المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، نبينا محمد وعلى - القول بما لم يسبق به قول

[مرضي العنزي]

فهرس الكتاب

‌المقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى هداه، أما بعد:

فمن قواعد الحياة أنها لا تدوم على وتيرة واحدة، بل هي في تغير دائم، وتطور مستمر، وهذه إحدى السنن الكونية، قال ابن خلدون:"إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده"

(1)

.

وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم سنة التغير في الحياة فشجع أصحابه على الاجتهاد؛ ليعرفوا حكم الوقائع المستجدة مع تجدد

(1)

مقدمة ابن خلدون، ص 37 - 38.

ص: 5

الحياة، فعن عمرو بن العاص: رضي الله عنه "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» "

(1)

، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين بعثهم إلى بني قريظة على اجتهادهم في أداء وقت صلاة العصر، مع الاختلاف بين الاجتهادين، فعن ابن عمر رضي الله عنه، قال:"قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ"

(2)

، وفي إقراره لهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاختلاف تشجيع لهم على الاجتهاد.

ولقد سار الصحابة رضي الله عنهم على النهج الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أولى الناس باتباع نهجه، واقتفاء سيرته، فكان لهم الكثير من الاجتهادات في شتى نواحي الحياة، يقول

(1)

رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم 7352، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم 1716.

(2)

رواه البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، برقم 946، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم 1770.

ص: 6

الجويني: "لم يخلُ أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل، وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة، فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها، أو أفتى بها"

(1)

.

وكان منهجهم أنهم يتفاعلون مع القضايا التي تحتاج لاستخراج حكم فيها، سواء كانت هذه القضايا في السياسة، أو القضاء، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية

(2)

، فما كانوا يؤجلون النظر في معالجة النازلة لاستخراج حكمها، وفق ما وضعوه من معالم للاجتهاد

(3)

، وفتحوا بذلك لمن بعدهم من العلماء باب الاجتهاد، يقول ابن القيم:"فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله"

(4)

.

(1)

البرهان، للجويني 2/ 14.

(2)

في كتاب اجتهادات الصحابة، لمحمد معاذ الخن، كثير من الأمثلة لاجتهادات الصحابة في شتى المجالات.

(3)

انظر: أصول الفقه عند الصحابة معالم في المنهج، لعبدالعزيز العويد، ص 215.

(4)

إعلام الموقعين، لابن القيم 1/ 166.

ص: 7

وظل العلماء على ذلك حتى انتهت عصور أئمة المذاهب، ودُونت آراؤهم، وشاع العمل بها، ثم رأى بعض العلماء أن في هذه المذاهب كفاية، وأن على المسلم التزام مذهب منها

(1)

، وأنه لا يوجد مجتهد بعد أئمة المذاهب، فقد نقل الصنعاني عنهم قولهم في الاجتهاد الْمُطلق أنه "اختتم بالأئمة الْأَرْبَعَة حَتَّى أوجبوا تَقْلِيد وَاحِد من هَؤُلَاءِ على الْأمة"

(2)

، وقال

(1)

اختلف العلماء في حكم إلزام المسلم بمذهب معين، وعدم الخروج منه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج من المذهب، القول الثاني: أنه لا يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج من المذهب لمن التزم مذهبًا، القول الثالث: أنه لا يجب التمذهب، ويجوز الخروج من المذهب لمن التزم مذهبا، والراجح هو القول الثالث؛ وذلك لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دون غيره، ولم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، ووجوب الاقتصار على مفت واحد دون غيره. انظر: المستصفى، للغزالي 4/ 154، البحر المحيط، للزركشي 8/ 375، عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، لولي الله الدهلوي ص 31، إرشاد الفحول، للشوكاني 2/ 252، مجموع الفتاوى، لابن تيمية 20/ 222، مطالب أولى النهى، للرحيباني 1/ 390.

(2)

إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص 27.

ص: 8

ابن الصلاح: "وقد ذكر بعض الأصوليين منا: أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل"

(1)

.

وقد يكون السبب في حصر الاجتهاد على عصور الأئمة "ادّعاء الاجتهاد من غير أهله، والتصدي للفتوى وإبداء الآراء المخالفة لأبسط الأسس والقواعد الشرعية، ولذلك أعلن كثير من العلماء غلق باب الاجتهاد؛ لسد الطريق أمام الجهال أو أنصاف العلماء، للوقوف حصرًا على أقوال المذاهب المنتشرة والسائدة"

(2)

.

إضافة إلى "عدم اعتداد الْعَامَّة باجتهادات الْعلمَاء المعاصرين وثقتهم بالعلماء الْمُتَقَدِّمين وخوف الْحُكَّام من اسْتِمْرَار الاجتهاد لما كَانَتْ تسببه اجتهادات بعض الْمُجْتَهدين لَهُمْ من تشويش وإحراج وقلق، يَتَّضِح جليًا بعد إمعان النّظر فِي هَذِه الْأَسْبَاب بِأَنْ مخاوف الْعلمَاء فِي اسْتِمْرَار الاجتهاد الْتَقت مَعَ رَغْبَة الْحُكَّام والساسة على إغلاق الِاجْتِهَاد وَإِنْ اخْتلفت الْمَقَاصِد والأهداف"

(3)

.

(1)

أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، ص 93.

(2)

الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي 2/ 304.

(3)

إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص 26.

ص: 9

ووُضع للاجتهاد شروط شديدة لو طبقت "لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ"

(1)

، يقول ابن عثيمين:"وهذه الشروط لو أردنا أن نطبقها لم نجد مجتهدًا منذ تسعمائة سنة؛ لأنها شروط قاسية"

(2)

.

بل تجاوز الأمر إلى إخراج بعض الأئمة من درجة هذا الاجتهاد عالي الأسوار مغلَّق الأبواب؛ "فَالشَّافِعِيُّ عِنْدَهُمْ مقلِّد فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فِي انْتِقَادِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ"

(3)

، وهو أيضًا ملتزم بِمذهب إِبْرَاهِيم النخعي وأقرانه ولَا يخرج عَمَّا ذهب إِلَيْهِ فُقَهَاء الْكُوفَة إِلَّا مَا شَاءَ الله وَكَانَ اجتهاده فِي التَّخْرِيج فقط ولم يكن مجتهدًا مطلقًا

(4)

، وأحمد بن حنبل "ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث"

(5)

، و"مقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد"

(6)

، إلى غير ذلك من دركات الكلام.

(1)

الموافقات، للشاطبي 5/ 46.

(2)

شرح نظم الورقات، لابن عثيمين، ص 221.

(3)

الموافقات، للشاطبي 5/ 46.

(4)

انظر: حجة الله البالغة، للدهلوي 1/ 251.

(5)

ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب 1/ 347.

(6)

مقدمة ابن خلدون، ص 566.

ص: 10

وقد استولى على بعض أتباع المذاهب "التعصب المذهبي، والعكوف على نصوص الأئمة والفقهاء السابقين، وإثارة الخلافات المذهبية، والمناظرات والمجادلات الضيقة، والوقوف على الفروع الفقهية والجزئيات الخلافية"

(1)

، مِمَّا جعل الْكثير مِنْ العلماء "يحجم عَنْ الِاجْتِهَاد خوفًا من أَنْ يكيد لَهُ أعداؤه ويرموه بالابتداع فوقفوا عِنْد أَقْوَال الْمُتَقَدِّمين"

(2)

.

وكان من أثر ذلك "أن فترت الهمّة، وجمد النشاط، وخف الاجتهاد إلى أدنى مستواه، وانصرف معظم الفقهاء إلى تدوين الكتب المذهبية والخلافية، واختصارها في متون، ثم وضع الشروح والحواشي عليها، وجمع أقوال إمام المذهب، ولمّ شتات الوجوه وأقوال الأصحاب والأتباع"

(3)

.

ومالم يكن للمتقدمين قول فلا يجرؤ أحد من أهل العلم على قول لا سابق به، حتى لو وجد ما يدعمه من مقاصد الشريعة، وأدلتها، وقواعدها، "ولم ينج من هذه الظاهرة سوى القلة النادرة"

(4)

.

(1)

الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي 2/ 304.

(2)

إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص 26.

(3)

الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي 2/ 304.

(4)

تاريخ التشريع الإسلامي، للقطان، ص 398.

ص: 11

وقد رماهم مخالفوهم بشتى الأوصاف، وأوذوا نفسيًا وبدنيًا

(1)

، وكان جوابهم لهم: بأنه "يجوز أن لا يتقدم به قائل ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثير منهم أو أكثرهم بذلك القول ولم يستفت فيها الباقون ولم تبلغهم فحفظ فيها قول طائفة من أهل العلم، ولم يحفظ لغيرهم فيها قول، والذين حُفظ قولهم فيها ليسوا كل الأمة فيحرم مخالفتهم

فنحن في مخالفتنا لمن ليس قوله حجة أعذر منكم في مخالفتكم لمن قوله حجة فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول من بلغتكم أقوالهم مع أنهم ليسوا كل الأمة فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم"

(2)

.

وظل هذا هو الغالب على الحياة العلمية، فكل قول لم يسبق به قائل يرفض، ويقاوم القول وقائله، وتكثر التآليف بين الرد والجواب، وتحشد جميع الأدلة في نصرة الآراء، ومن المحير للقارئ أنه يجد أن كل عالم من الأئمة المتبوعين

(1)

انظر: كتاب الممتحنون من علماء الإسلام، لسليمان العثيم، ففيه الكثير من القصص التي تبين ذلك.

(2)

الصواعق المرسلة، لابن القيم 2/ 582.

ص: 12

أتى بقول لم يسبق إليه، وأن الذين يردون القول الذي لم يسبق إليه، قد قبلوا أقوالا لم يسبق إليها، وتجد في الآراء التي يؤيدونها استدلالا بأدلة، ثم لا يقبلون بهذه الأدلة إذا استدل بها خصمهم عليهم، فيجدون من المسوغات لردها، ما يستدل به عليهم خصمهم في رد آرائهم.

ثم بعد زمن تصبح بعض هذه الأقوال المرفوضة مقبولة، وقد تكون عليها الفتوى في بعض البقاع، وما كان منتشرًا مقبولًا قد يصبح مهجورًا محاربًا، وهذا ما يدعوا الباحث للنظر في هذه القضية، ودراستها تأصيلًا وتطبيقًا، ليصل لنتيجة فيها أو يقارب، وهو ما حفزني لكتابة هذا البحث في (القول بما لم يسبق به قول، دراسة فقهية تأصيلية تطبيقية)، وقد قسمته بعد المقدمة إلى:

تمهيد، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف بعنوان البحث

المطلب الثاني: تهيب العلماء من القول بما لم يسبق به قول.

المبحث الأول: حكم القول بما لم يسبق به قول.

المبحث الثاني: مخالفة النص أو الإجماع.

ص: 13

المبحث الثالث: تطبيقات فقهية لأقوال لم يسبق بها قول، وفيه عشرون مطلبا تفصيلها في البحث.

المبحث الرابع: القول بما لم يسبق به قول بين التأصيل والتطبيق (ابن عثيمين أنموذجًا)

الخاتمة؛ وفيها أبرز النتائج.

وبعد؛ فقد بذلت الجهد في إخراج هذا البحث على أتم وجه، لكنَّ العمل البشري لا يخلو من نقص، فما تم منه فمن تيسير الله وفضله، وما نقص فمن تقصيري والشيطان، عسى الله أن يتوب عليَّ ويتجاوز عني إنه هو الغفور الرحيم.

كتبه:

د. مرضي بن مشوح العنزي

جوال: 00966503380332

إيميل: murdi 100@hotmail.com

ص: 14

‌المطلب الأول: تعريف بعنوان البحث (القول بما لم يسبق به قول)

عنوان البحث يتكون من مصطلحين رئيسين، وللتوصل لتعريف عنوان البحث لابد من تعريف هذين المصطلحين، وهما: القول: والسبق.

فالقول لغة: "كُلُّ لَفْظٍ قَالَ بِهِ اللِّسَانُ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا"

(1)

، قال ابن فارس:"الْقَافُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَقِلُّ كَلِمُهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ مِنَ النُّطْقِ"

(2)

والقول اصطلاحًا: الاعتقادات والآراء؛ فقد تجوَّز العلماء فأطلقوا القول على الاعتقادات والآراء، فيقولون: قول أبي حنيفة ويعنون بذلك رأيه في المسألة المطروحة، وقد

(1)

لسان العرب، لابن منظور 11/ 572.

(2)

معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 5/ 42.

ص: 15

يقرنون بين القول والرأي وهما بمعنى واحد إنما لتنويع العبارة، فيقولون: أَقْوَال الْعُلَمَاءِ وَآرَاءهُمْ

(1)

.

وإنما تجوَّز العلماء في إطلاق القول على الآراء والاعتقادات؛ لأنها سبب له، قال ابن منظور:"فأَما تَجوُّزهم فِي تَسْمِيَتِهِمْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءَ قَوْلًا فلأَن الِاعْتِقَادَ يخفَى فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ القَوْل مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَا تَظْهَرُ إِلا بالقَوْل سُمِّيَتْ قَوْلًا إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لَهُ، وَكَانَ القَوْل دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا يسمَّى الشَّيْءَ بِاسْمِ غَيْرِهِ إِذا كَانَ مُلَابِسًا لَهُ وَكَانَ الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَيْهِ"

(2)

.

وأما السبق في اللغة فهو: التقدم، قال ابن فارس:"السِّينُ وَالْبَاءُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ"

(3)

، يُقَالُ "سَبَقَه يَسْبُقُه ويَسْبِقُه سَبْقاً: تقدَّمه"

(4)

. وفي الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغوي.

(1)

انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 2/ 162.

(2)

لسان العرب، لابن منظور 11/ 572.

(3)

معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 3/ 129.

(4)

لسان العرب، لابن منظور 10/ 151.

ص: 16

وبعد بيان معنى القول والسبق نستطيع الاقتراب من معنى عنوان البحث، فالمراد بـ"القول بما لم يسبق به قول": هو الرأي الذي لم يُقدم ويقال في نفس المسألة من قبل.

ص: 17

‌المطلب الثاني: تهيُّب العلماء من القول بما لم يسبق به قول.

اشتهر عن السلف رضي الله عنهم تهيبهم من الكلام فيما يعرض عليهم من مسائل الدين، مستحضرين في ذلك قول الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. قال عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: «أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ»

(1)

، وفي رواية:«مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفَتْوَى»

(2)

.

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي، ص 433.

(2)

المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي، ص 433.

ص: 19

وحتى لو تكلموا في مسائل الدين التي يعرفون فإنهم لا يجزمون بالتحليل والتحريم، قال ابن القيم:"قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا"

(1)

.

وخوفهم هذا كان من قولٍ يعرفونه أو حُكمٍ سُبقوا إليه، أما أن يسبق أحدهم غيره لقول جديد في مسألة فهذا من أشق الأمور عليهم؛ لمعرفتهم أنهم يتكلمون عن حكم الله في هذه المسألة، وهذا ليس بالأمر الهين لمن عظم الله في نفسه، ووضع نصب عينيه قول الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

(1)

إعلام الموقعين، لابن القيم 1/ 32.

ص: 20

ثم سار من بعدهم على سنتهم موصين أنفسهم وتلامذتهم بما قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ موصيًا أحد تلامذته: "إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ"

(1)

.

واشترط العلماء للمجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع كي لا يخرقه فيأتي بقول شاذ لم يسبق إليه

(2)

.

وكان من أسباب تضعيف القول عندهم أن قائله لم يسبق إليه، فيردونه لأجل ذلك، وقد يصفونه بالشذوذ

(3)

، كما قال أبو الطيب القاضي عن قول لأبي جعفر الترمذي:"هَذَا شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ"

(4)

.

وكان بعضهم إذا اجتهد في مسألة عقَّب عليها بأن هذا لا يعد قولا له إن لم يسبق إليه، ففي مسألة المطلقة آخر

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 21/ 291، إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 170.

(2)

انظر: الفصول في الأصول، للجصاص 4/ 273، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص 437.

(3)

انظر: التمهيد، لابن عبدالبر 9/ 70، المجموع، للنووي 4/ 65، مجموع الفتاوى، لابن تيمية 25/ 133، حاشية ابن عابدين 1/ 477.

(4)

المجموع، للنووي 4/ 65.

ص: 21

التطليقات الثلاث قوى ابن تيمية أنها تعتد بحيضة واحدة لكنه اشترط ألَّا يكون القول مخالفًا للإجماع، فقال عن القول الأول وهو أنها تعتد بثلاث حيض:" فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا: فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ"

(1)

، وذكر البعلي أن اختيار ابن تيمية أنها تعتد بحيضة ثم قال:"علَّق أبو العباس القول بذلك على أن لا يكون الإجماع على خلافه"

(2)

.

وفي مسألة تحريم نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرَّضَاعِ، قال ابن القيم:"حَرَّمَهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ شَيْخُنَا وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ أَقْوَى"

(3)

.

وتكلم ابن عثيمين عن حكم إدخال الحج على العمرة مع سعة الوقت، فقال:"لولا أن بعضهم حكى الإجماع في الجواز لقلنا بعدم الجواز، فإن كان أحد من العلماء يقول بأنه لا يجوز إدخال الحج على العمرة إلا عند الضرورة الشرعية أو الحسية؛ فهذا القول أقرب للصواب بلا شك"

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية 32/ 342.

(2)

الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص 406.

(3)

زاد المعاد، لابن القيم 5/ 495 - 496.

(4)

فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 1/ 726.

ص: 22

وسئل ابن عثيمين عن المجتهد إذا وقف على حديثٍ صحَّ عنده، ثم بحث في المسألة، فلم يجد له سلفًا، هل يقول بها أو لا؟، فأجاب:"لا يقول بها، ولهذا نجد العلماء الجهابذة الكبار إذا بحثوا في آية، أو حديث، ولم يكن عندهم علم بقائل يقول: إن كان أحد قال بذلك، كما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في المبتوتة إذا حاضت حيضة واحدة هل تنقضي عدتها أم لا؟ فقال: إن كان أحد قال بذلك فهو حق "

(1)

.

ولا يعني هذا أنهم يتوقفون عن الاجتهاد ويظلون مكتوفي الأيدي خصوصًا عندما تدعوهم النوازل وحاجة الناس لرأي العلماء فيها، فإنه لا يكاد يوجد مجتهد إلا وله قول لم يقل به أحد قبله

(2)

.

لكنهم يفعلون ذلك مع أشد التهيب والحذر؛ لأن الأمر جلل، فقد توقف الشاطبي-وهو أبو المقاصد- في مسألة الاشتراك باللبن؛ لأنه لم يجد نصًا في المذهب بخصوصها، مع أن من الأدلة على جواز الاشتراك فيه مقصدًا من مقاصد

(1)

التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 385 - 386.

(2)

انظر: الإحكام، لابن حزم 4/ 189، 5/ 88.

ص: 23

الشريعة وهو رفع الحرج والتيسير على الناس

(1)

، فقال:"هذا ما ظهر لي فيها من غير نص في خصوص المسألة أستند إليه؛ ولذلك توقفت عن الجواب فيها"

(2)

ثم وجد مسألة في المذهب تشبهها قال الإمام مالك بجوازها لحاجة الناس ثم ختم الجواب بقوله "فهذا كله مما يدل على صحة ما ظهر لي في اللبن والله أعلم والظاهر جوازه عملًا بهذا الأصل المقرر في المذهب"

(3)

.

فمع أن في المسألة مقصدًا وهو رفع الحرج والتيسير على الناس فإنه لم يفت به وتهيب أن يأتي بقول لم يجد نصًا في المذهب بخصوصه حتى وجد مسألة تشبهها في المذهب فأفتى به منشرح الصدر، ولما تكلم ابن تيمية بكلام طويل عن حكم طواف الحائض للضرورة، وأجاز لها ذلك دون أن يكون عليها دم، وهو قول لم يسبق إليه، ختم بحثه بكلام يهز الوجدان دلالة على عظم الإقدام على ذلك، فقد قال: "هَذَا هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

(1)

فتاوي الشاطبي، ص 208 - 209.

(2)

فتاوي الشاطبي، ص 209.

(3)

فتاوي الشاطبي، ص 211.

ص: 24

وَلَوْلَا ضَرُورَةُ النَّاسِ وَاحْتِيَاجُهُمْ إلَيْهَا عِلْمًا وَعَمَلًا لَمَا تَجَشَّمْت الْكَلَامَ حَيْثُ لَمْ أَجِدْ فِيهَا كَلَامًا لِغَيْرِي فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ فَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته صَوَابًا فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ"

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 26/ 241.

ص: 25

‌المبحث الأول:

حكم القول بما لم يسبق به قول

القول بما لم يسبق به قول يشمل أن يأتي المجتهد بقول يكون أولًا، أو ثانيًا، أو ثالثًا، ويؤتى بالقول الأول - غالبًا - في النوازل، وعمل العلماء أنهم لا يتوقفون في النوازل دون أن يبينوا الحكم فيها، ولم يخل الزمن من مجتهد يبين للناس أمور دينهم، وذكر ابن القيم أنه إذا حدثت حادثة فإنه "يُسْتَحَبُّ أَوْ يَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي"

(1)

، والكلام في النوازل غير مراد في البحث.

إنما المراد القول في مسألة سبق كلام العلماء فيها، فإن كان في المسألة قول واحد، فقد "اتفقوا على منع إحداث قول ثان"

(2)

، وقال ابن تيمية: "كُلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ

(1)

إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 205.

(2)

رَفْعُ النِّقَابِ عَنْ تنقِيح الشّهابِ، للشوشاوي 4/ 598.

ص: 27

وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً"

(1)

، وقال الشاطبي:"كُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ، وَهَذَا كافٍ"

(2)

.

