود والمهاجمون من التسلل من الثغرات الضعيفة في السور وأصبحوا داخل المدينة، فلاذ الوالي التركي بالفرار بحرا وتمكنت جيوش أمير مكة الشريف مسعود من الاستيلاء على جدة وبإلحاح من الشريف مسعود تم عزل الوالي التركي وأرسلت القسطنطينية واليا آخر.
(2)
وقد حدث نفس الشيء بالنسبة للوالي الذى عينته مصر في سنة 1183 هـ واسمه حسن اغاشبكة - ويبدو أن المصريين تمكنوا من استعادة بعض سلطتهم في الحجاز في ذلك الوقت فتوجه الوالي إلى وادى فاطمة ثم إلى جدة ولكن الشريف أحمد بن سعيد أمير مكة لم يكن راضيًا عن وصول هذا الوالي المصري فأرسل إليه يأمره بالخروج من جدة فلم يقبل فأرسل إليه جيشا يزيد على أربعة آلاف مقاتل
(1)
307/ 314 نفس المصدر.
(2)
318/ 319 نفس المصدر.
ومعه بعض قبائل اليمن، واستعد حسن اغا للدفاع عن المدينة وأخرج المدافع الكبيرة ونصبها على الكدوة وصارت خيله تخرج كل ليلة وتعسُّ إلى الرغامة.
وصلت سرية من جيش شريف مكة إلى غليل ولجأوا إلى وسيلة أخرى فأرسلوا كتابا إلى الشريف أحمد رئيس جند حسن اغا وجعلوا له مقدارا معلوما من المال ليفسد الجنود على الاغا، وتم التواطؤ بين الشريف أحمد وقائد سرية أمير مكة وأوعز إليهم أن يهاجموا البلدة من الباب اليماني لضعف وسائل الدفاع فيه. وبادر هو بالهجوم مع السرية الواردة من مكة فتمكنوا من الاستيلاء على جدة في نهاية جمادى الآخرة.
وقد استسلمت لهم البلدة بعد أن قتلوا جملة من الأتراك وأخرجوهم من البلدة ولم يبق في يد والي جدة إلا القلعة التي أحاطت بها جيوش شريف مكة ولما أيقن قائد القلعة أن القلعة لا تحميه خرج منها من الباب المطل على البحر وخاض في البحر بخيله وتوجه بمن معه إلى رابغ ومنها إلى مصر وبذلك انتهت ولاية حسن اغا على جدة.
(1)
غزو الأحباش لجدة
وإكمالا لما حدث من الوقائع الحربية بجدة نذكر أن الأحباش قاموا بغزو جدة بحرا في سنة 183 للهجرة وأوقعوا بأهلها فخرج الناس من مكة يومئذ غزاة في البحر وعليهم أميرهم عبد الله بن محمد بن إبراهيم المخزومي الذى ولي مكة لهارون الرشيد العباسي
(2)
.
وكذلك غزاها إسماعيل الاخيضر سنة 256 للهجرة فنهبها وقتل أهلها قتلا ذريعا.
(3)
تعداد سكان جدة
اختلف المؤرخون في تعداد سكان مدينة جدة فقدرهم ناصر خسرو في عام
(1)
"319/ 320 نفس المصدر"
(2)
"103 موسوعة تاريخ مدينة جدة"
(3)
"موسوعة تاريخ مدينة جدة"
442 للهجرة بخمسة آلاف نسمة وقدر الرحالة المستشرق بوركهات سكان جدة في سنة 1230 ما بين اثني عشر ألفًا، وخمسة عشر ألفا وفي سنة 1277 قدر مالتزن عدد سكان جدة لما حج إلى مكة بخمسة عشر ألفا، وفي سنة 1281 قدرهم هوجلين بأربعين ألفا، وقدرهم فانديك باثنى عشر ألف نسمة، وفي سنة 1301 قدرتهم دائرة معارف البستانى بثمانية عشر ألف نسمة، وقدر عدد سكان جدة في مطلع هذا القرن الهجرى سنة 1300 هـ محمد صادق باشا بخمسة وعشرين ألف نسمة، وكذلك كان تقدير إبراهيم رفعت باشا، وفي سنة 1327 هـ قدرهم محمد لبيب البتانوني بخمسين ألفًا بينهم عشرة آلاف من الأجانب المسلمين بين فرس وحضارمة وهنود وبخاريين، أما الافرج فيبلغ عددهم مائة أو يزيد قليلا وأغلبهم من الاروام. وفي سنة 1330 هـ قدرتهم دائرة المعارف البريطانية بعشرين ألفا، وفي سنة 1331 هـ قدرتهم دائرة المعارف الإسلامية بنحو ثلاثين ألفا من العرب المختلطين بالتكارير ونحو 50 نصرانيا. وقدرهم محمد فريد وجدى في دائرة معارفه بنحو ثلائين ألف نسمة.
(1)
عدد الأجانب في جدة
في سنة 1355 هـ الموافق لسنة 1937 م ذكرت دائرة المعارف البريطانية أنه كان بجدة من الأجانب ما يأتي:
50 أمريكيا - 19 ايطاليا - 44 بريطانيًا - 5 روس - 5 فرنسيين - 11 هولنديًا وفي سنة 1375 هـ قدرت دائرة المعارف البريطانية سكان جدة بمائة وستين ألف نسمة، وقدرتهم دائرة المعارف الامريكية في سنة 1376 هـ بستين ألف نسمة، وقدرهم توتشل بثمانين ألف نسمة وجاء في هامش الصفحة أن عددهم الفعلى 112 ألف نسمة ونشر قارى اوين ممثل شركة الزيت العربية الامريكية مقالا في مجلة المنهل ذكر فيه أن الخبراء يقدرون عدد سكان جدة قبل عشر سنوات بخمسة وثلاثين ألفا. ويقدرونهم اليوم سنة 1379 هـ بثلاثمائة وخمسين ألفًا أو نصف
(1)
"110/ 117 نفس المصدر".
مليون، وقدرهم عبد الله عبد الجبار في كتابة التيارات الأدبية الحديثة في قلب جزيرة العرب بأربعمائة ألف وقدرت منظمة الصحة العالمية في الإحصاء الذى قامت به العدد بمائة وستة آلاف في سنة 1381 هـ وورد فيه أن 35% منهم من الأجانب معظمهم من العمال وأصحاب الحرف. ودل المصور الجغرافي لجدة سنة 1368 هـ أن تعداد السكان يقدرب 24400 نسمة وأن تعدادهم سنة 1375 هـ كان 942000 وفي سنة 1379 هـ وصل إلى 106000 والإحصاء الذى أجرى سنة 1382 هـ أظهر أن عدد السكان قد بلغ 114000.
تعداد المباني في جدة
أما بالنسبة لتعداد المباني في جدة على اختلاف أنواعها فإن الكتاب يضم هذه المعلومات:
جاء في كتاب الجواهر المعدة للحضراوي أن دكاكين جدة تزيد على خمسة آلاف ومقاهيها تزيد على المائة وجاء في نشرة إحصاء السكان والمؤسسات التي أصدرتها وزارة المالية والاقتصاد الوطني في ذى القعدة سنة 1382 هـ أن عدد مباني جدة - 32317 مبنى
(1)
وعدد شوارع جدة حاليا 131 شارعا، هذا في عام 1383 هـ
(2)
.
شارع قابل
وفي زمن حصار الملك عبد العزيز آل سعود لجدة باع الملك علي بن الحسين هذا الشارع لسليمان قابل بثلاثة آلاف جنيه ذهبا وأعطاه سليمان قابل ارزا وشعيرا بدلا من النقود المشار إليها ومن ثم صار الشارع ملكا له.
(3)
البحر الأحمر
يبتدئ البحر الأحمرمن خط عرض 30 شمالا من خليج السويس وينتهى عند 40/ 13 جهة باب المندب ويبلغ طوله نحو 2150 كيلو مترا وعرضه في المتوسط
(1)
"560 موسوعة تاريخ مدينة جدة"
(2)
"561 نفس المصدر".
(3)
"567 نفس المصدر".
280 كيلو متر ويتسع فيما بين مدينتي جازان شرقا ومصوع غربا ويبلع نحو 34 كيلو متر.
وتبلغ أعماقه بالقرب من السواحل نحو 2.200 قدم وتنحدر إلى أن تصل إلى زهاء 6600 قدم ويبلغ امتداد السواحل في المملكة العربية السعودية ما يزيد عن 1000 ميل.
الماء في جدة
كانت جدة تعاني من شح الماء عبر القرون وفي القرن العاشر الهجري قام السلطان قانصوه الغوري بجلب الماء العذب إلى جدة من وادى قوص الواقع شمال الرغامة وتبعد الرغامة عن جدة ساعتين سيرا على الأقدام ولكن هذا الماء كان يتعرض للملوحة إذا شحت الأمطار ويعذب بكثرتها، فلما دخل القرن الحادي عشر الهجري انقطعت العين ثم أجريت ثم انقطعت مرة أخرى في القرن الثالث عشر الهجري، وذلك تبعا للتطورات السياسية والأمنية التي تتعرض لها البلاد ولتوفير الصيانة والتنظيف وإهمالهما. وفي سنة 1270 هـ، قام التاجر فرج يسر بإعادة إجراء العين بعد إصلاحها وجمع لذلك التبرعات من التجار واستمر جريانها إلى سنة 1304 هـ وفي سنة 1306 هـ تم إيصال الماء إلى جدة بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني فوصل الماء إلى جدة في عهد الوالى التركي صفوت باشا وسميت هذه العين بالحميدية نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن الاسم الذى غلب على هذه العين لدى أهل جدة هو العين الوزيرية وكانت هذه العين تنبع من سفوح الجبال الشرقية لجدة والتى تبعد مسافة نصف ساعة عن جدة، وبنيت لهذه العين مناهل في انحاء متفرقة من مدينة جدة ليأخذ الناس منها حاجاتهم من الماء كما تأخذ البواخر منها حاجتها كذلك.
تقطير الماء من البحر
تكرر انقطاع الماء عن مدينة جدة فجلبت الحكومة التركية في سنة 1325 هـ أول آلة لتقطير مياه البحر وكان أهل جدة يسمونها الكنداسة، ولم تكن هذه الكنداسة كافية لسقيا مدينة جدة فكانت موردا مساعدا للصهاريج الموجودة في جدة والآبار الأخرى. وقد تعرضت هذه الآلة للخراب حينما انقطع الفحم
الحجرى الذى كان وقودها في عام 43 و 1344 هـ وفي سنة 1346 هـ استوردت الحكومة السعودية آلتين مقطرتين بدلا من الآلة البخارية.
عين العزيزية
اجتمع أهل جدة في 1367 هـ وقرروا جمع المال من أثريائهم لجلب الماء إلى جدة بعد أن تكرر انقطاع العين العزيزية عنها وقد جمع الأهالي نصف مليون ريال واستقدموا خبيرا انجليزيا لهذه الغاية ولما علم جلالة الملك عبد العزيز بالأمر أمر بجلب الماء على حسابه وكلف الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بهذا المشروع وقد جلب الماء من عيون وادى فاطمة بعد الاتفاق مع أهلها على ذلك وتعاقدت الحكومة مع شركة جلاتلي هنكي الإنجليزية على تنفيذ المشروع وبدئ العمل به في منتصف عام 1367 هـ وفي غرة المحرم 1367 هـ وصل الماء إلى جدة منقولا بالأنابيب بطول خمسه وستين كيلو مترا وبذلك انتهت قصة انقضاع الماء التي دامت عبر القرون
(1)
.
وعلى ذكر الكنداسة نورد هنا بعض أبيات من قصيدة المرحوم محمد سعيد العتيبي في الكنداسة:
يا ذوى الرأى والحجي والكياسة
…
خلصونا من دوشة الكنداسة
كلكم تأخذون بالدَّسِّ ماءًا
…
ونشوف النجوم من أجل كاسه
ومنها
كل عشرين طابقون حمارا
…
ويل من عضِّه الحمار وداسه
منظر يضحك الخواجات منه
…
والأديب اللبيب من هز رأسه
ويضم الكتاب كثيرا من المعلومات التي تجمع بين الطرافة والغرابة وقد اخترنا منها ما يلى:
(2)
(1)
"141/ 156 نفس المصدر".
(2)
"152/ 53 نفس المصدر".
امتيازات الحضارمة في جدة
جاء في مذكرات المرحوم الشيخ محمد صالح بن علي باعشن أن كثيرا من تجارات جدة كانت بيد الحضارمة وأن لهم تقاليدهم الموروثة في جدة وكانت لهم مكانة في المجتمع باعتبارهم من رجالاته وكانت الدولة العثمانية تقدر لهم هذه المكانة وكانوا يمتازون عن سكان المدن الأخرى في الحجاز - مكة والمدينة وغيرها من مدن الحجاز - بإن دعاواهم وتركاتهم وبيع وشراء دورهم تتم عند شيخ السادة ولا يتعرضهم وال ولا قاضٍ.
وقد صدر بذلك فرمان سلطاني في سنة 1237 هجرية من السلطان محمود خان وبقى هذا الامتياز ساريا في العهد العثماني ثم في العهد الهاشمي، ولما تولى الملك عبد العزيز أمر الحجاز طلب منه الحضارمة إبقاء امتيازاتهم لهم فوافق على ذلك ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أمر المشيخة وكانت اجتماعاتهم تتم في دار الشيخ محمد صالح باعشن ولم يتفقوا على شئ فضاعت امتيازاتهم وتغير الأمر بالنسبة إليهم
(1)
.
ثروات البحر
وصف الرحالة الحميري جدة وضخامة الثراء بها فقال وفي أعلى منازلها قباب محكمة ويذكر أهلها أن من بلغ كسبه مائة ألف دينار بنى على داره هذه القبة ليعلم أن كسبه قد بلغ العدد المذكور
(2)
.
صادرات جدة
وصف بطرس البستانى تجارة جدة بأنها متسعة جدا تجرى على الأكثر بواسطة مراكب انجليزية ومراكب عثمانية ووطنية صغيرة محمولها نحو 80 طنا وأن من صادراتها البن والصمغ والطيوب والبلسم والبخور والسنا والعاج والعطر والخيار شنبر وصدف اللؤلؤ وتروس السلاحف وريش النعام والتمور والسكاكين والخزف والجلود.
(1)
231/ 232 نفس المصدر.
(2)
275 نفس المصدر.
رأس المال
يقول الشيخ محمد صالح بن علي باعشن: وكان من يبلغ رأس ماله ستة عشر ألف ريال يعتبر تاجرا ناحجا مرموقا.
(1)
.
اللؤلؤ في جدة
وقد ذكر توتشل أن بعض اللآلى وجدت على طول البحر الأحمر قرب جدة إلى الجنوب ولكن الغوص لم يكن حتى الآن أحد المشروعات الناجحة.
(2)
.
واردات جدة
حددت دائرة المعارف الإسلامية واردات جدة بأنها كانت بعد فتح قناة السويس بمقدار مليون وخمسمائة ألف جنيه ذهب
(3)
.
وذكرت دائرة المعارف المطبوعة سنة 1960، أن استيرادات جدة من البضائع في سنة 1955 م بخمسة ملاين جنيه.
صادرات المملكة وواردتها في سنة 1379 هـ
ذكر تقرير رئيس الغرفة التجارية بجدة الأرقام التالية:
3.
313.506744 ريال صادرات المملكة في سنة 1379 هـ
917.
632702 ريالا واردات المملكة في العام المذكور.
(4)
حارة المظلوم - سبب التسمية
في سنة 1134 هـ وقعت بالمدينة المنورة فتنة أهلية أتهم أغوات المسجد النبوي فيها العالم الديني السيد عبد الكريم البرزنجي بأنه من مشعلي الفتنة ورؤوسها وصدر الأمر من السلطنة بقتل السيد البرزنجي ومن اتهم معه من زعماء الفتنة ومثيريها. وبقي السيد عبد الكريم البرزنجي بالمدينة خائفا ولم تلجأ الدولة إلى القبض عليه في المدينة وتنفيذ حكم القتل فيه تحسبا لما قد ينجم عن ذلك من
(1)
"276 نفس المصدر".
(2)
"279 نفس المصدر".
(3)
"280 نفس المصدر".
(4)
"283 نفس المصدر".
القلاقل، ويبدو أن لمكانة الرجل الدينية الأثر الأكبر في تحسب الدولة لذلك.
لهذا فقد أغروا به من زين له الخروج من المدينة والانتقال إلى جدة حيث أنها آمن له من المدينة، وقرر السيد البرزنجي الخروج من المدينة والانتقال إلى جدة فلما وصل إلى مكة في طريقه إلى جدة قبض عليه الوزير أبو بكر باشا وأرسله إلى جدة فحبس بقلعتها وقتل خنقا وألقي بجسده في سوق جدة يوما كاملا وكان قتله بهذه الصفة الشنيعة ثم إلقاؤه في السوق قد أثار حنق أهل جدة وسخطهم على الحكومة العثمانية فسموه المظلوم وسميت المحلة التي ألقى بها جسده محلة المظلوم من يومئذ إلى اليوم.
يقول المؤلف أما كتاب السلاح والعدة في فضل جدة فيسمى البقعة التي في داخل السور بالجهة الشمالية باسم بقعة المظلوم نسبة إلى عفيف الدين مظلوم المدفون فيها
(1)
أقول والرواية الأولى تتفق مع ما سمعته من بعض العارفين بتاريخ جدة من أهلها والله أعلم.
باب المغاربة - سبب التسمية
وكان هذا الباب يقع أمام عمارة معرض الجفالي، ولعل منشأ التسمية أنه كان مدخل حجاج المغاربة أيام كانت تفرض عليهم رسوم حج باهظة من قبل أمراء مكة، كما حدثنا ابن المجاور الدمشقي من أهل القرن السابع الهجري في كتابه تاريخ المستبصر، وقد أفادنا ابن المجاور بأن صلاح الدين الأيوبي أنفذ من مصر إلى الأمير مكثر أربعة آلاف اردب حنطة (والأصح ستة آلاف أردب حنطة) إلى جدة وإلى مكة وقال له خذ هذا القدر واترك عن المغاربة الجزية مع دية الكلب فأزال الأمير مكثر ذلك كله في سنة ست وثمانين وخمسمائة ثم أراد الأمير قتادة أن يرد الشئ إلى أصله - يعنى أخذ الجزية من المغاربة فأدركه الموت وارتفع عنهم. وقد وصف ابن جبير الأندلسي الذى حج في زمن إمارة الأمير مكثر ما كان يمنى به الحجاج من إرهاق في أخذ المكوس على أشخاصهم "وكان مقدار الجزية سبعة يوسفية على كل رأس كما كان القواد في جدة يأخذون من كل رأس منهم يوسفيا".
(1)
"316 نفس المصدر".
قال ابن جبير ولولا ما تلافي الله به المسلمين في هذه الجهات الحجازية بصلاح الدين لكانوا من الظلم في أمر لا ينادى وليده لا يزجر شديده فإنه رفع ضرائب المكوس عن الحجاج وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلها إلى أمير مكة، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم، عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج بسبب المكوس واتفق لنا من ذلك أن وصلنا إلى جدة فامسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور فورد أمره أن يضمن الحاج بعضهم بعضا ويدخلوا إلى حرم الله فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج، ثم قال ابن جبير - والذى جعل له صلاح الدين بدلا من مكس الحاج الفى دينار والفي أردب من القمح وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الاشيبلي عندنا حاشا اقطاعات اقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور، ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الأفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج.
(1)
أوليات في جدة
الفرنجة - القنصليات الأجنبية
في سنة 1252 هـ كان وصول أول قنصل انجليزي إلى جدة وتوطنه بها ونصبه أول علم للأجانب بها فكانت القنصليات الأجنبية في جدة تابعة لبريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا وهولندا وبلجيكا وإيران وكان للحكومة البولندية قنصلية في جدة وانقطعت العلاقة معها بعد استيلاء الروس على بولندا، أما العلاقة السياسية مع روسيا فقد بدأت في 16 فبراير سنة 1926 م وانقطعت في سنة 1938 م.
(2)
وكان للمسيحيين في جدة نظام خاص في لباسهم وتنقلهم كما يظهر في الفقرة التالية.
(1)
"558/ 559 نفس المصدر - عن رحلة ابن جبير نفس المصدر - عن رحلة ابن جبير 54/ 55".
(2)
"393/ 398 نفس المصدر"
المسيحيون في جدة
ويوجد مسيحيون يقيمون في جدة وهناك يونانيون قليلون يعملون في التجارة، وكان قدومهم إلى جدة من مصر وكانوا مجبرين في أيام الشريف على ارتداء لباس خاص وكانو ممنوعين من الوصول إلى باب مكة في مدينة جدة وعندما حكم الأتراك الحجاز أزيل هذا النظام الدقيق، والآن للمسيحي كامل الحرية في التنقل في جدة وإذا مات لا يدفن في جدة لأنها تعتبر أرضا تابعة للأرض المقدسة ويوجد محل خاص في الجزر الصغيرة يؤذن لهم في الدفن به.
(1)
أما اليهود فقد طردوا من جدة كما يظهر من الفقرة التالية.
اليهود في جدة
وكان اليهود وهم سماسرة هذا البلد ولكنهم طردوا منذ سبعين عاما لسوء أخلاقهم ونزحوا إلى اليمن وصنعاء على ما يقوله بوركهارت. وبوركهارت مستشرق سويسري تسمى بإسم إبراهيم عبد الله وتزيى بزي المسلمين ودخل جدة ومكة والمدينة ووصف موسم الحج وصفا بارعا في كتاب سماه السفر إلى بلاد العرب وظهر باللغة الإنجليزية سنة 1829 م.
(2)
وتعليقا على ذلك أقول أن ما يتعلق بالمسيحين ربما كان في العهود السابقة للحكم العثماني والتى تبدأ في أواخر القرن العاشر الهجري والمقصود بكلمة أيام الشريف الواردة في الخبر هو شريف مكة. لقد أدركت المسيحيين في العهد الهاشمي واوائل العهد السعودى وهم يعيشون حياة عادية في ملابسهم وتحركاتهم وكانت لهم شركاتهم واعمالهم أما بالنسبة لمدافنهم فقد كانت لهم مقبرة في جدة في الجهة الجنوبية قرب الميناء ولا تزال موجودة حتى هذا اليوم، أما عن اليهود فلم يكن بجدة إلا يهودي واحد اسمه ماركو وكان له دكان في شارع متفرع من السوق الكبير وقد رحل من جدة بعد أن تزوجت ابنته الخواجه نقولا وكان يونانيا مسيحيا على
(1)
"111 نفس المصدر"
(2)
"111 نفس المصدر"
غير رضاء منه فترك جدة غاضبا إلى غير رجعة.
إضاءة الشوارع
وأضيئت شوارع جدة بالمصابيح الغازية في أول عهد الحرية في سنة 1327 هـ وكان المتصرف سوريا أقول والمقصود بعهد الحرية هو الانقلاب الذى قام به الأحرار العثمانيون وكان شعاره حرية مساواة عدالة وكان حزيهم يسمى حزب الاتحاد والترقى.
(1)
دخول فن التصوير الفوتوغرافي
يقول المؤلف: حدثني الشيخ محمد نصيف بأنه في سنة 1300 هـ أخذ رسمه - فوتوغرافيا - وهو ابن ستة أشهر المستشرق الهولندي سفوك هوجرنة الذى كان يومئذ نزيل جدة قادما إليها من مصر وكان ذلك برغبة من جدة الشيخ عمر نصيف.
(2)
الحسبة والمحتسب
المحتسب هو المتصرف في شئون المدينة وبيده مفاتيح أبوابها وهو المسئول عنها وكان لديه مراكب مؤلفة من بغال وحمير وجمال ولديه رجال شجعان مسلحون لنشر الأمن في البلدة وإذا حدث أمر هام في الليل مثلا فإن الكتب الرسمية التي يكتبها حاكم جدة إلى إمارة مكة في هذا الشأن لا ترسل إلا مع رجل خاص من رجالات المحتسب. وكانت إمارة مكة تبيع الحسبة لطلابها مقابل مبلغ من المال يدفعه المحتسب لخزانة أمير مكة وربما كان الحال في جدة شبيها بذلك في بعض الظروف. وكانت لحسبة في عام 1270 هـ تدور بين ثلاثة أشخاص من أهل جدة هم محمد طويل جد محمد الطويل رحمه الله وعبد الله محتسب وآخر من بيت جاسر.
وفي مطلع القرن الهجري الرابع عشر حولت الحسبة إلى رئاسة بلدية جدة مثل سواها من مدن الحجاز.
(1)
"393 نفس المصدر"
(2)
"395 نفس المصدر"
قبر حواء
كان موضع هذا القبر هيكلا عبدته قضاعة قبل الإسلام وبقي أثره بعد الإسلام فأقيم القبر مكانه، ولقد حاول الشريف عون الرفيق هدم هذه القبة - قبة قبر حواء - وقام قناصل الدول في وجهه حيال عزمه المذكور وحيلولتهم بالتفاهم الودى بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه بحجة أن حواء ليست أم المسلمين وحدهم بل ويشاركهم في بنوتها جميع البشر من الاجناس غير الإسلامية.
(1)
أقول وهذا الخبر فيه شيء من الغرابة والله أعلم.
تقييم الكتاب
وبعد فهذا الحديث الطويل عن جدة هو ما رأيت نقله من موسوعة تاريخ مدينة جدة وهو من أهم الكتب التي ألفها المرحوم الأستاذ عبد القدوس الأنصارى فتتبع كلما يتعلق بمدينة جدة في كتب الرحلات والمؤرخين والجغرافيين ودوائر المعارف إضافة إلى أبحاثه الخاصة في شتى المجالات حديثها وقديمها والاتصال بالعارفين من أهلها كالشيخ محمد نصيف والشيخ محمد صالح بن علي باعشن رحمهما الله وهما من كبار أهل جدة الذى يجمعون بين العلم والخبرة ومعاصرة الأحداث، والتنقيب عن المذكرات والكتب المخطوطة في تاريخ جدة واستخلاص المعلومات منها. أن الكتاب حجة في موضوعه ولقد بذل فيه المؤلف من الجهد والوقت ما لم يبذله سواه من أهل جدة أو غيرها مما يجعله مرجعا قيما لكل مؤرخ أو دارس والكلمة الأخيرة في هذا الكتاب هي استحثات الأستاذ نبيه الأنصاري ابن المرحوم عبد القدوس في إكمال ما بدأه والده واخراج الجزء الثاني من هذه الموسوعة الضخمة في تاريخ جدة.
(1)
"48/ 49 نقلا عن رحلة لبيب البتنوني".
المعارك الأدبية
خاض عبد القدوس رحمه الله معارك أدبية كثيرة أولها فيما اذكر مع الأستاذ محمد حسن عواد يرحمه الله حينما أصدر عبد القدوس كتابه التوأمان وكان رأي الأستاذ عواد فيه سيئا ودارت المعركة في جريدة صوت الحجاز بين الأديبين، وقد أصدر عبد القدوس كتابه هذا ولعله أول كتبه في مطلع شبابه وكان العواد قد فرض نفسه في دنيا الأدب وذاع اسمه وصيته.
أما المعارك الأخرى فلقد كانت مع الأستاذ حمد الجاسر والأستاذ عبد الله بن خميس ولعلها أن لم تخني الذاكرة تتعلق بابحاث تاريخية وأثرية .. وعلى أي حال فليس من غرض هذه الترجمة الحكم بين عبد القدوس وغيره من الأدباء والعلماء وإنما أعطاء صورة عن حياته الأدبية والعلمية.
ولقد كان الرجل فيما أعلم موضوعيا في هذه المعارك يترفع عما يسف من الكلام ويلتزم أدب البحث ولكنه يجهر بما يعتقد أنه الصواب رحم الله الأنصارى وعوادا وغفر لهما وأمد الله في حياة الأديبين الكبير بن حمد الجاسرو عبد الله بن خميس فهما من أعلام الأدب والعلم في هذه البلاد.
