المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

محمد علي مغربي أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض - أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة - جـ ٣

[محمد علي مغربي]

فهرس الكتاب

محمد علي مغربي

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

1301 -

1400 هـ

1883 -

1980 م

‌الجزء الثالث

ص: 1

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

الطبعة الأولى

1410 = 1990 م

مطبعة المدنى المؤسسة السعودية بمصر

68 شارع العباسية - القاهرة. ت: 827851

ص: 2

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين والنبيين، الهادي إلى صراط مستقيم وبعد .. فهذا هو الجزء الثالث من أعلام الحجاز، تحرَّيت فيه إلى جانب الحديث عن بعض أعلام هذا العصر الذي نعيش فيه، الحديث عن بعض أعلام العصور الماضية، دراسةً لآثار أصحابها، ولقد كانت هذه الآثار حفيلة بالكثير الذي لا نعرف عنه إلا القليل، أكثرها مخطوط استخرجته من المخطوطات في مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأوضحت عنه ما يجب إيضاحه .. فالقارئ لترجمة السيد جعفر البيتي شاعر الحجاز في القرن الثاني عشر الهجري يخرج من هذه الترجمة بتصوُّر وافٍ للحياة في المدينة المنورة، وفي مدينة ينبع التي عاش فيها البيتي يضع سنين، ولقد كان البيتي سجلًّا صادقًا لأحداث العصر الذي عاش فيه، وقد وجدنا في شعره ما لم نجده في كتب مؤرخي هذا العصر من أحداث سياسية واجتماعية، أبدع البيتي في تسجيل وقائعها في قصائد من الشعر هي أشبه بالملاحم، ورأيت إكمالا للصورة التي سجلها البيتي لأحداث عصره في المدينة المنورة وينبع أن أسجل أحداث هذا العصر في مكة المكرمة وجدة ليخرج القارئ بتصوُّرٍ كامل عن الحياة السياسية في القرن الثاني عشر الذي ولد فيه البيتي وفيه مات.

وكما حفلت ترجمة البيتي بأحداث القرن الثاني عشر فإن ترجمة أحمد محمد الحضراوي وهو مؤرخ مكثر ولد في منتصف القرن الثالث عشر وتوفي في الثلث الأول من القرن الرابع عشر، هذه الترجمة

ص: 5

استعرضت بعض مؤلفات الحضراوي وهي كثير، ولكني أخذت منها ما يُمثِّل الحياة السياسية والاجتماعية في الفترة التي عاشها الحضراوي في مكة المكرمة فنقلت ما سجَّلَه عن الولاة العثمانيين في الحجاز خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وما كان لهم من آثار في حياة مكة السياسية والاجتماعية، وأضفت إلى ذلك تلخيص كتابين للحضراوي أحدهما: عن مدينة جدة، والثاني: عن مدينة الطائف، وكلا الكتابين يتحدث عن نشأة هاتين المدينتين وما وقع فيهما من أحداث وخاصة في منتصف القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، وبعض هذا الذى ذكره الحضراوي في كتابيه جديد على المثقفين فضلا عن جمهرة القراء، ذلك أن هذه الكتب المخطوطة ودراستها هي من عمل المتخصصين في هذه الدراسات.

هذا ما رأيت أن أذكره عن المخطوطات، ولا يفوتني أن أذكر ما استخلصته من كتاب الأستاذ أحمد السباعي عن تاريخ مكة، من الأوليات التي حدثت في مكة المكرمة، والأسماء القديمة لحارات مكة، ومعالمها والحوادث الطريفة والغريبة التي وقعت فيها، مما آمل أن يجد فيه القارئ بعض المتعة والفائدة، أما الأحداث السياسية في كتاب السباعي فلم أذكرها لأن الكتاب مطبوع ومتداول، وأود للقارئ أن يقرأه ليطَّلع على تاريخ مكة وأحداثها بقلم السباعي لا بقلمى.

ولقد كان من رأى بعض الأصدقاء أن أُفرغ جزءًا خاصًّا من أعلام الحجاز للحديث عن القرن الماضى أو بعض القرون الماضية ولكني وأقولها مخلصًا: إننى في تنقيبي عن تاريخ الحجاز وأعلامه كالباحث في الحفريات، إذا ظفر بشئ من آثار القرون الماضية أظهرها للناس، وتاريخ

ص: 6

الحجاز في القرون المتأخرة مفقود أو في حكم المفقود، فإذا عثرنا على بعض هذا المفقود فمن الأولى أن نخرجه للناس، وبعض العلم خير من الجهل، ثم إنني بإظهار ما أتوصل إليه وطبعه في كتاب أكون قد عملت على حفظه وتسجيله، ليكون نواة لمن يأتي بعدي يضم إليه ما يتوصل إليه، أما بقاؤه في خزانتي رجاء استكماله فقد يكون في ذلك ما يعرضه للفقد والنسيان، لهذا فقد أضفت إلى اسم هذا الجزء من أعلام الحجاز ما يدل على محتوياته فسميته:"أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري وبعض القرون الماضية" وأود أن أذكر أن هذه التسمية ليست حرفية، وإنما هي من باب إطلاق اسم البعض على الكل، فأنا لم أتحدث عن كل أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر وإنما تحدثت عن بعضهم، ولعلى تحدثت عن القليلين الذين عرفتهم، أو تيسر لي الاطلاع على أخبارهم، كما أني لم أتحدث إلا عن البيتي من أعلام القرن الثاني عشر، وبعض الرجال الخضرمين الذين عاصروا النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وتوفوا في القرن الرابع عشر مثل: الحضراوى، والشيخ عبد الرحمن سراج مفتى الأحناف بمكة المكرمة، فالتسمية ليست حرفية كما ذكرت، وأرجو أن يهبني الله تعالى من القوة ما يمكنني من مواصلة الحديث عن أعلام الحجاز في هذا القرن.، وفي القرون الماضية، وأن يُسَدِّدَ خُطَاي وينير طريقى في استخراج هذا التاريخ كله أو بعضه، وإظهاره للناس.

وقبل أن أختم حديثي في هذه المقدمة أودُّ أن أكرر ما ذكرته في الجزء الأول من أعلام الحجاز، أن هؤلاء الأعلام الذين تحدثت وأتحدث

ص: 7

عنهم هم بشر من البشر، لم يسلموا من الشوائب أو النقص، وإننى تعمدت أن أذكر الحسنات، وأغضي عن السيأت، عملا بالحديث الشريف:"اذكروا محاسن موتاكم"، والكمال صفة من صفات الله تعالى وليست من صفات البشر إلا لمن اصطفاه الله تعالى من رسله وأنبيائه، والله أسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم مبرأة من الغرض والمرض والحمد لله رب العالمين ..

29 من ذى القعدة 1409 هـ

محمد علي مغربي

ص: 8

أعلامُ الحجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 9

الأستاذ أحمد السباعي

ص: 10

‌أحمد السبَاعِي

‌وصفه:

طويل القامة، أسمر اللون، متوسط البنية، عظيم الأنف والشفتين، في وجهه آثار جدري أصابه صغيرًا، له لحية صغيرة خفيفة، يرتدي العباءة العربية والعقال، وكان في شبابه يرتدي الكوفية الحجازية والشال يلفه على الرأس.

‌تاريخ مولده ووفاته:

ولد في شهر ذي الحجة سنة 1323 هـ بمكة المكرمة، وتوفي بها في 16 ذي الحجة سنة 1404 هـ ودفن بمقبرة المعلاة عن عمر بلغ الإِحدى وثمانين عامًا.

‌دراسته ووظائفه:

تلقى السباعى تعليمه في مكة المكرمة، فدخل الكتّاب لبعض الوقت ثم انتقل إلى المدرسة، وتخرج منها ليعمل بالتدريس في مدارس مكة المكرمة، وحينما تأسست الشركة العربية للطبع والنشر في الخمسينات من القرن الماضى اختاره الشيخ محمد سرور الصبان مديرًا للشركة المذكورة، وكانت تقوم بطبع الكتب المدرسية، وكان السباعي من المعنيين بهذا الأمر، وكان من أول مؤلفاته سلم القراءة العربية وهي سلسلة صدرت في ستة أجزاء وكان إلى جانب هذه الحياة الفكرية يعمل في مهنة الطوافة للحجاج المصرين.

ص: 11

‌اتصاله بالصحافة:

حينما صدرت جريدة صوت الحجاز في مكة الكرمة في صفر سنة 1350 هـ أُسندت رئاسة تحريرها إلى نخبة من الشبان هم الأساتذة: عبد الوهاب آشى، ومحمد حسن عواد - رحمهما الله -، والأستاذ محمد حسن فقى - مد الله في حياته -.

وفي جريدة صوت الحجاز نشر السباعى مقالاته الأولى مثل أدباء جيله، ولما كان مهتما بالتعليم فقد أسند إليه الأستاذ محمد سعيد العامودي الأديب الكبير كتابة الموضوعات الخاصة بالتعليم، وكان معجبًا بآرائه فالتحق محررًا بصحيفة صوت الحجاز

(1)

، وكان الأستاذ حمزة شحاتة الأديب الشهير معجبًا بما يكتبه السباعى في جريدة صوت الحجاز، وكانت كتابته تتسم بالبساطة والوضوح فقال عنه شحاتة: إنه كاتب المستقبل. وبعدما انتقلت ملكية جريدة صوت الحجاز إلى الشركة العربية للطبع والنشر التي أسسها معالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان اختار معاليه أحمد السباعى مديرًا للشركة، كما اختار الأستاذ أحمد قنديل - يرحمه الله - لرئاسة تحرير صوت الحجاز.

وفي الخمسينات من القرن الماضي نشر الأستاذ أحمد قنديل في صوت الحجاز قصيدة بتوقيع مستعار، وفسَّرها البعض تفسيرًا سيئًا، فأقصي عن رئاسة تحرير الجريدة فتولى أحمد السباعي رئاستها بصورة مؤقتة

(1)

انظر: كل ما يتعلق بصحيفة صوت الحجاز في أعلام الحجاز (ج 1) ص: 259 - 268.

ص: 12

مع احتفاظه بعمله في إدارة الطبع والنشر، ولكن السباعي لم يستمر في رئاسة التحرير لملاحظات لوحظت على سكرتير التحرير الأستاذ حسين خزندار، فأُسندت رئاسة تحرير صوت الحجاز إلى الأستاذ فؤاد شاكر رئيس تحرير أم القرى فسمى نفسه عميد الصحافة.

‌معرفتي بالسباعي:

وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضى انتقلت للعمل بمكة المكرمة سكرتيرًا خاصًّا لمعالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان، وكان من ضمن مهام عملي الإِشراف على حسابات الشركة العربية للطبع والنشر التي أسسها معاليه، والتى يتولى إدارتها الأستاذ السباعي .. كنت أتردد على إدارة جريدة صوت الحجاز يوميا تقريبا لزيارة صديقى الأستاذ أحمد قنديل - يرحمه الله -، وفي إدارة صوت الحجاز عرفت السباعي فرأيت فيه رجلا كثير الحيوية تغلب الفصحى على كلامه، بينما تنم حركاته عن طبع مكي صميم يسلكه في عداد أبناء البلد الذين طبعتهم مهنة التدريس بطابعها فكان طرازًا خاصًّا من الناس يجمع بين خصائص طبع ابن البلد، وعقلية المدرس المواكب للجديد في الحياة.

وبحكم إشرافي على حسابات الشركة التي كان يديرها السباعي رحمه الله وقع بيني وبينه ما يقع عادة بين الأحياء، فكان ينقم على الآراء والملاحظات التي أُقدمها لرئيس الشركة عن الشركة وأعمالها.

مضت الأيام وسار كل منا في طريق، وانتقلت إلى جدة وأسست عملي التجاري بها وأصدر هو كتابه العظيم "تاريخ مكة"، كنت يوما في مجلس صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله بن عبد الرحمن بالرياض

ص: 13

وجاء ذكر كتاب السباعي "تاريخ مكة" .. وكان في المجلس رجلان أحدهما: من أوائل الوزراء السعوديين، والثاني: من كبار موظفي الدولة وكان يومها يشغل منصبا كبيرًا في الرياض، وتوجه سمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن إلى الرجلين يسألهما عن كتاب "تاريخ مكة" ولكنَّ أحدا منهما لم يستطع الحديث في الأمر لأنهما لم يكونا قد عرفا أو سمعا بالسباعي ولا بكتابه العتيد.

والتفت سموه إلىَّ وكنت في ناحية قصية في المجلس وقال مُستغربًا، أليس هذا تاريخ بلادكم ألم تقرأوه؟ قلت لسموه: إن "تاريخ مكة" كتاب عظيم لولا أنه مختصر ثم أضفت:

كنت أتمنى لو أن المؤلف أطال نَفَسَ القول ليكون كتابه أشفى للغلة، قال سموه: ولكن ما هو هذا السباعي؟ وكان يشير إلى تعليقاته على الأحداث والرجال التي وردت في الكتاب.

قلت: إن كُتَّابَ التاريخ ينقسمون إلى قسمين: قسم: يورد الحوادث ويترك للقارئ أن يستخلص منها ما يشاء، والقسم الآخر: يورد الحوادث ثم يورد رأيه فيها، والسباعي من هذا القسم الأخير.

وعدت إلى فندق اليمامة بالرياض فوجدت السباعي رحمه الله في غرفة المائدة ويبدو أن شخصًا ما نقل إليه ما دار في مجلس سمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن فأقبل عليّ محيِّيًا فقلت له: إني وصفت "تاريخ مكة" بأنه مختصر فقال رحمه الله مختصر .. إنه فهرست .. وكانت هذه الحادثة سببا في إصلاح ما فسد بيني وبينه قبل ربع قرن كما كانت هذه آخر مرة ألقاه فيها رحمه الله.

ص: 14

‌مؤلفات السباعي:

أصدر السباعي كتابه: "تاريخ مكة" في جزءين وهو أهم مؤلفاته وسنفرد عنه حديثًا خاصًّا بعد، أما مؤلفاته الأخرى فهي:

خالتي كدرجان.

دعونا نمشي.

صحيفة السوابق.

فكرة.

المرشد إلى الحج والزيارة.

أبو زامل وهو قصة الجيل الماضي.

الأمثال الشعبية في مدن الحجاز (وقد طبع عدة مرات).

سلم القراءة العربية (في ستة أجزاء).

أوراق مطوية.

قال وقلت.

سِبَاعيات (في جزءين).

مطوّفون وحجاج.

أيامي.

فلسفة.

يوميات مجنون

(2)

.

هذا عدا المقالات الكثيرة التي نشرت له بالصحف.

(2)

جريدة الندوة: العدد 7366 تاريخ (17 شعبان 1403 هـ)، والشرق الأوسط: العدد 2216 تاريخ (18 ذى الحجة 1404 هـ).

ص: 15

‌إصدار الصحف:

وأصدر السباعى جريدة الندوة التي أُدمجت مع جريدة حراء بعد ذلك، حيث صدر قرار بإدماج الصحف، واحتفظت الندوة باسمها، ثم تخلَّى السباعي عن حصته في الندوة للأستاذ صالح محمد جمال، وأصدر بعد ذلك مجلة قريش، واستمر في إصدارها إلى أن صدر نظام المؤسسات الصحفية فتوقفت عن الصدور.

‌كتاب "تاريخ مكة

":

أصدر السباعي كتابه "تاريخ مكة"، أصدر الجزء الأول منه سنة 1372 هـ، وأصدر الجزء الثاني منه سنة 1378 هـ، وأُعيد طبعه مرات عديدة، وكان ضمن الدفعة الأولى من الأدباء السعوديين الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية للآداب ولست أشك أن كتاب "تاريخ مكة" هو الذي رشَّحه للجائزة فحصل عليها بجدارة واستحقاق. نستطيع أن نصف كتاب "تاريخ مكة" بأنه كتاب عظيم استعرض فيه المؤلف تاريخ مكة منذ نشأتها الأولى من عهد إسماعيل عليه السلام وحتى نهاية الدولة الهاشمية واستهلال الدولة السعودية الثانية عام 1344 هـ، وقد تقلب على مكة خلال هذه القرون دول ورجال ووقع فيها حروب وقتال، ولم تكن مصادر المؤلف سهلة ميسورة بل كان الكثير منها مفرَّقًا في مخطوطات مطمورة في المكتبات، وقد وصف السباعى ما عاناه في جمع ما تفرق من هذا التاريخ وضم أشتاته في المقدمة الأولى لكتابه حيث قال:

قد نجد في خزائن التراث الإِسلامى مطولات لا علاقة لها بمكة،

ص: 16

ولكن آفاقها الواسعة وفنونها المتنوعة تسوقها أحيانًا إلى الاستطراد في شيء هام له علاقة بمكة، فإذا استطاع المطلع أن يقتنص الاستطرادات من هذا النوع فإنه سيستنتج مادة لها قيمتها في الكتابة عن تاريخ مكة، ولا يتيسر هذا إلا لمتفرغ يقضي سني حياته في القراءة واقتناص ما يصادفه فيها

(3)

.

ومع ذلك فقد استطاع السباعي أن يجمع أشتات هذا التاريخ في كتاب يقرأه القارئ في أبواب يستعرض فيها الدول التي حكمت مكة وارتبطت مكة بها سياسيًّا، ولقد استعان المؤلف بمن سبقه من المؤرخين، وإن كان المطبوع من مؤلفات هؤلاء المؤرخين يصل إلى حدود وأزمان معينة، فلجأ إلى المخطوطات وبعضها عظيم القيمة، وأكثرها لا يستحق ما ينفق في قراءته من وقت، أو يبذل في سبيله من عناء، وقد قضى السنوات الطوال وهو يقرأ ويدوِّن كلما يصادفه في مذكراته فاجتمع له كما يقول مع السنين مدونات لا حصر لها من جميع الألوان غثها وسمينها

(4)

، ثم عكف بعد ذلك على اختيار المادة الصالحة من هذه المدونات وترتيبها حسب العصور وعلق عليها بما أملته عليه الحوادث والأيام، فاستوى له في النهاية كتابه العظيم.

إنه جهد تنوء به العصبة أُولو القوة ولكن السباعي قام به وحيدًا فردًا .. إننى أُقدر قيمة الكتاب الذى أقرأه بما يضيف إلى معلوماتي من الجديد والمفيد، ولقد كان كتاب "تاريخ مكة" بالنسبة لي وأكاد أجزم

(3)

مقدمة تاريخ مكة: ص 7 (الطبعة الرابعة).

(4)

نفس المصدر: ص 7، 8.

ص: 17

أنه بالنسبة لكل من يقرأه عظيم الفائدة، زاخرًا بالمعلومات.

ولعلى وأنا من المهتمين بتاريخ الحجاز عامة ومدنه خاصة، ومكة أهم مدنه بل أهم مدن العالم لعلي وأنا بهذه الصفة أكثر تقديرًا لما بذله السباعى من جهد، وما أنفقه من عمر في جمع مادة هذا التاريخ وتبويبها ثم إخراجها إلى الناس.

وهذا الكتاب فيما أعلم هو أول كتاب يؤرخ لمكة منذ عهد إسماعيل عليه السلام وحتى هذا العهد الذي نعيش فيه، وهو أول مؤرخ يكتب لنا هذا التاريخ بأسلوب العصر الذي نعيش فيه. أقول هذا وأنا أعرف مصادر الكتاب ومن أهمها كتاب "خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام" للسيد أحمد زيني دحلان وهو من الكتب المطبوعة والقريبة العهد نسبيًّا، وكتاب "إفادة الأنام بأخبار البلد الحرام" للشيخ عبد الله غازي وهو من الكتب الموسوعية المخطوطة وغيرهما.

إن التاريخ ينقل، ولو لم ننقل عمن سبقنا من المؤرخين لما استطعنا أن نكتب إلا ما شهدنا، ولكن التاريخ كما ينقل فإنه ينقد ويبحث ويغربل إذا صح هذا التعبير، فما أكثر الأكاذيب التي تصادفنا في كتب التاريخ وما أكثر الأغراض التي تملي هذه الأكاذيب والتي يدركها الناقد الخبير، وأستطيع أن أقول: إن كتاب السباعي من الكتب القليلة في تاريخ مكة التي حاول فيها المؤلف أن يلتزم جانب الحيدة، وأن يقدّم لنا الحوادث مع تعليقه عليها في أسلوب يجمع بين الإِيجاز والصدق.

وبعد هذا الإِطراء الذي يستحقه الكاتب والكتاب، لعل هناك من يسأل هل خلا كتاب "تاريخ مكة" من المؤاخذات؟ ونرد على السؤال بسؤال آخر هل هناك كتاب يخلو من المؤاخذات، إذا استثنينا

ص: 18

الكتب المقدسة؟ أن السباعي نفسه يعتبر أن كتابه هذا ما هو إلا المقدمة الوجيزة لتاريخ مكة، مهَّد بهذه المقدمة لمن سيأتي بعده فيوفِّي هذه المباحث حقها فيقول السباعى:

ولا شك أن ما يكتبه الكاتب بعدى سيمتاز بجودة الخطوة التالية وحسبي أني مهدت له السبيل، وأيقظت فيه فكرة البحث

(5)

.

وإني لأتمنى أن يحقق الله للسباعي أمنيته هذه فتخرج لنا الأيام كتبًا كثيرة لا في تاريخ مكة وإنما في تاريخ الحجاز كله.

كنت أتمنى لو أن السباعى خرج في تأليفه من التخصيص إلى التعميم فألف لنا تاريخ الحجاز وهو كتاب لم يولد بعد، وقد كتب عن مكة، وهي عاصمة الحجاز بل عاصمة الإسلام، رارتبطت بها مدن الحجاز الأخرى: جدة، والمدينة، والطائف، وينبع، وغيرها من المدن، ولكن مكية السباعى أبت عليه إلا أن يفرد مكة بكتابه فكان "تاريخ مكة".

هذه أمنيةٌ وليس في الأماني ما يضير.

والثانية: أن الكتاب مختصر، وقد وصفه السباعي بأنه فهرست فليس هذا بجديد على المؤلف ولكني أستطيع أن أقول: إنه مختصر مفيد، ها نحن نعود إلى الإطراء ونحن نتساءل عن المؤاخذات: إني أعترف بأن إعجابي بتاريخ مكة قد حوَّل المؤاخذات في عينيَّ إلى حسنات فلا يلومنَّ لائم إلا نفسه، وهذا هو الميدان فليخرج لنا كتابا مثله ونحن نغدق عليه ما أغدقنا من المديح والثناء.

(5)

مقدمة تاريخ مكة: ص 8 (الطبعة الرابعة).

ص: 19

هناك مسألة أخو هي مراجع السباعى التي أخذ منها والتى اعتمد عليها، والتاريخ بالذات كما ذكرنا ينقل وينقد ومن الواجب أن يشير المؤلف إلى المصدر الذي استقى منه الحادث إشارة واضحة تشمل الكتاب والجزء والصفحة؟ واسم المؤلف وتاريخ الطبعة، وهذا نقص ملموس في تاريخ مكة إذا رغب الناقد أن يخضعه للمقاييس الحديثة في التأليف، وقد أدرك السباعى ذلك فقال: إنه اعتمد على المدوّنات التي دوّنها خلال السنين وإنه لو أراد الرجوع إليها لاقتضاه هذا عمرًا جديدًا، ولهذا فقد اكتفى بسر مصادره في نهاية الكتاب. وقال: إنه اقتدى في ذلك بالدكتور طه حسين، وردّنا على السباعي: إن طه حسين ذكر في مقدمة ما ألَّف في هذا الباب إنه لا يكتب تاريخًا موثّقًا، وإنما هي آراء عنَّت له بعد قراءته للكتب التي ذكرها، وطه حسين حينما يقول هذا ينفى عن مؤلفاته هذه الصفة العلمية التي هو من أعرف الناس بها.

أراد طه حسين أن يعبّر عن آراء معيَّنة زيَّن له هواه أنها تمثل الجرأة وحرية الرأي، ولكنه يعرف أنها إذا ما أُخضعت لموازين النقد التاريخى تذوب كما يذوب الزبد في أعقاب الموج، فكتب ما كتب واكتفى بذكر مصادره دون تدقيق أو ترتيب.

ولم يذهب السباعي مذهب طه حسين، ولا سلك سبيله فالفرق بينهما هو الفرق بين من يكتب وهو يريد الوصول إلى غاية حدَّدها، وبين من يكتب وهو يريد أن يتحرَّى الحق والصدق فيبرزهما إلى الناس.

وبعد فإن هذا النقص في كتاب السباعي لا يُنقص في نظري من قيمته، ولا يغضُّ من مكانته، وإن تدارُك هذا الأمر ليس بالعسير

ص: 20

فالمصادر التي أشار إليها في طبعته الأخيرة من الكتاب تساعد على الوصول إلى الأصل الذي استقى منه، وقد رجعت إلى كثير من هذه المراجع فوجدتها حيث أشار إليها.

وبعد فقد أطلنا الحديث عن تاريخ مكة وآن لنا أن نقلب صفحاته لنقرأ فيها أو لنوجز الموجز ونختصر الفهرست فهيا بنا نقرأ في هذا السفر النفيس:

‌البناء في مكة:

كان البناء في عهد جُرهم وقطورا عبارة عن مضارب من الشعر بعيدًا عن البيت الحرام في سفوح الجبال وبين الأودية.

‌أول بيت في مكة:

وأول من بنى بيتًا بمكة سعيد بن عمرو السهمى وقد قيل في ذلك:

وأول من بنا بمكة بيته

وسوَّر فيها مسكنًا بأثافي

(6)

‌في عهد قريش:

وفي عهد حكومة قريش حلَّت البيوت المبنية بالحجر والطين محل بيوت الشعر، وظلت بعيدة عن البيت الحرام في أعلى مكة أو شواطئ السيل في أسفلها

(7)

ولم يكونوا يربعون البيوت بحيث تقوم على سقوف مربعة

(6)

تاريخ مكة (ج 1): ص 28، 29.

(7)

نفس المصدر (ج 1): ص 29.

ص: 21

كما هو الحاصل في بناء البيوت اليوم وأول من بنى بيتًا مربَّعا: حميد بن زهير، فقال الناس:

ربَّع حميد بيتا

إما حياة وإما موتا

(8)

‌أبواب البيوت:

وكانوا لا يصنعون الأبواب لبيوتهم ويتركونها شارعة مفتوحة، ويجعلون أمامها العرصات لينزل فيها الحجاج والمعتمرون، وأول من بوَّب بيته في مكة: حاطب بن أبى بلتعة.

وحينما أخذوا يصنعون الأبواب للبيوت لم تكن الغرفة جميعها مبوّبة، وإنما يقتصرون على تبويب بعض الغرف ليضع فيها الحجاج أمتعتهم خشية عليها من السرقات

(9)

.

‌قصيّ أول من أباح البناء حول الكعبة:

لما ولي قصيّ بن كلاب أمْرَ مكة خط للكعبة ساحة توازي صحن المسجد - المطاف اليوم - وأباح للناس أن يبنوا بيوتهم حول مذار الكعبة من الجهات الأربع، وكانوا قبل قصيّ لا يبيحون لأنفسهم السكنى أو المبيت بجوار الكعبة .. وأمر قصيّ أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يصلون منها إلى ساحة الكعبة، وكان أهم الطرق التي حول الكعبة طريق شيبة وهو مكان باب بنى شيبة.

"باب بنى شيبة أُزيل لتوسعة المطاف في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام".

(8)

تاريخ مكة (ج 1): ص 29.

(9)

نفس المصدر.

ص: 22

‌عمر بن عبد العزيز ينهى عن تأجير البيوت في مكة ومِنًى:

في خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر واليه على مكة عبد العزيز بن عبد الله أن ينهى الناس عن كراء بيوت مكة، كما أمر بتسوية بيوت مِنًى، فجعل الناس يدسُّون إليهم الكراء سرًّا

(10)

.

‌الإِضاءة في المسجد وبين الصفا والمروة:

أمر الخليفة عبد الملك بن مروان عامله على مكة خالد القصري بإضاءة ما بين الصفا والمروة، كما أمره باتخاذ مصباح كبير مقابل الركن الأسود، ثم أنشأ للمصباح عمودًا، وهو أول مصباح اتخذ في المسجد رسميًّا. فقد كان بعض جيران المسجد قبل ذلك يضع على بيته مصباحا لينتفع الناس بضوئه في المسجد.

ويذكر الأرزقي أن جده عقبة بن الأزرق كان يضع على طرف داره مصباحا يضئ لأهل الطواف، حتى كان خالد بن عبد الله القسري الذي منعه أن يضع المصباح، ووضع بدله مصباح زمزم فيما يقابل الركن الأسود

(11)

.

‌بناء ظفائر للبيوت الملاصقة للمسجد الحرام:

في خلافة عبد الملك بن مروان سنة 80 هـ دهم المسجد سيل عظيم، اخترق جدار بعض الدور المحيطة بالمسجد، فأرسل الخليفة مالًا عظيمًا لواليه على مكة عبد الله بن سفيان، وأمره أن يبنى ظفائر للبيوت

(10)

تاريخ مكة (ج 1): ص 108.

(11)

نفس المصدر (ج 1): ص 128، 129.

ص: 23

الملاصقة للمسجد تحول دون اختراق السيل لها

(12)

.

‌معاوية يرتب العبيد لحدمة المسجد الحرام:

كان معاوية أول من رتب العبيد للخدمة في المسجد الحرام، ويذكر المؤرخون أن العبيد في هذا العهد كانوا يرتبون صفوف المسجد ويقومون بحراسته

(13)

.

‌البساتين حول مكة:

كانت مكة محاطة بالبساتين وكان من أشهرها - الليط - وهو أسفل مكة قريبًا من بركة ماجل في المسفلة كما يرى السباعي، بينما يقدر الأستاذ رشدي الصالح ملحس أنه "خلف القشلة العسكرية، وكان أهل مكة يتخذون من الليط منتزها لهم، وكان في الليط - أُقحوانة

(14)

- يجلس أهل مكة حولها في العشيّ يلبسون الثياب المحمرة والمورَّدة والمطيَّبة، وفي هذه الأقحوانة يقول الشاعر:

من ذا يسائل أين منزلنا

فالأقحوانة منا منزل قمن

إذ نلبس العيش صفوًا ما يكدِّره

طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن

وشعب خُمْ، وهو يتصل بالمسفلة اليوم، وكان مزروعا فيه عدة بساتين تتصل بالليط ثم تتصل بجرول.

(12)

تاريخ مكة (ج 1): ص 129.

(13)

نفس المصدر (ج 1): ص 130.

(14)

الأُقحوانة: هي شجرة عبَّاد الشمس.

ص: 24

وكان أهل مكة يخرجون إلى حائط الحمام بجوار المعلاة، فقد كان لهم هناك نخيل وزروع، وكانت بساتين مكة تمتد إلى الخرمانية بقرب ما نسميه المعابدة، ثم تمضى إلى المحصب في الطريق المؤدي إلي مِنًى.

وكان لهم في المحصب دكة يجتمع المتنزهون فيها أصيل كل يوم وكانت تشرف على نخيل باسق وبساتين تحتضنها شعاب الوادي الممتدة إلى مِنًى .. وكانت لهم بساتين في وادي فخ ونسميه الشهداء - اليوم: - وأخرى بوادى طوى في امتداده من الحجون إلى ريع الكحل وبساتين غير هذه في ضواحى مكة العليا إلى مزدلفة. فعرفة

(15)

.

‌سور مكة:

بنى القرشيون في أواخر عهدهم ما يشبه السور في أعلى المدَّعى وبوَّبوه، ولم يثبت أنهم بنوا مثله في ناحية أخرى منها

(16)

.

أقول: أرجح أن مكة سورت من الناحية الأخرى في موضع حارة الباب، وكان للسور باب في ذلك الموضع سميت الحارة باسمه والله أعلم

(17)

.

(15)

تاريخ مكة (ج 1): ص 36.

(16)

نفس المصدر.

(17)

لقد استدرك المؤلف فذكر أن قتادة بنى سورًا أعلى مكة وسهل العقبة التي كانت تفصل الشبيكة وحارة الباب سميت كذلك لأن الباب المسوَّر كان فيها. انظر (ج 1): ص 244.

ص: 25

‌أُوليات في مكة

‌أول أمير لمكة:

أول أمير وُلِّي على مكة عتَّاب بن أُسيد ولاه النبي صلوات الله وسلامه عليه مكة عام الفتح وأوصاه بأهل مكة فقال: "أتدري على مَن ولَّيتك يا عتَّاب؟ على جيران بيت الله فاستوصي بهم خيرا" وفرض له كل يوم درهمًا

(18)

.

‌أول أمير للحج في الإِسلام:

ولَّى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في السنة التاسعة إمارة الحج، حيث تخلف صلوات الله وسلامه عليه في المدينة، فسار أبو بكر من المدينة ومعه جموع المسلمين من المهاجرين والأنصار ليقود الحج في ذلك العام فكان أول أمير للحج في الإِسلام

(19)

.

‌أول قاض بمكة:

اختار الرسول صلوات الله وسلامه عليه معاذ بن جبل عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة فولَّاه القضاء في مكة

(20)

.

‌أول والٍ تركي في مكة:

تولى ولاية مكة في خلافة المعتصم سنة 226 هـ أشناس التركي،

(18)

تاريخ مكة (ج 1): ص 59، 60.

(19)

نفس المصدر (ج 1): ص 60.

(20)

نفس المصدر (ج 1): ص 65.

ص: 26

وهو أول تركي تولى شأن مكة، ويقول المؤلف: إن ولايته كانت فخرية، وكان ينيب عنه من يقوم بأعبائها

(21)

.

وكان المعتصم أول خليفة عربي اعتمد على الأتراك واقتناهم وبذل الأموال في شرائهم من سمرقند وفرغانة وألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأسند إليهم مناصب الدولة وولَّاهم بعض النواحي، وآثرهم على الفرس والعرب وبلغ من حفاوة المعتصم بأشناس هذا أنه حينما أراد الحج فوَّض إليه ولاية كل بلد يدخلها حتى ينتهي إلى مكة ثم يعود منها، وبهذا دخلت مكة في ولاية أشناس ذلك العام، ودعي باسمه على منابرها ولكنه أقام على الحج محمدًا بن داود بن عيسى نائبًا عنه، وكانت أم المعتصم تركية

(22)

.

‌إدارة الصفوف حول الكعبة:

أول من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد الله القسري والي مكة لعبد الملك بن مروان، وقد كان الناس يصلون القيام في رمضان خلف مقام إبراهيم على خطوات بعيدة منه، ويتركون المطاف، وخلفهم المقام لمن أراد الطواف، فلما تولى خالد بن عبد الله القسري، أمر أن يصلي الإِمام خلف المقام مباشرة، وأن تدور صفوف المصلين حول الكعبة من جميع جوانبها، فلما قيل له: إن ذلك يمنع الطائفين من طوافهم، أمر أن لا يطوف الطائفون إلا بعد ترويحتين، ولا يقوم المصلون

(21)

تاريخ مكة (ج 1): ص 145.

(22)

نفس المصدر (ج 1): ص 145، 146.

ص: 27

حتى تنتهي أشواط طوافهم، فظل الناس يتناوبون الصلاة مرة، والطواف مرة إلى مطلع الفجر، تحت إشراف عبيد الكعبة

(23)

.

‌أمسكوا رحمكم الله:

وأمر خالد القسري بتخصيص رجل يتحرى طلوع الفجر فوق أبى قبيس فإذا بان الفجر نادى بأعلى صوته: أمسكوا رحمكم الله

(24)

.

‌التفريق بين الرجال والنساء في الطواف:

وأمر خالد بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف وأجلس عند كل ركن حرسًا معهم السياط وذلك على أثر ما نقل إليه من قول بعض الشعراء:

يا حبذا الموسم من موفد

وحبذا الكعبة من مشهد

وحبذا اللاتي يزاحمننا

عند استلام الحجر الأسود

أمر خالد بالتفريق في المطاف بين الرجال والنساء وقال ردًّا على هذا الشاعر: ألا إنهن لا يزاحمنك بعد هذا

(25)

.

‌الثلج يُحمَل إلى الرشيد في مكة:

حج هارون الرشيد تسع حجج وفي عام 179 هـ سار من مكة إلى مِنًى فعرفات ماشيًا وأكمل حجه ماشيًا، وذكروا أن الرشيد أول

(23)

تاريخ مكة (ج 1): ص 130.

(24)

نفس المصدر (ج 1): ص 131.

(25)

نفس المصدر (ج 1): ص 131.

ص: 28

خليفة حُمِل إليه الثلج إلى مكة، وكان هذا الثلج الطبيعى يحمل من الأقاليم الباردة، فيرسل إلى الخلفاء في بغداد، ثم استطاعوا المحافظة عليه حتى أوصلوه إلى مكة للرشيد

(26)

.

‌الرشيد يبني أول مظلة للمؤذنين في المسجد الحرام:

وفي عهد الرشيد أنشأ أمير مكة مظلة للمبلِّغين - المؤذنين - فوق سطح المسجد، وكانوا قبل ذلك يؤذنون فوق السطح لا يظلهم شئ من الشمس أو المطر

(27)

.

‌الحجز بين النساء والرجال في المسجد:

قام عامل الخليفة المعتز بإضاءة المطاف، واتخذ للنساء مكانًا يُحجزن فيه خلف أعمدة ربط بينها بالحبال

(28)

.

‌الملك المسعود يبني القبة الحديدية على مقام إبراهيم:

وكان الملك المسعود ابن الملك الكامل الأيوبي بنى القبة الحديدية الموجودة على مقام إبراهيم - ولا تزال باقية إلى اليوم - وكانت قبته قبل ذلك غير ثابتة، فقد كانوا ينقلون حجر المقام إذا اشتد الزحام إلى داخل الكعبة أو أحد أركان المسجد

(29)

.

أقول: لقد أُزيلت القبة الحديدية، وكانت أشبه ما تكون بغرفة

(26)

تاريخ مكة (ج 1): ص 150، 151.

(27)

نفس المصدر (ج 1): ص 160.

(28)

نفس المصدر (ج 1): ص 185.

(29)

نفس المصدر (ج 1): ص 233.

ص: 29

صغيرة من الحديد المشغول تعلوها قبة صغيرة وكان حجر المقام في داخلها، فأُزيلت القبة بكاملها توسعة للمطاف، ووضع حجر المقام في مكانه الحالي في مواجهة الحِجْر - حِجْر إسماعيل - داخل إناء بلوري شفاف يعلوه هلال من الذهب الخالص وتم هذا في 18 رجب سنة 1387 هـ

(30)

.

‌شجرة الدر أول من حج بالمحمل:

قدمت شجرة الدر - ملكة مصر - للحج على رأس قافلة الحجاج المصريين، وكان يقلها (محمل) على شكل هودج، اتخذ فيما بعد شعارًا لقافلة المصريين، ثم قلدهم فيه بعض الأمم من المسلمين

(30)

.

أقول: لم يذكر المؤلف السنة التي حجت فيها شجرة الدر، وقد تولت المُلك في مصر سنة 648 هـ وقُتلت سنة 656 هـ كما هو مفصل في المراجع التاريخية الكثيرة، وهذه المراجع لا تذكر إطلاقا حج شجرة الدر، فإذا كان هذا الحج قد وقع فعلا فيكون ذلك في منتصف القرن السابع الهجري بين سنة 648 و 656 للهجرة

(31)

.

‌وجاء في الدرر الفرائد المنظمة:

أن طريق الحج القديم الذي كان يسلكه الحجاج من عيذاب إلى جدة والذي استمر نحو مائتي عام من بضع وخمسين وأربعمائة إلى بضع

(30)

انظر تفصيل ذلك في "التاريخ القديم لمكة وبيت الله الكريم"(ج 4): ص 10 - 67.

(30 مكرر) تاريخ مكة (ج 1): ص 247.

(31)

انظر: كتاب المماليك: ص 29 - 34 للدكتور جمال الدين سرور.

ص: 30

وستين وستمائة انقطع في أيام الخليفة المنتصر بالله، إلى أن كسا الظاهر ركن الدين بيبرس البيرقداري الكعبة وعمل لها مفتاحًا ثم أخرج قافلة الحج في البر سنة بضع وستين وسمائة، أي بعد وفاة شجرة الدر ببضع سنين

(32)

.

ويقول صاحب مرآة الحرمين: إن أول محمل خرج من مصر سنة 700 هـ

(33)

.

هذا ما رأينا إيضاحه عن أول محمل وصل إلى مكة المكرمة. وقد استمر المحمل المصري شعارا للحجاج المصريين إلى أن وقع القتال بسببه في مِنًى بين أمير الحج المصري والإِخوان من حجاج نجد، ثم أُبطلت هذه العادة، وكان المصريون يبعثون كسوة الكعبة مع المحمل، وبعض المال من الأوقاف الموقوفة على الحرمين الشريفين بصعيد مصر، وقد فصلنا ما يتعلق بذلك في أعلام الحجاز

(34)

.

‌نظام سير قافلة المحمل:

إذا وصل المحمل إلى عُجرة أو عُجر - بين القاهرة والسويس - يأمر أمير المحمل بكتابة أسماء أكابر الحجاج ويرتب سيرهم في مكان معين من القافلة، ويضع على طليعة القافلة، وعلى ساقتها العساكر، وتوضع الأموال في وسطها خشية من اللصوص

(35)

.

(32)

الدرر الفرائد المنظمة (ج 1): ص 400، 401.

(33)

مرآة الحرمين (ج 2): ص 38.

(34)

أعلام الحجاز (ج 2): ص 91، 92.

(35)

تاريخ مكة (ج 1): ص 335.

ص: 31

‌مدة الرحلة من مصر إلى مكة:

تستغرق رحلة قوافل الحجاج من مصر إلى المدينة المنورة نحو شهر ونصف، وما يقرب من أربعين يوما من الشام إلى المدينة المنورة

(36)

.

‌الحج بالمراكب الشراعية من السويس إلى جدة:

كانت قوافل الحجاج تقطع الطريق البري بين مصر والحجاز فلما كان عام 1301 هـ اتخذ الحج المصرى طريقه من السويس إلى جدة في المراكب الشراعية

(37)

.

‌محمل اليمن:

أرسل اليمنيون محملًا إلى مكة مع حُجّاجهم ووصل هذا المحمل في إمارة الشريف أبى نمي الثاني من سنة 948 - 992 هـ، وكان الذى أحدث هذا المحمل هو والي العثمانيين في اليمن مصطفى باشا النشار، وكان اليمنيون يرسلون مع المحمل هداياهم إلى مكة وأميرها

(38)

.

‌محمل الروم:

قلد العثمانيون أهل مصر والشام في إرسال المحامل فأرسلوا محملًا روميًّا خاصًّا بهم سنة 923 هـ وهي السنة التي بسطو فيها نفوذهم على الحجاز

(39)

.

(36)

تاريخ مكة: ص 336.

(37)

نفس المصدر: ص 337.

(38)

نفس المصدر (ج 2): ص 348.

(39)

نفس المصدر: ص 464.

ص: 32

‌أول صرٍّ لفقراء الحرمين:

أهدى السلطان محمد الأول العثماني هدايا نفيسة لصاحب مكة، ووَقَف باسم فقراء الحرمين أوقافا جعل يرسل غلتها سنويًّا في صرٍّ، فكان أول صرٍّ منظم عُيِّنَ لفقراء الحرمين

(40)

.

ولم يذكر المؤلف تاريخ هذا الصرّ، وقد ساق الخبر ضمن حوادث سنة 824 هـ.

‌أول مطبعة للنقود بمكة:

وُلِّي الشريف علي بن عنان إمارة مكة سنة 827 هـ واصطحب معه من مصر مطبعة لضرب النقود، فضربت النقود باسمه على أثر وصوله إلى مكة، وقد بقى في إمارة مكة عامًا واحدًا

(41)

.

‌نشأة الطوافة بمكة:

حج السلطان قايتباي في سنة 884 هـ، ولم يحج من ملوك الشراكسة غيره، فتقدم القاضي إبراهيم بن ظهيرة لتطويفه وتلقينه الأدعية.