فأما إن كان في المسألة قولان

(3)

، فقد اختلف الأصوليون في حكم إحداث قول ثالث على ثلاثة أقوال

(4)

:

القول الأول: أن إحداث قول ثالث لا يجوز مطلقًا، وهو قول جمهور الأصوليين

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 21/ 291.

(2)

الموافقات، للشاطبي 3/ 281.

(3)

يقول الشوكاني: "وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الِاخْتِلَافُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَا يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْخِلَافِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَدِ اسْتَقَرَّ أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ من إحداث قول آخر" إرشاد الفحول 1/ 229.

(4)

وهم يناقشون المسألة على أن القائل من أهل الاجتهاد، فمن لم يكن من أهله فهو مقلد وليس له الحق في أن يتكلم فيما لم يحط به خبرًا، ولا يجوز له أن يجتهد قولا جديدا لم يسبق إليه.

(5)

انظر: فتح القدير، لابن الهمام 1/ 487، المحصول، لابن العربي، ص 123، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص 328، الإحكام، للآمدي 1/ 268، البحر المحيط، للزركشي 6/ 516، اللمع، للشيرازي، ص 93، روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 430، المسودة، لآل تيمية ص 326، العدة، لأبي يعلى 4/ 1113.

ص: 28

القول الثاني: أن إحداث قول ثالث جائز مطلقًا، وهو قول بعض الأصوليين

(1)

.

القول الثالث: أن إحداث قول ثالث جائز بشرط ألا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان، وهو قول بعض الأصوليين

(2)

.

أدلة القول الأول:

الدليل الأول: أن إجماع العلماء على قولين دليل على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على قول واحد دليل على بطلان ما عداه

(3)

.

(1)

روي عن بعض الحنفية، والظاهرية. انظر: الإحكام، لابن حزم 1/ 560، التبصرة، للشيرازي، ص 387، الإحكام، للآمدي 1/ 268، روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 430، إرشاد الفحول، للشوكاني 1/ 229.

(2)

روي عن الإمام الشافعي، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، والرازي، وابن اللحام، والطوفي. انظر: شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص 228، الإحكام، للآمدي 1/ 268، 430، المحصول، للرازي 4/ 128، بيان المختصر، للأصفهاني 1/ 590، المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، ص 79، شرح مختصر الروضة، للطوفي 3/ 92.

(3)

انظر: العدة، لأبي يعلى 4/ 1113، المعتمد، لأبي الحسين البصري 2/ 45.

ص: 29

نوقش: بأن اختلافهم على قولين إجماع على جواز القولين، وإقرار أن هذه المسألة اجتهادية، وليست قطعية، ولا يكون القول الثالث باطلًا، إلا إذا اشترطوا عدم إحداثه

(1)

.

الدليل الثاني: أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى الخطأ، وإلى تضييع الحق، والغفلة عنه؛ فإنه لو كان الحق في القول الثالث، كانت الأمة قد أخطأته، وضيعته وغفلت عنه، وخلا العصر من قائم لله بحجته، ولم يبق منهم عليه أحد وذلك محال

(2)

.

نوقش: بأنه إنما يلزم من ذلك نسبة الأمة إلى الخطأ، وتضييع الحق، والغفلة عنه، أن لو كان الحق في المسألة معينًا، وأجمعوا فيه على قول واحد، وأما فيما اختلفوا فيه فلا؛ لأن غاية ذلك تخطئة بعضهم في أمر، وتخطئة البعض الآخر في غير ذلك الأمر

(3)

.

(1)

انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 269، شرح مختصر الروضة، للطوفي 3/ 89، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، للسلمي، ص 133.

(2)

انظر: روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 431، الإحكام، للآمدي 1/ 268.

(3)

انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 269، نهاية السول، للأسنوي ص 292.

ص: 30

أدلة القول الثاني:

الدليل الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في هذين القولين، ولم يصرحوا بتحريم إحداث قول ثالث

(1)

.

نوقش: بأن الصحابة رضي الله عنهم كذلك لو اجتمعوا على قول واحد لم يصرحوا بتحريم إحداث القول الثاني، مع أنه لا يجوز لمخالفته لإجماعهم

(2)

.

يجاب: بأنه لو كان في المسألة إجماع قطعي لحرم مخالفته، أما إذا اجتهد أحد الصحابة رضي الله عنهم في مسألة ولم يجمع الصحابة على قوله فإنه يجوز لمن بعدهم الاجتهاد كما اجتهدوا.

الدليل الثاني: أن الاختلاف على قولين دليل تسويغ الاجتهاد، والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزًا

(3)

.

نوقش: بأن الاختلاف على قولين دليل تسويغ الاجتهاد إذا كان الاجتهاد في طلب الحق من القولين، فأما إحداث القول

(1)

انظر: روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 430.

(2)

انظر: روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 430، شرح مختصر الروضة، للطوفي 3/ 90.

(3)

انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 269، التبصرة، للشيرازي، ص 388.

ص: 31

الثالث من غيرهما فلا؛ لأنهم قد أجمعوا على بطلانه، وهذا كما لو أجمعوا في حادثة على إبطال حكم فيها فينقطع الاجتهاد في ذلك الحكم، ولا يمنع ذلك من الاجتهاد فيها على غير ما أجمعوا على بطلانه

(1)

.

يجاب: بأنه لا يسلم أن الخلاف على قولين إجماع منهم على إبطال إحداث قول ثالث مالم ينصوا على إبطاله، وقياس إحداث قول ثالث على إبطال حكم في حادثة قياس مع الفارق؛ لأنهم نصوا على إبطال الحكم في الحادثة خلافًا لإحداث القول الثالث الذي لم ينصوا على إبطاله.

الدليل الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم إذا استدلوا بدليل، وعللوا بعلة، جاز لمن بعدهم الاستدلال بدليل آخر، والتعليل بعلة أخرى، فكذلك إذا كان لهم قول جاز لمن بعدهم إحداث قول آخر

(2)

.

نوقش: بأن الدليل يختلف عن الحكم؛ فالدليل يؤيد الحكم السابق لا يخالفه، بعكس الحكم الجديد، فإذا أجمعوا على أمر

(1)

انظر: التبصرة، للشيرازي، ص 388.

(2)

انظر: روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 431، العدة، للقاضي أبي يعلى 4/ 1114.

ص: 32

واستدلوا بدليل من القرآن، جاز لمن بعدهم أن يستدل بدليل آخر من السنة يؤيد ما أجمعوا عليه، ولا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه بإحداث حكم آخر

(1)

.

الدليل الرابع: أن إحداث قول ثالث وقع في هذه الأمة من غير نكير

(2)

.

يناقش: بعدم التسليم فجمهور العلماء على إنكار ذلك، وكتب الأصول طافحة بنقل كلامهم في منع إحداث قول ثالث، كما سبق بيانه في عرض الأقوال.

أدلة القول الثالث:

أصحاب القول الثالث جمعوا بين أدلة القول الأول وأدلة القول الثاني، واستدلوا بأن القول الثالث إذا رفع ما اتفق عليه القولان السابقان خالف ما أجمعوا عليه، وإذا لم يرفع ما اتفق عليه القولان لم يخالفه، بل وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه، فهو جائز إذ ليس فيه خرق للإجماع

(3)

.

(1)

انظر: العدة، للقاضي أبي يعلى 4/ 1114.

(2)

انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 269، روضة الناظر، لابن قدامة 1/ 431.

(3)

انظر: الإحكام، للآمدي 1/ 269، إرشاد الفحول، للشوكاني 1/ 229.

ص: 33

يناقش: بأن اختلافهم على قولين إجماع منهم على أن هذه المسألة اجتهادية، وليست من الأمور القطعية، فمجال الاجتهاد فيها سائغ، حتى وإن رفع هذا الاجتهاد ما اتفق عليه القولان السابقان، مالم يخالف هذا الاجتهاد نصًا، أو إجماعًا قطعيًا فيرد.

الترجيح: بعد عرض الأقوال، وأدلة كل قول، ومناقشة الأدلة، تبين لي أن لكل قول أدلة قوية، والأقرب -والله أعلم- أن الراجح أن إحداث قول ثالث جائز، ما لم يخالف هذا القول نصًا قطعي الدلالة والثبوت أو إجماعًا قطعيًا؛ لأن في اختلاف العلماء إقرارًا منهم بأن هذه المسألة اجتهادية، والاجتهاد سائغ فيها، فلا يرد هذا الاجتهاد لأنه قول جديد، بل يرد إذا خالف نصًا، أو إجماعًا قطعيًا، وأن عمل العلماء على ذلك فإنك لا تكاد تجد إمامًا مجتهدًا إلا وله قول لم يسبق إليه.

ص: 34

‌المبحث الثاني: مخالفة النص أو الإجماع

قد يذكر بعض الفقهاء في الخلاف الفقهي عن بعض أقوال الأئمة أنه مخالف للنص أو للإجماع، والأئمة لا يخالفون النص أو الإجماع عمدًا، لكن من عذر، وعذرهم في مخالفة النص إن كان النص آية قرآنية يكون في الخلاف في الدلالة، أو في النسخ، أما إن كان النص حديثًا نبويًا فيُزاد أمر ثالث وهو الخلاف في الثبوت، يقول ابن تيمية: "وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ. وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ

ص: 35

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ. وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ"

(1)

.

فالأئمة لا يخالفون النص قطعي الدلالة والثبوت عمدًا، ويطلق النص عندهم على ثَلاث اصْطِلاحَاتٍ "أَحَدُهَا: مَا لا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَالثَّانِي: مَا احْتَمَلَهُ احْتِمَالاً مَرْجُوحًا كَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إطْلاقِ الْفُقَهَاءِ، وَالثَّالِثُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنَى كَيْفَ مَا كَانَ"

(2)

، وهم عندما يقولون:"لا اجتهاد مع النص؛ أي: لا يجوز الاجتهاد مع وجود نص قطعي الدلالة والثبوت"

(3)

.

أما عذرهم في مخالفة الإجماع فأكثر من أن يُحصر، فقد يكون الخلاف في الاحتجاج بالإجماع من حيث الأصل

(4)

،

(1)

رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية، ص 9.

(2)

شرح الكوكب المنير، لابن النجار 3/ 479.

(3)

المقدمة في منهج الفقه الإسلامي للاجتهاد والبحث، للقره داغي، ص 50.

(4)

من ذلك قول الشوكاني: "فَأَما الْإِجْمَاع فقد أوضحت فِي كثير من مؤلفاتي أَنه لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي على فرض إِمْكَانه لعدم وُرُود دَلِيل يدل على حجيته". أدب الطلب، ص 204.

ص: 36

أو الاختلاف في كونه حجة قطعية أو ظنية

(1)

، أو في مفهوم الإجماع، فبعضهم لا يحتج إلا بالإجماع النطقي كما يقول الشافعي:"لستُ أقول ولا أحدٌ من أهل العلم (هذا مجتمع عليه) إلا لما تَلْقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قبله، كالظهرُ أربعٌ، وكتحريم الخمر، وما أشبه هذا"

(2)

، ويقول ابن عثيمين:"لا بد أن يكون الإجماع قولًا"

(3)

.

في حين أن بعضهم لا يتصور وجوده، كما يقول ابن حزم:"لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكمًا صحيحًا ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة"

(4)

، ويقول ابن عثيمين:"إن الإجماع لا يمكن يتحقق أبدًا لا سيما في الزمن السابق"

(5)

، ويقول عمر الأشقر: "الإجماع الأصولي ليس له مثال واحد، وهو حسب التعريف خيال لا واقع له، ومن قال بوجوده يلزمه أن

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير، لابن النجار 2/ 213 - 214.

(2)

الرسالة، للشافعي، ص 534.

(3)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 328.

(4)

الإحكام، لابن حزم 4/ 232.

(5)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 325.

ص: 37

يأتي بمثال واحد، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثال، ولو وقع لكان حجة ودليلا"

(1)

.

ويكتفي بعضهم بالاحتجاج بالإجماع السكوتي؛ لأن "كل ما نقله العلماء الذين ينقلون الإجماع هو من قبيل الإجماع السكوتي"

(2)

، وأن انتشار القول دون مخالفة دلالة على الرضا، فيكون إجماعًا.

ويرى ابن عثيمين عكس ذلك، فـ"انتشار القول ليس بإجماع، وإن لم يظهر مخالف؛ ووجه أنَّ الإنسان قد لا ينكر، لا لأنه رضي بالقول، ولكن لأنه متردد متوقف، والتوقف ليس موافقة، وبهذا نعرف أن كثيرًا ما يمر علينا في المغني

(3)

، أو غيره: ولأن هذا قد انتشر، فلم ينكر، فكان

(1)

صفحات من حياتي، لعمر الأشقر صـ 140. وانظر: نظرة في الإجماع الأصولي، لعمر الأشقر صـ 23.

(2)

انظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، للسلمي، ص 132. وانظر: شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 328.

(3)

بعد البحث في المغني، لابن قدامة خرج أكثر من سبعين نتيجة بأنه: لم يظهر مخالف أو لم يعرف مخالف، فكان إجماعًا. انظر على سبيل المثال: 1/ 215، 2/ 74، 3/ 176.

ص: 38

إجماعًا، أن هذه المقدمة غير صحيحة؛ لأن عدم الإنكار ليس إقرارًا"

(1)

.

وبعضهم لا يعتد بمخالفة أقوام، وقد يرى بعضهم أن مخالفة الواحد والاثنين لا تخرق الإجماع

(2)

، أو يكتفي بعضهم بإجماع الصحابة

(3)

أو القرون الثلاثة الأولى رضي الله عنهم ولا يرى إجماعًا بعدهم

(4)

، قال ابن حزم: "وَقد أَدخل قوم فِي الإجماع مَا لَيْسَ فِيهِ: فقوم عدوا قَول الأكثر إجماعًا، وَقوم عدوا مَا لَا يعْرفُونَ فِيهِ خلافًا إجماعًا وإن لم يقطعوا على أَنه لَا خلاف فِيهِ، وَقوم عدوا قَول الصاحب الْمَشْهُور الْمُنْتَشِر إذا لم يعلمُوا لَهُ من الصَّحَابَة مُخَالفًا وإن وجد الْخلاف من التَّابِعين فَمن بعدهمْ فعدوه إجماعًا، وَقوم عدوا قَول الصاحب الَّذِي لَا يعْرفُونَ لَهُ مُخَالفا من الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَإِنْ لم يشْتَهر وَلَا انْتَشَر إجماعًا، وَقوم

(1)

التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 326.

(2)

انظر: شرح الكوكب المنير، لابن النجار 2/ 229 - 230.

(3)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 11/ 341.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 3/ 157، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 11/ 63.

ص: 39

عدوا قَول أهل الْمَدِينَة إجماعًا، وَقوم عدوا قَول أهل الْكُوفَة إجماعًا، وَقوم عدوا اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قَوْلَيْنِ أَوْ أَكثر كَانَتْ للعصر الَّذِي قبله إجماعًا"

(1)

. إلى أسباب كثيرة في الخلاف في شروط الإجماع وغيرها، هذا من حيث التأصيل.

أما من حيث التطبيق فإن هناك تساهلًا كبيرًا في نقل الإجماع، يقول الشوكاني:"قد حصل التساهل البالغ في نقل الإجماعات"

(2)

، ويقول ابن عثيمين:"وكثير من مسائل الإجماع فيها خلاف مؤكد ومحقق، ومن علماء محققين"

(3)

.

فبعضهم لا يعرف إلا قول المذهب الذي نشأ عليه أو البلد الذي عاش فيه فيظن أن الأمة مجمعة على هذا، يقول ابن تيمية:"مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نَشَأَ عَلَى قَوْلٍ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ فَيَظُنُّهُ إجْمَاعًا"

(4)

، ويقول

(1)

مراتب الإجماع، لابن حزم، ص 10.

(2)

السيل الجرار، للشوكاني 3/ 295.

(3)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 326.

(4)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 7/ 35.

ص: 40

الشوكاني: "صار من لا بحث له عن مذاهب أهل العلم يظن أن ما اتفق عليه أهل مذهبه وأهل قطره هو إجماع"

(1)

.

وقد ذكر ابن القيم في الصواعق المرسلة أمثلة كثيرة على إجماعات لم تثبت

(2)

، وقد قال قبلها:"إن كل من ترك موجب الدليل لظن الإجماع فإنه قد تبين لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة والخلاف فيها قائم ونحن نذكر من ذلك طرفا يسيرا يستدل به العالم على ما وراءه"

(3)

.

بل قد يُنقل في المسألة الواحدة إجماعان متضادان، "ففي إعلام الموقعين أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد

(4)

، وآخرون قالوا: أجمعوا على رد شهادة العبد! إجماعان متضادان"

(5)

، وكما في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، قال عنها ابن القيم: "وَكُلُّ صَحَابِيٍّ مِنْ لَدُنْ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ كَانَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ فَتْوَى أَوْ إقْرَارًا

(1)

السيل الجرار، للشوكاني 3/ 295.

(2)

انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم 2/ 583 - 604.

(3)

الصواعق المرسلة، لابن القيم 2/ 583.

(4)

انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 1/ 25.

(5)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 326.

ص: 41

أَوْ سُكُوتًا، وَلِهَذَا ادَّعَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ"

(1)

، وقال عنها ابن رجب:"اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد"

(2)

.

وقال ابن عثيمين: "أحيانًا ينقل الإجماع، والإجماع على خلافه، ومن ذلك: نقل بعضهم أن من طلق زوجته ثلاثًا في كلمة واحدة أو في مجلس واحد فإنها تبين منه، وقال آخرون: ينبغي أن يكون الإجماع على ضد ذلك"

(3)

.

ونقل القاضي عياض الإجماع على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، وحكى الطبري الإجماع على عدم الوجوب

(5)

،

(1)

إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 34.

(2)

سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث، ليوسف بن عبدالهادي، صـ 31. نقلًا من كتاب مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة، لابن رجب. وهو مفقود.

(3)

شرح منظومة أصول الفقه وقواعده، لابن عثيمين، ص 193.

(4)

انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض 2/ 61.

(5)

انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض 2/ 61.

ص: 42

وقال عنها ابن تيمية: "وحكايات إجماعهم متناقضة"

(1)

، بل نقل ابن تيمية "إجماعات في خلاف ما ثبت بالآثار، بل ونصوص القرآن"

(2)

.

وإن كان ابن حزم "من أعظم نقلة الإجماعات اطلاعًا، وأكثرهم انتقادًا" كما يقول ابن تيمية

(3)

، فقد قال عنه بعد أسطر أنه "ذكر إجماعات كثيرة فيها نزاع لم يعلمه، بل فيها ما قد خالفه هو أيضًا"

(4)

.

ويرى ابن عثيمين أن ابن تيمية "من أدق الناس وأوثقهم في نقل الإجماع"

(5)

، وقد ذكر أحد الباحثين في الإجماع أنه بحث لابن تيمية في كتاب الطهارة فقط اثنتين وسبعين مسألة نقل فيها الإجماع، منها عشرون مسألة لم يثبت فيها الإجماع

(6)

، بل قال:

(1)

الرد على الإخنائي، لابن تيمية، ص 78.

(2)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 774.

(3)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 623.

(4)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 624.

(5)

شرح منظومة أصول الفقه وقواعده، لابن عثيمين، ص 194.

(6)

انظر: موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 1/ 72.

ص: 43

"وجدته-أي: ابن تيمية- حكى إجماعًا في مسألة أثناء مناقشة الخلاف، ثم خالف فيه هو رحمه الله"

(1)

.

وحتى الإمام أحمد على شدته في نقد الإجماع، ومقولته المشهورة في ذلك:"من ادّعى الاجماع فَهُوَ كذب لَعَلَّ النَّاس قد اخْتلفُوا"

(2)

، فقد نقل عنه أحد الباحثين في العبادات سبعة عشر إجماعًا، وذكر الخلاف في سبع مسائل منها

(3)

.

فالخلاف في المسائل التي نقل فيها الإمام أحمد وابن تيمية الإجماع قرابة الثلث، والثلث كثير.

ومع هذا الاختلاف الكبير في تأصيل الإجماع والتساهل في تطبيقه، فقد يُتهم بعض الأئمة بخرق الإجماع، كمن ذكر عن الشافعي أنه خرق الإجماع في أربعمائة مسألة

(4)

، وعدد

(1)

موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 1/ 71.

(2)

مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبدالله، ص 439.

(3)

الإجماعات الفقهية التي حكاها الإمام أحمد بن حنبل، لمحمد الفريح، بحث منشور في مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد العشرون، ص 253 - 312.

(4)

انظر: الإحكام، لابن حزم 4/ 189.

ص: 44

بعضهم لابن تيمية مسائل خرق فيها الإجماع

(1)

، "قيل: إنها تبلغ ستين مسألة، فأخذته الألسنة بسبب ذلك"

(2)

.

ومن جميل الدفاع عن الشافعي ما قاله العثماني الحنفي: "الشافعي أعرف بالإجماع وأهله، فلا يظن به أنه خرق الإجماع"

(3)

، وهذا يصدق على غيره من الأئمة المجتهدين بعدما تثبت نسبة القول إليهم، فإن كثيرًا مما ينقل عن الأئمة من مخالفة للإجماع غيرُ ثابت عنهم، فقد قال البرزلي المالكي عن المسائل التي نسب لابن تيمية خرق الإجماع فيها:"إن من نظر كلام الرجل مما ينسب إليه من التواليف يقتضي نفي أكثر ما نسب إليه من هذه المسائل"

(4)

.

ولا تجد أحدًا من الأئمة يتعمد مخالفة النص قطعي الدلالة والثبوت أو الإجماع القطعي، بل يعتقد كل واحدٍ منهم أنه متمسك بهما، وهو مثاب، ومعذور، وإن لم يوفق

(1)

انظر: فتاوى البرزلي 6/ 205.

(2)

الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية، للعراقي، ص 93.

(3)

إعلاء السنن، للعثماني 17/ 62.