الكلمة الأخيرة
وإذا كانت هناك كلمة اخيره تقال في آثار عبد القدوس رحمه الله فلعل المنهل الذى رعاه عبد القدوس شابا ورجلا وشيخا هو الموسوعة الحقيقية لمعارفه وتحقيقاته، وهي المرجع الضخم لأدبه وعلمه، وهو كذلك من أهم المراجع لكثير من الأدباء والعلماء الأموات منهم والأحياء.
لقد وهب عبد القدوس رحمه الله نفسه للأدب والعلم والتحقيق والبحث فقضى
حياته كلها في عمل دائب مفيد وترك لنا هذا التراث الضخم من الأبحاث والتحقيقات سواء في كتبه الخاصة أو فيما كان ينشره في مجلته العظيمة المنهل خاصة وفي الصحف الأخرى عامة وهو بهذا الدأب يصور لنا حياة رجل العلم الذى وهب
حياته كلها للعلم النافع المفيد.
مرضه ووفاته
مرض عبد القدوس رحمه الله مرضا شديد تردد فيه على المستشفيات في جدة والرياض ويبدو أن العلة كانت قد استعصت على العلاج وآذان مصباح حياته بالانطفاء فتوفى في ليلة الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1403 هـ عن عمر يناهز الثمانين عاما ودفن بمكة المكرمة في مقبرة المعلاة بعد أن صلى عليه صلاة الظهر من يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، تغمده الله برحمته الواسعة وأنزله منازل رضوانه وتقبل منه عمله الطيب في خدمة الأدب والعلم أنه سميع الدعاء ..
عبد الله باشا باناجه
عبد الله باشا باناجه
معتدل القامة نحيف البدن حنطي اللون واسع العينين، أقنى الأنف، مهيب المنظر يكسو الشيب لحيته وعارضيه وشاربه وحاجبيه، يرتدى الجبة والعمامة الألفي وتحتها الشاية وهي اللباس الخاص بالتجار في ذلك الزمان.
ولد بمدينة جدة في الفترة حوالي عام ألف ومائتين وسبعين للهجرة، وسافر بصحبة والده التاجر يوسف باناجة الذى نفي مع من نفي من تجار جدة إلى جزيرة قبرص على اثر غزو الأسطول الإنجليزي لميناء جدة إثر قيام الأهالي بقتل القنصل الإنجليزي والقنضل الفرنسي وبعض الفرنجة في جدة.
وتفصيل هذه الموقعة أن شائعة انطلقت في مدينة جدة في ذلك الزمان مفادها أن القنصل الإنجليزي دعس العلم العثماني بقدمه في إحدى البواخر الراسية في الميناء، واعتبر الأهالى أن هذا العمل الذى قام به القنصل الإنجليزي إهانة للعَلمَ الذى هو رمز الإسلام فقتلوه وقتلوا معه القنصل الافرنسي كما قتل في هذه الحادثة بعض الافرنج المقيمين بجدة ونهبت دورهم.
استشاطت حكومة الانجليز غضبا لما حل بقنصلها وغيره من الفرنجة. فأرسلت بعض قطع أسطولها إلى ميناء جدة، وأطلقت بعض هذه القطع قنابلها على
المدينة فالحقت الخراب ببعض أجزائها، ولم تستطع القلعة البحرية مقابلة هذا الهجوم بما لديها من مدافع قديمة وأسلحة أكل عليها الدهر وشرب.
وقد رأت الدولة العثمانية أن من الحكمة تسوية هذه المسألة فاجرت تحقيقا في الحادث الخطير وعاقبت القائمين به والمحرضين عليه بالقتل والنفي، وقد نفذ القتل في عبد الله المحتسب الذى كان محتسب مدينة جدة - المحتسب هو رئيس البلدية - وسعيد العامودي وغيرهم وكان من ضمن المنفين الشيخ يوسف باناجة والد المترجم
(1)
.
وقد توفي الشيخ يوسف باناجه في منفاه بجزيرة قبرص فعاد عبد الله باناجه مع أخيه عبد الرحمن ووالدتهما إلى جده، وكان اخوهما الأكبر محمد باناجه هو الذى يشرف على شئون العائلة منذ نفي والدهم من البلاد. ونشأ عبد الله باناجه في جدة وتعلم أولا في قبرص حينما كان والده منفيا بها وربما أتاح له هذا تعلُّم اللغة التركية هناك فقد كانت الجزيرة تحت حكم الأتراك وبها جالية تركية إسلامية كبيرة وعلى أي حال فقد نال من العلم ما كانت تسمح به ظروف ذلك الزمان، ولما بلغ مبلغ الشباب عظم الخلاف بينه وبين أخيه الأكبر محمد الذى هو رئيس العائلة وكان جافي الطبع شديدا في تصرفاته فلم يستطع عبد الله العيش مع أخيه هذا فهاجر إلى مدينة الاستانة - اسطنبول - عاصمة الخلافة العثمانية وهي في أوج مجدها وازدهارها.
واشتغل عبد الله باناجه بتجارة المجوهرات من اللآلئ والأحجار الكريمة، وكان لهذه التجارة سوقها الرائج إذا جمع صاحبها بين حسن الاختيار وجمال التنسيق وصاحب ذلك الكياسة وحسن السياسة.
ووجد عبد الله باناجه طريقه إلى بلاط الخليفة وقصوره بما تحمله من نفيس الجواهر وكريم اللآلئ فاصبح مقربا إلى البلاط ولم يمض طويل وقت حتى عيَّنه
(1)
انظر تفاصيل القصة في كتاب موسوعة تاريخ مدينة جدة 94/ 95 للأستاذ عبد القدوس الأنصاري.
السلطان عبد الحميد عضوا في مجلس المبعوثان وأنعم عليه بلقب الباشوية الرفيعة في ذلك الزمان فأصبح اسمه - عبد الله باشا باناجه - وهو الوحيد فيما أعلم من أهل الحجاز الذي حصل على هذه الرتبة الرفيعة العالية بما لها من امتيازات واوسمة باستثناء بعض أشراف مكة المكرمة الذين منحت لهم رتبة الباشوية من السلطان في ذلك الزمان.
بزغ نجم الفتى وطابت له الإقامة في عاصمة الخلافة وتزوج بها واقتنى الضياع وطالت إقامته هناك حتى يئسر أهله وإخوته من رؤيته بينهم في جدة مرة أخرى، ولكن للأقدار أحكامها التي تغير ما قدر الناس لأنفسهم وما أرادوا، مات محمد باناجه الأخ الأكبر، وأصبح عبد الله هو رئيس العائلة فعاد إلى وطنه مرة أخرى ليكون على رأس البيت الذي تركه شابا وكانت هذه العودة سببا في كلما حققة بيت باناجه وما ناله من شهرة وذيوع صيت، كانت العائلة تسكن في بيت صغير في منطقة سوق الندى وحول هذا البيت بيوت صغيرة أخرى متناثرة وإلى جانبها أرض خالية ترمى فيها النفايات. اشترى عبد الله باناجه باشا البيوت الصغيرة المحيطة بدار أسرته كما اشترى في الأرض المهملة وهدم الجميع لينشيء مكانها بيت العائلة الكبير الموجود حاليا بسوق الندى وليبني حوله المخازن الخاصة بالبضائع وليكون سفله مكاتب للعمل التجارى، وعلوه للسكن وكان هناك بيت صغير متصل بمسجد الحنفي وهو من أقدم المساجد في جدة، وملاصق لبيت باناجه فاشتراه الباشا ليجعل منه مقصورة للصلاة متصلة بالمسجد ومحجوزة عنه بشباك كبير من الحديد، وشيد في نفس الوقت صالة فخمة والحقها بهذه المقصورة وكان في تصرفه هذا مثالا للذكاء وبعد النظر.
كان آل باناجه يستعلمون المقصورة في صلاتهم اليومية فإذا أذن الظهر والعصر تركوا مكاتبهم واجتمعوا في هذه المقصورة يصلون بصلاة أمام المسجد وهم يشاهدون المصلين كما يشاهدهم المصلون كان هذا في الأيام العادية، أما في يوم الجمعة فإن الأمر يختلف اختلافات تاما. لقد أصبحت هذه المقصورة ملتقى الولاة
والحكام والأعيان، يفد الوالي التركي والقائمقام ومدير الشرطة وكبار الأعيان لصلاة الجمعة في مقصورة آل باناجه فإذا انقضت الصلاة انتقل المجتمعون إلى الصالة الكبيرة المؤثثة بأجمل الأثاث للاستراحة وفيها تدار عليهم أكواب القهوة والشاي وينطلق بخور العود، وتدور الأحاديث التي تتعلق بأهم الأحداث كما تدور المجاملات وليس هذا فحسب كانت، المقصورة مكانا أمينا للشخصيات الهامة من الملوك والعظماء الذين يصلون إلى جدة وتدركهم الجمعة بها، ولقد شهدت كثيرا من الملوك الذين عاصرتهم يصلون الجمعة في مقصورة آل باناجه.
الملك الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز.
السلطان وحيد الدين آخر سلاطين آل عثمان الذي زار الحجاز بدعوة من الشريف الحسين بعد خلعه من العرش. الملك الشريف علي بن الحسين الذي خلف أباه الشريف الحسين على عرش الحجاز.
الملك الإمام عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز وسلطان نجد بعد فتح الحجاز.
الملك سعود بن عبد العزيز
…
الملك فاروق ملك مصر حين زيارته الأولى للحجاز.
السلطان القعيطي سلطان حضرموت حينما حضر للحج. وغيرهم من الحكام وأولى السلطان.
وفي الجمعات التي يصلى فيها أحد الملوك يستعد آل باناجه أعظم استعداد لاستقبال الضيف الكبير فيجهز المجلس ويرش الحوش الذي يدخل منه الموكب ويصطف الجند حول المنزل وفي سوق الندى المحيط بالدار، فإذا أقبل الضيف استقبله الرسميون ومعهم كبير العائلة وأهمَّ أفرادها وانطلق أمامه حملة المباخر ينطلق منها شذى العود. فإذا استقر المقام بالضيف الكبير قدمت له القهوة العربية وأديرت أكوابها على الحاضرين ورش الحاضرون بماء الورد، ثم قدمت أكواب الشراب الحلو الذي يحتفظ به آل باناجه لهذه المناسبات وهو من أحسن الأشربة وأجودها.
فإذا أذن للصلاة قام الجميع إلى المقصورة لأداء الصلاة بعد الاستماع إلى الخطبة فإذا انقضت الصلاة عاد المصلون إلى المجلس مرة أخرى لتدار عليهم القهوة وأكواب الشاى بينما ينطلق الشذى العاطر من بخور العود وبعد الاستراحة يودع الضيف الكبير بكل مظاهر الإجلال والإكبار.
وعلى ذكر هذه المقصورة فإن أول من بنى المقاصير للصلاة من الخلفاء هو الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان رضى الله تعالى عنه وذلك بعد أن تعرض لمحاولة قتله من قبل الخوارج في 17 رمضان سنة أربعين للهجرة. ذلك أن ثلاثة من الخوارج اجتمعوا واتفقوا فيما بينهم على أن كل الفتن العظيمة التي يعانى منها المسلمون سببها هو الخلاف بين علي ومعاوية وعمرو بن العاص فتعاهد الثلاثة على أن يقوم كل منهم بقتل واحد من هؤلاء، وقتل الإمام علي رضوان الله تعالى عليه بيد الشقي عبد الرحمن بن ملجم وهو خارج إلى المسجد ينادى لصلاة الفجر - الصلاة الصلاة.
ونجا عمرو بن العاص رضي الله عنه لأنه مرض ليلتها فلم يخرج إلى الصلاة وأناب عنه من يصلي الفجر بالناس فقتله عمرو بن بكر التميمي الخارجي وهو يظنه عمروا. أما معاوية رضى الله عنه فقد أصاب السيف موضع جلوسه وكان جسيما فجرح ولكنه نجا من القتل وكان الذي ضربه بالسيف هو البرك بن عبد الله التميمي الخارجي. بعد هذه الحادثة أقام معاوية رضوان الله تعالى عليه مقصورة يصلى فيها وكلف من يقوم على حراستها أثناء الصلاة.
ولقد رأيت الملك عبد العزيز يرحمه الله يصلى في مقصورة آل باناجه وعلى باب المقصورة يقف عبد أسود طوال شاهرا سيفه ومن خلف جلالته يقوم الحرس شاهرين سيوفهم.
ومما تحتفظ به الذاكرة أن الشريف الحسين حينما وصل مع السلطان وحيد الدين إلى دار آل باناجه لصلاة الجمعة كانا يستقلان عربة تجرها الخيول وكان الملك علي بن الحسين يصل إلى المسجد وهو يمتطى السيارة. أما الملك عبد العزيز رحمه الله
فقد شاهدته في أول جمعة صلاها في مدينة جدة خرج ماشيا من بيت نصيف الشهير تتقدمه مجموعة ضخمة من الرجال ربما يصل عددهم المائة ومن خلفه مجموعة أخرى بنفس العدد وهم يحملون أسلحتهم، وعاد بنفس الموكب وكان طريقه من بيت نصيف مرورا بشارع قابل ثم بالسوق الكبير إلى سوق الندى حيث يقع بيت آل باناجة وكان الحرس يملؤون الساحة الكبيرة للبيت والتي زينت ببوابة ضخمة وواسعة جدا من الخشب المتين القوى المنقوش وكان الناس يملؤون الطرقات والشوارع التي بها الموكب في الذهاب والإياب.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى عبد الله باشا باناجه فنقول أنه كما أسس هذا البيت في مدينة جدة بمقصورته التي دخلت التاريخ كما أسلفنا عنها من حديث، اشترى في مكة بيتًا بل قصرا عظيما آخر كان يقع في مواجهة الحرم الشريف أمام باب علي، في منطقة الصفا وكان ملحقا بهذا البيت بيت صغير آخر يطل على شارع القشاشيه أمام بيوت علي باشا التي كان تشغلها مدارس الفلاح بمكة المكرمة في ذلك الزمان.
وقد أزيل بيت باناجه الكبير والبيت الآخر مع كافة البيوت التي كانت موجودة في منطقة المسعى والقشاشيه وأدخلت في التوسعة السعودية العظيمة التي تمت للمسجد الحرام، وكان هذا البيت في منطقة المسعى قرب الصفا وقبل العلامة الخضراء التي يمر فيها الساعون بين الصفا والمروة.
كان هذا البيت ملكا للحكومة المصرية كما علمنا حتى قيل أن فيه - مهلكا - يرمي فيه من يراد إهلاكه والعياذ بالله.
حدثني الأستاذ عبده صالح باناجه قال: كان في الدور العلوي الكشك الكبير
(1)
وكان في جانب منه باب مقفول لا يفتح أبدا، قال وكانوا يخوفوننا منه قائلين هذا الباب المهلك يفتح الباب ثم يدفع فيه من يراد به الهلاك فيهوى إلى حيث لا يرى
(1)
الكشك اصطلاح تركي يطلق على المجلس العظيم الذي يشرف من أعلى البيت.
بعد ذلك والعياذ بالله.
وسواء أصحت الرواية التي ذكرت للأستاذ عبده. أم لم تصح فلقد كان بيت باناجة بيتا عظيما وقصرا منيفا هو الآخر دخل التاريخ في زمنه، فحينما حضر الخديوى عباس خديوى مصر للحج نزل فيه بمكة المكرمة وكان عبد الله باشا باناجه في مصر في ذلك الزمان على ما سيأتي تفصيله بعد. وكذلك نزل فيه السلطان القعيطي حينما حضر للحج وكان نزوله في جدة في بيت آل باناجه. ومما لا شك فيه أن الكثير بن من العظماء قد نزلوا في بيتهم بمكة. وكان آل باناجه يتركونه مفتوحا طيلة العام ويوظفون من يقوم بالعناية به وخدمة النزلاء فيه وكانوا كما لست في حاجة لأن أقول ينزلون به إذا قدموا إلى مكة كما ينزل به أصدقاؤهم وضيوفهم.
وكان أهم من هذا وذاك أن الناس في مكة يعتبرونه مكانا صالحا للندوات الكبيرة والاجتماعات.
أقام فيه شباب مكة المكرمة وأدباؤها حفلة تكريمية للشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي حينما حفر إلى مكة في أوائل العهد السعودي وألقيت فيه القصائد والكلمات الترحيبية وألقى فيها الأستاذ خير الدين قصيدة له مشهورة مطلعها.
حي الحجاز ونجدا - حيا بها مكرميه، ونشرتها الصحف في حينها.
كان هذا البيت مقرا لهذه الاجتماعات وأمثالها مما لسنا بسبيل حصره ولكننا نكتفي بالإشارة إليه في وقت لم يكن في مكة كلها مكان مهيؤ لمثل ذلك في مثل موقعه الفريد بجوار المسجد الحرام.
أن ما لفت نظرى في سيرة عبد الله باشا باناجه هي عصاميته العجيبة التي انتهت به من شاب مهاجر من بلده وهو مغاضب لأهله ليشق طريقه في أعظم عواصم الدنيا في زمانه حتى يصل إلى المكانة المرموقة التي وصل إليها ثم يعود إلى بلاده فينفق الكثير من ماله في سبيل المجد الذي يرفع من مقامه ومن سمعة بلده.
لست أشك أن عبد الله باشا باناجه قد أفاد من المجد والسمعة وربما جر عليه
هذا الكثير من المنافع بأسباب صلته بالملوك والحكام وليس هذا بالأمر الذي يخدش من قيمة العمل الذي أداه ما دام لم يستغل هذه الصلات في الإضرار بالناس أو الإثراء على حسابهم بل أن هذه الصلاة مطلوبة وحسنة لأها مفيدة للناس فإن أمثال هؤلاء الرجال يكونون لسان من لا يستطيع إيصال صوته إلى الحكام والولاة وهم بهذا يستطيعون أن يرفعوا الظلم والحيف عن الناس أو يجلبوا لهم الراحة والخير.
نعود مرة أخرى إلى عبد الله باشا باناجه فنقول - حينما عاد عبد الله باناجه باشا إلى جدة كان أمير مكة هو الشريف عون باشا الرفيق وقد اتصلت صلة الباشا القادم من دار الخلافة بالشريف المعين من السلطان وظل عبد الله باشا باناجه على صلة حسنة بأمراء مكة من الإشراف حتى ولي الملك الشريف الحسين بن علي في عام 1334 هـ فآثر الهجرة إلى مصر، ولعله خشي على نفسه من الشريف لسابق صلته بالأتراك. ولكنه كان من الذكاء والألمعية بحيث دفع ابن أخيه أحمد أفندي باناجه ليعمل في خدمة العهد الجديد وقد اختاره الشريف الحسين بن علي وزيرا لماليته وكان يطلق عليه الوزير الحضرمي وقد تحدث عنه المؤرخ الكبير أمين الريحاني في مؤلفه القيم - ملوك العرب - حديثا شقيا.
هاجر عبد الله باشا إلى مصر ولكنه كان رجلا ألمعيا يستطيع أن يهيء لنفسه مكانا في أى بلد ينزل فيه أو هو كما قال الشيخ الأفغاني - لا يعدم الأسد أينما ذهب فريسته.
أقام عبد الله باشا بمصر في بيت بشارع المدارس ثم اشترى منزلا فخمًا بالعباسية وكانت المحل المختار لسكنى عظماء مصر وسراتها، فانتقل إليه، وكان هذا البيت مفتوحا لاستقبال أصدقاء آل باناجه القادمين من الحجاز للعلاج أو للترويح عن النفس وكان فيه مكان مخصص للضيوف وفيه مأدبه عشاء كل ليلة ممدودة للحاضرين. وانتقلت الأسرة بكاملها إلى مصر في الفترة التي قامت فيها الحرب بين السلطان عبد العزيز والهاشميين ثم عادت بعد ذلك إلى الحجاز حينما
استقر الأمر في الحجاز للملك عبد العزيز رحمه الله.
كانت الحكومة المصرية قد صادرت بيت أحمد عرابي باشا الذي قام بالثورة على الإنجليز والخديوى في عهد الخديوى توفيق باشا، وكان هذا البيت يقع في ميدان الفلكي، الذي يسمى كذلك ميدان الأزهار واشترى الباشا بيت عرابي باشا من الحكومة المصرية وهدمه وشيد مكانه عمارة كبيرة شغل معظم أدوارها الأطباء ومعظم حوانيتها الصيادلة وغيرهم وكانت هذه العمارة تعتبر في زمانها من أحسن العقار في موقعها ومردودها، واشترى كذلك العمارات والعزب والفدادين على النيل وكانت من أجود الأراضي الزراعية.
كان الرجل محظوظا وكان المعيا صادق الفراسة والتقدير وطارت شهرته بين أرباب العقار وتجاره قالوا كان يخرج أصيل كل يوم بالعربة المطهمة التي تجرها الخيل للترويح والنزهه وشعر بالحاجة إلى النزول في مكان ما فترجل من العربة وأخذ يمشى في أرض فضاء، ولم يشعر إلا وبعض الناس قدموا إليه وعلى وجوههم آثار الارتباك .. كانوا يريدون شراء عقار أو ضياع في المنطقة، وحينما رأوا الباشا أدركوا أنه حضر لنفس الغرض وأنه سيضايقهم ويرفع عليهم الأسعار أو يحرمهم من الشراء، فاشتروا أنفسهم منه يطلبون منه التنازل مقابل الألوف من الجنيهات، فتنازل وهكذا جاء الرزق إليه من حيث لم يحتسب.
كانت ممتلكات آل باناجة من العقار في مصر عظيمة وكان إيرادها يبلغ أربعين ألف جنيه مصري سنويا - وكان الجنيه المصرى في ذلك الزمان أغلى من الجنيه الذهب - وكان عقارهم في جدة أحسن العقار وإنني أنقل هنا ما كتبته في كتابي ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز - عن عقار آل باناجه الذي آلت ملكيته إلى الشيخ عبد الرحمن باناجة - شقيق عبد الله باشا باناجه.
وكانت أحسن الدور موقعا واجملها بناء تؤجر في جدة على السفارات الأجنبية
وكان للشيخ عبد الرحمن باناجه يرحمه الله نصيب الأسد في هذه البيوت التي تستأجرها السفارات وكانت تسمى القنصليات في ذلك الوقت لأن درجة التمثيل
كانت على مستوى القنصلية ثم تحولت فيما بعد إلى درجة الوزير المفوض، نقول كان آل باناجه يملكون معظم البيوت التي تقع في باب جديد أمام البحر - شارع الملك عبد العزيز أمام فندق البحر الأحمر إلى فندق قصر جدة حاليا - وكانت السفارة المصرية تسكن في موضع عمارة النشار حاليا وإلى جانبها الدار التي لا تزال موجودة وقد اشتراها الشيخ عبد الرحمن الصير في وكان يسكنها السفير أو الوزير الإيطالي وقد بنيت هذه الدار خلال ستة شهور بعقد مع السفارة الإيطالية والى جانبها كان هناك بيت آخر كان مقرا للقنصيلة الإيطالية ثم حلت فيه السفارة السورية بعدما نالت سوريا استقلالها وهذا البيت هو الذي يقوم محله الآن فندق انترناشونال الذى بناه المرحوم الشيخ عبده باجبير بعد شرائه من آل باناجه - ثم جاء فيه ما يأتي.
وكانت هناك بيوت صغيرة لآل باناجه كذلك كانت مقرا للمستر توتشل الذى سعى في إحياء العمل في منجم الذهب وأسس شركة التعدين الامريكية السعودية ثم أصبح مقرا للبنك الهولندى ثم للبنك العربى، وقد اشتراه مع الدار المجاورة له وما يتبعها الشيخ أحمد عشماوي مؤسس شركة الأسواق السعودية كما ذكرنا قبل، هذه البيوت جميعها كانت ملكا لآل باناجة وكانت أجورها تتراوح بين مائتين وثلاثمائة جنيه ذهب سنويًا للبيت الواحد. وكان هذا يعتبر إيجارا عاليا يغبط عليه أصحابه، انتهى ما نقلناه من كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز.
ولعل مما يحسن ذكره أن عبد الله باشا باناجه لم ينجب طيلة حياته فآلت ملكية ثروة آل باناجة إلى شقيقه وشريكة المرحوم الشيخ عبد الرحمن باناجه بعد وفاته ولقد كان عبد الله باشا باناجة رجلا ثاقب النظر بعيد التفكير يسابق الزمن فيختار أحسن المواقع لإنشاء عقاراته فهذه البيوت التي ذكرناها والتى كانت تسكنها القنصليات الأجنبية كانت مطلة على البحر في مدينة جدة من ناحيتى الغرب والشمال، أسرع رحمه الله إلى شرائها وتعميرها بحاسته الذكية في الوقت الذى لم يكن يفكر الناس في شرائها لأنهم كانوا يعتبرون حارة اليمن في ذلك الوقت أفضل الأماكن
للاستغلال حيث يقطن وكلاء الأندنوسيين والهنود وحيث تؤجر البيوت لسكن هؤلاء الحجاج فيستفيد أصحاب البيوت من هذه الأجور الموسمية إلى جانب سكناهم طيلة العام، ولقد كانت البيوت في حارة اليمن والشوارع فيها تتحول إلى سوق للحجاج حيث يسكن الحجاج في بيوت الوكلاء وذلك قبل إنشاء مدينة حجاج البحر وتحويل الحجاج إليها لهذا فإن حارة الشام كانت مخصصة للسكن الخاص وكذلك حارة المظلوم، وقبل أن نختم الحديث عن عقار آل باناجه لابد أن نذكر أن عبد الله باشا كان قد شيد بيتا بل قصرا في مدينة الطائف على الطراز التركي وهو على شكل باخرة وقد أدركت الناس في الطائف يسمونه الباخرة وهو فى منطقة السلامة قريبا من الثكنة العسكرية وله فناء واسع لابد وأنه كان حديقة في الماضي وله بعض الملحقات وعلمت أن الوالي التركي كان ينزل فيه إذا ذهب إلى الطائف للاصطياف وربما كان هذا الوالي هو أحمد راتب باشا، وقد بقي هذا البيت إلى ما قبل سنوات حيث آلت ملكيته إلى صديقنا الشيخ صدقه كعكى ..
والبيت رائع الهندسة جميل البناء مرتفع السقوف، كثير النوافذ وقد صنعت سقوفه جميعها من الخشب المصقول وقد تناولنا فيه طعام الغذاء ذات صيف بدعوة من الشيخ صدقه وحينما اخبر في أنه سيزال في التوسعة التي ستتم في مدينة الطائف كان أسفى عليه عظيما لأنه كان معلما من معالم الطائف، ولعله قد أزيل فيما أزيل من المباني والآثار.
وعلى ذكر الوالي راتب باشا نقول أنه كان آخر الولاة العثمانين في عهد الخلافة العثمانية وحينما أجبر السلطان عبد الحميد على التنازل عن العرش غادر الحجاز، قالوا وكان أحمد الهزاز - والد صديقنا الشيخ عمر أحمد الهزاز يحقد على راتب باشا فذهب إليه وصفعه على وجهه انتقاما منه وتحقيرا له بعد أن أصبح لا حول له ولا طول، وسبحان المعز المذل الذى يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
هذا وقد توفي عبد الله باشا باناجة بمدينة القاهرة في عام 1344 للهجرة وقد تجاوز الثمانين عاما بعد مرض طويل، وآلت ملكية آل باناجه من التجارة والعقار
إلى الشيخ عبد الرحمن باناجه كما ذكرنا قبل، وقد أدركت الشيخ عبد الرحمن باناجه في الأربيعينات والخمسينات وهو رجل أشيب نحيف البدن شديد الشبه بأخيه عبد الله باشا ولعله كان في الثمانينات وظل يقوم على إدارة هذه التجارة الواسعة ويشرف على كل كبيرة وصغيرة في أمور العمل وفى أمور العائلة الكبيرة التي يرأسها فقد وهبه الله الكثير من الأولاد والبنات وشاهد الأحفاد وربما أبناء الأحفاد، وكان بيت باناجه في عهده يحتفظ بمجده وثرائه وبكلما خلفه اخوه عبد الله باشا رحمه الله فلقد كان الرجل حصيفا، وكان آل باناجه يعدون أعظم بيوت جدة التجارية ثراء ولعله كان أعظم بيوت المملكة كلها ثراء في عهده.