يقول الأستاذ السباعي: ولم يذكر المؤلفون مطوّفا قبل القاضي كان يلقن الحجاج في مكة فيما قرأته من تواريخ مكة ..

ويقول كذلك: ولعل صناعة التطويف ابتدعت في هذا العهد

(40)

تاريخ مكة (ج 1): ص 299، 300.

(41)

نفس المصدر (ج 1): ص 300.

ص: 33

لأن الشراكسة بحكم جهلهم اللغة العربية وميلهم إلى الأبهة والبذل كانوا يفضلون أن يعتمدوا على من يخدمهم، ويدلهم على مشاعر الحج ويتلو أمامهم أدعيته

(42)

.

أقول: هذا ما ذكره الأستاذ السباعى، ولي رأي آخر في نشأة الطوافة بمكة، رأيت أن أوضّحه هنا:

من المعلوم أن كثيرًا من القادمين إلى الحج يتخلَّفون في مكة المكرمة لأسباب كثيرة، منها الرغبة في مجاورة البيت الحرام لطلب العلم أو لقصد العبادة، فقد كان عمر بن الخطاب - ضى الله عنه - ينادي في الناس بعد انقضاء الحج: يا أهل الشام شامكم، ويا أهل اليمن يمنكم، ولم يكن هناك من القوانين ما يمنع الراغب في الإِقامة من تحقيق رغبته، وفي تصوري أن هؤلاء المتخلفين في مكة والمجاورين بها، كانوا يستقبلون الوافدين من أهل بلادهم فيستضيفونهم ويعينونهم على أداء المناسك، وقد تطور الأمر فيما بعد حينما أخذ أمراء مكة يمنحون المطوفين صكوكًا بتحديد الأجناس، والأماكن لقاء مبالغ معينة من المال، وقد أخبرني الشيخ محمد جعفر لبنى رئيس لجنة قضايا المطوفين وكان هذا في الخمسينات من القرن الهجري الرابع عشر أن أَقْدم تقرير اطلع عليه في الطوافة تقرير بيت صحرة مطوفي العجم، وقال: إن هذا التقرير يعود إلى ستمائة سنة مضت أي في منتصف القرن التاسع الهجري كما يدل على أن موضوع الطوافة كان قد وصل إلى الحد الذي يتدخل فيه أمراء مكة فيصدرون به الصكوك لأشخاص بعينهم.

(42)

تاريخ مكة (ج 1): ص 337.

ص: 34

وإذا كان السلطان قايتباي احتاج إلى من يلقّنه أدعية الطواف، ألم يكن حجاج الهند مثلا في حاجة إلى مثل ذلك وهم لا يعرفون اللغة العربية؟

أما ما ذكره الأستاذ السباعي من أنه لم يقرأ فيما قرأ من تواريخ مكة أن أحدًا لقَّن الحجاج الأدعية في المطاف قبل السلطان قايتباي، فلعلَّ السر في ذلك أن حج رجل مثل السلطان قايتباي لابد وأن يذكره مؤرخو مكة ويذكرون ما صاحبه من تقدم قاضى مكة الشيخ ابن ظهيرة لتطويف السلطان.

إنني أرجح أن موضوع الطوافة أقدم كثيرا مما ذكره الأستاذ السباعي، وقد بدأ كما تصورت باستضافة المجاورين بمكة للحجاج القادمين من بلادهم، ثم تطور شيئًا فشيئًا مع كثرة القادمين إلى مصلحة تجارية أجريت لها التنطيمات من قِبَل أمراء مكة بمنح بعض الأشخاص حق تطويف بعض الأجناس، بل وبعض البلدان مما يعرفه السادة المطوفون قبل إنشاء مؤسسات الطوافة، ولعل أحدًا منهم يفيدنا في هذا الأمر بما يعرف.

وقد ذكر الأستاذ السباعي بعد ذلك أن أَقْدم تقرير في الطوافة اطلع عليه هو تقرير آل جاد الله بتوقيع الشريف غالب في عام 1205 هـ، وقد ذكرت قبل أن تقرير بيت صحرة أقدم كثيرًا من ذلك كما أخبرني الشيخ محمد جعفر لبني رئيس قضايا المطوفين في أوئل العهد السعودي.

يقول المؤلف: وتوسع الشريف عون الرفيق في توزيع البلاد

ص: 35

الإسلامية إلى أقسام تقرر لها مطوفون فكان كل مطوف مسئولا عن البلد التي خصصت له إلخ

(43)

..

‌أول جراية من الغلال ترسل إلى مكة:

كان السلطان سليم أول من رتب أول جراية من الغلال ترسل إلى مكة، فقد رتب للصدقة في مكة مقدارًا عظيما من القمح وظل يرسله سنويًّا إلى مكة بصورة منتظمة وقد زادت هذه الغلال فيما بعد حتى أصبحت تكفي أهل مكة من العام إلى العام

(44)

.

وقد ذكر المؤلف أن أول جراية من القمح وصلت إلي الحجاز كانت مقدارها: سبعة آلاف أردب، منها ألفان للمدينة، وخمسة آلاف لمكة، وقد دعا أمير المحمل الرومي مصلح الدين إلى أجتماع حضره قاضي مكة صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي وقضاة المذاهب الثلاثة بمكة، ونائب جدة، وبعض الأعيان، وقرأ عليهم المرسوم السلطاني الخاص بتوزيع هذه الغلال، واستشارتهم في كيفية إتمام ذلك. وبعد عرض الأمر على الشريف بركات الذى فوَّض المجتمعين في اتخاذ ما يرونه لهذه الغاية، اتفقوا على عمل سجلات دونت فيها أسماء البيوت في كل محلة وتعداد ما في هذه البيوت من الرجال والنساء والأطفال والخدم واستثنى من ذلك التجار والسوقة والعسكر، وقد بلغ تعداد السكان عدا من ذكر اثنا عشر ألف نسمة وقد خص كل فرد أربع كيلات فتسلموا حصصهم

(43)

تاريخ مكة (ج 2): ص 579.

(44)

نفس المصدر (ج 1): ص 345.

ص: 36

مضافًا إلى ذلك دينار ذهب .. ثم تزايد هذا القمح حتى صار معاش أهل مكة منه

(45)

.

وفي عهد السلطان سليم بك زيدت الغلة سبعة آلاف أردب أخرى تحمل من الأوقاف السلطانية في مصر على ظهور الجمال إلى السويس ثم تشحن في السفن السلطانية إلى جدة أو ينبع

(46)

.

‌شرب الدخان في مكة:

في سنة 1112 هـ عرفت مكة الدخان ثم التنباك، وقد انتقلت هذه العادة من مصر إلى مكة، والمعروف عن بعض المؤرخين أن شجرة الدخان ظهرت أول ما ظهرت في عام 999 هـ

(47)

.

وفي سنة 1149 هـ أصدر الشريف مسعود أمير مكة أمره بمنع شرب الدخان علانية، وأمر بعقوبة كل من يجاهر بشربه في الأسواق أو المقاهى أو المحلات العامة، وصار الموظفون يتعقبون الناس لتنفيذ الأمر الذي أيده علماء مكة.

يقول المؤلف: فكانوا يعقدون المجالس في بيوتهم يتعاطونه.

وقد قيل: إن الشريف مسعودًا كان يعتقد تحريمه، كما قيل: إن الدوافع إلى ذلك هو تبذل الناس وتجاهرهم به في المجالس أمام كبار القوم وعلمائهم

(48)

.

(45)

تاريخ مكة (ج 2): ص 461، 462.

(46)

نفس المصدر (ج 2): ص 462.

(47)

نفس المصدر (ج 1): ص 399.

(48)

نفس المصدر (ج 1): ص 429.

ص: 37

‌أول قنصل في جدة:

وصل أول قنصل إنكليزي إلى جدة عام 1216 هـ لمباشرة أعمال القنصلية فيها، فاتخذ دارًا خاصة بذلك رفع فوقها العلم البريطاني، ثم تبعه قنصل للفرنسيين ثم للروس

(49)

.

‌وحدات العملة العثمانية:

وحدة العملة القرش وهو نوعان: قريق صاغ، وقرش شُرُكْ، والقرش الصاغ يساوي مائة وعشرين ديوانيًّا، والقرش الشرك يساوي أربعين ديوانيًّا، والريال المجيدي يساوي عشرين قرش صاغ و 60 شرك

(50)

.

‌الحجاج يركبون البحر من السويس إلى جدة:

كان الحجاج يصلون إلى مكة بطريق البر من الشام أو مصر، فكانوا يأتون بالطريق البري من العقبة والمويلح وضبا والوجه فينبع النخل ثم يتوجهون إلى المدينة ثم إلى مكة بالطريق البري، وفي سنة 1301 هـ قامت المراكب المصرية بنقل الحجاج من السويس إلى جدة

(51)

.

وقد ذكر المؤلف بعد ذلك أن نقل الحجاج بالبواخر بدأ في سنة 1291 هـ ولم يذكر مصدره، ومن المعلوم أن كلمة الباخرة تطلق

(49)

تاريخ مكة (ج 2): ص 460.

(50)

نفس المصدر (ج 2): ص 463.

(51)

تاريخ مكة (ج 2): ص 463، 464. وانظر: تاريخ ينبع لعبد الكريم الخطيب ص 79، وانظر: تفصيل ذلك في ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز: ص 145 - 147 للمؤلف.

ص: 38

على البواخر التي تسير بالبخار، أما المراكب الشراعية فيطلق عليها سفن أو مراكب

(52)

.

وكان حجاج الهند يصلون إلى مكة برًّا من إيران والعراق ثم ركبوا السفن الشراعية في أوائل هذا العهد أوائل القرن الرابع عشر الهجري من ميناء سورت بجوار بمبي

(53)

.

أقول: في هذا العهد كانت المراكب الشراعية موجودة في الحجاز، وكانت تبحر من ميناء جدة فتدخل المحيط الهندي مارة بعدن - المكلا - وتصل إلى بومباي لتحمل منها الحبوب وأنواع المأكولات إلى جدة، وكانت تسافر وتعود في الأوقات التي لا تكون فيها فيضانات بحر الهند ولم تكن هذه المراكب معدة لنقل الحجاج، وإنما خصصت للبضائع.

‌تأسيس التكية المصرية:

أسس محمد علي باشا والي مصر التكية المصرية بمكة أثناء حكم المصريين للحجاز عام 1238 هـ

(54)

.

أقول: وكان للمصريين تكية بالمدينة المنورة ولابد أنها أُسست في ذلك الوقت، والتكية تقدم طعامًا يوميًّا للفقراء، وكانت هذه التكايا منتشرة في البلاد الإِسلامية في ذلك الزمان.

(52)

تاريخ مكة (ج 2): ص 573.

(53)

نفس المصدر (ج 2): ص 463، 464.

(54)

نفس المصدر (ج 2): 526.

ص: 39

‌أول دار بنيت بالزاهر - الشهداء

-:

كان الوالي أحمد عزت باشا الذي تولى الولاية للأتراك في مكة في أواخر عام 1269 هـ أول من بنى دارًا في الزاهر بجوار الشهداء وجعلها منتزها له

(55)

.

‌محجر مكة الصحي في الزاهر:

في عام 1288 هـ ظهر وباء بالمدينة المنورة، وكان الزوار من أهل مكة قد ذهبوا للزيارة الرجبية إلى المدينة المنورة فلما عادوا حجزتهم الحكومة في (كرنتينة) أعدتها بالزاهر

(56)

.

‌التعليم العسكري في مكة:

أصدر أمير مكة الشريف عبد الله بن محمد بن عبد المعين أمرًا على أهالي مكة بالحضور إلى المكان الذي أُعد للتدريب على الأعمال العسكرية في مكة، وتلقِّي الدروس الحربية، واشترك في هذا التدريب أولاد الشريف عبد الله وبنو عمومتهم برئاسة عون باشا - أمير مكة فيما بعد - كما اشترك فيه الناس من جميع الطبقات (وقد شوهد العلماء وطلبة العلم والأعيان، وأصحاب الحِرَف وأهل الحارات ينزلون إلى ساحة التعليم صفوفًا متراصة يتلقون تعاليم الجندية على أساتذتهم من ضباط الأتراك وكان ذلك في عام 1294 هـ، وقد جعل لذلك لباس خاص

(55)

تاريخ مكة (ج 2): ص 532.

(56)

نفس المصدر (ج 2): ص 538. و"الكرنتينة" كلمة أفرنجية وترجمتها "المحجر الصحى".

ص: 40

يتكون من قميص وبنطلون من قماش يسمونه - مُلَّا - وجعلوا العقال - فوق العمامة وغطاءًا للرأس.

ويذكر المؤلف أن السبب الذي حدَا بالعثمانيين إلى فرض التعليم العسكري في مكة هو اشتباكهم في حرب مع الروس، ولكن هذا التعليم لم يطل أمده إلا نحو أربعة أشهر

(57)

.

أقول: كان الأتراك ينظرون إلى الحجاز على أنه بلد المقدسات الإِسلامية العظيمة، ويعاملون سكانه معاملة خاصة تعفيهم من الجندية، كما تحرمهم من التعليم، ويغدقون عليهم بالغلال التي تكفي معيشتهم، وهذه السياسة أساءت إلى البلاد أكثر مما أفادت.

‌أول جريدة في الحجاز:

أول جريدة صدرت في الحجاز - جريدة الحجاز - أصدرها الاتحاديون في العهد العثماني في مكة بعد إعلان الدستور العثماني، وكانت تحرر باللغتين العربية والتركية، ثم أصدر أحد موظفى الأتراك جريدة أخرى طبعت في نفس المطبعة سماها: شمس الحقيقة، وكانت تحرر كذلك باللغتين العربية والتركية، وتتناول بالنقد بعض المسئولين في مكة، وظلت كذلك إلى إمارة الحسين بن علي الذي أغضبه أُسلوبها فهدد صاحبها بالقتل واضطره إلى الهرب من البلاد.

أما جريدة الحجاز وهي الجريدة الرسمية فقد ظلت تصدر في مكة

(57)

تاريخ مكة (ج 2): ص 539. وانظر ما كتبناه عن هذا الموضوع في ترجمة الشيخ عبد الرحمن سراج في هذا الكتاب.

ص: 41

إلى أن ثار الحسين على العثمانيين فانتقل صدورها إلى المدينة وظلت تصدر بها وكان يحررها السيد حمزة غوث الذي كان مستشارا للملك عبد العزيز ثم سفيرا للملكة العربية السعودية في إيران، وقد أوقفت هذه الجريدة بعد خروج العثمانيين من المدينة

(58)

.

‌جريدة القبلة:

لما قام الحسين بن علي بالثورة على الأتراك وأسس الدولة الهاشمية في مكة أصدر بها جريدة القبلة وكان يتولى تحريرها السيد محب الدين الخطيب ثم الشيخ الطيب الساسي، وكان يعمل فيها الأستاذ حسين الصبان، وكان الحسين يشرف بنفسه على سياستها، وقيل: إنه كان يحرر بيده بعض مقالاتها.

‌جريدة الفلاح:

كما أذن الحسين لعمر شاكر من سوريا بإصدار جريدة في مكة اسمها: الفلاح، وكانت تسير على سياسة جريدة القبلة.

‌المجلة الزراعية:

وأمر الحسين بإصدار مجلة زراعية صغيرة

(59)

.

أقول: السيد محب الدين الخطيب من أوائل الدعاة الإسلاميين في القرن الرابع عشر الهجري، وأصدر أول مجلة إسلامية في القاهرة

(58)

تاريخ مكة (ج 2): ص 566.

(59)

نفس المصدر (ج 2): ص 623.

ص: 42

هي مجلة الفتح، وكانت تصدر أسبوعية كما أصدر مجلة أدبية راقية هي الزهراء، وأسس كذلك في مصر المطبعة السلفية بمشاركة عبد الفتاح قتلان وكانت تطبع الكتب القيمة من التراث.

‌أول مجلس للبلدية:

تأسس أول مجلس للبلدية في مكة سنة 1326 هـ، وكان المحتسب هو الذي يقوم بوظيفة البلدية، فيحكم السوق ويشرف على تنظيم العمران

(60)

.

‌إضاءة الحرم المكي بالكهرباء:

استورد الحسين بن على أول ماكينة كهربائية أضاءت المطاف، وكان قد أدخل قبل ذلك الإضاءة بالنور الأبيض بالمصابيح الغازية التي كانت تسمى في الحجاز - الأتاريك - وذلك في سنة 1335 هـ، ثم أتبع إضاءة المطاف بشراء ماكينة كهربائية أكبر قوة فشملت الإِضاءة المطاف وبعض جوانب المسجد

(61)

.

‌سبك النقود في مكة:

أنشأ الحسين بن علي بعد توليه عرش الحجاز دارًا لسبك النقود الهاشمية سنة 1334 هـ، وضرب الدينار الهاشمي من الذهب والريال

(60)

تاريخ مكة (ج 2): ص 567.

(61)

نفس المصدر (ج 2): ص 624. وانظر: إضاءة المسجد الحرام في الجزء الثاني من أعلام الحجاز: ص 39، 40.

ص: 43

الهاشمي وأجزاءه من الفضة، والقرش، وأجزاءه من النحاس الأحمر

(62)

.

طبع الطوابع في مكة:

وأنشأ الحسين بن علي دارًا لطبع الطوابع البريدية بعد اعتلائه عرش الحجاز

(63)

.

لعل الأصح أن نقول: إن الحسين أصدر الطوابع الهاشمية بعد اعتلائه عرش الحجاز وطبعها في مكة في المطبعة التي أنشأها الوالي التركي عثمان باشا نوري والتى كانت في أجياد خلف مبنى الحميدية، وقد أزيل مبناها في توسعة الحرم المكي الشريف

(64)

.

‌إصلاحات في مكة:

أنشأ الحسين بن علي مظلة بين الصفا والمروة، ووسع في بعض الطرق العامة، واجتث عقبة الحجون وأنشأ الشارع اليوسفى في مكة بجوار الشارع الفيصلي

(65)

.

أقول: كذلك أنشأ الشريف الحسين بن علي الشارع الذي سمي فيما بعد شارع قابل بجدة، وكان حين إنشائه أحدث الشوارع في مدينة

(62)

تاريخ مكة (ج 2): ص 623. وانظر: كل ما يتعلق بالعملات المسكوكة في ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز: ص 161، 162.

وانظر: صور العملات الهاشمية: ص 252 - 255.

(63)

نفس المصدر (ج 2): ص 623.

(64)

انظر: ترجمة الشيخ الحضراوي في هذا الكتاب.

(65)

تاريخ مكة (ج 2): ص 623.

ص: 44

جدة، وقد اشتراه آل قابل من نجله الملك على بن الحسين خلال الحرب السعودية الهاشمية. كما أمر الحسين بردم البحر في الجهة الغربية الملاصقة للسجن في جدة وأنشأ فيها دارًا سميت المنتزه، وقد اشتراه آل الفضل، ثم اشتراها صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل، وشيد مكانها عمارات الفيصلية بجوار فندق البحر الأحمر في جدة

(66)

.

‌سكة حديد الحجاز:

رغب السلطان عبد الحميد العثماني في ربط أجزاء البلاد العثمانية بسكة حديدية فقرر مد الخط الحديدي من دمشق الشام إلى المدينة المنورة، على أن يتصل مدّه بعد ذلك إلى جدة ومكة، وقد وجه السلطان نداءًا إلى العالم الإسلامي للتبرع لهذا المشروع العظيم، وقد كانت الاستجابة لنداء الخليفة عظيمة لا في البلاد التي تنضوي تحت الحكم العثماني، وإنما في البلاد الإسلامية عامة، فتأسست الجمعيات من كل قطر، وقد ألَّف الهنود وحدهم نحوًا من 166 جمعية لجمع التبرعات واشتد الحماس للمشروع في مصر والشام والعراق والصين وبلاد البلقان وفي أكثر بلاد أفريقيا، واجتمع من حصيلة التبرعات سبعمائة وخمسين ألف ليرة عثمانية، كدفعة أولى وبوشر في مدّ الخطوط وإقامة الجسور، واستمر العمل نحو ثماني سنوات حيث وصل أول قطار إلى المدينة المنورة في الثالث من شعبان عام 1326 هـ الموافق 28 أغسطس عام 1908 م، وتبلغ المسافة بين المدينة ودمشق

(66)

انظر عن شارع قابل في: أعلام الحجاز (ج 1): ص 44. وانظر عن تسقيف المسعى: ص 109، 111.

ص: 45

1320 كيلو مترًا عدا المساحة بين درعا وضبعا، وأخذ الحجاج يصلون إلى المدينة مستعملين سكة حديد الحجاز، وتحققت لهذا الخط نقلة تاريخية في سفر الحجاج إلى الحجاز.

استمر خط حديد الحجاز في العمل إلى أن أعلن الاتحاديون الدستور، وخلعوا السلطان عبد الحميد فتوقف النشاط في هذا المضمار، وحاول الاتحاديون استئناف العمل بإيصال الخط إلى جدة فمكة، ولكن التبرعات التي كانت تتدفق للمشروع ذهبت بها أعاصير السياسة كما يقول المؤلف.

أقول: جاءت الحرب العالمية الأولى وعمد الإنجليز إلى تخريب خطوط سكة حديد الحجاز بين المدينة والشام ليعطلوا على الأتراك الوسيلة الجيدة القوية لنقل معداتهم وجيوشهم، وكانت هناك فرقة في جيش الأمير فيصل بن الحسين يقودها الكولونيل لورنس تقوم بمهمة نسف خطوط سكة حديد الحجاز وتعطلها

(67)

.

يقول المؤلف: وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى كان الخط قد تخرب كثير من أجزائه، وكان في استطاعة المسلمين أن يعيدوا إصلاحه، إلا أن البلاد التي كان يمر الخط في أرضها قد تقسمت إلى مناطق هيمن على بعضها الفرنسيون كما هيمن على بعضها الإنجليز، وبقى القسم الحجازي تحت سيطرة حكومة الشريف الحسين بن علي وأبت الدول الأجنبية أن تعترف بوقفية خط إسلامي يمر في أراضيها،

(67)

انظر ما كتبه لورنس في كتابه: أعمدة الحكمة السبعة.

ص: 46

كما شعرت أنه ليس من مصلحتها أن تجتمع أطراف المسلمين في جزء كبير من بلاد العرب على هذا الخط، لهذا ذهبت كل محاولة لإعادة إصلاح الخط أدراج الرياح.

أقول: وبعد الحرب العالمية الثانية استردت سوريا استقلالها، كما استرد الأردن استقلاله، ونشطت الدول المعنية في سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية إلى دراسة إعادة إصلاح سكة حديد الحجاز، وعقدت لذلك الاجتماعات الكثيرة في عواصم الدول المعنية إلا أن هذه الاجتماعات لم تسفر عن شيء يعيد لسكة حديد الحجاز نشاطها القديم.

‌الحسين بن علي يحاول إصلاح الخط:

حاول الحسين بن علي إصلاح الأجزاء الموجودة في الحجاز، فعمر أجزاءه المتصلة بالمدينة، واستطاع أن يسيّر القاطرات عليه فوصلت أول قاطرة إلى المدينة في عام 1919 م، ثم عجزت عن استئناف السير لأن أعمال الإصلاح الفنية لم تكن مستوفاة، وليس لدى الحسين ما يكفي للقيام بأعبائه فعاد الجزء الحجازى إلى الخراب ووضعت حكومات فلسطين وسوريا والأردن أيديها على ما لديها من أجزاء أخرى ومعدات تابعة.

وقد ذكر المؤلف بعد ذلك ما يلي: بعد محاولات طويلة دامت نصف قرن اتفقت الحكومات العربية على إصلاحه، وَرَسَتْ مناقصته على إحدى الشركات في عام 1383 هـ وينتظر أن يبدأ العمل

(68)

.

(68)

تاريخ مكة (ج 2): ص 577 - 579.

ص: 47

أقول: لقد مضى على هذا الذي ذكره المؤلف أكثر من ربع قرن ولم يتم شئ في هذا الأمر. وفي تصوري أن وجود إسرائيل في قلب البلاد العربية وامتداد خط حديد الحجاز داخل أراضى فلسطين التي تغتصبها إسرائيل من أكبر الأسباب التي دعت الحكومات العربية إلى إيقاف البحث في إصلاح الخط حتى الآن.

ص: 48

‌أسماء بعض حارات مكة وتعليلها:

القشاشية: منسوبة إلى الشيخ القشاشي، وقد كان يسكن مكة حوالي القرن الحادي عشر

(69)

.

شعب علي: كان يسمى شعب ابن يوسف، وكانت فيه دور بنى هاشم

(70)

.

المعابدة: وكانت تسمى شعب الصفي، صفي السباب أكمة في المعابدة تشرف على الخرمانية

(71)

.

القرارة: وكانت تسمى قرارة المَدْحى. يقول السباعي: ولعل أطفال قريش كانوا يلعبون فيها المَدْحى وهو ما يشبه البرجو عندنا.

الفلق: كان يسمى فلق ابن الزبير. يقول السباعي: فلقه الزبير بن العوام ليصل الطريق بين بساتينه بجوار المعلاة اليوم وبيوته التي اشتراها بسويقه.

أقول: الصحيح أن الذي فلق الجبل هو عبد الله بن الزبير بعدما بويع بالخلافة في مكة ودان له الحجاز والعراق. وليس هو الزبير بن العوام.

بئر بليلة والسد: كانوا يسمونه أجياد الكبير، أما السد فكانوا يسمون أجياد الصغير.

(69)

تاريخ مكة (ج 1): ص 30.

(70)

نفس المصدر (ج 1): ص 31.

(71)

نفس المصدر (ج 1): ص 31.

ص: 49

أقول: لا تزال منطقة أجياد تحتفظ باسمها القديم فأهل مكة يطلقون عليها كلمة جياد بحذف الألف، ويتفرع من أجياد بئر بليلة والسد كما هو معلوم، وسمى جياد أجيادًا لخروج الرجال منها والجياد حينما اختلفت جُرهم وقطورا وتقاتلوا

(72)

.

الشبيكة: كانت بئرا بين مكة والزاهر، ولم ينتشر العمران في الشبيكة وحارة الباب وجرول إلا في القرون الأخيرة

(73)

.

الحفائر: كانوا يسمونها الحَزَنَةُ وهي ضد السهلة، والذي حفر الحفائر وسهلها للمشاة هو خالد البرمكي في عهد بني العباس ليجعلها تختصر الطريق إلى بستان له بناه فيما بعد في جرول الخلفية أو جرول الخضراء.

جرول: كانت تسمى جرول الخلفية وجرول الخضراء لوجود البساتين فيها

(74)

.

جبل عمر: كان يسمى أعاصير، وكان هذا اسمه قبل أن ينسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله تعالى عنه -

(75)

.

شعب عامر: كان يسمى المطابخ ويقال له شعب ابن عامر.

أقول: وقد اختصر أهل مكة التسمية فسموه شعب عامر

(76)

.

(72)

تاريخ مكة (ج 1): ص 20، 21.

(73)

نفس المصدر (ج 1): ص 34.

(74)

نفس المصدر (ج 1): ص 34، 35.

(75)

نفس المصدر (ج 1): ص 35.

(76)

نفس المصدر (ج 1): ص 21.

ص: 50

الروضة: وكانت تسمى الأُقحوانة، وقد ذكرنا عن الأُقحوانة في بساتين مكة

(77)

.

الشهداء: وكانت تسمى فخ

(78)

.

المدعى: كان يسمى - ردم بني جمح - وقد ردمت الأرض في المدعى لمنع السيل من دخول المسجد الحرام، وذالك على أثر دخول السيل المعروف بسيل أم نهشل في السنة السابعة عشر للهجرة، واقتلاعه لمقام إبراهيم حيث وجدوه في أسفل مكة، فأمر عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - بردم الأرض فردمت بالتراب والصخر والعظام

(79)

.

الجودرية: نسبة إلى الجَدر - بفتح الجيم كسرها - وهو نبات رملي، لعله كان ينبت في ذلك المكان لقلة العمران فيه فسميت الجودرية بالتصغير، ويقول الأستاذ عاتق البلادي: إن الجودرية منسوبة إلى الجودري، وهو لحاف من قطن ملبس بالقماش وكان شارع الجودرية محلا لبيع هذه الألحفة الجوادر

(80)

.

الهجلة: كانت تسمى سوق الحطب

(81)

.

بركة ماجد: كانت تسمى ماجل أبى صلابة، والماجل في اللغة

(77)

تاريخ مكة (ج 1): ص 36.

(78)

نفس المصدر (ج 1): ص 36.

(79)

تاريخ مكة (ج 1): ص 84. وانظر: تفصيل حادثة سيل أم نهشل في عمر بن الخطاب أمير المؤمنين: ص 333 للمؤلف.

(80)

نفس المصدر (ج 1): ص 123، 124.

(81)

نفس المصدر (ج 1): ص 156.

ص: 51

كل ماء في أصل جبل أو وادٍ، وبركة المسفلة كانت ماجلا لأبي صلابة، ثم سميت بركة الماجل، وحرَّفها الناس فقالوا بركة ماجن أو ماجد

(82)

.

قوز النكاسة: صحة الاسم قوز المكاسة، يقول عنه الأستاذ عاتق البلادي: رمل بجوار كدي بمسفلة مكة، واسمه مشتق من المكس، ولعل المكوس تؤخذ عنده من حجاج اليمن، والعامة تخطئ في اسمه فتقول: قوز النكاسة

(83)

.

الشبيكة: سميت بهذا الاسم لأنها كانت موضع اشتباك وقتال عدة مرات في الهجوم على مكة والدفاع عنها، ويقول الأستاذ حمد الجاسر: إن الشبيكة نسبة إلى رجل اسمه شبيكة الحسنى

(84)

.

الزاهر: اسمه قديمًا وادي فخ، وقد كان ضاحية من ضواحي مكة

(85)

.

الطندباري: يرجح أن صحة الاسم التُّنْضُباوي

(86)

.

السليمانية: نسبة إلى أحد علماء مكة الشيخ محمد بن سليمان المغربى

(87)

.

الشيخ محمود: نسبة إلى الشيخ محمود بن آدم الذي كان مدفونا

(82)

تاريخ مكة (ج 1): ص 156.

(83)

نفس المصدر (ج 1): ص 241.

(84)

نفس المصدر (ج 1): ص 258.

(85)

نفس المصدر (ج 1): ص 276.

(86)

نفس المصدر (ج 1): هامش ص 335.

(87)

نفس المصدر (ج 2): ص 382.

ص: 52

بجرول أمام البازان، وقد سمى كثير من المؤرخين منطقة جرول باسم الشيخ محمود

(88)

.

ربع الرسان: صحة التسمية - ريع الرسام - ولعله سمى بذلك لأن البضائع التي كانت تصل من جدة يؤخذ عليها الرسوم الحكومية في ذلك المكان وهو أحد الأكدية بمكة، وكان اسمه كدى بالفتح والقصر

(89)

.

(88)

تاريخ مكة (ج 2): هامش ص 422.

(89)

نفس المصدر (ج 2): هامش ص 436.

ص: 53

‌بعض الحوادث الغريبة في مكة

‌بين الوالي والسادن:

أرسل خالد بن عبد الله القسري والي مكة إلى سادن الكعبة عبد الله بن شيبة وسأله أن يفتح له الكعبة في وقت لم ير عبد الله أن يفتحها فيه، فلما امتنع أمر الوالي بالسادن فضُرِب مائة سوط، وذهب السادن إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك بالشام فشكى الوالي، فكتب سليمان إلى خاله محمد بن هشام أن يضرب خالدًا مائة سوط ففعل

(90)

.

‌يومان في عرفة:

في حج سنة 688 هـ وقف الناس بعرفات يومي الجمعة والسبت، لاختلاف ثبوت الرؤيا لدى أمير الركب الشامي عنها، لدى الشيخ محمد الطبري شيخ الفقه في الحجاز، وليست هذه أول حادثة من نوعها، فقد تكرَّر مثلها عدة مرات في تاريخ مكة، ذلك أن كل ركب كان يعتمد فتوى خاصة به، ولو كان مصدر الفتوى بين المسلمين موحدًا لما وُجِد مثل هذا الاختلاف

(91)

.

أقول: تتريث الحكومة السعودية في إثبات رؤية هلال ذي الحجة لعدة أيام على اعتبار أن القادمين برًّا إلى مكة قد يكونوا شاهدوا الهلال، ومن ثم يجري إثبات ذلك بالطريقة الشرعية، ثم يعلن موعد ثبوت الهلال والوقوف بعرفات.

(90)

تاريخ مكة (ج 1): ص 132.

(91)

نفس المصدر (ج 1): ص 261.

ص: 54

‌الوقوف بعرفة يومين:

وفي سنة 811 هـ وقف أمير الحج الشركسي - المصري - بعرفة، وبعد أن أفاض منها، بعد غروب الشمس ثم عاد إليها ليستأنف الوقوف في اليوم الثاني لأنه لم يثبت عنده صحة الوقوف في اليوم الأول

(92)

.

‌مائة حجة جمعة:

في سنة 725 هـ وقف الناس بعرفات يوم الجمعة، كانت هذه الحجة تتمة مائة حجة حصل الوقوف فيها بعرفات يوم جمعة من عام الهجرة إلى هذا العام

(93)

.

‌الضرائب الجمركية في مكة:

أورد الفاسي في شفاء الغرام بيان المكوس التي كانت تفرض على البضائع الجمركية في مكة، في القرن الثامن الهجرى في عهد أميرها عجلان بن رميثة وكان بعضها يؤخذ عينًا، والبعض يؤخذ نقدًا، والنقد هنا على أساس النقد المسعودي في اليمن. يؤخذ على حمل الجمل من الحنطة مُدَّانِ بكيل مكة

(94)

، كما يؤخذ على حمل البصل ثلاثة دنانير مسعودية، وهذا يدل على غلاء البصل من جهة، وربما أنه لم يكن يزرع بالحجاز، لأنَّ الرسوم على البصل فادحة جدًّا.

(92)

تاريخ مكة (ج 1): ص 267.

(93)

نفس المصدر (ج 1): ص 267.

(94)

الحمل: بكسر الحاء وهو وسق بعير، ويقدر في الحنطة وأمثالها بأردب أي: ستين كيلة من كيل مكة اليوم.

ص: 55

أما السمن والعسل والخضروات فيؤخذ عليها ما يساوي الخُمس، أي عشرين بالمائة من أثمانها، ويؤخذ على سلة التمر دينار مسعودي واحد.

وقد علق الفاسي على فداحة هذه الرسوم فقال: إن الناس كانوا يعانون شدة من ذلك، وقد بلغه أن بعضهم استورد شاة فلم تساو المقدار المقرر لها

(95)

.

أقول: إن أمراء مكة في حاجة إلى مورد لتغطية نفقات الدولة، وصرف مرتبات جنودها وموظفيها، وكان بعض الأمراء يتغالون في فرض هذه الضرائب، وقد وضعت المكوس على الحجاج في بعض الأوقات، وتدخل بعض ملوك المسلمين لدى أمراء مكة لرفع هذه المكوس لقاء أن يدفع لهم مبالغ معينة من النقود سنويًّا، ومن الحبوب، ولكن الأمور لم تكن منتظمة ولا مضمونة، لهذا كانت هذه الضرائب ترفع ثم تعود، وتقل أو تعتدل ثم تكثر.

‌موت الناس داخل الكعبة:

ذكر صاحب خلاصة الكلام أنه مات في جوف الكعبة أربعة وثلاثين رجلا في سنة 1281 هـ بسبب شدة الزحام

(96)

.

‌محمل من حلب:

في حج عام 797 هـ وصل حجاج الشام ومعهم محمل من حلب

(97)

.

(95)

تاريخ مكة (ج 1): صن 280، 281.

(96)

نفس المصدر (ج 1): ص 285.

(97)

نفس المصدر (ج 1): ص 290.

ص: 56

‌نصب الخيام في المسجد الحرام:

في أوائل القرن التاسع الهجري 809 هـ أهدى بعض الملوك المسلمين إلى المسجد الحرام بعض الخيام وطلب إقامتها في صحن المسجد ليستظل بها المصلون من الشمس يوم الجمعة، وقد أمر أمير مكة حسن بن عجلان بإقامة هذه الخيام فنصبت، ثم عدل عنها بعد ما رئي أن بعض المصلين يتعثرون في حبالها

(98)

.

‌الجدب وغلاء الأسعار:

وقع جدب شديد في الحجاز في سنة 815 هـ فغلت الأسعار، وبيعت غرارة الحنطة بعشرين دينارًا ذهبًا كما بيعت البطيخة بدينار

(99)

.

‌تصدير الفلفل إلى مصر:

وفي هذا العام 815 هـ قلَّ وجود الفلفل في مكة كما قلَّ وجوده في مصر، فأرسل صاحب مصر يطلب شراءه من مكة فوجد أن سعر وسق البعير يبلغ قيمته 225 مثقالا من الذهب بينما كانت قيمته لا تزيد عن 60 مثقالا، ومع هذا فقد أمر صاحب مصر أن يحمل إليه ما قيمته خمسة آلاف دينار

(100)

.

‌الخيول في المسجد الحرام:

غضب أمير الحج المصري على أحد غلمانه في مكة سنة 817 هـ فسجنه، وثار زملاؤه من الغلمان والقواد، فهاجموا المسجد

(98)

تاريخ مكة (ج 1): ص 291.

(99)

نفس المصدر (ج 1): ص 293، 294.

(100)

نفس المصدر (ج 1): ص 294.

ص: 57

الحرام وانطلقوا راكبين خيولهم من باب إبراهيم والناس في صلاة الجمعة حتى وصلوا إلى مقام الحنفية، فثار الحجاج والأتراك بهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى أجلوهم عن المسجد، واستغل النهَّابون الفرصة فأوقعوا في الناس سلبًا ونهبًا، وأمر أمير الحج المصري بإغلاق أبواب المسجد وتسميرها عدا الأبواب التي تحاذي منزله ليدخل منها هو وأتباعه، ثم أدخلت خيله المسجد الحرام وجعلت بالرواق الشرقي، فباتت الخيل في المسجد تلوثه بروثها وبولها، ورأى أمير مكة الشريف حسن بن عجلان أن الحرم قد انتهك، وأُهينت كرامته، فاجتمع كبار أهالي مكة وأعيان الحجاج، وعرض عليهم الأمر، واتفق الرأي على انتداب شخص يبلغ أمير الحج المصري استياء الأمير والناس مما حدث، وإجلاء الخيول عن المسجد، وقد أصلح أمير الحج المصري من أمره ليأمر غلمانه، وطهَّر المسجد من خيولهم وقذارتها

(101)

.

أقرل: إن أمير الحج المصري أكثر رعونة وحمقًا من غلمانه، الذين ثاروا وتظاهروا ضد ما أنزله بواحد منهم فلم يجدوا مجالًا لإِظهار غضبهم واحتجاجهم إلا في ساحة المسجد الحرام فدخلوا إليها بخيولهم حتى وصلوا إلى مقام الحنفي قريبا من الكعبة المشرفة، والناس في صلاة الجمعة، وبدلًا من أن يعالج أمير الحج المصري الأمر بما يجب من الحكمة والتعقل، أمر بتسمير أبواب المسجد الحرام ولم يترك إلا الأبواب التي يدخل منها وأتباعه، ثم لم يكتف بذلك فترك خيله تبيت في رواق المسجد وتلوثه بقذارتها.

(101)

تاريخ مكة (ج 1): ص 295.

ص: 58

لو كان أمير الحج المصري هذا وغلمانه على شئ من الوعي بقداسة المكان لحفظوا للمسجد الحرام حرمته وعرفوا له مكانته، فتجنبوا أن يجعلوه ساحة قتال، ثم مربط فرسان، وليت شعري ألم يحضر هو وهم لأداء فريضة الحج؟ فهل عرفوا ما هو الحج وآدابه وشعائره؟ ومن الطريف أن الغلام الذى أدبه أميره، والذى وقعت بسببه هذه المآسى اسمه جرادًا، وفي ذلك يقول شاعر مكي من شعراء هذا العصر:

وقع الغلاء بمكة

والناس أضحوا في جهاد

(102)

والخير قلَّ فها هموا

يتقاتلون على جراد

وهي تورية لطيفة من الشاعر استغل فيها اسم الغلام في بيتيه الظريفين.

‌بوابو المسجد الحرام من الفقهاء والقضاة:

كان الفقهاء والقضاة تسند إليهم الوظائف في أبواب المسجد الحرام، وفي عهد الشريف حسن بن بركات من 809 - 829 هـ صدر مرسوم بقفل أبواب المسجد الحرام بعد الموسم باستثناء أربعة أبواب، فضاق الناس بذلك واشتكوا، فصدر الأمر بعزل بوابى المسجد القدامى وكانوا من الفقهاء والقضاة، وأن يعين بدلًا منهم من عامة الناس، وألزموا بملازمة الأبواب والنوم بجوارها

(103)

.

(102)

تاريخ مكة (ج 1): ص 296.

(103)

نفس المصدر (ج 1): ص 302.

ص: 59

‌الضرب عقوبة إلقاء القمائم:

في أوائل القرن العاشر الهجري - 913 - 915 هـ - كان المكلف بأمر التنظيفات في مكة يمر بشوارعها وأزقتها فإذا وجد تحت بيت أحدهم شيئًا من القمامة، دعا صاحب البيت وأمر بضربه على رجليه، وقد فعل ذلك بعدة أشخاص. أورد ابن فهد صاحب كتاب بلوغ القرى أسماءهم، فكفَّ الناس عن إلقاء القمائم في الطرق العامة

(104)

.

‌موكب السلطان الناصر بن قلاوون:

حج سلطان المماليك الناصر بن قلاوون فكان في موكبه أحواض من خشب زرعت فيها الخضروات والبقول والشمومات، وحملت على الجمال، كما كانت في موكبه أفران لإِصلاح الخبز والسميد والكماج، وقد أَحصيت حمول الشعير في الموكب فبلغت مائة وثلائين ألف أردب

(105)

.

أقول: لم يذكر المؤلف السنة التي حج فيها الملك الناصر ويفهم من مجرى الحوادث أن ذلك كان في أوائل القرن التاسع الهجري من 820 - 824 هـ، وقد أوردنا الخبر لطرافته فحسب.

‌الثيران تجرف تراب المسجد:

في أوائل القرن التاسع الهجري تراكمت طبقات من التراب في المسجد فاستعان المسئولون بالثيران لجرف هذا التراب، ثم نقلوه

(104)

تاريخ مكة (ج 1): ص 315.

(105)

نفس المصدر (ج 1): ص 330.

ص: 60

إلى المسفلة، ووضعوا مكانه بطحاء نظيفة مغربلة نقلوها من ذي طوى ووادي الطندباوي

(106)

.

‌كل واشكر:

لما حج السلطان قايتباي سنة 884 هـ انتدب أمير مكة الشريف بركات من يستقبل السلطان في الحوراء وهي قريبة من ميناء - أملج - ومُدَّ للسلطان سماط عربى حوى المآكل الكثيرة وكان من بينها صنف من الحلوى أعجب به السلطان فسأل عن اسمه فقيل له: كل واشكر

(107)

.

‌جفل الفرس فسقطت عمامة السلطان:

لما حج السلطان قايتباي عام 884 هـ وصل موكبه إلى باب السلام الخارجي، فتخطى السلطان عتبة الباب بفرسه، فجفل الفرس فسقطت عمامة السلطان عن رأسه، ويقول ابن فهد مؤرخ مكة: إن هذا كان تأديبًا من الله لأنه يتعين على السلطان أن يترجَّل ويدخل محرما مكشوف الرأس

(108)

.

‌بين الشريف والسادن:

استأذن سادن البيت الشيخ عبد الرزاق الشيبي أمير مكة الشريف الحسن بن أبي نمي، للسفر إلى الهند فأنشده الشريف بيت

(106)

تاريخ مكة (ج 1): ص 335.

(107)

نفس المصدر (ج 1): ص 337.

(108)

نفس المصدر (ج 1): ص 338.