(4)

فتاوى البرزلي 6/ 205.

ص: 45

للصواب، قال ابن تيمية:"يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ"

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 7/ 405.

ص: 46

‌المبحث الثالث: تطبيقات على مسألة القول بما لم يسبق به قول.

لا تكاد تجد إمامًا مجتهدًا إلا وله قول لم يسبق إليه، فقد نقل ابن حزم عن ابن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة أتى فيها بقول لم يسبق إليه

(1)

، ثم قال ابن حزم معقبًا على قول الطبري:"وهكذا القول حرفًا حرفًا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره"

(2)

.

(1)

انظر: الإحكام، لابن حزم 4/ 189.

(2)

الإحكام، لابن حزم 4/ 189.

ص: 47

بل ذكر ابن حزم أنه "من ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك والشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه"

(1)

، وقال:"ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة"

(2)

، وقد ذكر أحد الباحثين في اختيارات ابن تيمية أنه وجد له من أول كتاب الطهارة إلى آخر أحكام سجود السهو ست مسائل لم يقل بها أحد غيره

(3)

.

ولا شك أن غالب هذه المسائل التي ذكرها ابن حزم عن الأئمة كانت في نوازل حدثت في عصرهم بسبب تغير الأعراف وأحوال الناس ولم يتعرض لها من قبلهم فاجتهدوا فيها، فكان قولهم فيها قولا جديدًا لم يسبقوا إليه، وهذا هو الواجب على أهل العلم، وهي سنة العلماء من عهد الصحابة رضي الله عنهم، كما يقول الجويني: "لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء

ولكني لا أبتدع،

(1)

الإحكام، لابن حزم 5/ 88.

(2)

الإحكام، لابن حزم 4/ 189.

(3)

انظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية، لعايض الحارثي وآخرين 2/ 574.

ص: 48

ولا أخترع شيئًا، بل أُلاحظ وضع الشرع، وأستثير معنىً يناسب ما أراه وأتحرّاه، وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة، وأصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصًا معدودةً، وأحكامًا محصورةً، محدودةً، ثم حكموا في كل واقعة عنَّت، ولم يجاوزوا وضع الشرع، ولا تعدوا حدوده; فعلَّمونا أن أحكام الله تعالى لا تتناهى في الوقائع، وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرةٌ عن قواعد مضبوطة"

(1)

.

وهذا ما جعل ابن حزم يجد هذا العدد من الأقوال التي أحصاها لهؤلاء الأئمة التي لم يسبقوا إليها، ويذكرها دعوة منه لمقلديهم أن يجتهدوا كما اجتهد أئمتهم، ويقتفوا سيرتهم، ولا يتوقفوا مكتوفي الأيدي عند النازلة التي لم يجدوا لإمامهم قولا فيها، ومع ذلك فإن لهؤلاء الأئمة أقوالًا في مسائل قديمة قالوا فيها بأقوال لم يسبقوا إليها لكنها كانت قليلة مقارنة بالعدد الذي ذكره عنهم ابن حزم وهذا الذي يهمني في البحث وهو الذي سأنقله عنهم في التطبيقات القادمة بإذن الله.

(1)

غياث الأمم في التياث الظلم، للجويني، ص 267.

ص: 49

والأقوال التي قال بها الأئمة ولم يسبقوا إليها منها ما هو مردود ومهجور حتى عند بعض علماء مذهب الإمام، ومنها ما هو مقبول ومعمول به إما عند أتباع المذهب إلى عصرنا هذا، أو عند غيرهم بحيث يأخذ بهذا القول أحد العلماء الكبار فيشتهر بعده هذا القول نتيجة لمكانة هذا العالم.

وقد سبق: أن من شروط إحداث قول جديد ألا يخالف نصًا قطعيًا في ثبوته ودلالته، أو إجماعًا قطعيًا، لكنَّ قبول القول ورفضه ليس بالضرورة يقاس بهذا المعيار، فقد يُرد القول لمخالفته نصًا ظنيًا في ثبوته أو دلالته أو لمخالفته إجماعًا ظنيًا، أو لمخالفته ما عليه العمل، أو تقليدًا للمذهب، أو تعصبًا له، فالمجتهد له شروط لاجتهاده، لكن ليس بالضرورة أن يقبل منه الاجتهاد، وكم من قول لم يقبل وهو لم يخالف نصًا قطعيًا في ثبوته ودلالته ولا إجماعًا قطعيًا، بل قد تدعمه-أحيانًا- بعض الأدلة، وقد تجري على قائله محن وعقوبات، أقلها أنه لا يسلم من الألسنة الحداد.

وفي هذا المبحث سأذكر بعض الأقوال التي قال بها بعض الأئمة ولم يسبقوا إليها وقُبل هذا القول وأُخذ به أو

ص: 50

رفض، وسيكون المنهج فيه أن أنقل قول الإمام الذي لم يسبق إليه، وأبين سبق هذا الإمام بهذا القول وأنه لم يقل به أحد قبله، ثم أذكر من أخذ بهذا القول-حسب الجهد-، وقد أذكر من رفض القول ولكن لم أطرد في ذلك؛ لأن الغالب هو رفض جمهور العلماء أو كلهم للأقوال المحدثة، اكتفاء منهم بما عليه أسلافهم، وأنه لن يأتي اللاحق بقول خفي دليله على من سبقه من أهل العلم الذين حفظوا هذه الأدلة ودونوها لمن بعدهم.

ولن أناقش هذه الأقوال؛ لأن غرض البحث بيان وجود أقوال للأئمة قالوا بها ولم يسبقوا إليها، وقد أشير - أحيانًا - لبعض الأدلة لبيان حجة القائل أو لبيان رفض قوله؛ حماية لبعض الأئمة من ظن السوء بهم أنهم يخالفون النصوص، فقد يُظن أن العالم خالف النص قطعي الدلالة والثبوت فأبين مأخذه، وسيكون البحث في المسائل التي كانت موجودة من زمن الصحابة رضي الله عنهم، وكان هذا الإمام هو أول من قال بهذا القول من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصره، لأن في هذا المسائل تتبين أهمية الإتيان بقول لم يسبق إليه.

ص: 51

‌المطلب الأول: استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب

نُقل الإجماع على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة مطلقًا، قال ابن عبدالبر:"وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إِنَاءِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي شُرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ"

(1)

، وقال ابن قدامة:"لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا"

(2)

.

ونُقل عن معاوية بن قرة وعن الشافعي في القديم عدم التحريم، قال ابن حجر:"وَنقل بن الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَّا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ -أَحَدِ التَّابِعِينَ- فَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَ عَنْ نَصِّهِ فِي حَرْمَلَةَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَمِنَ أَصْحَابِهِ مَنْ قَطَعَ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا اللَّائِقُ بِهِ لِثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ"

(3)

.

(1)

التمهيد، لابن عبدالبر 16/ 108.

(2)

المغني، لابن قدامة 1/ 56.

(3)

فتح الباري، لابن حجر 10/ 94.

ص: 52

واختار داود الظاهري جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الشرب، قال النووي:"أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد"

(1)

.

وقد جاء في موسوعة الإجماع: "لم أجد من حكى الإجماع قبل داود

والأقرب أنه يكون حجة ظنية لا إجماعًا قطعيًا"

(2)

.

واختار الصنعاني

(3)

والشوكاني

(4)

وابن عثيمين

(5)

أن التحريم خاص بالأكل والشرب فقط، قال الصنعاني:"وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ غَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِمَا، إذْ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ"

(6)

.

(1)

المجموع، للنووي 1/ 250.

(2)

موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 1/ 138.

(3)

انظر: سبل السلام، للصنعاني 1/ 40.

(4)

انظر: السيل الجرار، للشوكاني 3/ 277.

(5)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 75.

(6)

سبل السلام، للصنعاني 1/ 40.

ص: 53

واختار هذا الرأي بعض طلاب الشيخ ابن عثيمين

(1)

، أو ذكر أن فيه وجاهة

(2)

، مع تأكيد بعضهم أن الاحتياط ترك الاستعمال مطلقًا

(3)

.

‌المطلب الثاني: عدم الوضوء على المستحاضة.

اختار الإمام ربيعة الرأي أنه: " لَا وُضُوءَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا أَنْ يُصِيبَهَا حَدَثٌ تُعِيدُ وُضُوءَهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ"

(4)

، قال ابن المنذر:"وَالنَّظَرُ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ رَبِيعَةُ إِلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ"

(5)

، وقال ابن قدامة: "وَدَمُ

(1)

انظر: الخلاصة في الفقه، لخالد المشيقح، ص 7، شرح الروض المربع، لسامي الصقير 1/ 55، شرح كتاب زاد المستقنع، لفهد المطيري، كتاب الطهارة (1)، ص 65.

(2)

انظر: منحة العلام، لعبدالله الفوزان 1/ 84، فقه الدليل، لعبدالله الفوزان 1/ 54.

(3)

انظر: منحة العلام، لعبدالله الفوزان 1/ 84، الخلاصة في الفقه، لخالد المشيقح، ص 7.

(4)

الأوسط، لابن المنذر 1/ 163. وانظر: التمهيد، لابن عبدالبر 16/ 99، المجموع، للنووي 2/ 535.

(5)

الأوسط، لابن المنذر 1/ 163.

ص: 54

الِاسْتِحَاضَةِ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا فِي قَوْلِ رَبِيعَةَ"

(1)

.

وأخذ بهذا القول الإمام مالك فلم يوجب عليها الوضوء

(2)

، وسار على هذا القول بعض أصحابه فرأوا أن الاستحاضة لا تنقض الوضوء ولا يجب عليها لكن يستحب

(3)

، إلا أن المذهب عند المالكية هو التفريق بين أن تلازمها أكثر الزمن فلا تنقض الوضوء، أو أقل الزمن فتنقض الوضوء

(4)

، جاء في منح الجليل:" فَإِنْ لَازَمَهُ كُلَّ الزَّمَنِ وَأَكْثَرُهُ أَوْ نِصْفُهُ فَلَا يَنْقُضُهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَغَارِبَةِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ وَطَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ مُطْلَقًا"

(5)

.

واختار ابن تيمية -في آخر قوليه

(6)

- أن الاستحاضة

(1)

المغني، لابن قدامة 1/ 125.

(2)

انظر: المدونة، للإمام مالك 1/ 120.

(3)

انظر: التاج والإكليل، للمواق 1/ 205، مواهب الجليل، للحطاب 1/ 181.

(4)

انظر: مختصر خليل، ص 21، الشرح الصغير، للدردير 1/ 140.

(5)

منح الجليل، لعليش 1/ 108 - 109.

(6)

اختار ابن تيمية في مجموع الفتاوى 21/ 221 مذهب الجمهور فقال: "وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَأَمْثَالُهُمَا مِثْلُ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ؛ وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْحَدَثِ الْمُعْتَادِ. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ

فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ" وفي الاختيارات الفقهية اختار مذهب الإمام مالك، والذي يظهر أنه آخر قوليه؛ لأنه نشأ على رأي الحنابلة فهو الأصل عنده، وهذا ناقل عنه، والناقل عن الأصل مقدم عند التعارض.

ص: 55

لا تنقض الوضوء، جاء في الاختيارات الفقهية:"والأحداث اللازمة: كدم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء مالم يوجد المعتاد، وهو مذهب مالك"

(1)

، واختار هذا الرأي ابن عثيمين في آخر قوليه

(2)

.

‌المطلب الثالث: عدم الوضوء من رطوبة فرج المرأة.

اختار ابن حزم أن رطوبة فرج المرأة لا ينقض الوضوء

(3)

، قال ابن عثيمين:"ولكن بعد البحث التام لم أجد أحداً من العلماء قال: إنها لا تنقض الوضوء إلا ابن حزم، ولم نذكر له سابقاً حتى نقول: إن سلف الأمة يرون أن هذا لا ينقض الوضوء"

(4)

، وقال:"وأما اعتقاد بعض النساء أنه لا ينقض الوضوء، فهذا لا أعلم له أصلاً إلا قولاً لابن حزم رحمه الله فإنه يقول: إن هذا لا ينقض الوضوء، ولكنه لم يذكر لهذا دليلاً"

(5)

، وكذلك قال الدكتور سامي الصقير عن قول ابن حزم:"إنه ليس له سلف"

(6)

.

وقد اختار ابن عثيمين في أول قوليه أن رطوبة فرج المرأة ناقض للوضوء

(7)

، ثم ذكر أن قول ابن حزم أقرب للصواب لكنه لم يجد من سبقه إليه، ولا يريد الخروج عن إجماع الأمة، فقال: "أن هذا -أعني الرطوبة التي تخرج- يبتلى بها كثير من النساء أو أكثر النساء، ولكن بعد البحث التام لم أجد أحداً من العلماء قال: إنها لا تنقض الوضوء إلا ابن حزم، ولم نذكر له سابقاً حتى نقول: إن سلف الأمة يرون أن هذا لا ينقض الوضوء، وأنا أقول: إذا وُجد أحد من سلف الأمة يرى أنه لا نقض بهذه الرطوبة فإن قوله أقرب إلى الصواب من القول بالنقض، أولاً: للمشقة، وثانياً: لأن هذا أمر معتاد، ليس حدثاً طارئاً كالمستحاضة، بل هو أمر معتاد عند كثير من النساء، فإن وجدتم سلفاً من صدر هذه الأمة يرى أنه

(1)

الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص 27.

(2)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 503، لقاءات الباب المفتوح، لابن عثيمين، اللقاء (214).

(3)

انظر: المحلى، لابن حزم 1/ 236.

(4)

اللقاءات الشهرية، لابن عثيمين 2/ 270.

(5)

انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 11/ 285.

(6)

انظر: شرح الروض المربع، لسامي الصقير 1/ 323.

(7)

انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 11/ 284 - 287، ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (52).

ص: 56

لا نقض بخروج هذا السائل فقوله أقرب إلى الصواب، وأما إذا لم تجدوا فليس لنا أن نخرج عن إجماع الأمة"

(1)

.

ثم في آخر قوليه اختار أنه لا ينقض

(1)

اللقاءات الشهرية، لابن عثيمين 2/ 270.

ص: 58

الوضوء، فقال: " كل ما خرج من البدن لا ينقض الوضوء إلا البول والغائط، أما الدم والقيء والقيح وما يسميه النساء بالطهر الذي يسيل من فرج المرأة دائماً، حتى إن بعض العلماء قال: سلس البول لا ينقض الوضوء أيضاً

وهذا القول ليس ببعيد من الصواب، وكنت بالأول أرى أنه ينقض الوضوء وأنه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان للصلاة إلا بعد دخول وقتها لكن بعد أن راجعت كلام العلماء واختلافهم، وقوة تعليل من علل بأن هذا الوضوء لا فائدة منه إذ أن الحدث دائم تراجعت عن قولي الأول، وهذا القول أرفق بالناس بلا شك ولا سيما بالنسبة للنساء اللاتي يخرج منهن هذا السائل الدائم

والظاهر أيضاً أن الذي يصيب النساء هو الذي

ص: 57

يصيب النساء السابقات، ولم يبلغ أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر النساء أن تتوضأ لوقت كل صلاة، غاية ما هنالك المستحاضة على خلاف في هذا؛ فإن مسلماً رحمه الله أشار إلى أن قوله: توضئي لكل صلاة لم يصح، ولذلك حذفها عمداً من حديثه، المهم الشيء المعتاد لا ينقض إلا البول والغائط فقط والريح؛ لأنه ثبت به الحديث"

(1)

.

وقد نقل الدكتور أحمد القاضي فتوى لابن عثيمين في 20/ 1/ 1418 هـ يرى فيها أنها ناقض للوضوء

(2)

، ثم في 7/ 7/ 1420 هـ، اختار ابن عثيمين أنه غير ناقض بعد بحث واسع فيها، قال القاضي: "جرى بحث واسع هذه الليلة في مسألة المستحاضة، وحكم رطوبات فرج المرأة، ومن به سلس بول

إن رطوبات فرج المرأة

غير ناقضة للوضوء، وهو ما جزم على الفتيا به هذه الأيام، وفاقًا لابن حزم، وأن ذلك بمنزلة الريق في الفم، والدمع في العين"

(3)

.

(1)

لقاءات الباب المفتوح، لابن عثيمين، اللقاء (214) في اليوم السادس من شهر جمادى الثانية عام (1420 هـ)

(2)

انظر: ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (52).

(3)

ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (53).

ص: 59

وقد أنكر أحد الباحثين نسبة عدم النقض لابن عثيمين، فقال: "هذا القول المنسوب للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله لا تظهر لنا صحة نسبته إليه، وغاية ما هنالك أنه علق على بحث حول الموضوع للدكتورة رقية المحارب بما عبارته: راجعته فرأيت أقوى دليل على أن الرطوبة لا ينتقض بها الوضوء أن الأصل عدم النقض إلا بدليل

(1)

. انتهى. وهذا لا يفيد أنه يفتي بهذا القول بحال، وهذه فتاواه المسموعة والمكتوبة ليس فيها تصريح منه رحمه الله بأنه يتبنى هذا القول ويفتي به، بل فيها التصريح بعكس ذلك"

(2)

، وقال أحد طلبة الشيخ: "عامة أهل العلم أن رطوبة فرج المرأة تنقض الوضوء، وهو ما اختاره شيخنا رحمه الله وإن كان في آخر عمره رحمة الله عليه يسأل ويبحث: هل ثمة أحد من أهل العلم قال بهذا القول؟ وكان رحمه الله بوده لو أن أحدًا قال بهذا القول حتى يفتي بالجواز، وبعضهم قد نقل في الفترة الأخيرة أن الشيخ كان

(1)

انظر: حكم الرطوبة، لرقيّة المحارب، وكلام الشيخ مكتوب على غلاف البحث بخطه.

(2)

موقع إسلام ويب، مركز الفتوى، فتوى: هل غير العلامة ابن عثيمين فتواه حول انتقاض الوضوء برطوبة فرج المرأة؟

ص: 60

يفتي بعدم نقض الوضوء من رطوبة فرج المرأة، ونقلت إحدى الباحثات في كتاب لها، أن الشيخ رحمه الله كان يفتي بعدم النقض

(1)

، لكن الذي أعرفه من كلامه رحمة الله عليه، أنه مات وهو يرى النقض، كقول الجمهور، ولا أعرف أحدًا ذكر أنه لا ينقض الوضوء إلا هذه الباحثة في كتابها، وأما البقية فإنهم ينقلون عن الشيخ عدم النقض"

(2)

.

ولعل العذر لهذين الباحثين أن الشيخ غيَّر رأيه في آخر حياته، وفتواه في كتاب لقاءات الباب المفتوح، وثمرات التدوين قبل وفاته بسنة وأشهر قليلة، فلعل الباحثين لم يعلما بذلك، خصوصًا أن الذي يبحث عن رأي الشيخ في هذه المسألة يرجع لشروحاته على المتون العلمية أو مجموع الفتاوى -وليس فيها إلَّا رأيه الأول-، ونادرًا ما يرجع الباحث لمثل هذين الكتابين، إضافة إلى تأخر طبعهما، وأما صحة نسبة القول للشيخ فلا شك فيها، ففي لقاءات الباب المفتوح نقلت

(1)

انظر: حكم الرطوبة، لرقيّة المحارب، وكتبت الباحثة على ورقة الغلاف:"راجعه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وأقر ما جاء فيه على غلاف البحث بخطه".

(2)

شرح كتاب زاد المستقنع، لفهد المطيري، كتاب الطهارة (2)، ص 131.

ص: 61

كلامه بنفسه الذي بيّن فيه تراجعه عن قوله الأول، وفي ثمرات التدوين نقلت كلام تلميذه أحمد القاضي وقد نقل عن شيخه أن رطوبة فرج المرأة غير ناقضة للوضوء، ثم قال:"وهو ما جزم على الفتيا به هذه الأيام، وفاقًا لابن حزم"

(1)

.

‌المطلب الرابع: أكثر مدة النفاس.

نُقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن أكثر مدة النفاس أربعون يومًا، وإنما جاء الخلاف بعدهم، قال الجوهري:"وأجمع الصحابة أن أكثر مدة النفاس إذا لم ينقطع الدم أربعون يومًا، وإنما جاء الخلاف بعدهم"

(2)

، وقال ابن عبدالبر:"قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَقْصَى مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِذِ بْنِ عُمَرَ وَالْمُزَنِيِّ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ عليه السلام وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ صَحَابَةٌ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِيهِ"

(3)

، وقال

(1)

ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (53).

(2)

نوادر الفقهاء، للجوهري صـ 52 - 53.

(3)

الاستذكار، لابن عبدالبر 1/ 354.

ص: 62

ابن رجب: "أكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً، وحكاه بعضهم إجماعاً من الصحابة، قالَ إسحاق: هوَ السنة المجمع عليها

قالَ الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة إنما قاله بعض من بعدهم. وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد. "

(1)

.

ومع أن القول بأن أكثر مدة النفاس ستون يومًا لم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم وإنما جاء بعدهم فقد أخذ به كثير من الفقهاء وهو مذهب المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، ورواية عند الحنابلة

(4)

، واختيار ابن عثيمين

(5)

، والإجماع الذي نُقل عن الصحابة رضي الله عنهم إجماع سكوتي، وهو-على الخلاف في حجيته- ظني، وليس قطعيًا.

واختار ابن حزم أن أكثر مدة النفاس سبعة أيام

(6)

، وهو قول لم يسبق إليه، قال ابن رجب: "وقد اعتمد ابن حزم على هَذا

(1)

فتح الباري، لابن رجب 2/ 188.

(2)

انظر: الشرح الصغير، للدردير 1/ 217.

(3)

انظر: نهاية المحتاج، للرملي 1/ 357.

(4)

انظر: الإنصاف، للمرداوي 1/ 383.

(5)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 512.

(6)

انظر: المحلى، لابن حزم 1/ 413.