وتوفى عبد الرحمن باناجه رحمه الله في عام 1357 هجرية وقام بالأمر أبناؤه محمد صالح وعمد سعيد وما لبث أن توفى ابنه أحمد ثم لحقه ابنه الثانى محمد صالح وبدأت التغيرات الكبيرة تظهر في الشثون التجارية بعد الحرب العالمية الثانية وظهرت طبقة جديدة من التجار خرجت عن الطور التقليدي الذى كان معروفًا للتجار القدماء واتصلت بالعالم الواصع، وكان حتما على كل تاجر أن يساير التطور الجديد ويتواكب معه، وإلا جرفه التيار وأصبح مثله كما يقول الشاعر:
تقدمتني أناس كان خطوهم
…
وراء خطوي لو أمشي على مهلي
هاجر آخر كبار العائلة المرحوم محمد سعيد باناجة إلى مصر مكتفيا بما يدره عقار أسرته الواسع هناك من دخل وبهجرته إلى مصر انتهى أمر البيت التجارى الكبير في جدة، واشتغل الجيل الجديد من آل باناجه بأعمال مختلفة أتجه بعضهم إلى أعمال خاصة صغيرة واتجه البعض إلى الوظائف وتقسم العقار الكبير وبيع معظمه. وانطوت صفحة عظيمة من الثراء والجاه استمرت ما يقرب من مائة عام. ولكني ألمح الآن بسرور عظيم بوادر الحياة والنشاط تدب بين أبناء الجيل الحاضر من هذه الأسرة الكريمة فقد رأيت وسمعت عن مؤسسات متعددة تحمل هذا الاسم الطيب في أماكن مختلفة من مدينة جدة وإني لأرجو أن يستعيد هذا الجيل من شباب الأسرة السمعة الطيبة والنجاح الذى حققه أجدادهم وآباؤهم من قبل.
وقبل أن أختم الحديث عن عبد الله باشا باناجه أذكر أنه أنشأ رباطا في حارة الشام بمدينة جدة لإيواء الأرامل والسيدات اللاتي لا عائل لهن ولا يزال هذا الرباط قائما يؤدى مهمته الإنسانية منذ عشرات السنيين. ولعل ما كتبناه عن المقصورة العائدة لآل باناجه والصالة التابعة لها ما يدفع المختصين بشئون الأثار للاهتمام بها وتعميرها والمحافظة عليها باعتبارها من المعالم التاريخية لمدينة جدة.
رحم الله عبد الله باشا باناجه رحمة واسعة فلقد كان مثال الشاب العصامي الطموح، ولقد أسس لنفسه ولأسرته مجدا سلكه في عداد أعلام الرجال.
السيد عبيد عبد الله مدني
السيد عبيد عبد الله مدني
طويل القامة ممتلئ الجسم أبيض اللون تشوبه بياضة حمرة عرفته في العهد السعودي يلبس العباءة العربية والعقال، ويضع على عينيه نظارة طبية.
ولد السيد عبيد مدني بالمدينة المنورة في أواخر العهد العثماني للحجاز في عام 1324 للهجرة وكانت أسرته تتميز بالثراء والوجاهة، ووالده السيد عبد الله مدني هو الذى أسس في العهد العثماني أول فندق بالمدينة المنورة فكان المنزل المختار لكبار زوار المدينة المنورة، كما كان يستقبل ضيوف الدولة باعتباره النزل الفريد من نوعه في دار الهجرة على صاحبها أفضل الصلوات وأتم التسليم.
لمحة عن تاريخ الفنادق في المدينة المنورة
وهذا الفندق الذى أسسه السيد عبد الله مدني هو الذى استأجره الشيخ عطا الياس مؤسس فنادق التيسير بمكة وجدة والمدينة خلال العهد السعودي في أواخر الستينات، ويبدو أن آل المدني أوقفوا استعماله كفندق بعد نهاية الحكم العثماني وكان يقع في باب المجيدى، وقد أزيل هذا الفندق في التوسعة التي أجريت للمسجد النوي الشريف في العهد السعودي ولقد كان الناس ينزلون في بيوت الأدلاء الذين يقومون بمصاحبتهم في زيارة المسجد النبوى الشريف والآثار بالمدينة
المنورة ويتولى هؤلاء الادلاء إنزال القادمين من الزوار في بيوتهم وإطعامهم والعناية بهم بدءًا من وصولهم إلى المدينة إلى حين ارتحالهم عنها، وكان الناس في الحجاز يسمون هؤلاء الأدلاء المزورين نسبة إلى الزيارة، وكانت معظم الأسر في مكة وجدة لهم أدلاء معينون تستمر الصلة بهم وتتوارث جيلا بعد جيل.
كان هذا في العهد الماضي قبل أن يسهل الاتصال بين مدن الحجاز وبين بعضها ثم بدأ العهد الفندقي في المدينة المنورة كما ذكرنا بافتتاح فندق التيسير في نفس مبنى الفندق الذى أسسه السيد عبد الله مدنى ثم أقدم الناس على افتتاح الفنادق الكثيرة في العقود التالية حتى أصبحت المنطقة المحيطة بالمسجد النبوى الشريف مكتظة بالفنادق على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ونعود بعد هذا الاستطراد إلى صاحب الترجمة فنقول:
تلقى السيد عبيد مدني دراسته الابتدائية حينما يقع في المدرسة الفيصلية الهاشمية وحصل على شهادتها ثم التحق بالمدرسة الراقية التي افتتحت في العهد الهاشمي لينتقل إليها الطلاب الحاصلون على الشهادة الابتدائية كمرحلة ثانية في الدارسة ولكن هذه المدرسة الراقية لم يطل بقاؤها إذا لم يطل عمرها أكثر من بضعة شهور، ولقد كان في مكة المكرمة في العهد الهاشمي كذلك مدرسة تحمل هذا الاسم ويبدو أنها كانت أحسن حظا وأطول عمرا من شقيقتها الصغرى في بالمدينة المنورة.
انتقل السيد عبيد بعد ذلك إلى الدراسة في السجد النبوى الشريف في حلقة الشيخ محمد الطيب بن إسحق الأنصاري في عام 1337 للهجرة وهو في الرابعة عشرة من العمر وكان الشيخ محمد الطيب الأنصاري يلقى الدروس المعتادة في المسجد النبوي الشريف في العلوم الدينية بما تستلزمه هذه الدراسة من علوم النحو واللغة، وكان الرجل إلى جانب تضلعه في علوم الدين واسع الاطلاع على روائع الشعر والأدب، فإذا لمس من بعض طلابه الميل القوي إلى الأدب أو البحث أخذ بيده لتنمية هذه الملكة فيه، وقد حدثنى المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب وكان من
تلاميذ الشيخ الأنصاري أن الشيخ الطيب كان يطلع على ما ينظمه تلميذه ضياء الدين من الشعر وأنه كان دائم التوجيه له، يبصره بمواقع الخطأ كما يبصره بمواقع الإجادة، ولقد لفت نظرى أن كثيرا ممن عرفت أسماؤهم من أعلام الرجال في المدينة المنورة كانوا من تلاميذ الشيخ الطيب أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر إلى جانب السيد عبيد مدني والشيخ ضياء الدين رجب رحمهما الله العلامة الصديق الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب ورئيس تحرير مجلة المنهل الغنية عن التعريف وفضيلة الشيخ محمد الحركان وزير العدل الأسبق وأمين عام رابطة العالم الإسلامي حاليا. والأستاذ عبد الحق نقشبندى وغيرهم، ولقد ترك الشيخ الطيب أثره الطيب في نفوس طلابه فكلهم تحدث عن هذا الأثر فكان منهم العلماء والقضاة والأدباء والشعراء وأخيرا فإن الشيخ الطيب هو والد الدكتور عبد الرحمن الأنصاري رئيس قسم الآثار بجامعة الملك سعود بالرياض.
ونعود بهد هذا الاستطراد عن الشيخ الطيب الأنصاري إلى السيد عبيد مدني رحمه الله، لنواصل الحديث عنه.
رائد الأدب الحديث بالمدينة المنورة
يصف الأستاذ عبد القدوس الأنصارى السيد عبيد بأنه رائد الأدب الحديث في المدينة المنورة
(1)
في البحث الطويل الذى كتبه عنه في مجلة المنهل والذى نوجزه فيما يلى:
كانت الحياة الأدبية في مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه حتى بداية الأربعينات من القرن الهجرى الرابع عشر راكدة ركودا يشبه السبات، لقد ألف الناس ما تعودوا عليه من هذا الشعر الذى يحفل بالمحسنات البديعية، وذلك النثر الذى تضيع أغراضه في متاهات السجع الرخيص وهكذا تضيع المعانى والمقاصد
(1)
انظر الجزء 2 من المجلد 19 من السنة الثانية والعشرين لجلة المنهل الصادرة في شهر ربيع الأول 1378 هـ صفحة 173/ 182 وانظر ما كتبه الأستاذ عبد القدوس في مجلة المنهل بعد وفاة السيد عبيد في عام 1396 هـ.
في هذه المتاهات والمبالغات، وكانت محاولة الخروج على هذا النمط تعتبر مغامرة تعرض صاحبها للمتاعب وربما ألصقت به التهم، فالإنسان عدو ما يجهل.
وكان السيد عبيد مدني رحمه الله قد تمكن من اللغة والنحو بما درسه من روائع الأدب القديم شعره ونثره سواء على يد شيخه الطيب الأنصاري أو على يد صديق والده الشيخ محمد العمري وكان شاعرا مجيدا كما يصفه الأستاذ عبد القدوس ويبدو أنه كان على اطلاع واسع على هذه الروائع من الشعر القديم، وكان هناك رافدا آخر أسهم في تكوين الحاسة الأدبية لدى السيد عبيد، وهذا الرافد يتمثل في المكتبة الحافلة التي ورثها عن والده السيد عبد الله مدني والتى كانت تضم بين جوانبها الكثير من المؤلفات الحديثة في ذلك العهد، مثل دائرة المعارف للأستاذ فريد وجدى، ومؤلفات الأديب المفتن مصطفى لطفي المنفلوطي صاحب النظرات والعبرات والفضيلة والبعث إلى جانب دواوين شوقي وحافظ وسامي البارودي وجميل صدقى الزهاوى من شعراء ذلك العصر المبرزين.
نهل الشاب عبيد من هذه المناهل العذبة فتنسم ذهنه منها نسيم الحرية وانتعشت نفسه بهذا الأريج الطيب من عطور الثقافة والفن، شعرا رائعا، ونثرا رائقا، ومعاني جميلة واضحة لا تتعثر بين قوافي السجع ولا تتسربل بسرابيل الجناس والبديع، ولا يطغى اللفظ على المعنى، وأراد الشاب عبيد مدني أن يكتب كما يكتب هؤلاء الكتاب الذين قرأ أدبهم وأن ينظم الشعر كما نظمه هؤلاء الشعراء، وبدأت محاولاته على استحياء وحذر، الاستحياء من أن يكون ما يكتب وما ينظم لا يصل إلى الجودة التي ينشدها، والحذر من أن تلصق به تهمة الفرمسونية والخروج عن المألوف، والفرمسونية هذه كما وصفها الأستاذ عبد القدوس وكما أدركنا آثارها في مطلع الشباب هي الانحراف عن جادة الدين، فقد ربط الجامدون بين كل تغيير في أسلوب الكتابة والشعر وبين البعد عن الدين وهو سلاح كان يشهره الجامدون على الراغبين في التجديد وأراد الشاب عبيد أن يشرك صديقه وزميله في حلقة الشيخ الأنصاري فيما يقرأ ليكون هذا سبيلا إلى إشراكه معه فيما يكتب وينظم،
وأسرَّ إلى زميله عبد القدوس بما يريد ولكن عبد القدوس لم يتقبل هذه الدعوة بادئ بدء لأنه لم يكن قادرا على تقبل هذا الجديد الذى لم تتفتح نفسه له، ولأنه كان لا يزال يعيش فيما ألف واعتاد، ولكن هذا الإحجام ما لبث أن تحول إلى تقبل على حذر ثم إلى استمتاع بما يقرأ ويستمع، ثم إلى إقدام فكان هو المصلي كما يصف نفسه في ريادة الأدب الحديث بالمدينة المنورة وكان المجلي هو صاحب هذه الترجمة السيد عبيد مدني رحمه الله.
لم يكن في المدينة حتى ذلك الوقت صحيفة واحدة تنقل إلى الناس ما ينتجه الأدباء والشعراء وكانت هناك الوسيلة الوحيدة التي درج عليها الناس قبل ظهور المطبعة وهي تداول ما يكتب بين الناس فإن كان الناس بعجبون بما يقرأون كثر تداول هذا الأثر وانتشاره وانتشر ذكر صاحب هذا الأثر بين الناس وإن كان هذا الأثر يتنافر مع ما ألف الناس كان هذا ادعى إلى حرص الناس على تداوله والتشهير بصاحبه، وربما انقسم الناس في أمره بين فادح ومادح وكل هذا مدعاة لانتشارا هذا الجديد بين الناس.
ومما تحتفظ به الذاكرة من ذلك العهد أن شاعرا مجهولا نظم قصيدة هجاء في إحدى الشخصيات الشهيرة بمدينة جدة فانتشرت القصيدة وذاعت بعض أبياتها على كل لسان مع أنها كانت سقيمة اللفظ مختلة الأوزان، وهكذا كان ينتشر بين الناس كل جديد بالغا ما بلغ من السوء أو الإتقان.
وفى هذا الجو الحافل بروائع الفكر والعلم بدأت بواكير الشاب السيد عبيد مدني الشعرية تتفتح كما بدأت أفكاره وطموحاته تظهر فيما يكتب وبدأ أسمه يظهر في المدينة المنورة كأديب جريئ وشاعر مجدد، ولقد استطاع السيد عبيد أن يتغلب على ما واجهه من اعتراض وانتقادات بالصبر والحكمة وبما عرف عن أخلاقه الشخصية ولعل لمكانة أسرته الاجتماعية أعظم الأثر في تجنبه المتاعب والمصاعب، ولسائل أن يسأل لماذا لم يظهر أثر السيد عبيد مدني وغيره من أدباء المدينة المنورة ضمن الآثار التي ظهرت في كتاب أدب الحجاز وكتاب المعرض الذى نشر في عام
1344 هـ ولقد أجاب الأستاذ عبد القدوس على هذا السؤال فقال أن ذلك العهد كان عهدا انعزاليا فقد كانت المدينة المنورة تعيش داخل أسوارها ولم يكن هناك اتصال بين الأدباء في كل من مكة المكرمة وجدة والطائف، وأن أول اتصال بين أدباء المدينة المنورة وأدباء مكة إنما تم في عام 1348 هـ حينما قام بزيارة المدينة المنورة الشاعر والأديب المكي الأستاذ محمد عمر عرب رحمه الله ونستطيع أن نعلل هذا التأخر في الاتصال في العهد الهاشمي لأسباب أهمها صعوبة المواصلات بين المدينة المنورة ومكة وجدة فالمسافة بين البلدين مكة والمدينة تبلغ خمسمائة كيلومتر وكانت وسائل الانتقال بين البلدين هي الجمال والخيل والحمير، وكان أسرع هذه الوسائل يقطع الطريق بين البلدين في أسبوع وكان الناس يخرجون في مجموعات وكانت هذه المجموعات تسمى الركبان وأحدها ركب وكان الركب الواحد يضم المئات، وكان لمكة ركبها كما كان لجده ركبها وكان الركب يستعين ببعض الأدلاء من البادية على الأصح ببعض الحماة لضمان سلامته وعدم التعرض له بسوء وكان الركب إلى ذلك يصطحب المنشدين من ذوى الأصوات الجميلة وكان هؤلاء المنشدون ينشدون القصائد، الخاصة بهذه المناسبات وأغلبها من المدائح النبوية المعروفة وما شابهما، كما كان الركب يقضى بعض الوقت في أماكن معينة في الطريق وخاصة في بدر التي وقعت فيها أول معركة فاصلة في الإسلام.
ولكني في الواقع لا أستطيع تعليل تأخر الاتصال بن أدباء المدينة المنورة وأدباء مكة الكرمة وجدة في العهد السعودي بعد ظهور السيارات واستعمالها للسفر بين البلدين وذلك أن الحركة الأدبية الحديثة في المدن الأخرى مكة وجدة والطائف ولدت قوية في مطلع العهد السعودي وكان الفضل في ظهورها للمرحوم الشيخ محمد سرور الصبان الذى قام برعاية الحركة الأدبية ونشرها على الناس
(1)
ومن
(1)
انظر ترجمة الشيخ محمد سبرور الصبان في كتابنا أعلام الحجاز وانظر الفصل الخاص بالآداب والفنون في كتابنا ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز.
المؤكد أن الحركة الأدبية في مكة بدأت في العهد الهاشمي وأتيح لها الظهور والانتشاربين الناس في مطلع العهد السعودي.
السيد عبيد عضو مجلس الشورى
عين السيد عبيد عضوا بالمجلس الإداري بالمدينة المنورة ثم مديرا لأوقاف المدينة المنورة ثم عين عضوا بمجلس الشورى بمكة المكرمة عن المدينة المنورة ولقد أدركت السيد عبيد مدني حينما انتقلت إقامته إلى مكة المكرمة لتمثيل بلده في مجلس الشورى، وكان نظام المجلس يقضي أن تمثل كل مدينة بعضو أو أكثر في المجلس وكان يتم اختيار العضو بالانتخاب ولعل الشيخ سعود دشيشه هو أول من مثل المدينة المنورة في مجلس الشورى وإليه يعود الفضل في رفع رسم الكوشان الذى كان تتقاضاه الدولة قبل ظهور الزيت للسفر بين مكة والمدينة حينما خاطب الملك عبد العزيز رحمه الله قائلا: يا طويل العمر لقد وحدت المملكة جميعها فلماذا يدفع المسافر من المدينة أو إليها ضريبة على السفر داخل مدن المملكة، فتم رفع هذه الضريبة عن السفر بين مدن المملكة وبعضها على السعوديين
(1)
.
وهكذا تم انتخاب السيد عبيد مدني عضوا بمجلس الشورى لتمثيل بلده في المجلس، وكان يسكن في دار بمحلة أجياد قريبا من المسجد الحرام، وكانت داره تغص بالقادمين من المدينة، كما كان مقصد ذوي الحاجات منهم ممن لهم مطالب أو مصالح في دوائر حكومية، وكان الرجل عظيم الحياء وكان الشيخ محمد على ملطاني رحمه الله صديقا للسيد عبيد فكان ينوب عنه في قضاء بعض هذه الحاجات وكان يوصل إلى الشيخ محمد سرور رحمه الله بعض هذه المطالب وخاصة فيما يختص بطلبات الأركاب إلى المدينة المنورة، أو المساعدة من وزار المالية أو تعقيب بعض المعاملات وما إليها، وكان الشيخ محمد سرور رحمه الله يعرف ما يتمتع به
(1)
انظر ما كتبناه عن هذا الموضوع في ترجمة السيد صالح شطا في كتابنا أعلام الحجاز.
السيد عبيد مدني من الأصالة والوجاهة ويقدر فيه خلق الحياء الذى يحول بينه وبين أن يطلب لنفسه أو لغيره شيئا فكانت هذه الطلبات التي يتقدم بها المرحوم الشيخ محمد على ملطاني نيابة عنه تحظى بالإجابة والقبول.
وفد مجلس الشورى إلى الملك عبد العزيز
وفى العهد الذى كان فيه السيد عبيد عضوا بمجلس الشورى قام وفد من أعضاء المجلس بزيارة المغفور له الملك عبد العزيز في الرياض، وكان جلالته في روضة التنهات ووصل الوفد وكان السيد عبيد قد أعدَّ قصيدة باسم وفد مجلس الشورى لإلقائها أمام جلالة الملك عبد العزيز وقد ألقى السيد عبيد القصيدة وكان من ضمن أبياتها هذا البيت:
عبد العزيز ومن إذا ذكر اسمه
…
وقف الجميع له وقام النادى
وما أن وصل السيد عبيد في إلقائه إلى هذا البيت حتى قام المجلس كلَّه تحية للملك عبد العزيز رحمه الله وكان لهذه الالتفاتة من السيد عبيد رحمه الله وقعها الطيب في نفس الملك عبد العزيز وفى نفوس كل من حضر ذلك المجلس الحافل، وقد نشرت هذه القصيدة حينها في جريدة أم القرى وتحدث الناس عنها كثيرا في ذلك الزمان، ولقد كان السيد عبيد رحمه الله ممثلا للمدينة المنورة حقًا لم يترك مناسبة تمر إلا وهو يذكر المدينة المنورة وتطلعاتها وأذكر أنه ألقى كذلك أمام الملك عبد العزيز قصيدة دعاه فيه إلى زيارة المدينة المنور بعد أن طال غياب جلالته عنها فقال: ومن حق المدينة أن تزارا: ومما يؤسف له أن الكثير من شعر السيد عبيد لم يطبع للاستشهاد به، ولكنا سنعود للحديث عنه حينما نتحدث عن السيد عبيد الشاعر، وقد ذكرنا ما وعته الذاكرة من هذا الشعر حينما كان السيد عبيد عضوا بالمجلس.
وقد آثر السيد عبيد العودة إلى المدينة بعد أن طال شوقه إليها فتقدم باستقالته من المجلس ليعود إلى مسقط رأسه في طيبة التي أحبها الحب كله.
معلمة تاريخ المدينة المنورة
كان السيد عبيد مهتما بالكتب يحرص على اقتنائها وقرائتها وكان أكثر ما شغل اهتمامه هو تاريخ المدينة المنورة البلد الذى ولد فيه ونشأ وامتلاء قلبه بحبه وحب كلما يمثله هذا البلد الطيب من القداسات والأمجاد، لهذا فإن الكتب التاريخية كانت من أبرز ما يهتم به السيد عبيد رحمه الله وقد تحدث أصدقاؤه المقربون عن الكتاب الذى ألفه السيد عبيد والذى سماه معلمة تاريخ المدينة المنورة.
يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في مقاله المنشور بمجلة المنهل في تأبين السيد عبيد تحت عنوان وفيات الأعيان الصديق الكبير الذى فقدناه: يقول الأستاذ عبد القدوس ما نصه: كثيرا ما كنا نتحدث - يقصد مع السيد عبيد رحمه الله عن ضرورة طبع كتابه الفذ "معلمة تاريخ المدينة المنورة" الذى قضى جل عمره في كتابته وتحقيقة وتزويده بأكبر قدر ممكن من المعارف عن تاريخ المدينة الشامل .. وقد دون تلك المعارف الثمينة في أجزاء ضخام حسنة الترتيب، جميلة البيان والتبويب، كل جزء منها في كتاب مستقل، ومن أجداها نفعا وأبعدها صيتا "تواريخ المدينة ومؤرخوها" وكان رحمه الله يدخل إلى مكتبته الخاصة ويخرح لنا أجزاء هذا الكتاب النفيس الذى ملئ علما وحكمة، فنقرأه ونتدارسه ونراجعه فإذا هو كنز ثمين فألحُّ عليه في ضرورة القيام بنشره فيعد ويقول لي: لابد من مراجعة أخيرة لنصوصه وإكمال نواقصه ومن ثم نقدمه للطبع أن شاء الله".
انتهى ما نقلناه عن الأستاذ عبد القدوس وهو المؤرخ العالم الأديب الذى يتحدث عن خبرة بما اطلع عليه من أجزاء هذا الكتاب أو هذه الموسوعة عن تاريخ المدينة المنورة.
ويقول الأخ الأستاذ السيد علي حافظ أحد مؤسسي جريدة المدينة المنورة والأديب المعروف في رثائه الذي نشر بالعدد 3833/ 26/ 11/ 1391 هـ بجريدة المدينة المنورة عن هذا الكتاب مايلى:
وعكف رحمه الله على تأليف تاريخ للمدينة عكف عليه يبحث ويدقق ويناقش
ويجمع المصادر من كل مكان مدة تزيد على عشر سنوات، وبلغ الكتاب حوالي اثنى عشر مجلدا رأيت بعضها وكان يعتزم طبعه هذا العام.
والسيد علي مد الله في حياته صديق مقرب إلى المرحوم السيد عبيد فهو كذلك يتحدث عن علم بما رأى.
ولا أكتم القارئ أني كنت أود أن أطلع على هذا الكتاب القيم ليكون ما أكتبه صادرا عن الانطباعات التي تحدثها القراءة في نفسي وقد طلبت من الأخ الأستاذ السيد علي حافظ الذى تفضل بامدادى بكثير من المعلومات في هذه الترجمة أن ييسر لي سبيل الاطلاع على مؤلفات السيد عبيد الشعرية والنثرية، واجلت الكتابة شهورا ولكن هذا المطلب لم يتحقق.
أن الكتاب كما يصفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري وكما كتب عنه الأستاذ السيد علي حافظ موسوعة ضخمة في تاريخ دار الهجرة وقد مد الله في عمر المؤلف فحشد فيها الكثير من التحقيقات حتى أنه أفرد في هذه الموسوعة جزءا خاصا بالمؤرخين الذين كتبوا عن المدينة المنورة، والكتاب بهذا الوصف جدير بأن يأخذ مكانه بين أهم الكتب التي ألفت عن دار الهجرة وإني لأرجو أن يتاح لهذا الأثر القيم أن يظهر إلى النور بعد طول احتجاب فلعله يكون خير أثر يحفظ اسم صاحبه في قادم الأزمان.
السيد عبيد الشاعر
عرف السيد عبيد رحمه الله بالإجادة في الشعر بعد أن دانت له مفردات اللغة وبعد أن استوعب ما قرأ من روائع الشعر قديمه وحديثه والقليل الذى نشر من شعره ينبيء عن أصالة جمعت بين جزالة اللفظ، وسمو المعنى، وقد ذكر الأستاذ عبد القدوس أن السيد رحمه الله جمع شعره في ديوان كبير اسمه المدنيات الكبرى، كما أن له مجموعة أخرى اسمها المدنيات الصغرى، وقد استشهد الأستاذ عبد القدوس بكثير من الشواهد من المدنيات الصغرى في البحث المستفيض الذى كتبه عن السيد عبيد رحمه الله والذى نشر في المنهل في الجزء الثانى من المجلد التاسع
عشر في ربيع الأول عام 1378 هـ بعنوان أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب. وأوفى قبل كل شئ أن أذكر أن ما استطعت الحصول عليه من شعر السيد عبيد رحمه لا يعبر تعبيرا كاملا عن شاعريته ولكنه يعطى القارئ صورة عن هذه الشاعرية لا تطفئ الغلة ولا تبل الصدى ولكنها على أي حال خير من لا شئ.
ولقد اضطررت للبحث عن النماذج التي سأوردها للقارئ إلى الغوص في بطون أجزاء مجلة المنهل التي كان يخصها المرحوم السيد عبيد بنشر آثاره، كما نقلت بعض هذه النماذج من بحث الأستاذ عبد القدوس الأنصاري المنشور بمجلة المنهل والذى أشرت إليه آنفا.
وأكرر القول أن هذا الذى أورده للقارئ لا يعبر تعبيرا كاملا عن شاعرية الشاعر فأني أعلم أن له من القصائد الجياد الكثير الذى هو أجدر بالتقديم ولكن هذا هو ما استطعت الحصول إليه بعد البحث والجهد والذى رأيت أن أختم به هذه الترجمة التي طال أمد بقائها لديَّ دون إتمام وبعد فهذه هي النماذج ولا أقول المختارات التي استطعت الحصول عليها من شعر السيد عبيد مدني الشاعر.