ص: 61

الطغرائي في قصيدته المشهورة:

فيم اقتحامك لُجَّ البحر تركبه

وأنت تغنيك عنه مَصّةُ الوَشَلِ

فأجاب السادن من القصيدة نفسها على الفور:

أريد بسطة كف أستعين بها

على قضاء حقوق لِلْعُلَا قِبَلِي

فاستحسن الشريف بديهة السادن وأمر له بألف دينار

(109)

.

‌الفرس للأمير وحده:

في سنة 1043 هـ وقع بمكة وباء للخيل، ففنيت الخيل بمكة حتى لم يبق فيها إلا فرس واحد جعلوه لركوب الأمير زيد بن محسن، أما بقية الأشراف فكانوا يمتطون الحمير

(110)

.

‌مهدي من فارس:

كان خطيب المسجد الحرام يخطب الجمعة في مكة في 16 رمضان عام 1081 هـ، فهاجمه رجل فارسي مستلا سيفه يريد قتله، وهو يصيح بالفارسية: إنه المهدي، فحال المصلون دونه، وتكاثروا عليه، وأوسعوه ضربًا حتى وقع مغشيًّا عليه، ثم سحبوه حتى انتهوا به إلى المعلاة فأوقدوا النار فيه وأحرقوه

(111)

.

‌جمل فوق المنبر:

يقول المؤلف: (وفي 22 ذي الحجة عام 1081 هـ) سال

(109)

تاريخ مكة (ج 1): ص 351، 352.

(110)

نفس المصدر (ج 2): ص 370.

(111)

نفس المصدر (ج 2): ص 377.

ص: 62

وادي إبراهيم بمكة على أثر مطر عظيم، واقتحم السيل المسجد حتى انتهي إلى ما يوازي نصف الكعبة، وأزاح بعض الأعمدة عن أمكنتها، ومن غريب الاتفاق أن السيل حمل أحد الجمال حتى استقر به فوق المنبر، فلما انكشف الماء في الصباح، وجدوا الجمل في مكانه من أعلى المنبر، وراح ضحية هذا السيل عدد كبير من الحجاج وخربت بسببه بيوت كثيرة

(112)

.

‌شيخ الحرم يأمر بجلد الإمام:

كان الشيخ تاج الدين القلعي يؤم المصلين بالمسجد الحرام، وحدث أن تأخر في فجر يوم الخامس عشر من ربيع الثاني عام 1097 هـ عن الحضور، وانتظر المصلون طويلا، فتقدم أحد المجاورين للصلاة بالناس، وكان والي جدة شيخ الحرم لذلك العهد أحمد باشا مع المصلين، فلما علم بإبطاء الشيخ القلعى غضب لذلك واستدعاه إلى مدرسة الداودية وأمر بضربه علي رجله.

وثار أئمة المسجد لكرامتهم فشكوا الأمر إلى الشريف أحمد بن زيد أمير مكة، وطلبوا إعفاءهم، أو تردُّ كرامتهم بتأديب شيخ الحرم، وأحيل الأمر إلى مفتى البلاد الشيخ عبد الله عتاقي (فأفتى بتعزير من أهان أهل العلم) وتدارك الباشا الأمر فاسترضى الشيخ القلعي وطيَّب خاطره وصحبه إلى داره فتنازل عن دعواه.

‌شيخ الحرم ينتقم من المفتي:

وأسرَّ شيخ الحرم للمفتي فتواه بتعزيره فأُقيمت شكوى إلى الباشا

(112)

تاريخ مكة (ج 2): ص 384، 385.

ص: 63

بأن المفتي أحدث لبيته - مجرى - قصبة في جدار المسجد، وبالكشف على الجدار لم تثبت صحة الدعوي، ولكن شيخ الحرم استحضر المفتى وسبَّه، وضربه حتى أدماه، وداسه برجله .. وذهب المفتى إلى الشريف يشكو ما فعل به شيخ الحرم، ولجأ شيخ الحرم بعله أن فعل بالمفتى ما فعل، لجأ إلى بيت القاضي - وهو من الأتراك عادة - فأرسل الشريف إلى القاضي بطلب حجز الباشا حتى يقضى الشرع فيه، وضج الأهالي في مكة، وتألبوا جماعات جماعات حول بيت القاضي، وأخذ بعضهم يحصب النوافذ بحصباء الحرم.

‌عزل شيخ الحريم:

وأخيرا لجأ شيخ الحرم إلى الشريف أحمد أمير مكة فاسترضى المفتي وكتب إلى الخليفة بما فعله الباشا الأحمق مع إمام المسجد، ومفتى مكة فصدر الأمر بعزله عن ولاية جدة ومشيخة الحرم

(113)

.

‌بين أشراف مكة ووالي جدة:

وردت بعض الغلال للأشراف في مكة سنة 1094 هـ فاستولى على بعضها والي جدة التركي واغتنم الأشراف فرصة حضوره إلى مكة للحج، فمنعوا خروجه من مكة حتى يعيد إليهم ما أخذه منها، فتفاقم الشرُّ، وأصرَّ الأشراف حتى نزل الوالي على أمرهم وسلم إليهم ما يستحقونه، وتعهد بعدم العودة إلى ما كان

(114)

.

(113)

تاريخ مكة (ج 2): ص 389، 390.

(114)

نفس المصدر (ج 2): ص 387.

ص: 64

‌إجلاء النصارى عن جدة:

وفي عهد الشريف أحمد أصدر شيخ الحرم، والي جدة أمره بأن لا يبقى في جدة غير مسلم، وشدَّد في تعقبهم، فغادر جدة غير المسلمين عن آخرهم، ولم يبق منهم إلا من أعلن إسلامه

(115)

.

أقول: هذا الوالي اسمه أحمد باشا وقد تكررت منه التصرفات الحمقاء مع إمام المسجد الحرام، ثم مع مفتي مكة مما أسلفنا إيضاحه، فليس بمستغرب منه أن يأمر بإجلاء النصارى عن مدينة جدة، وقد انتهى أمره إلى العزل كما سبق إيراده.

‌صدقة أغنياء الهند:

في أواخر عهد الشريف عبد الكريم بن محمد بن يَعْلى - من سنة 1116 - 1123 هـ أرسل أغنياء الهند مبلغ خمسة لكوك - خمسمائة ألف روبية - وزعت بمكة صدقة لأهلها، فوزعت بينهم، فنال مكة من ذلك خير كثير

(116)

.

أقول: سبحان من بيده خزائن كل شئ، لقد أدركت الروبية وكل سبع روبيات تساوي جنيهًا ذهبًا، هذا في أواسط القرن الرابع عشر الهجري، وقد أرسل أغنياء الهند هذه الصدقة العظيمة إلى مكة قبل حوالي ثلاثة قرون ولابد أنها كانت تساوي أكثر كثيرا مما عَرَفْتُ عن أثمانها، وقد دار الزمن دورته، فالمعونات ترسل من هذه البلاد للبلاد

(115)

تاريخ مكة (ج 2): ص 391.

(116)

نفس المصدر (ج 2): ص 413.

ص: 65

الإِسلامية بالملايين الكثيرة، ولقد أغنى الله تعالى البلاد وأهلها عن تلقى الصدقات، وأصبح الإنفاق على مشاريع الحج وخدمة الحجاج من أكبر بنود النفقات. فالحمد لله أولا وآخرا.

‌حرمة بيوت كبار الأشراف:

هاجم أمير مكة الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد - 1144 هـ - بيت الشريف عبد العزيز من آل بركات لأن أحد الأشراف التجأ إلى بيته، وكان قد أمر هذا الشريف بمغادرة مكة فلم يمتثل، وطلب صاحب المنزل إمهال الشريف اللاجئ إلى الليل فأبى وأحاط البيت بخيله ورجاله وأطلق الرصاص على نوافذ البيت، فأصاب الرصاص بعض الأشراف المجتمعين في الدار فتواثبوا للفتنة، وتدارك الأمر بعض الأشراف فعاد الشريف محمد إلى داره واجتمع الأشراف في دار الشريف عبد المحسن العبدلي - جد الأشراف العبادلة - ورأى عبد المحسن أن يعرض على أمير مكة استرضاء أصحاب البيت المهاجم على قواعدهم المعروفة فندبوا من عرض عليه تقديم خمسة وعشرين من جياد الخيل، ومثلها من العبيد، وستين من الإبل، وأن يأتي في أعقاب ذلك إلى البيت المهاجم معترفًا بخطه معتذرًا عما حدث.

وقد امتثل أمير مكة لهذا الحكم وقدَّم الترضية المطلوبة

(117)

.

‌إبعاد الأجانب:

في سنة 1149 هـ أمر أمير مكة الشريف مسعود بن سعيد بأن يغادر المهاجرون مكة بعد أن اتخذها المهاجرون - دارًا للسكنى -

(117)

تاريخ مكة (ج 2): ص 423، 424.

ص: 66

وضيقوا على أهلها في عيشتهم، واستولوا على كثير من مرافقها التجارية، فأصدر أمره بالنداء العام في أسواق مكة بمغادرة المهاجرين، وأغلظ في عقوبة من يتخلف منهم فرحلوا

(118)

.

أقول: وهكذا يعيد التاريخ نفسه فنرى أن الأنظمة الحاضرة تفرض على القادمين للحج والعمرة المغادرة بعد أداء مناسكهم، ولقد تنبه لهذا الأمر عبقري هذه الأمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فأمر بالمناداة في مكة بعد الحج:(يا أهل الشام شامكم، ويا أهل اليمن يمنكم)

(119)

.

‌لعن الرافضة:

في سنة 1157 هـ أمر أمير مكة الشريف مسعود بن سعيد بلعن الرافضة فوق المنابر، وذلك أن ملك العجم - نادر شاه - أرسل إلى الأمير مسعود عالمًا من أئمة علماء الشيعة بكتاب يقول فيه:"إننا اتفقنا مع الخليفة العثماني على الدعاء لنا على منبر مكة، وأن يظهر مذهبنا الجعفرى فيها، وأن يصلي إمامنا في المسجد بجوار المذاهب الأربعة" وتوعَّد الشريف مسعود في كتابه. إن لم يتم ما طلب، وكان - نادر شاه - كاذبًا في ادعائه الاتفاق مع الخليفة العثماني على ذلك، لأنه كان قد خرج على العثمانيين واستولى على بعض ممالكهم في العراق.

اشتد الأمر على الأمير مسعود، وعم الاستياء مكة، واضطربت

(118)

تاريخ مكة (ج 2): ص 429.

(119)

عمر بن الخطاب، للمؤلف.

ص: 67

الآراء في شأن ذلك، وأرسل الوزير التركي في جدة يطلب الرسول ليقتله، وامتنع الشريف مسعود عن تسليمه، وقال: إني سأحافظ عليه إلى أن أكتب إلى دار الخلافة وأتلقى جوابها، ولم يرض الوزير التركي، وشعر الشريف مسعود أنهم يتهمونه بالميل إلى المذهب الجعفري فأمر بلعن الرافضة ليبرئ ساحته، وقد صدر أمر الخليفة بعد ذلك بتسليم رسول ملك العجم إلى أمير الحج الشامي ليوصله إلى دار الخلافة في تركيا فسلمه الشريف مسعود إليه

(120)

.

‌محنة الشيعة:

وصلت قافلة حجاج الشيعة سنة 1143 هـ متأخرة فلم تدرك الحج، وأقام الحجاج الشيعة في مكة ليحجوا في السنة التالية 1144 هـ، فزعم بعض العامة أنهم وضعوا النجاسة في الكعبة المعظمة، وثاروا لذلك، وثار بثورتهم العسكر، وقصد الثائرون القاضي، فهرب من فتنتهم، ثم قصدوا بيت المفتى فأخرجوه من بيته، كما أخرجوا غيره من العلماء ذوي الهيئات، واجتمعوا عند وزير أمير مكة الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد، وطلبوا من الوزير إقامة الدعوى، دون أن يعينوا خصمًا معينًا، ثم استطاعوا أن ينتزعوا أمرًا من الوزير بإبعاد الشيعة من مكة وخرجوا إلى السوق ينادون بطردهم، ونهب بيوتهم، وذهبوا في اليوم التالي إلى بيت القاضي وطلبوا منه التوسط لدى الأمير بتأييد الأمر الصادر من الوزير بإبعاد الشيعة، فامتنع الأمير ثم اضطر إلى مجاراتهم خوف الفتنة العامة.

(120)

تاريخ مكة (ج 2): ص 428، 429.

ص: 68

أقول: يبدو أن اتهام الشيعة بنجاسة الكعبة المعظمة، وصل إلى مسامع الناس فهاجت نفوسهم، وشاركهم العسكر في هذه الثورة النفسية، فخرجت الأمور من أيدي العقلاء وأولي الأمر، إلى أيدي العامة الذين تصرفوا مدفوعين بغيرتهم على الكعبة المعظمة، ولم يجد الأمير بدًّا من مجاراتهم مما يدل على أن الثورة على الشيعة شملت فريقًا كبيرًا ومؤثرًا من الناس في مكة.

وقد انتهى الأمر برحيل الشيعة إلى جدة والطائف انتظارًا لهدوء الفتنة، واستطاع أمير مكة أن يقبض على دعاة الفتنة، وأرسل إلى الهاربين فعادوا إلى مكة، ويقول مؤرخ مكة السيد زينى دحون نقلًا عن تاريخ الرضى:(أن ما حدث كان نتيجة لتعصب بعض أراذل الناس والأتراك، وأن أهل مكة الحقيقيين لم يكونوا راضين عن ذلك)

(121)

.

‌دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد ظهرت في نجد وشاع أمرها بين القبائل، وكثر المنضمون إليها وقد بعث النجديون إلى مسعود - أمير مكة الشريف مسعود بن سعيد - يستأذنونه في الحج ببعض جوعهم فلم يوافق على دخولهم، وندبوا بعض علمائهم فناظروا علماء مكة ولم ينتهوا معهم إلى وفاق

(122)

.

أقول: امتد حكم الشريف مسعود بن سعيد لمكة في إمارته الثانية عشرين عاما من سنة 1145 - 1169 هـ، وقد ظل منع أمراء مكة

(121)

تاريخ مكة (ج 2): ص 422، 423.

(122)

نفس المصدر (ج 2): ص 430.

ص: 69

للحج النجدي قائمًا. فقد ذكر المؤلف أن النجديين أرسلوا يستأذنون للحج في عهد خلفه الشريف مساعد بن مسعود 1165 - 1184 هـ فلم يؤذن لهم

(123)

، كما أنهم طلبوا من الشريف غالب الإِذن بالحج سنة 1205 هـ، فمنعهم وهددهم بالقتال ثم أتبع القول بالفعل كما هو موضح في كتب التاريخ

(124)

.

‌مهدي من البنغال يقتل خطيب المسجد الحرام:

كان خطيب المسجد الحرام الشيخ عبد السلام الحرشي يلقي خطة الجمعة فوق المنبر، فصعد إليه حاج بنغالي وطعنه بسكين فَرَتْ أمعاءه وقضت عليه واضطرب المسجد، وشاع في الناس أن المهدي ظهر بين المقام والركن، ثم تقدم أحد العلماء فأتم الخطبة وصلى بالناس، وقبض على الجاني حيث أودع السجن ثم أعدم شنقا، ويعلل المؤلف الحادثة بأن الرجل ربما كان مجنونا

(125)

.

‌بيع الماء في عرفات:

كانت مكة تستقي مياهها من عين حنين التي أجرتها السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد، وأم الخليفة الأمين، وكانت هناك عين أخرى هي عين نعمان تجري إلى عرفة، وقد خربت هده العيون وانقطع الماء عن مكة في أوائل عهد العثمانيين، ونقل المؤلف عن القطبي ما يلى: -

(123)

تاريخ مكة (ج 2): ص 433.

(124)

نفس المصدر (ج 2): ص 450.

(125)

نفس المصدر (ج 2): ص 449.

ص: 70

وكان التجار يتاجرون بالمياه في يوم عرفات في عام 922 هـ فيبيعونه بأغلى الأثمان، وحججت في بعض السنين في خدمة والدى ففرغ الماء الذى كنا نحمله فاشتريت قربة صغيرة يحملها الرجل بإصبعه بدينار ذهب، يقول القطبى: فأمر سليمان باشا بإصلاح حنين حتى جرى الماء ودخل مكة، وانتهى إلى بركة ماجل في المسفلة، كما أصلح عين نعمان إلى عرفة سنة 931 هـ، وقد أُنشئت في عرفة بساتين ظلت تسقى بذلك الماء حتى صارت أرضها مرجة خضراء

(126)

.

‌إيصال مجاري الماء إلى مكة:

نضبت المياه في عين زبيدة فأمر السلطان سليم عام 970 هـ بإصلاح المجاري وتنطيفها، وبذل في ذلك الأموال الطائلة، ولما انتهى الإِصلاح إلى بئر زبيدة دون مكة، وجدوا أن الأرض الصخرية تحول دون الاستمرار في بناء المجاري، فحفروا حفرة هائلة في العمق حول الأرض الصخرية وأوقدوا فيها الحطب.

‌قبيلة حرب وأمير الحج المصري:

حدث أن تعرضت بعض قبائل حرب على أمير الحج المصري سنة 1200 هـ، فأسر نفرًا منهم، وأصرَّ على كيهم بمحاوير محماة في خدودهم ليبقى ذلك وسما لهم يعرفون به، فتشفَّع فيهم بعض مشايخ جرب فأبى، وأجرى عملية الوسم، فصاح صائحهم (يا لقبائل حرب) فاجتمعوا من كل واد وأعملوا السيف في الحملة المصرية،

(126)

تاريخ مكة (ج 2): ص 474.

ص: 71

ومن يتبعها من الحجاج حتى لم ينج منها إلا من استطاع الهرب وكان أمير الحج أحد الهاربين

(127)

.

أقول: يقول السيد أحمد زيني دحلان: إن قبائل حرب أدركوا أمير الحج المصري في موضع يقال له قوزة، وأرسلوا له يقولون: إن أردت السلامة فاجعل مقررات لمن جعلت في خدودهم العلامة، فامتنع، هناك صاح الأعراب وتجمعوا فحملوا على الحجاج حملة واحدة، فظهر على أمير الحج الذل والانكسار، ففر ومعه تجريدة من الخيل.

هذا ما رأيت تقديمه للقاريء من كتاب "تاريخ مكة"، وقد تجنبت التعرض للأحداث السياسية في مكة عبر القرون وهي تمثل القسم الأعظم من الكتاب، وأود للقاريء أن يقرأ تاريخ مكة بقلم مؤلفه فالكتاب ميسور ومتداول وهو مكتوب بلغة العصر وقراءته تجمع بين المتعة والفائدة ..

* * *

(127)

تاريخ مكة (ج 2): ص 446.

ص: 72

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 73

أحمد بن محمد الحضراوي

ص: 74

‌أحمد بن محمد الحضراوي

‌اسمه وكنيته:

أحمد بن محمد بن أحمد بن عبده بن أحمد بن أحمد بن حسن بن سعد بن مسعود الحضراوي الشافعي وحضراوي نسبةً إلى محل ببلدة منصورة من أعمال مصر، بها قبة جده الكبير سعد الحضراوي

(128)

.

‌مولده وهجرته وتعليمه:

ولد بثغر الإِسكندرية في جمادى سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف (هجرية)، ولما بلغ من العمر سبع سننين قدم به والده إلى مكة المكرمة وتوطناها ونشأ بها، وحفظ القرآن الكريم وأخذ العلم عن جملة من الأعيان، وكان جده أحمد بن عبده مفتى الأحناف ببلدة منصورة من أعمال مصر، كما أخبر هو بذلك.

وفي نشأته بمكة المكرمة تلقى العلم على أفاضل علماء مكة، منهم شيخ العلماء، ومفتى السادة الأحناف الشيخ جمال، والشيخ محمد سعيد بشارة، وتسلك في الطريقة الشاذلية على الشيخ الفاسى ثم المكي

(129)

.

‌صفاته:

وصف الشيخ محمد المعصومي أستاذه أحمد الحضراوي في ذكرياته

(128)

المختصر من كتاب "نشر النور والزهر"(ج 1): ص 84، 85.

(129)

نفس المصدر.

ص: 75

عن علماء مكة التي نشرت بمجلة الحج فقال: كان رحمه الله تعالى من العلماء الزاهدين، فمن ورعه أنه كان يكتب للناس بالأجرة ويتقوت منها - من أجرة الكتابة - ولا يطمع في المناصب والوظائف وكان يقول: المجتهد قد يخطئ، وقد يصيب فضلا عن أمثالنا فكل الناس كما قال الإِمام مالك يؤخذ عنه، ولا يؤخذ عليه.

‌مؤلفات الحضراوي:

وُصِفَ الحضراوي في - المختصر من كتاب "نشر النور والزهر" - بأنه كان عالما فاضلا، صالحا، متواضعا، كاتبا، كتب بخطه الكثير من الكتب، واشتغل بتأليف التواريخ وله من التآليف:

(1)

العقد الثمين في فضائل البلد الأمين.

(2)

رسالة في فضائل زمزم.

(3)

تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير - ثلاثة أجزاء - والموجود لديّ هما الجزء الأرل والجزء الثاني.

(4)

تراجم أفاضل القرن الثاني عشر والثالث عشر - جزءين - والموجود بعض أوراق من الجزءين.

(5)

تاريخ الأعيان - وأُرجّح - أنه نفس كتاب تراجم أفاضل القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري.

(6)

ألفية في السيرة النبوية.

(7)

اللطائف في تاريخ الطائف.

(8)

الجواهر المعدة في فضائل جدة.

(9)

مباديء العلوم.

ص: 76

(10)

رسالة أدبية في الحماسة على لسان أهل الطائف وجدة والمفاضلة بينهما.

(11)

نفحات الرضا والقبول في فضائل المدينة وزيارة الرسول.

(12)

حسن الصفا فيمن تولى إمارة الحج

(130)

.

(13)

بشرى الموحدين في أمور الدين بخصائص سيد الأولين والآخرين 322 صفحة.

(14)

جواهر الانتخاب وفرائد الاكتساب في مختصر كتاب الاستيعاب لابن عبد البر.

(15)

تخريج رواية أحاديث كشف الغمة

(131)

.

وقد علمت أن هناك مؤلفات أخرى للحضراوي لم ترد في كتاب المختصر من نشر النور والزهر، ولم ترد كذلك في الأعلام للزركلي وهي:

(16)

الاختبارات البديعة في معرفة بعض سراة حفاظ الشريعة، وهو مختصر من كتاب تذكرة الحفاظ للإِمام الذهبي كما جاء في مقدمة الكتاب.

(17)

هداية المؤمنين في حمل العصا باليمين.

(130)

ذكر المرحوم الشيخ عبد الوهاب الدهلوي أن كتاب "حسن الصفا" من تأليف الشيخ أحمد الرشيدي اختصره الحضراوي وذيله وسماء "مختصر حسن الصفا" .. انظر: مجلة المنهل (عدد شعبان 1366 هـ).

(131)

أورد الزركلي اسمه سراج الأمة في تخريج أحاديث كشف الغمة مخطوط في ثلاث مجلدات كبار - الأعلام (ج 1): ص 249.

ص: 77

ولعل من المناسب أن نذكر أن جميع مؤلفات الحضراوي مخطوطة باستثناء كتاب العقد الثمين في فضائل البلد الأمين، الذي ذكر الزكلي في الأعلام أنه مطبوع، ولم أطلع على هذا الكتاب بعد.

هذا ما اجتمع لدينا من مؤلفات الحضراوي، الذي يتميز بالإِكثار من التأليف، الأمر الذي يدل على أن الرجل كان منقطعا للكتابة والتأليف كما جاء في الوصف الذي وصفه به تلميذه الشيخ محمد المعصومي، والذي أوردناه آنفا.

وقد عرفت الحضراوي أو على الأصح عرفت شيئا عنه، من كتاب الجواهر المعدة في فضائل جدة، الذي قام بنشرة وتحقيقه والتعليق عليه صديقنا الشيخ حمد الجاسر في مجلته العظيمة العرب

(132)

فتاقت نفسي إلى معرفة المزيد من مؤلفات الرجل وآثاره، وقد تفضل الأخ الكريم الصديق الدكتوو عبد الوهاب أبو سليمان بتحقيق هذه الرغبة فأمدني بنسخة من مخطوطة اللطائف في تاريخ الطائف، كما أمدني ببعض أجزاء من مخطوطة: تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير.

وقد رأيت بعد الاطلاع على ما وصل إليّ من مؤلفات الحضراوي أن ألخص من مؤلفاته ما يلي:

(1)

الباب الثالث من كتاب "تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير"

(132)

مجلة العرب (الأعداد من الجزء الخامس إلى الجزء الثاني عشر من القعدة سنة 98 إلى جمادى الثانية سنة 99 السنة الثالثة عشر والجزء الأول والثاني رجب وشعبان سنة 1399 من السنة الرابعة عشر).

ص: 78

وهو الخاص بولاة مكة المشرفة وجدة من (الباشوات) من طرف الدولة العلية العثمانية بعد خروج الدولة المصرية، وهذا القسم يبدأ من سنة 1255 هـ وينتهي في سنة 1302 هـ، وهذه الفترة عاصرها الحضراوي وعاش في مكة معظمها فهو يكتب عن علم ومعاصرة، والكتاب مخطوط في ثلاثمائة وأربع وسبعين صفحة وعدد الأسطر واحد وثلاثين سطرا في كل صفحة والقسم الذي اخترت الكتابة عنه يبدأ من صفحة (21) وعدد صفحاته ست وعشرين صفحة وخطه مقروء وحروفه كبيرة واضحة وأصله بمكتبة مكة المكرمة 122/ تاريخ.

(2)

"الجواهر المعدة في فضائل جدة" التي نشرها الأخ الصديق الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب والتي وصفها بقوله: ولعل هذه الرسالة تحوي جُلَّ ما يتعلق بتاريخ جدة، فهى أوفى ما اطلعت عليه في الموضوع

(133)

.

(3)

"اللطائف في تاريخ الطائف" وهو مخطوط في اثنتين وتسعين صفحة في كل صفحة ثلاثة وعشرون سطرا بخط واضح حسن، وأصل الرسالة موجود بمكتبة مكة المكرمة تحت رقم (19) تاريخ.

‌أهمية الفترة التي كتب عنها الحضراوي:

ولد الحضراوي كما ذكرنا في مقدمة ترجمته سنة 1252 هـ،

(133)

مجلة العرب (العدد الخامس): ص 405.

ص: 79

وهاجر به والده إلى مكة المكرمة وتوطناها وهو في السابعة من العمر سنة 1258 هـ، وتوفى بمكة سنة 1327 هـ وخلال هذه الفترة ألف كتبه التي ذكرناها آنفًا. وقد يكون هناك غيرها لا نعلم عنه شيئا حتى كتابة هذه السطور، ونستطع أن نستخلص من أسماء الكتب التي ألفها الحضراوي أنها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: وهو يمثل الجزء الأكبر من مؤلفات الرجل خاص بالتاريخ وتراجم الرجال وهو ما يهمنا في هذه الترجمة.

القسم الثاني: وهو القليل يمكن أن يسلك في عداد الكتب الدينية وما يتعلق بها.

ولكن التاريخ كما ذكرنا يمثل الجزء الأعظم من مؤلفات الحضراوي، وقد اطلعت على بعض أجزاء كتابه المسمى "تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير"، من ابتداء الدنيا إلى آخر القرن الثالث عشر فوجدت الرجل يورد الحوادث البارزة في التاريخ الإِسلامى مغفلا كل ما يتعلق بهذه الحوادث من تفاصيل إلا يكون التاريخ تاريخا كاملا إلا بإيرادها، وهي مذكورة بتفاصيلها في الموسوعات التاريخية المتداولة والمطبوعة، لهذا فإن اختياري وقع على ما كتبه الحضراوي عن الحوادث التاريخية التي عاصرها، أو التي كانت قريبة من العصر الذي عاش فيه فسمع أخبارها من معاصريها، واخترت بالذات ما يتعلق بتاريخ الحجاز في هذه الفترة وهي فترة يعتبرها المؤرخون مجهولة المعالم لقلة ما كتب عنها ونشر.

يقول الأستاذ أحمد السباعي في مقدمة كتابه "تاريخ مكة":

ص: 80

نحن لا نستطع أن نكتب عن تاريخ مكة، كتابة ترضى جيلنا لأن ما نملكه من مصادر لا يصح اعتماده إلا في الأبواب التي كان يعنى بها أسلافنا. ويقول: وعندما أرخ لمكة أهلوها لم تكن نظرتهم اجتماعية بقدر ما كانت دينية، لهذا ظفرت المشاعر وأسماء الجبال المفضلة بما لم تظفر به ناحية أخرى من نواحي التاريخ.

ويقول: قد نجد في خزائن التراث الإِسلامى مطولات لا علاقة لها بمكة، ولكن آفاقها الواسعة وفنونها المتنوعة تسوقها أحيانا إلى الاستطراد في شيء هام له علاقة بمكة، فإذا استطاع المطلع أن يقتنص الاستطرادات من هذا النوع فإنه سيستنتج مادة لها قيمتها في الكتابة عن تاريخ مكة، ولا يتيسر هذا إلا لمتفرغ يقضى سني حياته في القراءة واقتناص ما يصادفه منها - انتهى -

(134)

.

وهذا الذي ذكره المرحوم الأستاذ أحمد السباعي عن تاريخ مكة ينطبق على تاريخ الحجاز عامة، لهذا فقد كان سروري بالعثور على مؤلفات معاصر للأحداث في الحجاز، في مؤلفات خاصة بالمدن أو الولاة فيه، كان سروري بذلك عظيما، واحتفالي به أعظم، ورأيت أننا بإيراد أهم ما جاء في هذه المؤلفات نجلو ملامح فترة هامة في تاريخ مدن الحجاز، وأحداثه السياسية وحياته الاجتماعية، وهو مدخل يدخل به إلى سراديب هذا العصر الذي لا يبعد عنا كثيرا، ولكن تبعد عنا أخباره وآثاره، وأعني به النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري.

(134)

تاريخ مكة (ج 1): ص 6، 7.

ص: 81

وبعد هذا الإيضاح نأخذ خطانا لنبدأ القراءة والتدوين مستعينين بالله تعالى في هذا الطريق الطويل ونختتم الكلام بذكر ما عثرنا عليه من تاريخ تأليف هذه الكتب.

يقول الحضراوي في نهاية كتابه "الجواهر المعدة في فضائل جدة": وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين المبارك الحادى عشر من جمادى الآخرة سنة 1288 هـ تجاه البيت الحرام

(135)

.

أما ما اخترناه من كتاب "تاج تواريخ البشر" عن الولاة العثمانيين في الحجاز فيبدأ من سنة 1255 هـ وينتهي في سنة 1302 هـ، وهي نفس الفترة التي ألف فيها كتابه عن تاريخ جدة.

(135)

انظر: مجلة العرب (ج 1، 2 رجب وشعبان 1399 هـ): ص 66.

ص: 82

‌من كتاب "تاج تواريخ البشر" ولاة الحجاز في عهد الدولة العثمانية

أول من سمي بوالي جدة الحاج عثمان باشا - القرملي - وكان أصله من القرم، ابتدأ ولايته سنة 1257 هـ وتوفى سنة 1261 هـ بجدة ودفن بها.

‌آثاره المعمارية:

أمر بعمارة مسجد سيدنا الحبر عبد الله بن عباس بالطائف وجدَّد قبته وأمر بترخيم المسجد الحرام، وبنى قبر أمنا حواء وأقام عليها القبة، وعمَّر قلعة الطائف وقلعة رابغ، وبنى سور المعلاة المحيط بالمقبرة وعمَّر سور جدة.

‌محاربته لمشايخ حرب:

يقول الحضراوي: وكان في مدته قد عصى عليه أحد مشايخ حرب بجهة خليص يقال له ابن الرومي، فأرسل إليه الكردي عثمان بجماعته، وكان كبير الخيالة، فحين توجه الكردي عثمان إلى ذلك المكان صنع للعربان المذكورين طعامًا وأَسَرَّ إلى خدمه وبعض عساكره:"إذا وضعتم الأرز واللحم واشتغلوا بالأكل اضربوهم بالسيوف، واهجموا عليهم هجمة الحتوف" ففعلوا ثم ركب الكردي وجماعته من حينه، وقد تركوا الخيام خوفًا من طارق الأنام، وكانوا أقل من العشرة حتى جاءوا برءوسهم مشتهرة، فنصبت بأعلى السور، ولله عاقبة الأمور، فأتوا بالباقين طائعين.

ص: 83

‌الوالي محمد شريف باشا:

أُسندت إليه الولاية سنة 1261 هـ، وكان سابقا شيخ الحرم النبوى بالمدينة المنورة فجاءته الولاية فتوجه من المدينة إلى مكة، ويصف الحضراوى الوالي المذكور فيقول: كان رجلا جيدا صالحا خيِّرًا يحب الفقراء والعلماء ويواسيهم ويتألف الناس.

‌لم يبق معي غير الجبة:

يقول الحضراوي: وكانت أحواله أحوال الصالحين كلما دخل إلى المسجد الحرام، أو ركب إلى عرفات يبذر للناس ما في جيبه من المعاملة - النقود - فيجتمع عليه جملة من الفقراء، فإذا رآهم اجتمعوا ولم يبق معه دراهم يقلع جبته ويشير إليها، إنه ما بقي معي غير الجبة أتأخذونها؟

‌عودته لمشيخة الحرم:

عزل الوالي محمد شريف باشا عن ولاية الحجاز وأُعيد إلى مشيخة الحرم النبوي بالمدينة سنة 1264 هـ، وفي طريق عودته إليها توفى بينبع ودفن بها وكان قد بلغ من العمر ثمانين عاما.

‌الوالي محمد حسيب باشا:

أسندت الولاية سنة 1264 هـ إلى الوالي محمد حسيب باشا.

‌عمارة دار أبي سفيان:

عمّر حسيب باشا المحل المعروف الآن بالقبان، وجدد بناءه، وجعله خلاوي لفقراء الحرم، ورتب لهم عيش وشوريه.

يقول الحضراوي: وفي زماننا اتخذت خستخانة لمرضى فقراء

ص: 84

الأهالي والمنقطعين وهي دار أبي سفيان التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

أقول: دار أبي سفيان احتفظت بالاسم الذى ذكره الحضراوي وهو - القَبَّانْ - وكانت تستعمل مستودعا للأدوية لمديرية الصحة العامة في العهد السعودي، وكان موقعها في الجودرية بعد المروة، وقد أُزيلت هذه الدار في التوسعة السعودية للمسجد الحرام التي شملت المسعى.

‌آثاره المعمارية:

قام حسيب باشا ببناء تكية بجوار دار أم المؤمنين السيدة خديجة - رضوان الله تعالى عليها - وعمّر الميضا المقابلة لعين البزابيز، وجعل فيها بيوت أخلية، وهي في أوائل المسعى من أعلاها، وبلّط رحبة باب السلام وفرشها بالحجر الرخام الأبيض، وكانت قبل ذلك محلا لغسيل الأرجل، وربما كانت الكلاب تجلس فيها فمنعت وصارت من جملة، رحبة المسجد الحرام زيادة له ينتفع به المصلون وغيرهم.

أقول: كانت رحبة باب السلام مفروشة بالرخام الأبيض الجميل وكانت بها حوانيت الكتبية وكان الناس يصلون بها إلى أن أُدخلت مباني باب السلام جميعها مع مباني المسعى في توسعة المسجد الحرام والمسعى.

وبلّط رحبة باب الوداع أيضًا من الخارج، وهو المحل المعروف بحزورة، عند بيت أم هانئ.

‌عزمه على توسعة المسعى:

يقول الحضراوي: وأراد أن يوسع المسعى ويهدمها ليتسع على الحجاج حال المسعى، ويأخذ من الدور الداخلة في مشعر المسعى

ص: 85

ويجعل طريقا في الذاهب للسعي، وآخر للآيب، ونص حبلًا - وكان مراده أن يجعل عوضه دَرَابِزًا حاجزًا - من الحديد وغيره.

يقول الحضراوي: ثم لما صمم على توسيع المسعى، وهدم بعض الدور الداخلة بالمشعر كما مر، كتب فيه بعض أهالي مكة المشرفة، ونقموا عليه، وتوجه بالكتب إلى الدولة العلية، أحد الفضلاء، وهو المرحوم السيد عبد الله بن عقيل. توجه خفية على ناقة إلى التنعيم ثم أخذ برًّا عن طريق الحربية، وتوجه إلى الآستانة العلية وشكاه، فأمرت الدولة العلية بعزله، وكان إذ ذاك على غفلة، وعزل عن مكة المشرفة سنة 1266 هـ، فتوجه إلى الآستانة مكرّمًا فتولى بها جملة ولايات من - جملة - بينها - نظارة الأوقاف إلى أن توفى بها سنة 1287 هـ.

‌أعماله الأخرى:

يقول الحضراوي: وأخرج مكاتب الصبيان من الحرم الشريف، وفرَّقهُم في الزوايا، ورتب لكل فقيه مائة قرش بالخزينة العامرة.

ويقول الحضراوي: وربما كان يَعُسُّ بنفسه ليلا، ويدور مكة بزي أحد العساكر، ويختفي بالقهاوي، ويتفقد المحتاجين من ذوى البيوت.

‌تأسيس مراكز الشرطة:

يقول الحضراوي عن هذا الوالي: وأزال جملة من المنكرات، ورتب كركولات بباطن مكة من العساكر النظامية فجعل في المسعى كركولا، وبالمدعى كركولا، وبسوق المعلى مثله، وبالشبيكة عند المحجوب مثله، والهجلة مثله، وعند بيت الباشا مثله.

ص: 86

أقول: الكركول هو الاسم التركي لمركز الشرطة، وكان الناس ينطقونه في الحجاز بالنون لا باللام.

‌الوالي محمد كامل باشا:

أُسندت إليه الولاية سنة 1271 هـ، وكان على خلاف مع الشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة.

يقول الحضراوى: وفي مدته وقع الخوف في سائر الحرم وأطرافه، وثارت فتنة بمكة ثم جهز عرضيًّا من جدة لمقاتلة الشريف عبد المطلب ونادى الناس واشتد الكرب وحصل الوسواس وتحت - كلمة ناقصة - على عزل أمير مكة المذكور لتكاثر الفتن والشرور ثم عزل عن مكة بسبب منافسة بينه وبين أمير مكة الشريف عبد المطلب بن غالب وأوضح ذلك في هامش الكتاب فقال: ثم لم يتفق الحال بين الوالي المذكور وبين الإمارة لأسباب من جملتها إبطال بيع الرقيق علنًا فقامت البلد وثارت العامة يوم الخميس تاسع عشر رجب سنة 1272 هـ وصار رمي البندق بالمسجد الحرام، وأصاب البيت الشريف، وقتل نحو تسعة وعشرين إنسانا من الأهالي.

‌مقتل القنصلين الإنجليزي والفرنسي بجدة:

في سنة 1274 هـ أُسندت ولاية الحجاز إلى الوالي محمود باشا، وفي عهد ولايته وقعت الفتنة بين أهالي جدة والمقيمين بها من النصارى.

أقول: "وقد كنت ذكرت شيئا عن هذه الفتنة في الجزء الثاني من أعلام الحجاز نقلا عن موسوعة مدينة جدة للأستاذ عبد القدوس

ص: 87

الأنصارى"

(136)

وقد أورد الحضراوي أخبار هذه الفتنة بتفصيل أوضح مما ورد في موسوعة جدة وها نحن ننقل هنا ما أورده الحضراوي:

يقول الحضراوي: وفي مدته - محمود باشا - كانت مقاتلة أهل جدة مع من فيها من النصارى فقاموا عليهم وقتلوهم، وأسباب هذه الفتنة أن أولاد صالح جوهر تخاصموا مع بعضهم، فرفع على سفينته علم الدولة العثمانية، وكان أولاد صالح جوهر رعية للإِنجليز، فجاء القنصل الإِنجليزي إلى السفينة وأنزل الراية العثمانية ومزقها كسرها، وداس عليها بكنترته - حذائه - ورفع راية الإِنجليز على السفينة، فلما علم قائمقام جدة بما ذكر استشاط غضبًا، واستدعى محتسب جدة - رئيس البلدية - عبد الله أغافران، وقال له:"اجمع مائة من الحضارم بسلاحهم، ودعهم يمرون" أمام بيت القنصل لعله يرتهب، فلما اجتمعوا وتبعهم الرعاع والغوغاء، قامت البلد على ساق وانتشرت الفتنة بالاتفاق، وكان قد قدم إلى جدة مركب حربي فرنساوي ورسى في المرسى فأرسل نامق باشا لأهل المركب أنهم يرسلون - كَمْ قُلَّهْ - عددًا من القنابل على البلد من فوقها لإِرهاب المفسدين، ولقلة العساكر بجدة، فحين وقعت القنابل وإن كانت لم تصب أحدا، ولم تحدث حدثا، فرَّ الناس إلى مكة هاربين فنزل الباشا المذكور من مكة إلى جدة، وصحبته جملة من العلماء كشيخ الإِسلام مولانا الشيخ جمال شيخ عمر، والشيخ صديق كمال، والشيخ محمد جاد الله، والسيد علي نائب الحرم، وغيرهم - رحم الله الجميع -، وتدارك الأمر بعد التلاشى، ودبر إطفاء تلك الواقعة، وكان أهل جدة

(136)

أعلام الحجاز: ص 218، 243.

ص: 88

أوقعوا قتلًا ونهبًا وأسرًا في سائر النصارى القاطنين بها وغيرهم، فجمعوا جملة من أموالهم من الناس، وقتلوا نحو أثنى عشر رجلا، ممن وجب عليهم القتل، لأنهم قتلوا بإقرارهم، ونفوا نحو أربعين، وأفقدوا محتسبها المذكور عبد الله أغا محتسب، وأما قائمقام فأنكر كونه قال للمحتسب أجمع مائة من الخصام .. إلخ.

وقتلوا أيضا الشيخ سعيد العمودى كبير الحضارم، وكان رجلًا صالحًا ديّنًا.

وأستطع أن أعلق على ما أورده الحضراوي في شأن هذه الواقعة، بأن القائمقام الذي أوعز لرئيس البلدية - المحتسب - لتجميع الحضارم وإرسالهم بسلاحهم كقوة استعراضية أمام منزل القنصل الإنجليزي، هو الذي هيأ للعامة والغرغاء أن ينضموا إلى هذه القوة، وقد عرف الناس أن القنصل الإنجليزي أهان علم الدولة العثمانية، - وهو رمز الإِسلام عند المسلمين في ذلك الزمان - فأنزله من السفينة ومزقه ودهس عليه بحذائه، فثارت الغيرة الدينية في نفوسهم، فانطلقوا فقتلوا القنصل الإِنجليزي والفرنسي ومن استطاعوا الوصول إليهم من النصارى المقيمين بجدة ونهبوا أموالهم، والفتنة كالنار إذا شبت أخذت ما في طريقها، وكان الأولى بالقائمقام أن يتصرف بالحكمه، ويغلِّب جانب العقل، ولا يدخل العامة في معالجة هذه الأمور، وأغرب ما في القصة التي أوردها الحضراوي أن نامق باشا أوعز للبارجة الفرنسية بإلقاء بعض القنابل على المدينة للإرهاب بحيث لا يصيب الأهالي أو المباني. ونستطيع أن نستخلص من هذه الحادثة عدة أمور:

ص: 89

(1)

أن الدولة لم يكن لديها من جنود الأمن ما يكفي لتسكين الفتن إن ثارت، والمحافظة على أمن المدينة.

(2)

أن الحضارم كانوا موجودين في مدينة جدة ولديهم السلاح وكانوا متكتلين تحت قيادة كبارهم، وقد قتل من كبار الحضارم في جدة الشيخ سعيد العمودي كبيرهم، ونفي إلى قبرص الشيخ يوسف بإناجة وغيره من كبار الحضارم.