ص: 63

الحديث في ان الحائض والنفاس مدتهما واحدة، وأن أكثر النفاس كأكثر الحيض، وَهوَ قول لَم يسبق إليه، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي على أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه"

(1)

. والحديث الذي اعتمد ابن حزم عليه هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج: " «مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟» قالت: نعم"

(2)

، وكذا قول أم سلمة رضي الله عنها:"بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ، إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، قَالَ: «أَنُفِسْتِ» قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ"

(3)

، قال ابن حزم: "لَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَسَبْعَةُ أَيَّامٍ لَا مَزِيدَ

إنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ حَيْضٌ صَحِيحٌ، وَأَمَدُهُ أَمَدُ الْحَيْضِ وَحُكْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حُكْمُ الْحَيْضِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنُفِسْتِ» بِمَعْنَى حِضْتِ فَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ"

(4)

.

(1)

فتح الباري، لابن رجب 2/ 24.

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض، بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الحَيْضِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» ، برقم (294).

(3)

رواه البخاري، كتاب الحيض، بَابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا، وَالحَيْضَ نِفَاسًا، برقم (298).

(4)

المحلى، لابن حزم 1/ 413 - 415.

ص: 64

وهذا القول من ابن حزم لم يأخذ به أحد، قال الشيخ عبدالكريم الخضير: "وأغرب ابن حزم حيث زعم أن النفاس كالحيض، أكثره سبعة أيام

وهذا لا شك أنه قول غريب لا حظ له من النظر ولا الأثر"

(1)

.

‌المطلب الخامس: لا إعادة على من ترك الصلاة عمدًا.

اختار الحسن البصري أن تارك الصلاة عمدًا لا قضاء عليه، قال الإمام أحمد:" فَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ"

(2)

.

واختار ابن حزم أنه لا يقضي

(3)

، قال ابن عبد البر: "وَقَدْ شَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَقْدَمَ عَلَى خِلَافِ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا

فَخَالَفَهُ فِي

(1)

شرح سنن الترمذي، لعبدالكريم الخضير، الدرس (27). موجود في المكتبة الشاملة.

(2)

تعظيم قدر الصلاة، للمروزي 2/ 975.

(3)

انظر: المحلى، لابن حزم 2/ 10.

ص: 65

الْمَسْأَلَةِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَتِرُ فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ شَذَّ فِيهَا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ"

(1)

.

واختار رأي الحسن وابن حزم كلٌ من ابن تيمية

(2)

، وابن باز

(3)

، وابن عثيمين

(4)

، والألباني

(5)

، واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء

(6)

، فرأوا أن الذي يترك الصلاة متعمدًا لا قضاء عليه.

‌المطلب السادس: اشتراط الطهارة للصلاة في مرابض الغنم.

اختار الإمام الشافعي للصلاة في مرابض الغنم أن تكون طاهرة من أبوالها وأبعارها، "قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، إلَّا الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا"

(7)

.

(1)

الاستذكار، لابن عبدالبر 1/ 78.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 22/ 40 - 41.

(3)

انظر: مجموع فتاوى ابن باز 10/ 312.

(4)

انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 12/ 93.

(5)

انظر: الثمر المستطاب، للألباني، ص 105.

(6)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 6/ 48 - 49. الفتوى رقم (3122)

(7)

المغني، لابن قدامة 2/ 65 - 66. وانظر: الإجماع، لابن المنذر، ص 37.

ص: 66

والذي اختاره الإمام الشافعي هو مذهب الشافعية

(1)

. قال النووي: " فَإِذَا صَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ أَوْ مُرَاحِ الْغَنَمِ وَمَاسَّ شَيْئًا مِنْ أَبْوَالِهَا أَوْ أَبِعَارِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ النجسات بَطَلَتْ صَلَاتُهُ"

(2)

، وقال الرملي:"وَمَتَى كَانَ بِمَحَلِّ الْحَيَوَانِ نَجَاسَةٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا"

(3)

.

والأئمة رفضوا قول الشافعي؛ لأنهم رأوا أنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي جاء فيها جواز الصلاة في مرابض الغنم

(4)

، وهي "لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا"

(5)

، والشافعي لا يرى في قوله مخالفة للأحاديث بل يرى أنه آخذ بها فقد ذكر الشافعي الحديث ثم قال:"وَبِهَذَا نَأْخُذُ"

(6)

، لكن الشافعي

(1)

انظر: الأم، للشافعي 1/ 113 المجموع، للنووي 3/ 161، نهاية المحتاج، للرملي 2/ 64.

(2)

المجموع، للنووي 3/ 161.

(3)

نهاية المحتاج، للرملي 2/ 64.

(4)

انظر: صحيح البخاري، أبواب استقبال القبلة، باب الصلاة في مرابض الغنم، برقم (429)، صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم (360).

(5)

المغني، لابن قدامة 2/ 66.

(6)

الأم، للشافعي 1/ 113.

ص: 67

يخالف في المفهوم، فهو يقول: "وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مُرَاحِ الْغَنَمِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ أَنَّ النَّاسَ يُرِيحُونَ الْغَنَمَ فِي أَنْظَفِ مَا يَجِدُونَ مِنْ الْأَرْضِ

فَالْمُرَاحُ مَا طَابَتْ تُرْبَتُهُ وَاسْتُعْمِلَتْ أَرْضُهُ

فَأَمَرَ أَنْ يُصَلَّى فِي مُرَاحِهَا يَعْنِي - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مُرَاحِهَا الَّذِي لَا بَعْرَ فِيهِ وَلَا بَوْلَ

وَلَا يَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ مَعْنًى غَيْرَهُمَا"

(1)

.

‌المطلب السابع: رفع الإمام صوته بالتكبير.

اختار ابن عثيمين أن جهر الإمام بالتكبير واجب

(2)

، قال الدكتور أحمد الخليل:"لم أقف على من سبقه"

(3)

، واختار الوجوب بعض طلاب الشيخ ابن عثيمين

(4)

، وقال الدكتور أحمد الخليل: "الفقهاء يذكرون الاستحباب، فإذا لم يثبت

(1)

الأم، للشافعي 1/ 113.

(2)

انظر: الممتع، للعثيمين 3/ 33.

(3)

صفة الصلاة، لأحمد الخليل، ص 33.

(4)

شرح كتاب زاد المستقنع، لخالد المشيقح، موجود في النت، شرح كتاب الصلاة (9)، شرح الروض المربع، لسامي الصقير 2/ 74، شرح كتاب زاد المستقنع، لفهد المطيري، كتاب الصلاة (1)، ص 255.

ص: 68

الإجماع، وصار في المسألة خلاف، فإن الراجح ما قاله شيخنا من أن هذا واجب وليس سنة فقط؛ لأنه لا يحصل الاقتداء والائتمام على الوجه المطلوب إلا بالجهر بالتكبير وإسماع المصلين

إن الأدلة التي ذكرها شيخنا قوية جدًا وواضحة؛ لكن يُشكل عليه أني لم أقف على من سبقه كما أسلفنا القول"

(1)

.

‌المطلب الثامن: الإشارة بالسبابة بين السجدتين

اختار ابن عثيمين أنه يشرع الإشارة بالسبابة بين السجدتين

(2)

، قال الشيخ بكر أبو زيد:"لم يصرح بمشروعية الإِشارة بين السجدتين أَحد من علماء السلف، وَلَمْ تُعْقد أَي ترجمة على مقتضاها، وعمل المسلمين المتوارث على عدم الإِشارة والتحريك بين السجدتين"

(3)

.

وقال الشيخ عبدالله الفوزان: "لم يصرح بمشروعيتها أحد من السلف، ولا يوجد في كتب الحديث أي ترجمة لها، ولم

(1)

صفة الصلاة، لأحمد الخليل، ص 32 - 33.

(2)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 3/ 128.

(3)

لا جديد في أحكام الصلاة، لبكر أبو زيد، ص 41.

ص: 69

تذكر في كتب الفقه، وهذا يدل على أنه لم يرد نص صريح في مشروعيتها"

(1)

.

وقال الشيخ عبدالعزيز الطريفي: "والجلسة بين السجدتين يجب فيها الطمأنينة، ولا يشرع فيها الإشارة بالسبابة، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، ولا أحد من الصحابة، وقال بمشروعية ذلك بعض الفقهاء من المتأخرين"

(2)

.

بل عدَّه الشيخ سليمان العلوان من محدثات العصر، فقال:"من محدثات هذا العصر أيضًا الإشارة بالسبابة بين السجدتين، وغير خافٍ علي أن بعض المتأخرين ممن آتاه الله علمًا قال بهذا القول، لكنه غلط ولا أصل له، ولا قال به أحد من السلف"

(3)

.

وقد ذكر ابن عثيمين أن ابن القيم سبقه لذلك وأنه ذهب لمشروعية الإشارة بين السجدتين

(4)

، فقد قال: "ولي سلف

(1)

فقه الدليل، لعبدالله الفوزان 1/ 403 - 404.

(2)

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعبدالعزيز الطريفي، ص 134.

(3)

نفائس ولطائف من جلسات الشيخ سليمان العلوان، لعبدالكريم آل عبدالله، موقع ملتقى أهل الحديث.

(4)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 3/ 128، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 13/ 193.

ص: 70

من أهل العلم وهو ابن القيم - رحمه الله تعالى - في زاد المعاد فقد صرح أن وضع اليدين بين السجدتين كوضعهما في التشهدين"

(1)

، وقال: "وكنت أرى فيما سبق أن اليد اليمنى تكون مبسوطة بين السجدتين، وتكون في التشهد الأول والثاني مضمومة، وأقول: إن من حكمة الشارع أنه جعل لكل جلسة خصيصة

وهذا قياس نظري، وسبق أن ذكرنا أن لهذا المعنى القوي أخذ به الفقهاء رحمهم الله، لكن لما رأيت صاحب زاد المعاد ابن القيم-رحمه الله ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يضع اليد اليمنى بين السجدتين كما يضعها في التشهد واستدل بحديث وائل بن حجر رضي الله عنه

قلت: النص مقدم على القياس"

(2)

.

وابن القيم لم يصرح بذلك إنما ساق حديث وائل بن حجر عند كلامه عن الجلوس بين السجدتين

(3)

، قال الشيخ بكر أبو زيد: "وابن القيم - رحمه الله تعالى - لما ساق رواية وائل رضي الله عنه في سياق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الجلوس بين السجدتين، استروح من هذا السياق بعض المعاصرين: أَنْ ابن القيم - رحمه الله تعالى - يقول

(1)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 13/ 193.

(2)

فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 3/ 350.

(3)

انظر: زاد المعاد، لابن القيم 1/ 230 - 231.

ص: 71

بالإِشارة بين السجدتين، وهذا غير مسلَّم به: فإِنَّه لم يصرح بهذا على عادته، وإِنما اقتصر على ذكر لفظ الرواي، ثم قال:(هكذا قال وائل بن حجر عنه)، ففيه إِشارة إِلى أَنْ في النفس شيء منه، ولهذا ساق مرة أَخرى في: سياق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأَول للتشهد، وقال مشيراً إليه:(كما تقدم في حديثِ وائل بن حُجْر). ففي هذا إِلماح إِلى أَنْ هذا هو محل الإِشارة ولهذا أَيضاً فإِنه لما ساق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في التشهد الأَخير: ذكر حديث وائل، وقال:(وهو في السنن). فنسبة القول بالتحريك بين السجدتين إِلى ابن القيم غلط عليه"

(1)

.

وقال أحد الباحثين: "وكلام ابن القيم المنقول آنفاً وإن كان ابتداء عن الجلوس بين السجدتين إلا أنه لا يفهم منه أن الإشارة بالإصبع تكون في هذا الجلوس، بل في جلوس التشهد لأن الأحاديث التي ساقها أو أشار إليها وفيها الإشارة بالإصبع كحديث ابن عمر وحديث وائل ابن حجر، إنما هي في الجلوس للتشهد لا في الجلسة بين السجدتين

وبتتبعنا

(1)

لا جديد في أحكام الصلاة، لبكر أبو زيد، ص 39 - 40.

ص: 72

لكلام ابن القيم في الجلوس بين السجدتين من خلال كتبه الأخرى لم نجده يذكر الإشارة فيه، وإنما ذكر ذلك حال التشهدين الأول والأخير

مما تقدم يتضح أن ابن القيم لم ينص في كلامه على أن الجلوس بين السجدتين يكون فيه الإشارة بالإصبع، ولا نعلم أحداً من الأئمة المتقدمين قال بذلك، وأما تحريكها في هذا الموضع فقد جزم الشيخ الألباني رحمه الله في تمام المنة

(1)

: بأنه لم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

وفي تتبع أراء بعض طلاب الشيخ ابن عثيمين وجد أن منهم من رجح رأي شيخه

(3)

، ومنهم من رجح القول الذي عليه عامة أهل العلم

(4)

، ومنهم من ذكر أنها تفعل أحيانًا

(5)

،

(1)

انظر: تمام المنة، للألباني، ص 214 - 218.

(2)

فتوى بعنوان: موقف ابن القيم من الإشارة بالإصبع بين السجدتين، موقع إسلام ويب، مركز الفتوى.

(3)

انظر: شرح الروض المربع، لسامي الصقير 2/ 113.

(4)

انظر: صفة الصلاة، لأحمد الخليل، ص 193.

(5)

انظر: موقع الشيخ خالد المصلح، فتوى بعنوان: الإشارة بالسبابة بين السجدتين.

ص: 73

ومنهم من ذكر رأي شيخه ولم يرجح لكنه قال: "الناقلون لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا أنه يشير بأصبعه عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع، وعليه عامة أهل العلم

وممن شهر القول شيخنا رحمه الله، فكان يشير بين السجدتين"

(1)

.

‌المطلب التاسع: فرضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.

اختار الشافعي أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فرض

(2)

، قال الخطابي: "إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة في الصلاة

وعلى هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ الشافعي فإنه قال الصلاة على النبي في التشهد الأخير واجبة فإن لم يصل عليه بطلت صلاته

ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة"

(3)

، وقال القاضي عياض:"وَالدَّليل عَلَى أنَّهَا لَيْسَت من فُرُوض الصَّلَاة عَمَل السَّلَف الصَّالِح قَبْل الشَّافِعِيّ وَإجْمَاعُهُم عَلَيْه"

(4)

،

(1)

شرح كتاب زاد المستقنع، لفهد المطيري، كتاب الصلاة (1)، ص 303 - 304.

(2)

انظر: الأم، للشافعي 1/ 140.

(3)

معالم السنن، للخطابي 1/ 227.

(4)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض 2/ 63.

ص: 74

وقال ابن القطان: "ولا أعلم أحدًا أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجوب فرض في التشهد الآخر، إلا الشافعي ومن سلك سبيله"

(1)

.

وما اختاره الشافعي هو مذهب الشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

، واختيار ابن باز

(4)

، والألباني

(5)

، واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء

(6)

، وهم بين إنها واجبة أو ركن، وذكر الرملي أن "إيجَابُهَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً"

(7)

.

(1)

الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان 1/ 136.

(2)

انظر: نهاية المحتاج، للرملي 1/ 519.

(3)

انظر: الإنصاف، للمرداوي 2/ 116 - 117.

(4)

انظر: اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية، لخالد آل حامد 1/ 478 - 482. ولابن باز قول كقول الجمهور أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سنة ذكره المؤلف آل حامد ثم ذكر في آخر المسألة أن الأقرب من أقوال الشيخ هو القول بالوجوب، وذكر بعض الأسباب التي جعلته يميل لذلك.

(5)

انظر: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، للألباني 3/ 997.

(6)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 17/ 13. الفتوى رقم (6744).

(7)

نهاية المحتاج، للرملي 1/ 524.

ص: 75

‌المطلب العاشر: وجوب الوتر.

اختار الإمام أبو حنيفة أن الوتر واجب، وقال ابن المنذر عن هذا القول:"لَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى مَا قَالَ"

(1)

. وقد اختلفت الروايات عن الإمام أبي حنيفة لكن غالب أصحابه أخذوا برواية الوجوب

(2)

، واختارها المتأخرون منهم

(3)

، وقالوا عنها بأنها:"آخِرُ أَقْوَالِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ"

(4)

، و"الْأَصَحُّ"

(5)

، "وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ"

(6)

.

والقول بوجوب الوتر رواية عن الإمام أحمد

(7)

، واختارها ابن تيمية عَلَى مَنْ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ

(8)

.

(1)

الأوسط، لابن المنذر 5/ 167.

(2)

انظر: المبسوط، للسرخسي 1/ 155، بدائع الصنائع، للكاساني 1/ 270 - 271.

(3)

انظر: حاشية ابن عابدين 2/ 4، حاشية الطحطاوي، ص 374، منهاج الراغب، لأبي بكر الملا الأحسائي، ص 171، اللباب في شرح الكتاب، لعبدالغني الغنيمي 1/ 75،

(4)

حاشية ابن عابدين 2/ 4.

(5)

حاشية الطحطاوي، ص 374.

(6)

حاشية ابن عابدين 2/ 4، اللباب في شرح الكتاب، لعبدالغني الغنيمي 1/ 75.

(7)

انظر: الإنصاف، للمرداوي 2/ 166.

(8)

انظر: الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص 96.

ص: 76

‌المطلب الحادي عشر: صلاة التطوع مضطجعًا من غير عذر.

اختار الحسن البصري جواز صلاة التطوع مضطجعًا دون عذر

(1)

، قال ابن تيمية:"وَلَا يُعْرَفُ لِصَاحِبِهِ سَلَفُ صِدْقٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى؛ فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مَرَضَ بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا وَعَلَى الرَّاحِلَةِ؛ لَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ تَعْلَمُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ"

(2)

، وقال:"وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ فَعَلَ ذَلِكَ"

(3)

، وقال:"وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ مُضْطَجِعًا بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ"

(4)

.

(1)

انظر: سنن الترمذي 2/ 209. رقم (372).

(2)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 7/ 36.

(3)

المرجع السابق.

(4)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 23/ 242.

ص: 77

ومذهب الشافعية وقول عند الحنابلة أنه يجوز التطوع مضطجعًا من غير عذر

(1)

، قال ابن تيمية:"وَجَوَازُهُ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد"

(2)

، وقال "وَقد طرد ذَلِك طَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيره وجوزوا التَّطَوُّع مُضْطَجعا لمن هُوَ صَحِيح وَهُوَ قَول مُحدث بِدعَة"

(3)

.

وقد ذكر ابن عثيمين حديث: «إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ»

(4)

، ثم قال:"وهو يدل على جواز التنفل مضطجعًا، وقد نقله ابن مفلح عن الحسن البصري، وقال: هو مذهب حسن، ونقله ابن هانئ عن أحمد، واختاره بعض الأصحاب، وهو الأصح للشافعية"

(5)

.

وقال: "وذهب بعضُ العلماء: إلى الأخذ بالحديث. وقالوا: يجوز أنْ يتنفلَ وهو مضطجع، لكن أجره على النصف من أجر صلاة القاعد، فيكون على الرُّبع مِنْ أجر

(1)

انظر: المجموع، للنووي 3/ 276، نهاية المحتاج، للرملي 1/ 471، الإنصاف، للمرداوي 2/ 189.

(2)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 7/ 36.

(3)

مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 58.

(4)

رواه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، برقم (1115).

(5)

البيان الممتع، لابن عثيمين، ص 139.

ص: 78

صلاة القائم، وهذا قولٌ قويٌّ؛ لأن الحديث في صحيح البخاري، ولأنَّ فيه تنشيطاً على صلاة النَّفل؛ لأن الإنسان أحياناً يكون كسلاناً وهو قادر على أنْ يُصلِّي قاعداً؛ لكن معه شيء مِنْ الكسل؛ فيُحِبُّ أنْ يُصلِّي وهو مضطجعٍ، فمن أجل أنْ ننشِّطَهُ على العمل الصَّالح نَفْلاً نقول: صَلِّ مضطجعاً، وليس لك إلا رُبع صلاة القائم، ونصف صلاة القاعد، ولهذا رَخَّصَ العلماءُ في صلاة النَّفل أن يشرب الماء اليسير من أجل تسهيل التطوُّع عليه، والتطوُّع أوسع من الفرض"

(1)

.

‌المطلب الثاني عشر: الحضور بعرفة ليلًا.

اختار الإمام مالك أن الحضور بعرفة ليلًا ركن، ولا يكفي الوقوف نهارًا، فمن لم يحضر ليلًا فاته الحج، قال ابن عبدالبر:"وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ إِنَّ مَنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَلَا حَجَّ لَهُ وَهُوَ قَدْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَا رُوِّينَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ"

(2)

.

(1)

الممتع، لابن عثيمين 4/ 81.

(2)

التمهيد، لابن عبدالبر 10/ 21.

ص: 79

والذي اختاره الإمام مالك هو المذهب عند المالكية

(1)

، قال الدردير عن الحضور بعرفة ليلة النحر:"هُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا، فَلَا يَكْفِي الْوُقُوفُ نَهَارًا"

(2)

، قال ابن رشد الحفيد:"وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّيْلَ احْتَجَّ بِوُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ"

(3)

.

‌المطلب الثالث عشر: طواف القدوم للمتمتع.

اختار الإمام أحمد أنه يندب للمتمتع أن يطوف القدوم قبل طواف الزيارة

(4)

، قال ابن قدامة: "وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الطَّوَافِ

بَلْ الْمَشْرُوعُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِلزِّيَارَةِ

؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم - أَحَدًا"

(5)

.

(1)

انظر: الشرح الصغير، للدردير 2/ 53، منح الجليل، لعليش 2/ 254.

(2)

الشرح الصغير، للدردير 2/ 53.

(3)

بداية المجتهد، لابن رشد 2/ 114.

(4)

انظر: المغني، لابن قدامة 3/ 392. قال ابن قدامة:"وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ، إذَا لَمْ يَكُونَا أَتَيَا مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا طَافَا لِلْقُدُومِ، فَإِنَّهُمَا يَبْدَآنِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا"

(5)

المغني، لابن قدامة 3/ 392 - 393.