نفثة مصدور
نظم الشاعر قصيدة خلال الحرب الهاشمية السعودية جاء فيها:
هبوا بني الوطن المقدس ابدلوا
…
هذا الجمود بيقظة وثبات
وتضامنوا أن التضامن قوة
…
ترقى الشعوب بها ذرى الغايات
ومنها:
هذه المدينة أصبحت العوبة
…
صماء بين زعانف وغواة
يستاقها النفر الرعاع ذليلة
…
لموارد الويلات والنكبات
الحكم فوضى والمطامع جمة
…
والشعب بينهما فريسة عات
حال تذوب لها الضمائر لوعة
…
والموت فيها أهون الحالات
وللشاعر قصيدة أخرى نظمها في سنة 1348 يتنبأ فيها بالنهضة العظيمة التي ستشهدها البلاد في مستقبل الأيام وقد جاء فيها:
بشرى فانا في بوادر نهضة
…
ستحول الصعب الجموح ذليلا
ولسوف نشأوا الطير في تحليقه
…
ونقيم من أسرابنا الاسطولا
ونشق ملتطم الخضم بوارجا
…
وبواخرًا ونجرُّ فيه ذيولا
ويصدُّ وجه الشمس منا جحفل
…
لجب تصمُّ به الفلاة صليلا
متدرب أن سأردكَّ مما لكا
…
واذل تيجانا وفل رعيلا
ويجوب أرجاء الجزيرة كلها
…
خط الحديد مهامها وتلولا
ويجلل الأرض اليفاع زراعة
…
فتفيض في عمالها التمويلا
ونعمم التعليم حتى لا نرى
…
في كل أنحاء البلاد جهولا
ونشيد دورا للصناعة جمة
…
شتى الشكول ونخرج البتر ولا
ونقيم فينا للصحافة منبرا
…
يضفي البيان على الشعوب سيولا
ونبث في كبرى العواصم كلها
…
وزراء لا يألوننا تثيلا
ونعيد للإسلام شرخ شبابه
…
ونفك للشرق الأسير كبولا
ونسابق الأيام في اقبالها
…
ونكون للآتين أفضل جيلا
وينمق التاريخ ذكر نهوضنا
…
غررا على صفحاته وحجولا
وكأني بالشاعر يرى بعين الغيب النهضة العظيمة التي تعيشها بلادنا العزيزة قبل أكثر من نصف قرن ولقد تحقق منها الكثير ونسأله. تعالى أن يرفع كابوس اليهود وأن يطهر المسجد الأقصى وديار فلسطين ولبنان منهم حتى تتحقق أمنية الشاعر كاملة.
فنعيد للإسلام شرخ شبابه
…
ونفك للشرق الأسير كبولا
ولقد مد الله في عمر الشاعر حتى رأى الكثير مما تنبأ به في سنة 1348 هـ وقد تحقق أو بدأت بوادر تحقيقه في الظهور.
ولقد أبصر الشاعر ما يدسه أعداء الإسلام للمسلمين في بلادهم من دسائس تثير الآلام في الصدور فقال في سنة 1355 هـ هذه الأبيات:
بين الماضى والحاضر
المسلمون غدواوهم في أرضهم
…
غرباء بين زعانف وطغام
دسَّ العداة لهم فحال طموحهم
…
وتنحَّت الآمال للآلام
أن الذى شرع الشرائع للهدى
…
ضمن الخلود لشرعة الإسلام
وللشاعر مقطوعة عنوانها الفراق نظمها في سنة 1357 هـ يقول فيها:
ازف الرحيل فعجَّت الزفوات
…
وتدفقت من وقعه العبرات
وتبودلت رسل القلوب واوضحت
…
عنها وعن مكنونها الخلجات
وتجاوبت كتب العيون وأعربت
…
عما تريد بيانه النظرات
ساد السكوت فليس الإ دمعة
…
تجرى والا آهة مزجاة
وهذه المقطوعة تذكرنا بالأسلوب الذى كان يتبعه الشعراء قبل النهضة الأدبية الحديثة وقد أوردتها لأنها المقطوعة العاطفية الوحيدة التي وجدتها للشاعر.
وهناك مقطوعة أخرى بعنوان (المناجاة) نظمها الشاعر في عام 1360 هـ وقد أطلق الشاعر نفسه على سجيتها فجاءت هذه المناجاة صادرة من القلب:
دعوتك للجلى وقلبي خاشع
…
وما لي إلا أنت يا رب سامع
فعندى أمانٍ في الحياة رحيبة
…
ولي أمل في ساحة المجد شاسع
وقد أخفقت فيما أردت مطامحي
…
وعثَّت على جهدى الحثيث الذرائع
على أنني لم آل جهدا ولم اقف
…
ولم تثنني عما اعتزمت المدافع
وكم غمرة جاوزتها إثر غمرة
…
أجالد في أهوائها وأصارع
أعالجها بالعنف طورا وتارة
…
أحاولها مستدريا وإخادع
ولكنها أعيت عليَّ فلم أجد
…
سواك وما لي غير جاهك نافع
ففضلك مرجو وعطفك وارف
…
ولطفك ضاف واقتدارك واسع
ومما يدخل في هذا المعنى هذه النفثة التي صدرت من الشاعر في سنة 1376 هـ.
إذا التمس المكروب تفريج كربة
…
من الناس لم أقصد سوى الله مرجعا
فحسبي به عونا وغوثا وعدة
…
وملتجأ في كل حين ومفزعا
كان الشاعر كما ذكرنا عضوا بمجلس الشورى بمكة المكرمة ممثلا لبلده المدينة المنورة وأدركه رمضان في أحد الأعوام وهو وحيد في غرفته بفندق التيسير، ولرمضان كما يعرف الناس فرحة عظيمة يتبادل فيها الناس التهاني ويجتمع فيه شمل الأسرة مهنئين مع إطلاق المدافع مؤذنة بحلول الشهر الكريم وتذكر الشاعر في هذه الساعة التي انطلقت فيها البشائر بدخول رمضان عام 1372 هـ داره بالمدينة المنورة وأولاده وأهله وأحبابه تذكر المدينة بكل ما فيها وما له بين جوانبها من العواطف الجياشة بالحب والوفاء فأطلق هذه الزفرات:
رمضان جاء فكان مبعث بهجة
…
شاعت مظاهرها على السعداء
وتجاوبت فيه المشاعر غبطة
…
من كل منعطف وكل فناء
وتبادل الناس التهانى فرحة
…
والبشريات عزيزة الآلاء
أما أنا فلقد قبعت بغرفتي
…
في فندق التيسير بالبطحاء
أشكو نواي ووحدتي وسآمتي
…
وعصي آمالي ومعضل دائي
وفيها يقول:
قد كنت أضجر بالحياة وكنت في
…
بعض النعيم فكيف بالبأساء
أيام كان يحف بي ويحيطني
…
أهلي وكنافي حمى العذراء
وللشاعر مقطوعات تتكون من بيتين سماها المثنيات ونشرت في مجلة المنهل نقتطف منها النماذج الآتية وقد أشرنا إلى الأعداد التي نشرتها وتواريخها، أما
النماذج التي لم يذكر تاريخها فهى منقولة عن البحث الذى كتبه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عن صاحب الترجمة والذى أشرنا إليه آنفا.
المثنيات
إذا ما شيد الإنسان جاها
…
على أنقاض عزته تداعى
وان نهل السعادة بالتدني
…
اصرت قلبه العقبى التياعا
بشرى
أقيل أو استقال فتلك بشرى
…
وليس يهم أيهما الصحيح
وحسب الناس أن اليأس ولَّى
…
واقبل بعده الامل الفسيح
أي شعب كان معضول القوى
…
فهو بالاحداث موصول الألم
سقوط فرنسا
هوت بعد التألق والصعود
…
وأحنت رأس سؤددها العتيد
طواها هتلر وأتى عليها
…
فناءت تحت هيكله الشديد
أنا لا أقبل الخداع
لا تقل لي إذا رأيتك اهلا
…
وتدس الخداع في بردتيكا
أنا لا أقبل الخداع وأدري
…
بخبي الشكوك في صفحتيكا
ارض عنها
إذا لم ترضك الأيام فيما
…
تشاء من المطالب فارض عنها
فإن رضاك عنها سوف يفضي
…
بنيلك كل ما تبغيه منها
سائر إلى دور الرعاية
كفى بك بؤسا أن ترى العجز راحة
…
وحسبك يأسا أن ترى السعى متعبا
فانت إلى دور الرعاية سائر
…
فتلقى بها أهلا ومأوى ومطلبا
المنهل المجلد (40) ذو القعدة
وذو الحجة سنة 1396 هـ
يصدق كل من يثني عليه
…
مجاملة فيدخله الغرور
ويزعم أن ما قالوه نزر
…
وما كتموا هو الشيء الكثير
من لا يحركه المديح
…
ولا يضايقه الهجاء
فكأنه بل أنه
…
في زحمة الدنيا هباء
المنهل - المجلد (38) ذو الحجة 1396 هـ
وفاء
كن كيف شئت تفننا ولجاجة
…
واعمل كما تهوى أسىً وتنكرا
فانا انا من قد عرفت وداده
…
لا انثني أبدا ولن اتغيرا
المجلد (39) جمادى الثانية ورجب 1398 هـ
ثق بالله
إذا صدر الدعاء من الحوايا
…
يصاحبه الخشوع فقد أجيبا
فثق بالله معتمدا عليه
…
لتكتسح النوائب والخطوبا
مفاجأة الحظوظ العاثرات
نعيش على طريق الذكريات
…
ونأمل في حدوث المعجزات
ونرقب كل آونة وآخرى
…
مفاجأة الحظوظ العاثرات
المجلد (34) المحرم وصفر 1393 هـ
الابن والأب
الابن ينشئ للحياة ويبدع
…
وأبوه يمشي للسياق ويسرع
شتان بينهما فهذا مقبل
…
يتملق الدنيا وذاك مودع
يا ندم الغفاة
أرى موت الرفاق على التوالي
…
نذيرا للحياة من الممات
فمن يفهم يزوده نهاه
…
ومن يجهل فيا ندم الغفاة
المجلد (33) شوال سنة 1392 هـ
هذه هي النماذج التي استطعت الحصول عليها من شعر الشاعر السيد عبيد مدني رحمه الله وأرجو أن يكون في نشر هذه الترجمة ما يحفز همة أبنائه الكرام إلى نشر آثاره المطوية وأهمها كتابه الضخم المدينة ومؤرخوها ومجموعة أشعاره المدنيات الكبرى والمدنيات الصغرى لتكون هي الأثر الباقى الذى يحفظ ذكره بين الشعراء والمؤرخين والتى تسهل مهمة الباحثين فيما تركه الأديب الراحل من الآثار والأشعار.
مرض السيد عبيد رحمه الله في عام 1396 هـ وسافر إلى أمريكا للعلاج وأبلَّ من مرضه وعزم على العودة إلى المدينة المنورة وكتب بهذا إلى صديقه الحميم السيد علي حافظ يقول:
"إنني لم يبق معى أي مشاكل ولا يوجد ما يقلقني وصحتى تسركم وسأتوجه إلى المدينة ونلتقي أن شاء الله".
أخذ السيد عبيد رحمه الله يعد عدته للسفر ولكنه تعثر فى حقيبته وأصيب بكسر فنقل إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة له. ولكن هذه الإصابة البسيطة كانت هي النهاية فقد أسلم الروح وكانت وفاته في أمريكا يوم الجمعة الثانى عشر من ذى القعدة سنة 1396 هـ وهو في الثالثة والسبعين من العمر.
رحمه الله رحمة واسعة وأحسن جزاءه في جنات النعيم.
السيد علوي بن عباس المالكي
السيد علوي بن عباس المالكي
مستدير الوجه، أبيض اللون، قصير القامة، واسع العينين، وسيم جسيم، تزين وجهه لحية سوداء خفيف العارضين أقنى الأنف، يرتدى الجبة الحجازية ويعتم بعمامة بيضاء يغطى بها الرأس والأذنين ويلبس الملابس الواسعة وهو زيُّ العلماء المكيين، وكان السيد علوى رحمه الله من أشهرهم وأحبهم إلى قلوب الناس وأكثرهم ذيوع صيت.
ولد السيد علوى بمكة المكرمة في 1328 هـ وتلقى تعليمه أولا على يد والده العلامة السيد عباس بن عبد العزيز المالكي الذى كان مديرا للمعارف بمكة المكرمة الذى ألحقه بكتاب عمه حسن المالكي بزقاق الحجر، وحفظ القرآن الكريم وجوَّده حتى أنه أمَّ المصلين في صلاة التراويح في العاشرة من عمره ثم التحق بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة ونال شهادتها العليا في عام 1346 هـ، وكانت أمنية والده أن يرى ابنه يتوسط حلقة الدرس في المسجد الحرام فكان ابنه السيد علوى من المواظبين على تلقى الدروس في المسجد الحرام على يد خيرة علماء عصره وهم جميعا من أساتذته في الفلاح ومنهم الشيخ عبد الله حمدوه والشيخ عمر حمدان والشيخ عيسى رواس والشيخ يحي أمان كما انتظم في حلقات الدرس لدى الشيخ جمال المالكي والشيخ محمد على بن حسين المالكي والشيخ أمين السويدى وغيرهم
من أعلام المدرسين بالمسجد الحرام حتى حصل على إجازة التدريس بالمسجد الحرام في عام 1347 هـ بالإضافة إلى عمله مدرسا بمدرسة الفلاح، وكانت حلقته بالمسجد الحرام تغص بطلاب العلم من كافة الأقطار الإسلامية لما يتمتع به من العلم والفضل وكريم الأخلاق.
وقد أدركته مدرسا في المسجد الحرام وفى مدرسة الفلاح بمكة المكرمة في النصف الثانى من الخمسينات وهو من أسرة تشتغل بالعلم أبا عن جد وولدا عن أب فأبوه هو السيد عباس المالكي كان من أعلام البلد الحرام تقلب في وظائف التعليم والقضاء في العهدين الهاشمي والسعودى وانتدبه الشريف الحسين بن علي للسفر إلى الحبشة وبناء مسجد للمسلمين بها كما انتدبه إلى بيت المقدس للإشراف على إصلاحات في المسجد الأقصى المبارك وفى قبة الصخرة، وكان إلى جانب هذا وذاك من علماء مكة المكرمة وله حلقة درس بالمسجد الحرام وله مؤلفات دينية يتداولها الدارسون. وكان مديرا للمعارف في العهد السعودى في الأربعينات ثم ولي القضاء في مكة المكرمة، وعمه كما ذكرنا هو السيد حسن المالكي وكان له كتاب لتعليم القرآن الكريم بمكة المكرمة وفى هذا الكتاب جوَّد للسيد علوى القرآن الكريم وحفظه حتى أصبح إماما للتراويح وهو في العاشرة من عمره كما ذكرنا قبل. ونجله هو الأستاذ الشيخ السيد محمد علوى المالكي المدرس بالمسجد الحرام والذى خلف والده الكريم في برنامجه الإسبوعي في إذاعة نداء الإسلام مساء كل جمعة مد الله في عمره ونفع به وله المؤلفات الكثيرة في العلوم الدينية وهو خير خلف لخير سلف، فهذه الأسرة الكريمة وهبت نفسها للعلم تتعلمه وتنشره بين الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
عرفت السيد علوي رحمه الله في النصف الثانى من الخمسينات في مكة المكرمة كما ذكرت أستاذا بمدرسة الفلاح ومدرسا له حلقة يلتف حولها طلابه في المسجد إحرام ما بين العشاءين. وعرفته كذلك مأذونا يعقد الأنكحة وكان أشهر مأذون في مكة المكرمة في زمانه وظل كذلك إلى أن توفاه الله، وكان جميل الصوت، حسن
الأداء لراسم الزواج التي يباشرها وكل أهل مكة يحبون الرجل حبا جما بل ويستبشرون بعقده لزواج أولادهم، وكان هو إلى ما حباه الله به من العلم والفقه في الدين ليِّن الجانب لطيف العشر يملأ الجالس التي يحضرها إنسا ويشيع فيها السرور بما يرويه من الطرائف الكثيرة التي صادفته في عمله وبما يحفظه سماعا وقراءة فلا يمل جلساؤه الاستماع إليه كل هذا في أدب يحفظ مقامه، فهو طالب علم قبل كل شيء وبعده، ولكنه لا يتزمت ولا يتعالى وإنما يدخل إلى القلوب بلين الجانب والحكمة الشوبة بالطريف من القول، فهو يمزح ولا يجرح، ويتبسط ولا يتبذل، وهو بهذا قد جمع لنفسه محبة الناس ومهابتهم في وقت واحد.
ولا قد حدثنى ببعض الطرائف التي مرت عليه في عقده للزواجات في مكة المكرمة وسأروى منها طرفتين ما زلت أذكرهما لما فيهما من الغرابة قال - دعيت إلى عاقد زواج في مكة المكرمة - وكان هذا في الستينات - وكان الزواج كبيرًا اجتمع الدعوون في بيت العريس وساروا في موكب عظيم يتقدمهم حملة الاتاريك والمباخر ويصاحب العريس والمأذون المنشدون المشهورون في مكة المكرمة وسار العريس ومعه المأذون السيد علوى والدعوون البالغ عددهم المئات ووصلوا إلى بيت العروس في الشعب وخرج أهل العروس ومدعووهم يستقبلون الركب الكبير القادم وأنشد المنشدون قصائدهم ثم تقدم العريس ومن رافقه من الدعوين إلى صدر المكان وأديرت عليهم القهوة بعد أن استقر بهم المجلس وبدأ السيد علوى رحمه الله في قراءة خطبة الزواج المعتادة إلى أن وصل إلى الحدّ الذى يبرم فيه العقد، وكان العريس وأبو يجلسان إلى يمين السيد علوى رحمه الله، ووالد العروس يجلس إلى شماله، وكان أمامهم بعض المدعوين وهنا وقعت المفاجأة العظيمة التي أذهلت
الجميع.
أخذ السيد علوي بيد العريس وقال له زوجتك وانكحتك مخطوبتك فلانة. فتقدم الرجل الجالس امام السيد علوى وقال بصوت يسمعه الجميع تمهل يا مولانا فالتفت إليه السيد علوى سائلا ماذا هناك قال الرجل: أن فلانا هذا واشار إلى
والد العروس حضر في تاريخ كذا إلى المسجد الحرام واتخذ مكانه بجانبي لأداء صلاة المغرب وقال لي لقد رزقت هذا اليوم بنتا فقلت له أنني أخطبها لابني هذا وكان ابنه حديث ولادة كذلك فقبل تزويجها من ابني وقرأنا الفاتحة على ذلك.
التفت السيد علوى إلى والد العروس وسأله، أصحيح ما يقوله هذا الرجل، قال نعم، وتقدم الرجل في الحال بصرة من النقود وقال هذا هو الصداق قد أحضرته معي، فاعقد لابني هذا على العروس التي وافق أبوها على تزويجها له يوم ولادتها.
يقول السيد علوى، وكان هذا الزواج صحيحا بإقرار الأبوين فعقدت لولد الرجل على العروس وكانت هذه الفتاة من نصيب الخطيب الأول، أما العريس الذى أقيم الفرح ونصبت الزينات من أجل زواجه فلم يتم له زواج، وكما يقول المثل تكون في فمك وتقسم لغيرك.
والحادثة الثانية التي رواها لي السيد علوى رحمه الله لا تبلغ في طرافتها وغرابتها الحادثة الأولى ولكنها تستحق التسجيل.
قال دعيت لإقامة زواج كبير في مكة المكرمة ووصلنا إلى بيت العروس في موكب كبير لا يقل ضخامة عما وصفنا في الحادثة السابقة وحان موعد العقد، فسألت والد العروس أن كان يقبل تزويج هذا العريس من ابنته فأجاب بالموافقة. يقول السيد ولكن الله تعالى ألهمني أن اسأله سؤالا لم أتعود أن أسأله من قبل قلت للرجل أهذه العروس ابنتك؟ قال نعم انها ابنتي؟ قلت هل هي من صلبك فظهر الضيق على وجه الرجل وقال انني ربيتها صغيرة فهي ابنتي قلت ولكن اين ابوها، قال أن اباها طلق امها وهي طفلة ترضع فتزوجت الأم واحتضنت البنت طفلة وتكفلت بها حتى بلغت مبلغ الزواج وجاءنى الكفء الذى يخطبها فوافقت على تزويجها، وهي لا تعرف أن لها أبًا غيرى وتناديني قائلة يا أبي، وأنا اعدُّها بنتي وكأنها من صلبي، قال السيد ولكن ابوها الحقيقي احي هو؟ قال نعم، قال السيد لابد من حضوره فهو ولي امرها ولابد أن اسمع موافقته على الزواج، والا فلا زواج.
وارتبك والد العروس كما ارتبك العريس وأهله يقول السيد واوقفت العقد إلى أن يحضر الاب.
قال السيد رحمه الله، وارسلوا إلى الاب وهو رجل فقير يعمل في قهوة في الششة خارج مكة المكرمة كان نائما فايقظوه، وابى أن يحضر معهم فما زالوا به حتى حضر، وجاء الرجل فإذا هو رجل ضعيف تلمس آثار الفقر في مظهره وكلامه، قال السيد علوي، قلت للرجل هل دلانة بنتك؟ قال نعم، قلت فإن فلانا واشرت إلى العريس قد خطبها من زوج امها وقد وافقت امها على تزويجها فهل تقبل تزويجها لهذا الفتى؟ قال الاب لا اننى لن ازوجها له ولا لغيره الآن .. ثم اردف لماذا لم يستشيرونني في هذا الزواج من قبل؟
ونظر إلى السيد علوى وكأنه يستمد منه العون والفتيا في وقت واحد قال السيد علوى قلت له انك وليُّ الأمر وبدون موافقتك ورضاك لن يتم زواج وادرك الرجل الفقير أن زمام الموقف قد أصبح في يده، وأنه قادر على افشال هذا الزواج. وافساد كلما تم من استعداد فاصر على الرفض وادرك الاذكياء من الحاضرين أن موافقة الرجل مرهونة بارضائه ببعض المال، فاخذوا الرجل إلى داخل البيت وبدأت معه المساومة الصعبة التي انتهت بقبوله الفتى زوجا لابنته بعد أن قبض في يديه عشرين جنيها ذهبيا احصى تعدادها ونقدها ووضعها في صرة في حزامه الذى يعتمر به في وسطه. وعاد الرجل متهللا إلى مجلس العقد ومعه المفاوضون الذين تصبب العرق من جباههم خلال تلك المفاوضات.
وسأل السيد علوي الرجل: قل لي هل وافقت الآن على زواج ابنتك فلانه من عريسها هذا الحاضر بالمجلس قال الرجل نعم يا مولانا فأخذ بيد العريس ووضعها في يد الاب وتم العقد وأصبحت الفتاة عروسا بعد أن كاد العرس أن يتوقف.
يقول السيد علوي رحمه الله، وفى اليوم التالى حضرت كالعادة وليمة الزواج فوجدت الاب الحقيقي للعروس وقد ارتدى ثوبا جديدا وظهرت عليه آثار النعمة فما أن رآني حتى اقبل علي مسلما وهو يردد، ينصر دولتك، ينصر دولتك.
يقول السيد علوى وقد علمتنى هذه الحادثة أن اتأكد قبل عقد الزواج من شخصية ولي الأمر حتى لا تقع المحاذير والمفاجآت وحتى يكون العقد صحيحا من كافة الوجوه، وقد حضرت مرة عقد زواج كان السيد علوى يبرمه في مكة المكرمة وكان والد العروس متوفيا وكان الخال هو الذى يقوم بمهمة تزويج العروس المتوفى أبوها، وقد طلب السيد علوي رحمه الله أن يسأل العروس نفسها عن قبولها للزواج ويتحدث إلى والدتها ودخل إلى داخل البيت ولكن مكوثه في الداخل طال كثيرا وبعد لأيٍ حضر واتمَّ عقد الزواج، وكنت اجلس قريبا منه فنظر اليَّ رحمه الله وهو يبتسم وكان يعرف أن لي قرابة قريبة بالعريس قال كاد الزواج أن يتوقف يا رجل؟ قلت لمذا يا مولانا. قال سألت الخال اليس للعروس اخ اوعم قال اما عمها فقد توفى ولا اخ لها قلت وابناء عمها قال انهم موجودون؟ قلت واين هم؟ قال لم يحضروا قال السيد فادركت أن خلافا وقع بين العروس وامها وابناء عمها قلت ولكن ابن العم احق بالولاية من الخال، قال السيد وكان الخال ذكيا فقال أن والد العروس اوصاني قبل موته أن ازوج ابنته هذه على فلان الذى خطبها من الاب في حياته، ولكن العقد لم يتم في ذلك الوقت قلت وهل لديك من يشهد على ذلك فاحضر لي شاهدين رضيتهما وهكذا ابرمت العقد والا كنت توقفت.
هذه الطرائف وامثالها التي كان يرويها السيد في اسلوبه اللطيف كان تجتذب قلوب سامعيه وابصارهم فكانوا ينهلون من علمه الغزير، كما يستمتعون بطرائفه وعذب حديثه رحمه الله.
مؤلفات السيد علوى المالكي
كان السيد علوى رحمه الله يمتاز في دروسه واحاديثه بالتأثير في نفوس السامعين وسواء اكان ذلك في حلقات دروسه التي يعقدها في حلقته بالمسجد الحرام، أو يلقيها على تلامذته وطلابه او يتحدث بها إلى الجمهور في الإذاعة والتليفزيون ولقد اتيح لي أن استمع إلى السيد علوى رحمه الله متحدثا في الإذاعة والتليفزيون
كما اتيح لي أن اجلس بعض الوقت مستمعا في حلقته بالمسجد الحرام ولقد سعدت فعلا بالاطلاع على كثير من هذه الاحاديث مجموعة في مجلد كبير ومعنونا باسم نفحات الإسلام من البلد الحرام قام بجمعها وترتيبها نجله الدكتور محمد علوى المالكي وعني بنشرها وطبعها الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري على نفقة الشئون الدينية بدولة قطر ولقد كان الشيخ عبد الله الأنصاري المسئول عن الشئون الدينية بدولة قطر تلميذا للمرحوم السيد علوى وطالبا من طلاب العلم في حلقته بالمسجد الحرام ولنترك المجال قليلا لفضيلته ليتحدث عن ذلك، يقول الشيخ عبد الله الأنصاري في مقدمة هذا الكتاب:
من بين هؤلاء الابطال عالم جليل كان سيدا لي ومربيا لروحى، ومؤدبا لنفسي، ولست وحدى نال من الخير الوفير والعلم والسعادة والبركة بل هم جمع غفير، كنا نحلق حوله في مهبط الوحي ومنزل الرحمات تجاه بيت الله الحرام فكم أدركنا من علمه ثمارا يانعة، ونلنا من فضل تربيته آدابا سامية إذا شرع في شرح حديث تتخيل امواجا من العلم ينساب من صدره إليك.
وقَّادُ ذهن إذا جالت قريحته
…
يكاد يقضي عليه من تلهبه
ذلك هو استاذى السيد علوي بن عباس المالكي المكي مدرس المسجد الحرام تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه واسكنه فسيح جناته وجمعنا به في مقر رحمته وهذا الكتاب يمثل دروس السيد علوى رحمه الله واحاديثه الدينية ومعالجته لبعض القضايا التي تعرض عليه وهي مجموعة في مجلد ضخم يبلغ خمسمائة وثلاثين صحيفة، وللسيد علوى رحمه الله مؤلفات أخرى منها كتاب فتح القريب المجيب على تهذيب الترغيب والترهيب، وكتاب الترغيب والترهيب هذا هو من الكتب التي كانت تدرس لنا في مدارس الفلاح بجدة ونحن على مقاعد الدراسة والكتاب عبارة عن مجموعة من الاحاديث النبوية الشريفة جمعها مدرسو الفلاح ورتبوها في كتاب بغرض تدريسه لتلاميذ الفلاح.
ولما كان السيد علوى رحمه الله قد درس السنة النبوبة على أيدى اعلام العلماء
في المسجد الحرام وعرف من اسرار هذا العلم ما أدرك معه وجوب الرجوع إلى هذا الكتاب بالتعديل والتهذيب فقد أقدم على هذا العمل وباشره في كتابه هذا فتح القريب المجيب على تهذيب الترغيب والترهيب. ويقول السيد علوى في مقدمة الكتاب:
وقد اشتغلت به مدة مديدة، فرأيت أنه يحتاج إلى إصلاح بحذف بعض فصوله، وإبدالها بفصول أخرى صحيحة أو حسنة لما في الأولى من النكارة والضعف، وحذف بعض الأحاديث المكررة في موضوع واحد وكل أحاديثه مروية بصيغة الجزم، كقال مع أن نظر العلماء في الحديث الضعيف أنه لا يروى بصيغة الجزم بل بصيغة الضعف كروي وحكي.