(3)

أن القنصل الإنجليزي كان أرعن لإِقدامه على إهانة علم الدولة العثمانية، وكان الأولى به أن يتصرف مع ولد صالح جوهر الذي غيرَّ العلم الإِنجليزي، ليعيده إلى السفينة بدلًا من أن يتصرف هو ذلك التصرف الأرعن الذي كان سببًا في هلاكه.

(4)

أن القائمقام كان أكثر رعونة من القنصل لأنه أراد معالجة الأمر بالتخويف، فانطلقت الفتنة من عقالها وقام بكبرها الغوغاء الذين استثيرت حميتهم الدينية فاندفعوا يقتلون وينهبون.

‌علي باشا الكتهيلي:

وفي سنة 1276 هـ قدم مكة المشرفة الوالي علي باشا الكتهيلي، وفي أيامه عصوا عليه الأرانطة الباش بوزك وهجموا على مدرسته لأجل ماهياتهم لأنه كان يحب التوفير في الخزينة العامة، ثم عزل في سنة 1278 هـ.

‌الوالي الموسوس:

وفي سنة 1278 هـ تولى المشير عزت باشا وكانوا يلقبونه الموسوس، لأنه كان ربما يتوضأ بخمسة أباريق ودوارق ويظن أنه لم يحسن

ص: 90

وضوءه. وفي مدته غلت الأسعار وحصل الموت العام، ولم يحدث من الخيرات شئ إلا نزرًا يسيرًا، وكان له جانب عبادة ثم عزل في سنة 1281 هـ.

ونستطيع أن نستخلص من هذا أن الطاعون وقع بالحجاز في السنوات التي تولى فيها هذا الوالي الموسوس، وقد عبر عنه الحضراوى بالموت العام.

‌الوالي المتواضع:

في سنة 1281 هـ أُسندت الولاية إلى محمد وجيهي باشا شيخ الوزراء، وكان ساكن الحركات صاحب لطافة مسن، موافق لسائر الناس، حمدت سيرته في الناس، كثير الطواف، وكان ربما انفرد عن العساكر والأغاوات، ويمشى بخادم واحد من المدرسة لدار الحريم، وكانت أيامه كلها ساكنة إلى أن توفى بالطائف سنة 1283 هـ وعمره قد ناهز الثمانين.

‌آثاره المعمارية:

وكان ديدنه التحصين، عمّر قلعة مكة وجددها ورخَّمها، وعمّر قلعة الطائف وسورها وأتقن الأبراج وأصلح المآثر.

‌الوالي الساذج:

في سنة 1283 هـ أُسندت الولاية إلى محمد معمر باشا، ووصل إلى مكة سنة 1284 هـ لأنه مكث بمصر مدة نصف عام، ثم وصل إلى جدة وبدأ بزيارة المسجد النبوي الشريف.

ص: 91

يقول الحضراوي: ودخل إلى البيت الحرام متواضعا صاحب عبادة تامة، وتواضع وانكسار، إذا أراد أن يطوف أو يدخل الحرم الشريف لا ينزل إلا لوحده - منفردًا - كأحد العامة، وربما إذا أراد استلام الحجر الأسود لا يعرفه الحجاج، فهذا يدفعه، وهذا يوكزه حتى يقبّل الحجر بتواضع كأحد الناس، ويقبل عرضحالات

(137)

الفقراء بنفسه ويقبل على الناس، وإذا ذهب إلى بيت الحريم هو وخادم - يمشى خلفه من بعيد - كثير العبادة، يحب العلماء، غير أنه لم يكن له معرفة بالسياسة الدنيوية، باطل الحركة عن مدارات الرعية، لا يدري الأمور الداخلية والخارجية كأنه ساذج لا يعرف أحوال الدولة.

ثم إنه لما رأى نفسه عاجزًا عن تدبير الرعية توجه بن مكة في أوائل سنة 1278 هـ إلى الآستانة العلية وطلب الاستعفاء عن الولاية، فوجهته الدولة إلى أنقرة واليًا عليها.

وقد أوضح الحضراوي بعد ذلك سبب طلبه الإِعفاء من الولاية فقال:

وأسباب طلبه الاستعفاء وتوجهه أنه جاءت بعض أوامر تتضمن إجراءً هامًّا بالحجاز فطلبوا الاستسقاء والاستغاثة بالطائف، وكان جملة أعيان مكة بالطائف وقد شعروا بذلك، فبعد أن استغاثوا، اجتمع الناس من أهالي مكة والطائف حوالي الباشا يلاطفونه بأن مكة والحجاز مستثنى لا يقبل مثل هذا الاعتناء من الدولة العلية به وبأهله، وكون أهله جيران

(137)

عرضحالات: جمع، مفردها: عرضحال، وهو الاصطلاح على ما يُقدَّم للحكام من رسائل في العهد العثماني من الناس في شئون حياتهم.

ص: 92

الحرم، وحين اجتمعوا حواليه بالمصلَّى، وانضم الناس إليهم ارتاع الباشا المذكور، وقال لهم: والله لا أحدث شيئا، ولا لكم إلا ما يسركم لكونكم من أهل الله وجيران بيته، ثم لما قدم مكة المشرفة توجه إلى الآستانة مستعفيًا من الولاية كما تقدم .. انتهى ما ذكره الحضراوي.

ونستطيع أن نستخلص من هذه الحادثة أن الدولة العثمانية كتبت إلى والي الحجاز بإجراء بعض الأمور التي اعترض عليها الناس لما علموا بخبرها فطلبوا من الوالي إقامة صلاة الاستسقاء، فلما اجتمعوا للاستغاثة وأقاموا الصلاة، التفوا حول الوالي وكان الزمان صيفا وجُلُّ أعيان مكة يصيفون بالطائف، أقول التفوا حول الوالي وقالوا له: إن الحجاز باعتباره بلد الله يجب أن يكون معفًى من الإِجراءات التي تطبقها الدولة في البلدان الأخرى مثل مصر والشام وغيرها، فلم يكن من الوالي بعد أن رأى التفاف الناس حوله وفيهم الأعيان والعوام إلا أن وعدهم بأن لا يجري شيئًا مما أُمر به ثم توجّه إلى الآستانة فاستعفى من ولاية الحجاز.

والواقع أن نظرة الدولة العثمانية إلى الحجاز، ونظرة أهل الحجاز إلى أنفسهم في ذلك الزمان كانت تتلخص في أن الحجاز بلد فقير، فيه بيت الله الحرام، ومسجد نبيه الكريم، وأنه يعيش على ما ترسله الدولة من المعونات لأهله وما يرد من الحجاج الوافدين إليه، وأن أهله بصفتهم من جيران البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف يجب أن يكونوا معفيين من الأنظمة والإجراءات التي تطبق في الولايات الأخرى، وقد شمل هذا الاستثناء نظم التعليم والجندية وغيرهما. ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات الأخرى في مصر والشام والعراق تتمتع بنظام تعليمي متقدم وكذلك بتظام تعليمي عسكري فإن الحجاز كان مُعْفى من هذه الأنظمة

ص: 93

الأمر الذى أصبح فيه متأخرًا عن الولايات الأخرى، وكان رجال الدولة العثمانية يننظرون إلى أهل الحجاز هذه النظرة الخاصة فيعفونهم من الانخراط في سلك الجندية ويتركون أمور التعليم قاصرة على حلقات العلم الديني في المسجدين ويرسلون - الجرايات - إلى الحجاز، ويظنون أنهم بهذا يميزونه لجوار أهله للحرمين الشريفين، كان أهل الحجاز قانعين بحياتهم، ولهذا فإنهم التفوا حول الوالي وقالوا له -:"إن الحجاز مستثنى ولا يقبل مثل هذا الاعتناء من الدولة العلية" كما ذكر الحضراوى من قبل.

كنت أود لو أن الحضراوى ذكر لنا ما هي الإِجراءات التي طلبت الدولة العلية من الوالي تنفيذها في الحجاز؟ والتي وصفها أهالي مكة باعتناء الدولة بهم، ويبدو لي من فحوى كلمة الاعتناء أن الأمر لم يكن يتعلق بضرائب تفرض على الحجاز، وإنما كان نوعا من العمل المفروض للنهوض بالبلاد في مرافق الجندية أو التعليم، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، وإن كنت أرجحه - والله أعلم -.

‌الوالي خورشيد باشا:

أُسندت الولاية إلى خورشيد باشا ودخل مكة في الرابع من شوال سنة 1287 هـ.

يقول الحضراوي: وكان قد قدم قبله إلى مكة مدير الحرم عزت أفندي متوليًّا على المديرية العامة، فأمر بتبطيل الأذكار في المسجد الحرام، ومنع الذين يقرأون دلائل الخيرات بالْجُمَع لعدم التشويش على المصلين، وجعل عساكرًا من النظامية في المسجد الحرام، يمنعون من يعفِّش بالمسجد أو يكثر الحركات الصبيانية.

ص: 94

ووصف الحضراوي خورشيد باشا فقال: كان عالمًا فاضلًا يحب العلم وأهله، حتى بلغني أنه ينظم الشعر ويرويه.

‌بناء قلعة الطائف:

وخورشيد باشا هو الذي بنى قلعة الطائف.

يقول الحضراوى: ثم إنه عمّر قلعة الطائف، وجعل فيها مسجدا، وجعل فيها سائر دوائر الحكومة وما يتعلق بها، والخزينة، فكانت لطفة منه، وكان ذلك سنة 1288 هـ.

أقول: ولا تزال قلعة الطائف باقية على هذه العمارة بيد أنها تستعمل للأغراض العسكرية.

‌بين الوالي والمفتي:

في ولاية خورشيد باشا ثارت في مكة فتنة فقام بعض الضباط يريدون تهييج العساكر على أهل مكة فجمعهم - الوالي - وقال: لا أحد يحدث حدثا، ولا يرمي رصاصة بغير أمري، واستدعى مفتي البلد، والشيخ الشيبي، وكان الرعاع قد هيجوا الجرى في الطرقات. قال المفتي الشيخ عبد الرحمن سراج مقتبسًا: يا أفندينا [لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا]. فأجابه الباشا قائلا: يا مولانا كأنك تشير لي بمعنى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} فوالله لا أحب الفتنة.

‌أمير مكة يسكن الفتنة:

يقول الحضراوي: فما كان بأسرع من أن ركب حضرة أمير مكة سيدنا الشريف عبد الله باشا - أدام الله بقاءه - وسَكَّن الفتنة، وأَمَّن

ص: 95

البلد، ودارها - سار فيها - هو وقرابته النجبا بالقواسة

(138)

أمامه، وصار يخاطب كل أحد بقوله: يا فلان اجلس وابسط دكانك.

‌خورشيد باشا يلجأ إلى بيت الشريف:

يقول الحضراوي: ثم تولى بعده أفندينا قاسم باشا القيصرلي متصرف على جدة ومكة والطائف، وكان متصرف قبل هذه النوبة على المدينة المنورة، ثم صرف عنها بولاية جدة فقط، ثم أُضيفت له ولاية مكة المشرفة، فدخلها على حين غفلة يوم الثلاثاء الثالث عشر من شوال سنة 1288 هـ بموكب جميل وهو محرم متواضع، ابتدأ عند الدخول بالطواف والسعي بعمرة بعد صلاة العصر، وأما خورشيد باشا المتقدم فحين بلغه مجيء قاسم باشا خرج عن مدرسة الحكومة مهوولًا بخادم وراءه شايل بقشة له إلى بيت الخاسكية المقابل لها، وعليه آثار الحزن الخيف، فالتجأ إلى حمى الدار المذكورة، وهي لمولانا الشريف، فناداه لسان حال المتولي القادم:"إنما أنا قاسم" فضربت له المدافع تشريفًا، وكانت سبعة عشر مدفعا لقدر رتبته البهية، واستمر خورشيد باشا إلى أن أتى فرمان المتولي الجديد السلطاني بالتأييد الشاهاني، والعز الخاقاني.

أقول: بيت الخاسكية كان يقع على الصفا، أمام باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أُزيل والبيوت التي حوله جميعها حينما تمت التوسعة السعودية للمسجد الحرام وتنظيم المسعى.

(138)

القواسة النسبة فيها إلى حامل الأقواس: وهو اصطلاح يطلق على الجنود المرافقين لأمير مكة من الحرس.

ص: 96

‌الوالي يعاقب محتسب السوق:

يقول الحضراوى: عن الوالي قاسم باشا: فأول خير فعله عزله لمحتسب السوق وحبسه له بالحديد في أسفل جياد، ولم يسبق لمثله فعله، ولا تقدم، والأمر عليه محاسبة كل من أخذ منه شيئًا من الرشوة، فتقدمت فيه جملة عروض من أهل الأسواق، وحاسب كل من له شئ عنده من النقود، وكان زاد وفاق غيره عن الحدود، ثم ولى مكانه أحد العلماء الأفاضل والخطباء الأماثل الشيخ عبد الرحمن العجيمي من بيت فضل وصلاح وعلم ونجاح وهو اللائق بمنصب الاحتسابة، أن لا يكون في الظاهر مصلح، وفي الباطن مجرح، والله يعلم المفسد من المصلح.

‌رخص الأسعار:

يقول الحضراوي: عن المحتسب الجديد عبد الرحمن العجيمي: فرخصت في مدته الأسعار، وصار رطل اللحم بستين ديواني بعد أن كان بثلاثة قروش، وكيلة الحب المصري بثلاثة قروش بعد أن كانت بخمسة وستة قروش، ورطل السمن بستة بعد أن كان بثمانية وتسعة، وكانت الأسعار قد تمادت في الغلو مدة المحتسب الأول مدة ثلاث سنوات على ما تقدم سعره.

تنظيم الدكاكين في المسعى:

يقول الحضراوي: عن المحتسب العجيمي: ونقل بياعين السمن، والعيش من المسعى بعد أن كانوا يزاحمون من يريد السعي فصار ميدانًا للمشعر، فَدَخَّلُوا الباعة في الدكاكين، وزالت بعض الأمور المخلة من ضيق ذلك المشعر عن يقين.

ص: 97

‌عزل المحتسب العجيمي:

يقول الحضراوى: وفي اليوم الثاني عشر من شهر شعبان سنة 1289 هـ عزل المحتسب المذكور، وولى مكانه زابط - ضابط - من طرف الديوان اسمه خليل، أصله قواس ثم حباس، ثم صار كبير بعض القواسة بديوان الحكومة إلى أن صار زابط للسوق.

‌حدة طبع الوالى:

يقول الحضراوي: عن قاسم باشا: وكانت تصرفات هذا الباشا كلها حميدة، إلا أنه يغلب عليه سماعه للدفتردار سليمان أفندي، فضيق على أهل المعاشات، وأمره بالنزول إلى جدة مع الخزينة وحصر الكتبة، وإسَاءَتْ بعض العامة، وكل من وقع له من الرعايا يقوم بنفسه ويضربه بيده، ويتكلم ببعض الكلمات القبيحة، فكان يغلب عليه الحمق، وإلا فهو نبيه فطن حافظ لصداقة الوظيفة، ثم بعد ذلك صرف عن مكة المشرفة، هو والد فتردار سليمان أفندي، وكان عزل قاسم باشا في أواخر شعبان سنة 1289 هـ.

‌حدود ولاية الحجاز:

يقول الحضراوي: ثم تولى محمد رشيد باشا المشير واليا على الحجاز كالعادة الأولى الجارية في الولاة وكان وصوله إلى مكة المشرفة يوم الخميس المبارك ليلة العشرين من شهر شعبان من السنة المذكورة 1289 هـ، وقرئ فرمانه بالمسجد الحرام يوم السبت ثاني وعشرين من الشهر المذكور، بأنه والي ولاية الحجاز، ويحد ولايته من الشرق جبل شمَّرْ بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكة وجدة والطائف، إلى حدود رنية من أرض الحجاز.

ص: 98

أقول: جبل شَّمرْ بحائل وليس بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

‌المحتسب بكرى باشا:

يقول الحضراوي عن المشير محمد رشيد باشا: وولى محتسبا من الأهالي يقال له بكري باشا من أصناف المطوفين، فغلا سعر اللحم وارتفع بيقين.

‌فرض الضريبة على الأغنام:

ووضع على كل رأس مما يذبح من الأغنام عشرين ديواني للميري.

‌والي الحجاز الصدر الأعظم السابق:

أُسندت ولاية الحجاز في شهر جمادى الآخرة من سنة 1291 هـ إلى أحد النبغاء الكرام، والرؤساء الفخام، الوزير الأعظم السيد محمد رشيد باشا الصدر الأعظم سابقا الشهير بالشرواني.

يقول الحضراوي: كان حين رفع عن الصدارة العظمى توجه إلى مدينة حلب واليا عليها، ثم وجهته الدولة العلية منها إلى الأقطار الحجازية.

‌لا موكب بعد الصدارة العظمى:

فقدم مكة ليلة الخميس غاية شهر جمادى الآخرة سنة 1291 هـ، محرمًا لله ناسكًا طائعًا، ملتزمًا بأعتاب بيت الله معترفًا ماسكًا

(139)

.

(139)

لعل صحة الكلمة: ناسكًا.

ص: 99

ثم يقول الحضراوي عن هذا الوالي: شاوَرُوه في الرجوع ليلا إلى خارج البلد ليدخلها صباحا بانتظام الموكب مثل عادة الولاة فقال: لا موكب بعد الصدارة العظمى، ولا ينبغي في محل مهبط الوحي ونزول القرآن غير التواضع، وترك العجب.

‌هايتلو دولتلو:

يقول الحضراوي: ثم في ثاني الأيام قرئ الفرمان الهمايوني فزيد فيه في ألقابه: "هايتلو دولتلو" وهو عالم فاضل داغستاني الأصل، أصله من الخواجات

(140)

العلماء الأفاضل، محدث كامل، وفقيه نبيه، يحب العلماء، ومجالس الخير، فكم له من صدقات فاخرة، وخيرات يخص بها الأفاضل، ويضرب به في الكرم المثل، عربي اللفظ عليه سكينة ووقار مع جلال واحتشام.

‌الدراويش:

يقول الحضراوي عن الصدر الأعظم: صحب معه إلى مكة جملة من الدراويش، وزار المآثر جميعها وتصدق على فقراء الحرم.

أقول: الدراويش جماعة من الناس يقولون عن أنفسهم: إنهم تفرغوا للعبادة والذكر، والسذج من الناس يتوسمون فيهم البركة، فيقومون بإطعامهم، وإسكانهم وهذا ليس من الدين الصحيح في شيء، فالذكر لا يمنع العمل، والمسلم الأبي يعمل بيديه ليقوم بشئون نفسه وأهله ولا يقبل الصدقات، فاليد العليا خير من اليد السفلى.

(140)

الخواجات: جمع خوجة وهو الأستاذ المعلم.

ص: 100

‌وفاة الصدر الأعظم بالطائف:

لم يمكث الصدر الأعظم في الولاية إلا شهرا وبضعة أيام.

يقول الحضراوي: وفي رابع شعبان توجه إلى الطائف ونزل ببستان أمير مكة سيدنا الشريف عبد الله باشا في قصره الشامخ بشبرة مقابل العقيق فمكث بالطائف مدة أسبوع، فتغير عليه الهواء وصادفه الأجل المحتوم، فاشتكى يوم الجمعة بعد أن صلى بمسجد حبر الأمة ومكث إلى ليلة الربوع - الأربعاء - الحادى عشر من شعبان المعظم في نصف الليل صار إلى رحمة الله ورضوانه.

‌إصلاحات الصدر الأعظم:

بالرغم من قصر المدة التي قضاها الصدر الأعظم السابق السيد محمد رشيد باشا إلا أنها كانت حافلة بالأعمال الإِصلاحية في مكة والطائف.

يقول الحضراوي: وكانت عين زبيدة حصل فيها خراب وضعف ماؤها جدًّا، فأرسل حالا من الطائف مشرفين للقياس على مصرفها، وأمر من حينه بنحو تسعين ألف غرش لعمارتها، وأمر بفتح باب جنوبي في مسجد حبر الأمة - مسجد ابن العباس بالطائف - وتبليطه لتوسيع المسجد، والخروج على طريق السلامة، فحالا جرى ذلك وقضى حوائج السائلين وأوصى بجملة جنيهات من ماله تفرق على أهل مكة المشرفة ففرقت.

‌مدرسة الكتبخانة:

وأمر بشراء مدرسة كتبخانة - مكتبة - عند باب التكية المصرية

ص: 101

في مكة المشرفة بجوار المسجد الحرام فحالا صارت، ووضعت فيها الكتب النفيسة المعتبرة، وعينوا لها مباشرين.

ويعلق الحضراوي على أعمال الصدر الأعظم فيقول: غير أنه لم يتهنَّ بالمجاورة، وكانت نيته لأهل مكة والبلد خيرًا، لأنه قمع الدفتردار الذي كان يغم الأهالي، وينقص معاشاتهم، وأمعن النظر في الهمة حالًا بعين زبيدة لكن لم يتهن به الناس.

أقول: كانت التكية المصرية أمام باب أجياد مواجهة للمسجد الحرام، ولابد أن المدرسة التي اشتراها الصدر الأعظم وجعل منها مكتبة كانت مواجهة للتكية مما يلي الحرم، وقد أدخلت المدارس التي كانت شارعة على الحرم كما أدخلت التكية المصرية وغيرها من المباني في التوسعة السعودية للمسجد الحرام.

‌الوالي محمد تقي الدين باشا:

في أواخر شهر شوال سنة 1291 هـ تولى ولاية الحجاز محمد تقي الدين باشا الحلبي وقدم إلى مكة في العشر الأواخر من شوال سنة 1291 هـ وكان قبل الباشوية في سلك العلماء. تولى الفتوى بجهة حلب نحو عشر سنوات.

‌التلاعب من القائمين على عين زبيدة:

يقول الحضراوي عنه: فلم يحدث شيئا، إلا أنه أمر بالبحث على مشايخ سقاية العين، وعزل سقاباشي - رئيس السقاة إسماعيل تفاحة - وولى السيد خالد شبيكة، وسَعَّرَ القربة - قربة الماء - بعشرين ديواني ومن زاد بسعره يشق قربته، فاستراح الناس وكثر الماء وراج، وفاض الماء بكثرة في زحمة الحجاج.

ص: 102

يقول الحضراوى: وصلح ميضة باب السلام، وأجرى لمطاهرها الماء من العين، وكان من مدة سنين منقطع عنها وقنعت الناس واستراحت.

ويقول الحضراوي: وكان من باهر حسناته التوسع على أهل مكة في الانتباه لماء العين، وكونه قرَّطَ - شَدَّدَ - على السقايين، والقسامين، وقمع أحمد بك المهندس، وقال - له - لا تتعرض للعين، وليس فيها خراب، إنما الخراب أصله من القسامين لأجل غلاء الماء، ففاض.

‌ترتيبات المعاشات لبعض أهل مكة:

يقول الحضراوي: وكان هذا الباشا صاحب همة علية، رتب لجملة الناس من أهل مكة ممن يلوذ به معاشات، فجاءت براءتها من الآستانة.

‌الباشا يطلب إعانات لمعسكر المجاهدين:

بعد أن أثنى الحضراوي على همة الباشا في ضبط أمور عين زبيدة ومنع التلاعب بها، وجّه نقده إلى الباشا فقال: وفي أيامه كانت مكة في ضيق من الحال - أول هام - من جهة الإِعانة الذي - التي - كان يطلبها منهم للعساكر المجاهدين، كل واحد بقدر حاله، ولو ربع مجيدي أو روبية

(141)

يقبلون، والحال أن جميع أهل البلد ناس فقراء لا حيلة لهم عائشون في أمن الله، مستورون بستر الله، فتكرر هذا منه، فشوش أذهانهم.

(141)

الروبية: وحدة العملة الهندية، وقد أدركتها في الخمسينات من القرن الماضي، وكل سبعة روبيات بجنيه ذهب. وأول هام يعنى بها أولًا.

ص: 103

يقول الحضراوي معلقا: وليت شعرى إن هذه الدراهم تصل العساكر والدولة، لأنه جمع شئ كثير بسبب إعانة بعض الأكابر من جدة على نحو خمسمائة ريال وألف، إلى مائة ريال وفي مكة من تجار الميمن

(142)

وغيرهم فسئمته الناس، وتمنوا رفعه لذلك.

‌عزل الوالي:

يقول الحضراوى: فعزل بعد موت سيدنا الشريف عبد الله باشا ابن عون، لأنه ما انفرد لهذا الطلب من الأهالي إلا بعد موت سيد الجميع

(143)

.

‌الوالي يمتنع عن مقابلة الشريف:

يقول الحضراوي: فلما وصل إلى مكة الشريف الحسين باشا بن المرحوم الشريف محمد بن عون صِنْوُ أمير مكة المتقدم، تكبر الباشا المذكور، ولم ينزل لمقابلة حضرة الأمير لأنه حينئذ بالطائف، ولا حضر لقراءة الفرمان فبناء عليه جاء عزله.

‌محاسبة الوالي علي الإِعانة:

وقدم مفتش من طرف الدولة العلية يعدد عليه سيئاته، ويحاسبه عما أخذه برسم الإِعانة، ثم توجه إلى الآستانة العلية.

(142)

الميمن: طائفة من الهنود اشتهروا بالغنى وكانت لهم محلات تجارية بمكة المكرمة.

(143)

يقصد الحضراوي: أن الوالي أقدم على طلب المساعدات للعسكر بعد وفاة الشريف عبد الله باشا.

ص: 104

‌المشير محمد حالت باشا:

قدم هذا الوالي في أواخر شهر ذي القعدة سنة 1294 هـ، وقد أطنب الحضراوي في مناقب هذا الباشا لسابق معرفته به في الآستانة، وحينما علم بقدومه توجه إلى جدة لمقابلته، وهنأه بقصيدة من شعره، وكان قد نظم له قصيدة أخرى جعل أواخرها باللغة التركية.

‌قائمقام جدة يخشى تحرك وكلاء الإنجليز والفرنسيين:

يقول الحضراوي عن حالت باشا: وطلع الطائف في أوائل شهر جمادى الأولى سنة 1296 هـ بأهله فما استقر خمسة عشر يوما بالطائف إلا وقد أتاه كتاب من علي بك قائمقام جدة يخبره بتحرك وكلاء دولة الإنجليز وفرنسا، وأسبابه أن رجلا نصرانيًّا خرج مع جماعة يصيد فرمى بندقا فجاءت في رجل عربي من الصيادين البدو وقتلته، وهو خائف من فتنة، أو قيام حركة من أهل البلد أو غيرهم.

‌عشرة رجال ينقلون الباشا من كرا:

فنزل الباشا المحتشم من طريق الكرا، ولما وصل إلى المرسن أحضر عشرة رجال من شبان العرب من الهدا وأعطاهم أربعين ريالا مجيدية، وشالوه في الفالكي - وهو كرسي من خشب - كان قد اصطنعه مثل التخت، إلا أنه قَدْرُ نصف التخت الكبير، يَشَدُّ على بغلين، فشالوه العشرة أنفار إلى أن نزلوا من جبل كرا، وبقى في الكر، وفي ثاني يوم ليلا قدم مكة المكرمة، ثم بات ليلته بمكة.

أقول: لقد سبق الباشا بتصرفه هذا الهنود الذين يحملون الناس في شوارع الهند بالركشا، ولله في خلقه شئون.

ص: 105

‌وفاة الباشا بجدة:

وفي ثاني الأيام كان قد نزل جدة فمكث بها ثلاثة أيام، وفي الليلة الرابعة توفى إلى رحمة الملك العلام ودفن بمقبرة حواء في الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 1296 هـ.

‌موت الحيل بالحجاز:

وفي هذه السنة كثر موت الخيل بمكة والحجاز.

أقول: لابد وأن يكون قد أصاب الخيل مرض وبائي قضى عليها.

‌اضطراب الأمن بسبب إبطال العملة النحاسية:

يقول الحضراوى: وبعد وفاة هذا الباشا، كان الشريف حسين باشا بن محمد بن عون، بالغزو ناحية عسير، والبلد افتتنت من جهة العملة النحاس، فإنهم نادوا بإبطالها، وعَزَّلَتْ الأسواق، ودار النهب بالأسواق والبلد معزولة، حتى قال الأديب الشيخ حسن وفا في ذلك:

كسد النحاس ولاح طالع نحسه

للقوم بعد السعد في الدبران

وتعطلت بين الأنام قروشهم

وغدت تباع بأبخس الأثمان

فغدت بأيدي القوم مع أنْصَافِها

بالبخس في الأثمان كالأثمان

فكأنما عصوا الإِله فعوقبا

بعد الوفا بالضرب والنقصان

فعسا مليك العصر يرضى عنهما

ويقيمها من ورطة الخسران

أقول: يبدو أن بعض المغامرين من الناس اغتنم فرصة غياب أمير مكة في بلاد عسير ووفاة الوالي الفجائية فأشاع خبر إبطال العملة النحاسية، لتهبط أثمانها، فتباع بأبخس الأثمان، فيشتريها الطامعون الذين

ص: 106

أطلقوا هذه الإشاعة الكاذبة بالثمن البخس، لأن الدولة لا ترضى عن هذه الأمور فتعلن للناس أن العملة باقية على حالها، وهكذا يستفيد المشترون لها بأبخس الأثمان، فقد ذكر الشاعر حسن وفا أن النصف من العملة النحاسية غدا ثمنه كالثمن، بمعنى أنه بيع بربع قيمته الأصلية.

‌الولاة يختلفون مع أمراء مكة:

يقول الحضراوي: وتولى بعده الوزير الجليل محمد ناشد باشا فأقام سنة وشيئًا، ولم تطل مدته أيضا، ثم عزل في شهر ذي الحجة الحرام بعد قدوم سيدنا أمير مكة الشريف عبد المطلب بن غالب، فلم يوافقه حاله ولم يتفقا فاستعفى، ثم تولى بعده أفندينا محمد صفوت باشا في شهر ذي الحجة الحرام فمكث سنة أيضا وحج سنة 1298 هـ، وعزل بسبب عدم انتظام الحال بينه وبين الإِمارة، وما رآه من عدم استقامة الحال، وعزل وكان شهما حازما إلا أنه لم تساعفه المقادير.

‌الولاية الثانية لأحمد عزت باشا:

لما رأت الدولة العثمانية اختلاف الولاة مع أمراء مكة أسندت ولاية الحجاز إلى أحمد عزت باشا أزرقنلي، وقد سبق أن تولى هذه الولاية سنة 1278 هـ، لتضمن حسن سير الأمور مع أمير مكة. قدم عزت باشا في أواخر شهر ذي الحجة سنة 1298 هـ.

‌العمارة والإضاءة:

يقول الحضراوي: فعمر في الحرم الشريف وطلى مقام سيدنا إبراهيم بالذهب، وجدد فوانيس الغاز القزاز من الصفا إلى المروة،

ص: 107

وفي مولد النبي صلى الله عليه وسلم وضع فانوسين، ومن الخارج حوالي المسجد الحرام على رأس الشوارع، ورتب لها من الخزينة ما يقوم بحالها.

‌عمل الميلين بالصفا:

يقول الحضراوي: وعمل بالصفا ميلين للقناديل.

أقول: المعروف أن الميلين الأخضرين بالصفا وضعا علامة للركض بينهما كما هو معلوم في نسك السعي، فهل كان عزت باشا هو أول من وضعهما، أم أنه وضع القناديل على الميلين المذكورين؟

‌عثمان نوري باشا قومندان العساكر الشاهانية:

يقول الحضراوي: لما كثر في هذه المدة اليسيرة عدم الراحة والاختلال، وكثر القيل والقال، بأسباب الإِمارة الحالية قدم إلى مكة المكرمة صاحب المقام العالي والمجال الغالي الحاج عثمان باشا نوري برسم قومندان العساكر الشاهانية، ومرخصا عموميا بإرادة شاهانية، وكان الوالي على مكة وجده إذ ذاك أحمد عزت باشا المتقدم ذكره .. يقول المؤلف عن عثمان نوري باشا هذا: فبذل هذا الشهم مساعيه الخيرية، وهمته العثمانية ما شهد له البوادي والحواضر.

أقول: ويبدو أن الشكوى كثرت من أمير مكة الشريف عبد المطلب فرأت الدولة إرسال قائد عسكري يكون سندا للوالي ليتولى تسوية الأمور مع الأمير، وقد اصطحب عثمان نوري باشا معه جملة من "أركان الحرب الأسود، وهم تحت تدبيره وأمره عليهم يسود" كما وصفه الحضراوي.

ص: 108

صورة عثمان باشا نوري الوالى التركي للحجاز الذي أسندت إليه الولاية سنة 1299 هجرية واستمر في ولاية الحجاز إلى سنة 1303 هجرية الموافقة لعام 1882 إلى عام 1886 ميلادية

ص: 109

‌سوء الأحوال بمكة:

يقول الحضراوي: فوجد مكة في غاية الاضطراب مما ابتليت به من سوء تدبير عمالها، والخراب ولم - ولا - أحدا يتجاسر إلى الوصول لأميرها من كثرة الحجاب، وتغلب أعوانه على الرعية بعد الأمن بالخفية، ولم يخشوا يوما تبيض فيه وتسود فيه الصحيفة، فشمر هذا الهمام عن ساعد عزمه بالكلية، وأزال حضرة الباشا تلك الحركات القوية وبدا باهتمام في المدافعة عن جيرة الحرم، وسكان المشاعر والملتزم.

أقول: يبدو أن أعوان أمير مكة تغالوا في عسفهم.

ويقول الحضراوي في ذلك: حتى أنهم كانوا في بعض الليالي، يطلبون بعض الأهالي، فيحميهم - الباشا - بعزمه وحزمه، ويسكن روعهم بملاطفته لهم ولزمه.

‌الوالي يخشى الأمير:

يقول الحضراوي: ويرسل الوالي أحمد عزت في ليله، ويدفع بكل قواه وعزمه، فربما يقول له الوالي أنا لا أقوى على مراجعة الأمير، وليس لي جرأة على كوب هذا الهول الخطير، فيرسل من عنده المذكرات إليه، ويرعد ويبرق بكل ما يقدر عليه.

‌عثمان نوري يهدد شريف مكة:

يقول الحضراوى: وربما قال في مخاطبته له - بالإسعاف - إن لم يرجع عن البطش بهؤلاء الضعاف وإلا أجريت عساكرى ومدافعي محاماة عن رعية مولانا السلطان، وأدافع عن هؤلاء الجيران.

ص: 111

‌استعفاء أحمد عزت باشا:

يقول الحضراوي: فلما كثر ذلك على الوالي وتحير أمره بين الأمير والوالي، أرسل يطلب الاستعفاء فأعفوه.

‌عثمان نوري باشا والي الحجاز:

ووجهت تلك الوزارات الجليلة إلى حضرة الوزير الأفخم، والدستور المعظم أفندينا عثمان نوري باشا وكان إذ ذاك بالطائف المأنوس في جمادى الآخرة أو رجب جاءه تلغراف رسمي سنة 1299 هـ، ففى الحال أدار أحكام الولاية لديه، ونشرت ألوية التشريف المنيف عليه، فولى في الحال وعزل، ونشر على الرعية بنود الأمن ووصل.

‌الوالي يجهز حملة عسكرية ضد الشريف:

في ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة 1298 هـ جهز الوالي على المثناة صناديد الرجال بحملة من العسكر الشاهانية مع المدافع وبعض الضباط يقدمهم - يتقدمهم - عمر باشا فأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم، وقبضوا على الأمير ليلا على تلك الحالة، واعتقل بقلعته بالطائف، وولى في محله الشريف عبد الله باشا

(144)

نجل المرحوم أمير مكة سيدنا الشريف محمد بن عون، فنودي باسمه في الطائف ومكة، وعزل الأمير الأول سيدنا الشريف عبد المطلب، فسكنت البلاد وقرَّت الناس، وهابت هذا الوزير سائر الرعايا من أشراف وعوام. فأرسل إلى الآستانة وعرف بما صنع، فحمد سعيه.

(144)

عبد الإله وينطقها الناس في الحجاز عبد اللاه.

ص: 112

‌تولية الشريف عون إمارة مكة:

وولى الشريف عون باشا الرفيق أميرا على مكة .. ووصل إلى جدة تاسع ذي الحجة سنة 1299 هـ، وفي صبح يوم عيد الأضحى قدم إلى مكة المكرمة وطاف وسعى وصعد إلى منى بالموكب والرجال فتقابل مع الوزير عمان باشا وكان يوما مشهودا.

وقد نظم الشعراء في هذه الحادثة قصائد الشعر فقال أديب

‌الحجاز الشيخ حسن وفا:

روض السرور بطيب الأنس قد نفحا

وصادح اليمن في حى الصفا صدحا

وافتر ثغر التهاني من ترنمنا

وطاب صدر كرام الحي وانشرحا

فكل شهم بحانات السرور غدى

بالصفو مغتبقا منه ومصطبحا

سرَّ القلوب بما أبداه من فرح

بمدح أعظم من في الكون قد مدحا

(145)

سلطاننا الآمر الماهى الجليل ومن

في ملكه بملوك الأرض قد رجحا

برٌّ رءوف عادل وَرِعٌ

من آل بيت جليل فضله وضحا

من آل بيت تسامى في العلا شرفا

به الزمان لإصلاح الورى سمحا

عبد الحميد الذي من حسن سيرته

تبسم الملك من أوصافه فرحا

أفعاله غرر تزهو بدولته

وجوده درر في جيد من نصحا

عمت مكارمه أهل الصلاح ومن

ساس الأمور وفي أجزائها نجحا

والسيد الشهم عثمان المشير بدى

به الصلاح ببيت الله واتضحا

شهم مع الحزم أبدى في سياسته

حكما أزال به الأضرار واطرحا

قرت به عين جيران الإله ومن

دنى من السادة الأمجاد أو نزحا

(145)

إنها مبالغة عظيمة تجاوزت الحد.

ص: 113

صورة الشريف عون الرفيق الذي تولى أمارة مكة في التاسع من ذي الحجة سنة 1299 هجرية الموافق لعام 1882 ميلادية

ص: 115

ووصف عدالة المشير عثمان باشا فقال:

أجرى الحكومة في وادي الحجاز بما

قِدْمًا تحلى به الفاروق واتشحا

وقام بالقسط بين القوم مجتهدا

وعن طريق الهدى والحق ما جنحا

فأصبح العدل منشورا بهمته

وأصبح الظلم مخذولا ومطرحا

كما وصف ناظر التكية السلطانية أحمد حمدي أفندي موقعة المثناة ونتائجها فقال:

أفادنا التلغراف بشرى

يا حبذا ذلك البشير

أتى لعبد الإله جهرا

بملك قطر العلا يسير

ومنها في وصف وقعة المثناة:

مدافع ركبت بليل

من حولهم للورى تثير

وجند بأس ألَمَّ فورا

أسرى به الباسل الوقور

عثمان قطر الحجاز حقا

ومن هو الآمر المشير

ومنها:

تمنطقوا بالسيوف بيضا

لها ضراب بها شهير

وأنشبوا للحرب جهرا

بنادقا حشوها السعير

تحكين هوج الرياح بطشا

لله ما تصنع الدبور

فأيقنوا بالهلاك قسرا

وما لهم في الورى مجير

وأسلموا أنفسا تغالت

في الأمر ما راعها نذير

ومنها في تهنئة الشريف عون الرفيق:

بشراك عون الرفيق بشرى

بالفخر قيدت لك الأمور

فدم مليكا أخا نوال

برغم ضد به غرو

ص: 117

المسجد الحرام ويظهر في الصورة باب بني شيبة والحجر، والبناء المقام على بئر زمزم، ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام، والمقامات الأربعة للأئمة أبى حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، كما يظهر المنبر في الصورة، وفي أعلى الصورة تظهر قلعة أجياد ..

ص: 119

‌إصلاحات عثمان نوري باشا في المسجد الحرام:

يقول الحضراوي: وفي سنة 1300 هـ أول جمعة من شهر صفر، أمر بإزالة قبة السقاية، وقبة الفراشين المعروفة الآن بقبة الساعات، فهدمها في هذا اليوم، وكانتا قبالة بئر زمزم، هدمهما إلى الساس - الأساس - وشاهدت البركة التي كانت معدة للسقاية، وهي في قبة الكتب (وتعريفها في الجزء الأول من هذا التاريخ في مآثر الحرم) ثم أخذ حجارتهما لطرف قمسيون عين زبيدة، ونقب جدار المسجد الحرام الملاصق لباب المدرسة عند باب المنارة الكائنة عند باب علي، وبنى بجانب المنارة داخل المسجد الحرام مدرسة لطيفة صغيرة، تعرف بمُوقِّتْ خانة ووضعت فيها الساعات الموقوفة لمواقيت المسجد الحرام بمعرفة مهندس الحرم الشريف أحد أركان الحرب المعتبربن حضرة صادق بك، وهي في أول الناحية الجنوبية، وكان أيضا بنى باش كركول بهمة الوالي المذكور، فتوسعت رحاب الحرم الشريف، وصار لا مانع لرؤية البيت لمن يكون بالرواق الشرقي من ناحية باب العباس وباب علي، فحمدت مساعيه وأيضا كان مقام الحنبلى منحرفا ملاصقًا لزمزم بالقرب منها فأزاله كليًّا، وبناه محله أليوم، وأصلح محراب مقام الحنفي فإنه كان خارجا يمنع من اتصال الصف ..

‌كركول الصفا:

وقد أوضح الشاعر حسن وفا أن ما ذكره الحضراوي باسم باش كركول هو كركول الصفا، فقد أرَّخَ هذه المناسبة في شعره على عادة الشعراء في ذلك الزمان فقال:

ص: 121

كراكول الصفا

وقد أزيل هذا المبنى في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام

ص: 123

مبنى الحميدية

كانت الحميدية مقرًا للدوائر الحكومية، وكان المبنى من أجل الأبنية وقد أزيل في التوسعة الأولى للمسجد الحرام

ص: 125

دار الطباعة

المطبعة وقد أزيل هذا المبنى في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام

ص: 127

أشاد الوزير الشهم عثمان في الصفا

قراغول بالحسن البديع تَفَرُّدا

فأضحى به التاريخ زاه وباسما

فيا حسن ما أنشا الوزير وشيَّدا

كلمة كركول أو قراغول كلمة تركية ومعناها قسم البوليس، وقد كان كركون الصفا كما أدكت الناس يسمونه باق في العهد السعودي وأزيل في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام.

‌مبنى الحميدية:

وفي سنة 1302 هـ أتم - الوالي - بناء السراية المعروفة بالحميدية، وهي سراية مربعة الشكل بجانب التكية المصرية من الناحية الغربية مقابلة لمنارة الحزورة.

‌المطبعة والتلغراف:

يقول الحضراوي: وبنى - مقابلها من ناحية الجنوب - بنى دارًا للطبع، وهو أول من شغل الطبع بمكة وأجرى التلغراف من جدة إلى مكة إلى الطائف، وعمل دارًا للتلغراف بباب الوداع ملاصقة للمسجد.

‌قلعة أجياد:

وعمر قلعة أجياد، وبنى بيتا للطبجية في رحبة أجياد.

‌مستشفى مِنًى وبازان الخيف:

يقول الحضراوي: وعمل خستخانة

(146)

بمِنًى، وبازانا عند مسجد الخيف.

(146)

الخستخانة: كلمة تركية معناها المستشفى.

ص: 129

أقول: لقد أدكت مبنى الحميدية، وكان مجمعا للدوائر الحكومية في الدور العلوي منه مجلس الشورى، وفي الدور الأرضى منه إدارة الأمن العام، والمحكمة المستعجلة، وكتابة العدل، وغيرهما من دوائر الحكومة، وكان هذا المبنى كما وصفه الحضراوي بجوار التكية المصرية مقابل المسجد الحرام، وكان من أجمل المباني منظرا، وأحسنها عمارة، وقد أُزيل وأُدخل مكانه في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام.

أما دار الطبع فقد كانت خلف الحميدية، وكانت بها إدارة ومطابع جريدة أم القرى، وقد أُدخلت كذلك في التوسعة السعودية للمسجد الحرام.