ص: 80

والذي اختاره الإمام أحمد هو المذهب عند الحنابلة

(1)

، قال المرداوي:"وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ"

(2)

. وقال ابن قدامة: "فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله: فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِنًى أَعْنِي الْمُتَمَتِّع كَمْ يَطُوفُ وَيَسْعَى؟ قَالَ: يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ، وَيَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِلزِّيَارَةِ، عَاوَدْنَاهُ فِي هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَثَبَتَ عَلَيْهِ

وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، فَطَافُوا طَوَافًا، آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. فَحَمَلَ أَحْمَدُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُمْ لِحَجِّهِمْ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ مَشْرُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ تَعَيُّنُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُسْقِطًا لَهُ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ"

(3)

.

(1)

انظر: منتهى الإرادات، لابن النجار 2/ 165، كشاف القناع، للبهوتي 2/ 405.

(2)

الإنصاف، للمرداوي 4/ 43.

(3)

المغني، لابن قدامة 3/ 392.

ص: 81

‌المطلب الرابع عشر: الجماع في الحج.

اختار الشوكاني أن الجماع لا يبطل الحج، فقد قال:"لا دليل على ان الجماع عمدًا مبطل للحج فكيف يبطل الجماع سهوًا أو جهلًا"

(1)

، وقال:"فمن وطئ قبل الوقوف أو بعده، قبل الرمي، أو قبل طواف الزيارة؛ فهو عاصٍ يستحق العقوبة، ويُغفر له بالتوبة، ولا يبطل حجُّه، ولا يلزمه شيء، ومن زعم غير هذا فعليه الدليل المرضي"

(2)

.

وهو قول لم يسبق إليه، قال ابن قدامة: "أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فَقَالَ: إنِّي وَقَعْت بِامْرَأَتِي، وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ. فَقَالَ: أَفْسَدْت حَجَّك

وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. لَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا".

(1)

السيل الجرار، للشوكاني 2/ 205.

(2)

وبل الغمام، للشوكاني 1/ 566.

ص: 82

وقال ابن حزم: "وَاتَّفَقُوا أَنْ جماع النِّسَاء فِي فروجهن ذَاكِرًا لحجه يفْسخ الاحرام وَيفْسد الْحَج"

(1)

، وقال ابن القطان:"وأجمعوا أن من وطئ قبل وقوفه بعرفة فقد أفسد حجه"

(2)

، وقال الشنقيطي: "ولا خلاف بينهم أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام، إلا الجماع خاصة

وإذا علمت أقوال أهل العلم في جماع المحرم، ومباشرته بغير الجماع، فاعلم أن غاية ما دل عليه الدليل: أن ذلك لا يجوز في الإحرام; لأن الله تعالى نص على ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، أما أقوالهم في فساد الحج وعدم فساده، وفيما يلزم في ذلك، فليس على شيء من أقوالهم في ذلك دليل من كتاب ولا سنة، وإنما يحتجون بآثار مروية عن الصحابة. ولم أعلم بشيء مروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا منقطعًا لا تقوم بمثله حجة"

(3)

فذكره وبيَّن علّته، ثم ذكر الآثار التي صحت عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ثم

(1)

مراتب الإجماع، لابن حزم، ص 42.

(2)

الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان 1/ 257.

(3)

أضواء البيان، للشنقيطي 5/ 29 - 34.

ص: 83

قال: "فهذه الآثار عن الصحابة وبعض خيار التابعين هي عمدة الفقهاء في هذه المسألة"

(1)

.

ووافق القنوجي الشوكاني في اختياره ونقل نص كلامه السابق في وبل الغمام

(2)

، وفسر محمد رشيد رضا الرفث في قوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، بقوله: "إِنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ

وَيَكُونُ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فِي بَعْضِهَا لِلتَّحْرِيمِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ لَا يُفْسِدُ النُّسُكَ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ لِلْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الصَّرِيحِ فِي أُمُورِ الْوِقَاعِ"

(3)

.

واختار هذا الرأي من المعاصرين الشيخ عبدالمحسن العبيكان، فقال: "أما الوطء فهو من المحظورات، ولم يثبت فيه فدية معينة، وقد أوجب جمع من العلماء فيه الدم

ولم أجد لهم ما يصح الاستدلال به؛ ولذا أرى أنه لا يفسد حجه، وعليه

(1)

أضواء البيان، للشنقيطي 5/ 29 - 34.

(2)

انظر: الروضة الندية، للقنوجي 1/ 565.

(3)

تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا 2/ 182.

ص: 84

في كل الأحوال الفدية الواردة في حديث كعب بن عجرة المتقدم

(1)

؛ قياسًا على سائر المحظورات"

(2)

.

‌المطلب الخامس عشر: إدخال المحلل في السبق.

اختار سعيد بن المسيب أنه لا يصح السبق بين اثنين إلا بإدخال محلل بينهما

(3)

، قال ابن القيم:"والقول بالمحلِّل مذهبٌ تلقَّاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة، فلا يحفَظُ عن أحد منهم قطُّ أنه اشترط المحلِّل، ولا راهن به، مع كثرة تناضلهم ورهانهم، بل المحفوظ عنهم خلافه"

(4)

،

(1)

وهو: عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟» ، قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ» . رواه البخاري، أَبْوَابُ المحصرِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).

(2)

إجابة السائل على أهم المسائل والبحوث والرسائل، لعبدالمحسن العبيكان، ص 240.

(3)

انظر: المغني، لابن قدامة 9/ 472.

(4)

الفروسية، لابن القيم 1/ 90.

ص: 85

وقال: " قال شيخِ الإسلام: وما علمتُ بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلِّل"

(1)

.

ومع هذا فإن اشتراط المحلل لجواز السبق هو مذهب الحنفية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

، والظاهرية

(5)

.

‌المطلب السادس عشر: عقوبة المدين المماطل بدفع غرامة مالية للدائن.

اختار الشيخ مصطفى الزرقا أنه يجوز تغريم المدين المماطل غرامة مالية يدفعها للدائن مقابل الضرر الناتج عن فوات الربح، أو وقوع ضرر حقيقي، ولم يسبق إلى هذا القول، فقد قال: "لم يعالج فقهاء المذاهب فيما أعلم قبلًا هذه المسألة - أعني تعويض الدائن عن تأخير الوفا. المستحق في المداينات - ولم يبحثوها، مرد ذلك في تقديري إلى ثلاثة أمور: الأول: لم يكن لهذا الأمر من

(1)

الفروسية، لابن القيم 1/ 95.

(2)

انظر: حاشية ابن عابدين 6/ 403.

(3)

انظر: نهاية المحتاج، للرملي 8/ 168.

(4)

انظر: المغني، لابن قدامة 9/ 471.

(5)

انظر: المحلى، لابن حزم 5/ 425.

ص: 86

الأهمية والتأثير في حركة التعامل والتجارة كما أصبح له في العصر الحاضر. الثاني: أن وصول الدائن إلى حقه عن طريق القضاء عند تأخير المدين ومماطلته كان ميسوراً وسريعاً على خلاف ما هو عليه اليوم في عصرنا الحاضر. الثالث: أن هذه المسألة فيها من الحساسية الشرعية ما يمكن أن يكون من جملة العوامل في عدم بحثها، وهي خوف الوقوع في الربا"

(1)

.

ولم يُسلِّم له جمهور الفقهاء المعاصرين هذا الرأي، وقوله أن الفقهاء لم يبحثوها، بل بحثوها ولم يفردوها؛ لأنها داخلة عندهم في عموم الربا، فيكون هو أول من قال بهذا الرأي.

وقد صدر برفضه عدد من قرارات المجامع، والهيئات العلمية، فقد جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشر عام 1409 هـ ما نصه: "إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغًا من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة إذا تأخر

(1)

وقد نشر بحثه لأول مرة في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، مركز النشر العلمي في جامعة الملك عبد العزيز، العدد الثاني، 1405 هـ صـ 89.

ص: 87

عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو قرض باطل، ولا يجب الوفاء به بل ولا يحل، سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره؛ لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه"

(1)

.

وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السادسة المتعلق ببيع التقسيط ما يلي: "ثالثًا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين، بشرط سابق أو بدون شرط؛ لأن ذلك رباً محرم. رابعًا: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء"

(2)

، وجاء في معيار المدين المماطل المعتمد من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ما يلي: " (ب) لا يجوز اشتراط التعويض ا

(1)

قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، الأمانة العامة، من دورته الأولى عام 1398 هـ، حتى دورته الثامنة عام 1405 ص 268.

(2)

مجلة المجمع الفقهي، العدد السادس، 1/ 447 - 448.

ص: 88

لمالي

سواء كان التعويض عن الكسب الفائت (الفرصة الضائعة)، أم عن تغير قيمة العملة. (ج) لا تجوز المطالبة القضائية للمدين المماطل بالتعويض المالي نقداً أو عيناً عن تأخير الدين"

(1)

.

وقد أخذ برأي الشيخ مصطفى الزرقا وهو جواز تعويض الدائن عما فاته من ربح، أو ما وقع عليه من خسائر كلٌ من الشيخ عبدالله بن منيع

(2)

، والدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

(3)

، والدكتور عبدالحميد السائح

(4)

، والدكتور عبد الحميد البعلي

(5)

.

(1)

المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ص 34.

(2)

انظر: بحث مطل الغني ظلم وأنه يحل عرضه وعقوبته، ضمن فتاوى وبحوث للشيخ 3/ 191.

(3)

انظر: مجلة جامعة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي، المجلد الخامس 1413 هـ، ص 70.

(4)

انظر: أعمال الندوة الفقهية الرابعة لبيت التمويل الكويتي، المنعقدة في الكويت 6 - 8 جمادى الآخرة 1416 هـ، ص 274.

(5)

انظر: أساسيات العمل المصرفي الإسلامي الواقع والآفاق، للبعلي، ص 57.

ص: 89

ورأى الدكتور زكي الدين شعبان

(1)

، والدكتور محمد زكي عبد البر

(2)

، والدكتور سليمان التركي

(3)

، بأنه لا يجوز تعويض الدائن عما فاته من ربح، ويجوز تعويض الدائن عما وقع عليه من خسائر. فأخذوا برأي الشيخ مصطفى الزرقا في التعويض عن الخسائر فقط.

‌المطلب السابع عشر: إنكاح الأب ابنته الصغيرة.

اختار ابن شبرمة أنه لَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ، قال ابن حزم:"قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ إلَّا حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ"

(4)

، قال الشيخ المعلمي:"إنه قول لم يعرف له مخالف قبل ابن شبرمة"

(5)

.

(1)

انظر: مجلة جامعة الملك عبد العزيز، عام 1409 هـ، 1/ 199.

(2)

انظر: مجلة جامعة الملك عبد العزيز، عام 1411 هـ، 3/ 61.

(3)

انظر: بيع التقسيط وأحكامه، للتركي، ص 322.

(4)

المحلى، لابن حزم 9/ 38. وقد نقل عنه ابن قدامة أن "لِغَيْرِ الْأَبِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ" المغني 7/ 41. فإذا كان لغير الأب تزويج الصغيرة فللأب من باب أولى، لكن المشهور عنه النقل الأول.

(5)

فوائد المجاميع، للمعلمي اليماني، ضمن آثار الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي 24/ 116.

ص: 90

وقد نُقل الإجماع على جواز تزويج الأب ابنته الصغيرة، قال ابن المنذر:"وأجمعوا أن نكاح الأب ابنته الصغيرة البكر جائز إذا زوجها من كفء"

(1)

، وقال ابن القطان:"وأجمعوا أن تزويج أب الصغيرة لها جائز عليها، إلا ابن شبرمة فإنه قال: لا يجوز نكاح صغيرة على حال"

(2)

.

وحكي هذا القول عن عثمان البتي أيضًا، قال الكاساني: " لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ

إن قَوْلَهُمَا خَرَجَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مَرْدُودًا"

(3)

.

واختاره الأصم، قال الجصاص: "إِنَّ لِلْأَبِ تَزْوِيجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةِ

وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا شَيْئًا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ تَزْوِيجَ الْآبَاءِ عَلَى الصِّغَارِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَصَمِّ"

(4)

.

(1)

الإجماع، لابن المنذر، ص 78.

(2)

الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان 2/ 6.

(3)

بدائع الصنائع، للكاساني 2/ 240.

(4)

أحكام القرآن، للجصاص 2/ 68.

ص: 91

واختاره من المتأخرين الشيخ ابن عثيمين، فقد قال: "ذكر بعض العلماء الإجماع على أن له أن يزوجها

وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين: لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبداً؛ لأننا إن قلنا بشرط الرضا فرضاها غير معتبر، ولا نقول بالإجبار في البالغة فهذه من باب أولى، وهذا القول هو الصواب، أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى"

(1)

.

وقوّاه الشيخ المعلمي فبعدما ناقش أدلة الجواز، قال:"ليس بيد الجمهور دليل على صحة زواج الصغيرة إلا الإجماع، ولم يثبت في المسألة إجماع إذا عرَّفنا الإجماع بما كان يعرِّفه به الشافعي وأحمد، بل غايته أنّه قول لم يُعرف له مخالف قبل ابن شبرمة، والشافعي وأحمد لا يعتبران مثل هذا إجماعًا تردُّ به دلالة السنة. فمذهب ابن شبرمة قويٌّ، والله أعلم"

(2)

.

(1)

الممتع، لابن عثيمين 12/ 58.

(2)

فوائد المجاميع، للمعلمي اليماني، ضمن آثار الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي 24/ 116.

ص: 92

‌المطلب الثامن عشر: عدة المطلقة آخر التطليقات الثلاث.

اختار أبو الحسين ابن اللبان أن المطلقة ثلاثًا إن كانت ممن تحيض أن عدتها حيضة، قال ابن كثير: "له اختيارات غريبة، وأقوال عجيبة، فمن ذلك ما حكاه أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، في كتابه رءوس المسائل، عن أبي الحسين بن اللبان من أصحابنا:

وأن المطلقة ثلاثًا إن كانت ممن تحيض استبرأت بحيضة فقط، ولا عدة عليها سواها، فإن كانت صغيرة، أو آيسة، فلا شيء عليها، وتحل للأزواج في الحال، وكذا المتوفى عنها زوجها قبل الدخول لا عدة عليها

وهذه اختيارات غريبة جدًا"

(1)

.

وقد قوى ابن تيمية أنها تعتد بحيضة واحدة لكنه اشترط ألا يكون القول مخالفًا للإجماع، فقال عن القول الأول وهو أنها تعتد بثلاث حيض:" فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا: فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ"

(2)

، وذكر البعلي أن اختيار ابن تيمية أنها تعتد بحيضة، ثم قال: "علَّق

(1)

طبقات الشافعيين، لابن كثير، ص 356.

(2)

مجموع الفتاوى لابن تيمية 32/ 342.

ص: 93

أبو العباس القول بذلك على أن لا يكون الإجماع على خلافه، وقد حكى القاضي أبو الحسين ابن الفراء القول بذلك عن ابن اللبان"

(1)

.

وتحدث ابن عبدالهادي عن فتاوى ابن تيمية فقال: "فَفِي بعض الْأَحْكَام يُفْتِي بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من مُوَافقَة أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَفِي بَعْضهَا قد يُفْتِي بخلافهم أَوْ بِخِلَاف الْمَشْهُور من مذاهبهم، وَمن اختياراته الَّتِي خالفهم فِيهَا أَوْ خَالف الْمَشْهُور من اقوالهم

وَالْقَوْل باستبراء المختلعة بِحَيْضَة وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة والمطلقة آخر ثَلَاث تَطْلِيقَات"

(2)

.

وقال ابن عثيمين: "قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان أحد قال بأن المطلقة ثلاثاً لا يلزمها إلا حيضة واحدة ـ استبراء ـ فهذا هو الحق. قال صاحب الاختيارات: إنه قد نقل عن ابن اللبان القول بذلك، وعلى هذا فيكون قولَ شيخ الإسلام،

(1)

الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص 406.

(2)

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبدالهادي، ص 338 - 339.

ص: 94

وأن المطلقة ثلاثاً تستبرأ فقط؛ لأن مقتضى النظر أن من لا رجعة عليها، لا تعتد إلا بحيضة، تُرك في المطلقة ثلاثاً؛ لأنه خلاف الإجماع"

(1)

.

وقد تكلم ابن القيم عن الذين علقوا القول على وجود قائلٍ به، فقال:"وقسم توقفوا وعلَّقوا القول، فقالوا: إن كان في المسألة إجماعٌ فهو أحق ما اتبع، وإلَّا فالقول فيها: كيت وكيت، وهو موجب الدليل، ولو عَلِم هؤلاء قائلًا به لصرحوا بموافقته، فإذا عُلم به قائلٌ، فالذي ينبغي ولا يجوز غيره أن يضاف ذلك القول إليهم؛ لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائلٌ به، وأنه لو كان به قائلٌ لصاروا إليه، فإذا ظهر به قائلٌ لم يجز أن يضاف إليهم غيرُه إلَّا على الوجه المذكور، وهذه الطريقة أسلم"

(2)

.

وسواء كان هذا القول لابن تيمية أو لابن اللبان فهو قول لم يُسبق إليه، ففي موسوعة الإجماع أحد عشر عالمًا نقلوا الإجماع أن عدتها ثلاثة قروء

(3)

، منهم ابن تيمية، فقد قال:

(1)

الممتع، لابن عثيمين 12/ 472 - 473.

(2)

انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم 2/ 580 - 581.

(3)

انظر: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، لأسامة القحطاني وآخرين 3/ 634 - 635.

ص: 95

"الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ"

(1)

.

ولم ينقل الباحث في الموسوعة خلافًا في المسألة، وقال:"تحقق الإجماع على أن عدة المطلقة الحرة ذات الحيض ثلاثة قروء؛ وذلك لعدم وجود مخالف"

(2)

. وقد سبق ذكر الخلاف، لكنه قول لم يسبق إليه، قال الدكتور أحمد الخليل:"ولم يوجد بعد البحث إلاّ مخالف واحد"

(3)

.

وقوى هذا القول ابن القيم بشرط عدم وجود إجماع، فقال:"وَقِيلَ: بَلْ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ اللَّبَّانِ؛ فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِالْإِجْمَاعِ فَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنْ لَا يُلْتَفَتَ إلَى قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَقَوْلُهُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ"

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 32/ 290.

(2)

موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، لأسامة القحطاني وآخرين 3/ 635.

(3)

شرح زاد المستقنع، لأحمد الخليل 5/ 482. موجود في المكتبة الشاملة.

(4)

إعلام الموقعين، لابن القيم 2/ 55.

ص: 96

وذكر ابن عثيمين أن المعنى والقرآن قد يدل على أن الحيضة الواحدة تكفي، وذكر له بعض الأدلة

(1)

، لكنه قال في أحد المواضع:"أن الأحوط أن تعتد للعموم"

(2)

، وفي موضع آخر قال:"والذي يظهر لي أن الأخذ بالعموم هو الأولى"

(3)

.

وقال الدكتور أحمد الخليل: "المطلقة آخر ثلاث تطليقات فهذه عند الجماهير بل حكي إجماعًا أنها تعتد بثلاثة قروء، والقول الثاني: أنها تعتد بحيضة واحدة وهو قول اختاره شيخ الإسلام وعلق القول به على وجود مخالف، وقد وجد المخالف وهو ابن اللبان رحمه الله فإنه خالف الجماهير ورأى أنها تعتد بحيضة واحدة

من حيث الدليل القول الثاني قوي ولكني أقول لا ينبغي أبدا أن تعتد المطلقة آخر ثلاث تطليقات بحيضة واحدة، أولا لأنّ الإجماع محكي ولم يوجد بعد البحث إلاّ مخالف واحد ولهذا ليس من المستساغ أبدا أن تعتد بحيضة وتتزوج بعد ذلك لأنّ الخلاف في هذه المسالة قوي والاحتياط فيه متوجه"

(4)

.

(1)

انظر: التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 386، تفسير سورة البقرة، لابن عثيمين 3/ 103.

(2)

الممتع، لابن عثيمين 13/ 383.

(3)

فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 9/ 443.

(4)

شرح زاد المستقنع، لأحمد الخليل 5/ 482. موجود في المكتبة الشاملة.

ص: 97

‌المطلب التاسع عشر: حلّ المطلقة ثلاثا لزوجها الأول.

اختار سعيد بن المسيب أن العقد وحده يكفي لحلّ المطلقة ثلاثا لزوجها الأول، ولا يشترط الجماع، قال ابن المنذر:"ولا نعلم أحداً من أهل العلم قال بقول سعيد"

(1)

، وقال ابن عبدالبر: "وَانْفَرَدَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رحمه الله مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ إِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَقَدْ حَلَّتْ بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْعَقْدُ لَا غَيْرَ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ

أَظُنُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مُتَقَدِّمُهُمْ وَمُتَأَخِّرُهُمْ فِيمَا عَلِمْتُ فَعَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ

(2)

"

(3)

.

(1)

الإشراف، لابن المنذر 5/ 238.

(2)

وهو حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ:«أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» رواه البخاري، كتاب الشهادات، بَابُ شَهَادَةِ المُخْتَبِي، برقم (2639)، ومسلم، كتاب النكاح، بَابُ لَا تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَطَأَهَا، ثُمَّ يُفَارِقَهَا وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، برقم (1433).

(3)

التمهيد، لابن عبدالبر 13/ 230.

ص: 98

ولم يوافق أحد سعيد بن المسيب على اجتهاده، قال عنه ابن تيمية:"هُوَ قَول شَاذ صحت السّنة بِخِلَافِهِ وانعقد الْإِجْمَاع قبله وَبعده"

(1)

.