لقد حمله إخلاصه للعلم وأمانته، وللحديث النبوى الشريف ومكانته العظيمة من الدين على أن يقوم على تصحيح هذا الكتاب فشرع في ذلك معتمدا في النقل كما يقول على مؤلفات العلماء الموثوق بهم كالحافظ المنذرى، والإمام النووى وابن حجر الهيثمي وجميعهم من أعلام العلماء في هذا المجال وقد زين الكتاب بشرح واف لمعاني الألفاظ والأغراض مستشهدا في ذلك بالآيات القرآنية في وضوح لا يستعصى على فهم القارئ العادى والتلميذ المبتدئ، وبهذا أدى السيد علوى رحمه الله أمانة العلم التي تقلدها، وجنب القارئ للكتاب سواء أكان تلميذا في المدرسة أو قارئا من عامة القراء وجنَّبه مزالق الأخذ بالأحاديث المنكرة والضعيفة دون أن يثقل عليه بشرح الاصطلاحات التي يعرفها المتخصصون من العلماء.
إبانة الأحكام
هذا الكتاب هو شرح واف لكتاب الحافظ بن حجر بلوغ المرام وقد اشترك في تأليف هذا الكتاب مع السيد علوى رحمه الله السيد حسن سليمان النورى كما هو مثبت في الطبعة التي بين يدي من هذا الكتاب ويقول المؤلفان عن هذا الكتاب أن مؤلفه الحافظ بن حجر قد بذل جهده فيه في جمع أدلة الأحكام الشرعية مع الإشارة
إلى التوفيق بين الأحاديث المتعارضة وبيان رتبة الأحاديث وعزوها إلى مخرجيها مما كان تبصرة للمبتدئ وتذكرة للمنتهي والكتاب مفصل تفصيلا وافيا والمجلد الأول خاص بالعبادات. وقد قسمت إلى أبواب مفصلة تفصيلا دقيقا كاملا، يبتدئ فيه بذكر الحديث ثم شرح المعنى الاجمالى له ثم التحليل اللفظي لالفاظ الحديث ويختتم البحث بفقه الحديث، والكتاب يشبع المواضيع التي يتعرض لها بحثا وتفصيلا وهو من أجل الكتب التي تفيد طلاب العلم والدارسين كما يرجع إليها طالب المعرفة، وقد اطلعت على مجلدين من الكتاب المذكور حتى الآن.
أن المطلع على مؤلفات السيد علوى رحمه الله يخرج منها بفوائد جمة، فهو أولا يشبع الموضوع الذى يتناوله بحثا فلا يترك جانبا من جوانبه إلا وقد ألقى الأضواء عليه وبينه البيان الشافى الوافى وهو أمر يدل على تمكن الرجل من الأمور التي يعالجها والإحاطة التامة بالمباحث التي يتعرض لها فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبحليها.
الأمر الثانى الذى يظهر للمتأمل في هذه المؤلفات تمكَّن الرجل من علوم الحديث الشريف وهو المكمل للكتاب الكريم، والشارح لما أجمله القرآن من الأحكام والمفصل لكيفياتها وجزئياتها.
ونكتفى بهذا القدر من الكلام عن مؤلفات السيد علوى رحمه الله فليس من غرض هذه الترجمة الاحاطة بكلما كتب وألَّف وإنما المراد هو إعطاء فكرة عن إعمال الرجل وانجازاته ليستطيع القارئ رسم صورة مصغرة له في ذهنه أن كان من لم يسعدهم الحظ بمعرفته ولقائه.
هذا وقد توفى السيد علوى مالكي رحمه الله في منتصف ليلة الأربعاء في الخامس والعشرين من شهر صفر عام 1391 هـ عن ثلاثة وستين عاما، اثر نوبة قلبية، رحم الله السيد علوى مالكي فقد وهب حياته كلها للعلم طالبا ومعلما وواعظا وداعيا إلى الله وقد دفن في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة في اليوم التالى وكانت لوفاته
رنة حزن وأسى في جميع أنحاء البلاد رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه لقاء ما أسدى إلى العلم وأهله أنه سميع مجيب.
* * *
الشيخ محمّد رحمة الله العثماني مؤسس المدرسة الصوليتية بمكة المكرمة
ولادته ونسبه
ولد العلامة الشيخ محمد رحمة الله بن خليل الرحمن العثمانى في بلدة كيرانه التابعة لمدينة دلهى عاصمة الهند في ذلك الزمان في شهر جمادى الأولى عام 1233 هجرية الموافق لعام 1818 للميلاد وهو سليل أسرة كريمة اشتهر أفرادها في تلك البلاد فكان منهم الأمراء والحكام والرؤساء والعلماء والأطباء وينتهى نسبه إلى ثالث الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولذلك أطلق على الأسرة لقب العثماني نسبة إلى هذا النسب الكريم.
وكان أول من قدم من أفراد هذه الأسرة إلى الهند الشيخ عبد الرحمن الكاذروني الجد الأعلى للشيخ حيث كان قاضيا شرعيا للجيوش الإسلامية التي فتحت الهند على يد السلطان محمود الغزنوى.
تحصيله وتعليمه
تلقى الشيخ علومه الابتدائية في بلدة كيرانه فتعلم القراءة والكتابة وبدأ في حفظ الكتاب الكريم على يد كبار أفراد أسرته المشهورين بالعلم والفضل، ثم انتقل إلى مدينة دلهي عاصمة الهند ليتلقى المزيد من العلم فالتحق بإحدى
المدارس الدينية هناك ودرس بها الكثير من العلوم كما قرأ الكثير من الكتب، ولكن شغفه بالعلم والرغبة في الاستزادة من مناهله دفعه إلى الارتحال إلى مدينة لكنو بالهند وهي مدينة الثقافة والحضارة في ذلك الزمان فتلقى العلم على يد أفاضل العلماء هناك وتخصص في آداب اللغة الفارسية وعلوم الطب.
ثم عاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه في مدينة كيرانه واشتغل بالتعليم فأسس بها مدرسة تولى مهمة التدريس فيها بنفسه والتف حوله من الطلاب من كتب الله لهم التوفيق فكانوا بعد ذلك من العلماء العاملين في الهند ومنهم العلامة الشيخ عبد الوهاب مؤسس أول مدرسة إسلامية بمدينة مدراس بالهند وقد عرفت هذه المدرسة باسم الباقيات الصالحات وقد تحولت هذه المدرسة في الوقت الحاضر إلى كلية تعد أكبر كلية في مدينة مدراس الكبيرة في جنوب الهند.
الحالة في الهند
في هذا الوقت الذى ولد فيه الشيخ ونشأ وبلغ مبلغ الرجال كانت الهند تعانى من ويلات الاستعمار البريطانى، فالامبراطورية المغولية الإسلامية التي مضى عليها ما يقرب من أربعمائة عام كانت تلفظ انفاسها الأخيرة ليحل محلها الاستعمار الإنجليزي الصليبي الغاشم، وكان الحكام من الهنود حكاما بالاسم لأن مقدرات البلاد كلها قد أصبحت في يد الحكام الانجليز الذين وفدوا إلى البلاد تحت ستار شركة الهند الشرقية، وأخذوا ينهبون خيرات البلاد نهبا منظما، يشترون الخامات الهندية بأبخس الأثمان ليعاد تصديرها إليهم بعد صنعها في مصانع انجلترا بأغلى الأسعار، وكان الانجليز يعملون على أن تبقى الهند مزرعة يستغلون خيراتها ويحرمون أهلها من هذا الخير، وكانوا يستخدمون الوسائل الكثيرة والعنيفة لتبقى البلاد تحت سيطرتهم سادرة في غفوة الجهالة فنصبوا أنفسهم للقضاء على الروح المعنوية بشتى الوسائل.
والهند كما هو معلوم مليئة بالديانات المختلفة كما هي مملوءة بالاجناس المتباينة
واللغات الكثيرة وكان أصعب ما واجه المستعمرين في الهند هو الإسلام ممثلا في علماء المسلمين ومفكريهم.
وفى الوقت الذى نشط فيه الإنجليز في التبشير بالدين المسيحي بين الهنود كان الإسلام هو الشوكة التي تقف في حلوقهم، وكان علماء المسلمين هم العقبة الكأداء التي تتكسر عليها سهام كيدهم وشرورهم.
كان الإسلام بتعاليمه النقية السامية القائمة على صفاء العقيدة يجتذب القلوب ويدخل إلى نفوس الناس في يسر، وكانت العدالة الإسلامية بين الناس تعطي المثل الأفضل في مجتمع يقوم فيه نظام الطبقات الذى كان سائدا في الهند فيخلق الطبقة المقدسة ثم ينتهي بطبقة أخرى إلى حضيض الرجس والمهانة.
ولم يجد الإنجليز بدا من محاربة المسلمين في عقيدتهم فجردوا سيوف البغي ممثلة في إرساليات التبشير التي جندت لها الكنيسة أكبر شياطينها، فلم يكتفوا بمحاولة اجتذاب الوثنيين من السيخ إلى المسيحية ولكنهم أخذوا يهاجمون الإسلام ويشككون في صحة القرآن، وفى نبوة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، وكانت هذه الحملة المسعورة يقودها القسيسون فيعقدون الاجتماعات في الأماكن العامة حيث يبشرون بالمسيحية بعد أن يكونوا قد أوسعوا الإسلام تجريحا ونقدا وافتراء وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وكان الحاكمون من الإنجليز يمهدون الطريق لهؤلاء المبشرين ويقفون بالمرصاد لكل من يتصدى لهم أو يعترض عليهم.
وكان المسلمون ينظرون إلى هذا البغي الذى تسانده الحراب الإنجليزية والكثير منهم يقف دون حراك إلا من الحسرة والعذاب، وكان الموقف يتطلب شجاعة منقطعة النظير تستهدف الوقوف في وجه هذا البغي بروح من الجهاد والاستشهاد وكان الموقف كذلك يتطلب الإعداد قبل مواجهة الأحداث.
ورأى الشيخ رحمة الله صاحب هذه الترجمة أن الواجب الديني يدعوه للجهاد في سبيل الله دفاعا عن عقيدة الإسلام وذودا عن كرامة خاتم المرسلين محمد بن
عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
وقرر أن يبدأ أولا بدراسة المسيحية والاطلاع على الإنجيل أو على الأناجيل المختلفة ليكون على علم تام بما هو بسبيل الإقدام عليه. يقول فضيلة العلامة السيف أبو الحسن علي الحسني الندوى:
قام الشيخ رحمة الله وشمر عن ساق الجد والاجتهاد ونذر لله أن لا يهدأ حتى يدرس مصادر النصرانية ومراجعها دراسة عميقة دقيقة ويغوص فيها وينقب، وقد شحذ عزمه على ذلك قدوم القس الطائر الصيت فندر من انكلترا وقد قام بنشاط كبير وحماس زائد في مناظرة علماء الهند، وقد تحداهم تحديا سافرا وقام بجولة في مديريات الهند يخطب في المجامع ويدعوا إلى النصرانية وكانت المشكلة مشكلة اللغة، وكان الشيخ لا يعرف اللغة الإنجليزية وقد تخطى بحكم سنه المرحلة التي يستطيع فيها تعلم الإنجليزية، وكان فندر لا يعرف إلا اللغة الإنجليزية، وكان مشاركا في اللغة العربية والفارسية.
يقول السيد الندوى فأين القنطرة التي تصل بينهما وأين الرجل الذى يساعد الشيخ رحمة الله في الاطلاع على المصادر الأجنبية والوثائق المسيحية التاريخية؟ ويواصل السيد الندوى كلامه فيقول:
هنالك قيض الله مسلما غيورا - ولله جنود السموات والأرض - وهو الدكتور محمد وزير خان الأكبر آبادى، الذى سافر إلى لندن سنة 1832 يدرس الطب الجديد وقد نال فيه شهادة عالية وأتقن اللغة الإنجليزية ودرس اللغة اليونانية، وعني بدراسة المسيحية من مصادرها الأصلية واقناء كتبها واستصحب هذه المكتبة الثمينة إلى الهند، فكان هذا الرجل عضد الشيخ الأيمن في هذا الجهاد العلمي الكبير الذى كان جهاد الساعة وواجب الوقت.
أكمل الشيخ رحمة الله مهمته في الدراسة وأخذ عدته وعتاده لخوض المعركة وقد استفحل أمر فندر الذى رأى الجوخاليا فازداد جرأة وتحديا، ورأى الشيخ أن السبيل الوحيد لإيقاف فندرهذا عند حده أن يتم الحوار معه في لقاء عام يحضره الخاصة
من أهل الرأي وأعيان البلاد وحكامها ليستمع الناس إلى ما يدور في هذا الحوار من الحجج التي تقرع الرأي بالرأي ليكون الناس على بينة في نهاية المطاف بالحقيقة التي ينجلى عنها صراع الرأى بين الرجلين.
وكان فندر قد ألف كتابا سماه ميزان الحق وترجمه إلى اللغة الفارسية وملأه بالأباطيل والضلالات التي تهاجم الإسلام ونبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه وأخذ يدل به بعد أن رأى أن الجو قد خلا أمامه من المعترضين المناقشين.
أعد الشيخ عتاده وأرسل إلى فندر يطلب منه الحضور للمحاورة في موعد ومكان يتفق عليهما، وتحداه أن يظهر أمام الجمهور من الناس بما فيهم علماء النصارى والمسلمون وكان شرط هذه المناظرة أنه إذا انتصر فيها القس فندر دخل الشيخ رحمة الله في دينه فأصبح مسيحيا، وإذا انتصر الشيخ رحمة الله دخل القس فندر في دينه فأصبح مسلما.
كان التحدى صارخا واستعان الشيخ على إتمام المناظرة بكل من توسم فيه القدرة على التأثير على فنذر هذا لإتمامها، ولم ير فندر بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد من التحدى السافر بدًا من قبول المناظرة فقبلها راضيا أو كارها فالله أعلم بدخيلته، وأخيرا أبرم الأمر وتحدد عقد المناظرة في الحادى عشر من شهر رجب عام 1270 هجرية الموافق للعاشر من ابريل سنة 1854 للميلاد في مدينة أكبر آباد اكره احدى مديريات الولاية الشمالية الرئيسية واحد مجالات النشاط التبشيرى في الهند وفي حي من أحيائها يسمى حارة عبد المسيح.
بدأ الحفل في الموعد المعين وتجمع الناس فحضر ولاة المديرية من حكام وقضاة وبعض كبار رجال الجيش من الإنجليز كما حضر القس الشهير وليم كلين وعدد كبير من أعيان البلد ووجهائه كما حضر فريق كبير من أبناء البلاد من المسلمين والمسيحيين والسيخ.
وحضر الشيخ وإلى جانبه الدكتور محمد وزير خان يعاونه ويترجم له، وكان موضوع المناظرة والبحث قد تحدد في خمس نقاط:
1 -
التحريف في الكتاب المقدس - العهد القديم والجديد -
2 -
وقوع النسخ
3 -
التثليث
4 -
نبوة محمد
5 -
صدق القرآن وصحته.
أن الذى يتأمل في النقاط التي سيدور فيها البحث يرى أن الشيخ رحمت الله اختار طريقة الهجوم بدلا من طريقة الدفاع، فهو أولا سيتحدث عن ما وقع في الإنجيل من تحريف ونسخ، كما سيتحدث عن التثليث الذى يؤمن به المسيحيون الاب والابن والروح القدس وهو ما يتنافى مع صفاء عقيدة التوحيد التي تؤمن بآله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وبعد هذا يجرى البحث في النبوة الخاتمة لمحمد صلى الله عليه وسلم وفى صحة القرآن.
كان الشيخ رحمت الله قد استعد أعظم استعداد للمواضيع التي سيخوض بحورها، يقول الدكتور الدسوقى:
وقد تناول - الشيخ - في الكلام على العهدين العتيق والجديد كل باب من أبوابها واستشهد من كلام مؤرخيهم وعلمائهم - النصارى - على تبيان المطعون فيه من الأبواب والآيات وبيَّن بالحجج الدامغة أن لا يوجد لدى علمائهم في كلتا الديانتين سند متصل لاى كتاب من كتب العهدين، ثم تناول بعد ذلك ما في كتب العهدين من الاختلاف والاغلاط.
وبينَّ أن ادعاءهم بأن هذه الكتب الموجودة بين أيدينا الهامية ادعاء باطل وساق برهانا على هذا البطلان سبعة عضر وجها لكثرة ما بها من اغلاط وتحريف واختلافات عجز مفسروهم عن التوفيق بينهما، ثم أن الكاثوليك والبروتستانت يختلفان في الاعتراف ببعض هذه الكتب فما يعترف به الكاثوليك ينكره البروتستانت والعكس بالعكس.
أما بالنسبة للتحريف في كتب العهدين القديم والجديد فقد أثبت أن بعض
هذا التحريف كان عن عمد وكان هذا التحريف أحيانا بالزيادة، وأحيانا بالنقصان وأحيانا بالتبديل اللفظي وساق على التحريف بالزيادة خمسة وأربعين شاهدا، كما ساق على التبديل اللفظي خمسة وثلاثين شاهدًا وصدق الله العظيم إذ يقول "يحرفون الكلم عن مواضعه" أما التحريف بالنقص فقد أورد عليه الشيخ رحمت الله عشرين شاهدًا كما أورد عدة مغالطات للمبشرين المسيحيين وفنَّدها ببراهين ساطعة واستدل على ذلك بأقوال المسيحيين الثقات من المفسرين والمؤرخين ليزيد حججه نصاعة وقوة.
يقول الدكتور الدسوقي:
وبلغت هذه الاستدلالات من أقوالهم الثلاثين قولا، مما يدل على سعة اطلاع وتتبع حريص لإقامة الحجة عليهم من كتبهم.
أما بالنسبة لإثبات النسخ فقد أثبت الشيخ بالأدلة القاطعة نسخ بعض الأحكام في الشريعتين الموسوية والمسيحية، ثم برهن على أن الأحكام العملية للتوراة نسختها شريعة عيسى عليه السلام، وأن لفظ النسخ موجود في كلام، قدِّيسيهم كما حاول المؤلف أن يثبت أن النسخ ليس وفقا على الدين الإسلامي ولكنه كان عند اليهود والنصارى كذلك.
نعود بعد هذا التفصيل عن مبلغ استعداد الشيخ رحمت الله للمناظرة إلى المناظرة نفسها التي تمت في بهو فسيح عام وجرى الاتفاق على تخصيص الجلستين الأولى للبحث في موضوع النسخ وتحريف الإنجيل وانبرى الشيخ رحمت الله يدلي بما أعده من الحجج عن هذا التحريف ولم يجد القسيس فند ربدًا أمام الحجج الدامغة التي أوردها الشيخ من الاعتراف هو ومن معه من القسيسين بحصول التخريف في الإنجيل في ثمانية مواضع، وكان هذا الاعتراف بمحضر من هذا الجمع الحاشد ونشرت الصحف وقائع الجلستين مما جعل القسيس فندر في موقف المناظر المغلوب على أمره فامتنع عن حضور الجلسة الثالثة، ولم يكتف بهذا فلقد ترك الهند كلها خفية بعد هذه الهزيمة التي مني بها كما منيت بها دعوته ودعوة
أمثاله، وبهذا لم تحدث المناظرة إلا في المادة الأولى منها، ولقد بادر الشيخ إلى طبع ما أعده من نصوص المناظرة في كتاب "البحث الشريف في إثبات النسخ والتحريف".
أما بقية أبواب المناظرة فقد أوردها الشيخ في مؤلفاته الأخرى التي سنتحدث عنها بعد وأهمها كتابه - إظهار الحق - الذى ترجم إلى اللغة العربية كما ترجم إلى اللغات الإنجليزية والفارسية.
يقول الشيخ محمد مسعود سليم حفيد الشيخ - ومدير المدرسة الصوليتية بمكة المكرمة:
اشتد غضبهم - الإنجليز - بعد هزيمتهم في المناظرة فقد كانت مناظرة الشيخ رحمت الله مع المسيحيين بمثابة شرارة أيقظت في نفوس المسلمين روح المقاومة فتكونت فرق الجهاد في عموء أنحاء الهند وخاصة في مدينة دلهي وتوابعها وأنحائها، وكانت كلها مرتبطة عملا ومعنويا بالشيخ رحمت الله.
وبدأ الإنجليز في نصب المشانق للمسلمين وقتلهم بدون هوادة، وأقاموا مذابح بشرية يندى لها جبين الإنسانية، وقد أعلن الإنجليز إعدام الشيخ رحمت الله، ومنح مكافأة قدرها ألف روبية لكل من يدلهم عليه أو يأتي به، وصادروا أملاكه، وأحاط الجيش الإنجليزي ببيوت الشيخ مدة طويلة وكان الشيخ قد تنكر في زيِّ فلاح هندى فقير يعمل في الأرض فلم يستطيعوا العثور عليه، ثم قرر الشيخ الهجرة إلى مكة المكرمة فترك الهند مخلفا وراءه أهله وأملاكه ومدرسته وأقاربه وأحبابه متنكرا وقضى في طريقه إلى مكة المكرمة ما يقرب من عامين وهو يتنقل من بلد إلى بلد يقطع البحار كما يقطع الصحارى والقفار حتى وصل إلى مكة المكرمة عن طريق اليمن في سنة 1274 للهجرة.
في مكة المكرمة
وصل الشيخ رحمت الله إلى مكة المكرمة ولا يعلم بشأنه أحد من الناس وكان
شيخ علماء مكة المكرمة في ذلك الزمان السيد أحمد زيني دحلان
(1)
. كما كان إماما وخطيبا للمسجد الحرام، وكان للسيد الدحلان حلقة يلقي فيها دروسه على طلاب العلم في المسجد الحرام، والتحق الشيخ رحمت الله في هذه الحلقة يستمع إلى الدروس مع طلاب العلم بعد صلاة الفجر من كل يوم، وحدث أن وجه الشيخ رحمت الله إلى السيد الدحلان سؤالا فقهيا في إحدى حلقات الدرس وبعد أن أجاب السيد الدحلان على السؤال تطور الأمر إلى مناقشة فقهية أدرك معها السيد الدحلان أن السائل ليس طالب علم وإنما هو عالم متمكن فأمسك بيده وطلب منه أن يحدثه عن حقيقة أمره وأن يفصح عن هويته وأحواله قصَّ الشيخ رحمت الله على شيخ علماء مكة في إيجاز قصته وما وقع له في الهند والتجاءه أخيرا إلى البيت الحرام يطلب فيه الأمن والأمان.
تأثر السيد الدحلان بما سمع من أمر الشيخ رحمت الله حتى فاضت عيناه بالدموع ودعاه إلى بيته وأكرمه وجمع له علماء مكة المكرمة على مائدة كبيرة أقامها في داره حيث عرَّف السيد الدحلان الشيخ رحمت الله إلى علماء مكة المكرمة وتحدث الشيخ رحمت الله إلى الحاضرين بجلية أمره وماوقع له مع القسيس فندر وما تلا ذلك من أحداث حتى وصل إلى حمى البيت العتيق.
رحب علماء مكة بالعالم المجاهد ونزل من قلوبهم المنزلة التي يستحقها من كان مثله مجاهدا في إعلاء كلمة الإسلام وإبطال الباطل وإحقاق الحق، ومنحه شيخ علماء مكة المكرمة إجازة التدريس وعين له مكانا بالمسجد الحرام تعقد فيه حلقته للتدريس وأصبح اسمه مسجلا في السجل الرسمي لعلماء ومدرسي المسجد الحرام.
رحلة القسطنطينية
استقر المقام بالشيخ في مكة المكرمة مدرسا في المسجد الحرام إلى أن استدعاه
(1)
السيد أحمد زيني دحلان مؤلف كتاب الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبولة في مجلدين كبيرين. ومؤلف كتاب خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام.
السيد أحمد زيني دحلان يوما، ليخبره بما جَدَّ من أمور، كان القديس فندر الذى انهزم في المناظرة المشهورة على يد الشيخ في الهند قد وصل إلى القسطنطينية مبعوثا من الكنيسة المسيحية للتبشير بها هناك، ويأبى مركب النقص الذى وقع لديه بعد هزيمته في الهند إلا أن يظهر فقلب الحقائق، وتباهى بما فعل في الهند فقلب الحقائق وأشاع أن علماء المسلمين في الهند لم يستطيعوا الثبات أمام ما أورده من براهين وحجج على النسخ في القرآن وأنهم غلبوا على أمرهم فتحول الكثير من المسلمين إلى النصرانية وتحولت المساجد إلى كنائس والعياذ بالله وانتصرت النصرانية على الإسلام.
ولقد بلغ إلى مسامع السلطان عبد العزيز خان ما يروجه هذا القس الفاجر من الأكاذيب والأباطيل فأرسل رسالة عاجلة إلى والي مكة المكرمة الشريف عبد الله بن عون يطلب منه الاستفسار من الحجاج القادمين من الهند عن أحوال الهند والأحداث الخطيرة التي وقعت بها وخاصة ما تم في المناظرة بين الشيخ رحمت لله والقسيس فندر، وما أن تلقى والى مكة هذه الرسالة حتى اطلع عليها شيخ علماء مكة المكرمة وكان جوابه حاضرا أن الشيخ رحمت الله موجود عندنا في مكة المكرمة وله حلقة يلقي فيها الدروس على طلابه في المسجد الحرام واستقبل الشريف عبد الله بن عون بن عبد الله الشيخ رحمت الله وسمع منه قصته مع القسيس فندر مروية بلسانه وكتب إلى السلطان عبد العزيز بحقيقة الأمر فورد الأمر من السلطان بإرسال الشيخ إلى تركيا سريعا ضيفا خاصا للخليفة وكان ذلك في سنة 1864 ميلادية، أكرم السلطان وفادة الشيخ رحمت الله كثيرا واستمع إلى قصته ودعى إلى اجتماع حافل حضره كبار رجال دولة الخلافة وعلماء الدين وكلف السلطان الشيخ رحمت الله بالحديث إلى الحاضرين عن أحوال الهند وعن المناظرة الدينية التي تمت بينهم وبين القسيس الكاذب فندروما تلاها من ثورة المسلمين في الهند والأحداث التي تلت ذلك حتى استقر المقام بالشيخ في رحاب البيت العتيق.
فندر يهرب من القسطنطينية
علم القسيس فندر بوصول الشيخ رحمت الله إلى القسطنطينية بطلب من الخليفة فاختفى وهرب من تركيا إلى غير رجعة خشية أن يواجه بما يدحض أكاذيبه وافتراءاته وأمر السلطان بعد ما سمع من الشيخ ما فعله القسيسون والمبشرون في الهند أمر بالقبض على القسيسين المبشرين وأعوانهم ومصادرة كتبهم وإغلاق مراكزهم.
بقي الشيخ رحمت الله في القسطنطينية ضيفا مكرمًا على السلطان، وكان يقابله كثيرا عقب صلاة العشاء مع رئيس الوزراء خير الدين باشا التونسي، والشيخ أحمد أسعد المدني شيخ الإسلام، وكبار رجال الدولة والمناصب الدينية، وتقديرا من الخليفة لجهاد الشيخ أنعم عليه بالخلعة السلطانية وبالوسام المجيدى، وعين له مرتبا شهريا مقداره خمسمائة ريال مجيدى وعينه عضوا في مجلس الوالي بمكة المكرمة.
كتاب إظهار الحق
طلب السلطان عبد العزيز ورئيس وزرائه خير الدين باشا من الشيخ رحمت الله بعد أن عرفوا من أمره ما عرفوا تأليف كتاب شامل عن الإسلام يحتوى على المباحث الجوهرية بين الديانتين الإسلامية والمسيحية مع إيراد نص المناظرة التي تمت بين الشيخ والقسيس فندر والنقاش الذى تم بينهما سواء في الجلسات التي تمت بينهما أو المباحث التي أعدها الشيخ ولم يجر النقاش فيها بعد غياب فندر، وطلب السلطان من الشيخ أن يتفرغ لتأليف الكتاب الطلوب في تركيا، واستجاب الشيخ رحمت الله لطلب الخليفة فعكف على تأليف كتابه إظهار الحق وهو كتاب ضخم في مجلدين عظيمين استهدف فيه جلاء حقيقة الإسلام وإبطال مزاعم اليهود والنصارى ومفترياتهم ودحضها بالحجة والبرهان وأتم الشيخ كتابه في ستة شهور وطبع في تركيا تحت رعاية الخليفة ووزع في البلدان العربية والإسلامية كما تمت ترجمته إلى اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية وقد اهتم السلطان بترجمة الكتاب إلى اللغة التركية كذلك فظهرت الترجمة تحت عنوان إبراز الحق.