ومما ذكره الحضراوي: يبدو أن المشير عثمان نوري باشا كان رجلًا حازمًا مصلحًا، واسع الذهن، فقد أزال حكم الشريف عبد المطلب الذي كان يشكو من جوره أهل مكة بحركة عسكرية، ولم يكتف بهذا فقام بإنشاء الخدمة البرقية بين مكة وجدة والطائف، كما أدخل الطباعة في مكة المكرمة، وحمع الدوائر الحكومية في مكان واحد، وكل هذه الأمور تدل على سعة أفق الرجل وتطلعه إلى النهوض بالبلاد، وإدخال الجديد النافع إليها.

ص: 130

‌كتاب "الجواهر المعدة في تاريخ جدة

"

‌عثمان بن عفان أول من جعل جدة ساحلا:

نقل الحضراوي عن كتاب "الدرر المنظمة في أخبار مكة المعظمة" ما يلي:

وأول من جعل جدة ساحلا سيدنا عثمان بن عفان - ضى الله عنه - في سنة ست وعشرين من الهجرة وكانت الشعيبة ساحل مكة.

وعلق الأستاذ الشيخ حمد الجاسر على ذلك بقوله: ولعله المحل المعروف الآن بأبحر ثم قال في الهامش: الشعيبة تقع جنوب جدة، وهذا يقع شمالها قريبًا منها، وكان أبحر مرفأً لجدة كما يفهم من رحلة ابن جبير.

أقول: والشعيبة الآن متصلة بمكة بطريق معبد الأسفلت، وقد أُقيمت فيها محطات تحلية ماء البحر حيث ينقل إلى مكة والطائف في قنوات خاصة كما هو معلوم. وتم افتتاحها وضخ الماء منها إلى المشاعر في عام 1408 هـ.

أما أبحر فهي ضاحية جدة وتقع كال مدينة جدة، وقد بنيت فيها الدارات الأنيقة وأُنشئت بها الفنادق والشاليهات التي يستعملها عشاق البحر والسباحة.

أما الميناء بالنسبة لمكة بل لمنطقة الحجاز كلها فهو ميناء جدة الإسلامي بعد أن أُدخل عليه من التحسينات وبنيت فيه الأرصفة الكثيرة، وزود بالمعدات الخاصة بالتفريغ.

ص: 131

‌عثمان بن عفان يغتسل في بحر جدة:

يقول الحضراوي: ثم إن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه استصوبها ونزل بها، واغتسل في بحرها وقال: إنه مبارك - كما في الدرر المنظمة - بعد أن استشار الناس وجعلها خالصة لمكة.

‌بحر الأربعين بجدة:

يقوك الحضراوي: ثم اعلم أن البحر الذي اغتسل فيه سيدنا عثمان بن عفان - ضى الله عنه - هو المعروف الآن فيها ببحر الأربعين، وهو بناحية من ساحلها، ولم يزل أهل جدة إلى الآن يغسلون مرضاهم فيه تبركا كما هو المعهود وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أقول: بحر الأربعين معروف موقعه لدى المسنين من أهل جدة وموقعه في الوقت الحاضر خلف فندق البحر الأحمر وعمارات الفيصلية التي أقامها صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل أمام مبنى البنك الأهلي التجاري الرئيسي .. وما ذكره الحضراوي عن أن أهل جدة يغسلون مرضاهم في هذا البحر تبرّكا لم أدركه، ولم أسمع به ولعله كان قبل ذلك، والله أعلم.

‌سبب تسمية جزيرة العرب:

يقول الحضراوي عن جدة: وهي أول حدود الحجاز، وأول جزيرة العرب، وسميت جزيرة لأنه أحاط بها أربعة أبحر، دجلة والفرات، وبحر الحبشة، وبحر فارس، والحجاز يقابل أرض الحبشة غربيها وبينهما عرض البحر فقط، وأوله من مدينة (إيلة) المعروفة بالعقبة من منازل الحج

ص: 132

المصري ومنتهاه من شامه مدينة سدم

(147)

وهي من قرى قوم لوط، ومن غربيه جبل السراة، ومسيرة نحو شهر، وهو قطعة من جزيرة العرب، التي هي طولا من أقصى عدن إلى ريف العراق.

أقول: أطلق الحضراوي على البحر الأحمر بحر الحبشة، وكان المؤرخون قديما يسمونه بحر القلزم.

ويقول الدكتور جواد علي: إن مؤلفًا يونانيًّا وضع كتابًا قديمًا سماه التطواف حول بحر الأرتيريا وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر

(148)

.

أما العبرانيون فقله أطلقوا على البحر الأحمر اسم هايم (اليم) وقد فسر البيضاوي لفظة اليم في القرآن الكريم بهذا البحر الأحمر

(149)

.

‌حدود جزيرة العرب:

ونقل الحضراري عن القليوبي حدود جزيرة العرب فقال:

وأول جزيرة العرب عرضا من جدة إلى ساحل البحر إلى أطراف الشام، وطولا من أقصى عدن إلى ريف العراق، ومن المدن التي بين الحجاز واليمن وتهامة وهجر، وهو من مدنه الطائفة به، والينبع وبدر.

أقول: ما ذكره القليوبي عن عرض جزيرة العرب من جدة

(147)

سدوم.

(148)

تاريخ العرب قبل الإسلام (ج 1): ص 59.

(149)

نفس المصدر: ص 141، 142. وانظر: تفسير البيضاوي (ج 7): ص 132، 341.

ص: 133

إلى ساحل البحر إلى أطراف الشام يقصد منه امتداد البحر الأحمر من جدة إلى تبوك التي عناها في أطراف الشام، ولقد كانت حدود الحجاز في العهد الهاشمي تمتد إلى مدينة معان - التي هي في الوقت الحاضر من مدن المملكة الأردنية الهاشمية - ولما أُنشئت إمارة شرقي الأردن، وأُسندت إمارتها إلى الشريف عبد الله بن الحسين (جد جلالة الملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية) لم يكن لشرقي الأردن ميناء على البحر فأعطى الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز لإمارة شرقي الأردن ميناء العقبة، ومدينة معان، وحينما استولى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز لم يعترف بضم المدينتين إلى شرقي الأردن في البداية، ثم وافق على هذا الضم فيما بعد.

‌إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب:

وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لئن عشت أو بقيت لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا يبقى فيها إلا مسلم".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا يساكنكم اليهود والنصارى في أمصاركم".

وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب".

وعن علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يترك بأرض العرب دينان دين مع دين الإسلام".

أقول: وقد أخرج عمر - رضى الله عنه - اليهود من الحجاز

ص: 134

وأجلاهم من جزيرة العرب وأسكنهم الشام وكذلك أخرج نصارى نجران، أرسل إليهم يَعْلى بن أمية وقال له: ائتهم، ولا تفتنهم عن دينهم، وأقرر المسلم، وأسمح كل من تجلى منهم ثم خيرهم البلدان، وأعلمهم أننا نجليهم بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرجوا من أقام منهم على دينه، ثم نعطيهم أرضًا كأضهم إقرارًا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاءًا بذمتهم فيما أمر الله من ذلك، بدلا بينهم، وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف

(150)

.

‌حدود بحر القلزم وطوله:

نقل الحضراوي عن الخريدة لابن الوردي قال: خليج القلزم ومبدأه من باب المندب حيث ينتهي البحر الهندي - المحيط الهندي - ليمر في جهة الشمال مغربًا قليلًا، فيتصل بغربي اليمن، ويمر بتهامة واليمن إلى مدين وإيلة وخراسان، وينتهي إلى مدينة القلزم فيمو بشرقي بلاد الصعيد إلى عيذاب إلى جزيرة سواكن إلى زيلع من بلاد البجة إلى بلاد الحبشة، ويتصل بالبحر الهندى وطول هذا البحر ألف وأربعمائة ميل.

أقول: سواحل تهامة واليمن التي وردت في وصف ابن الوردي هي سواحل جيزان والقنفدة والحديدة وعدن، وأما السواحل التي في بلاد الحبشة كما جاءت في هذا الوصف فهى مصوع وكانت ميناءًا لأرتيريا - والله أعلم -.

(150)

انظر: تفصيل إجلاء اليهود والنصارى في كتاب "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين": ص 318 - 320 للمؤلف.

ص: 135

‌البحر الأحمر وحدوده:

يقول الحضراوي: وأما من ساحل جدة إلى ساحل السويس، وهذا البحر يسمى البحر الأحمر.

أقول: تحديد البحر الأحمر من جدة إلى السويس ليس معمولا به في الوقت الحاضر، والوصف الذي أورده الحضراوي لبحر القلزم ينطبق على صفة البحر الأحمر في الوقت الحاضر.

‌أرض القلزم:

أما أرض القلزم المسمى باسمها هذا وهي بين مصر والشام وهو بحر في ذاته، وفيه جبال فوق الماء وفمه قروش - أي سمك كبير - وحيوانات مضرة ظاهرة ومختفية، كانت القلزم مدينتين عظيمتين فتهدمتا من تسلط العرب على أهلها، وشربهما من عين سرير، وهي وسط الرمل، وماؤه زعاق

(151)

.

‌تيه بني إسرائيل:

وبين القلزم وهو منتهى بحر فارس الآخذ من المحيط الشرقي من الصين، وبين البحر الشامي مسافة أربع مراحل تسمى بحصن التيه، وهو تيه بني إسرائيل، وهي أرض واسعة ليس بها وهدة ولا رابية ولا قلعة ووسعها خمسة أيام في خمسة، ومن مدنه المشهورة عقبة إيلة وهي قرية صغيرة على جبل عال صعب المرتقى يكون ارتفاعه والانحدار منه يومًا

(151)

زعاق: مالح لا يصلح للشرب.

ص: 136

كاملًا، وهي طرق لا يمكن أن يجوز فيها إلا واحدًا واحدًا، على جانبها أودية بعيدة المهوى.

أقول: بحر فارس هو الخليج العربي وكان يسمى قديمًا بالخليج الفارسى، أما البحر الشامى فهو البحر الأبيض المتوسط.

‌الحارث بن نفيل أول عامل على جدة:

نقل الحضراوي عن التقي الفاسي: أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه استعمل على جدة الحارث بن نفيل بن الحارث بن عبد المطلب، وكان أسلم عند إسلام أبيه نفيل، كانت تحته درة بنت أبى لهب بن عبد المطلب وهو أول أمير استعمل على جدة. فلهذا لم يشهد حنينا.

أقول: هذا الخبر فيه بعض الاضطراب فوقعة حنين كانت بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة

(152)

في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يولي أبو بكر الحارث بن نفيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة؟

وقد جاء في كتب الحضراوي بعد ذلك ما يلي: أن الحارث استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض صدقات مكة وبعض أعمالها، ثم استعمله أبو بكر - ضى الله عنه - على جدة، وتوفي في آخر خلافة عثمان. وإذا صح ما ورد في هذا الخبر فهو يدل على أن جدة كانت مدينة مأهولة بحيث تستحق أنا يولى لها عامل من قبل الخليفة الراشد أبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه -.

(152)

سيرة ابن هشام (ج 4): ص 65.

ص: 137

‌قبر حواء أم البشر:

وبها - بجدة - من المآثر القديمة قبر السيدة الكريمة حواء أم البشر، وهو بالجانب الشرقي على يمين الداخل إلى جدة من باب مكة كما اعتمده غير واحد من المحققين، ويؤيده ما ذكره صاحب السيرة الحلبية وغيره من أن نزول السيدة حواء كان بجدة فلا خلاف في ذلك بين أهل التواريخ، وأما قبرها فقد اختلف فيه، والصحيح أنه القبر الشهير بجدة، كما أعلم بذلك بعض أهل الكشف، وعلى سرتها قبة جليلة وفي الحديث من زار والديه وفي رواية أبويه في كل جمعة كتب بارًّا.

أقول: أدركت قبر السيدة حواء أم البشر بمدينة جدة في أوائل الأربعينات من القرن الهجري الماضى تتوسطه قبة عظيمة ومن أمام القبة وخلفها ممر طويل، ويدخل الناس والحجاج خاصة لزيارة أمنا حواء في الحجرة التي تعلوها هذه القبة وقد زينت هذه الحجرة بالستائر، وأطلق فيها البخور، ويتولى أحد المشايخ وكان في ذلك العهد من بيت القاضي بجدة إدخال الحجاج، وتلقينهم الدعاء للزيارة، ويتقاضى الشيخ المذكور من الزائرين النقود التي يدفعونها مكافأة له، وحينما استولت الحكومة السعودية على الحجاز ودخل الملك عبد العزيز مدينة جدة سنة 1344 هـ كان من أوائل الأعمال التي قامت بها الدولة السعودية هدم قبة حواء وقفل الزوايا المنسوبة إلى الطرق الصوفية، وإبطال البدع التي كانت سائدة في ذلك الزمان، والتى كان يتقرب بها الناس كما يظنون إلى الله تعالى، ولقد سبق للدولة السعودية الأولى أن أزالت قبة حواء ثم أُعيد بناؤها في العهد العثماني في ولاية الحاج عثمان باشا القرملى الذي أُسندت إليه ولاية الحجاز سنة 1257 هـ وبقي في الولاية إلى سنة 1261 هـ

ص: 138

وتوفى بجده ودفن بها، وقد ذكرنا ذلك في الحديث عن ولايته عند الحديث عن ولاة الحجاز في العهد العثماني.

‌ذرع قبر حواء:

وصف الحضراوي قبر حواء فقال: وقد ذرعه بعض أصحابنا فكان قريبًا من ثلاثمائة ذراع.

أقول: هذا الوصف لمساحة القبر ليس مبالغا فيه فقد كان الداخل إلى مقبرة حواء يمشى في ممر طويل حتى يصل إلى القبة، ويزعمون أن هذه القبة شيدت فوق سرة أُمنا حواء، أي وسط الجسم وهذا الممر الطويل من أمام القبة ومن خلفها يمثل طول جسمها وهي مبالغة واضحة لا يقبلها العقل بحال من الأحوال.

‌العيَّاشي يصف حمير الحجاز:

نقل الحضراوي عن العلامة العياشي صاحب الرحلة الشهيرة إلى الحجاز وصفه لحمير الحجاز. يقول العياشي: ولم أر أسرع مشيًا من حمير الحجاز، ولا أوطأ مركبًا، ولا أقل تعبًا مع السرعة المفرطة في المشي، فلقد كنت أنظر وأنا راكبها إلى أطرافي هل تحرك منها شئ مع الإسراع في المشى، فلا تكاد تبين لي حركة شئ منها، مع أن مركوبي ليس من أجاودها، فلقد أُخبرت أنه كان حمار عند رجل من أهل مكة يصلي المغرب بجدة فيركب عليه ويصلي الصبح بمكة، وهي مسافة القصر تحقيقا.

وقد علق الشيخ حمد الجاسر على ما نقله الحضراوي بما يؤيد ذلك فقال: وهذا هو الغالب في وقتنا هذا على أنه يركبون نحو العشرين راكبًا

ص: 139

بعد صلاة المغرب فيصلون الصبح بجدة، وقد ركبت مرة في الساعة الثالثة من الليل سنة 1382 هـ من مكة ودخلت جدة عند شروق الشمس صبيحة تلك الليلة .. انتهى.

أقول: إن ما ذكره العلامة الصديق الشيخ حمد الجاسر صحيح تمامًا، وقد أدركت الناس في أواخر العهد الهاشمي وأوائل العهد السعودي قبل أن يشيع استعمال السيارات يغادرون جدة قبيل الغروب ويصلون إلى مكة قبل شروق الشمس، وكانت في جدة قريبًا من باب مكة قهوة تسمى "قهوة الحصارة" وكان شيخ الحمّارة حسين ملوخية وكان يقوم بنقل البريد بين جدة ومكة وتوزيع البريد الوارد من مكة في مدينة جدة، وكان الناس في الأعراس يستوردون قلائد التفاح من مكة لتزين صدور العراق، وكان هذا التفاح صغير الحجم من زراعة الطائف، ويحفظ في مكة في الزمزميات وهي الأماكن التي يبرد فيها الزمزم قبل ظهور الثلج، لئلا يلحقه العطب، فإذا كانت ليلة العرس سلمت قلادة التفاح إلى الحمّار الذي يقوم تلك الليلة بنقل البريد إلى جدة ويوصى بالإسراع في السير حتى يصل في الوقت المناسب قبل طلوع الفجر، فإذا وصل كان أول ما يقصد هو بيت العرس فيسلم القلادة التي ينتظرها أهل العرس بفارغ الصبر، وينقدونه الإِكرامية لقاء إسراعه في السير وحضوره بها قبل الفجر.

‌أسعار الحمير:

يقول الحضراري: وهم يتغالون في ثمن ما هذا صفته فيبلغ الحمار مائة دينار ذهبًا، ولقد رأيت حمارا عند فقيه الحنفية الشيخ الزنجبيلي

ص: 140

رافقنا عليه من المدينة إلى مكة تحتقره العين فأُخبِرت أنه اشتراه بقريب من ذلك الثمن.

وقد علق الشيخ حمد الجاسر على ما أورده الخضراوي فقال:

وفي وقتنا تباع هذه الحمير بمكة تجيء من الشرق من ناحية (الحسا) تسمى الشروق (والحساوية) وكلها بيض غالبها من مائة ريال فرانسة

(153)

وثمانين ريالًا إلى ستين إلى خمسين إلى أربعين لكنها غشيمة في المشى فتتخرج في مكة وتدرج وتسير أحسن سير، حتى أن عند خروج أهل الركوب من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجن يخرج أهل هذه الحمير بحميرهم نحو الستين والمائة حمار من مكة إلى المدينة يسبقون الهجن لا يتأخر عنهم أحد.

‌خروج الركب من جدة إلى المدينة:

أقول: لقد أدركت الناس في الحجاز قبل استعمال السيارات يتغالون في اقتناء الحمير والقلة القليلة كانت تقتني الخيل، أما غالبية الناس فيقتنون الحمير، ويدربونها ويحسنون العناية بها، وكان الحمار الجيد يباع بمائة جنيه ذهب، وكانت هذه الحمير تنسب إلى أصحابها لتمييزها فيقال حمار فلان مثلا.

وكان موعد سفر الناس إلى المدينة في شهر ربيع الأول، ورجب من كل عام، وكانوا يخرجون جماعات جماعات، وتسمى الجماعة منهم

(153)

الريال الفرانسة: هو الريال النمسوي الذى فوقه صورة (ماري تريزا).

ص: 141

(ركبًا) وهو تعبير فصيح صحيح، ويصطحبون معهم المنشدين من ذوي الأصوات الجميلة، ينشدون لهم في الطريق المدائح النبوية، والقصائد التي فيها ذكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده، وكانوا يتوقفون في بدر، ويقطعون الطريق بين جدة والمدينة في سبعة أيام، وكان معروفًا أن هذه الحمير تسبق الهجن لأن الجمال تقطع الطريق في مدة أطول، وعلى سبيل المثال فإن الجمل كان يقطع الطريق بين جدة ومكة في ليلتين يصل راكب الجمل في صباح الليلة الأولى إلى بحرة ويقيل بها، ويقطع الليلة الثانية في طريق إلى مكة حيث يصل إليها صباح اليوم الثاني، بينما أن راكب الحمار أو البغل أو الفرس يقطع الطريق في ليلة واحدة، وكان الناس يستعملون الجمال إذا كانوا يحجون بنسائهم وأطفالهم، أما إذا كان المسافر من الرجال فهو يؤثر الحمار لأنه أسرع كثيرًا من الجمل. وقد أصبح هذا كله من آثار الماضي البعيد، فمنذ أن وردت السيارات إلى الحجاز في أوائل العهد السعودي سنة 1344 هـ انصرف الناس عن استعمال الحيوانات في أسفارهم وأخذوا بمبدأ التطور فاستعملوا السيارات ولم تكن الطرق معبّدة ولا مهيأة ومع ذلك فقد كان السفر من جدة إلى مكة يستغرق الساعتين والسفر بين المدينة وجدة أو مكة يستغرق ليلتين إلى أن تم تعبيد الطرق فأصبح السفر بين جدة ومكة في أقل من ساعة واحدة وبين جدة والمدينة في ثلاث ساعات أو أربع حسب السرعة في السير، فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

‌بحرة:

وصف العياشي بحرة بأنها مزرعة كبيرة يجلب منها بطيخ كثير إلى مكة مشهور عندهم بالجودة.

ص: 142

أقول: تقع بحرة في منتصف الطريق بين مكة وجدة، وكان القادمون على الجمال يقيلون بها إلى ما بعد العصر ثم يسافرون منها إلى جدة أو مكة، وبحزة في وهدة من الأرض تجتمع فيها مياه السيول ولعل هذا هو الذي أوجد بها الزراعة في ذلك الزمان.

‌السفن المصنوعة من الشريط:

وفي مرساها سفن كثيرة كبار وصغار، وغالبها معمول بالشريط، صنعة عجيبة ليس فيها مسمار، وهي مع ذلك كبيرة المقدار، متباينة الأقطار، واسعة الأنحاء، تحمل أضعاف ما تحمل غيرها من السفن.

أقول: هذا الوصف للسفن المصنوعة من الشريط ربما كان معروفًا زمان رحلة العياشي - وقد حج في عام 1059 هـ وسنة 1064 هـ وسنة 1072 هـ وجميع هذه الحجات في القرن الحادي عشر الهجري كما جاء ذلك في ترجمة العلامة الشيخ حمد الجاسر - انظر مقتطفات من رحلة العياشي ص 8.

أما السفن التي أدركتها فهي مصنوعة من الأخشاب القوية، وكان الناس يعتمدون عليها قبل ظهور البواخر التي تسير بالآلات، وكان الكثير من تجار جدة يملكون هذه السفن، ومن أشهر ملاك السفن وصناعها في جدة فرج يسر

(154)

الذي كان يصنع السفن والذى قيل إنه احتفل بزواج ولده بإضاءة مائة سفينة بالقناديل في ميناء جدة كما علمنا من أحداث جدة أن أولاد جوهر كانوا يملكون السفن التي اقتسموها بعد وفاة والدهم، ولقد سمعت أن بعض التجار كانوا يشتركون في امتلاك سفينة

(154)

اقرأ ترجمته في هذا الجزء من "أعلام الحجاز".

ص: 143

أو أكثر، وكانت هذه السفن تسافر من جدة فتعبر المحيط الهندي محملة بكل ما تحتاجه البلاد من الأقوات والبضائع، وكانت جدة تمون القطر المصري بالبضائع المستوردة من الهند قبل فتح قناة السويس

(155)

.

‌أسواق جدة:

أسواق البلدة ممتدة مع جانب البحر، وأغلبها أخصاص واسعة مفتحة إلى البحر، وإلى ناحية البلد فيها قهاوي ومجالس حسنة، يبالغ أصحابها في كنسها وتنظيفها، ورشها بالماء، وفيها جلوس غالب أهل البلد، وقد اتخذوا أسرّة كثيرة منسوجة بشريط الدوم، بصنعة محكمة.

‌النوم على شاطئ البحر:

وكان نزولنا بوكالة هناك قريبة من المسجد، فإذا كان الليل خرجنا إلى جانب البحر واكترينا لكل واحد سريرًا يرقد عليه بدرهم إلى الصحاح.

أقول: لقد تحولت جدة إلى مدينة عظيمة من أجمل مدن الدنيا، حافلة بالعمران، وأصبحت أسواقها زينة للناظرين: بما حوته من ثمين البضائع وجمال العرض، مع ما ترتاح إليه النفس من المناظر الجميلة، من نافورات تتدفق بالمياه، ومجالس للاستراحة، وملاعب للأطفال، وأماكن لوقوف السيارات، أما شاطئ جدة الذي ازدان بالكورنيش فهو من أجمل الشواطئ لا في البلاد العربية وإنما في العالم كله.

والكراسي التي كان ينام الناس عليها أمام البحر اختفت لتحل محلها الفنادق الكثيرة من مختلف الدرجات فسبحان مغير الأحوال، نسأله تعالى أن يديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يرزقنا الشكر عليها إنه سميع مجيب.

(155)

انظر: ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز: ص 171، 175.

ص: 144

‌مسجد الشافعي:

ومسجدها الكبير من أحفل المساجد، وهو المعروف بالشافعي فيه أعمدة من الساج، مخروطة على هيئة أعمدة الرخام المخروط، طيب عودها، يحسبها من لم يتأملها رخاما أحمر يقول المؤلف:

أخبرنا شيخنا أبو مهدي أنه يقال: إن أعمدة ذلك المسجد جلبت في صدر الإسلام من كنيسة في أرض الحبشة عندما افتتحها المسلمون.

أقول: أعمدة الساج في مسجد الشافعي لا تزال باقية في هذا. المسجد أو بعضًا منها على الأقل، وقد ولدت ونشأت في بيت مجاور لهذا المسجد، كنت أحسب أن هذه الأعمدة من الرخام كما جاء في هذا الوصف، أو على الأقل أنها مبنية من الحجر ثم عدلت بصنعة جيدة حتى صارت تشبه الرخام، ولم يدر بخلدي أنها من الساج، لأنها شبيهة بالرخام، أما ما ورد عن أن هذه الأعمدة أنها جلبت في صدر الإِسلام من كنيسة في أرض الحبشة عندما افتتحها المسلمون فليس هناك ما يؤيد هذا الرأي، وقد ذكر الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أن مسجد الشافعي عمّر في سنة 649 هـ وهو تاريخ بعيد عن صدر الإِسلام كما هو معروف.

‌الأمن في عهد الأميرين محسن وزيد:

وقد شاهدنا في هذه الخطرة - يعني السفر من جدة إلى مكة - من العافية التي بسطها الله في الطرق والقرى والأمان التام ما قضينا منه العجب، فمن ذلك أنا لقينا عيرًا في ليل مظلم، تحمل أحمالا من البز

ص: 145

الهندي

(156)

والقماش الرفيع نحو من عشرين حملا، وطلبنا من أصحابها من نسأله عن خبر البلد فلم نجد أحدًا وذهبنا نحوًا من ميل، فوجدنا أصحابها في قهوة مستريحين، وأخبرونا أنها أي الجمال بأحمالها في أمان حتى لو ذهبت إلى مكة لم يعترضها أحد، وأخبرونا بعجائب من مثل ذلك وقعت في أيام الأمير زيد، ووالده محسن، فمن ذلك أنهم زعموا أن رجلا جاء إلى السلطان محسن فقال له: إني وجدت بالفلاة الفلانية حملًا من البز، فقال له: من أخبرك أنه من البز فقال مسسته برِجلي، فأمر بقطع رجله، وقال له: لِمَ مسسته برِجلك؟ إلى غير ذلك من أمثال هذه الحكايات ولا نعلم صحيحها من سقيمها.

أقول: كانت الحالة الشائعة في ذلك الزمان هي فقدان الأمن في الطريق بين مكة وجدة ومكة والمدينة، فإذا حدث أن اطمأنت الأحوال، في عهد من العهود فأمن الناس في أسفارهم، ولم يتعرض لهم متعرض من الأعراب أو اللصوص، كان ذلك ظاهرة عجيبة تستحق التسجيل.

‌الحراشي يزيد المكوس ويبنى فرضة جدة:

وفي سنة 806 هـ تولى أمر جدة جابر بن عبد الله المعروف بالحراشي، أصله من التجار فولاه الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة أمر جدة، فقام بمصالحه أحسن قيام، وكان يحسن السياسية في استيفاء المكوس ولكنه زاد فيها كثيرًا عما كانت عليه قبل ولايته .. وبنى

(156)

البز: هو القماش من الحرير.

ص: 146

الفرضة التي بجدة ليحاكي بها فرضة عدن، وكانت فرضة جدة على غير هذه الصفة.

‌نهاية الحراشي:

ثم تغير عليه صاحب مكة لخبث لسانه، فقبض عليه في أوائل رمضان سنة 809 هـ ثم رده إلى عمالته بجدة ثم تغير عليه صاحب مكة لما نسب إليه للسيد رميثة بن محمد بن عجلان على دوام عصيانه لعمه، فإن رميثة هجم على مكة في رابع عشر جادى الآخرة سنة 816 هـ، وهجم المذكور على جدة في رمضان من السنة المذكورة ونهب جدة فسعى جابر أمير جدة بينهما بالصلح، ووقع مع ذلك من جابر المذكور مخالفة لمخدومه أمير مكة في بعض أوامره، فقبض عليه بمِنًى، في النفر الأول، ثم قرر على أمواله وأشعر بقتله، فصلى ركعتين وخرج من أجياد مع الموكلين بقتله إلى باب المعلا، فشنق به، ولم يظهر منه جزع في حال شنقه، ولا في ذهابه إلى الشنق، ولا تكلم بكلمة واحدة، ودفن بالعلاة وكانت أدعية الحجاج عليه كثيرة في موسم هذه السنة بسبب زيادته عليهم في أمر المكس فأصيب مع المقدور بدعائهم فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب كما في الحديث الشريف.

‌الأحداث في جدة

‌الأحباش يهاجمون جدة:

نقل الحضراوي عن العلامة الفاسي وعن - الدرر المنظمة - ما يلي:

في سنة ثلاث وثمانين ومائة من الهجرة جاءت الحبشة إلى جدة جنودًا، وجرودًا في عدد وعدة فوقعوا بأهل جدة، فخرج الناس من مكة

ص: 147

إلى جدة غزاة في البحر، وأميرهم عبد الله بن إبراهيم المخزومى عامل الرشيد العباسى فقاتلوهم وصرفهم الله، وذلك لما روي عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حجة لمن لم يحج، وغزوة لمن قد حج، خير من عشر حجج، وغزوة في البحر خير من عشر في البر، ومن جاز البحر فكأنما جاز الأودية كلها، والمائد فيه كالمتشحط في دمه" أخرجه أبو ذر في منسكه

(157)

.

‌إسماعيل بن يوسف يهاجم جدة:

وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين نهبت جدة وأهلها، وقتل بها قتلًا ذريعًا، والفاعل ذلك كله إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن الحسن بن المثنى السبط، بعد أن فعل أفعالا قبيحة بمكة، فهرب عامل مكة وجدة، وهو جعفر بن الفضل بن عيسى العباسى، فنهب الكعبة وأخذ الذهب الذى فيها كسوة الكعبة، وأخذ من الناس مائتى ألف دينار، ثم رحل بعد مقامه في مكة سبعة وخمسين يومًا إلى جدة فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار، وأصحاب المراكب بعد أن وافت المراكب من القلزم، ثم رجع إلى مكة وطلع إلى عرفة يوم الموقف، وقتل من الحجاج وغيرهم نحو ألف ومائة، وهرب الناس ولم يقفوا بالموقف لا ليلا ولا نهارًا، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها ..

(157)

المائد: هو الذي يدور رأسه من ريح واضطراب السفينة بالأمواج، وتشحط المقتول بدمه، أي: اضطرب فيه.

ص: 148

يقول الحضراوي: وذكر العلامة ابن خلدون أنه كان يتردد إلى الحجاز في سنة 222 هـ، وأنه خرج في أعراب الحجاز، ويسمى بالسفاك، حتى هلكه الله بالجدري في آخر سنة 252 هـ لأنه ضيق على أهل مكة وأهل جدة تضييقًا زائدًا، ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

‌رميثة بن عجلان ينهب جدة:

وفي سنة 816 هـ هجم رميثة بن عجلان على مكة في رابع عشر حمادى الآخرة، وهجم على جدة في رمضان من السنة المذكورة ونهب جدة، كما سبقت الإِشارة إلى ذلك.

‌قبيلة زبيدة تختطف أحد أعيان تجار جدة:

أورد الحضراوي في سبب بناء سور جدة ما يلي:

وأما سبب بناء سورها الموجود الآن فلأنها كانت غير مسورة، وكانت العربان في أيام الفتنة تهجم على جدة وتنهبها مرارًا. قال العلامة القطبي في تاريخه:

كانت العربان كثيرا ما تنهب جدة، حتى أن عربان زبيد - بضم الزاي - قبيلة مشهورة قرب جدة أسرت في أيام الفتن الخواجا محمد بن يوسف القاري، وكان من أعيان التجار من أهل الاعتبار، فهجموا على بيته بجدة ونزلوه من السطح، وأركبوه معهم على ظهر فرس وارتدفه واحد من زبيد، وأخذوه إلى أماكنهم، وهو قريب عقبة السويق من درب المدينة المنورة، ومكث عندهم إلى أن اشترى نفسه بثلاثين ألف درهم، فردوه إلى مكة بعد أن استوفوا هذا القدر منه.

ص: 149

أقول: وهكذا نرى أن الاختطاف والمطالبة بالفدية قد سبقت إليه الأعراب منذ مئات السنين، فلا جديد تحت الشمس، أما سبب بناء سور جدة فكان لتحصينها ضد غزو البرتغاليين لها. وأود أن أشير إلى أن كلمة الخواجا التي وردت عن الخواجا محمد بن يوسف القاري كانت كلمة الخواجا تطلق على الأعيان من الناس، وقد تحورت بعد ذلك فأدركنا الناس يقدمون بها أسماء الإِفرنج من غير المسلمين، وقد كان في مدينة جدة بقال يوناني اسمه أكيلي أو - أخيل - كان الناس ينادونه الخواجا أكيلي، والكلمة ليست عربية وربما كانت تركية أو فارسية. والله أعلم.

‌تكرار النهب في جدة:

ونهبت جدة مرارًا في الفتن التي وقعت في أرض الحجاز بعد وفاة الشريف محمد بن بركات، وجرت أحوال يطول شرحها ومذكور بعضها في تاريخنا - نزهة الفكر فيما مضى من الحوادث والعبر - في الجزأين الثاني والثالث منه

(158)

.

‌حسين الكردي يبني سور جدة ويشتط بالعسف بأهلها:

وفي سنة 919 هـ وقيل سنة 917 هـ

(159)

أرسل السلطان

(158)

التاريخ الذي وجدت بعض مخطوطاته هو تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير .. ولم يذكر الأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان اسم هذا الكتاب - نزهة الفكر - ضمن ما ذكره من المخطوطات التي وجدت بمكتبة مكة المكرمة للحضراوي.

(159)

الصحيح أن بناء سور جدة كان في سنة 915 هـ، انظر: موسوعة مدينة جدة: ص 88 - 92 للأنصاري.

ص: 150

الغوري الأمير حسين الكردي، وجهز معه عسكرا من الترك والمغاربة، لدفع ضرر الفرنج في بحر الهند، وكان مبدأ ظهورهم، وأمره بدفع الفتن الواقعة إذ ذاك بجدة وجعلها له إقطاعا، فلما وصل الأمير المذكور إلى جدة بناه في هذه السنة وهو الموجود الآن، وكان ظلومًا غشومًا يسفك الدماء، ولا يرحم من في الأرض ليرحمه من في السماء، وكان ينصب أعوادًا للصلب والشنق والشنكلة، وأقام جلادين للقتل، والتشويط والضرب والبهدلة، فأى مسكين وقع في يده قتله بأدنى سبب، وكان أكولا يستوفي الخروف وحده، مع أرغفة عديدة، ونفائس له معدة، وكان أصله كرديًّا دخيلًا في وظائف الجراكسة، فأراد الغوري إبعاده وكان معتنيا به فأعطاه جدة، فلما أتى جدة سوَّرها وبنى أبراجها وأحكمها، وهدم كثيرًا من بيوت الناس مما يقارب موضع السور لوضع الأساس، واستخدم عامة الناس في حمل الحجر والطين، حتى التجار المعتبرين، وسائر المتسببين وضيّق على البنائين، بحيث يُحكى أن أحدهم تأخر قليلا عن المجئ، فلما جاء أمر أن يُبنى عليه حيا فبني عليه، واستمر قبره إلى يوم الجزاء، إلى غير ذلك من الظلم الشديد، والجور العنيد، وبنى السور جميعه في دون عام من شدته وغشمه وإقدامه وظلمه.

‌طول سور جدة وأسماء الأبواب:

يقول الحضراوي: وكان طول أساس السور المذكور في الأرض اثنى عشر ذراعًا، وطول المحيط بالبلد من جهة القبلة واليمن والشام ثلاثة آلاف ذراع غير الأبراج، وهي ستة أبراج، دور كل برج منها ستة عشر ذراعًا بجدران وعرض جدار السور أربعة أذرع، وأما الأبراج فطول الشامي واليماني على وجه الأرض خمسة عشر ذراعًا، والبرجان القبليان الملاصقان

ص: 151

لباب البلد المسمى أحدهما: باب الفتوح وهو الأيمن، والآخر: باب النصر وهو الأيسر، وطولهما على وجه الأرض أيضا كذلك.

وأما البحريان فقد نزل بهم الغواصون في البحر اثنى عشر ذراعا، وحميع ما ذكر من الأذرعة فبذراع العمل وهو ذراع ونصف بذراع النجارى.

أقول: أثبتنا ما ذكره الحضراوي عن طول السور المحيط بجدة ليتبين حجم مدينة جدة التي أحاطها السور، وقد ذكر الحضراوي أنه ثلاثة آلاف ذراع بذراع العمل ومقاس الذراع هذا ذراعًا ونصف بذراع النجاري أو البخاري، ولا نعرف شيئًا عن ذراع النجاري، وأيا كان هذا الذراع فإن محيط المدينة كله لا يتجاوز الكيلو مترين إلى ثلاثة كيلو مترات.

وقد أدركت جدة وهي محاطة بالسور، وكنا نقطع المدينة من الشام إلى اليمن مشاة، وكان الناس يتنقلون في أنحائها دون مشقة أو تعب سيرًا على الأقدام، وقد أُزيل هذا السور في سنة 1364 هـ بعد وصول الماء إلى جدة

(160)

.

أما باب الفتوح وباب النصر اللذين ذكرهما المؤلف فقد أدركنا هذا الباب القبلي واسمه باب مكة وكانت عليه علامة الدولة الهاشمية وهي العمامة الحجازية والعلم الهاشمي، ويبدو أن الكردي أطلق على هذا الباب وهو فعلا باب كبير بجانبه بابان صغيران، أطلق عليهما اسم - الأبواب الشهيرة بمصر - باب الفتوح، وباب النصر ولا يزال اسم باب مكة يطلق على المنطقة التي كان فيها الباب بعد إزالته وإلى أيامنا هذه ..

(160)

انظر تفصيل كل ما يتعلق بسور جدة في ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز: ص 59 - 62 للمؤلف.

ص: 152

أما الباب الشمالي فكان يطلق عليه اسم باب جديد، والباب البحري باب البنط، والباب اليماني باب شريف، ويبدو أن هذه الأسماء أُطلقت على الأبواب في العهد العثماني لأنها تحمل الصبغة التركية. والله أعلم.

‌السلطان يأمر بإغراق الكردي في البحر:

ثم لا زال الأمير حسين الكردي يقتل ويشنق في جدة بغير حق، حتى توجه إلى الهند، ثم سفك الدماء بأرض اليمن، وافتتح في طريقه مملكة بنى طاهر ظلما وعدوانا، بعد حروب يطول شرحها، وأقام بها نوابًا له، وكانوا ملوكا من أهل السنة والجماعة، ثم رجع إلى مكة المشرقة، وكانت إذ ذاك دولة الجراكسة قد انقرضت بمصر.

وتوجه الشريف أبو نمي بن بركات وعمره اثنا عشر سنة إلى مصر ورجع مزوَّدًا بما طلب من السلطان سليم وأمره بقتل حسين الكردي، فنصره الله عليه، وأخذ الأمير حسين الكردي مقيدا من مكة إلى جدة، وربط في رجله حجرا كبيرا، وغرق في بحر جدة في موضمع يقال له (أم السمك) فأكلته الأسماك بعد أن كان من الأملاك، وتفرق في البلاد جنوده وأعوانه بددا {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وذكر الحضراوي أنه نقل ذلك عن كتاب "الأعلام بتاريخ البلد الحرام" لقطب الدين النهرواني المكى. ويقول الشيخ حمد بن الجاسر: إنه مطبوع.

أقول: بالنسبة لبناء سور جدة فقد كان السبب في بنائه هو أن السلطان قانصوه الغوري سلطان مصر - وكان الحجاز في هذه الفترة قد دخل تحت سلطان الدولة المملوكية في مصر - نمي إلى السلطان قانصوة

ص: 153

أن البرتغاليين ينوون مهاجمة جدة بعد أن استولوا على بعض المدن في الهند فأسرع السلطان بتحصين المدينة وأرسل لذلك حسين الكردي فأمده بالجنود والسلاح فبنى السور في مدة عام واحد وسخَّر في بنائه أهالي البلدة دون تفريق حتى لا تفاجأ المدينة بغزو البرتغاليين لها وهي غير محصنة، وقد استعمل حسين الكردي هذه الشدة في إنجاز المهمة الموكولة إليه فتم بناء السور في سنة 915 هـ، ولكن البرتغاليين لم يغزو مدينة جدة إلا في سنة 948 هـ الموافقة لسنة 1059 م، وكان أمير مكة الشريف أبو نمي قد ترك الحج وسارع إلى جدة ومعه الجنود والمتطوعون، فلما وصل البرتغاليون واجهوا مقاومة شديدة، وأصلوا بنار حامية، وفروا هاربين

(161)

.

أما ما ذكره القطب المكي عن إقطاع مدينة جدة للكردي من قبل السلطان الغوري فإني أشك في الأمر حيث أن خشية السلطان الغوري على مدينة جدة من تعرضها للغزو، وهي - باب مكة المكرمة - ودهليز الحرمين يتعارض مع إقطاعه المدينة للكردي ليتخلص منه، ولكني أتوقع أن السلطان في حرصه الشديد على إتمام التحصين للمدينة فوض الكردي ومنحه صلاحيات واسعة في حكم مدينة جدة، حتى ينجز المهمة الموكولة إليه، فأساء المذكور استعمال هذه الصلاحيات بما لجأ إليه من ألوان البطش والتنكيل التي أنزلها بالناس، أما إقطاع المدينة فهو مستبعد فيما أظن.

(161)

انظر تفصيل مهاجمة البرتغاليين لمدينة جدة في "أعلام الحجاز"(ج 2): ص 216، 215 للمؤلف.

ص: 154

‌الدولة السعودية الأولى في الحجاز:

ذكر الحضراوى: أن الشريف غالب بن مساعد أمير مكة المكرمة سافر إلى جدة في السادس من شهر محرم سنة 1218 هـ، بعد أن استولت الدولة السعودية الأولى على الطائف ومكة، كما ذكر محاولة استيلاء الأمير سعود على مدينة جدة فقال ما خلاصته أنه أرسل إلى جدة علي بن عبد الرحمن شقيق المضايفي عثمان، بكتاب لأهل جدة يطلب منهم الدخول في طاعته، فلم يقبل أهل جدة ذلك، وأن السعوديين هاجموا مدينة جدة في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 1218 هـ، وبقوا محاصرين المدينة أربعة عشر يوما، فلم يتمكنوا منها فعاودا الكرة في محرم سنة 1219 هـ.

‌الشريف غالب يصالح السعوديين:

وقد انتهت هذه المحاولات باستسلام الشريف غالب أمير مكة للدولة السعودية وعقد الصلح بينه وبين الأمير سعود.

‌بناء الخندق بجدة:

أمر الشريف غالب بعمارة الخندق بجدة.

يقول الحضراوي: ورأى أن عمله بالمساحي صعبًا، "كذا" على الفعلة يحتاج إلى مدة مطولة، فاختار بنيانه بالبقر أسهل وأيسر، واشترى ثمانين ثورا وجمع المعلمين أهل الهندسة والصناعة، وجعل أربعين يشتغلون من جهة الشام، وأربعين من جهة اليمن، فشرعوا في تعميره من أول شهر صفر، وما زالوا عليه مجتهدين شمالًا ويمينًا إلى شهر جمادى الثاني، ثم لم يبق. للشغل بالبقر محل لغشيان الماء باطن الخندق، ووجدوا حجرًا جهة الشام

ص: 155

قدر مائة ذراع يقال له المنقبة لصلابة أحجارها متصعبة، فأمر الحجارين أن يفقشوها بمعاول الحديد، ويحرقوها بالنار، وما زالوا مجتهدين الاجتهاد التام إلى آخر العام، فجاء كما تراه خندقًا يروق الخاطر ويشوق الناظر.