وذكر القرطبي أن سعيد بن جبير وافق سعيد بن المسيب، فقال: "وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ (مَعَانِي الْقُرْآنِ) لَهُ، قَالَ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا الْجِمَاعُ

إِلَّا سَعِيدَ بن جبير"

(2)

، وتابع القرطبي بعض المعاصرين

(3)

.

ولعل في هذا النقل عن سعيد بن جبير وهمًا، فإن الذي انفرد عن أهل العلم هو سعيد بن المسيب وليس سعيد بن جبير، ولم يذكر أحد من أهل العلم-حسب بحثي المتواضع- هذا عن سعيد بن جبير إلا النحاس.

ونسب الزيلعي- وهو متأخر- هذا القول لداود الظاهري، وبشر المريسي

(4)

، ولم أجد من سبقه إلى هذا النسبة حتى

(1)

مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 449.

(2)

تفسير القرطبي 3/ 148. وانظر: معاني القرآن، للنحاس، ص 206.

(3)

موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 3/ 284.

(4)

انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي 2/ 258.

ص: 99

الظاهرية أصحاب داود لم ينسبوه له

(1)

، ولو كان قوله لاشتهر عند خصوم الظاهرية أكثر من شهرته عند أصحابه لمخالفته لظاهر الحديث، لكن لم يذكره أحد غير الزيلعي.

وقد ذكر صاحب كتاب فقه سعيد بن المسيب هذه النقول بصيغة التمريض، فقال:"ونُقل القول بعدم اشتراط الدخول عن سعيد بن جبير، وداود، وبشر المريسي"

(2)

، ولم يشر إلى غير القرطبي والزيلعي، وقد ذكر أن هذا القول اشتهر عن سعيد بن المسيب، وأشار إلى جملة من المراجع

(3)

.

وشكك ابن كثير في صحة هذا القول عن سعيد بن المسيب واستبعده، فقال:"وَاشْتُهِرَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، رحمه الله، أَنَّهُ يَقُولُ: يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَحْلِيلِهَا لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الثَّانِي. وَفِي صِحَّتِهِ عَنْهُ نَظَرٌ"

(4)

، ثم ذكر أن ابن المسيب ممن روى حديث العسيلة عن ابن عمر، ثم قال: "فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ

(1)

انظر: المحلى، لابن حزم 9/ 416.

(2)

فقه سعيد بن المسيب، لهاشم جميل 3/ 353.

(3)

انظر: فقه سعيد بن المسيب، لهاشم جميل 3/ 353.

(4)

تفسير ابن كثير 1/ 622.

ص: 100

ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، عَلَى خِلَافِ مَا يُحْكَى عَنْهُ، فَبِعِيدٌ أَنْ يُخَالِفَ مَا رَوَاهُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ"

(1)

، وقال صاحب كتاب فقه سعيد بن المسيب: "وما قاله ابن كثير حق

فلا بد من رجوعه عن قوله إلى ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(2)

وَجاء "فِي (كتاب الْقنية) لأبي الرَّجَاء مُخْتَار بن مَحْمُود الزَّاهدِيّ: إِنْ سعيد بن الْمسيب رَجَعَ عَنْ مذْهبه"

(3)

.

ونفي صحة القول أو إثبات رجوعه يحتاج إلى برهان بعدما ثبت عنه أنه قال بهذا القول، أما استبعاد ذلك لأنه روى الحديث وبعيد أن يخالف ما رواه فهو لا يعد دليلًا بيّنًا؛ لأنه قد ثبت أن بعض العلماء خالفوا بعض الأحاديث التي رووها لأدلة أخرى، كما ثبت عن الإمام مالك في حديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا

(4)

.

وقد روى ابن حزم "مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نا هُشَيْمٌ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ

(1)

المرجع السابق.

(2)

فقه سعيد بن المسيب، لهاشم جميل 3/ 353.

(3)

عمدة القاري، للعيني 20/ 236.

(4)

انظر: المدونة، للإمام مالك 3/ 222.

ص: 101

تَتَزَوَّجُ؟ قَالَ سَعِيدٌ: أَمَّا النَّاسُ فَيَقُولُونَ: يُجَامِعُهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا بِتَزْوِيجٍ صَحِيحٍ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إحْلَالًا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ"

(1)

.

فهذا دليل على أنه خالف قول الناس عن علم به، ومن المستبعد ألا يعرف دليل قول هؤلاء الناس الذي خالفهم فيه، أو أنه لا يسألهم عن دليلهم، أو يتركه الناس دون أن يذكروا له الدليل، وقد يكون خلاف سعيد ابن المسيب مع الجمهور في مفهوم الحديث فهو يرى أن المرأة في حديث العسيلة لم ترد الزواج إلَّا للتحليل، وقد روي عنه أن نية المرأة كالرجل مؤثرة في العقد، قال ابن تيمية:"وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ"

(2)

، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغلق الباب على أهل التحليل باشتراط الجماع، فإن أهل المروءات تعاف نفوسهم الأذن لزوجته أن يجامعها رجل آخر لتعود له، فقد يكون ابن المسيب يرى أن من كان نكاحه للتحليل فلا يجوز له الرجوع، وأن من تزوجها بتزويج صحيح فيكفي العقد لعموم الآية، والحديث لا يخصصها، والله أعلم.

(1)

المحلى، لابن حزم 9/ 416.

(2)

الفتاوى الكبرى، لابن تيمية 6/ 298.

ص: 102

‌المطلب العشرون: كفارة اليمين في الحلف بالطلاق.

اختار ابن تيمية أن الحالف بالطلاق لم تطلق منه امرأته وأن عليه كفارة يمين، وإن كَانَ قصد الحالف حضًا أو منعًا ولم يرد الطلاق فهي يمين، قال الذهبي: "وذهب شيخنا ابن تيمية -وهو من أهل الاجتهاد لاجتماع الشرائط فيه- أنّ الحالف عَلَى شيء بالطلاق لم تطلق منه امرأته بهذه اليمين، سواء حنث أو بر، ولكن إذا حنث في يمينه بالطلاق قَالَ: يكفر كفارة يمين، وقال: إنّ كَانَ قصد الحالف حضًا أو منعًا ولم يرد الطلاق فهي يمين، وإنّ قصد بقوله: إنّ دخلت الدار فأنت طالق، شرطًا وجزاءً فإنّها تطلق ولا بد، كما إذا قَالَ لها: إنّ أبريتني من الصداق فأنت طالق، وإن زنيت فأنت طالق. وإذا فرغ الشهر فأنت طالق، فإنها تطلق منه بالإبراء، والزنا، وفراغ الشهر، ونحو ذَلِكَ. لكن ما علمنا أحدًا سبقه إلى هذا التقسيم ولا إلى القول بالكفارة، مَعَ أنّ ابن حزم نقل في كتاب الإجماع لَهُ خلافًا في الحالف بالعتاق والطّلاق، هَلْ يكفر كفارة يمين أم لَا؟ ولكنه لم يسم من قال بالكفارة

ولم يأتنا نص عَنْ أحدٍ من البشر بكفارة لمن يحلف بالطلاق، وقد أفتى بالكفارة شيخنا ابن تيمية مدّة

ص: 103

أشهر، ثمّ حرَّم الفتوى بها عَلَى نفسه من أجل تكلم الفُقَهاء في عرضه، ثم مُنع من الفتوى بها مطلقاً"

(1)

.

وقال ابن عثيمين: "يمين الطلاق أول من نشره هو شيخ الإسلام ابن تيمية، لا يعرف يمين الطلاق في السلف

(2)

، الذي عرف هو يمين العتاق، لكن يمين الطلاق لم يكن معروفًا

أنا أقول لكم الآن لم يكن اليمين بالطلاق معروفًا ومشهورًا إلا من شيخ الإسلام فما بعد، "

(3)

.

والذي نشره ابن تيمية هو الكفارة في يمين الطلاق، أما يمين الطلاق فقد كان موجودًا من قبل كما قال ابن حزم:

(1)

تاريخ الإسلام، للذهبي 7/ 160.

(2)

قال ابن تيمية: " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ؛ بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ"، وذكر ابن القيم أنه صح عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه لَا يَقْضي بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ. انظر: مجموع الفتاوى 32/ 85، إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 75 - 76.

(3)

التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 255.

ص: 104

"وَاخْتلفُوا فِي الْيَمين بِالطَّلَاق أهوَ طَلَاق فَيلْزم أَوْ يَمِين فَلَا يلْزم"

(1)

، فالخلاف بينهم إنما كان في: هل يلزم منه الطلاق أو يكون لغو يمين فلا يلزم الطلاق ولا الكفارة؟ فجمهور العلماء على أنه يلزمه طلاق، والقول الثاني أخذ به بعض العلماء وهو أنه لا يلزمه طلاق ولا كفارة

(2)

.

وقد ذكر ابن حزم في كتابه الإجماع مجموعة من الأيمان كالحلف بِشَيْء من غير أَسمَاء الله أَوْ بنحر وَلَده أَوْ هَدْيه أَوْ نحر أَجْنَبِي أَوْ هَدْيه أَوْ بالمصحف أَوْ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِنذر أخرجه مخرج الْيَمين أَوْ بِأَنَّهُ مُخَالف لدين الإسلام أَوْ بِطَلَاق، وغيرها، ثم قال بعدها:"أيكفر أم لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ؟ "

(3)

، ولم يسم من قال بالكفارة في يمين الطلاق، وحتى في المحلى لما بحث المسألة لم يذكر أحدًا قال بالكفارة في يمين الطلاق، إنما ذكر من ألزمه بالطلاق، أو من لم يلزمه بشيء

(4)

.

(1)

مراتب الإجماع، لابن حزم، ص 159.

(2)

انظر: المحلى، لابن حزم 9/ 476 - 479.

(3)

مراتب الإجماع، لابن حزم، ص 158.

(4)

انظر: المحلى، لابن حزم 9/ 476 - 479.

ص: 105

واختار قول ابن تيمية بهذا التقسيم والكفارة الشيخ ابن باز

(1)

، والشيخ ابن عثيمين

(2)

، واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء

(3)

.

وقد ذكر أحد الباحثين في اختيارات ابن باز أنه يختار هذا التقسيم والقول بالكفارة ثم قال: "وهو مذهب الظاهرية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو قول شريح، وطاووس"

(4)

.

ويُفهم منه أن شريح وطاووس والظاهرية يقولون كالقول الذي اختاره ابن باز فيكونون أسبق بهذا القول من ابن تيمية، لكن بالرجوع للمصادر التي أحال عليها الباحث تبين أن قولهم هو عدم اعتبار الحلف بالطلاق يمينًا وأن من حلف بالطلاق لا يلزمه شيء، ولم يقل أحد منهم أن اليمين تلزمه، وأن عليه الكفارة، قال ابن حزم: "وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ - سَوَاءٌ بَرَّ أَوْ حَنِثَ - لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا طَلَاقَ إلَّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل،

(1)

انظر: فتاوى نور على الدرب، لابن باز، بعناية الشويعر 22/ 177 - 178.

(2)

انظر: فتاوى نور على الدرب، لابن عثيمين 10/ 393 - 394.

(3)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة 20/ 128 - 129. الفتوى رقم (16733).

(4)

اختيارات ابن باز الفقهية، لخالد آل حامد 2/ 1360.

ص: 106

وَلَا يَمِينَ إلَّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم "

(1)

، وجاء في إعلام الموقعين: "إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْحَانِثِ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ خَلْقٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ

وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ

فَهَؤُلَاءِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ لَا يَقْضُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ"

(2)

.

(1)

المحلى، لابن حزم 9/ 476.

(2)

إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 75 - 76.

ص: 107

‌المبحث الرابع: القول بما لم يسبق به قول بين التأصيل والتطبيق (ابن عثيمين أنموذجًا)

في مبحث التأصيل تبيّن أن العلماء اتفقوا على منع إحداث قول ثان، وأن جمهورهم يمنعون العالم أن يُحدث قولًا ثالثًا مطلقًا، لكن في مبحث التطبيقات لا تكاد تجد مجتهدًا إلا وله أقوال لم يسبق إليها، أو وافق غيره من المجتهدين على أقوال لم يسبقوا إليها، بل إن غالب التطبيقات في هذا البحث وغيره مما لم أذكره كان في إحداث أقوال ثانية، والذي اتفق العلماء على منعه، وقد ذكرت عشرين مسألة نوَّعت فيها بين أقوال الأئمة المجتهدين من المتقدمين والمعاصرين، من أئمة المذاهب وغيرهم، وتركت مسائل كثيرة

(1)

اكتفاءً من القلادة بما أحاط بالعنق.

(1)

وهي موجودة في كتب الخلاف العالي والكتب المخصصة في نقل الإجماعات فإنها تذكر الانفرادات، وكذلك الكتب التي جمعت الآراء التي حُكم عليها بالشذوذ.

ص: 109

وتبيَّن في هذه التطبيقات أنهم قد يَردُّون القول أحيانًا؛ لأنه لم يسبق إليه، ثم يقبلون قولًا لم يسبق إليه، أو يأتون به، ويحتجون أحيانا بإجماع-خصوصًا في الخلاف- ثم ينقضون مثله في مسألة أخرى، بل قد يكون في نفس المسألة كما قال ابن تيمية عن ابن حزم أنه:"ذكر إجماعات كثيرة فيها نزاع لم يعلمه، بل فيها ما قد خالفه هو أيضًا"

(1)

.

وذكر أحد الباحثين في إجماعات ابن تيمية في كتاب الطهارة أنه "حكى إجماعًا في مسألة أثناء مناقشة الخلاف، ثم خالف فيه هو رحمه الله"

(2)

، ونقل ابن عثيمين الإجماع على أن رطوبة فرج المرأة ينقض الوضوء قبل خلاف ابن حزم ثم اختار بعد ذلك قول ابن حزم

(3)

.

وهذا لا يُناقض ما سبق ذكره من أنهم يتهيبون الإقدام على قول لم يسبقوا إليه، فهم لا يقدمون إلا بعد تريث وتأمل

(1)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 624.

(2)

موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 1/ 71.

(3)

انظر: اللقاءات الشهرية، لابن عثيمين 2/ 270، لقاءات الباب المفتوح، لابن عثيمين، اللقاء (214)، ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (53).

ص: 110

ومراجعة، يقول ابن عثيمين:"إذا رأيت قولًا مخالفًا لقول الجمهور فلا تتسرع في القول به، وإن كان عندك أنه الموافق للسنة لا تتسرع حتى تُمحص المسألة وتُراجع من هنا وهناك"

(1)

، وقال:"قاعدة: إذا رأيت جمهور العلماء على خلاف أمرٍ أنت تعتقده من الحديث، فيجب عليك زيادة البحث"

(2)

، وهذا في مخالفة الجمهور، فإن كان في مخافة الجميع فهو من باب أولى.

ولكنَّ أقوالهم هذه - وإن لم تكن كثيرة - لا توافق ما أصلّوه في كتب الأصول من منع إحداث قول ثان أو ثالث، وهذا يستدعي الباحث ألَّا يكتفي بالتأصيل دون النظر للتطبيق، فإن التأصيل يراد للتطبيق، وقد استُنْبطت الأصول من فتاوى العلماء وآرائهم، وعملهم، والتطبيق العملي أحد الأدلة التي تبين قوة القول أو ضعفه

(3)

، فقد نقض بعض العلماء على الحنفية أصلهم بأنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى المنُّصُوصِ نَسْخٌ بتطبيقات عندهم

(1)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 328.

(2)

التعليق على المنتقى، للعثيمين 1/ 351.

(3)

انظر: موطأ الإمام مالك 2/ 488، مسند الشافعي 1/ 153، سنن الترمذي 2/ 80.

ص: 111

خالفوا أصلهم فيها كـ"اشْتِرَاطِهِمْ فِي ذَوِي الْقُرْبَى الْحَاجَةَ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَمُخَالَفَةٌ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فِيهِ، وَفِي أَنَّ الْقَهْقَهَةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، مُسْتَنِدِينَ لأَخْبَارٍ ضَعِيفَةٍ، وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ"

(1)

.

وكذلك لما نص الشافعية على عدم اعتبار سد الذرائع أصلًا

(2)

، رُد عليهم بأنهم أعملوها في فروعهم الفقهية

(3)

، قال الزركشي:" وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا"

(4)

.

ويَرد كثيرا في كتب الأصول: أن الأمر للوجوب، لكن لما قام ابن عثيمين بدراسة التطبيقات على ذلك، قال: "فالمسألة لا تطرد في كل شيء

وإن طردت القاعدة للوجوب اختلت وانتقضت عليك بمسائل كثيرة فيها أوامر، ولا يقال: إنها للوجوب، لكن على كل حال: العلماء في

(1)

شرح الكوكب المنير، لابن النجار 3/ 583.

(2)

الأم، للشافعي 3/ 124.

(3)

انظر: نهاية المطلب، للجويني 5/ 152، روضة الطالبين، للنووي 8/ 75.

(4)

البحر المحيط، للزركشي 8/ 90.

ص: 112

أصول الفقه أصلوا هذه القاعدة؛ لكن تطبيقها في كل مسألة جزئية فيه شيء من الصعوبة

فأنا أجد أنه يمر بنا الكثير من الأوامر، وهي عند العلماء-إما كلهم حسب علمنا، وإما أكثرهم- ليست للوجوب"

(1)

.

وهذا ما دعاه أن يعيد النظر في هذا التأصيل، فقال:"وما زلت منذ حين أتدبر وأتأمل: كيف نجد ضابطًا يضبط جميع النصوص الواردة في كل نص بعينة؟ ولم أستطع"

(2)

، ولولا نظره وتأمله في تطبيقات العلماء لهذه القاعدة لما أعاد النظر فيها، وحاول أن يجد ضابطًا يضبطها.

وعندما أنهيت المبحث الخاص بالتطبيقات أحببت أن أقوم بمقارنة بين التأصيل والتطبيق؛ ووجدت أن ابن عثيمين هو العالم الذي ورد ذكره أكثر من غيره - ولم أقصد ذلك ولكن جاء اتفاقًا -، وهو عالم يستحق الدراسة؛ لتأخر عصره، ولما لآرائه من أهمية وقبول رحمه الله، ورحم جميع علماء المسلمين، وجزاهم خير الجزاء على ما قدموه لنا.

(1)

شرح الأصول من علم الأصول، لابن عثيمين، ص 161 - 163.

(2)

شرح الأصول من علم الأصول، لابن عثيمين، ص 163.

ص: 113

ففي التأصيل اختار ابن عثيمين أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة على قولين فلا يجوز إحداث قول ثالث؛ لمخالفة الإجماع

(1)

، وسُئل عن المجتهد إذا وقف على حديثٍ صحَّ عنده، ثم بحث في المسألة، فلم يجد له سلفًا، هل يقول بها أو لا؟، فأجاب:"لا يقول بها، ولهذا نجد العلماء الجهابذة الكبار إذا بحثوا في آية، أو حديث، ولم يكن عندهم علم بقائل يقول: إن كان أحد قال بذلك، كما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في المبتوتة إذا حاضت حيضة واحدة هل تنقضي عدتها أم لا؟ فقال: إن كان أحد قال بذلك فهو حق"

(2)

.

وفي حديثه عن إحداث دليل أو معانٍ لم تكن معروفة عند السلف، قال:"لو خالف ما أجمع عليه السابقون، فإننا لا نقبله"

(3)

.

وعلى هذا التأصيل فإن على العالم ألَّا يقبل قولًا أتى به عالم ولم يسبق إليه، فضلًا على أن يأتي هو بقول لم يسبق

(1)

انظر: شرح مختصر التحرير، لابن عثيمين، ص 565، تفسير القرآن الكريم، سورة الروم، لابن عثيمين، ص 31.

(2)

التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 385 - 386.

(3)

شرح مختصر التحرير، لابن عثيمين، ص 565.

ص: 114

إليه، وقد سار ابن عثيمين على ذلك في غالب المسائل، فإنه رد أقوالًا؛ لأنه لم يقل بها أحد

(1)

، وتوقف عن القول بأقوال يرى أنها صحيحة أو صواب أو وجيهة لأنه لا يعرف قائلًا بها

(2)

، ومنها قوله:"لو قال أحد من أهل العلم: إذا خلع الخف على طهارةٍ مسحٍ ثم أعاده قبل أن ينتقض وضوءه، فإنه يجوز أن يمسح، لو قال أحد بهذا القول فهو قولي"

(3)

، بل إنه صرف الأمر عن الوجوب لأنه لا يعلم من أهل العلم من قال به، ففي مسألة إعلان النكاح قال:" «أعلنوا» أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لكن لا يُعلم من أهل العلم من قال بوجوب إعلان النكاح، وعلى هذا فيكون الأمر للاستحباب، والصارف له أنه لم يقل به أحد من أهل العلم"

(4)

.

(1)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 4/ 333، 7/ 360، فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 12/ 23.

(2)

انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 11/ 178، الممتع، لابن عثيمين 5/ 115، 11/ 30.

(3)

التعليق على الكافي، لابن عثيمين 1/ 117. (المكتبة الشاملة)، ولم أجده في المطبوع. وقال قريبًا من هذا القول في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 11/ 178.

(4)

فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 11/ 102 - 103.

ص: 115

ورد أقوال علماء لأنهم لم يسبقوا إليها، كما فعل مع قولٍ للصنعاني، فقد قال:"ولكنِّي ما رأيت أحداً من أهل العلم قال: إنَّ مَنْ كان بداخل المسجد فإن فرضه استقبال الجهة إلا قولاً في «سُبُل السَّلام شرح بلوغ المرام» لم يعزُه لأحد، ولكنَّه قاله تَفَقُّهاً من عنده، وإذا لم يكن أحد قال به قَبْله فهو غير مُسَلَّم؛ لأن المعروف من كلام أهل العلم قاطبة أنه من كان يمكنه مشاهدتها ففرضُه إصابةُ العين"

(1)

.