يقول الشيخ محمد مسعود مدير المدرسة الصوليتية بمكة:
ولقد علقت جريدة لندن تايمز في ذلك الوقت على هذا الكتاب قائلة:
لو داوم الناس على مطالعة هذا الكتاب لتوقف انتشار الدين المسيحي كليا ولأبى الناس قبوله ورجعوا إلى الإسلام.
ويواصل الشيخ محمد مسعود قائلا:
ولقد تم طبع هذا السفر الجليل عشرات المرات في تركيا ومصر وسوريا ولبنان، وقام القسيسون ورجال الهيئات التبشيرية بمصادرة نسخه وإتلافها حتى لا تصل إلى أيدي الناس في البلاد العربية والطبعة المتداولة هي الأخيرة بتحقيق الدكتور عمر الدسوقي وهو مطبوع في المغرب وفى لبنان.
وليس هذا الحال مع كتاب إظهار الحق فقط بل مع ترجماته الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية أيضا والجدير بالذكر أن الهيئات المختصة بالهند في عهد الحكومة البريطانية منعت طبع وتداول مؤلفات الشيخ رحمت الله وإنزال العقوبة بكل من يقوم بطبع ونشر مؤلفاته، ولكن كتبه كما يقول الشيخ محمد مسعود ظلت محفوظة مصونة في البيوت والمكتبات القديمة وفى صدور العلماء ورجال الحق.
كما أن الترجمة الأوردية للكتاب والتى تحمل اسم من الإنجيل إلى القرآن طبعت ثلاث طبعات في الباكستان وقام بترجمتها فضيلة الشيخ أكبر علي العثماني وحققها وعلق عليها فضيلة الأستاذ محمد تقي العثماني وهما من العلماء المشهورين في الباكستان.
وهكذا تتوالى طبعات الكتاب باللغات المختلفة وكلما نفذت طبعة طبعت أخرى فكان الكتاب بهذا الوصف حسنة جارية يتلقى مؤلفه ثوابها ونورها بعد أن فارق هذه الحياة الدنيا إلى رحاب الله الواحد الغفار.
تأسيس أول مدرسة بمكة المكرمة
عاد الشيخ رحمت الله إلى مكة المكرمة بعد أن أتم تأليف كتابه إظهار الحق، واشتغل بالتدريس في المسجد الحرام، وكذلك في داره لتلاميذه من أبناء مكة
المكرمة والمهاجرين إليها لطلب العلم.
ولقد رأى الشيخ بثاقب بصيرته أن التعليم الذى يتم في حلقات الدروس في المسجد الحرام يقتصر على التعليم الديني وما يتعلق به من علوم اللغة والبيان، وأن الحاجة تدعو إلى إدخال مواد أخرى لتعليمها لأبناء المسلمين، وكان يرى أن المدرسة التي يتم تأسيسها على أسس برامج ومناهج دراسية معينة يمكن أن يجني منها المتعلم فوائد أخرى إلى جانب دراسته الدينية.
كانت الحكومة العثمانية تبذل بسخاء لمدرسي المسجد الحرام ولعلماء مكة المكرمة ولكن البلاد كانت خالية من المدارس التي تجمع بين علوم الدنيا والدين، فقام الشيخ رحمت الله بافتتاح أول مدرسة في مكة المكرمة في ربيع الأول من عام 1285 للهجرة على نفقته الخاصة واتخذت المدرسة مقرا لها بدار أحد أمراء الهند المهاجرين المعروفة بدار السقيفة عند مطلع جبل هندى بالشامية. ولكن الدار كانت ضيقة، فلم يتمكن الشيخ من تنظيم الدراسة فيها بالشكل الذى يتمنى ويريد.
المدرسة الصوليتية
وفى عام 1289 هـ قدمت لأداء فريضة الحج الأميرة صولة النساء إحدى أميرات الهند، وكانت تنوي بعد أداء الحج إنشاء رباط بمكة المكرمة يكون وقفا للفقراء فاستشارت الشيخ رحمت الله في الأمر وهو المعروف أمره والمنتشر ذكره، قال الشيخ رحمت الله لصولت النساء: أن مكة المكرمة تحتاج إلى مدرسة يتعلم بها أبناء المسلمين، وحدثها عن مدرسته التي أسسها والتى تحتاج إلى بناية أعظم تبنى لتكون مدرسة نظامية، أم وافقت الأميرة صولت النساء على فكرة الشيخ وفوضت إليه أمر بناء المدرسة على نفقتها. ويسر الله الأمر فتم شراء الأرض في حي الخندريسة بمحلة الباب ووضع الشيخ رحمت الله حجر الأساس لأول مدرسة دينية نظامية في رحاب البيت العتيق وتم في صباح الأربعاء 15 شعبان 1290 للهجرة ابتداء الدراسة بالمدسة الصوليتية التي جعل الشيخ اسمها مرتبطا باسم أميرة الهند صولت النساء، وجرى الاحتفال بذلك الحدث بحضوره علماء مكة المكرمة وأعيانها
منظر جانبي لعمارة المدرسة الصوليتية الثانية التي بها الدراسة الآن والتى انتهت عمارتها في عام 1345 هـ
وطلاب العلم فيها
أصبحت المدرسة مركزا للطلاب من كل حدب ومنبعا للعلوم والمعارف، وهي أول مدرسة نظامية على الإطلاق في الجزيرة العربية تأسست على يد ذلك الرجل العظيم.
وتتكون المدرسة من ثلاثة مباني - المبنى الأول المدرسة التي بنيت على نفقة الأميرة الهندية صولت النساء .. والمبنى الثانى خصص لإيواء خمسين طالبا وقد بنيت على نفقة محسن هندى مسلم اسمه مير واجد حسين من مدينة بتنه في الهند وتم بناء هذا المبنى الذى سمى دار الإقامة في عام 1293 هجرية.
أما المبنى الثالث فهو المسجد وقد استعملت فيه الأحجار التي نتجت من هدم دار الكتب الملكية في ساحة الحرم المكي الشريف وتفصيل الأمر، أن دار الكتب الملكية كانت مبنية في ساحة الحرم المكي بالقرب من بئر زمزم وكان وجود هذا المبنى يضايق المصلين وخاصة في أيام الحج فرأى عثمان باشا نورى والي الحجاز ضرورة إزالته وكتب بذلك إلى وزارة الأوقاف في القسطنطينية وإقامة مبنى آخر للمكتبة في مكان آخر ولما عرض الأمر على السلطان عبد الحميد خان وافق على ذلك وتم نقل المكتبة إلى مبنى مجاور كما تم هدم المبنى الذى كان قائما في ساحة الحرم. وتقدم الشيخ رحمت الله إلى عثمان نورى باشا والي الحجاز بطلب شراء الأحجار المختلفة عن هدم هذا المبنى لاستعمالها في بناء مسجد للمدرسة الصوليتيه فوافق الوالي على هذا الطلب واشترى الشيخ رحمت الله هذه المخلفات واستغلها في بناء المسجد الذى يسر الله بناءه على أجمل وجه بحضور بعض المهندسين الهنود فظهر المسجد بقبابه العالية تحفة معمارية إسلامية وتم بناء المسجد في سنة 1304 للهجرة.
دسائس وعقبات
كانت المدرسة الصوليتيه منذ تأسيسها تقوم على تبرعات إثرياء المسلمين في الهند وكان من ضمن أغراضها احتضان أبناء المهاجرين المسلمين وخاصة من مسلمي الهنود ليتلقوا بها علومهم الدينية والدنيوية بطريقة منظمة ليعودوا إلى الهند فيعلموا أبناء المسلمين هناك ما تعلموه في مكة المكرمة.
[صورة]
المدخل الجميل لمسجد المدرسة الصوليتية المؤسس في عام 1302 هـ وعليها أبيات شعرية رائعة للشاعر الشيخ محمد نظيف التركي.
[صورة]
منظر لأول عمارة للمدرسة الصوليتية أنشئت في عام 1290 هـ وفيها بدأت الدراسة يوم الأربعاء الموافق 15/ 8/ 1290 هـ.
وكانت القنصلية الإنجليزية في جدة تعرف الكثير من ماضي الشيخ رحمت الله في محاربة التبشير المسيحى وأثره الكبير في الثورة ضد الإنجليز في الهند تبث الدسائس ضد المدرسة ومؤسسها فتنشر الأراجيف عن الأغراض. من وجود هذه المؤسسة التي تقوم على نفقات الهنود من خارج الحجاز، ولقد تأثر والي الحجاز عثمان نورى باشا في ذلك الزمن ببعض هذه الدسائس فكتب إلى القسطنطينية محذرا من الشيخ رحمت الله ومدرسته وجاء الأمر السلطاني على غير ما كان يتوقع الوالي فسافر الشيخ رحمت - الله واستقبل في الاستانة استقبالا عظيما وأنعم عليه السلطان بلقب ركن الحرمين الشريفين وخلع عليه وقدمت له الهدايا والأموال السخية.
ولما قابل السلطان عبد العزيز خان أبدى السلطان رغبته في تقرير منحة مالية سنوية للمدرسة لمعاونتها على أداء رسالتها فأجابه الشيخ شاكرا لأنعمه قائلا: أن لجلالة السلطان في أرض الحرم مشاريع عظيمة النفع ينفق عليها بسخاء ومشاريع لم تكتمل بعد وهذا كاف في فضل السلطان.
وأن مسلمي الهند يقومون بالإنفاق على المدرسة راغبين الثواب من الله، وأرجو جلالة السلطان أن لا يحرمهم من هذا الثواب.
ويبدو أن ما كان يرد للمدرسة من تبرعات مسلمي الهند كان يسد متطلبات المدرسة، ودار الإقامة فلم يرغب الشيخ في الحصول على المعونة السلطانية، ولعل لديه أسبابا أخرى للاعتذار
(1)
.
تجديد الدراسة في حلقة الشيخ رحمت الله
كانت حلقة الشيخ رحمت الله في المسجد الحرام كما يصفها الأستاذ مسعود سليم رحمة الله مدير المدرسة الصوليتيه بمكة، لا يقتصر التدريس فيها على العلوم الدينية كما هو الحال بالنسبة لحلقات الدروس بالسجد الحرام في ذلك الزمان.
(1)
57/ 60 أكبر مجاهد في التاريخ للسيد محمد سليم بن محمد سعيد.
يقول الأستاذ محمد مسعود: فعزم على إدخال علوم وكتب جديدة وتعريف الطلاب بما لم يعهدوه في محيط العلم والتدريس، فشرع في تدريس المنطق والفلسفة الإسلامية وعلمي الكلام والمناظرة وعلم الهيئة واقليدس الهندسة، وعلم الفلك، وطلب لها الكتب من الهند، وكان يوما مشهودا في تاريخ العلم بالحرم المكي الشريف الذى شرع فيه العلامة الشيخ رحمت الله في تدريس كتاب حجة الله البالغة، ومقدمة ابن خلدون وما أشبه ذلك من الكتب في العلوم آنفة الذكر.
فتهافت عليه جموع الطلاب، وأصبحت حلقته منهلا عذبا أقبل عليه طلاب العلم والمعرفة وظل يقوم بالتدريس فترات طويلة ومتعددة في الحرم الشريف وفى داره.
التلامذة والمتخرجون
لهذا فقد تخرج على يديه العدد الكبير من العلماء والقضاة وأهل الإفتاء ممن يشار إليهم بالفضل والكمال في تاريخ مكة.
وقد أورد الشيخ محمد مسعود أسماء الطلاب الذين تخرجوا على يد الشيخ رحمت الله فكان على رأسهم المرحوم الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز ومؤسس الدولة الهاشمية في سنة 1334 للهجرة في مكة المكرمة.
ولقد ضمن القائمة التي أوردها الأستاذ محمد سليم مسعود القضاة ورجال الفتيا والعلماء والمدرسين بالمسجد الحرام نذكر منهم على سبيل المثال:
فضيلة الشيخ عبد الله سراج
قاضى القضاة مفتى الأحناف وشيخ العلماء بمكة المكرمة ثم رئيس وزراء الأردن في عهد الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن.
الشيخ أحمد أبو الخير مرداد
شيخ الخطباء والعلماء بمكة المكرمة والمدرس بالمسجد الحرام.
الشيخ عبد الرحمن الشيبي
سادن بيت الله الحرام والمدرس بالمسجد الحرام.
السيد عبد الله محمد الزواوى
مفتى الشافعية بمكة المكرمة والمدرس بالمسجد الحرام ورئيس مجلس الشورى.
السيد عابد حسين المالكي
مفتى المالكية والمدرس بالسجد الحرام.
الشيخ عبد الله أحمد أبو الخير
مفتى الأحناف وقاضى المحكمة الشرعية والمدرس بالمسجد الحرام.
الشيخ محمد علي سليمان مرداد
الإمام والخطيب والمدرس بالمسجد الحرام.
الشيخ أمين محمد علي مرداد
إمام وخطيب المسجد الحرام ونائب رئيس محكمة مكة.
الشيخ أسعد أحمد دهان
قاضي المحكمة الشرعية الكبرى بمكة وقاضى الطائف والمدرس بالمسجد الحرام.
الشيخ أحمد أبو الخير عطار
صاحب التآليف الشهيرة في الأسانيد
الشيخ عبد الرحمن حسن العجمي
قاضى محكمة الطائف والمدرس بالمسجد الحرام.
الشيخ عبد الله محمد الغازى
المدرس بالمسجد الحرام والمدرسة الصوليتيه ومؤرخ مكة المعروف.
الشيخ عبد الستار الدهلوى الكتبى
المدرس بالمسجد الحرام وصاحب التآليف النافعة في تاريخ علماء مكة المكرمة.
نكتفى بهذا القدر من الأسماء التي وردت في هذه القائمة لقضاة مكة المكرمة وعلمائها ومدرسي المسجد الحرام بها لنورد بعض الأسماء للرجال الذين تخرجوا على يد الشيخ ثم قاموا بتأسيس المدارس في الهند ونشر العلم بها.
الشيخ أحمد الدين جكوالي
مؤسس مدرسة مظهر العلوم بكراتشي
العلامة شرف الحق صديقي
المناظر المعروف وصاحب المؤلفات في الرد على النصارى
الشيخ ضياء الدين عبد الوهاب المدراسى
مدير مدرسة الباقيات الصالحات في ديلور بجنوب الهند.
الشيخ عبد الأول الجوتيورى
صاحب المؤلفات النافعة والشهير بمصلح بنغال
الشيخ عبد الرحمن الآله ابادى
شيخ القراء بالهند
الشيخ محمد هاشم اشعرى
مؤسس جمعية نهضة العلماء باندونيسيا
العلامة الشيخ محمد علي
مؤسسة مدرسة دار العلوم بالهند
الشيخ أبو الخير الفاروقي الهندى
المصلح والمربي الشهير ومن علماء الهند
ولقد كان كذلك بين تلاميذ الشيخ من قاموا بتأسيس المدارس في مكة المكرمة ذاتها نذكر منهم الأسماء الآتية:
الشيخ عبد الخالق محمد حسين البنقالي
مؤسس مدرسة دار الفائزين بمكة المكرمة
الشيخ عبد الحق القارى
مؤسسة المدرسة الفخرية بمكة المكرمة
الشيخ محمد حسين الخياط
مؤسس المدرسة الخيرية بمكة المكرمة والمدرس بالمسجد الحرام
وأود أن أذكر أن القائمة التي أوردها السيد محمد مسعود سليم تضم واحدا وخمسين أسما من العلماء والقضاة والمدرسين بالمسجد الحرام وممن تسلم بعضهم المراتب العالية وقد اكتفينا منهم بالأسماء التي أوردناها للدلالة على عظيم فضل الشيخ رحمت الله وما صنع الله من البركة على يديه ومن أراد الاستزادة فله أن يرجع إلى المقدمة التي كتبها السيد محمد مسعود سليم رحمه الله والتى أورد فيها القائمة كاملة لكتاب إظهار الحق والذى استقينا من مقدماته جميع المعلومات الواردة في هذه الترجمة وبالله التوفيق.
عودة إلى المدرسة الصوليتية:
انتظمت الدراسة في المدرسة الصوليتيه في بداية المحرم من سنة 1291 هـ
(1)
ولا تزال المدرسة قائمة برسالتها منذ أكثر من مائة واثنتي عشرة عاما في مكة المكرمة أخرجت المدرسة خلالها أجيالا من المتعلمين شغل الكثير منهم وظائف التدريس في المدرسة نفسها وفى المسجد الحرام وفى مدارس مكة المكرمة، كما تولى بعضهم مناصب القضاة في مكة وجدة والطائف وغيرها من مدن المملكة، وصدرت لبعضهم المؤلفات النافعة في العلوم الشرعية خاصة، فكانت هذه المدرسة منارة من منارات العلم في البلد الحرام شع نورها إلى أقطار كثيرة.
ولقد سبقت المدرسة الصوليتيه جميع المدارس الأخرى في الحجاز بعقود من السنين فمدارس الفلاح التي قامت النهضة التعليمية في الحجاز على أكتافهاتم تأسيسها في عام 1323 هـ بينما تم تأسيس المدرسة الصوليتية في عام 1291 هـ وإذا كانت مدارس الفلاح قد أخرجت الأجيال التي ساهمت في نهضة البلاد من كافة جوانبها وشغل متخرجوها الأعمال الحكومية والتجارية والتعليمية بمختلف وجوهها فإن المدرسة الصوليتية أخرجت الرجال المتخصصين في العلوم الدينية ممن
(1)
54 أكبر مجاهد في التاريخ تأليف محمد سليم بن محمد مسعود.
أقاموا حلقات التدريس في المسجد الحرام خاصة وتولوا وظائف القضاء الشرعي ولهذا فأنا نستطيع القول بإن المدرسة الصوليتية كانت مدرسة متخصصة في العلوم الدينية بينما كانت الفلاح مدارس عامة أخرجت المتعليمن في كافة المجالات.
وقد أورد السيد محمد سليم بن محمد مسعود أسماء مائة من المتخرجين في المدرسة الصوليتية بينهم خمسة عشر قاضيا أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر.
الشيخ أحمد بن عبد الله القارى
القاضي بمكة وجدة وعضو هيئة رئاسة القضاء وعضو مجلس الشورى ومؤلف المجلة الشرعية الذى أفردنا له ترجمة خاصة ضمن أعلام الحجاز.
الشيخ حسن سعيد اليماني
عضو هيئة رئاسة القضاة في مكة المكرمة ثم قاضي القضاة في مدينة سومطره ووالد معالى الشيخ أحمد زكي يماني.
الشيخ يحيى أمان
قاضى مكة المكومة والمدرس في المسجد الحرام.
الشيخ محمد نور كتبي
قاضى المدينة المنورة
الشيخ حامد القارى
قاضى الطائف
الشيخ سراج محمد نور ششه
قاضى تبوك
الشيخ بكر كمال
قاضى الطائف
الشيخ حسن محمد المشاط
عضو هيئة التمييز والمدرس في المدرسة الصوليتيه
كما أن من بينهم ثمانية متخرجين قاموا بتأسيس المدارس الإسلامية في أنحاء
مختلفة من أندونوسيا وغيرها من البلاد الإسلامية، والكثير منهم عمل في وظائف التدريس بالمسجد الحرام والمدرسة الصوليتيه نفسها وغيرها من المدارس في مكة المكرمة.
وهكذا يظهر لنا بوضوح المنحى التخصصى الذي اتجهت إليه المدرسة الصوليتية فأخرجت لمكة المكرمة وللبلاد الإسلامية هؤلاء الرجال الذين كانوا في زمنهم مصابيح علم وهداية.
وهنا مسألة يجب التنبيه إليها وهي أن المدرسة وحتى الجامعة على عظم أهميتها ليست وحدها العامل الأساسي في نبوغ وظهور المبرزين.
إن المدرسة تعطى الطالب الأساس الذي يبنى عليه علمه وهذا البناء يعتمد على الجهد الفردى للطالب وعلى طموحاته وتطلعاته واجتهاداته، ولو كانت المدارس تخرج العباقرة والنوابغ لامتلأت الدنيا بالعباقرة والنابغين، ولظهر النقص في الأيدي العاملة والطبقات المعتادة ممن يقومون بمختلف الأعمال العادية في دنيا الناس.
وأود كذلك أن أشير إلى أن الطريقة التي كانت تتم بها الدراسة في الماضى وقبل افتتاح المدارس النظامية والتى كانت تعتمد أساسا على حلقات الدرس في المسجد الحرام أو في المسجد النبوى الشريف أو المساجد الأخرى لم يكن الطلاب يعتمدون فيها على أستاذ واحد وإنما يتنقلون بين حلقات المشايخ ليتلقوا عن كل واحد منهم علما تخصص فيه، وقد تشتد علاقة الطالب بأستاذه فيتلقى عنه بالملازمة الطويلة الكثير من العلم فتكون نسبته إليه هي الغالبة.
إن العصر الذى نتحدث عنه كانت تتفشى فيه الأمية، وكان المتعلمون فيه هم الصفوة القليلة النادرة، لهذا فإن نظرتنا إلى هؤلاء الرجال الذين حاولوا تبديد ظلمات الجهالة في تلك الأزمان تتسم بالإكبار والتقدير، لأن علمهم كان جهادا حقيقيا في نشر العلم، ولما كانت نياتهم قد حسنت ونفوسهم قد صفت فإن الله
منظر القباب الجميلة لمسجد الصوليتية على الطراز الإسلامي المغولى في الهند بنيت على أيدى الصناع الهنود في عام 1302 هـ، وفى المسجد ظل قسم تحفيظ القرآن الكريم زهاء 75 سنة متوالية.
[صورة]
تعالى قد أتاح لهم التغلب على المصاعب التي وقفت في طريقهم، وبارك لهم في جهودهم حتى بعد وفاتهم فلا تزال هذه المدارس مفتوحة الأبواب تؤدى رسالتها الطيبة في نشر العالم بين الناس رغم اختلاف الأوقات وتطاول الزمن.
لقد رأينا أنه كان من أسباب تأسيس المدرسة الصوليتيه بمكه إخراج علماء من
أبناء المهاجرين وخاصة من أبناء مسلمي الهند ليتعلموا القرآن الكريم وعلومه، والسنة النبوية الشريفة وعلومها ليعودوا إلى بلادهم فينشروا هذا العلم بين الناس في وسط طغت عليه في ذلك الزمان سطوة المبشرين الذين يعملون جاهدين لصرف الناس عن الإسلام وإدخالهم في المسيحية، ولقد حققت المدرسة الصوليتيه هذه الغاية أو بعضا مثها فرأينا بين متخرجيها من تلاميذ مؤسسها من قاموا بفتح المدارس الإسلامية في بعض بلاد الهند واندنوسيا.
ولكن العمل الطيب كالعطر يفوح ريحه أينما حل فلا ينشق شذاه حامله فحسب وإنما ينشق الناس من حوله هذا الشذى العاطر، كما تمر ببستان الورد فيحمل إليك الهواء من حوله الطيب والشذى، وهكذا كانت المدرسة الصوليتيه نفحة عطرة في رحاب البيت العتيق أخرجت لنا العلماء والقضاة والمدرسين، وكانوا مصدر خير وبركة لكل من تلقى العلم عنهم أو اتصلت أسبابه بأسبابهم.
وهكذا يؤتى العمل الطيب أكله ثمرا جنيا طيبا بتوفيق الله وعونه.
مؤلفات الشيخ رحمت الله:
-
أهم مؤلفات الشيخ رحمت الله هو كتاب إظهار الحق الذى سلف الحديث عنه والذى ألفه بتكليف من السلطان العثماني عبد العزيز خان وبإشارة من رئيس وزرائه خير الدين باشا التونسي، وكان قد سبقهما إلى هذا الطلب شيخ علماء مكه السيد أحمد زيني دحلان وقد تضمن هذا الكتاب الرد الوافي على مفتريات النصارى ضد الإسلام ودحض مفترياتهم وإثبات التحريف الذى وقع في الإنجيل، وإبطال معتقداتهم في التثليث وقد ترجم الكتاب إلى لغات كثيرة وأعيد طبعه مرات عديدة وآخر طبعة له هي الطبعة التي قامت بنشرها إدارة الشئون الدينية بدولة قطر وأشرف على طبعة فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري مدير الشئون الدينية هناك وقام على تحقيقه الدكتور عمر الدسوقى وهي في مجلدين كبير بن تزيد صفحاتهما عن الألف ومائتي صفحه وقد توج الكتاب بمقدمات أربع كتبها كل من الشيخ عبد الله الأنصاري والعلامة السيد أبو الحسن على الحسني الندوى والسيد محمد
مسعود سليم رحمه الله مدير المدرسة الصولتية بمكة المكرمة والدكتور عمر الدسوقي أستاذ الأدب بجامعة القاهرة ومن هذه المقدمات استقينا جميع المعلومات الخاصة بالشيخ رحمت الله والتى أوردناها في هذه الترجمة وقد صدر الكتاب في 16 من ذى الحجة سنة 1400 هـ
وقد أورد السيد محمد مسعود سليم قائمة بمؤلفات الشيخ رحمت الله باللغات المختلفة نوردها فيما يلى: -
1 -
إزالة الشكوك مجلدان باللغة الأوردية.
2 -
إعجاز عيسوى باللغة الأوردية.
3 -
البروق اللامة باللغة العربية.
4 -
تقليب المطاعن باللغة العربية.
5 -
معدل اعوجاج الميزان باللغة الأوردية.
6 -
إزالة الأوهام باللغة الفارسية.
7 -
أحسن الأحاديث في إبطال التثليث باللغة العربية.
8 -
البحث الشريف في إثبات النسخ والتحريف باللغة العربية.
9 -
معيار الحق.
وقد طبعت هذه المؤلفات جميعها في الهند وهي في الرد على الديانة المسيحية، وعاشر المؤلفات ومسك ختامها هو كتاب إظهار الحق الذى سبق الحديث عنه والذى يعتبر من أعظم المؤلفات في بابه، وقد أثنى عليه كثير من علماء المسلمين منهم السيد رشيد رضا صاحب المنار والشيخ عبد الرحمن الجزيري عضو لجنة هيئة كبار العلماء في مصر كما استشهد به وأشاد بما فيه كثير من علماء المسلمين في الهند
(1)
.
والمتأمل في أعمال الشيخ رحمت الله وفى تاريخه يجد أن الرجل قد نذر نفسه أولا
(1)
انظر صفحة 8/ 9 من كتاب أكبر مجاهد في التاريخ.
لمحاربة دسائس المبشرين ودحض مفترياتهم على الإسلام، وإثبات التحريف في الكتب التي بين أيديهم، وإبطال عقيدة التثليث التي يؤمنون بها والتى تتنافى مع صفاء عقيدة التوحيد، وبعد أن استقر به المقام في مكة تفرغ للتدريس في المسجد الحرام ثم اختتم عمله الطيب أحسن ختام بتأسيس المدرسة الصولتية في رحاب البيت العتيق.
أن الدين كله لله، وإن الله تعالى أرسل رسله جميعا من عهد آدم برسالة واحدة في مختلف الأزمان تقوم على توحيده جلت ذاته وتقدست صفاته وعلى إفراده بالألوهيه، وتنزهه عن الولادة والولد وتفرده بالعظمة الكاملة وأمر عباده بإخلاص العبادة له وحده وباتباع ما جاءت به رسله من شرائع تتعلق بعبادته جل جلاله، وبتنظيم الأمور بين الناس ليعمر هذا الكون وليعيش الناس في محبة وسلام، ولكن بعض من ضلت عقولهم وفسدت عقائدهم من أهل الديانات السابقة حرفوا فيما أوحى به الله إلى أنبيائه ورسله ولم يكتفوا بهذا التحريف فأخذوا ينشرون ضلالاتهم بين المسلمين، ونسوا أنهم بهذا يحاربون الله تعالى في الألوهية الواحدة وفى تعاليمه السامية.