أقول: لابد أن هذا الخندق بني في الركن الغربي الجنوبي لمدينة جدة مما يلي البحر لتحصين المدينة أن تهاجم من هذه الجهة لأن الأبراج التي كانت مشيدة في شرق المدينة (باب مكة) وكالها (باب جديد) كانت قوية بما وضع فيها من المدافع والسلاح، أما الناحية الجنوبية والغربية فلم تكن بها أبراج وإنما هي أبواب كما أدركناها (باب شريف) وباب البنط

(162)

.

يقول الحضراوي عن هذا الخندق: إنه انسد وانهار عليه التراب، ولم يبق له إلا آثار.

‌برج باب البغاز:

وفي يوم الأحد ثاني جمادى الثاني سنة 1221 هـ أمر ببناء برج على نفس باب - البغاز - المسمى بالعلم يمنع الداخل إلى المرسى إن قصده عنوة، فبنوا الأساس حتى اعتلى عن وجوه الماء ثم تركوه إلى ما

أقول: الذي يظهر من الجملة الناقصة فيما كتبه الحضراوى أن هذا البرج أقيم أساسه ولم يبن، ولابد أن هذا البرج كان سيبنى على باب - البوغاز - المسمى بالعلم في البحر لأن الميناء كان مليئا بالشعاب

(162)

انظر: كتاب "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ": ص 59 - 62 - للمؤلف.

ص: 156

المرجانية، ولا يستطيع ربانية السفن من الدخول إليه إلا بواسطة مرشدين من أهل البلاد من أهل الخبرة تخصصوا في ذلك، وهم يعرفون الطرق البحرية في الميناء معرفة جيدة ويعلمون أولادهم ويمرنونهم على اجتيازها حتى يتوارثوا هذه الصنعة أبا عن جد وولدا عن أب، ومع ذلك فقد كان مرسى البواخر يبعد عن مدينة جدة نحو نصف: ساعة بالزورق البخاري وأكثر من ذلك بالمركب الشراعي

(163)

، وكانت هناك علامات في البحر بالأحجار لهداية الزوارق والمراكب حتى لا تصطدم بالشعاب والصخور.

ويبدو أن النية اتجهت إلى بناء بوابة كبيرة في مدخل المرسى الذي تدخل منه السفن لمنع السفن المعادية من الدخول، ولكن هذا المشروع لم يتم لأن إتمامه فيما أتصور كان يقتضى توافر القدرة المالية والهندسية لإِقامة مثل هذه البوابة، وهو أمر لم يكن بالإِمكان إيجاده بالإِمكانات المحلية في ذلك الزمان.

‌أعمال الدولة السعودية في جدة:

ذكر الحضراوي ما قامت به الدولة السعودية الأولى في جدة ونوجزه فيما يلى:

في ثمانية عشر صفر، كان وصول حمد بن ناصر ومعه أهل الدرعية، فلما وصلوا إلى مكة بكتاب الأمير سعود، وكان الشريف بجدة فنزلوا إليها لملاقاته فانعقد الصلح بينهما .. ونزل حمد بن ناصر

(163)

انظر كل ما يتعلق بميناء جدة في كتاب "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز" للمؤلف -: ص 173 - 176 (الطبعة الأولى).

ص: 157

إلى مسجد عكاشة وقرأ الرسالة التي ورد بها، والتي اجتمع لسماعها تجار البلد وسكانها وساداتها وأعيانها.

وفي يوم خمسة وعشرين من صفر، هدمت القباب التي كانت مقامة على القبور، كما أمر أهل جدة بالإمساك عن شرب التنباك، وأمر الشريف بإبطال نوبته، ونوبة والي جدة.

أقول: النوبة هي الفرقة الموسيقية التي كانت تعزف أمام قصر الشريف أو الوالي كل ليلة في موعد معين بعد صلاة العشاء، ولابد أن الذى أمر بإبطالها مندوب الدولة السعودية، بحيث أنه أوعز للشريف. بذلك فأبطلها وكان أهل الحجاز يقولون - دقت النوبة - أي عزفت الفرقة الموسيقية للشريف أو الوالي.

‌أول قنصل إنجليزي بجدة:

وفي سنة 1252 هـ كان وصول أول قنصل إنجليزى بجدة وتوطنه بها، ونصب له بنديرة وهي أول بنديرة نصبت بجدة، ولم يعهد توطنهم بها قبل ذلك.

أقول: البنديرة: هي العلم، وترفع الدول أعلامها فوق مباني سفاراتها وقنصلياتها كما هو معلوم.

‌مقتل القنصل الإنجليزي والفرنسي والنصارى بجدة:

وفي سنة 1274 هـ وقعت الفتنة التي قتل فيها الأهالي القنصلين

الإنجليزي والفرنسى والإِفرنج الموجودين بجدة، بسبب إهانة القنصل الإِنجليزي لعلم الدولة العثمانية وإنزاله من على سارية مركب أولاد جوهر،

ص: 158

ومزقه ودعسه بحذائه، وقد تحدثنا عن هذه الفتنة في بحثنا عن ولاة العثمانيين في الحجاز فنكتفي بالإشارة إليها رغبة عن عدم التكرار.

‌أول محمل مصري يصل بطريق البحر:

وفي سنة خمس وسبعين ومائتين وألف - هجرية - كان أول سنة مجيء محمل أهل مصر من طريق البحر على جدة ثم يطلع من البحر بموكبه من جدة إلى مكة.

يقول الحضراوي: وهذا لم يعهد سابقا أبدا مطلقا، وذلك بأمر والي مصر محمد سعيد باشا، حتى أهلكه الله بعد ثلاث سنوات، سنة تسع وسبعين، رجع المحمل من البر على عادته من مصر إلى مكة.

أقول: المحمل: هو عبارة عن هودج يوضع على بعير ويكسى بكسوة حريرية زاهية يصطحبه الحجاج حين خروجهم من بلادهم وتصحبه قوة عسكرية يقودها قائد عسكري برتبة كبيرة، ويخرج معه الحجاج ليكونوا في حماية هذه القوة العسكرية وكانت طرق الحج كما هو معلوم غير آمنة، وكان الأعراب يعتدون على الحجاج وينهبونهم، ويأخذون منهم الإِتاوات، وكان الحجاج المصريون يخرجون مع المحمل المصري، والحجاج الشاميون يخرجون مع المحمل الشامي، وهذه المحامل تسلك طريق البر، وكان المصريون يحملون معهم كسوة الكعبة المشرفة التي كانت تصنع في مصر من ريع الأوقاف التي رصدت لذلك من السلاطين الأيوبيين والعثمانيين.

وقد اختلف المصريون مع الملك الشريف الحسين بن علي فمنعوا تسليم الكسوة في سنة 1341 هـ، فصنع الشريف الحسين كسوة. للكعبة صنعت في العراق سنة 1342 هـ، ثم حدثت حادثة المحمل

ص: 159

المصري في عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود ووقعت معركة حربية بين الجنود المصريين وجموع الإِخوان من أهل نجد الأمر الذى أدى إلى إيقاف إرسال المحمل، وإيقاف المصريين لإِرسال كسوة الكعبة وما كان يرسل معها من النقود، فقامت الحكومة السعودية بصنع الكسوة للكعبة في مكة المكرمة، وأسست لها دارا لصناعتها

(164)

.

‌أحمد المشاط وكيل الكبانية في جدة:

يقول الحضراوي: وفي تلك المدة كثرت مراكب - بوابير - البحر في بحر القلزم من جدة إلى السويس حتى بلغت إلى ثلاثة عشر بابورا وهي للحجاج من أعظم المنن، لأن الغالب لمن ركب فيها السلامة، فجعل والي مصر كيل (الكبانية) ببندر جدة المحمية، رئيس التجار، معدن الفخار، الذى رفعه الله بأعلى بساط، الأمير عليها - الشيخ أحمد المشاط - حفظه الله، فكان يسوس أوامرها، وخصوصًا يرأف ببضائع التجار مع شدة أمره على المتوكلين، وبالحجاج المسافرين.

‌سوء معاملة حجاج البحر:

يقول الحضراوى: بخلاف غيره من الأمراء فإنهم لما أمروا أكلوا البراطيل والرشا

(165)

، وزادوا على حجاج بيت الله بحيث لهم جواسيس على الحجاج (إن كان تبغا تنزل قبل غيرك وتسلم، هات النقود دينارا زائدا على الكرا فتجارتهم خاسرة، وبيعتهم بائرة).

(164)

انظر كل ما يتعلق بكسوة الكعبة في "أعلام الحجاز"(ج 2): ص 87 - 96 للمؤلف.

(165)

الرشا: جمع رشوة، والبراطيل هي الرشا جمع برطلة.

ص: 160

ولقد مدحت الشعراء هذا الأمير - أحمد المشاط - بقصائد أرسلت إليه من مكة وجدة، ليس يحويها هذا السفر، فأجاز الوفاء، وأنجز السداد ألهمنا الله وإياه الرشاد.

أقول: البوابير التي ذكرها الحضراوي هي المراكب التي تسير بالبخار، وكان أغلب استعمال الحجاج للمراكب الشراعية التي تسير بالريح، ويذكر الحضراوي كثرة توارد البواخر التي تنقل الحجاج في سنة 1275 هـ حتى بلغت ثلاثة عشر مركبا، وقد عين والي مصر رئيس تجار جدة وكيلا للبواخر المصرية، فأحسن إدارة العمل، بخلاف غيره من وكلاء البواخر الأخرى الذين كانوا يتقاضون الإِتاوات من الحجاج لتيسير نزولهم قبل غيرهم من البواخر.

‌تجديد عمارة مسجد عكاش ومسجد عمر:

وفي سنة 1280 هـ جددت عمارة المسجد الذي على البحر المعروف بمسجد عكاش لأنه من المساجد القديمة وأتقن وأحكم وكذا الميضاة التي هي بجانبه. وكذلك جددت ما اندرس من المسجد الذي بالقلعة الذي يعرف بمسجد عمر.

أقول: مسجد عكاش من المساجد الشهيرة والقديمة في جدة وموقعه الحالي في السوق الكبير، وله باب على شارع قابل، ويعتبر في الوقت الحاضر في قلب مدينة جدة، وكان في الوقت الذي كتب الحضراوي تاريخه على البحر، وقد أُنشئ شارع الملك عبد العزيز غربي وشمالي السوق الكبير، وشارع قابل فأصبح مسجد عكاش بعيدًا عن البحر وسبحان مغير الأحوال، وممدن المدن وبانيها.

ص: 161

‌العساكر المصرية في جدة:

وفي سنة 1281 هـ في شهر صفر ورد إلى جدة عساكر مصرية عزيزية، وأقاموا في محل القشلة الخارجة فقل الماء على أهل جدة وضاق بهم ذرعا كما قيل:

من غص داري بشرب الماء غصة

فكيف يعمل من قد غص بالماء

واحتاج أهل جدة والقاطنين بها ذلك فأبعدوهم عنها في محل بينهم وبين جدة ساعة ونصف عند آبار عذبة.

أقول: العسكر المصرية العزيزية نسبة إلى عزيز مصر وهو حاكمها وسلطانها، أما مشكلة الماء في جدة فهي قديمة، وقد انتهت بإيصال الماء إلى جدة من وادي فاطمة في عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله

(166)

.

‌قائمقام جدة نوري أفندي:

وفي سنة 1283 هـ كان قائمقام جدة - نوري أفندي - رجل أصله من الأرانطة، كان كاتبًا على - العرضي - وقيل على القراية الأرانطة، ثم صار على شونة مكة كاتبا، وكان في ضيق من العيش فساعدته الأقدار فتولى قائمقام الوالي بجدة، ثم جمعت له نظارة شونتها مع القائمقام، فمكث بها مدة سنوات، فظهرت صولته وهابه الناس.

(166)

انظر تفصيل ذلك في "أعلام الحجاز"(ج 2): ص 230، 231 للمؤلف.

ص: 162

‌إصلاح القائمقام بجدة:

ثم إنه انقطع لتمدن البلد فقطعها من الأرض طول ذراع من سائر البلاد، وشغل فيها أهلها، والذي لم يشتغل يؤجر بدلًا عنه، وسدَّ شيئًا من ساحل البحر من ناحية - الكمرك - حتى إنه دخل في البحر نحو خمسة عشر ذراعا من كل ناحية من الطول، وأما العرض فجعله نظير (مينة اسكندرية) - ميناء الإسكندرية - وأتقن بناءها وكانت أولا الشباييك تلصق في الزلة، والبضائع تصير متراكمة، وربما يتلف بعضها، وفي وقت الحج يضيق على الحجاج العبور، ثم من الجهة الشامية هدم السور وأدخله إلى جهة البحر، وشد من تلك الناحية، وساوى بين الأرض، ثم إنه سقف جميع أسواقها، حتى صار الإنسان لا يمشي إلا في ظل، وأمر بهدم العشش من الدكاكين والقهاوى وجعله كله صندقة، فصارت من قبيل (غورية مصر والسكرية) وجعلها ميزانًا واحدًا، وكان قبل ذلك، دكان خارج، والآخر داخل، فوسع في الصنادق كل ذلك بالقوة القهرية، وبالمداراة السياسية، وأمرهم بنقش الأخشاب، وكف أهلها عن المقاتلة مع بعضهم، وطار صيته، ودخلت هيبته قلوب الرعية، حتى صاروا يخوّفون به الأطفال، وأمر بقطع كداوي

(167)

من القمائم على بعضها كأمثال الجبال، فسد بها البحر من ناحية الفرضة سور النورية، ثم من ناحية المعمار عمل سوقا وبنى فيه

(167)

الكداوي: جمع كدوة وهو المكان الذى ترمي فيه القمائم، وقد أدركنا بجدة مكانًا بقرب مدرسة الفلاح كان اسمه الكدوة، وهو جبل صغير، ويبدو أنه كان يتخذ مرمى للقمائم.

ص: 163

دكاكين صغيرة وسقفه بالأخشاب ورونقه ويعرف بالنورية وجعله للخضرية والجزارة وجعل فيه قهوة لطيفة.

يقول الحضراوي: وكان طلب مني تاريخًا لهذا السوق فقلت:

عرج على أرجاء جدة يا فتى

وانظر إلى السوق الجديد المثبتا

طالع سعود اليمن فوق بساطه

يا حسنه لمَّا رنا متلفتا

وقد أثبت الحضراوي في قصيدته اسم الخليفة العثماني، واسم أمير مكة ووالي الحجاز وشيخ الحرم فقال:

في مدة السلطان عز نصره

(عبد العزيز) البر كن لي منصتا

وأمير مكة والحجاز بأسره

مولانا عبد الله سيدنا الفتى

ووجيه باشا واليًا شيخ الحرم

من نال بالتحقيق قولا مثبتا

أقول: وهذا الشعر أو على الأصح هذا النظم لا يهمنا منه إلا اسم الخليفة السلطان عبد العزيز الذي أُنشئ سوق النورية في زمن خلافته، وكان أمير مكة في ذلك الوقت الشريف عبد الله باشا، ووالي الحجاز وشيخ الحرم وجيه باشا، وقد احتفظت النورية باسمها وكانت تطل على شارع قابل قريبًا من مسجد المعمار، وهي خاصة بالخضرية والجزارة وقد تم إنشاء هذا السوق سنة 1284 هـ كما يفهم من قصيدة أخري للحضراوي في الموضوع.

‌سوق خارج باب مكة:

ثم جعل سوقًا خارج باب مكة من الصندقة الأخشاب بقهاوي، وغير القشاع.

ص: 164

يقول الحضراوي: وفي الحقيقة كانت جدة قبل هذه العمارة لا يطيق الإنسان في مدة الصيف أن يخرج من بيته من رائحة الندا الكريهة، والزناخة والشمس المحرقة، والقشاش، والقشاع، وغير ذلك فصارت كآحاد المدن الفائقة.

‌إصلاح العين القديمة:

ثم إنه شغل الناس في عين أدخلها لها، وكانت قديمًا ثم بطلت، ثم انهدم مجراها، فأمر على الناس وأهل الحواير في الشغل فيها حتى أدخلها إلى البلد، وجعل لها بازانًا للسقاية في ناحية العلوي، ثم أجراها إلى الفرضة حتى تصب في البحر، ثم ضنعفت وقل ماؤها لكنه يجري قليلا، فانتفعت به البلدة وأهلها، وإن كان ماؤها غير عذب، لكنه يعين على المهنة والغسيل وغير ذلك.

أقول: هذا الوصف للعين ينطبق على عين الوزيرية التي كانت تصل إلى جدة من الرغامة وكان ماؤها لا يصلح للشرب ولكنه صالح للغسيل، وأول من أجراها إلى جدة السلطان قانصوه الغورى في القرن العاشر الهجري، ثم انقطعت نتيجة تعرضها للخراب فقام بإصلاحها وإيصال مائها التاجر فرج يسر في القرن الحادي عشر الهجري، وقد تكرر الخراب فيها فكانت تنقطع ثم يعاد إصلاحها، وآخر مرة تم إصلاحها في الخمسينات من القرن الماضي في العهد السعودي، وبعد إيصال جلالة الملك عبد العزيز للماء من وادي فاطمة، أهمل أمر هذه العين تمامًا، وانتهت الحاجة إليها

(168)

.

(168)

انظر كل ما يتعلق بالماء في جدة في "أعلام الحجاز"(ج 2): ص 230، 231.

ص: 165

‌بناء صهريج الدولة العلية:

ثم في سنة ست وثمانين وألف عمل صهريجا كبيرًا للدولة العلية باسمها أكبر ما يكون في صهاريج جدة وكل محبوس يشتغل فيه، وأتمه .. أقول: كانت جدة قديمًا تعتمد على الصهاريج لحفظ الماء في أيام الأمطار، وتخزينه إلى وقت الحاجة، وكان التجار يتخذون من الماء تجارة فيمنون الصهاريج خارج مدينة جدة في مجرى السيول المنحدرة من الأودية والجبال، وعلاوة على ذلك كان في كثير من بيوت جدة صهاريج تبنى في أسفل البيوت وتوضع المزاريب في سطوح المنازل حيث ينحدر الماء في مواصير من القماش متصلة بالصهريج فيأخذ أهل المنزل منه حاجتهم وقت شح الماء، والبعض كان يملأ الصهريج في أوقات الأمطار بشراء الماء وتخزينه، وكان من أشهر الصهاريج في جدة صهريج المشاط، وصهريج نصيف وصهريج باناجة وغيرهم

(169)

.

‌رأي الحضراوي في القائمقام:

يقول الحضراوي: والحاصل أن الرجل لما اجتهد في عمارة البلد ذلَّ له أهلها، وهابه رعاعها لسطوته وتجبره وتكبره، ترادفت عليه الرتب، وساعفته الأقدار، حتى صار في رتبة (ميرميران باشا) فكان يقال له نوري باشا ونودى باسمه وخوطب بذلك، وصار له معارف من رجال الدولة ومكانة، وذلك بسبب أن القادم إلى الحج وغيره يجرى عليه

(169)

انظر كل ما يتعلق بتجارة الماء والصهاريج في "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز": ص 178 - 180 للمؤلف.

ص: 166

الضيافات ووضع يده مع التجار على سائر المرابحات، حتى نمى ماله، وترقى في حاله، وجلبت إليه الهدايا، والخيل المسوّمة والعربة وغير ذلك إلى أوائل سنة 1288 هـ عزل عنها، وبعد عزله توجه إلى الآستانة في سنة 1288 هـ، فمكث بها خمسة أيام ثم توفي إلى رحمة الله. وتولى محله قاسم باشا، ومع ذلك كان لا يوقر كبيرا، ولا يرحم صغيرا، فبهذا ترقى في أسرع مدة، ولكنه صنع بعض خيرات بجدة، وكف العامة عن التعرض لبعضهم ولغيرهم، وسوى بين غنيها وفقيرها، في المقام حتى تم العام.

أقول: لقد صوّر لنا الحضراوى القائمقام نورى أفندي رجلًا حازمًا أخذ على عاتقه إصلاح مدينة جدة وتطويرها فقد قام بردم البحر من ناحية الميناء بمقدار خمسة عشر ذراعًا، وأحدث رصيفا تقف عليه السنابيك الناقلة للبضائع، والركاب من البواخر التي تقف خارج الميناء المليء بالشعاب المرجانية، فأفسح مكانًا للبضائع، ووسع على الحجاج في زمن الحج، وهو عمل عظيم في ذلك الزمان.

كما قام بتسقيف جميع أسواق مدينة جدة بالخشب، فحمى بضائع التجار من حرارة الشمس في الصيف وأتاح لمرتادي الأسواق والسائرين فيها المشي في ظل ظليل، ولقد أدركت أسواق جدة خلال القرن الرابع عشر الهجري وهي مسقفة بهذه السقوف الخشبية التي سماها الحضراوي صنادق، باستثناء شارع قابل الذي استورد له آل قابل سقوفا حديدية من ألمانيا في ذلك الزمان.

وقام بتنظيم الأسواق فجعلها على مستوى واحد لا يبرز منها دكان عن آخر، وقام كذلك بإلغاء الدكاكين التي بنيت من الخسف أو السعف والتي سترت بالقمايق الغليظ من الخيش.

ص: 167

ولم يكتف بهذا كله فأمر أصحاب الدكاكين بنقش الأخشاب ليسبغ عليها صورة فنية جميلة. وأهم من هذا أو ذاك أنه كف الناس عن مقاتلة بعضهم البعض، وكانت العصبية للحارة والمحلة ربما أحدثت قتالا بين الناس يصاب فيه المصابون، وربما استشرت الفتنة فوصل الأمر إلى حد القتل.

وقام بعد هذا بإنشاء سوق خاص بالجزارين وباعة الخضار فجمعهم في ذلك السوق الذي أطلق عليه اسم - النورية - نسبة إلى نوري أفندي، ثم نوري باشا، كنت أعرف النورية في جدة وأرتادها، ولكني لم أكن أعرف تعليلا لاسمها إلى أن قرأت كتاب الحضراوي الذي نتحدث عنه هنا.

ثم أنشأ بعد ذلك سوقًا خارج باب مكة وقد أدركت هذا السوق وأغلب مرتاديه من الأعراب الذي يردون مع قوافل الجمال التي تحمل البضائع من جدة إلى مكة والمدينة وسائر مدن الحجاز.

ورأى حاجة الناس إلى الماء، وشحه بالمدينة فقام بإصلاح العين التي أجراها السلطان الغوري فأنعش نفوس أهل البلدة، وأغاثهم، ولم يكتف بهذا فبنى صهريجًا كبيرًا باسم الدولة شغل في بنائه المساجين فكان أكبر صهريج لحفظ الماء كما وصفه الحضراوي، وهذه الصهاريج كانت بالنسبة لمدينة جدة ضرورة من أكبر الضرورات.

ورأى القائمقام جبال القمامة التي كانت تسمى الكداوي - واحدتها كدوة - تحيظ بالمدينة من أطرافها فأزال هذه الكداوي ونظف البلدة من القاذورات والقمائم، وكان بعضها أمثال الجبال كما يقول

ص: 168

الحضراوي، كل هذه الإصلاحات تعد في ميزان الحسنات لهذا القائمقام العصامي الذى بدأ كاتبًا في العرضي وانتهى إلى أن يكون قائمقام والي جدة ومدير المستودعات الحكومية بها، وقد بلغت به العصامية إلى أعلى المراتب فحصل على رتبة الباشوية التي كانت تسمى في العهد التركي - الميرميران - ..

يقول الحضراوي: في وصف هذا القائمقام أنه لما اجتهد في عمارة البلد ذل له أهلها، وهابه رعاعها لسطوته وتجبره وتكبره.

أقول: إن الرجل كان مصلحًا عظميًا شديد الحزم والعزم، ولو لم يكن الحزم من صفاتة لما أمكنه إصلاح ما أصلح، وتنظيم ما نظم، فالناس بطبيعتهم يكرهون الجديد، ويتوجسون من نتائج ما لا يعرفون، وإذا كان الحزم في سبيل الإِصلاح العام فهو مقبول لحميد نتائجه، وإذا كان الرجل قد أمر أهل جدة بالعمل في دفن البحر فكان يعمل فيه الجميع، إما بأيديهم أو يأيدي من يستأجرون لينوب في العلم عنهم، فإن هذا العمل على ما فيه من ظاهر التسلط إلا أن الرجل لم يأمر به لمصلحة ذاتية، وإنما لمصلحة البلد وأهلها

لقد استحق القائمقام نوري باشا رتبة الباشوية بعمله الباهر في تمدين مدينة جدة وإدخال، الإِصلاحات العظيمة عليها، التي بقيت بعده أكثر من مائة عام، فاستحق الرتبة الرفيعة بجدارة بما قدم من عمل وما بذل من جهد عظيم

‌قشلة جدة:

يقول الحضراوي: وبجدة من خارجها قشلة متسعة قريبة

ص: 169

من ضريح السيدة حواء "للعساكر الشاهانية وكان بناها محمد علي باشا والي الديار المصرية، وهي مكينة في البناء، وطواحين الهواء ثلاث، كان بناها المذكور أيضا.

أقول: القشلة هي الثكنة العسكرية وكلمة قشلة أو قشلاق كلمة تركية، ولا تزال الثكنة العسكرية التي بناها محمد علي باشا قائمة في مكانها بجوار مقبرة حواء، وكانت قديمًا خارج مدينة جدة، أما في الوقت الحاضر، وبعد اتساع المدينة وامتدادها فتعتبر في قلب المدينة القديمة.

‌وصف ميناء جدة:

يقول الحضراوي: وأسكلتها يمر عليها من بضائع الهند واليمن ومصر وسواكن ومصوع وبلاد السين والصين والجاوى، قيل: إنها أكبر أسكلة في بلاد الإِسلام بعد أسكلة اسكندرية، وللبغاز باب لا يمكن دخول مراكب بغير ربان من أهلها، محكم بابها بين شعبتين عليهما علمان لمعرفة الدخول، بصناعة يعرفها أهلها، فهى للتجار دار مقام، وللمفاليس سجن لا يرام كما قيل:

وجدة لذوي الأموال كيسة

وللمفاليس دار الْهَمِّ والضيق

أقمت فيها مضاعًا بين ساكنها

كأننى مصحف في بيت زنديق

والحقيقة فهي أعظم ثغر من ثغور الإِسلام، فكم من ولي وعالم وفاضل يريد الحج وقضاء المناسك يمر عليها ويدخل من أسكلتها كما هو الغالب لأن الحجاج كلهم أضياف الله تعالى وفي كنفه وأمنه، فهي ممر للأبرار ومقر للتجار، ضاعف الله فيها البركات وأظهر فيها الخيرات.

ص: 170

أقول: الأسكلة هي الميناء ولعل كلمة أسكلة كلمة تركية، وقد كان ميناء جدة قبل حفر قناة السويس يمون القطر المصري بالبضائع - التي يستوردها تجار جدة من الهند بالمراكب الشراعية ويبقونها خارج الميناء، وبعد فتح قناة السويس استغنت مصر عن الاستيراد من الحجاز، ولكن ميناء جدة بقي محتفظًا بمركزه كأكبر ميناء في الجزيرة العربية لمدن الحجاز والجزيرة كلها، ويستقبل وفود الحجاج كل عام، ولقد كان ميناء جدة محاطًا بالشعاب المرجانية وكانت البواخر لا تدخل الميناء إلا بواسطة مرشدين من أهل جدة تخصصوا في معرفة أماكن هذه الشعاب، وكانت البواخر ترسو بعيدًا عن البلدة بمقدار نصف ساعة للزوارق البخارية، ثم قامت الحكومة السعودية بإنشاء إدارة خاصة للموانئ فقامت بردم البحر، وإنشاء الأرصفة الكثيرة وزودت الميناء بالآلات الحديثة للتفريغ والتحميل وأصبح ميناء جدة واحدًا من أعظم الموانئ في الشرق الأوسط

(170)

.

‌قلة المطر بجدة:

يقول الحضراوى: في وصف قلة المطر بجدة:

ومنها: أن الله تعالى جعل سقيا أهلها من ماء السماء وبركاتها، وليس بها بئر ولا نهر عذب غير المطر ولهذا تراهم غالبا في ضيق من الماء، حتى أن بعض الفضلاء هجا أهلها نظرًا لبعض الميل وبعض المنكرات

(170)

انظر كل ما يتعلق بميناء جدة والبواخر الشراعية في كتاب، "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز": ص 168 - 177.

ص: 171

للاتعاظ والاستيقاظ فقال:

يمر السحاب على جدة

بماء معين من المعصرات

يريد الهبوط فلا يستطع

لما حل فيها من المنكرات

ونقول للحضراوي: لِمَ بلاد الكفر في الغرب مخضرة كالجنان؟ من كثرة ما تغدق عليها السماء، ويغاديها السحاب، فالمسألة ليست كما تصور الشاعر، وإنما هي طبيعة البلاد وموقعها، وفوق ذلك كله مشيئة الله سبحانه وتعالى وحكمته التي لا تدكها عقول البشر.

‌أسواق جدة

‌سوق الندا:

وصف الحضراوي أسواق جدة فقال ما نوجزه فيما يلي:

وأما أسواقها فأولها وأعلاها سوق الندا، وهو سوق مستطيل في غاية اللطافة، وبه بعض أحوشة التجار وغيرهم وأنواع الأقمشة والأطعمة.

‌سوق الجامع:

وسوق الجامع، وسمي بالجامع المعروف بمسجد الشافعي وهو من المساجد القديمة، وهذا السوق تقابله وأنت داخل من باب مكة على جهة اليمين يسيرا، مستطيل أيضا.

‌سوق البنط:

وسوق البنط وهو سوق ظريف مجمع الصيارف، وفيه يباع

ص: 172

السمك الطري، والتمر الصفري المليف، وأنواع سبح اليسر، والنقل وغير ذلك، وبحذائه خان صغير بسقيفة يوصل لسوق الحراج.

يقول الحضراوي: والحاصل أن هذا السوق في أيام الموسم يكون في ازدحام للغاية مع كثرة الحجاج.

‌سوق برة:

وسوق برة - أي خارج البلد - وهو خارج باب مكة، وهو سوق طريف محتو على أبنية ودكاكين وسمى بذلك لكونه خارج البلد.

أقول: وقد أدركت سوق برة هذا وهو يسمى سوق باب مكة وكان خارج سور مدينة جدة مما يلى باب مكة المكرمة.

‌سوق الخاسكية:

وسوق الخاسكية، وهي شقايق نفيسة وأحوال زكية منيسة.

أقول: وهذا الكلام الإنشائي المسجوع لم يصف الخاسكية أو يعرفها للناس، والخاسكية في جنوب شارع قابل، وكانت مقرا للصيارفة، وباعة السمك المجفف، والسبح المصنوعة من اليسر والكهرمان، وقد أزيل بعض أجزاء الخاسكية وأدخل في شارع الملك عبد العزيز، أما بقية الأسواق التي ذكرها الحضراوى فلا تزال تحتفظ بأسمائها التي ذكرها المؤلف، وهناك أسواق هامة في جدة لم يذكرها الحضراوى وهي السوق الكبير وهو يمتد من سوق الندا إلى شارع قابل، وفيه حوانيت القماشين ولعل هذا السوق أنشئ بعد إتمام الحضراوي تأليف كتابه، وكذلك سوق البدو، وهو يمتد من باب مكة إلى سوق الجامع، وسوق العلوى وهو يمتد من انتهاء شارع قابل إلى باب مكة،

ص: 173

ولعل هذه الأسواق جميعها أنشئت بعد ذلك.

‌الأحواش في جدة:

يقول الحضراوي: وأما أحوشتها المحتوية على قصور عوالي، ومرافق ومراجع ومجالس، وغير ذلك، فهي لا تحصر فمن أكبرها وأعظمها الحوش المعروف بحوش الشريف وهو قريب من البنط بناه مولانا الشريف عبد الله بن المرحوم مولانا الشريف محمد بن عون أمير مكة والحجاز، وهو معد للحجاج والتجار، مشتمل على محلات نفيسة، وقصور عوالي رئيسة.

ومنها حوش مثقال، وهو لأحد خواص الشريف غالب أمير الحجاز سابقا، ومنها حوش الدولة، ومنها حوش أبو اليسر، وحوش الصالحة، وحوش عكاش، وحوش النخلة .. وجملة أحواشها تنوف على مائة حوش مشتملة على قصور وبيوت مرونقة وأكشاك على البحر من أنفسها كشك الشرابي فهى نفيسة وأنيسة.

أقول: كانت جدة إلى ما قبل عشرين عاما غاصة بهذه الأحواش التي وصف الحضراوي بعضا منها، وهذه الأحواش (مفردها حوش) كانت مستودعات لبضائع التجار، يخزنون بها البضائع التي يستوردونها من الهند وغيرها وخاصة الحبوب والمأكولات مثل: الشعير والأرز والدقيق والدخان، والأقمشة مثل: البفتة والدوت وغيرها، وبعض التجار كانت لهم أحوشة خاصة بهم لا يشاكهم فيها غيرهم، وهؤلاء هم كبار التجار في ذلك الزمان. أمثال باناجة وزينل وغيرهم، وإلى جانب ذلك كانت هناك أحواش مشتركة يديرها شخص معين يدعى (المقدم)

ص: 174

وهو يستأجر أحد الأحواش الكبيرة، ويودع التجار فيها بضائعهم، ويحيلون المشتري إلى مقدم الحوش الذي يسلمه البضاعة مقابل جُعْلٍ قروش قليلة على كل طرد أو كل شوال ويسمى هذا الجعل بالفسح، وكان المقدم يستفيد من الحركة الدائمة في الحوش لأن البضائع تصدر من جدة إلى مكة والمدينة والطائف وإلى أنحاء الجزيرة العربية بكميات كثيرة وبصورة تكاد تكون يومية

(171)

.

وكان في علو هذه الأحواش مبان سكنية يفهم من كلام الحضراوي. أنها كانت تؤجر للحجاج في أيام الحج كما يسكنها بعض الناس، ولكنى أدكت الحجاج في الأربعينات من القرن الماضى ينزلون في بيوت الوكلاء أو في البيوت التي يستأجرها الوكلاء لإِنزالهم، وكانت هذه المساكن في الأحواش تستعمل لغرض السكن أو يستعملها بعض التجار كمكاتب، وقد أزيل كثير من هذه الأحواش التي كانت تقع في السوق الكبير، وشيدت في مكانها الفنادق والعمارات السكنية الشاهقة لوقوعها في قلب مدينة جدة قريبا من البحر، وتحولت بضائع التجار إلى منطقة المستودعات خارج مدينة جدة كما هو الحادث في هذا الزمان.

‌مساجد جدة:

أشهرها مسجد الشافعي.

يقول الحضراوي: ذكر ابن جبير في رحلته أنه رأى بجدة

(171)

انظر تفصيل ذلك في"ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز": ص 202 - 204 للمؤلف.

ص: 175

مسجدين ينسبان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدهما يقال له مسجد الأبنوسي، وهو معروف، والآخر غير معروف.

أقيل: ولعله الذي يقال له الآن مسجد الشافعي.

أقول: مسجد الأبنوسي موجود في سوق الندا، وقد أدركته والناس يسمونه مسجد الأبنوس، ومسجد عمر بن الخطاب وهو مسجد صغير لم تكن تقام فيه الجمعة، أما مسجد الشافعي فقد عمره الملك المظفر سليمان بن سعد الدين شاهنشاه الثاني، وهو أحد ملوك اليمن الأيوبيين، وقد توفي سنة 649 هـ، وفي سنة 990 هـ جاء تاجر من الهند اسمه الخواجا محمد علي، وأتى معه بمؤونة وخشب وأعمدة منحوتة حاضرة من اليمن فهدمه وبناه أحسن بناء، وأن ذلك التاجر الذي زوده وزراء الهند بالمال الكثير عمل للمسجد منبرا لطيفا، وبنى دكاكينا وبيوتا ومات قبل انتهائها، وظهرت له بنت وأدعت أنه بنى هذه الدكاكين من ماله لنفسه، وطلبت إرثها منه، ولم تظهر حجة شرعية تمنعها، فأخذت الدكاكين والبيوت، ولم يبق شئ للصرف على مقبرة المسجد.

يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: الذى نقل ما ذكرناه عن كتاب "السلاح والعدة في فضل ثغر جدة" وإلى وقت المؤلف - القرن الحادى عشر - لم يكن للمسجد شئ من الأوقاف، ويذكر الأستاذ الأنصاري: أنه قرأ في محراب المسجد ما يدل على أنه بني من قبل سلاطين بني عثمان، ومئذنته رشيقة مستديرة وهي من حجر منحوت، وعلى بابه حجران منقوشان أحدهما: ينطق بعمارة الخواجا محمد علي له سنة 940 هـ، والثاني: "حجر مسن قديم أقدم من البناء الجديد

ص: 176

للجامع، وقرأ لي بعضهم شيئا مما فيه بعد جهد، فكان مما فيه اسم حسن بن عجلان، والشريف حسن بن عجلان من أمراء مكة فيما بين سنتي 798 - 829 هـ، وللمسجد أربعة أبواب، وبجانبه ملاصقا له، منزل يعود إليه، ويذكر عبد القادر، صاحب كتاب "السلاح والعدة" أن الذي بناه هو المعلم أبو العيد من تجار جدة، ومن قول صاحب كتيب "السلاح والعدة"، أنه لم يبق شئ للصرف على مقبرة المسجد، فهمنا بوضوح أنه كان به مقبرة تنسب إليه - انتهى -

(172)

.

أقول: مسجد الشافعي من أقدم "مساجد جدة، ولعله أقدم المساجد الجامعة الكبيرة بها، ونستطع أن نستخلص مما نقله الأستاذ الأنصاري عن كتاب السلاح والعدة أن المسجد بناه أولا الملك المظفر سليمان بن سعد الدين شاهنشاه الثاني، وهو أحد ملوك اليمن الأيوبيين الذي توفى في منتصف القرن السابع الهجري سنة 649 هـ، وأن المسجد تعرض للخراب فأحدثت به بعض الإصلاحات في عهد الشريف حسن بن عجلان أمير مكة فيما بين عامي 798 - 829 هـ أى بعد أكثر من قرن ونصف من بنائه الأول، ولا نستطع الجزم بأن الشريف حسن بن عجلان هو الذي أمر بتجديد المسجد وتعميره، لأن الكتابة التي قرئت للأستاذ عبد القدوس الأنصاري لم تكن واضحة، وقد تعود الناس كما هو الحال في زماننا هذا أن يذكروا أسماء الملوك والأمراء في المشاريع التي تحدث في عهودهم، فقد يكون الشريف حسن بن عجلان هو الذي أمر بالعمارة الثانية في المسجد، وقد يكون المعمر غيره،

(172)

موسوعة تاريخ مدينة جدة: ص 427 - 429.

ص: 177

وذكر اسمه لأن العمارة حدثت في عهد إمارته.

والعمارة الثالثة التي أحدثت في مسجد الشافعي وهي التي تم فيها هدم المسجد القديم وبناؤه أحسن بناء هي التي قام بها التاجر الهندي الخواجا محمد علي، وقد تمت هذه العمارة في منتصف القرن العاشر الهجري تقريبا سنة 940 هـ.

أما ما ورد عن الدكاكين والبيوت التي بناها التاجر المذكور بمعونة أثرياء الهند، فقد تكون هي الدكاكين التي يضمها سوق الجامع وهو سوق ملاصق للمسجد من الجهة الجنوبية، وأرجح أن نسبة الجامع في هذه التسمية تعود إلى هذا السوق، وقد تكون البنت التي ادعت بملكية هذه الدكاكين استولت عليها، ثم آلت الدكاكين بعد ذلك إلى المسجد.

وقد اشترى الشيخ أحمد الزهرة بيتا من أكبر بيوت مدينة جدة يقع في شرقي المسجد قريبا منه، كان يسمي الصبان، وكانوا من أكبر تجار جدة، وأوقفه على المسجد وقد ذكرت ذلك في ترجمته في أعلام الحجاز

(173)

.

هذا ولا يزال سوق الجامع في موضعه ملاصقا للمسجد، وللمسجد باب جنوبى يفتح على هذا السوق، وهو سوق عامر بالدكاكين، تقوم عليه وعلى المسجد وزارة الأوقاف - والله أعلم -.

‌مسجد عكاش:

ومسجد عكاش وهو من مساجد جدة القديمة الشهيرة.

(173)

انظر: أعلام الحجاز (ج 1): ص 11 - 17 الطبعة الأولى.

ص: 178

أقول: مسجد عكاش يقع في قلب مدينة جدة له باب على السوق الكبير وباب آخر على شارع قابل وهو غني عن التعريف، وقد ذكر عبد القادر آل فرج صاحب كتاب "السلاح والعدة في ثغر جدة" الذي ألف كتابه في القرن الحادي عشر الهجري أنه كان يوجد بجدة على ساحل البحر مسجد يعرف بمسجد الدامغاني وكان هذا المسجد ملاصقًا لبيت الشريف حسن أبى نمي، وسمى هذا المسجد باسم الدامغاني. ذلك أن الدامغاني وهو تاجر من تجار جدة قام بتعمير هذا المسجد بعد ذلك، وقد جدد بناء هذا المسجد عكاشة أباظة، فنسب إليه، ويرجح الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أن مسجد الدامغاني هو نفس مسجد عكاش الحالي

(174)

.

أقول: إذا كان هذا المسجد على ساحل البحر في القرن الحادي عشر الهجري فإن ما توقعه الأستاذ الأنصاري صحيح لأن البحر في ذلك العهد كان ممتدًّا إلى داخل المدينة اليوم، ونستطع أن نستخلص من هذا أن المسجد كان في القرن الحادي عشر الهجري موجود على ساحل البحر، وأن الدامغاني كان قد قام بتعميره، فنسب إليه في ذلك الزمان، ثم جاء عكاشة أباظة بعد ذلك فجدد بناءه.

ومسجد عكاش في الوقت الحاضر يتولى شئونه آل الهزاز في جدة وكبيرهم في الوقت الحاضر الأخ الشيخ عمر أحمد الهزاز، وللمسجد أوقاف موقوفة عليه يصرف منها على عمارة المسجد وإصلاح شئونه وصرف المرتبات للقائمين عليه من الأئمة والمؤذنين والمنظفين.

(174)

موسوعة تاريخ مدينة جدة: ص 427، 428.

ص: 179

‌مسجد الحنفي:

ومسجد الحنفي وهو قريب من قصبة الهنود، وهو مسجد عظيم الفضل من المساجد القديمة أيضًا تقام فيه الجمعة والجماعة.

أقول: مسجد الحنفى يقع في سوق الندا وله باب كان شارعا على قصبة الهنود سابقًا وهو الآن شارع على شارع الذهب بعد أن أزيلت قصبة الهنود في أول توسعة لمدينة جدة وأحدث فيها شارع رئيسي يسمى شارع الذهب.

‌مسجد عثمان بن عفان:

ومسجد سيدنا عثمان بن عفان جهة القلعة.

يقول الحضراوي: ولعله المذكور في قول ابن جبير مسجد الأبنوسي.

أقول: مسجد سيدنا عثمان بن عفان في حارة المظلوم قرب مسجد المعمار، شمال مسجد المعمار، وهو معروف لدى أهل جدة، أما مسجد الأبنوس الذى يقال: إنه مسجد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - فيقع في سوق الندا وهو بعيد عن مسجد سيدنا عثمان بن عفان.

‌بقية مساجد جدة:

يقول الحضراوي: وكذا مسجد الباشا، ومسجد المغربي جهة باب مكة، ومسجد المعمار، وهو مسجد لطيف تقام فيه الجمعة أيضًا، ومسجد الحضارم، وهو جهة سوق الندا وغير ذلك.