وكما فعل أولًا في مسألة رطوبة فرج المرأة عندما بيَّن أن ابن حزم لم يسبق لهذا القول، ثم رده لأجل ذلك، فقال: "ولكن بعد البحث التام لم أجد أحداً من العلماء قال: إنها لا تنقض الوضوء إلا ابن حزم، ولم نذكر له سابقاً حتى نقول: إن سلف الأمة يرون أن هذا لا ينقض الوضوء، وأنا أقول: إذا وُجد أحد من سلف الأمة يرى أنه لا نقض بهذه الرطوبة فإن قوله أقرب إلى الصواب من القول بالنقض

وأما إذا لم تجدوا فليس لنا أن نخرج عن إجماع الأمة"

(2)

.

(1)

الممتع، لابن عثيمين 2/ 272.

(2)

اللقاءات الشهرية، لابن عثيمين 2/ 270.

ص: 116

ولكن في التطبيقات نجد أن ابن عثيمين اختار أن تحريم آنية الذهب والفضة خاص بالأكل والشرب فقط

(1)

، وأن دم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء مالم يوجد المعتاد

(2)

، وأن رطوبة فرج المرأة لا ينقض الوضوء

(3)

، وأن أكثر مدة النفاس ستون يومًا

(4)

، وأن تارك الصلاة عمدًا لا قضاء عليه

(5)

، وأن صلاة التطوع مضطجعًا دون عذر جائزة

(6)

، وأنه لَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ

(7)

، وأن الحالف بالطلاق لم تطلق منه امرأته وأن عليه كفارة يمين، وإن كَانَ قصد الحالف حضًا أو منعًا ولم يرد الطلاق فهي يمين

(8)

.

(1)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 75.

(2)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 503، لقاءات الباب المفتوح (214).

(3)

انظر: لقاءات الباب المفتوح، لابن عثيمين، اللقاء (214)، ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين، لأحمد القاضي، ص 71. مسألة (53).

(4)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 512.

(5)

انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 12/ 93.

(6)

انظر: البيان الممتع، لابن عثيمين، ص 139، الممتع، لابن عثيمين 4/ 81.

(7)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 12/ 58.

(8)

انظر: فتاوى نور على الدرب، لابن عثيمين 10/ 393 - 394.

ص: 117

وكل هذه المسائل قال بها أئمة لكنهم لم يسبقوا إلى هذه الأقوال، والذي ينبغي على التأصيل الذي أصَّله أن يرد هذه الأقوال، لكنه لم يسر على هذا التأصيل، بل اختار هذه الأقوال التي لم يسبق إليها.

وقد يخفى عليه في بعض المسائل أن هذا العالم أتى بقول لم يسبق إليه، وهذا من العذر له، لكن في بعض المسائل تبين أنه يعلم أن هذا العالم لم يسبق لهذا القول كما في مسألة عدم نقض رطوبة فرج المرأة للوضوء، فقد أخذ برأي ابن حزم مع علمه بأنه لم يسبق إليه.

وكذلك في مسألة الإشارة بالسبابة في الجلوس بين السجدتين فقد اختار رأي ابن القيم مع علمه بأنه لم يسبق إليه، فقد قال:"ولي سلف من أهل العلم وهو ابن القيم"

(1)

، مما يدل على أنه لم يجد من سبق ابن القيم لهذا ولو وجد لذكره، فذكر أسماء العلماء الموافقين في الرأي تقوية له، فقد ذكر ابن عثيمين أنه قد يقول الشيء ثم يقول

(1)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 13/ 193. وقد سبق بيان أن النسبة لابن القيم غير ثابتة.

ص: 118

: "هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وما أشبه ذلك؛ لأجل أن يقوي جانبه"

(1)

.

وقد اختار أن جهر الإمام بالتكبير واجب

(2)

، واختار أنه يشرع الإشارة بالسبابة بين السجدتين

(3)

، وهي أقوال له لم يسبق إليها كما سبق بيانه في التطبيقات، وهذا لا يوافق ما سبق تأصيله من عدم جواز إحداث قولٍ ثالثٍ، وهذه ليست أقوالًا ثالثة، بل هي أقوال ثانية، وإحداثها لا يجوز من باب أولى.

وأضيف لهذه الدراسة ثلاثة أمثلة أخرى

(4)

:

(1)

شرح نظم الورقات، لابن عثيمين، ص 228.

(2)

انظر: الممتع، للعثيمين 3/ 33.

(3)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 3/ 128.

(4)

هناك أمثلة أخرى، لكن تكفي هذه الأمثلة، خشية الإطالة، ولأن المقصود من الدراسة يتحقق بها بحول الله. انظر: الآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات، لعلي الرميح، فقد ذكر أكثر من عشر مسائل اختارها ابن عثيمين، وهي من المسائل التي حُكم عليها بالشذوذ، وقد صحح الباحث نسبة الشذوذ لبعض هذه الأقوال، ولم يصحح بعضها، وتردد في بعض.

ص: 119

المثال الأول: أنه اختار أن غلبة الضحك لا تفسد الصلاة

(1)

، وقد نُقل الإجماع أن الضحك مبطل للصلاة مطلقا، قال ابن تيمية:"إنَّ الْقَهْقَهَةَ تُبْطِلُ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ"

(2)

، قال ابن المنذر:"وأجمعوا أن الضحك في الصلاة يفسد الصلاة"

(3)

، وقال ابن قدامة:"وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا"

(4)

، وقال ابن باز:"الضحك في الصلاة يبطلها بإجماع أهل العلم"

(5)

.

والقول بأنه لا تبطل الصلاة من غلبة الضحك لم يقل به أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم، بل الأقوال المنقولة إلينا عنهم أنها تبطل الصلاة من الضحك

(6)

.

وقد جاء عن بعض المالكية القول بصحة صلاة من غلبه الضحك، وهو قول متأخر لم يسبق إليه والمذهب عندهم أن صلاته باطلة

(7)

.

(1)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 3/ 366، التعليق على المنتقى للعثيمين 1/ 541.

(2)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 22/ 617.

(3)

الإجماع، لابن المنذر، ص 39.

(4)

المغني، لابن قدامة 2/ 39.

(5)

مجموع فتاوى ابن باز 29/ 344.

(6)

انظر: مصنف عبدالرزاق، بَابُ الضَّحِكِ وَالتَّبَسُّمِ فِي الصَّلَاةِ 2/ 376، مصنف ابن أبي شيبة، مَنْ كَانَ يُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنَ الضَّحِكِ 1/ 340.

(7)

الشرح الصغير، للدردير 1/ 347 - 348.

ص: 120

المثال الثاني: أنه اختار أن للمصلي أن يضع اليمنى على ذراع اليسرى دون قبض، أو يقبض الكوع ويرى أن السنة وردت بهما

(1)

.

وعن الصفة الأولى قال تلميذه الدكتور أحمد الخليل: "لكن هذه الصفة-أي وضع اليمنى على ذراع اليسرى- لم أجد أحدًا من المتقدمين ذكرها، ولم يأخذ بها أحد من المذاهب الأربعة، وإنما يذكرها المتأخرون، أو بعبارة أدقَّ: المعاصرون، أما المتقدمون فإنهم يرون أن سهلًا لم يُبين الموضع، وأن الأحاديث الأخرى بيّنتْ، فيجعلون هذا الحديث مجملًا، ولا يأخذونه على ظاهره"

(2)

.

(1)

الممتع، لابن عثيمين 3/ 36.

(2)

صفة الصلاة، للخليل، ص 49. قال ابن باز:"جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كان الرجل يؤمر أن يجعل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» قال أبو حازم الراوي عن سهل: لا أعلمه إلا يروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن المصلي إذا كان قائما يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى، والمعنى على كفه والرسغ والساعد لأن هذا هو الجمع بينه وبين رواية وائل بن حجر فإذا وضع كفه على الرسغ والساعد فقد وضعت على الذراع؛ لأن الساعد من الذراع، فيضع كفه اليمنى على كفه اليسرى وعلى الرسغ والساعد كما جاء مصرحا في حديث وائل المذكور"، وقال:"حديث وائل عند أبي داود والنسائي «ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد» وصححه ابن خزيمة وغيره وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة". مجموع فتاوى ابن باز 11/ 31، 133.

ص: 121

المثال الثالث: أنه اختار أن عقوبة الخمر تعزير وليست حدًا

(1)

، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء أنها حد

(2)

، ومنهم ابن تيمية فقد قال:"أَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ: فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ"

(3)

، وقال:"أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَيَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً أَوْ ثَمَانُونَ جَلْدَةً"

(4)

.

وقد نقل ابن عثيمين كلام ابن تيمية في نقل الإجماع ولم يوافقه على ذلك، فقد قال:"فيه نظر، فليس في المسألة إجماع"

(5)

، ولم يسبق ابن عثيمين أحد من أهل العلم المعروفين

(1)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 14/ 295، فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين 7/ 157، التعليق على السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عثيمين، ص 307.

(2)

انظر: موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 9/ 729.

(3)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 28/ 336.

(4)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية 34/ 216.

(5)

التعليق على السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عثيمين، ص 306.

ص: 122

إلى هذا القول، إنما جاء عن طائفة ولم يسمَ أحدٌ منهم، قال ابن حزم:"وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا حَدَّ فِيهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَمْ يَفْرِضْ فِيهَا حَدًّا"

(1)

.

وقال ابن حجر: "قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ

وَتَبِعَهُ على نقل الْإِجْمَاع بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالنَّوَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الطَّبَرِيّ وبن الْمُنْذِرِ وَغَيْرَهُمَا حَكَوْا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْخَمْرَ لَا حَدَّ فِيهَا وَإِنَّمَا فِيهَا التَّعْزِيرُ" وقد ذكر ابن حجر أن الأدلة التي استدلوا بها كانت في بداية عقوبة الخمر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "إنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَحَرَّى مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ السَّكْرَانَ فَصَيَّرَهُ حَدًّا وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَكَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ بَعْدَهُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ"

(2)

.

وإن كان هذا الإجماع لا يعد إجماعًا قطعيًا، لكن فيه دلالة على أن القول بأنه تعزير وليس حدًا أتى متأخرًا، سواء سمي القائل به أو لم يسمَ، لكن لم يسمَ من قال به، وقد أخذ به ابن

(1)

المحلى، لابن حزم 12/ 365.

(2)

فتح الباري، لابن حجر 12/ 72.

ص: 123

عثيمين بناء على ما ترجح عنده من الأدلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحد فيه حدًا، ولم يذكر أن أحدًا سبقه لذلك إنما قال:"وهو ظاهر كلام ابن القيم في إعلام الموقعين"

(1)

.

وفي أكثر من موضع في إعلام الموقعين ذكر ابن القيم أن عقوبة الخمر حد

(2)

، والموضع الذي يغلب على الظن أنه ظهر لابن عثيمين أن ابن القيم يرى أن العقوبة غير مقدرة، قوله:"وَكَانَتْ عُقُوبَةُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ ضَرَبَ فِيهَا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَالْجَرِيدِ، وَضَرَبَ فِيهَا أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا اسْتَخَفَّ النَّاسُ بِأَمْرِهَا وَتَتَابَعُوا فِي ارْتِكَابِهَا غَلَّظَهَا الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّتُهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَجَعَلَهَا ثَمَانِينَ بِالسَّوْطِ، وَنَفَى فِيهَا، وَحَلَقَ الرَّأْسَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فِقْهِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ فَهُوَ عُقُوبَةٌ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَزِيَادَةُ أَرْبَعِينَ وَالنَّفْيُ وَالْحَلْقُ أَسْهَلُ مِنْ الْقَتْلِ"، لكن في هذا النقل يظهر أن الذي ليس بحد هو ما زاد على الأربعين

(1)

الممتع، لابن عثيمين 14/ 295.

(2)

انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 1/ 98، 161، 203، 2/ 84.

ص: 124

من الضرب والنفي والحلق والقتل، ويؤيده قول ابن القيم:"وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ تَنَوَّعَ تَعْزِيرُهُ فِي الْخَمْرِ: فَتَارَةً بِحَلْقِ الرَّأْسِ، وَتَارَةً بِالنَّفْيِ، وَتَارَةً بِزِيَادَةِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ"

(1)

، وقوله:"عُمَرُ قَدْ زَادَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ عَلَى أَرْبَعِينَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

وسواء كان ابن عثيمين هو السابق في هذه الأمثلة الثلاثة أو سبقه غيره فهي أقوال لم يسبق إليها قبل عصر الصحابة رضي الله عنهم، وهي تضاف لما سبق من التطبيقات التي اختار ابن عثيمين فيها أقوالًا لم يسبق إليها، ولم يجر فيها على التأصيل الذي أصله في عدم قبول القول الذي لم يسبق إليه.

ولو تأملنا اختيارات ابن عثيمين في جميع هذه المسائل لوجدنا أنه لم يخالف نصًا قطعي الثبوت والدلالة، ولا إجماعًا قطعيًا، بل يتهيب مخالفة الإجماع، فقد قال في إحدى المسائل:"وكنت أتهيب القول بهذا؛ لأن الذين أمامنا دائمًا يقولون: هذا قول الجمهور، وبعضهم يقول: إجماع"

(3)

.

(1)

إعلام الموقعين، لابن القيم 2/ 23.

(2)

إعلام الموقعين، لابن القيم 2/ 84.

(3)

الممتع، لابن عثيمين 13/ 191.

ص: 125

وعندما يظن أن في المسألة إجماعًا وهو غير مستيقن، يقول:"فإن كانت المسألة إجماعاً، فالإجماع لا يمكن الخروج عنه، وإن كان في المسألة خلاف، فالراجح عندي"

(1)

، ثم يقول رأيه، وفي ذلك تربية لتلامذته، واختياراته في الأقوال التي لم يسبق إليها قوية تدعمها الأدلة.

وهي - وإن كانت قليلة مقارنة بمسائل الفقه - فإنها تفتح المجال للمجتهد أن يجتهد في بعض المسائل خصوصا عندما تدعو الحاجة أو الضرورة.

ولو تتبع الباحث أي أحد من الأئمة لوجد عشرات الأمثلة على أقوال لم يسبقوا إليها قالوها أو وافقوا من قالها، مما يدل على أن التأصيل الفعلي هو جواز الاجتهاد بقول لم يسبق إليه ما لم يخالف نصًا قطعي الثبوت والدلالة أو الإجماع القطعي وأن التأصيل القولي الذي اتفق عليه العلماء من منع إحداث قول ثانٍ، أو قاله جمهور العلماء من منع إحداث قول ثالث غير دقيق وغير مطرد ولم يجر عليه العمل.

(1)

الممتع، لابن عثيمين 12/ 76. وانظر: الممتع، لابن عثيمين 9/ 215، تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة 4/ 86، 5/ 70.

ص: 126

وقد يكون سبب المنع التخوف من فتح الباب فتأتي اجتهادات من غير أهلها أو من أهلها لكنها مخالفة لنصوص قطعية الثبوت والدلالة أو الإجماع القطعي، إضافة إلى انتشار القول بإغلاق باب الاجتهاد، وأنه لا يوجد مجتهد من بعد أئمة المذاهب، لكن العمل على خلاف ذلك فالأمة لم تعدم المجتهدين في كل عصر، والذين يغلقون باب الاجتهاد قد وافقوا غيرهم باجتهادات لم يسبقوا إليها، منها القول بإغلاق باب الاجتهاد.

لكن التقليد يصد المقلد عن البحث في مثل ذلك، ولا يقبل إلَّا ما جاء به إمامه، كما يقول الماوردي:"وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلًا يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلَالَةٍ صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لَا خَيْرَ فِيهِ"

(1)

.

وقد يلجأ للتأويلات البعيدة لينصر من قلده، فإذا لم يجد ما ينصر به إمامه يقول لعل إمامي يعلم من الأدلة ما لم نعلم

(1)

أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص 70.

ص: 127

ولم يصل إلينا، وقد تعجب العز بن عبدالسلام من هؤلاء، فقال: "وَمِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَيَتْرُكُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ، بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَنْ مُقَلِّدِهِ

وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ"

(1)

.

وقد يكون مؤهلًا للاجتهاد أكثر من إمامه كما قيل عن التقي السبكي "أنه حاز من علوم الاجتهاد ما لم يحزه إمامه الشافعي"

(2)

، فيمنع نفسه من الاجتهاد، ولو اجتهد لأتى بأقوال لا تخالف نصًا ولا إجماعًا قطعيًا، بل قد تكون معها أدلة قوية، وقد يكون فيها تيسير لأمة من الناس، كما اجتهد ابن

(1)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبدالسلام 2/ 159.

(2)

در الغمام الرقيق، لأحمد الغماري، ص 40.

ص: 128

تيمية في جواز طواف الحائض للضرورة دون أن يكون عليه دم، وأخذ بقوله كبار العلماء في العصر الحديث كابن باز

(1)

وابن عثيمين

(2)

.

وأخذت به بعض دور الإفتاء

(3)

، وصار في هذا القول تيسير خصوصًا في عصرنا الحاضر بعدما أصبح رجوع المرأة للحج صعبًا بل قد يكون مستحيلًا على من تأتي من أقصى الأرض، ومن العسير أن تتأخر المرأة أو رفقتها بعدما صارت مربوطة بحملات ومواعيد رحلات وإن تركتها حلّ عليها من العنت ما الله به عليم، وكثير من الدول لا تسمح لها بالرجوع للحج مرة ثانية.

وهناك عشرات الآراء الجديدة التي حُكم عليها بالشذوذ، ثم أخذت بها بعض المذاهب أو بعض كبار العلماء وجرى عليها الفتوى

(4)

، ولو أنعمنا النظر في غالب هذه الأمثلة لوجدنا

(1)

انظر: اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية، لخالد آل حامد 2/ 1010.

(2)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 1/ 332.

(3)

انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، قسم الفتاوى، فتوى أداء العمرة للحائض، تاريخ الفتوى: 19/ 05/ 2013 م.

(4)

انظر: الآراء الفقهية المحكوم عليها بالشذوذ، لتركي الخضيري وآخرين 2/ 1475، 3/ 554 - 555، 4/ 851 - 857.

ص: 129

أنه يُنقل فيها الإجماع، مع أن غالب هذه الإجماعات غير متحققة، وأن بعضهم ينقل إجماعًا -خصوصا في الخلاف- ثم ينقض مثله في مسألة أخرى يأخذ بها اجتهادًا أو تقليدًا، مما يدل على أن الإجماع القطعي قليل، "ولا يكون إلا عن دليل شرعي"

(1)

، يقول ابن تيمية:"فلست أعلم إجماعًا صحيحًا إلا ومعه دلالة من الكتاب والسنة توافقه"

(2)

.

ويقول ابن عثيمين: "من يأتي بإجماع إلا ما اتفق المسلمون عليها بالضرورة كوجوب الصلاة الخمس مثلًا، فوجوب الصلوات الخمس بالإجماع، ثابت بالكتاب والسنة، ولذلك لا تجد في الواقع -وحسب علمي- مسألة ثبتت بالإجماع دون الدليل من الكتاب والسنة أبدًا"

(3)

، ويقول:"الإجماع دليل على الدليل، وليس دليلًا بلا دليل، فلا يمكن الإجماع إلا من دليل من كتاب أو سنة"

(4)

وأن غيره من الإجماعات فيها خلاف في التأصيل، وتساهل كثير في التطبيق.

(1)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 653.

(2)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 777.

(3)

شرح قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لابن عثيمين، ص 349.

(4)

شرح نظم الورقات، لابن عثيمين، ص 132.

ص: 130

وهذا يستدعي الباحث ألا يكف عن البحث عندما يجد إجماعًا منقولًا في غير ما له دلالة "مبينة في الكتاب والسنة"

(1)

، فقد يجد بعد البحث أن الإجماع غير متحقق، يقول ابن تيمية:"فالغلط فيه كثير جدًا، حتى إني لا أعرف أحدًا ينقل الإجماعات إلا وقد وجد فيما ينقله من الإجماعات ما فيه نزاع لم يطلع عليه"

(2)

، ويقول:"وما زال الناس يدعي أحدهم إجماعًا، ويقيم الآخر الدليل على بطلانه"

(3)

.

وقد نَقل الإجماع في مسألة الطلاق بالثلاث أنه يكون ثلاثًا أكثرُ من عشرين عالمًا

(4)

، لكن هذا النقل لم يجعل ابن تيمية يتوقف، بل أقدم مع التهيب فهي عنده "من المسائل الكبار"

(5)

، وتبين له بالأدلة أنها لا تعد إلا طلقة واحدة

(6)

، وأن الإجماع فيها غير متحقق، وأن الذين ينقلونه "ليس لهم بهذا الإجماع من علم

(1)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 615.

(2)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 693.

(3)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 2/ 657.

(4)

حركة التصحيح الفقهي حفريات تأويلية في تجربة ابن تيمية مع فتوى الطلاق، لياسر المطرفي، ص 40.

(5)

جامع المسائل، لابن تيمية 1/ 367.

(6)

انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 33/ 71.

ص: 131

البتة، وأن غاية ما عندهم نقلُ من نقلَ ذلك، وأسبق من نقل الإجماع في ذلك أبو ثور، وكل من جاء بعده فعنه أخذ ذلك"

(1)

.

ولم يوقف ابن تيمية كل ما لاقاه جراء هذا القول الذي قال عنه ابن بطال: "والخلاف في ذلك شذوذ، وإنما تعلق به أهل البدع، ومن لا يلتفت إليه لشذوذه عن الجماعة التي لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة"

(2)

، وقال عنه السبكي:"إني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف"

(3)

، بل ثبت وبسط "الكلامَ عليها في مواضعَ في نحو مجلدين وأكثر"

(4)

.

وبعد قرون يصبح قول ابن تيمية هذا قولًا مقبولًا رجحه كبار العلماء، كابن سعدي

(5)

، وابن باز

(6)

، وابن عثيمين

(7)

،

(1)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 1/ 169.