ولا تزال هذه الضلالات تتخذ أشكالا شتى في عالم اليوم مما تتفتق عنه أفكار شياطين الإنس وتتستر تحت أسماء الشيوعية، والحرية الفكرية والدعوات العنصرية إلى جانب الحقد الصليبي، والخبث اليهودى الذى بدأ يتحول إلى سرطان في عالمنا العربي.
ولن يستطيع المسلمون الوقوف في وجه هذه التيارات الكافرة الضالة المضلة إلا بالرجوع إلى عقيدتهم الصافية يهتدون بهديها ويحتمون بها ويدافعون عنها فيظفروا بنصر الله الذى وعدهم به والذى أنزله على نبيه وأوليائه في شتى العصور والأزمان.
مرض الشيخ رحمت الله ووفاته
مرض الشيخ رحمت الله بعينيه وعلم السلطان عبد الحميد خان بمرض الشيخ
فطلب حضوره إلى القسطنطينية ليعالج تحت رعاية السلطان وسافر إلى هناك ونصحه الأطباء المختصون بإجراء عملية إزالة الماء من العين وكانت العملية في ذلك الزمان من العمليات الخطيرة ولكن الشيخ رغب عن إجراء العملية وعاد إلى مكة المكرمة ولكن المرض اشتد في عينيه فأجريت له العملية في مكة ولم تكلل بالنجاح وأصبح الشيخ بعد ذلك عاجزًا عن القراءة فكان يملي رسائله على حفيده الذى استقدمه من الهند ليكون تحت رعايته كما يقرأ له هذا الحفيد الرسائل الواردة وما يرغب الشيخ في الاطلاع عليه، ولم ينجب الشيخ رحمت الله ذرية ولكنه ترك خلفه الكثير من الأبناء الروحيين الذين نهلوا من موارد علمه وفضله.
وفى الثانى والعشرين من شهر رمضان من عام 1308 للهجرة الموافق الأول من شهر مايو عام 1891 للميلاد لبى الشيخ رحمت الله نداء ربه فدفن في مكة المكرمة في مقبرة المعلاة بعد حياة حافلة بالجهاد بالجنَان والبيان في سبيل الدفاع عن العقيدة الإسلامية ونشرها بين الناس رحمه الله وأحسن جزاءه في جنات الخلد.
هذا ولا يزال أحفاد الشيخ رحمت الله يقومون على هذا الصرح العلمي الذى أسسه جدهم الأكبر في مكة المكرمة يتبع الخلف منهم آثار السلف ويحفظون هذه الشعلة المضيئة في بلد الله الحرام فجزاهم الله خير الجزاء.
الشيخ محمد طاهر الكردي
الشيخ محمد طاهر الكردي
قصير القامة معتدل الجسم، ناتئى الجبهة تشوب بياضه صفرة خفيفة، تزين وجهه لحية سوداء حليق شعر العارضين في عينيه حول خفيف تستره نظارة للقراءة، يرتدى الجبة الحجازية ويعتم بعمامة تستر الرأس والأذنين وهو بهذا يتخذ سيماء العلماء المكيين.
ولد بمكة المكرمة في عام 1321 للهجرة وتلقى تعليمه بمدرسه الفلاح بمكة وتخرج منها في عام 1339 هـ وفى عام 1340 هـ سافر بصحبة والده الشيخ عبد القادر الكردي إلى القاهرة حيث التحق بالأزهر الشريف ويقول الشيخ طاهر في ترجمته التي كتبها عن نفشه فاشتغل هناك بالعلوم الدينية والعربية كما اشتغل بتعلم الخطوط العربية بأنواعها وما يتعلق بها من الرسم والزخرفة والتذهيب بعد أن التحق بمدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية، ولما عاد من القاهرة اشتغل بتعليم الخط العربى بالمدارس ولذلك يعرف بالخطاط انتهى ما كتبه الشيخ طاهر عن نفسه نقلا عن كتابه التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم.
عرفت الشيخ طاهر الكردي في النصف الثانى من الخمسينات بمكة المكرمة، وكان صديقا حميما لعمى الشيخ عبد الله مغربى رحمه الله وكنت أعرف أنه اشتهر بجمال الخط، وكان يحضر إلى متجر عمي وإلى داره بصورة يومية تقريبا، كما كان
يصاحبه إلى الحج كل عام، وكان مظهر الشيخ طاهر متزمتا متوقرا ولكنه إذا خلا بأصحابه تحول إلى شخص آخر كثير الدعابة والمرح.
وكان الشيخ طاهر قد عاد من القاهرة بعد أن أكمل دراسته في الأزهر الشريف ولكنه لم يعمل فقد كانت الأعمال شحيحة والوظائف محدودة والركود يسود الحالة الاقتصادية.
مصحف مكة المكرمة
وفى أواخر الخمسينات أو أوائل الستينات حضر الشيخ محمد طاهر الكردى إلى مكتب المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان بالطائف وطلب مقابلة الشيخ محمد سرور ليتحدث إليه في أمر ما، فطلبت منه الانتظار قليلا حتى حضر الشيخ فقدمته إليه، وقلت فيما قلته أنه بارع في الخط براعة فائقة.
قال الشيخ طاهر للشيخ محمد سرور: أنني عزمت علي كتابة القرآن الكريم بخط يدى، وأزيد أن أقدم هذا المصحف إذا انتهيت منه إلى جلالة الملك عبد العزيز.
قال الشيخ محمد سرور: إنها فكرة حسنة ولكن لي رأيا في الموضوع أقوله لك. أنك لو قدمت هذا المصحف المخطوط بعد إتمامه إلى جلالة الملك عبد العزيز فسيكون له الوقع الحسن لدى جلالته وسيكافئك عليه مكافأة حسنة، ولكن الفكرة أن هذا المصحف سيبقى مخطوطا في خزانة الملك عبد العزيز أمدا طويلا، ولديك هنا شركة تأسست حديثا لتقوم بشئون الطباعة والنشر وأشار الشيخ محمد سرور إلى كاتب هذه الترجمة، فلماذا لا تتفق مع هذه الشركة على شراء هذا المصحف الذى تنوى كتابته لتقوم هذه الشركة بطبعه ونشره بين الناس؟.
وأبديت موافقتى على الفكرة كما أبدى الشيخ طاهر رحمه الله ترحيبه بها وواعدته الاجتماع في داري بعد الغروب.
وكنت أنا والمرحوم الصديق عبد الله باحمدين قد اشترينا مطبعة الشركة العربية للطبع والنشر وموجودات الشركة من الورق وما إليه بعد أن تعرضت للخسارة
شهورا عديدة، وبحثت الموضوع مع المرحوم الشيخ عبد الله باحمدين واتفق الرأى على أن كتابة المصحف ستكون بداية لعمل عظيم فهو أول مصحف يكتب في مكة المكرمة، ويطبع فيها وينشر منها، حيث نزل القرآن أول ما نزل في مهبط الوحي في مكة المكرمة.
وحضر الشيخ طاهر إليَّ بعد الغروب وتم الاتفاق بيني وبينه على كتابة المصحف الشريف، وكان الاختلاف الوحيد بيننا هو أنه حدد المدة اللازمة لإتمام كتابة المصحف في حدود عامين، وكنت أنا متعجلا أرغب إتمام هذا العمل خلال عام واحد، ولما رأى الشيخ طاهر رحمه الله إلحاحي قال لي إن هذا عمل بالغ الدقة، وأنني لا أستطيع الإقدام عليه إلا وأنا في حالة نفسية متهيئة له التهيأ الكامل ثم أردف قد ابدأ بالكتابه واستمر فيها أياما أو أسابيع ولكن قد يطرأ ما يمنعني عن الإمساك بالقلم أياما وأسابيع أخرى، فدعني أتصرف بما يمليه عليَّ مزاجي ولا تنس أن الخط عمل فني، مثل الرسم، والشعر والكتابة، والفنان لا يقدم على ممارسة فنه إلا إذا تهيأت له الأسباب النفسية أولا، وكنت أعرف إنما يقوله الأستاذ طاهر صحيح كل الصحه فوافقت عليه.
هذا وقد طلب الشيخ طاهر ورقا معينا وأقلاما وأحبارا معينة، وكان الزمن زمن حرب ولكن الله تعالى يسر الأمر فوجدنا كلما طلبه في مكة المكرمة.
وبدأ العمل واتفقنا أن يكون المصحف موافقا للرسم العثماني، ومضت الشهور وكنت كلما رأيت الشيخ طاهر سألته ماذا فعل؟ فيجيب أنه مستمر في عمله، وكان قد أحضر لي بعض الصفحات من أوائل ما كتب وأطلعني عليها، ثم عاد بعد أسابيع وأطلعني على نفس هذه الصفحات وقد كتبت مرة أخرى بخط أحسن وقال أن هذا هو الفارق بالنسبة لمزاج الخطاط حينما يكتب.
ولا أريد الإطالة على القارئ فقد انتهى الشيخ طاهر من كتابة القرآن الكريم بعدما يقرب من ثلاثة أعوام، وقبل الانتهاء كنا قد تقدمنا إلى الحكومة نطلب تأليف لجنة لتصحيح المصحف الذى قام بكتابته الشيخ طاهر رحمه الله فألفت
الحكومة لجنة كبيرة مكونه من الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام المسجد الحرام في ذلك الوقت والشيخ صالح حجازى شيخ القراء بمكة المكرمة، والمرحومين السيد محمد شطا والسيد إبراهيم النورى من وزارة المعارف، وقد باشرت اللجنة عملها، وللتاريخ فإن الشخص الوحيد من بين أعضاء هذه اللجنة الذى تفرغ للمراجعة والتصحيح وأعطى هذا العمل جهده وكامل اهتمامه هو المرحوم السيد إبراهيم النورى من وزارة المعارف، وحينما عرضنا عليه مكافأة مقابل هذا الجهد اعتذر عن قبولها فاعتبرناه مساهما في الشركة التي تألفت لهذا الغرض بنسبة معينة وقد ألفنا شركه خاصة لطبع القرآن ونشره في مكة المكرمة أسميناها شركة مصحف مكة المكرمة واستوردنا لها مطبعة خاصة من أمريكا ولا تزال الشركة تحمل هذا الاسم حتى اليوم.
أوشك العمل في كتابة المصحف على الانتهاء كما أوشك التصحيح أن ينتهى وذات يوم اتصل بى المرحوم الشيخ عبد الله باحمدين تلفونيا وطلب مني الحضور إلى مكة المكرمة حيث يجرى عرض المصحف على صاحب السمو الملكي الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك المعظم لأول مرة، وذهبنا لمقابلة سموه في قصره بالمعابدة في ظاهر مكة وتقدم السيد إبراهيم النوري رحمه الله بتقديم نسخة المصحف إلى سمو الأمير فيصل وكنا المرحوم عبد الله باحمدين وأنا نقف معه، وأبدى سموه إعجابه وقال أنه عمل عظيم، ثم اقترح سموه أن يعرض هذا المصحف على جلالة المغفور له الملك عبد العزيز وقال: أنني سأتحدث إلى رئيس الحرس الملكي وأظن أن اسمه كان إبراهيم جودت ليدخلكم على جلالة الملك عبد العزيز.
عدت إلى جدة وبعد عدة أيام أبلغني المرحوم الشيخ عبد الله باحمدين أنهم دعوا على عجل للحضور إلى القصر وأنهم عرضوا المصحف على جلالة الملك عبد العزيز فسر جلالته به كثيرا، وأثنى على القائمين بالأمر، ونفح كلا منهم مبلغا من المال تعبيرا عن تقدير جلالته وإعجابه.
كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، وكنت مضطرا لظروف صحية عائلية أن أسافر إلى مصر وأبقى بها بضعة شهور، وكنت حريصا أن أصطحب المصحف معي لعمل اكليشيهات له من النحاس والزنك توطئة لطبعه، ولم يكن عمل الاكليشهات متوفرا في البلاد في ذلك الزمان، وضعت المسودة المخطوطة للمصحف في حقيبة خاصة حملتها معي إلى مصر، وكان لابد من أخذ رخصة من الأزهر الشريف بطبع المصحف ليكون معتمدا في جميع البلاد الإسلامية في ذلك الوقت.
اتصلت في مصر بصديقنا الأستاذ صادق سعيد بازرعة وأسرته من كبار التجار الحضارمة الذين أقاموا السنوات الطوال في مصر واصبحوا مصريين بحكم الإقامة الطويلة لآبائهم وبحكم الميلاد لهم ولأبنائهم وكانت الأسرة تعمل في تجارة الصابون البنِّ والبهارات التي يستوردونها من فلسطين وعدن وافريقيا والهند وكانت لهم وكالة كبيرة في الجمَّالية كما كانوا يتمتعون بسمعة عالية في الوسط التجارى في مصر. قال صديقنا الأستاذ صادق بازرعة هذه المسألة لا يصلح لها إلا السيد محمد عرفة شيخ المسجد الحسينى، كان ذلك في رمضان وجامع سيدنا الحسين قريب من وكالة بازرعة فذهبنا وأدينا صلاة العصر وشرحنا الموضوع للسيد محمد عرفة، وكان يحضر للحج وكنت أراه في مكة المكرمة، وهو رجل يجمع بين وقار العلم وحدة الذكاء وكانت صلاته بطبقات المجتمع المختلفة قوية ومتينة، فتجد في غرفته الملحقة بالجامع الحسينى العِلْية من الناس من الباشوات والبكوات إلى عامة الناس وأوساطهم، استدعى السيد محمد عرفه ابنه وكان موظفا بوزارة الأوقاف وقال له أريدك أن تحضر لي غدا الشيخ محمد علي الضباع شيخ المقارئ المصرية ليصلي العصر هنا، والتفت إلي قائلا وستصلي العصر معنا هنا ياحاج .. فشكرته واجتمعنا في صلاة العصر في اليوم الثاني، الشيخ الضباع وأنا وصادق سعيد بازرعه، وأخبر السيد عرفة الشيخ الضباع بالغرض الذى دعاه من أجله، وأوصاه بنا خيرا، واتفقنا مع الشيخ الضباع على الأجر الخاص بالتصحيح كما جرى
الاتفاق مع المصنع الذى يعمل الاكليشيهات حيث ترسل الصفحات التي يتم تصحيحها من الشيخ الضباع إلى المصنع فإذا تم عمل الزنكات طبعت عليها نماذج وأرسلت للشيخ مرة أخرى ليعيد تصحيحها، وتستمر هذه العملية إلى أن يتم عليها التصحيح النهائى للمصحف مع اتمام صنع الاكلشيهات، ثم تصدر الرخصه من مشيخة المقارئ المصرية بالطبع. مكثت بضعة شهور في مصر وأنا اتردد اسبوعيا وبعض الأحيان في كل ثلاثة أيام على الشيخ الضباع في بيته بالجيزة وعلى المصنع الذي يصنع الاكليشهات في شارع عبد العزيز وكان صاحب المصنع ارمنيا شهيرا بصناعة الحفر وقد جعلنا الأكليشهات بحجمين احدهما المقاس المتوسط العادي والثانى المقاس الصغير وتم التصحيح النهائى أخيرا بعد أن كادت اطارات السيارة الصغيرة الهيلمان التي تقلني إلى الجيزة وتعيدني منها كادت اطاراتها تذوب من كثرة الغدوُّ والرواح، وكانت السيارات كما كانت الاطارات عزيزه في أيام الحرب العالمية الثانية وغالية الاثمان. انتهت الاكليشهات وبدأت أفكر في الطريقة التي يمكن بها تصديرها من القاهرة إلى الحجاز وكانت القيود على التصدير بالغة الشدة وادركت أنني لو اتبعت الطرق المعتادة لتعبت بالغ التعب دون نتائج مفيدة.
وفي ذلك الوقت بالذات وصل جلالة المغفور له الملك عبد العزيز في زيارته الرسمية إلى مصر وكان بصحبته معالى الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية الاسبق، وكذلك المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان ورأيت أن الله تعالى قد هيأ الأسباب بهذه الزيارة الملكية لتصدير اكلشيهات المصحف دون عناء شرحت الأمر لمعالي الشيخ محمد سرور رحمه الله فقال لي أكتب ما تريد من الكتب بالتوصية على هذا الأمر وهاتها لتوقيعها، كان الشيخ محمد سرور الصبان تربطه صلة صداقة عظيمة بالسياسى المصرى المعروف إبراهيم عبد الهادى باشا وكان وزيرا من أبرز وزراء الوفد في ذلك العهد، وكتبت الكتاب المطلوب لإبراهيم باشا بلسان الشيخ محمد سرور اشرح له الوضعية، كما كتبت كتابا آخر بنفس المعنى إلى مكرم عبيد باشا وزير المالية، وكان هو الوزير المختص الذى تتبعه الجمارك والتراخيص الخاصة
بالتصدير، وذهبت أولا إلى إبراهيم عبد الهادي باشا وأخذ سكرتيره الرسالة ودخل بها إلى الوزير.
وعاد ليتصل أمامي تلفونيا بسكرتير وزير المالية وكان اسمه الأستاذ حسن الاعور ويوصيه بلسان الباشا بالاهتمام بالامر، وقابلت الأستاذ حسن الاعور في وزارة الماليه وسلمته كتاب الشيخ محمد سرور، فعاد ليتصل امامي بصندوق النقد الذي كان يقع في ميدان الاوبرا ويبلغهم توصية مكرم باشا وزير الماليه بعمل كل التسهيلات لتصدير الاكلشيهات الخاصة بالقرآن الكريم.
حصلت على الترخيص المطلوب في مدى ثلاثة أيام ولو لم يهئ الله الأسباب بزيارة المغفور له جلالة الملك عبد العزيز وحضور معالى الشيخ محمد سرور لربما استغرق الحصول على الترخيص الشهور الطوال.
أنه القرآن الكريم، وأنه تيسير الله تعالى للقائمين على نشره بين الناس، وحينما كنت أفكر في اجراءات التصدير خطر لي أن اختصر الوقت وضعت الاكلشيهات في حقيبة خاصة وأرسلت هذه الحقيبة ضمن حقائب الشيخ محمد سرور الذى كان من القائمين على ترتيب شئون الرحلة الملكية إلى مصر، ووصلت الحقيبة إلى مكة بسلام وأصبحت الاكلشيهات جاهرة للطبع، وكان المرحوم عبد الله باحمدين قد سافر إلى امريكا وتعاقد لشركة المصحف على شراء المطبعة الأولى التي سيطبع عليها القرآن الكريم في مكة المكرمة.
ووصلت المطبعة، وحدث أن السيد إبراهيم النورى رحمه الله احيل إلى المعاش بناءا على طلبه فوجدنا أنه اصلح الناس للقيام على إدارة شركة مصحف مكة المكرمة وهو الذى بذل جهدا مشكورا في تصحيح النسخة الخطية التي كتبها الشيخ طاهر كردى.
وهكذا سلمت مقاليد الشركة إلى السيد إبراهيم النورى رحمه الله لعد أن تم تأسيس الشركة بصورة قانونية، وكانت باكورة أعمالها طبع القرآن الكريم ونشره لأول مره في مكة المكرمة بعد أن تمت كتابته فيها، وهذه السابقة التاريخية العظيمة
هي التي اختص بها الله الشيخ محمد طاهر الكردى لأنه كان الخطاط الذى كتب القرآن الكريم في مكة المكرمة وهيأ الله تعالى لهذه النسخة التي كتبها أن تطبع في مكة المكرمة وتنشر منها لا في مكة وحدها ولا في المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما في سائر بلاد الإسلام، فمصحف مكة المكرمة أصبح يطلب في جميع البلاد الإسلامية من اندنوسيا وباكستان والشرق الأقصى كله، إلى افريقيا كلها.
إن الشيخ طاهر كردى رجل محظوظ فالمصاحف التي كتبت في مكة المكرمة كثيرة وبعضها محفوظ في مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكثير منها اجمل خطا من المصحف الذى كتبه الشيخ طاهر الكردى ولكن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب .. وقد هيا الله للمصحف الذى خطه الشيخ طاهر الكردي أسباب الذيوع والانتشار فتأسست له شركة خاصة قام أصحابها على اعداده للنشر واتخذوا الأسباب الكفيلة بهذا النشر حتى تم لهم الأمر بعد الجهد والنصب.
ولقد مضى على تأسيس شركة مصحف مكة المكرمة ما يقرب من أربعين عاما وهي توالى نشر الكتاب الكريم من مكة المكرمة وتستورد له المطابع الواحدة تلو الأخرى مسايرة تطور الطباعة في العصر الحديث، ولعلي لا أذيع سرا حينما اذكر أن شركة مصحف مكة المكرمة، لم تكتف بالمصحف الذى كتبه الشيخ طاهر الكردى وإنما عمدت إلى طبع مصاحف أخرى بخط اجمل كثيرا من خط الشيخ طاهر رحمه الله، كما استكتبت خطاطا شهيرا بجمال الخط واتقانه لكتابة مصحف لها، ولكن المصحف الذى كتبه الشيخ طاهر لا يزال يحتل مكانه في قلوب الناس، ويكفي أن نذكر أن شركة مصحف مكة قد قامت بطبع كمية من المصحف الذى كتبه الشيخ طاهر في حجم كبير جدا وجلدته تجليدا فاخرا وكانت هذه الطبعة ولا تزال تقدم هدية لجميع الملوك والرؤساء وكبار الزوار المسلمين القادمين إلى المملكة كما أنه يقدم من ضمن الهدايا المهتازة لكبار المسئولين السعوديين في زيارتهم للبلاد الإسلامية.
طاهر كردى الخطاط
وما دمنا بصدد الحديث عن حسن كتابة الشيخ طاهر الكردى وجودة خطه فلابد أن نتحدث عن جانب آخر من جوانب شخصيته الكثيرة الجوانب فالرجل كان ممن تلقوا تعليمهم في الأزهر الشريف، ثم التحق بمدرسة تحسين الخظوط العربية الملكية وتتلمذ على كبار الخطاطين فيها، حتى أتقن الخط بأنواعه المختلفة وحينما عاد إلى المملكة كان مدرسا للخط بمدارسها، بل الأستاذ الأول للخط فيها، وله كراريس مطبوعة كما يظهر ذلك من ثبت مؤلفاته التي كانت توزع على التلاميذ من ضمن الكتب المدرسية لينسجوا على منوالها في تعلمهم لفن الخط، ولقد بلغ من إتقان الشيخ طاهر لفنون الخط أنه كان يكتب بعض قصار السور مثل سورة الإخلاص على حبة من الأرز وقد أهداني بعض هذه الحبات من الأرز المكتوب عليها بعض قصار السور، وقد فقدت ضمن ما فقد من اوراقي ولكن صديقنا الشيخ محمد نور جمجوم رجل الأعمال المعررف لا يزال يحتفظ بعبة من الأرز بكتابة طاهر الكردى رحمه الله وقد اطلعني عليها في هذه الأيام ولعل عمرها يزيد عن الأربعين عاما.
وللشيخ طاهر رحمه الله لوحاث فنية من كتاباته ولحسن الحظ أنه صورها في كتابه الكبير التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، والذى سنتحدث عنه بعد واكتفى هنا بذكر ما نشر من مؤلفاته في فن الخط نقلا عن ثبت مؤلفاته المنشورة في كتابه أدبيات الشاى والقهوة والدخان: -
1 -
تاريخ الخط العربي وآدابه.
2 -
الهندسة المدرسية - ويقول الشيخ طاهر أنه كان مقررا في مدارس المملكة.
3 -
رسالة في الدفاع عن الكتابة العربية في الحروف والحركات.
4 -
كراسة الحرمين في تعليم خط الرقعة - سبعة أجزاء.
5 -
حسن الدعابة فيما ورد في الخط وأدوات الكتابة.
6 -
مجموعة الحرمين في تعليم خط النسخ - جزء واحد.
7 -
لوحة فنيه جميلة فيها صور الكعبة المشرفة لاشهر بناياتها.
8 -
لوحات في الخطوط العربية.
9 -
نفحة الحرمين في تعليم خطي النسخ والثلث.
وإذا تأملنا في أسماء هذه المؤلفات وجدنا أن الرجل عالم خط إذا صح هذا التعبير.
الخطاطون الذين أدركتهم
وعلى ذكر الخط أود أن أذكر أن الناس في الحجاز في النصف الأول من القرن الهجرى الرابع عشر وبعد خروج الأجيال الأولى من المتعلمين في مدارس مكة المكرمة وجدة والمدينة كانوا يهتمون بالخط وإتقانه وذلك قبل ظهور الآلآت الكاتبة العربية، وكان لهذا الخط أساتذته الذين يتقنون أنواعه واذكر أن المرحوم الشيخ حمزة عجاج وهومن متخرجى الفلاح كان يحضر إلى مدرسة الفلاح بجدة ويعلمنا الخط في السنة الثانية الابتدائية في أوائل الأربعينات ولم يكن موظفا بالمدرسة وإنما كان يعمل في إحدى الداوائر الحكومية أو البيوت التجارية ولعله كان يؤدى هذه الخدمة لمدرسة الفلاح دون مقابل نظرا لصلة الصهارة التي تربطه بآل جمجوم وكلاء مدارس الفلاح في ذلك الزمان، وما ذاك إلا لما كان يمتاز به من حسن الخط وإتقانه.
كما أذكر أن الأستاذ إبراهيم توفيق كاتب عدل جدة الأسبق يرحمه الله كان من أجمل تلاميذ مدرسة الفلاح خطا وقد احتاجت المدرسة إليه فلم يكمل دراسته وتحول من تلميذ بالمدرسة إلى أستاذ يعلم التلاميذ الخط، بعدما كان يقتعد مكانه بينهم تلميذا من التلاميذ.
أهل مكه يرسلون أولادهم إلى الخطاط
وكان معروفا أن أهل مكة المكرمة يرسلون أولادهم إلى الخطاط لتعلم الخط وإتقانه وذلك جنبا إلى جنب مع تعليمهم القرآن الكريم ومبادئ العلوم، وكانت مكاتب الخطاطين في باب السلام قبل إدخاله في توسعة المسجد الحرام في العهد السعودى حيث كان باب السلام مركزا للكتبة وباعة الكتب وكان بعض الخطاطين يجلسون كذلك في المسجد الحرام لهذه الغاية.
الشيخ سليمان الفزاوى وتاج الفزاوى
وكان الشيخ سليمان الغزاوى رحمه الله أشهر خطاط في الحجاز كله وقد أدركته في الأربعينات حينما انتقل هو وأخوه الشيخ تاج الغزاوى إلى جدة خلال الحرب السعودية الهاشمية بأسرتيهما، وكان الشيخ سليمان رجلا أشيب رقيق البدن ولكنه كان في هذه السن يحتفظ باجادته بل وبابداعه في الخط، وكان باب البنط في جده وباب مكة قد حليا بآيات قرآنية مكتوبة بخط الشيخ سليمان الغزاوي يرحمه الله ولا زلت أذكر الآية الكريمة التي تقابل القادم إلى جدة من البحر والداخل من الباب الوحيد إلى المدينة وهو باب البنط "ادخلوها بسلام آمنين" وتحتها توقيعه بخط واضح، وهي من أجمل ما رأيت من الخطوط، ولقد اشتغل الشيخ سليمان الغزاوى بتعليم الخط في مدرسة الفلاح بمكة وحين انتقل إلى جدة كما أسلفنا كان كذلك يعلم تلاميذ الفلاح بها، ولقد كان من نصيبى أن أكون تلميذا لأخيه الشيخ تاج غزاوي الذى كان كذلك معلما للخط في مدارس الفلاح بمكة وحينما حضر إلى جدة باشر تعليم الخط فيها، ويبدو أن الشيخ سليمان اختص بتعليم الصفوف العليا في المدرسة واختص الشيخ تاج بالصفوف الأولى فيها. رحمهما الله جميعا.