ص: 180

أقول: مسجد الباشا في حارة الشام أمام عمارة الفيصلية التي شيدها صاحب السمو الملكى الأمير عبد الله الفيصل، وقد قامت: وزارة الحج والأوقاف بهدم المسجد القديم، وإعادة بنائه على طراز حديث جميل .. ومسجد المغربي في منطقة باب مكة قريبا من العيدروس، وقد أنشأه جد أبى الشيخ محمد بن إبرإهيم المغربى فتيح الحباب، وقد وجدنا لوحة خشبية على باب المسجد تدل على أنه بني سنة 1263 هـ، وقد تعرض هذا المسجد للخراب، فهدم وأعيد بناؤه بفضل الله تعالى على طراز إسلامى جميل.

ومسجد المعمار يقع في شارع قابل وله باب شمالي يواجه بيت الجمجوم، وباب جنوبى أمام بيت عاشور في شارع قابل، وهو من المساجد الكبيرة المعروفة في جدة.

ومسجد الحضارم هو في جهة سوق الندا غرب سوق الندا، وهناك مساجد صغيرة كان يطلق عليها زوايا. والزاوية هي المسجد الذى لا تقام فيه الجمعة، وتصلى فيه الصلوات الخمس، والمسجد هو الذي تقام فيه الجمعة مع الصلوات الأخرى، هكذا كان إصطلاح الناس في تسمية الزوايا والمساجد. ولقد امتدت مدينة جدة في جميع الاتجاهات بعد إزالة السور وأصبحت مدينة كبيرة عظيمة ترتفع فيها مئات المآذن، التي تعلو المساجد المشيدة على أحدث طراز وأجمله والحمد لله.

‌الزوايا:

ذكر الحضراوي أن جدة كان بها ما ينوف على مائة زاوية ذكر منها، زاوية السادة الشاذلية بحارة اليمن، وزاوية السنوسى وكانت بمنظقة

ص: 181

العيدروس، وزاوية الأسنوي بحارة اليمن، وزاوية السيد الميرغنى، وزاوية البدوي قرب سوق الجامع، وزاوية ابن علوان.

أقول: كانت هذه الزوايا قائمة في مدينة جدة وكانت كل زاوية منها مخصصة لفرقة من الفرق الصوفية، وكان أصحاب هذه الفرق يمارسون ما يسمونه بـ "الذكر" بأسلوب لا يتفق وصفاء العقيدة الصحيحة، ولقد أدركت بعض المنتسبين إلى هذه الطرق الصوفية في أواخر العهد الهاشمي يؤدون ما يصفونه بالذكر ويخرجون جماعات إلي الطرقات يسبقهم الطبل والزمر وهم يغنون ويرقصون ويأتون بحركات لا تتفق ووقار الذكر وخشوعه، ويقيمون الولائم في أعياد خاصة بهم، ويحيون الليالي في احتفالات صاخبة، وحينما دانت البلاد لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله -، أبطلت هذه الطوق الصوفية وانتهت تلك البدع السائدة، وإني لأذكر وأنا صغير السن دون العاشرة أننى نظرت مرة إلى مسبحة كبيرة حباتها أكبر من حجم البيضة الكبيرة وهي تملأ جدار الزاوية فأدركت بعقلي الصغير في ذلك الزمان أن هذه المسبحة العظيمة بحجمها الكبير والتى تنسب إلى السيد البدري، أدركت أنها أكذوبة كبيرة يتسلط بها القائمون على الزاوية على عقول السذج والبلهاء، ونحمد الله أن أزيلت هذه البدع وانتهت هذه الترهات، وعادت العقيدة إلى صفاتها ونقائها والحمد لله رب العالمين.

‌الخانات:

يقول الحضراوي: وأما الخانات فلا تحصى، فمنها: الخان الكبير الشهير بقصبة الهنود، وهو محل تجار الأقمشة، ومنها: خان الدلالين

ص: 182

قريب من سوق البنط، وخان العطارين وهو قريب من العارف بالله تعالى الشيخ أبى سرير قدام الحدادين وغر ذلك.

أقول: قصبة الهنود كانت فعلا أشبه ما تكون بالخان، وكل أصحاب الدكاكين فيها من تجار الهنود، ولهم مسجد صغير يسمى مسجد الهنود، وكانوا يبيعون الأقمشة الحريرية المستوردة من الهند، كما يبيعون الفضة المذهبة والمصنوعة على شكل ورود، وأزهار، والتي كانت تسمى الترتر والكنتيل والتليِّ، مما يستعمل في ثياب العرس للنساء، ولحفلات الزواج، وقد أزيلت قصبة الهنود كما ذكرنا قبل حينما تم شق شارع الذهب، وتقع زاوية الهنود الآن في قلب هذا الشارع الموازي لشارع الملك عبد العزيز، والمجاور للسوق الكبير، أما خان الدلالين الذى ذكره الحضراوي، فقد أدركته في الأربعينات واسمه سوق الحراج، وبه مقر الدلالين، وقد أزيل هذا السوق وأدخل في توسعة شارع الذهب كذلك.

أما خان العطارين الذي ذكره الحضراوي فلعله كان في جهة سوق الندا، وقد أدركت حوانيت العطارين في الأربعينات من القرن الماضي حول مسجد عكاش، وأشهر عطار في جدة كان اسمه الشلبي ويقع في أول سوق العلوي قريبا من قصر نصيف.

‌عدد الحوانيت في جدة:

يقول الحضراوي: وأما الحوانيت ونحوها فتنوف عن أربعة آلاف دكان.

أقول: جدة مدينة تجارية منذ نشأتها فهي ميناء الحجاز، بل ميناء الجزيرة العربية كلها، ترد إليها البضائع من شتى أقطار الأرض،

ص: 183

وتجارها يموّنون تجار مكة والمدينة والطائف وغيرها، من مدن الحجاز، كما تصدر البضائع منها إلى أنحاء الجزيرة العربية فلا غرو أن تنمو تجارتها، فتكثر حوانيتها وأسواقها، وهذا العدد الذي ذكره الحضراوي قبل مائة وعشرين عاما يدل على أن المدينة كانت مدينة تجارية كبيرة منذ ذلك الزمن السحيق، أما في الوقت الحاضر فإن أسواقها الكثيرة تعج بآلاف الدكاكين في كل مكان.

‌عدد القهاوي بجدة:

يقول الحضراوي: وأما القهاوي فهي نحو المائة، ولعمري إن جدة مصر كبير، وحالها خطير

ثم يقول: كيف ولا هي دهليز للبلد الأمين، ومن ثغرها رباط المسلمين.

‌قبور الأولياء:

ذكر الحضراوى ما دعاه قبور الأولياء المشهورين بجدة فذكر منهم قبر الشيخ العلوية، وهو قريب من باب مكة وعليه قبة عظيمة واسمه أبو بكر بن أحمد اك مهير بالعلوي.

وقبر الشيخ أبو سرير وضريحه بزاوية معروفة في آخر سوق الندا من جهة الشام .. وقبر الشيخ أبو حنة، ومقام الشيخ أبو عنبة، وقبر الإِمام الشهير المعروف بالمظلوم.

أقول: كان السذج من الناس يزورون هذه القبور التي ذكرها الحضراوي والتى كانت منتشرة بمدن الحجاز كلها، وينذرون لها النذور، وهذه كلها من البدع الضالة المضلة التي دخلت على المسلمين واستغل

ص: 184

القائمون على هذه القبور سذاجة الناس وغفلتهم وجهلهم بالدين الصحيح فأقاموا القباب على هذه القبور، واستولوا على ما يرد لها من أموال النذور، وكل هذا ليس من الدين الصحيح في شيء بل هو مدعاة للإِنحدار إلى هاوية الشرك والعياذ بالله تعالى، فالله تعالى هو الضار وهو النافع، والدعاء يجب أن يكون له وحده تعالى دون وسيط أو شريك، وقد أُزيلت هذه القبور وما عليها من القباب، وانتهت تلك الباع الضالة المضلة حينما قامت الحكومة السعودية بعد انضمام الحجاز إليها بإزالة تلك القبور والقباب فسلمت للناس عقائدهم من الشوائب والانحرافات.

ص: 185

‌كتاب "اللطائف في تاريخ الطائف

"

‌الطائف وأوديته وأسباب تسميته:

جاء في القاموس - الطائف بلاد ثقيف أول قراها ( .. )

(175)

لعله القيم وآخرها الوهط سميت به لأنها طافت على الماء في الطوفان .. أو لأن جبريل عليه السلام طاف بها حول البيت، أو لأنها كانت بالشام ونقلها الله إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام، أو لأن رجلًا من الصدف أصاب دمًا، قال الفاكهي رحمه الله في تاريخ مكة والطائف من مخاليف مكة، وكان في القديم للعمالقة، ثم نزلها ثمود، ثم سكنها ثقيف وهي الآن دار لهم، وذكر التسميات الثلاث الأولى التي أوردناها ثم قال أو لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضرموت ففر إلى وج وحالف مسعود بن معتب بن عمرو بن سعيد بن عوف بن ثقيف وكان له مال عظيم فقال الرجل هل لكم أن أبني طوفا عليكم يكون ردًّا من العرب فقالوا نعم، وهو الحائط المطيف به

(176)

.

وذكر بعض أهل النسب أهل الدعون ابن الصدف واسم الصدف مالك بن موقع بن كندة بن حضرمرت

(177)

.

وجاء في لسان العرب الطائف مدينة بالغور يقال إنما سميت طائف للحائط الذى كانوا بنوا حولها في الجاهلية المحدق بها الذى

(175)

خالٍ من الأصل.

(176)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 2.

(177)

نفس المصدر: ص 3.

ص: 186

حصنوه به

(178)

.

‌الوهط والوهاط:

الوهط والوهاط المواضع المطمئنة واحدتها وهط بالسكون، وبه سمي الوهط، كان لعمرو بن العاص وقيل: لعبد الله بن عمرو بن العاص بالطائف، وقيل: الوهط موضع وهو قرية بالطائف

(179)

.

الوهط بفتح الواو وسكون الهاء بستان أو مال لعمرو بن العاص - رضى الله تعالى عنه - على ثلاثة أميال من وج. قيل: كان يعرش على ألف ألف خشبة مشترى خشبة درهم وبهذه القرية مزارع وعين ماء كبيرة إلا أنها الآن ضعيفة وبستانها المذكور لم يبق على معشار ما كانت

(180)

.

‌بين عمرو بن العاص ومعاوية:

ذكر الميداني: أن معاوية قال يوما لعمرو بن العاص: هب لي الوهط وكان كرْما يعرش على ألف ألف خشبة، شراء كل خشبة درهم كما قال في العباب ما ملكت العرب مثلها، فلما وهب عمرو لمعاوية الوهط، وقدر سعادته بهذه الهبة قال له عمرو: قد وجب أن تسعفني بحاجة أسألكها، قال معاوية: أنت بكل ما سألت مسعف، قال عمرو: ترد إليّ الوهط، فوهبه له معاوية مرة أخرى

(181)

.

(178)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 3.

(179)

نفس المصدر.

(180)

نفس المصدر: ص 51.

(181)

نفس المصدر.

ص: 187

أقول: وما ورد عن مقدار عرائش الكرم في ضيعة الوهط التي قدرت بألف ألف خشبة - مليون خشبة - يبدو لي أن فيه كثيرا من المبالغة في التقدير، والله أعلم.

‌سبب تسمية وج:

وج: وادٍ بصحراء الطائف .. ونقل ابن فهد عن السهيلي رحمه الله أن وجًّا كان رجلا من العمالقة فحوط له مواليه هذه القرية التي سميت باسمها فضبطوا واديها ما بين بناء الصخور، وشيدوا له بها القصور، وغرسوها أشجارًا، وفجروها أنهارًا، وكان رجلا نجدي الأصل غير أنه إذا رجعت الإبل تحت الصيف تطلب. المياه، جاء هو بأمواله، فأنزلها مصافي نجد بقرى وج، قال واسم أبي وج هذا عبد الحق وقيل عبد الحي

(182)

.

‌الطائف في القرآن:

جاء في تفسير: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .

قال المفسرون هما مكة والطائف، واختلف في الرجلين فقيل: إنه الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفى بالطائف

(183)

.

نقل اليورقي عن أبي العالية والضحاك قالا: نظر المسلمون إلى وج وهو وادٍ مخصب بالطائف فأعجبهم سدره، قالوا: يا ليت لنا مثل

(182)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 4.

(183)

نفس المصدر: ص 6.

ص: 188

هذا، ثم قالوا: يا رسول الله أفي الجنة سدر كسدر وج فأنزل الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} إلى آخر الآية.

والمخضود الذي لا شوك فيه

(184)

.

‌عكاظ:

عكاظ: سوق بين نخلة والطائف، كانت تقام في مستهل ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا، تجتمع فيه قبائل العرب، فيتعاكظون، أي يتفاخرون، ويتناشدون، وكان فرسان العرب إذا حضروا عكاظًا أمن بعضهم بعضًا لكون عكاظ في شهر حرام، وكانوا يتقنعون حتى لا يعرف بعضهم بعضًا

(185)

.

‌أول أمير في الإسلام على الطائف:

وأما عثمان بن العاص الثقفى - رضى الله تعالى عنه - وهو أحد الوفد الذين قدموا كما تقدم - ابن بشر الثقفي يكنى بأبي عبد الله استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف فكان أول أمير عليه في الإسلام، فلم يزل عليها مدة حياته صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر - رضى الله تعالى عنه - وفي خلافة عمر - رضى الله تعالى عنه - سنتين ثم عزله وولاه عمان والبحرين، وكان عثمان من الوافدين على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، وكان أصغرهم سنًّا له سبع وعشرون سنة، ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عزمت

(184)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 7.

(185)

نفس المصدر: ص 17.

ص: 189

ثقيف على الردة فقال لهم: يا ثقيف كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ردة، فامتنعوا عن الردة، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين

(186)

.

‌النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمير الطائف آداب الإِمامة:

وكان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله اجعلنى إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، أي اجعل أضعفهم لمرض أو زمانة أو نحوهما قدوة لك تصلي بصلاته تخفيفًا، واتخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا، رضى الله تعالى عنه ولعثمان بن العاص أحاديث في السنن

(187)

.

‌رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح تهامة:

مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم تهامة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "تهامة كبديع العسل حلوًا أوله حلوًا آخره"

(188)

.

قال في لسان العرب شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق العسل، لا يتغير هواؤها فأوله طيب وآخره طيب، وكذلك العسل لا يتغير، وليس كذلك اللبن فإنه يتغير، وبتهامة فصول السنة كلها طيبة غداة، وليلها أطيب الليالي، لا يؤذى بحر مفرط ولا قر مؤذ

(189)

.

(186)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 22.

(187)

نفس المصدر.

(188)

البديع: الزق الجديد.

(189)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 22، 23.

ص: 190

‌امرأة عربية تصف تهامة:

وصفت امرأة من العرب زوجها فقالت: زوجى كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا وخامة ولا سآمة

(190)

.

‌أحياء الطائف وقراه وما وقع فيها من الحوادث

‌قرية لقيم تثور علي الشريف زيد بن محسن:

لقيم على وزن زبيد، قرية كبيرة مشتملة على بساتين ومزارع وآبار، وهي أول قرى الطائف من الجهة الشمالية، وهي مسكن جاعة من ثقيف يقال لهم (الحمدة) وقد قتل صناديدهم مولانا الشريف زيد بن محسن صاحب مكة رحمه الله في حدود الأربعين بعد الألف لخروجهم عن طاعته، بحيث أنهم حاصروه في حصنهم، ومن الاتفاق أنهم جمعوا البارود في موضع واحد، فصار كل منهم يأخذ كفايته، فبينما هم كذلك، إذ ثارت علية شرارة فاحترق الحصن وجماعة فيه، وهرب الباقون فمنهم من قتل، ومنهم من انقاد للطاعة فصار ذليلا

(191)

.

‌قصر شبرة:

وهناك - يعنى بأرض ثقيف - قصر جميل في باطن بستان عظيم يقال له شبرة العاطر الفاخر وبها البناية الفاخرة الغريبة التي لم يكن في أرض الحجاز لها نظير، وهو - أي القصر - للشريف عبد الله باشا أمير مكة ابن الشريف محمد بن عبد المعين بن عون.

(190)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 23.

(191)

نفس المصدر: ص 46.

ص: 191

يقول الحضراوي: وهذا القصر ببستانه المعروف بشبرة وهو تحفة من تحف الدهر، وقد تكلمت الشعراء بمدحه حتى تغزلوا بقول بعضهم:

ماست تميل وتنثني

ما بين شبرة والعقيق

حوراء يمنعها الحيا

وتقول من أين الطريق

(192)

‌قرية السلامة:

كان ينزل بها أعيان الناس من أعيان مكة وفضلائها، بأغالب أهلها ثم خربت في حدود الثمانين وتحول أهلها عنها فلم يبق منهم إلا القليل وانهدمت بيوتها في مدة يسيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أقول: ولعل المقصود أن قرية السلامة خربت بعد سنة ألف ومائتين وثمانين، والله أعلم

(193)

.

‌قروة وتاريخ عمارتها:

قرية الآبار وهي المعروفة اليوم بقروة وبها بئر عجلان، بئر عذب شديد العذوبة، خفيفة في الباطن وهي خلف قرية السلامة من الجهة الشمالية، وسميت بذلك لكثرة حفر الآبار بها من زمن القائدة ذرة جارية الشريف حسن بن أبي نمي.

قال: وبلغني أن ابتداء عمارتها في حدود الألف وأن أول بيت بني

(192)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 47.

(193)

نفس المصدر: ص 48، 49.

ص: 192

بها البيت الذي كان يسكنه السيد عمرو بن عبد الرحيم البصري.

‌الطائف كان يسمى قديمًا الهضبة:

قرية الهضبة قال الشيخ حسن العجيمي رحمه الله وهي الآن كثيرة البيوت جدًّا وابتداء عمارتها بعد الألف إلا أن ازدياد كثرة البيوت بها منذ خرجت السلامة في حدود الأربعين.

يقول الحضراوي: قلت وهي الطائف اليوم بسورها الذي هو دائر عليها وله خندق، دائر محفور محفوف به، وأظن جدد بناءه محمد علي باشا بخندقه، وهو حائز الآن (لقبة حبر الأمة ولمسجده) مسجد ابن العباس ولمسجد الهادي اليمني كما تقدم وله ثلاثة أبواب باب الحزم، ثم باب الريع، ثم باب ابن العباس.

‌قرن المنازل:

ومنها قرية اسمها حباحب، قرية من قرى قَرَنْ وجاء في القاموس قرن الثعالب قرن المنازل - بسكون الراء - ميقات أهل نجد.

قال بعضهم: إن الطائف كبشٌ أوله قَرْن وآخره لية، ليس على وجه التحديد بل التقريب لتصبح لطيفة التشبيه كما قيل في هذا المعنى:

قلت للطائف فضل

وادي فيه مزية

أول الطائف قرن

مثل كبش فيه لية

(195)

(195)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 51.

ص: 193

أقول: وقرية الحباحب أو قرن المنازل تعرف في الوقت الحاضر بوادي مِحْرِمْ، نسبة إلى إحرام الحجاج بها حيث هي ميقات أهل نجد.

‌الباطنة والشريعة والزهرة:

الباطنة والشريعة والزهرة بساتين المثناة الشهيرة بناها الشريف عبد المطلب بن الشريف غالب الذي تولى إمارة مكة سنة 1268 هـ وجدد جملة حوائط البساتين وبنى مسجدًا تقام فيه الجمعة .. والزهرة سراية كبيرة على طراز بيوت الآستانة بأكشاكها الشاهقة وأوصافها المتناسقة

(196)

.

‌مسجد ابن العباس:

أول من بنى هذا المسجد (النبوي) عمرو بنا أبى أمية بن وهب بن متعب بن مالك لما أسلمت ثقيف ذكره أهل السير.

ثم عمرته زبيدة بنت أبي جعفر العباسية كما يدل عليه ما ذكره الفاسى في شفاء الغرام، قال: وجدت بخارج الجدار القبلي من المسجد العبامى حجرًا مكتوب فيه: أمرت السيدة أم جعفر - زبيدة بنت أبي جعفر أم ولاة عهد المسلمين - بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف وذلك سنة اثنتين وتسعين ومائة.

يقول الحضراوي: في ذكر المآثر والمشاهد الواقعة في الطائف وما حوله، فمن ذلك مسجد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآن تحويطة

(196)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 82، 83.

ص: 194

صغيرة طولها من الأرض فوق ذراع ملاصقة للجدار القبلي من القبة الأخيرة الكائنة في آخر المسجد العباسى، على يمين الداخل من بابه الشرقي.

وأما المسجد العباسى فقال ابن فهد وغيره: إنه لم يثبت فيه شئ

(197)

.

يقول الحضراوي: ومنها القبتان المبنيتان في موضع خيمتي زينب وأم سلمة - رضى الله تعالى عنهما -، وقد ذكرهما المؤرخون كالمرجاني وغيره، وكان بعد السبعمائة إلا أنهم يتعرضوا لذكر اسم بانيهما، وظاهر كلام المحب بن فهد أنهما بنيا في حدود التسعمائة، فقال: إنه رأى المسجد العباسى خرابًا، بل سقط بعض أروقته وجدرانه وعمّر بعضها عمارة خفيفة، وكذلك بناء الآثار النبوية التي وسطه، وقد هدمت القبة الكائنة في وسط المسجد، وبنيت على غير هيئتها الأولى عند عمارة الرواقين الحادثين بالمسجد العباسى في سنة أربع وثمانين بعد الألف.

‌توسعة مسجد ابن العباس:

وسع مسجد ابن العباس الوزير العالم محمد باشا شرواني بن عباس في حدود سنة ألف ومائتين ونيف وثمانين، وهذا الوزير صاحب كتبجانة مكة المقابلة للتكية المصرية، وهو الذي من خيراته ثم توسيع

(197)

قال ابن فهد: أما المسجد الكائن بالقبة القبلية فلم يثبت فيه شئ. اللطائف في تاريخ الطائف: ص 26، 27.

ص: 195

المسجد العباسي وزاد فيه ناحية الجنوب دكة طويلة كالرحبة للمسجد المذكور بباب واحد يخرج منه الخارج من المسجد إلى ناحية الجنوب

(198)

.

‌رواية أخرى في بناء المسجد العباسي:

قال الشيخ العجمي - رحمه الله تعالى -:

أول ما بنى هذا المسجد في أيام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضئ العباس كذا في تاريخ المرجاني والتقيِّ الفاسي، ثم جدد بعض أروقته وجدرانه بعد التسعمائة، ولكنها عمارة ضعيفة كما في تحفة المحب، ثم جدد عمارته وعمارة بعضه والقبة وعمارة المنارة الملك المظفر ابن رسول صاحب اليمن كما يدل عليه الكتابة الموجودة على باب القبة، أمر بتجديد ما تعب من هذا المسجد من المنارة وغيرها الملك المظفر سنة 675 هـ

(199)

.

قال المحب أيضا (ابن فهد):

رأيت المسجد الكبير الذي فيه قبر سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله تعالى عنهما - خرابًا بل سقطت بعض أروقته وجدرانه، وعمّر بعدها عمارة ضيفة، وكذلك بناء الآثار النبوية التي في وسطه، ووجدت بخط صاحبنا الشيخ عبد المحسن بن سالم القلعي - رحمه الله تعالى - قال: وجدت بخط الشيخ محمد الخادم المشهور بعمامة، إنه في

(198)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 36.

(199)

نفس المصدر: ص 37، 38.

ص: 196

عام سبعة وأربعين بعد الألف، أمر أمير الحج المصري رضوان بك بتبييض قبة سيدنا عبد الله بن عباس وبناء المنارة الموجودة الآن على باب المسجد، وبذل في ذلك مالًا، والقائم على ذلك شركس بن عبد الملك الشاووش الطايفي حاكم الطائف، والنائب عنه أحمد بن عيسى أبو خيش الخادم والمعلم أحمد بن سوكني، وواحد من أهل مكة - غفر الله لهم - وكان الفراغ من عمارتها في شهر ذي القعدة سنة 1047 هـ

(200)

.

قال وأخبرني بعض الثقات أن هذه المنارة التي أحدثت إنما عمِّرت بحجارة المنارة القديمة التي ذكرها المرجاني، وقد رأيت رسومها وشاهدت التعمير بحجارتها

(201)

.

‌عمارة الشريف زيد بن محسن بن حسن أبي نمي:

ثم جددت عمارة السجد وجدرانه والأروقة الأربعة عمارة متقنة على الرسم الأصيل في سنة إحدى وسبعين بعد الألف، وكان الآمر بها والمنفق عليها مولانا الشريف زيد بق محسن بن حسن أبى نمي سلطان مكة - رحمهم الله تعالى - والقائم على العمارة القائد أحمد بن ريحان حاكم الطائف

(202)

.

‌الشريف زيد يمنع الدفن في صحن المسجد:

وقد وجدت في وسطه (المسجد) عمارة رواقين بإشارة قاضي مكة،

(200)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 38.

(201)

نفس المصدر.

(202)

نفس المصدر.

ص: 197

وفصل بينهما وبين القبور التي في مؤخر المسجد بجدار .. ويقول عن هذه القبور:

وأحدث به الشريف صاحب مكة محمد بن بركات بن حسن بن عجلان الحسني قبور حماعة منهم أم ولده هزاع وقاصده إلى الديار المصرية الشريف عنقا دوبير كذا في تحفة ابن فهد، ثم زادت القبور وكثرت حتى امتلأ صف صحن المسجد بها، ولولا نهى الشريف زيد بن محسن عن الدفن فيه لاستأصل وصار جميعه مقبرة

(203)

.

‌حسن الكردي يأمر بإقامة الجمعة والجماعة في المسجد:

قال ابن فهد: وليس بهذا المسجد جمعة ولا جماعة.

يقول المؤلف: والظاهر أنهما كانا فيه قديمًا لوجود المنبر به كما تقدم، وكذلك جميع القرى المتصلة بالطائف، قال فإني لما زرت في المرة الأولى وكان في سنة خمسة عشر وتسعمائة لم أر بها جمعة.

ثم أن الجناب العالي القاضي بدر الدين بن علي بن خالص المغربي المالكي النائب بجدة لما توجه الأمير حسن الكردي الأشرفي إلى جهة الهند القتال الإِفرنج، وهو الذي كان بنى سور جدة في أسرع مدة، أمر أهل الطائف بإقامة الجمعة والصلاة بالمسجد العباسى، وبصلاة الجمعة أيضًا في القرى المتصلة به وذلك بإشارة شيخنا العلامة المفيد رئيس الحكماء نور الدين أحمد بن خضر القرشى الكارزوني الشافعي - رحمه الله تعالى -

(203)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 38، 39.

ص: 198

فجمعوا بها في سنة خمس عشر وتسعمائة (هجرية)، واستمرت إلى أن زرت الزيارة الثانية في السنة التي بعدها سنة سبعة عشر وتسعمائة (هجرية) وهي موجودة بعد ذلك في غير المسجد الكبير الذي فيه ضريح حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله تعالى عنهما - فإنه منفرد عن القرى وسط التربة، ويصعب على أهل البلد التوجه إليه لبعده عن بعضهم، وكونهم لا يسمعون النداء منه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

يقول المؤلف: وكأنه أراد بالمسجد الذي أقيمت فيه أخيرًا مسجد الجمعة الكائن بالسلامة، وقد استمرت إقامة الجمعة، وخطباؤه جماعة من بيت الفتيحي، واستمر انقطاع الجمعة بالمسجد العباسي إلى أثناء سنة أربع وخمسين وألف (هجرية) ثم أقيمت به، وكان السبب في ذلك أن المرحوم الشريف زيد بن محسن صاحب مكة وصل إلى الطائف في ذلك العام في جع من أهل مكة وأعيانها كقاضى مكة حسن أفندي بياضى، وشيخ الحرم محمد أغا. ومفتيها الشيخ حنيف الدين المرشدي، وكثر الواردون إلى الطائف من أهل مكة بحيث ضاق عليهم مسجد الجمعة الكائن بالسلامة فأمر بإقامتها في مسجد سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله تعالى عنهما - صاحب مكة الشريف زيد بن محسن فباشر به خطيب مسجد الجمعة وهو أحمد الفتيحى في ثالث جمادى الأولى سنة 1054 هـ

(204)

.

(204)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 39، 40.

ص: 199

‌الخلاف بين أسرة الفتيحي وخدام الضريح:

ثم وقع الشنآن بين الفتيحي وخدام ضريح الحبر سيدنا عبد الله بن عباس - رضى الله تعالى عنهما - فرفعوا إلى الشريف ما بأيديهم من خطوط أشراف مكة بأنه لا يدخل عليهم أجنبى، فأبقاهم على ذلك، فخطب في العاشر من الشهر المذكور - جمادى الأولى 1054 هـ - شخص منهم - من خدام الضريح - اسمه أبا بكر بن أحمد، ثم وقع الشنآن بينهم فأمر الشريف بمباشرتها مناوبة فصار الفتيحي يباشر الخطبة وصلاة الجمعة مرة، والخادم - خادم الضريح - أخري، واستمر ذلك في الخدام والفتيحيين إلى أن باشر الخطبة رجل من الفتيحيين يسمى راشد فسلط الله عليه من يخرجه لعدم الصلاحية لذلك، فعوض عنه برجل من الخدام يسمى أحمد التقى فصار يباشر جمعة وولد بواب القبة يباشر أخرى، واستمروا على ذلك مع إقامة الجمعة أيضا بمسجد السلامة حتى خربت في سنة وارتحل غالب الناس عنها فانفرد المسجد العباسى بإقامتها

(205)

.

‌خطبة العيد:

وفي سنة أربع وستين أو خمس وستين - بعد الألف (هجرية) - أمر الشريف زيد بن محسن صاحب مكة الشيخ حنيف الدين المرشدي مفتي مكة مباشرة خطبة عيد الفطر فباشرها على أسلوب خطباء العيد في مكة. وأمر بذلك أيضا في سنة ست وستين القاضي عبد الجواد المنوفي الحنفي فباشرها كذلك

(206)

.

(205)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 40، ولم يوضح التاريخ بالأصل.

(206)

نفس المصدر.

ص: 200

‌وظيفة الخطابة والإِمامة:

يقول الحضراوي: وأخبرني صاحبنا الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد بن علي بن أحمد الخطيب بن عيسى بن موسى بن أبي القاسم بن شداد بن عمر باعمر الشيباني الحميري الملقب بالطيفاني: أن الخطة بالطائف كانت وظيفة أجداده، ثم بعد جده أحمد بن عيسى صارت لبيت الفتيحي. وأما خدام القبة - الشريفة - فهم من ذرية الشيخ أحمد الحرازي اليمنى

(207)

.

يقول الحضراوي: أما في زماننا هذا فأروقة المسجد في قبلته خمسة منها ثلاثة أروقة مقابلة للضريح عمّره أحمد باشا الحجازي سنة 1237 هـ وهناك بابان للمسجد متصلان، وعندهما المنارة التي عمّرها المذكور، وبجانب المنارة قبة فيها ساعات فلكية موقوفة على المسجد من بعض سلاطين آل عثمان

(208)

.

وفي الرواق الأوسط باب للمسجد أيضًا فتحه الوالي على الحجاز حينئذ المرحوم أحمد رشيد باشا الشرواني.

يقول الحضراوي: وكان صدرًا من الصدور وعالمًا فاضلًا سنة 1291 هـ

(209)

.

أما الرواقان المقدمان في مقدم القبلة فقد عمرهما بعض تجار الهنود

(207)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 40.

(208)

نفس المصدر: ص 53، 54.

(209)

نفس المصدر: ص 54.

ص: 201

حين قدم زائرًا لحبر الأمة سنة 1295 هـ

(210)

.

‌العباسيون من نسل ابن عباس:

أما الحبر ابن عباس فكان له من الأولاد خمسة: العباس، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن، ولا عقب لواحد من هؤلاء، وعلي وهو أصغرهم، وفيه الجمهرة والعود والنسب والخلافة، ولا عقب لعبد الله بن عباس إلا من علي هذا، وعقَّب علي هذا عَالَمٌ حتى يقال ضبطت الذرية العباسية في زمن المأمون فبلغت ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى

(211)

.

‌شعر ابن عباس بعد أن كف بصره:

فقد ابن عباس - رضى الله تعالى عنهما - بصره في آخر عمره فكان ينشد:

أن يأخذ الله من عينيّ نورهما .... ففي لساني وقلبي منهما نور

عقلى صحيح ورأيي غير ذي زلل

وفي فمي صارم كالسيف مشهور

(212)

‌تاريخ بناء مسجد الهادي:

مسجد الهادي اليمني الكائن بقرية الهضبة وكان منشؤه في حدود الخمسين بعد الألف.

(210)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 54.

(211)

نفس المصدر: ص 32.

(212)

نفس المصدر: ص 29.

ص: 202

يقول الحضراوي: وهو الآن على الروقة .. ثم يقول: وله منبر تقام فيه الجمعة في وقتنا أيام الموسم

(213)

.

ونكتفي بما استخلصناه من مؤلفات الحضراوي عن جدة والطائف والولاة العثمانيين في الحجاز للفترة التي عاصرها الحضراوي، وأرجو أن يكون فيما أوردته عنه باعثًا للبحث الدقيق في مؤلفاته الكثيرة ودراستها فلعل فيها الكثير بن التاريخ المخبوء الذي غيبته عنا الأيام

* * *

(213)

اللطائف في تاريخ الطائف: ص 43.

ص: 203

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 205

السيد جعفَر بن محَمد البيتي

ص: 206

‌السيد جعفر بن محمد البيتي شاعر الحجاز في القرن الثاني عشر للهجرة

‌مولده ونشأته:

ولد السيد جعفر بن السيد محمد البيتي

(214)

باعلوي السقاف بمكة المكرمة سنة 1110 هـ، ونشأ بها وتلقى العلم على والده السيد محمد البيتي وعلى الشيخ عبد الله بن سالم البصري

(215)

وهو من العلماء الذين اشتغلوا بدراسة الحديث قراءة وجمعًا وتدريسًا واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس

(216)

، وكل منهما أخذ عن صاحبه

(217)

.

‌اشتغاله بالشعر والكتابة:

اشتهر السيد جعفر البيتي بالشعر حتى أصبح علمًا من أعلامه، فقال عنه المرادي في سلك الدرر: وبرع في نظم الشعر حتى كاد

(214)

البيتي نسبة إلى بيت مسكن قرية تريم في حضرموت. انظر: خلاصة الأثر 262 - الجزء الأول.

(215)

انظر ترجمته وافية في المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 246 - 249 للشيخ عبد الله مرداد أبو الخير.

(216)

انظر ترجمته في "خلاصة الأثر" للمحبي (ج 2): ص 389، 390.

(217)

ص 116، 118 مختصرا من كتاب "نشر النور والزهر" لعبد الله مرداد أبو الخير.

ص: 207

أن يكون كالمتنبي وله ديوان شعر مشهور مشحون باللطائف

(218)

.

ووصفه الجبرتي في عجائب الآثار، فقال عنه: وحيد دهره في المفاخر، وفريد عصره في المآثر أديب جزيرة الحجاز ثم قال عنه: وصار إمامًا في الأدب يشار إليه بالبنان. وكلامه العذب يتناقله الركبان، وله ديوان شعر جمعه لنفسه، وله مدائح وقصائد وغزليات كلها غرر محشوة بالبلاغة تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه

(219)

.

وذكر الزركلي في الأعلام أن البيتي ألَّف كتابًا سماه: "مواسم الأدب وآثار العجم والعرب" جزآن مطبوعان

(220)

.

‌وظائفه وأعماله:

يقول الجبرتي عن البيتي: إنه ولي كتابة الينبع

(221)

، ثم وزارة المدينة

(222)

، وقال المرادي عنه: تولى كتابة الشريف ووزارته، وسافر للديار الرومية واليمنية ودخل مدينة صنعاء مرات وكان يتردد بين مكة والمدينة

(223)

.

(218)

المختصر من كتاب "نشر النور والزهر" لعبد الله مرداد أبو الخير: ص 116.

(219)

عجائب الآثار للجبرتي (ج 1): ص 373، 374.

(220)

الأعلام للزركلي (ج 2): ص 129.

(221)

يقصد مدينة ينبع، وينبع من مدائن الحجاز.

(222)

عجائب الآثار للجبرتي (ج 1): ص 373.

(223)

المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 116.

ص: 208

هذا ما استخلصناه من كتب التراجم عن السيد جعفر البيتى الشاعر الناثر، وآن لنا أن نقلب صفحات ديوانه لنستخلص منها صورة للشعر في عصره - القرن الثاني عشر للهجرة - ولنستخلص من هذا الشعر ملامح للحياة الاجتماعية والسياسية في مدن الحجاز خلال هذا القرن الذي لا تتوفر المصادر التاريخية الكافية لجلاء ملامحه وأحواله.

‌ديوان البيتي:

توجد نسخة مخطوطة بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة لديوان السيد جعفر البيتى (تحت رقم 3091 الرقم العام ورقم التصنيف 63/ 810) وهو مكتوب بخط واضح ويحتوى على مائة وتسع وثلاثين صفحة من القطع العريض مقاس الصفحة (30× 25 سنتيمترًا) وكل صفحة مقسومة إلى قسمين ومتوسط القسم الواحد في الصفحة الواحدة تسعة عشر سطرًا ولابد أن يكون للديوان نسخ أخرى لأنه كتب عليها "هذه النسخة نسخها الكاتب ولابد من مقابلتها" ثم كتب تحت ذلك وبخط مختلفا "تقابلت بحمد الله" ويوجد في بعض الصفحات تصحيح لبعض السطور أو إضافة لبعض الأبيات.

وقد كتب في الصفحات الأولى للمخطوط ما يدلُّ على ملكية هذه النسخة للسيد جعفر ابن السيد محمد البيتي المؤلف، كما يوجد عليها خش وقفية هذه النسخة من قبل أحمد عارف حكمة الدين محمد الحسينى في مدينة الرسول الكريم عليه وعلى آله الصلاة والتسليم بشرط أن لا يخرج عن خزانته وتاريخ الختم عام 1266 هـ، وبعد هذا الوصف لمخطوطة الديوان نتحدث عن محتويات الديوان.

ص: 209

‌وصف عام لشعر البيتي:

نظم البيتى في فنون الشعر عامة فله قصائد في الغزل والرثاء والإخوانيات والمدج والهجاء، ويضم الديوان قصائد تصف الأحوال الاجتماعية والسياسية في البلاد وهي في نظري تكتسب أهمية كبرى لأنها تلقى الضوء على جوانب من حياة الحجاز الاجتماعية والسياسية في فترة افتقدت فيها المصادر التاريخية التي تتحدث عن هذه الفترة من الزمن - القرن الثاني عشر للهجرة - ولهذا فسيكون تركيزنا على هذا الجانب من شعر البيتى أظهر وأعم.

‌البيتي يمزج الشعر بالنثر:

ومما لاحظته في الديوان أن البيتى لم يكن يكتفى في بعض الأحيان بنظم القصيدة وإنما يقدم لها برسالة طويلة مسجوعة في نفس الموضوع، كما هو الحال في رسالته من ينبع إلى الخطيب محمد أبى الخير مغلباي المدني في سنة 1140 هـ والتي سنتحدث عنها بعد، أو يبدأها بأبيات من الشعر ثم يتبعها بالنثر ليعود مرة أخرى إلى الشعر .. ونثر البيتى كله مسجوع، فلم أجد في الديوان على كثرة ما ورد فيه من النثر سطرًا واحدًا خاليًا من السجع. وهذا السجع يتميز بالعذوبة كما ينبئ عن إحاطة كاتبه بكثير من المعارف وهو يدل على اطلاع واسع كما يشير إلى تمكن كاتبه من المفردات اللغوية فلا تشعر فيه بالتكلف الذي يظهر في سجع كثير من الكاتبين.

‌البيتي في ينبع:

ذكرنا ضمن وظائف البيتي أنه تولى الكتابة في ينبع ولم توضح

ص: 210

التراجم التي بين أيدينا كنه الوظيفة التي تقلدها في ينبع، هل هي الكتابة لأمير ينبع؟ أو أنه انتدب من إمارة المدينة المنورة التي كانت ينبع تابعة لها للعمل هناك؟ ولكنا نستطيع أن نستخلص من مجمل ما نظمه البيتي من الشعر عن ينبع، وما كتبه من النثر أن عمله كان يتعلق بالبادية، وببعض الأمور المالية فيها فهو يقول:

لولا تغافل أهل الفضل عن خبري

ما عدت في ينبع من كاتبي العُشَرِ

صناعة لست من أكفائها فَرَشَتْ

فوق الأَسنة لي ضيمًا على الأبر

(224)

ولقد أطال البيتي الحديث عن معاناته في ينبع شعرًا ونثرًا، وكان يكتب بهذه المعاناة إلى أصدقائه في المدينة المنورة، كما كانت تفيض نفسه بالشكوى فيرسل الشعر تسجيلا لهذه المعاناة.

ولقد مرت القرون على هذه المعاناة

(225)

ولكنه خلَّدها وصفًا حيًّا لحالة ينبع الاجتماعية والسياسية نقرأها بعد مائتين وست وستين عامًا، فتبدو حوادثها ماثلة للعيان تحدثنا بما كانت عليه الحال في الماضي من اضطراب في الأمن، وسوء في الأحوال، وتسلط من البادية على مقادير الناس وممتلكاتهم وأرواحهم، فنحمد الله أن بدَّل الخوف أمنًا، والسوء حسنًا، وأن قيَّض للأمة من يقوم على شئونها خير قيام.

والآن لنترك البيتي يتحدث في رسالته التي كتبها إلى الخطيب

(224)

صفحة (3) من الديوان ضمن القصيدة الأولى التي مطلعها:

حيي بكأسك لي مع نسمة السحر

وسلسلي الراح من نحري إلى سحري

(225)

قصائد البيتي ورسائله في ينبع كانت في عام 1140 للهجرة.

ص: 211

الفاضل محمد أبي الخير مغلباي المدني سنة 1145 هـ والتى يبدأها بهذين البيتين وهما من شعر البيتي:

‌مقدمة الرسالة:

وأزكى ما يخص به الأَخِلَّا

ويحمله الوداد مع النسيم

سلام نَشْرهُ مسكٌ ذكيٌّ

يروق كحسن أخلاق الكريم

يطلع عليه نسيم الصبا، ويطلع إليه عهد الصِّبا، وتنقل عنه الأزاهير، ما يعبر به العبير، فهو كأيام الربيع حسنًا، وتَبَسُّم الزمن حِسًّا ومعنى، آنس من الخليل، ودخول البرء على العليل، تتنافس فيه النفوس وهو لا عطر بعد عروس، أرق من الغمام، وشكوى المستهام، كأنه لطف النور في الديجور، أو إنعاش الراح للأرواح.