(2)

شرح صحيح البخاري، لابن بطال 9/ 390 - 391.

(3)

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 1/ 152، 168.

(4)

جامع المسائل، لابن تيمية 1/ 367.

(5)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 13/ 42.

(6)

انظر: مجموع فتاوى ابن باز 21/ 400.

(7)

انظر: الممتع، لابن عثيمين 13/ 42.

ص: 132

وأخذت به اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء

(1)

، وقوانين الأحوال الشخصية في أكثر من بلد

(2)

، مع غيره من المسائل في الطلاق التي قال بها وقد نقل الإجماع على خلافه

(3)

.

يقول القرضاوي: "من أشهر الفتاوى التي اعتبرت شاذة في عصرها، ثم تم ترجيحها بعد ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، حول قضايا الأسرة والطلاق، مثل الطلاق الذي يراد به الحمل على شيء أو المنع منه، والطلاق الذي يراد به اليمين، والطلاق المعلق، والطلاق الثلاث بلفظة واحدة، والطلاق البدعي، وطلاق المرأة الحائض، أو المرأة التي مسها زوجها في هذا الطهر، وهذا الفتاوى حوكم من أجلها ابن تيمية، وخالفه علماء عصره، واعتبروا أنه خرق الإجماع، ودخل من أجلها السجن، ومات ابن تيمية رحمه الله في السجن من أجل هذا، لكن هذا القول الذي اعتبر شاذًا تبناه أكثر العلماء في عصرنا، وتبنته لجان الفتوى،

(1)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 20/ 136، السؤال الثاني من الفتوى رقم (8925).

(2)

انظر: الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لابن تيمية 1/ 9.

(3)

انظر: موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني وآخرين 3/ 473 - 474.

ص: 133

وتبنته قوانين الأحوال الشخصية في أكثر من بلد، واعتبر هو سبيل الإنقاذ، أو سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة"

(1)

.

ويقول عبدالله العقيل متحدثًا عن ابن باز: "وكان قد انفرد عن علماء بلده، أو عن أكثرهم، بأنه يرى الطلاق الثلاث واحدة، ويرى عدم وقوعه في الحيض، أو في طهر وطئها فيه، ويرى عدم وقوع طلاق السكران، ويرى الحلف بالطلاق يمينًا مكفرة، وغير ذلك، فلهذا كثر المستفتون عن هذا المشاكل، ورحلوا من أجلها، وكان رحمه الله يفتيهم بالأسهل؛ موافقًا في اجتهاده شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من محققي العلماء، وأنقذ الله بفتواه أسرًا كثيرة كادت أن تتهدم بيوتهم، ويتشرد أطفالهم، وتأيم نساؤهم، فجزاه الله عن الجميع أفضل الجزاء، وطالما نهاه شيخه محمد بن إبراهيم، بل نهاه الملك عبدالعزيز عن هذه الفتوى فلم ينته، يرى أن هذا هو القول الصحيح، وأنه من العلم الذي لا يحل له كتمانه"

(2)

.

(1)

موقع القرضاوي، جواب سؤال: ما الفتوى التي ينظر إليها على أنها فتوى شاذة، هل هذا الشذوذ يمكن أن يتغير بتغير الحال، أو المكان، أو العرف، أو العادات؟

(2)

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز كما عرفته، لعبدالله العقيل، ضمن مجموع فيه من آثار سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل في الذكريات والتاريخ والتراجم، ص 77 - 78.

ص: 134

ولا يعني هذا الكلام أن يفتح الباب لكل أحد، بل لا يحق الاجتهاد إلَّا لمن كان عالمًا أهلًا للاجتهاد، فقد نقل النووي إجماع العلماء أن الاجتهاد لا يكون إلَّا لـ"عالمٍ أهلٍ للحكم"

(1)

.

والأولى أن يعرض قوله على المجامع الفقهية، ودور الإفتاء، التي تجمع عددًا من العلماء المؤهلين للبحث والاجتهاد فيما تحتاج له الأمة من المسائل، فيقومون بمناقشته بهدوء، فقد يبينون رجحانه، أو يرفضونه، أو يأخذون بعضًا ويدعون بعضًا، دون أن يحارب القول الجديد، فيخاف بعض المؤهلين من إبداء آرائهم التي تعضدها الأدلة وقد تكون سببًا لنفع الأمة.

فهذا ابن عثيمين أتى بعد قرون من انتشار قول المنع من القول بما لم يسبق به قول، ومع ذلك اجتهد في أقوال لم يسبق إليها وكانت قوية تدعمها الأدلة، كما قال تلميذه الدكتور أحمد الخليل في مسألة جهر الإمام بالتكبير: "الفقهاء يذكرون الاستحباب، فإذا لم يثبت الإجماع، وصار في المسألة خلاف، فإن الراجح ما قاله شيخنا من أن هذا واجب وليس سنة فقط؛ لأنه لا يحصل الاقتداء والائتمام على الوجه المطلوب إلا

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي 12/ 240.

ص: 135

بالجهر بالتكبير وإسماع المصلين

إن الأدلة التي ذكرها شيخنا قوية جدًا وواضحة؛ لكن يُشكل عليه أني لم أقف على من سبقه"

(1)

.

وأما الإشكال الذي يثار حول هذه القضية وهو هل الحق كان غائبًا عن الأمة حتى أتى العالم المتأخر فدلَّها عليه؟

فيجاب عليه: بأن الحق لا يغيب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعدم نقل قولٍ لا يعني عدم وجوده، أو أن الإجماع على خلافه ما لم ينقل في المسألة الإجماع القطعي، وقد يكون في المسألة إجماع ويرى بعض الأئمة أن "الإجماع كان مبنيًا على العرف، أو المصلحة، فتغير العرف اليوم، أو المصلحة المبتغاة من ذلك"

(2)

، وقد لا تكون هناك حاجة لقول، ثم تدعو الحاجة له، وأحيانًا الضرورة.

وعلى أقل الأحوال فإنه قد يكون القول مشهورًا على رأي، وعمل الناس يكون على خلافه، وأضرب لذلك ثلاث مسائل

(1)

صفة الصلاة، لأحمد الخليل، ص 32 - 33.

(2)

المقدمة في منهج الفقه الإسلامي للاجتهاد والبحث، للقره داغي ص 136 - 137.

ص: 136

تبيَّن أن العمل قد يكون على خلاف القول عند اتباع هذا القول وعند غيرهم، الأولى في التأصيل والأخريان في التطبيق:

المسألة الأولى: أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز إحداث قول ثان، مع أن العمل على إحداث قول ثان، وغالب اجتهادات العلماء التي لم يسبقوا إليها كانت أقوالًا ثانية.

المسألة الثانية: أن الحنابلة رجحوا كفر تارك الصلاة تهاونًا وكسلًا

(1)

، ويترتب على هذا القول أن "من مات من المكلفين وهو لا يصلي فهو كافر، لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه"

(2)

، و"تحرم عليه زوجته التي معه، وينفسخ نكاحها منه فيجب عليها مفارقته حتى يرجع إلى الإسلام"

(3)

.

لكن العمل على خلاف ذلك، فهذا ابن قدامة وهو أحد أئمة المذهب الحنبلي يقول: "لَا نَعْلَمُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ أَحَدًا مِنْ تَارِكِي الصَّلَاةِ تُرِكَ تَغْسِيلُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فِي

(1)

انظر: منتهى الإرادات، لابن النجار 1/ 138.

(2)

مجموع فتاوى ابن باز 13/ 105.

(3)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 12/ 100.

ص: 137

مَقَابِر الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مُنِعَ وَرَثَتُهُ مِيرَاثَهُ، وَلَا مُنِعَ هُوَ مِيرَاثَ مُوَرِّثِهِ، وَلَا فُرِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ مَعَ كَثْرَةِ تَارِكِي الصَّلَاةِ"

(1)

.

المسألة الثالثة: أن المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

، قالوا بتحريم عقد الاستصناع، وهو "عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع"

(5)

.

لكن العمل على خلافه عند المانعين والمجيزين دون نكير، يقول ابن الهمام:"جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِلتَّعَامُلِ الرَّاجِعِ إلَى الْإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَوْمِ بِلَا نَكِيرٍ"

(6)

، ويقول ابن عثيمين:"وعمل الناس عليه قديماً وحديثاً"

(7)

. فالحق لا يغيب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قولًا أو عملًا.

(1)

المغني، لابن قدامة 2/ 332.

(2)

انظر: المدونة، للإمام مالك 3/ 68 - 69، مواهب الجليل، للحطاب 4/ 539 - 540.

(3)

انظر: الأم، للشافعي 3/ 95، المهذب، للشيرازي 2/ 72.

(4)

انظر: الإنصاف، للمرداوي 4/ 300، كشاف القناع، للبهوتي 3/ 165.

(5)

تحفة الفقهاء، للسمرقندي 2/ 362.

(6)

فتح القدير، لابن الهمام 7/ 115.

(7)

الممتع، لابن عثيمين 10/ 346.

ص: 138

وهذا الإشكال على رأي من يرى أن الحق في كل واقعة معين، وعلى المجتهد أن يصيبه

(1)

، وأن الأمة لا تخلو من مصيب للحق، أما من يرى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ إلا الاجتهاد وأن يقول مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ

(2)

، فلا يَرد عليه هذا الإشكال؛ لأن الأئمة المتقدمين قد أدوا ما كلفوا به حسب اجتهادهم وفق الأصول، وأن الذي خالفهم من المتأخرين قد أدى ما كلف حسب اجتهاده وفق الأصول.

ولا يستطيع أحد منهم أن يجزم بأنه أصاب الحق مالم يكن في الواقعة نص قطعي الدلالة والثبوت أو كان الإجماع قطعيًا فيها، بل كلٌ يقول ما يغلب على ظنه أنه الحق، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين بعثهم إلى بني قريظة على اجتهادهم في أداء وقت صلاة العصر، مع الاختلاف بين الاجتهادين، فعن ابن عمر رضي الله عنه، قال: "قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا،

(1)

انظر: المستصفى، للغزالي، ص 352.

(2)

انظر: المستصفى، للغزالي، ص 352.

ص: 139

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ"

(1)

.

وفي إقراره لهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاختلاف دون بيان أي الطائفتن على الحق دلالة على أن الحق هو أن على كل مجتهد أن يجتهد ويبين ما غلب على ظنه أنه الحق، وأنه لا يكلف أكثر من ذلك، وأما الذين اختلفوا من الفقهاء "أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة: الذين أخروها هم المصيبون،

وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق "

(2)

، فقد أجازوا من حيث لا يقصدون أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان الحق في هذه القضية، وأن يترك الصحابة رضي الله عنهم دون أن يبين لهم الحق وقت الحاجة، ومن المقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو سكتوا كما سكت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأقروا الطائفتين على اجتهادهم لكان خيرًا لهم وأقوم.

(1)

رواه البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، برقم 946، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم 1770.

(2)

زاد المعاد، لابن القيم 3/ 131.

ص: 140

‌الخاتمة

وبعد؛ فإني أحمد لله الذي يسر لي كتابة هذا البحث، وأعانني على إتمامه، وفي نهايته أود تدوين أبرز النتائج التي توصلت لها، وأهم التوصيات؛ فأبرز ما توصلت له من نتائج:

1 -

اشتهر عن السلف رضي الله عنهم تهيبهم من الكلام فيما يعرض عليهم من مسائل الدين، وحتى لو تكلموا في مسائل الدين التي يعرفون فإنهم لا يجزمون بالتحليل والتحريم، ولا يعني هذا أنهم يتوقفون عن الاجتهاد ويظلون مكتوفي الأيدي خصوصًا عندما تدعوهم النوازل وحاجة الناس لرأي العلماء فيها، فإنه لا يكاد يوجد مجتهد إلا وله قول لم يقل به أحد قبله، لكنهم يفعلون ذلك مع أشد التهيب والحذر.

ص: 141

2 -

اتفق العلماء على منع إحداث قول ثان، واختلفوا في حكم إحداث قول ثالث على ثلاثة أقوال، أقربها: أن إحداث قول ثالث جائز، ما لم يخالف هذا القول نصًا قطعي الدلالة والثبوت أو إجماعًا قطعيًا.

3 -

أن الأئمة لا يخالفون النص قطعي الدلالة والثبوت، ولا الإجماع القطعي عمدًا، لكن من عذر.

4 -

لا تكاد تجد مجتهدًا إلا وله أقوال لم يسبق إليها، أو وافق غيره من المجتهدين على أقوال لم يسبق إليها، بل إن غالب التطبيقات في هذا البحث وغيره مما لم أذكره كان في إحداث أقوال ثانية الذي اتفق العلماء على منعه، وهذا لا يُناقض ما سبق ذكره من أنهم يتهيبون الإقدام على قول لم يسبقوا إليه، لكنه لا يوافق ما أصلّوه في كتب الأصول من منع إحداث قول ثان أو ثالث، وهذا يستدعي الباحث ألَّا يكتفي بالتأصيل دون النظر للتطبيق، فإن التأصيل يراد للتطبيق، وقد استُنْبطت الأصول من فتاوى العلماء وآرائهم، وعملهم.

5 -

لو تتبع الباحث أي أحد من الأئمة لوجد عشرات الأمثلة على أقوال لم يسبقوا إليها قالوها أو وافقوا من قالها، مما يدل على أن التأصيل الفعلي هو جواز الاجتهاد

ص: 142

بقول لم يسبق إليه ما لم يخالف نصًا قطعي الثبوت والدلالة أو الإجماع القطعي وأن التأصيل القولي الذي اتفق عليه العلماء من منع إحداث قول ثانٍ، أو قاله جمهور العلماء من منع إحداث قول ثالث غير دقيق وغير مطرد ولم يجر عليه العمل.

هذه هي أبرز النتائج، أما أهم توصية، فهي أن تكون هناك دراسات تأصيلية تطبيقية على بعض القضايا التي يكثر ذكر القول التأصيلي لها دون دراسة تطبيقية لهذا التأصيل تبين قوته، فإن التأصيل يراد للتطبيق، ومعرفة التطبيق يبين قوة هذا التأصيل أو ضعفه، كما سبق ذكره في أصل: أن الأمر للوجوب، وأن ابن عثيمين لما قام بدراسة التطبيقات على ذلك، وجد أن المسألة لا تطرد، وأنه يمر الكثير من الأوامر، وهي عند العلماء ليست للوجوب

(1)

، وهذا ما دعاه أن يعيد النظر في هذا التأصيل، فقال:"وما زلت منذ حين أتدبر وأتأمل: كيف نجد ضابطًا يضبط جميع النصوص الواردة في كل نص بعينة؟ ولم أستطع"

(2)

، ولولا نظره وتأمله في

(1)

شرح الأصول من علم الأصول، لابن عثيمين، ص 161 - 163.

(2)

شرح الأصول من علم الأصول، لابن عثيمين، ص 163.

ص: 143

تطبيقات العلماء لهذه القاعدة لما أعاد النظر فيها، وحاول أن يجد ضابطًا يضبطها، ولو تم مثل ذلك في أن تكون هناك مقارنة بين التطبيق والتأصيل في قضايا كثيرة، لخرجنا بضوابط مفيدة، وقواعد جامعة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

ص: 144

‌المصادر والمراجع

1 -

الإحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن علي بن محمد الآمدي، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت.

2 -

الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن حزم، تحقيق: أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

3 -

الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي، تعليق: محمد بن صالح العثيمين، تحقيق: أحمد بن محمد الخليل، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1428 هـ.

4 -

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1419 هـ.

ص: 145

5 -

الاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1421 هـ.

6 -

الإشراف على مذاهب أهل العلم، لمحمد بن إبراهيم المنذري النيسابوري، تحقيق: صغير أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، الإمارات، الطبعة الأولى 1425 هـ.

7 -

أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، لعياض بن نامي السلمي، دار التدمرية، الرياض، الطبعة الثانية 1427 هـ.

8 -

أصول الفقه عند الصحابة رضي الله عنهم معالم في المنهج، لعبدالعزيز العويد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، الطبعة الأولى 1432 هـ.

9 -

إعلام الموقعين، لمحمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ.

10 -

الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة، بيروت 1410 هـ.

ص: 146

11 -

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين بن سليمان المرداوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية.

12 -

البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي، دار الكتبي، الطبعة الأولى 1414 هـ.

13 -

بداية المجتهد و نهاية المقتصد، لمحمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، دار الحديث، القاهرة، طبعة عام 1425 هـ.

14 -

البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني، تحقيق: صلاح عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ.

15 -

تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، لمحمد رشيد بن علي رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة عام 1990 م.

16 -

التمهيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق: مصطفى العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، طبعة عام 1387 هـ.

ص: 147

17 -

حاشية الصاوي على الشرح الصغير، لمحمد بن أحمد الخلوتي الصاوي، دار المعارف، مصر.

18 -

الدر المختار، لمحمد بن علي الحصكفي وبهامشه رد المحتار على الدر المختار المعروف بحاشية ابن عابدين، لمحمد أمين بن عمر بن عابدين، دار الفكر، بيروت الطبعة الثانية 1412 هـ.

19 -

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، لأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية، تحقيق: عبدالله المزروع، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1435 هـ.

20 -

الرسالة، لمحمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مكتبة الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1358 هـ.

21 -

روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد، لموفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، مؤسسة الريان، الطبعة الثانية 1423 هـ.

22 -

زاد المعاد في هدي خير العباد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبدالقادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة والعشرون 1412 هـ.

ص: 148

23 -

سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، دار الحديث، القاهرة.

24 -

السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، لمحمد بن علي الشوكاني، دار ابن حزم، الطبعة الأولى.

25 -

شرح الكوكب المنير، لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الثانية 1418 هـ.

26 -

الشرح الممتع على زاد المستقنع، لمحمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1425 هـ.

27 -

شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، لأبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى 1393 هـ.

28 -

شرح مختصر الروضة، لسليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1407 هـ.

ص: 149

29 -

صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1419 هـ.

30 -

صحيح مسلم، لمسلم بن حجاج النيسابوري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1421 هـ.

31 -

طبقات الشافعيين، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: أحمد عمر هاشم، ومحمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة عام 1413 هـ.

32 -

العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء، تحقيق: أحمد بن علي بن سير المباركي، الطبعة الثانية 1410 هـ.

33 -

عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، لأحمد بن عبد الرحيم بن الشهيد المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة.

34 -

غياث الأمم في التياث الظلم (الغياثي)، لأبي المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني، تحقيق: عبدالعظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية 1401 هـ.

ص: 150

35 -

فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبدالباقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1379 هـ.

36 -

فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لأبي الفرج عبدالرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق: طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الثالثة 1425 هـ.

37 -

فتح القدير، لكمال الدين محمد المعروف بابن الهمام، دار الفكر.

38 -

الفصول في الأصول، لأحمد بن علي أبي بكر الرازي الجصاص الحنفي، وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الثانية 1414 هـ.

39 -

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعبدالعزيز بن عبدالسلام، راجعه وعلق عليه: طه عبدالرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، طبعة عام 1414 هـ.

40 -

لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة 1414 هـ.

ص: 151

41 -

لقاءات الباب المفتوح، لمحمد بن صالح العثيمين، مكتب دار البصيرة، مصر.

42 -

اللمع في أصول الفقه، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1424 هـ.

43 -

المبسوط، لمحمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، طبعة عام 1414 هـ.

44 -

مجموع الفتاوى، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ.

45 -

المجموع شرح المهذب، ليحيى بن شرف النووي، دار الفكر.

46 -

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن، دار الثريا، طبعة عام 1413 هـ.

ص: 152

47 -

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لعبد العزيز بن عبدالله بن باز، جمع: محمد بن سعد الشويعر، طبع بإشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، الطبعة الأولى 1421 هـ.

48 -

المحصول في أصول الفقه، للقاضي محمد بن عبد الله أبي بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي، تحقيق: حسين علي اليدري، وسعيد فودة، دار البيارق، عمان، الطبعة الأولى 1420 هـ.

49 -

المحلى، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، دار الفكر، بيروت، لبنان.

50 -

مختصر خليل، لخليل بن إسحاق بن موسى المالكي المصري، تحقيق: أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى 1426 هـ.

51 -

المدونة، للإمام مالك بن أنس الأصبحي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1415 هـ.

52 -

مراتب الإجماع، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت.

ص: 153

53 -

المستصفى، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1413 هـ.

54 -

المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تتابع على تأليفه ثلاثة من أئمة آل تيمية: بدأ بتصنيفها الجدّ: مجد الدين عبد السلام بن تيمية، وأضاف إليها الأب: عبد الحليم بن تيمية، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بيروت.

55 -

مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى بن سعد بن عبده الرحيباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثانية 1415 هـ.

56 -

معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق: عبدالسلام هارون، دار الفكر، طبعة عام 1399 هـ.

57 -

المغني، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، طبعة عام 1388 هـ.

ص: 154

58 -

مقدمة ابن خلدون، لعبدالرحمن بن خلدون، دار ابن الهيثم، القاهرة، الطبعة الأولى 1426 هـ.

59 -

منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات، لمحمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار عالم الكتب، الرياض، طبعة عام 1432 هـ.

60 -

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لمحيي الدين النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1392 هـ.

61 -

الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سليمان، دار ابن عفان، القاهرة، الطبعة الثانية 1427 هـ.

62 -

مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، دار الفكر، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة 1412 هـ.

63 -

موسوعة الإجماع، لأسامة القحطاني، وعلي الخضير، وظافر العمري، وفيصل الوعلان، وآخرين، دار الفضيلة، السعودية، دار الهدي النبوي، مصر، الطبعة الأولى 1433.

ص: 155

64 -

نهاية السول شرح منهاج الوصول، لعبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1420 هـ.

65 -

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لمحمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، بيروت، طبعة عام 1404 هـ.

ص: 156