الشيخ عبد الله متبولي
وأذكر من الخطاطين الجيدين في مدينة جدة المرحوم الشيخ عبد الله متبولي والد الأستاذ عبد المجيد متبولي من أوائل طلبة البعثات السعودية من مدينة جدة، وكان الشيخ عبد الله متبولي يعمل كاتبا لدى آل أجبير وكانوا من أكبر تجار مدينة جدة في أوائل الأربعينات وكان جارا لدكاكين والدي وأعمامي في منطقة باب مكة حيث لا يزال بيت المتبولي علما لفن البناء القديم في تلك المنطقة يزورها الأجانب ويصورونه، وكان الشيخ عبد الله متبولي بحكم هذا الجوار يعلمني وأخي الخط وكان شديدا يخافه تلاميذه، وكان التجار بصورة خاصة يحرصون على أن تكون دفاتر حساباتهم ورسائلهم التجارية مكتوبة بخط جميل للغاية فكان الناس يحرصون على إتقان الخط وتجويده.
الدوائر الحكومية
وكانت الدوائر الحكومية تهتم باسناد تحرير رسائلها إلى كتاب اشتهروا بجودة الخط وجماله وكان في كل دائرة قسم يدعى - قلم التحرير - واذكر أن قائممقامية جدة كان يدير قلم التحرير فيها المرحوم الشيخ على طه رضوان - الذى أصبح فيما بعد مساعدا لقائم مقام جدة - والشيخ محمود ابار الذى انتقل من قائم مقامية جدة إلى ديوان النيابة العامة بمكة المكرمة، كما كان في قلم تحرير مالية جدة المرحوم الشيخ حسن أبو العز وهو كذلك من أصحاب الخطوط الجميلة وهكذا فإن الدوائر الحكومية كانت تعتبر الرسائل التي تصدر عنها هي الوجه المعبر الذى يجب أن يتصف بالجودة والإتقان.
أدوات الكتابة
ولم تكن أقلام الحبر السائل والناشف قد وصلت إلى البلاد فكان الناس
يعتمدون على أقلام البوص وَيبرْوُنَ هذه الأقلام بحيث تصبح للقلم سِنَّةٌّ صغيرة مفشوخة وكلما كان القلم حسن البراية والحبر جيدا كلما ساعد هذا على إتقان الكتابة وحسنها، أما الأحبار فكانت ترد في شكل مسحوق أسود ويحُلُّ هذا المسحوق بالماء ويوضع فيه خرقة من القماش الخفيف تسمى الزِّيَّة، حتى إذا غمس القلم في الدواة لم يخرج به من الحبر ما يلوث الورق أويد الكاتب.
الحبر نيشان الكاتب
وعلى أى حال فقد كان وجود الحبر في ثياب الكاتب أو آثاره في يده لا تعتبر عيبا وكان هناك مثل متداول يقول - الحبر نيشان الكاتب.
التراب هو النشاف
ولما كان الحبر سائلا فإنهم كانوا يستعملون في تجفيفه التراب ويضعونه في علبة صغيرة فيها خروق كثيرة بحيث يخرج منها هذا التراب الذى يجفف الحبر ولا يفسد جمال الخط.
وكانوا يتفنون في اقتناء أصناف أدوات الكتابه وخاصة الدواة والأقلام، وبعض هذه الدوايات - مفرد دواة - كان من البلور الخالص الجميل. وبظهور الآلات الكاتبة وأقلام الحبر الناشفة والسائلة انتهى عهد إتقان الخطوط وتحسينها بل وانتهى عهد إتقان الأبلاء لأن مراقبة الخط كانت تتبع مراقبة الكتابة نفسها وسلامتها من الأخطاء الإملائية.
تاريخ الخط العربي وآدابه
وسنتحدث هنا قليلا عن كتابه "تاريخ الخط العربي وآدابه" هو أهم مؤلفات الشيخ طاهر الكردى في فن الخط وقد طبع الطبعة الأولى في شهر محرم من سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وطف، ثم أعادت الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون طبعه مرة أخرى في هذا العام 1402 هـ وحسنا فعلت فإن الكتاب يكاد أن يكون
موسوعة عن الخط العربي وكلما يتعلق به.
تحدث فيه المؤلف عن نشأة الخط وتطوره مدعما ذلك بالصور والمراجع التي استقى منها المعلومات التي توصل إليها، ومن أطرف ما أورده المؤلف في هذا الشأن أن التعبير بالكتابة بدأ بطريقة التصوير قبل الكتابة بالحروف المعروفة وكانت الكتابة الصورية تقوم على الرمز ويقول المؤلف في شرح ذلك، ومثال الكتابة الصورية أنك إذا أردت تدوين واقعة حرب مثلا فترسم أرضا ذات أغراس وإلى جانبها صور النقود وما أشبه ذلك وهذا ما جرى عليه أكثر الأمم التي كانت قديما في مصر واشور وغيرها، ولما اتسعت عمارتهم اصطلحوا على بعض الرسوم للدلالة على معان كلية ليس لها صورة في الخارج.
وقد أثبت المؤلف صور هذه الرسومات التي اصطلح عليها
(1)
وقد تحدث المؤلف عن الخطوط في اللغات الهندية وما تفرع عنها من الخط الآرامي والسنسكريتي والسرياني كما تحدث عن الخط الهيروغلوفي موضحا كلما يكتبه في هذا المجال بصور لهذه الخطوط وترجمة للحروف والكلمات إلى اللغة العربية.
كما تحدث عن الخط الاشورى والكلداني وأول المكتشفين لهذه الخطوط وأثبت صورا للصخور التي تحمل هذه الخطوط من المسند الآرامي وأنواع الخطوط المختلفة.
كما وضع سلسلة تبين تطور الخط العربى من بدء ظهوره حتى وصوله إلينا بشكله الحاضر وهو يبدأ كالآتي: -
الخط المصرى - الفينيقي - الآرامي - المسند - الصفوى - الثمودي - اللحياني - الحميري - الكندي - النبطي - الحيرى - الانباري - الحجازى -
(2)
.
ثم يتحدث المؤلف عن اللغات التي تكتب في الوقت الحاضر بالخط العربي
(1)
انظر صفحة 30 تاريخ الخط العربي وآدابه.
(2)
انظر صفحة 48 تاريخ الخط العربي وآدابه.
وقد عدد اثنتي عشرة لغة تندرج كلها تحت اسم اللغات التركية وسبع لغات تندرج تحت اسم اللغات الهندية وأربع لغات تندرج تحت اسم اللغات الفارسية، وسبع لغات تندرج تحت اسم اللغات الافريقية.
ولا شك أن بعض هذه اللغات التي أشار إليها المؤلف وخاصة في تركيا الحديثة قد غيروا كتابتهم إلى الحروف اللاتينية منذ عهد مصطفى كمال بعد انتهاء دولة الخلافة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإعلان الجمهورية التركية الأولى ولكن يبقى بعد ذلك أن عدد من يكتبون بالحروف العربية في العالم كبيرا.
وقد قدر المؤلف في كتابه المطبوع قبل ما يقرب من نصف قرن عدد من يكتبون من غير العرب بالحروف العربية بأكثر من مائتين وخمسين مليونا من البشر فليت شعرى ما هو مقدار من يكتبون بها في الوقت الحاضر من العرب وغيرهم، أن التعداد يصل فيما أظن إلى خمسمائة مليون من البشر.
ثم تحدث المؤلف عن كتابة الرسائل في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه وأورد أسماء كتابه ونقش خاتمه الذى كانت تختم به رسائله كما تحدث بمثل ذلك عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من خلفاء المسلمين، وتحدث كذلك عن المشهورين من الخطاطين في أيام الأمويين والعباسيين ثم تحدث عن بدء ظهور التشكيل في الخط وتطوره، كما تحدث عن المواد التي كانت تستعمل في الكتابه من الجلد والقراطيس وأنواع الأقلام وأسمائها، وأنواع الخطوط المعروفة من النسخ والرقعة والثلث الكوفي والديواني وما إلى ذلك، وأثبت نماذج جميلة لكل هذه الخطوط بعضها بقلم المؤلف والكثير منها بقلم الخطاطين المشهورين الذين ينسب إليهم هذا الفن.
ثم تحدث المؤلف عمن اشتهر بالكتابة على الحبوب والبيض ولقد ذكرت أن الشيخ طاهر الكردى كان ممن يتقن الكتابة على الحبوب في صدر هذا البحث، ثم تحدث عن الآثار والكتابات التي عليها والنقود والعملات التي ظهرت في عهود الخلفاء الراشدين وما تلاهم وأورد صورا فوتوغرافيه للنقود في عهد الخلفاء الراشدين وعهد صلاح الدين وعهد هارون الرشيد وفي عهد الدولة الفاطمية، كما
أورد جداول بأسماء الخطاطين المشهورين مرتبة على الحروف الهجائية.
ومن أمتع فصول الكتاب الفصل الخاص بتراجم السلاطين الخطاطين وقد ذكر من بينهم الخليفة المستظهر بالله والخليفة المسترشد بالله وهما من خلفاء الدولة العباسية ثم سلاطين آل عثمان ثم سلاطين المسلمين الآخرين في شتى بقاع العالم الإسلامي، وأردف ذلك بتراجم الوزراء والباشوات من الخطاطين ثم بتراجم العلماء الخطاطين.
ثم تحدث عن النساء اللواتي اشتهرن بجودة الخط وإتقانه. وذكر فيما ذكره أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب تعلمت الكتابة من الشفاء بنت عبد الله العدوية التي تعلمت الكتابة من معاوية ويزيد ابنا أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
كما أورد المؤلف تراجم للخطاطين القدماء والمحدثين وسجلا بأسمائهم والكتاب مزين بكثير من لوحات الخطوط الجميلة للخطاطين المختلفين وهو يقع في أكثر من خمسمائة وخمسين صفحة وتزيد قعداد اللوحات والصور المثبته فيه على مائة وخمسين لوحة وصورة.
أنه ليس كتابا عن الخط العربي وآدابه ولكنه يكاد أن يكون موسوعة تختص بالخط والكتابة وما يتفرع عنهما وهوعمل عظيم جاء نتيجة لجهود متواصلة وابحاث تتصف بالدأب والمثابرة وهو مرجع من أهم المراجع في هذا الفن العظيم.
طاهر كردى المؤلف
نعود بعد الاستطراد الطويل عن الخط الذى جرنا إليه الشيخ طاهر الكردى الخطاط لنتحدث عن جانب آخر من جوانب شخصيته المتعددة الجوانب فلقد كان الرجل مؤلفا مكثرا وقد أثبت في كتابه أدبيات الشاي والقهوة أسماء اثنين وعشرين كتابا مطبوعا عدا الكتب المخطوطة وأهمها التفسير المكي وهو في أربع مجلدات وغيرها مما لم يذكر شيئا عنه، وقد أوردنا أسماء مؤلفاته الخاصة بالخط ونثبت هنا
أسماء المؤلفات الأخرى التي وردت في هذا الثبت وهي المؤلفات المطبوعة:
1 -
تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه.
2 -
إرشاد الزمرة لمناسك الحج والعمرة.
3 -
مقام إبراهيم عليه السلام.
4 -
منظومة في صفة أشهر بنايات الكعبة المشرفة.
5 -
تحفة العباد في حقوق الزوجين والوالد والأولاد.
6 -
دعاء عرفه.
7 -
تعليق مختصر على تاريخ مكه للقطبي.
8 -
صورة حجر مقام إبراهيم عليه السلام.
9 -
التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم.
10 -
النسب الطاهر الشريف.
11 -
الأدعية المختارة.
12 -
تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13 -
أدبيات الشاي والقهوة والدخان.
ولقد ذكر الشيخ طاهر أن مؤلفاته تبلغ اثنين وأربعين مؤلفا طبع نصفها تقريبا ونستطيع أن نقسم هذه المؤلفات حسب أسمائها إلى الأقسام الآتيه: -
أ - كتب تاريخية وهي الصفة الغالبة على المؤلف.
ب - كتب دينية.
جـ - كتب فنيه وهي التي تتعلق بالخط وفنونه.
د - كتب أدبية طريفة.
ولقد تحدثنا عن الخط وما يتعلق به بما يكفي للتعريف بشخصية الشيخ طاهر رحمه الله في هذه الناحية.
طاهر كردى المؤرخ
ونتحدث الآن عن طاهر كردى المؤرخ فإن المستعرض لأسماء كتبه يجد أن المؤلفات التاريخية هي الصفة الغالبة على الرجل، ولعل تعمقه في هذه الناحية هو الذى ساعده على تأليف الكتب الدينية وطالما أن أهم كتبه الدينية وهو التفسير المكى لم يظهر إلى النور بعد فإن الحديث عن هذه الناحية من شخصية المؤلف لا يعتبر كاملا وحسبنا الإشارة إليها.
لقد تفضل الصديق أحمد مجاهد فبعث الي الأربعة أجزاء التي ظهرت على نفقته من أهم كتب الشيخ طاهر التاريخية وهو كتابه المسمى.
التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم
والكتاب موسوعة ضخمة عن مكة المكرمة وهو في أربعة أجزاء كل جزء يزيد عن الثلاثمائة صفحة من القطع الكبير الذى يساوى ضعفى حجم الكتب الكبيرة المعتادة، وهو يحتوى على صور كثيرة كما تتسم المعلومات التي أوردها المؤلف عن كل المواضيع التي عالجها بالشمول والإحاطة مستعينا في ذلك بما ورد في مؤلفات المؤرخين السابقين الذين ذكر أسماءهم وتراجمهم وتحدث عنهم ومدعما ما يصل إليه من آراء بالكتب الكثيرة التي رجع إليها والتى ذكر أسماءها ومواضع الاستشهاد منها.
وأهم من هذا وذاك أن المؤلف أتيح له ما لم يتح لغيره من المؤلفين فلقد عاصر الإصلاح الذى تم للكعبة المعظمة في عام 1377 هـ كما عاصر التوسعة العظيمة للمسجد الحرام في العهد السعودى والتى بدأت في عام 1375 هـ ولم يكن المؤلف معاصرا لهذه الأحداث التاريخية فحسب فما أكثر من عاصرها وإنما كان عضوا في اللجان الرسمية التي تألفت لهذه الإصلاحات وذلك لسابق اهتمامه بالمباحث التاريخية المتعلقة بالمسجد الحرام فلقد ألف قبل هذه الأحداث كتابا عن تاريخ
مقام إبراهيم عليه السلام وحصل على إذن بفتح مقام إبراهيم ليطلع بنفسه على المقام من الداخل وألف رسالة وافية في صفة المقام وذرعه وأقوال المؤرخين عنه وموضعه وكلما يتعلق به.
هذه الاهتمامات للمؤلف كما ذكرنا هيأت الفرصه لاختياره عضوا في الهيئات الرسمية الخاصة أولا بإصلاح الخراب الذى حدث في الكعبة المشرفة كما ذكرنا ثم في الهيئة التي ألفت للتوسعة العظيمة للمسجد الحرام فيما بعد، وقد أتاح له هذا الاختيار أن يطلع على الكثير من المعلومات الدقيقة التي لم تتح لغيره من المؤرخين، فهو يقدم لنا وصفا دقيقا للآثار الدينية والمعمارية في المسجد الحرام مزودة بالمقاسات الدقيقة والصور الشمسية وذلك بعد استعراض المراحل التاريخية التي مر بها الأثر المذكور إذا صح هذا التعبير، بل أننا نجده بالنسبة لمقام الخليل إبراهيم. على سبيل المثال يقدم لنا وصفا يوميا دقيقا للكيفية التي سار عليها العمل في نقل المقام من موضعه السابق إلى الموضع الحالي بعد أن وضع في الصندوق الزجاجي الحالي ويتحدث عن الموضوع بتفصيل يشمل جميع التطورات التي صاحبت الفكرة من بدء تنفيذها إلى حين إتمامها.
إن كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم هو موسوعة تاريخية وهامة لمكة المكرمة وللمسجد الحرام بما حواه من الكعبة المعظمة ومقام إبراهيم وكلما يتعلق بالمسجد الحرام وأماكن المناسك وهو يضم كلما أورده المؤرخون السابقون ثم يضيف إليه الجديد في عصر المؤلف وهو بهذه المثابة مرجع شامل عظيم القيمة لمن أراد التحقيق والبحث.
* * *
النقص الهام في الكتاب
ولكن الكتاب يخلو من الحوادث السياسية خلوا تاما، يخلو من ذكر الخلفاء الذين حكموا البلد الأمين والعهود السياسية المختلفة التي مرت عليه والحروب التي نشبت فيه وهو بهذا يفقد الصفة التاريخية التي يقوم عليها اسم الكتاب أو على الأقل يفقد جزءا هاما من هذه الصفة لخلوه من الحوادث السياسية التي تتعلق بمكة المكرمة موضوع الكتاب.
عذر ساذج
ولقد أدرك المؤلف خلو كتابه من هذه الحوادث فاعتذر عن ذلك اعتذارا ساذجا إذا صح هذا التعبير فلقد جاء في الجزء الأول من كتابه في خطبة الكتاب بالحرف الواحد: -
(والسبب الذى من أجله تركت ذكر حوادث الحروب بمكة هو أن ذلك يعرضنى إلى ذكر مساوئ من سبقنى بالإيمان من أموات المسلمين وهم قد قدموا إلى ما عملوا، وقد قال صلى الله عليه وسلم اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم، وأيضا لابد إذا ذكرت ما وقع بين فلان وفلان أقع في غيبتهم والغيبة حرام للأحياء والأموات، قال الله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا، ثم إن ذكر الحروب من اختصاص المؤرخين السياسيين وأنا لا أعرف في السياسة شيئا منذ الصغر فالحمد الذى عافانى منها لاشتغل بما هو أنفع وأصلح لمثلي، ففي الصحيحين، كل ميسر لما خلق له وللتين قوم وللجميز أقوام فالسياسة مطلوبة بل واجبة لكن على طبقة خاصة هي طبقة الملوك والوزراء والأمراء الذين بيدهم الحل والعقد انتهى مكتبه المؤلف بنصه
(1)
.
(1)
راجع صفحة 12 و 13 الجزء الأول من التاريخ القويم.
وردنا على ذلك هو أن ذكر الحوادث والحروب التي وقعت بمكة المكرمة لا تقتضى من المؤلف أن ينال القائمين بها بالغيبة والتعريض، والمؤرخ أمام الحوادث التي ينقلها ويسجلها إزاء طريقين أن يذكر الحوادث منسوبة إلى مصادرها ويكتفى بذلك، أو يذكر الحوادث ويعلق عليها أو ينقل تعليقات من سبقه من المؤرخين عليها فإذا كان في هذه الحوادث ما يسبب الحرج للمؤلف كأن يكون اختلاف الرأى فيها وفى أسبابها كبيرا، ولم يفتح الله عليه بشيء يجعله يرجح الرأى الصائب أو الأكثر صوابا ففى وسعه الاكتفاء بذكر الحوادث والإمساك عن التعليق عليها، تاركا للقارئ اتخاذ الحكم الذى تهديه إليه قراءته للحوادث وأسبابها، وإن كان المؤلف ممن أوتي الشجاعة لإبداء الراي الصائب فله أن يسجله ويتحمل تبعاته.
أما تجنب ذكر الحوادث تفاديا لهذا الحرج أو للسبب الذى ذكره مؤلف كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم فهو كما ذكرت من الأسباب التي تخرج الكتاب عن الصفة التي أراد المؤلف أن تكون لكتابه.
إن الحوادث السياسية والحروب هي مادة التاريخ إذا صح هذا التعبير، فالحروب هي التي غيرت وتغير وجه العالم وكلما كانت الحروب كبيرة وواسعة كلما كان التغيير أشمل وأعم.
ترى لو لم تخرج الجيوش الإسلامية من الجزيرة العربية في صدر الإسلام فتديل من عرش الأكاسرة في فارس والعراق، وتديل دولة الروم في الشام وفى مصر ماذا كان حال هذه البلاد، وهل أصبحت العراق والشام ومصر والأردن وفلسطين ولبنان بلادا عربية إسلامية؟.
ولا نريد الإكثار من سرد الأمثلة ولكني اكتفى بأن أقول أن الحرب العالمية الأولى جلبت الاستعمار للبلاد العربية كلها والحرب العالمية الثانية أخرجت الاستعمار من البلاد العربية كلها، ومن كثير من البلدان في آسيا وافريقيا، فالحروب ليست شرا مطلقا وإنما قد ينتج منها الخير الكثير.
والحروب إذا كانت دفاعا عن عقيدة أو وطن فهي حروب مقدسة مفروضة على الناس، والقتل إذا كان دفاعا عن عرض أو مال فهو قتال شريف كريم ولا غبار عليه، نستطيع أن نقول أن كتاب الشيخ طاهر الكردى يمكن أن يكون اسمه الصحيح بعد أن خلا من أهم عناصر التاريخ وهي الحوادث السياسية والحروب يمكن أن يكون اسمه، التاريخ القويم لآثار مكة والبيت الكريم، ولو أن المؤلف سماه كذلك لما كان هناك مجال للاعتراض عليه بحال من الأحوال.
وبعد فإن الكتاب كما ذكرت يحتل مكانة قيمة بين الكتب التي تؤرخ للبلد الكريم وللبيت الحرام وهو مرجع هام لهذه الآثار المقدسة وتطوراتها التاريخية وهو يمتاز بالإحاطة والشمول والدقة المبينة على المشاهدة والبحث وهو جهد مشكور للمؤلف رحمه الله تعالى يسلكه في عداد المؤرخين لآثار مكة المكرمة والبيت الحرام فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء.
مؤلفاته الأخرى
إن الشيخ طاهر كردى رجل متعدد الجوانب وقد تحدثنا عن أهم جوانبه في هذه الصفحات ولقد اطلعت على كتاب مطبوع له اسمه أدبيات الشاى والقهوة والدخان وعجبت كيف يتفرغ الرجل للتأليف في هذه الأمور فالكتاب يذكر تاريخ الشاي والقهوة وما قيل فيهما من الشعر وكيف يصنع الشاي وأدواته وما إلى ذلك، ولا شك أن جمع هذه الطرائف فيه كثير من الجهد ولكن الشيخ طاهر الكردى هو الشيخ طاهر الكردى الذى استطاع أن يعبر عن جانب آخر من جوانب شخصيته الاجتماعية التي ذكرتها في صدر هذه الصفحات.
وهناك ناحية أخرى في الرجل هي الناحية الشعرية فكتابة التاريخ القويم يتضمن أرجوزة نظمها في تاريخ بناء الكعبة المعظمة وأراجيز أخرى في مواضيع تتعلق بكتابه هذا، وإذا كان لابد من التعليق عليها فأقول أن هذه الأراجيز تشبه أَراجيز المتون التي كنا نحفظها كأرجوزة ابن مالك في النحو والخريدة في التوحيد،
والتى كانت تفرض علينا في المدارس وهي كلام منظوم لا يمت إلى الشعربادنى صلة والشيخ طاهر رحمه الله إنما يعبر عن ناحية أخرى من نواحى شخصيته المتعددة الجوانب كما سبق أن ذكرنا، فلنأخذه كما أراد الله له أن يكون، هناك الكتب الدينية التي ألفها الشيخ طاهر الكردى وأهمها كما ذكرت هو كتاب التفسير المكي في أربعة أجزاء وهذا الكتاب لا يزال مخطوطا ولم يتح لى الاطلاع عليه ولهذا لا أستطيع الحديث عنه، وحبذا لو عنيت بالبحث عنه وعن مؤلفات الشيخ طاهر الأخرى إحدى الجهات المعنية في بلادنا بنشر الكتب كالنوادي الأدبية وغيرها وعهدت إلى المختصين بالموضوعات التي تعالجها هذه المؤلفات بدراستها ونشر ما يستحق النشر منها إفادة للناس وإحياء الذكرى الرجل الذى قضى حياته منكبا على التأليف.
بقية التاريخ القويم
لقد ذكرت أنني اطلعت على أربعة أجزاء من كتابه القيم الجامع، التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم والذى تحدثت عنه، بما فيه الكفاية في الصفحات السابقة والكتاب كما يظهر لم يتم ولقد ذكر المؤلف أن الجزء الخامس يتحدث عن الحج وهذا الجزء لم يطبع بعد ولست أدري إن كان لدى صديقنا الشيخ أحمد مجاهد الذى طبع الأجزاء الأربعة على نفقته جزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، لست أدري إن كان هذا الجزء الخامس وربما غيره مما يكمل به الكتاب موجود لدى صديقنا الشيخ أحمد مجاهد وهو يعتزم إصدار هذه البقية إكمالا للمكرمة العظيمة التي قام بها أم إن هذه الكتب لا تزال ضمن مخطوطات الشيخ طاهر رحمه الله، وعلى أى حال فإن نشر ما بقي من كتاب التاريخ القويم فيه من الفائدة ما يكمل العمل الطيب الذى بدأ به الرجل والذى يعتبر مع كتابته للمصحف الكريم من أجل الأعمال التي أداها والتى تسلكه في عداد الأعلام من الرجال.
وقد توفى الشيخ طاهر الكردي في ليلة الاثنين بتاريخ 23 ربيع الثاني من عام
1400 هـ بمستشفى بخش بجدة، ونقل في اليوم التالى إلى مكة المكرمة، رحمه الله وأحسن جزاءه لقاء ما بذل من الجهد في كتابة كتابه الكريم والعناية بتاريخ البلد الأمين وبيت الله الحرام أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا.
مصادر الكتاب
موسوعة تاريخ مدينة جدة
للأستاذ عبد القدوس الأنصاري
مجلة الأحكام الشرعية
للشيخ أحمد القاري، بتحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي.
أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة للمؤلف.
نفثات من أقلام الشباب الحجازى.
للأساتذة هاشم الزواوى. وعبد السلام الساسي، وعلي حسين فدعق.
في ظلال الصراحة.
للأستاذ عبد السلام الساسي
نظرات في الأدب المقارن
للأستاذ عبد السلام الساسي
الشعراء الثلاثة.
للأستاذ عبد السلام الساسي
شعراء الحجاز في العصر الحديث
للأستاذ عبد السلام الساسي
الموسوعة الأدبية (ثلاثة أجزاء).
جمع عبد السلام الساسي.
نفحات الإسلام من البلد الحرام
للسيد علوى عباسى المالكي.
فتح القريب المجيب على تهذيب الترغيب والترهيب
للسيد علوى عباس المالكي.
إبانة الأحكام.
للسيد علوى المالكي والسيد حسن سليمان النورى
ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز.
في القرن الرابع عشر للهجرة
للمؤلف.
رسائل إلى ابنتى شيرين.
لحمزة شحاتة.
رفات عقل
للأستاذ حمزة شحاتة، إعداد الأستاذ عبد الحميد مشخص.
المجموعة الشعرية المخطوطة.
للأستاذ حمزة شحاتة.
تاريخ عمارة المسجد الحرام.
للشيخ حسن عبد الله باسلامة.
تاريخ الكعبة المعظمة.
للشيخ حسين عبد الله باسلامة.
المسجد الحرام (ثلاثة مجلدات).
أصدرتها وزارة المالية والاقتصاد الوطني تحتوى على التقرير الشامل لمشروع التوسعة السعودية للمسجد الحرام.
الباب الجديد للكعبة المشرفة.
الكتيب المصور الذى الذى أصدرته وزارة الحج والأوقاف للباب الذهبي الجديد
الذى وضع للكعبة المشرفة.
مجلة المنهل.
إعداد متفرقة من المجلة الشهرية التي يصدرها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري.
إظهار الحق (مجلدين) للشيخ رحمه الله بن خليل العثماني الكيلانى.
أكبر مجاهد في التاريخ.
للشيخ محمد سليم بن محمد سعيد.
تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية.
للأستاذ عثمان حافظ.
آثار المدينة المنورة.
لعبد القدوس الأنصاري
وفاء الوفاء
للسمهودى
المماليك للدكتور السيد الباز العريفي
تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين.
للسيوطى
قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام
للدكتور أحمد مختار العبادى.
التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم
محمد طاهر الكردى
أدبيات الشاى والقهوى والدخان.
محمد طاهر الكردى
تاريخ الخط العربي وآدابه
محمد طاهر الكردى