سرى بنافحه نيلوفر عبق

وسنان نَبَّه منه الصبح احداقا

متمسكا بتقبيل الأعتاب العلية، وهو ومثله من التحية، من مقام رفيع الجناب، القاصر عنه لسان الإطناب، نسيج وحده، وواحد فخره ومجده، القائم بذاته في الفخار الغني عن الوصف والتكرار، فضيل من تعقد عليه الخناصر، وتهتز له أعطاف المنابر، وهو لانفراده بالمفاخر كالمثل السائر، في الأوائل والأواخر، ليس به عيب سوى أنه لا تقع العين على شبهه، أجلَّ من ينسب إلى العزة ويُعْزَا، والجزء الذي لا يتجزى، ذو الفضل المأثور، والذكر المنشور أبو الخير المشهور، أطال الله عمره في السعادة وطول العز والسيادة، وبعد تعطير الطرس بغوالى ذكره، وتشريف الكلم بجوامع علاه وفخره، صدرا من مصدور الشوق، الذي شب عمره عن الطوق، من كثير السؤال، كثير الاشتغال بتفقد الأحوال:

ص: 212

كثير من السؤال اشتياق

كثير من رده تعليل

(226)

والله سبحانه هو المحمود والمأمول بها

(227)

الكرم والجود، أحمده إليك علانية وسرا، وأتبتل إليه ثناءًا وشكرًا، وقد ورت عقيلة الكرم، والنثر الذي هو نثارها، وتوطية القسم، فخلا بها القلب الوجل، والذهن الخجل وتلقاها البال بالإقبال، وأحلها الخاطر، في بيت الود عامر

(228)

حتى كانت درياق الاشتياق، وعلاج الانزعاج وبهجة المحاضر، وأنس المقيم والمسافر، كيف لا وهي عذب الشمائل، وشمول الفضائل، تيمة المعاني

(229)

وقوية المباني، قد صرحت بجلَّذان، عن فضلك المصان:

بكر فكر تزف أنجب من أم

البنين التي من الأصلاب

من لدى المعي جوهر عقل

وهي منه عنوان ذاك الكتاب

فأكرم بخريدة خدرها، ودمية قصرها، في أبناء عصرها، عرضت للاستماع، وتهذيب الطباع، فهي بين الأنام، تطلب مَهْرَ قطام

(230)

لعلو المقام، فتكبر أن تسرح إلا في محاسنها النواظر، وتمتع إلا من معناها البصائر فما برحت في ذلك المجال، تخطر في قدر الشعر وتختال، وينشدها لسان الحال.

(226)

هذا البيت للمتنبي.

(227)

لعل الأصح أن يكون "به".

(228)

لعل الأصح أن يكون "العامر".

(229)

لعل الأصح أن يكون "يتيمة".

(230)

قطام هي المرأة الخارجية التي اشترطت على عبد الرحمن بن ملجم قتل علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - مهرًا لها - وكانت فائقة الجمال - انظر: كتاب "علي بن أبي طالب" لكاتب هذه السطور.

ص: 213

والرسالة طويلة يصف فيها البيتي معاناتاه في ينبع من الحشرات، كما يصف الشحاتين في ينبع والأعراب ورؤساء القبائل، مما سنقرأه في شعره، ثم يتحدث البيتي عن نفسه فيقول:

‌البيتي يعتذر لنفسه:

وكأني بملام الخطيب يصدر عن قريب، غب هذا العجيب، وهو يلوم في المطامع، وينبه على فضل القانع، ويقول: إن في العفاف لما يصون قدر الأشراف، ولقد أسرف كل الإسراف، حين تعرض للاستهداف ثم يسند صاحبه إلى الجنون، ويغرب في الجون، فيقول: لو عاد بمال قارون، لكان في الصفقة مغبون، بل ولو استقل بفارس وخراسان، وهيمن على الشحر وعمان، وتقلد ملك آل عثمان، وجاء برأس خاقان، لما كان بعد الشدة والامتحان، ومقامه على الهوان، إلا أخسر من أبي غبشان، وأخيب من حنين، ولو جاء بملإ الخافقين وكان مع عدم المشاركة، في أحسن من زمن البرامكة، قد تربع في دست الشرافة، وسلم عليه بالخلافة، فما له قد أساء في الطلب، وذهب بوضاءة النسب والأدب، بسوء هذا المكتسب فما كان في العير، ولا أحسبه في النفير:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذل الحرص أعناق الرجال

فما أجد من الأعذار، إلا تصرف الأقدار، وحمل الاضطرار، على عدم الاختيار، على ذلك صبرت، ولو خيرت لاخترت:

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

ومن العذر ما لا أبديه، وقد ذهب أمس بما فيه، والسعيد

ص: 214

من كفى المؤونة، وأعطى الملعونة، ونعمت له البارحة والليلة، وقيل له مَسِّي سخيلة فقلما تحسن الحال، إذا كثرت العيال، وتتصور الراحة، إذا صفرت الراحة وما فاز في العالمين، غير المخففين، وأخوك قد أساء الزمن إليه، وعرض خصلتي الضبع عليه، أو أني أعاف الإِكرام، لوجدتْ الإكرام، أو أمل المقام، ولكن لو ترك القطا لنام:

لُمِ الليالي التي أخنت على جدتي

برقة الحال واعذرني ولا تلم

‌حظ الأديب:

ثم أعود وأقول ما أكسد الأدب، الذي ذكرت، وأطنبت فيه بما قدرت، وليست سلسلة النسب، من حبائل النشب، ولا نسخ الأدب من فخوخ الذهب، وماذا حصل للخليل بالبسيط والطويل، وهل أفطر على العصيد من بحر المديد، وأشرف على المطالب، من فعول المتقارب، فليس من المفروض علم العروض، ولا من المسنون الاشتغال بهذه الفنون:

لا تطلبن بآلة لك رفقة

قلم البليغ بغير حَظٍّ مِغْزَلُ

فما أضعف قواعد الإعراب، عن إملاء الجراب، وأضيع دلائل الإعجاز، في حانوت البزاز، وأقذر زهر الآداب، وآداب الكتاب، إذا عرضا على القصاب، ولم أسمع بأنساب قريش، إنها نفقت في ترميق العيش، ولا أن كتاب الكامل عمل في تحريك العوامل، وإذا طلبت البرهان، وشئت أن ترى العيان، فخذ أخبار الزمان، وقلائد العقيان والسير والغزوات، وجميع كتب الطبقات، وشروح المعلقات، وهلم بالفلك المشحون، في القبائل والبطون، ومعها أجزاء الأغاني، وديوان

ص: 215

ابن هانئ، وما انتظم من هذه المعاني، ثم تفسح في المجالس، واجْلُ من تلك العرائس وأنت كسحبان وائل، وبيان عمرٍو وواصل، فإن توصلت إلى طفيف، من ثوب أو رغيف، فاصنع ما شيت، واهجرني ما حييت، فلست بالمميز، على ابن المعتز، حين أدكته حرفة الأدب، فوقع في العطب، ولا كشيخ ربيعة الفرس وقد رمى بالهوس، فأهون في الزمان بعلَّامة همذان، ومثله من الأعيان، وأي فضل في شعر، لا يوقد تحت القدر ولا يقاوم ثمن الحبر، ولو كان من الحكمة والسحر.

لا خير في أدب فردًا بلا ذهب

وليس ينفق في شئ من الزيت

فقل عن الكيس لا الأكياس كيف تشأ

واسأل عن الحظ لا تسأل عن البيت

فطالما قمت في الأسحار، وصدَّرْتُ الدعاء بالاستغفار، وأنا أسأل الكفاف، لأحوز العفاف، فلا أعرض حَرَّ الأديم، إلى لئيم، ولا أعمل حيل الالتماس، لما في أيدي الناس، وإلى الآن ما أنجح الرجاء، ولا أستجيب الدعاء حتى كأنه دعاء أبي جعفر، حين سئم من أزهر، وقد سلمت القياد للأمر، وانتظرت الفرج بالصبر:

علمًا بأن اصطباري معقب فرجًا

وأضيق الأمر إن فكرت أوسعه

فأما الآن فقد امتد مضمار الرهان، ووجب صرف العنان، إلى تذليل هذه الخرافات، بمثلها من الأبيات فإليكها نفثة مصدور، في طي هذا المنشور، معتذرة عن التقصير، مقرة بالقصور، فاستر على عوراتها، وضاعف لها حسناتها، وتجاوز عن سيئاتها، وأكرم مثواها، حيثما تلقاها، وأين ترى عوارها، فقلِّمْ أظفارها،

ولا تقبل اعتذارها، وقد جعلت صداقها، عندك نَفَاقها، فإن رأيت وفاقها، وإلا فاكتم طلاقها، وسرحها

ص: 216

إلى أهلها، فلا يعودوا إلى مثلها، وها هي قد عرضت عليك، والأمر إليك، ولا زلت على الدوام، يغشاك مزيد السلام، وتؤمك التحيات، هي وهذه الأبيات

(231)

:

‌مقدمة القصيدة:

هذه القصيدة من بحر الرمل المجزوء، وهي ثمرة قولي في صدر الرسالة ويرمل ولو عُدَّ في الأرامل، والقصيدة التي جاءت من الخطيب التي كانت سبب هذه الرسالة بحرها من الكامل، فتأمل الفقرات في صدر الرسالة:

يعلم الله ويشهد أننـ

ـي فيك مُسَهَّدُ

لي دمع ليس يرقى

وفؤاد يتوقَّد

وأنين يتوالى، وزفـ

ـير يتصعَّد

وهوى نام ووجد

كل يوم يتجَدَّد

وكساني الحزن سقما

فوق ما قد كنت أعهد

وهيامي واشتياقي زا

د بالفرقة واشتد

وإذا ناح حمام

في غصون وتغرد

إنما يبكي لحالي

كلما ناح وردد

حالة يقطر القلب بهـ

ـا لو كان جلمد

كلما قلت تناهى

ألمي أصبح أزيد

كم يكون الصبرُ، واللهِ

تقضَّى وتبدد

(231)

ديوان البيتي: ص 15 - 25.

ص: 217

وإلى كم ذا التجافي

وإلَامَ البين والصد

يا ظبيَّ المنحنى عطفا

على مشتاق مكمد

فلقد أفرطت في البين

إلى أن طال وامتد

وعذولي فيك أغراك على

هذا وفنَّد

وسعى عندك حتى أخـ

ـرب الود وأفسد

فلئن أبعدت عَني

فاصطباري عنك أبعد

وإذا أرضاك ما بي

وترى في البحر مقصد

فتعطف بي واسأل

كيف حالي وتفقد

وتعهدني بطيف

منك في النوم المُشَرَّد

فلقد ذبت اشتياقا

وغرامي جاوز الحد

آه واضيعة عُمْرٍ

مرَّ بالعيش المُنكَّد

ورعى الله ليالي المنحنى

من كل معهد

وربوعًا هي فيها

لأبي الخير ابن أحمد

الخطيب الفاضل البحر

الذي لا يتحدد

عين أعيان ذوي العلياء

والقدر الممجد

من له همة عزم

لم تزل في الفضل تصعد

ومرامٌ كمرامي النجم

في المجد وأبعد

ومكان وفق ظن العقل

في الفخر مشيَّد

يعجز المنطق عنه

وهو سرًّا يتردد

كل فضل قيل فيه

فإلى الصحة يسند

وله منه دليل

وعليه الرأي يعقد

فهو في أفق سما

الشرف الباذخ فرقد

ص: 218

ذو فؤاد كاد

من فرط ذكاء يتوقد

ولسان ذرب في القـ

ـول كالسيف المهند

وأخو وُدٍّ به

ما زال فضلا يتعهد

قد أتَتْني منه أبيات

كما الدر المنضد

صرَّحت بالفضل عنه

أو هي الصرح الممرَّد

أفرغت معنى لطيفا

في قوارير زبرجد

فهي لو جسمتها

لم تك إلا ذوب عسجد

يضعف الإحساس عنها

لو مشت في جفن أرمد

سبكت من جوهر

وانطبعت في خد أمرد

من محيا يخجل الأقمار

ساجي الطرف أملد

فَأتت تُجْلى كزهر الرو

ض والخد المورد

سحر شعر قد أقام

العقل إعجابا وأقعد

يحسد المعنى عليه بعضـ

ـه والفضل يُحْسد

كل بيت منه في الصنعة

والإحكام مفرد

قد حكى في الحسن والجودة

حَسَّانَ وأجود

ونسيب فاق في فن الأغاني

صوت مَعْبَدْ

رَقَّ حاشاه من الركة والمعـ

ـنى الموَلَّد

وقريض بارد رقيـ

ـة محموم وأبرد

فهو سلطان القوافي

وبذاك العقل يشهد

كلما رمت أجاريه

تأخرت إلى غد

ومجال الفكر ضَنْكٌ

عنه والنطق مقيد

وكذا العتب على الأشغال

والوقت المبدد

ص: 219

وعلى حكم زمان غار

في الجور وأنجد

ما ثنى فيه وسادًا

الكريم لا ولا مد

يُرْفَضُ الحُرُّ ويُجْفا

ويكاد النذل يعبد

يا أبا الخير ولا زلت

لكل الخير مقصد

صدرت هذي مع التقصـ

ـير بالعذر المسدد

‌وصف ينبع:

نحن بالساحل من ينبـ

ـبع في المحنة والكد

قد ولينا مقعد الكذب

ولكن أي مقعد؟

خدمة لو كان فيها

الملك كنا فيه نزهد

في بلاد ما ترى فيها

سوى الراحة تفقد

وبها الجرذان والذُّبَّان

كالجند المجند

والندى والطَّلُّ والأوساخ

والطين الملبد

والبعوض الجم والبرغوث

ما لا يتحدد

كل يوم بظباها

يُحْجم الجسم ويُفْصد

ما تَهنَّى من أذاها

أحد قط بمرقد

مزقت نسخة عهد الصبر

لكن تتجلد

كل يوم ينقضى فيها

هو السجن المؤبد

إن من يخلص منها

فارق الحزن وعَيَّد

كيف لا يسجن فيها

كل من ينفي ويطرد

والذى فيها من الرجز

كثيرٌ أنْ يعدد

‌الأعراب:

وبها كل ملعون من

الأعراب مرتد

ص: 220

خارج عن لائقة

الإسلام والخير مجرد

مدَّع بالدين لكن

قبل أن يولد ألحد

ذرع بَغْى لَيْتَهُ

لو كان بالأسياف يحصد

أبدا كالذيب ما تلقـ

ـاه إلا يتعبد

لَا سُقِي وجها كوجه

القرد في القبح وأقرد

يشبه الصورة بالشيطان

في ثوبٍ مزند

تختشى منه على الإسـ

ـلام ما لم يتصفد

بارد الرأي ثقيل

لو يَمَسُّ الماء يجمد

لعنة الله عليه

لعنة تستغرق الجد

فهو للشر وللفتنة

قصدا يتعمد

وبكل الغشم والطغيان

والغي تفرد

وَبكاسات التراخى شـ

ـرب البغي وعربد

يطلب الحاجة بالعنـ

ـف وأيضا يتهدد

فإذا لم تقضها بالفـ

ـور ولَّى تووعَّد

وإذا أرضيته من بعد

ذاك المنع والرَّد

بشَّ واهتزَّ ارتياحا

بعد أن كان تمرَّد

وأتى يطلبك العذر

ووجه العذر أسود

هؤلاء القوم حشو

النار والويل الخلد

أفسدوا في الأرض دهـ

ـهرا وحسام الملك مغمد

ولهم سوء التحامِي

وطَّد الأمر ومَهَّد

ربما عمَّا قليل

يملكون الناس عن يد

ولقد كان تَلَقِّيهم بحدِّ

السيف أرشد

فيخرُّون إلى الأذقان

من ذلك سُجَّد

ص: 221

وعسيرٌ منعك الإنسان

عما قد تعود

كل هذا الأمر في ذمة

من فيه تَقلَّد

جُل ما نسأله منك

الدعا في كل مشهد

بتجلى كل كرب

لجميل الصبر أنفد

فعسى ينحل باللطف

عسير قد تعقد

وقريب فرج الله تعالى

كأن قد

وإلى علياك سارت

هذه تُتْلى وتسرد

وفي بالتكرار في العـ

ـود إليكم سَتُرِّدَّدْ

والأعادات حميد

فعلها والعود أحمد

فافترعهن عذارى من

بنات الفكر خُرَّدْ

رافلات في مروط الحسـ

ـن تيهًا تتأود

لم تزل توليك مدحا كلما

تروى وتنشد

وسلاما يتغشَّاك

مدى الأيام سرمد

من ختام المسك مختـ

ـوم به نسعى ونحفد

ما تغنى سحرا في الأيـ

ـك شحرور وردَّد

(232)

معارضة ابن النحاس نظمها في عام 1143 هـ.

وللبيتى قصيدة في ينبع يعارض بها قصيدة ابن النحاس الشهيرة والتي مطلعها: رأى اللوم من كل الجهات فراعه. يقول البيتى:

رأى البق من كل الجهات فراعه

فلا تنكروا إعراضه وامتناعه

ولا تسألوني كيف بت فإني

لقيت عذابًا لا أطيق دفاعه

(232)

ديوان البيتى: 21/ 26.

ص: 222

نزلنا بمرسى ينبع البحر مرة

على غير رأي ما علمنا طباعه

نقارع من جند البعوض كتائبًا

وفرسان ناموس عدمنا قراعه

والقصيدة طويلة، وهي لا تخرج عما ورد في قصيدته السابقة وفي رسالته الطويلة المسجوعة للخطيب أبي الخير، وبعد أن أطال في وصف المعاناة التي كان يعانيها في ينبع مع البق والناموس والفئران والبرغوث، ذكر الأعراب والبدو فقال فيهم:

وأصبحت في دار المشقة والعنا

أخالط أوغاد الورى ورعاعه

وكلبًا من الأعراب يعوي كأنه

يريد إذا لاقى الأمين ابتلاعه

فلو صاح فوق الصخر خَرَّ لوقته

وأبصرت من ذاك الصياح انصداعه

براه إله الخلق للناس نقمة

وقَدّ من الصخر الأصم طباعه

فلا رحم الرحمن أرضًا يحلها

وباعد عنَّا بالسنين انتجاعه

ثم يقول:

ومن كل جبار عنيد يرى الورى

عبيدا لديه والبقاع بقاعه

شقي عصى الرحمن في كل أمره

ومال إلى شيطانه وأطاعه

ويخاطب الحكام فيقول:

فقل لرعاة الوقت إن نعاجكم

أتاح لها ريب الزمان سباعه

فهل لكمو في لَمِّ شمل الذي بقى

برأي بديع يحسنون ابتداعه

وإلا فإن الأمر لله كله

ولا رأْي في خرق يريد اتساعه

ثم يقول محدثا عن نفسه:

سنونا عن الدنيا فكل نعيمها

متاع غرور لا تديم متاعه

وما اعتضت من كوني أديبًا وفاضلًا

لدى الناس إلا قوله وسماعه

ص: 223

ومن كان يرجو في الأمانة مغنمًا

فخلُّوا له أوضاعه وخراعه

وقولوا له هذاك ينبع حاضرا

لمن رام يبلوا ضُرَّه وانتفاعه

فكم كاتب أفنى اليراع كتابة

وَمَلَّ وألقى في التراب يراعه

ثم يقول:

وكم بدويٌّ داسه فوق بطنه

ومزَّق ما بين الأنام رقاعه

ومن جاءكم منا مع الليل شاردا

فذاك لهولٍ واقع قد أراعه

ومن يمتنع عن خدمة مثل هذه

فلا تنكروا إعراضه وامتناعه

فما يكسب الكيال إلا غباره

ولا الكاتب المسكين إلا صداعه

(233)

هذه القصيدة كما ذكرنا نظمها البيتى في عام 1143 هـ ومشروح في الديوان أمامها مايلي:

طالما هرب الأمين من ظلم الجمَّالة واختفى ورجع هاربًا إلى المدينة، وطالما حبس شيخ العرب عليه الحبوب من الكيل ليسجنه عنده، ولم يجد من ينصره إلا الدراهم وكل ذلك من ضعف حكام المدينة وعدم التعريف بمثل ذلك.

ونفهم من هذه النبذة أن البيتي كان يقوم بعمل - الأمين في ينبع - كما ينص على ذلك الأبيات المثبتة آنفا والتى يقول فيها:

ومن كان يرجو في الأمانة مغنمًا

فَخَلُّوا له أوضاعه وخراعه

وقولوا له هذاك ينبع حاضرا

لمن رام يبلو ضرَّه وامتناعه

(233)

ديوان البيتي: ص 23، 27، 28.

ص: 224

ونفهم كذلك أن الأمين كان مغلوبًا على أمره مع الأعراب، ومع شيخهم الذي كان لا يتورع عن حبس الأمين وحبس الحبوب، فلا يستطيع الأمين إطلاق نفسه إلا ببذل المال لهذا الشيخ.

ونفهم كذلك أن البيتي طالما ضاقت نفسه بما يلقى في وظيفة الأمانة هذه فترك ينبع هاربًا إلى المدينة ونفهم كذلك أن البيتي بقى في ينبع بضع سنين فهو قد أرسل رسالته إلى الخطيب أبى الخير في عام 1140 هـ، ونظم هذه القصيدة في عام 1143 هـ.

وللبيتي قصيدة ثالثة في ينبع بعث بها إلى الشيخ أبي طاهر بن الشيخ إبراهيم القوراني تلميذ الشيخ أحمد القشاشى، يقول البيتي:

فأرسل إليّ الشيخ يعاتبنى في استصحابي كتب الوقف المحبوسة على المدينة خاصة في عتب خلطه بالهزل، وتنسمت منه عين الرضا فكتبت إليه بهذه القصيدة وهي:

أشجى صدوحك في الرياض فرجعي

واروي لنا خبر اللوى والأجرع

وترنمي بحديث من سكن الغضا

وحديث أشجاني به وابكي معي

فعسى البكى يطفي لهيب جوانح

طويت على حالَيْ ضنا وتوجع

وإذا خلا ما في ضميرك من هوى

فخذي حديث صبابتي وتسمعي

ثم يقول:

لله بدر في الغلالة طالع

أبدا إليه يا حمام تطلعي

فتان، ليليَّ الذوائب، قرطه

كالنجم يخفق فوق جيد أتلع

كم قد شرحت له الصبابة والجوى

بلسان سقمي في رسائل أدمعي

ويتخلص البيتي من الغزل فيصل إلى مدح الشيخ أبي طاهر

ص: 225

فيسبغ عليه من الأوصاف ما تميز به هذا العصر من مبالغات في الثناء فيصفه بأنه:

علم الهدى، إنسان عين زمانه

الكامل الحبر التقي المتورع

محيي علوم الدين حافظ سره

المكنون، جابر شُعبه المتصفع

جمع الحديث مع القديم دراية

في قلب يقظان ذكي لوذعي

ثم يصل إلى الاعتذار عن اصطحابه لكتب الوقف إلى ينبع فيقول:

ونما إليَّ اليوم أنك واجد

عتبا عليَّ لأجل أخذ المجمع

فأردت أوضح وجه عذري والذي

لذي ألجا إلى ذاك الفظيع الأشنع

وأجل عذرٍ لي هنالك أنني

أصحبته ثقة بفضلك لي معي

خِلَّا أنيسًا للغريب لعله

ينجو به من هول وحشة ينبع

في بلدة كابدت أنواع العنا

والبؤس فيها في شهور أربع

ثم يقول في وصف حشرات ينبع:

لحم على وضم البعوض مشرع

أُمسي وأصبح فوق ذلك مضجعي

وعذاب برغوث وقمل واقع

مع ذاك يفتك بي كفتك المبضع

ويستمر البيتي في وصف ينبع وحشراتها كما عهدنا من قبل ثم يصف حالة الأمن مع الأعراب فيقول:

وهناك أعراب أشد نكاية

للقلب منها في عنا متنوع

يردون قلعة ينبع ورد القطا

بين القواضب والرماح الشُّرَّعِ

فهناك كم من صيحة لهموا بها

تدع الشواخ كالطلول الخُشَّع

ولكم سيوف مصلتات جهرة

فيهاوم قلب بهنَّ مصدع

ص: 226

ومواقف ثبت الأمين لبأس

بسلاخ ذلٍّ مَعْهُمُ وتخضّع

بين الرجا واليأس لم يك بينه .. والموت إلا قدر عرض الإصبع

ثم يقول:

كيف السبيل إلى الخلاص فقد وهي

جَلَدي وما أجدى علي تشجعي

لابد من فرج قريب ها أنا

أدعو له المولي القريب إذا دعى

فإليكما أخبار بدو من فتى

طاف البداوة فوق ظهر الأصمعى

ما غادرت بيتا تنظم دره

إلا بمعنى من مديحك مترع

(234)

بعد هذا الوصف السهب لما ورد في ديوان البيتى عن ينبع يحسن بنا أن نتعرف على أحوال ينبع في كتب المؤرخين، لنرى إن كان في هذه الأحوال ما يوجب هذا الهجاء المقذع، ويستدعي هذه الأوصاف المنكرة التي أوردها البيتي في شعره ونثره، ولا أكتم القارئ أن ما ورد في ديوان البيتي عن ينبع قد دفعنى دفعا إلى تتبع أخبار بلاد ينبع بقسميها ينبع النخل، وينبع البحر، حتى تجمَّع لديّ كتيب صغير في تاريخ بلاد ينبع لو أننى أدرجته في هذه الترجمة لطال بها مجال القول، ولهذا فإني أجتزئ بذكر ما يتعلق بأحداث ينبع في عصر البيتي وهو القرن الثاني عشر الهجري، هذه الأحداث التي وصفها لنا البيتي شعرا ونثرا ونمهد لذلك بموجز تاريخي عن بلاد ينبع.

يقول الأستاذ حمد الجاسر في كتابه القيم "بلاد ينبع":

ينبع هذه التي يدل اسمها بصفة المضارع على وجود ينابيع للماء

(234)

ديوان البيتي: ص 24، 25، 28، 29.

ص: 227

بها هي في الواقع ينبعان، ينبع النخل وهذه هي التي تفيض فيها الينابيع وعيون الماء، وينبع البحر وهي الميناء على شاطئ البحر الأحمر.

أما ينبع النخل فهي واحة مياهها كثيرة وهي مقرُّ عرب جهينة يتبعها نحو عشرين قرية آهلة بالسكان

(235)

، ذكروا أن فيها تسعة وتسعين عينا، وتقول بعض الروايات: أن بها مائة وسبعين عينا

(236)

. وقد عُرِفَتْ ينبع النخل منذ صدر الإسلام فقد غزا النبي صلوات الله وسلامه عليه العشيرة، وهو موضع بينبع ولم يَلْقَ كيدًا، ولرسول الله صلوات الله وسلامه عليه مسجد بالعشيرة كان معروفًا إلى عهد قريب، وقد أقطع الرسول الكريم عليًّا - ضى الله عنه - بذي العشيرة وكان موضع هذا الإقطاع قرب عين البركة، بل كانت عين البركة من بقية عيون هذا الإقطاع، واشتهرت العشيرة بجودة التمر بحيث يفضل تمرها على سائر تمور الحجاز إلا الصيحاني بخيبر، والعجوة بالمدينة

(237)

. ولينبع شهرة كبيرة في كتب التاريخ في حوادث صدر الإسلام لوقوعه على طريق القوافل التجارية بين الحجاز واليمن، وكانت ينبع وما حولها ميدانا لمناوشات محميرة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبين قريش وبعض القبائل التي كانت تسكن تلك النواحى، ومن تلك الغزوات، غزوة العشيرة، وغزوة بوط، وسرية العيص

(238)

.

(235)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 116.

(236)

نفس المصدر: ص 24.

(237)

نفس المصدر: ص 10.

(238)

نفس المصدر: ص 17، 18.

ص: 228

وقد اشترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عيونا أخرى في ينبع النخل فامتلك عين بولا

(239)

، واشترى ضياعًا أخرى في ينبع، اشتهر منها ضيعتان، البغيغة، وعين أبي نيزر، واحتفر فيها عيونًا أخرى، كما أقطع عمر بن الخطاب - ضى الله عنه - عليًّا قطائع أخرى في ينبع

(240)

. ثم أوقف علي - ضى الله تعالى عنه - ضيعتيه المعروفتين أبي نيزر والبغيغة على فقراء المدينة وابن السبيل، وجاء في نص الوصية لا تباعا، ولا تورثا حتى يرثهما الله وهو خير الوراثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين فهما طلق لهما ليس لأحد غيرهما

(241)

. وكان إيقاف هاتين الضيعتين وما تركه علي - رضي الله تعالى عنه - في ينبع سببا في استقرار ذريته بينبع، فاستقر بها أحفاده، واشتهرت في التاريخ باسم سويقة ينبع .. وقد تعرضت سويقة هذه للتخريب وقطع النخيل وهدم البيوت مرَّات منها:

ما حدث لها بعد القضاء على ثورة النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي ثار في المدينة واستولى عليها أيام المنصور العباسي في سنة 145 هـ ثم قتل في شهر رمضان من تلك السنة وخربت سويقة وعرقب نخلها وصودرت أموال محمد وآله من الطالبيين ثم أعادها المنصور إليهم، ثم انتزعها المأمون من يد آل جعفر وردَّها إلى أولاد فاطمة - ضى الله عنها - وعوَّضهم عنها

(242)

.

(239)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 17، 18.

(240)

نفس المصدر: ص 27.

(241)

نفس المصدر: ص 22 - 27.

(242)

نفس المصدر: ص 24.

ص: 229

وجرى لسويقة في عهد المتوكل سنة 244 هـ مثلما جرى في عهد المنصور حينما ثار محمد بن صالح على العباسيين فسجنه المتوكل ثلاث سنين ثم أطلقه ومات في أيام المقتدر ..

والحديث عن ينبع النخل وأخبار الطالبيين بها كثيرة ليس هذا محل ذكرها، وقد خرج من ينبع الشريف قتادة الذي أسس دولة الأشراف في مكة في القرن السادس الهجري، وقد عظم أمر قتادة حتى خشيه العباسيون وطمح ببصره إلى المدينة فأراد الاستيلاء عليها وطمح ببصره إلى الخلافة وانتهى أمره باغتياله من فيل ابنه حسن الذي استولى على مُلك أبيه سنة 617 هـ

(243)

.

إن استقرار الطالبيين بينبع النخل وتوليهم الأمور فيها جعلهم يستعينون بسكان تلك الجهات من البوادي حتى قويت شوكتهم وحالفهم وانضم إليهم أفخاذٌ كثيرة من قبيلة جهينة وصاروا يعرفون ببنى إبراهيم، وقد صار لبنى إبراهيم صولة في القرن العاشر الهجري وما بعده

(244)

.

كان الأمن مختلا في الحجاز بسبب تسلط الأعراب على طرق الحج، ووضع الأمراء الضرائب على الحجاج وكذلك بسبب اختلاف الأمراء فيما بينهم ومحاولة انتزاع الإمارة من بعضهم البعض مما يطول

(243)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي، نقلا عن كتب تاريخية كثيرة: ص 224 - 230.

(244)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 28، 29.

ص: 230

شرحه، ونوجز هنا حالة الأمن في القرن الثاني عشر الهجري الذي ولد فيه البيتي وعاش في ينبع فوصفها الوصف الذي أوردناه آنفًا.

‌حالة الأمن في القرن الثاني عشر الهجري:

وصف الشيخ عبد الغنى النابلسي في رحلته إلى الحجاز ينبع وكان قد وصل إلى ينبع البحر في شعبان عام ألف ومائة وخمس (هجرية) فقال:

وصلنا بعد الظهر إلى ينبع البحر، ونزلنا هناك في القلعة على شاطئ البحر، ولا ماء هناك إلا الماء الذي يجلب في وقت الصباح، ويباع، وكأنه سمي الينبع تفاؤلًا بنبع الماء فيه، أو لنبع الأرزاق المجلوبة إليه من البحر مع ملوحة فيه

(245)

.

ثم يصف النابلسي حالة الأمن في ينبع فقال:

ثم إننا سألنا عن السير إلى المديمة المنورة فأخبرونا أن الطريق مخوف، وأن العرب عرب - حرب - واقفون في وادي الصفراء، يمنعون كل من سار إلى المدينة، وقد ظهرت منهم للزائرين خصلة قبيحة كمينة، وأن لا محيص إلا بالسفر إلى جوار سعد بن زيد الهاشمي أمير الحجاز، فإنه يقدر على إنفاذنا إلى تلك الجهة الجوزاء، وأما على غير هذا الوجه المذكور فإنه لا يمكن أصلا كما قال الشاعر المشهور:

أيا دارها بالخيف إن مزارها

قريب ولكن دوان ذلك أهوال

(245)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 79.

ص: 231

ويقول النابلسي:

إنه عزم ومن معه السفر إلى ينبع النخل فقال: ركبنا وسرنا فلمّا خرجنا إلى البرية، وإذا برجل بدوي مقبل يرقص على ناقة له، حتى دخل ينبع البحر، ثم خرج من ينبع البحر فارس يركض بفرسه فوصل إلينا وقال لنا:

جاء من حضرة سعد بن زيد كتاب إلى حاكم ينبع، لا تتركوا الشيخ وجماعته يخرجوا إلينا وحدهم فإن الطريق مخوف بيننا وبينكم، أرسلوا مع الشيخ وجماعته عبد الله بن عمرو الهاشمي أحد أشراف الحجاز يأتي به إلى جهتنا.

ويقول النابلسي: إنه رجع ومن معه تلك الليلة إلى ينبع البحر، ثم خرج في اليوم التالي ومعه الشريف عبد الله بن عمرو الهاشمي يصاحبه رجلان على ناقتين فوصلوا في صحبتهم إلى ينبع النخل

(246)

.

‌الشريف سعد بن زيد يحرق سويقة:

ويقدم لنا الشيخ النابلسى وصفا حيًّا لغزو شريف مكة سعد بن زلد لقرية سويقة في ينبع النخل وإحراقها وعقر نخيلها فيقول:

في يوم الأحد 22 شعبان سنة 1105 هـ ركبنا مع الشريف إلى أن وصلنا قرية من قرى ينبع النخل تسمى سويقة من منازل بنى إبراهيم أخي النفس الزكية، وقد وجدناها خالية ليس بها أحد، وقد رحل

(246)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 82 - 86.

ص: 232

أهلها، وخرجوا على الشريف سعد بن زيد، لأنهم حالفوا قبائل حرب فذهبوا معهم يساعدونهم على قتاله، يقول الشيخ النابلسي:

وهذه القرية فيها ماء جارٍ ونخل كثير، وكان له حِمْلٌ كثير في هذه السنة، والعراجين بعد، ما نضج بُسْرُها فجلسنا على حافة ذلك الماء الجاري، وشربنا القهوة مع الشريف وولده، وقد أمر - حفظه الله - بحرق بيوت القرية وإننا لنرى النار تتأجج في جدرانها التي من أخشاب النخل اليابس، والهواء يزيدها تأجُّجًا والتهابًا، وقد أمر بقطع النخل، فيصعد العبد الأسود إلى أعلى النخلة فيقطع جارها وعراجينها، فتيسقط العراجين إلى الأرض كل عرجون فيه البُسْر الأخضر الذى لم ينضج، مقدار العشرة الأرطال الشامية، أو أكثر أو أقل

(247)

.

هذا الوصف الحي الذي أورده الرحالة الشيخ النابلسى لحالة الأمن في ينبع يقدم لنا صورة لتسلط الأعراب على طرق الحج، فلا يستطيع الحجاج اجتياز الطرق إلا في حماية جهة قوية تحميهم من تعرض الأعراب لهم بالنهب والفتك، ويبدو أن أمير مكة في ذلك الزمان الشريف سعد بن زيد، كان قد علم بوصول الشيخ النابلسى وجماعته من الشام إلى الحج، فأمر بخروجهم في حماية بعض الأشراف كما أورد النابلسى تفصيله، وهكذا كان. أما وصف النابلسى لحريق قرية سويقة وعقر نخيلها فهى تقدم لنا صورة أخرى، لما كانت عليه الحال من اختلاف بين الأشراف والأمراء، وانضمام بعض القبائل إلى بعضهم،

(247)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 82 - 86.

ص: 233

ومحاربة بعضهم البعض، وكل هذا يصور لنا اضطراب حالة الأمن وما ينشأ عنه من المصاعب والويلات.

ويقدم لنا الأستاذ عبد الكريم الخطيب صورة لهذا الاختلاف في كتابه "تاريخ ينبع" فيقول:

‌أمير ينبع يهب غلال الصدقة ويوزعها على مناصريه:

كان أمير الينبعيين في عام 1116 هـ سعيد بن سعد بن زيد في العهد العثماني وهو الأمير الذي ثار على أمير مكة الشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى البركاتي، حينما اتصل بقبائل حرب في ديارهم، وطلب منهم مناصرته فلم يستجيبوا له واتصل بقبيلة جهينة من منطقة الينبعيين فناصروه، واحتل بهم ينبع الميناء، ونهب ما فيها من غلال الصدقة الخاصة بأهل مكة المكرمة، ووزعها على مناصريه، فوجه إليهم أمير مكة جيشًا إلى ينبع فكانت معركة كبيرة هزم فيها ومن معه وكان ذلك في 14 جمادى الأولى سنة 1116 هـ

(248)

.

أقول: لعل الصحيح أن الغلال التي نهبت هي غلال الصدقة الخاصة بأهل المدينة لأن غلال مكة ترسل إلى جدة، وغلال المدينة ترسل إلى ينبع لتخزن بها ثم ترسل إلى المدينة.

وجاء في كتاب "بلاد ينبع" للأستاذ حمد الجاسر ما يلي:

‌اختلال الأمن في عهد الدولة التركية:

وفي عهد الدولة التركية ضعف شأن الحج بسبب عجز الدولة

(248)

"تاريخ ينبع" لعبد الكريم الخطيب: ص 75، 76.

ص: 234

التركية عن حماية طريق الحجاج المار بينبع يضاف إلى هذا اختلال أمر الدولة التركية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين حتى آل الأمر إلى انقطاع مجئ الموكب الرسمي للحجاج بطريق البر، وضعفت تلك البلاد التي كانت حياتها كثيرًا ما تقوم على قدوم الحجاج إليها

(249)

.

‌مستودعات الحبوب في ينبع:

أما بالنسبة لمستودعات الحبوب التي أوردنا خبر إغارة الأمير سعيد بن سعد بن زيد عليها ونهبها وتوزيعها بين أنصاره فيقول عنها الأستاذ حمد الجاسر:

لقد اتخذت الدولة الجركسية، وكذلك الدولة التركية ميناء ينبع طريقًا لوصول الحجاج، وكذلك لوصول الجرايات المقررة من الأرزاق للمدينة، فبنت هناك المستودعات لحفظ هذه الحبوب، يقول الأستاذ حمد الجاسر وكأنه يعتذر عما أورده البيتي من وصف بعوض ينبع وحشراتها.

ولذلك كثرت الحشرات بسبب هذه المستودعات للحبوب التي تُخزَّن هناك، بعد وصولها من مصر حتى يتسنى إرسالها للمدينة فتتولد تلك الحشرات في المستودعات، ومن أثر رطوبة الأرض تتكاثر، يضاف إلى ذلك عدم عناية من يتولون أمر تلك الحبوب بنظافة أماكنها

(250)

.

(249)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 207.

(250)

نفس المصدر: ص 97.

ص: 235

‌سور ينبع:

كانت ينبع محاطة بسور كما هو شأن المدن في تلك القرون وقد ورد في كتاب "ينبع" للشيخ حمد الجاسر أن ينبع كانت محاطة بسور أمر بهدمه الشريف سعد بن زيد صاحب مكة في سنة 1079 هـ. وقد جُدِّد بناء السور في سنة 1126 هـ جدده عثمان أغا بأمر دار السعادة، وقد وصف إبراهيم رفعت باشا سور ينبع في القرن الرابع عشر فقال: ويحيط بها سور به باب محفور في الجهة الشمالية وهذا السور بناه دولة المشير عثمان باشا الحاكم العادل الذى منع الأعراب من الدخول في هذه البلدة مسلحين، بل يضعون سلاحهم في الخفر، ثم يدخلون ويأخذونه بعد الخروج، وهذا السور بنى في سنة 1303 هـ

(251)

.

أقول: وهذا يدل على أن ينبع كانت تتعرض لعدوان الأعراب، مما اضطر الدولة العثمانية أن تأمر بإعادة بناء السور، ومنع الأعراب من الدخول إلى البلدة بأسلحتهم.

هذا الذي نقلناه مما كتبه المؤرخون والرحالون عن ينبع في القرن الثاني عشر يقدم لنا صورة مرعبة محزنة عن حالة الأمن في طرق الحجاج، وتسلط الأعراب واختلاف الأمراء وهو العصر الذي عاش فيه الشاعر جعفر البيتي فوصف أحواله شعرًا ونثرًا، ونستطع الآن أن نقدم صورة جميلة تلطف من شعور القارئ إزاء الصور السابقة الكريهة، فقد وصف الشيخ النابلسى كرم امرأة عربية من عرب جهينة في بادية ينبع. فقال:

(251)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 107.

ص: 236

‌مثال من كرم المرأة العربية في رحلة النابلس:

فلما أصبحنا في يوم الاثنين الخامصر عشر ومائتين وهو اليوم التاسع من شعبان، وركبنا وسرنا على بركة الله تعالى، وقد نفذ زادنا، ولم يبق معنا ما يمضغ أو يساغ، وما على الرسول إلا البلاغ، ولكن قرب المزار، فاتخذنا من التوكل شعارًا، ومن التسليم إزارًا، إلى أن صار ضحوة النهار، فأشرفنا من بعيد على بيوت من الشَّعر لعرب هناك نازلين في مكان يسمى - النباه - بفتح النون المشدَّدَة، وفتح الباء الموحدة بعدها ألف وهاء - فقلنا نباه من النباهة، وبيوت من البيتوتة، وعرب من الأعراب، الذي هو الكشف والبيان، وشعر من الأشعار، ونحن في حكم بني هاشم حتى دنونا من الخيام، ونزلنا على العرب منهم مؤذنين بسلام، فإذا هناك امرأة من جهينة وبنوها صبية صغار في ذلك الحي متفرقين، فقلنا هنا يحصل المرام، وعند جهينة الخبر اليقين، فلما استقر بنا المكان قامت امرأة إلى نار أضرمتها، وتلك الصبية جمعتها، وجاءت إلينا، ورحبت بنا، ودعتنا إلى بيوتها، واعتذرت بغيبة رجالها، ونفي ثبوتها، وأجلستنا في بيوت الشعر، ثم عملت لنا القهوة وصنعت لنا الخبز على طريقة أهل البرّ والبدو، وجاءت لنا بشاة وقالت: اذبحوها، وطبختها لنا وقدمتها بين يدينا مع الخبز من البُرِّ المرسل إلينا، وقدمت إلينا بطيخا أحمر، فحملنا معنا ما بقي من اللحم المطبخ، وظهر لنا الزاد الذي كان في الغيب مضمر، وبقينا هناك إلى أن صلينا صلاة العصر بالجماعة، ثم ركبنا وسرنا .. إلخ

(252)

.

(252)

"بلاد ينبع" لحمد الجاسر: ص 760، 77.

ص: 237

‌الحالة السياسية في الحجاز في القرن الثاني عشر للهجرة:

أوردنا نتفًا مما ورد في كتب المؤرخين عن الحالة في بلاد ينبع، ونقدم للقاريء صورة من الأحوال السياسية العامة في الحجاز في هذا القرن.

كان الحجاز تحت حكم الدولة العثمانية، وكان مرتبطًا إداريًّا بمصر التي كانت تتبع الدولة العثمانية كذلك، وكان الحكم مزدوجا فهناك الوالي التركي الذي تعينه السلطنة أو يعينه والي مصر وإقامته غالبًا كانت في جدة، وإلى جانب الوالي التركي شريف مكة الذي يتولى أمور الحكم الداخلي وشئون البادية وما إليها، وكانت الشئون المالية تحت إمرة الوالي التركى، وكان لشريف مكة نصيب من واردات الجمارك، وكان لشريف مكة وزير في جدة لاستلام هذا النصيب وإرساله إلى شريف مكة، وكان التنافس بين الوالي التركي وشريف مكة على السلطة ينعكس على أمور البلاد وأحوالها .. وكان هناك تنافس أشد بين الأشراف على إمارة مكة، وكان لهذا التنافس مظاهر شتى، يستعين فيها المتنافسون بولاة الأمر في مصر أو حتى في استانبول، ويبذلون الأموال والهدايا والألطاف لتحقيق مآربهم، والانتصار على منافسيهم، وكان هذا التنافس يتخذ في كثير من الأحيان مظاهر حربية عنيفة يُجرَّد فيها السلاح ويحارب البعض البعض الآخر، وكان هذا كله ينعكس على حالة البلاد ومرافقها فيصيب الناس والحجاج من هذه الأحداث الكثير من المعاناة، وننقل هنا من كتاب "أمراء البلد الحرام" صورة مصغرة لحادثة واحدة تصور لنا الحالة السياسية أصدق تصوير.

ص: 238

‌ولاية الشريف أحمد بن غالب سنة 1099 هـ:

وفي سنة إحدى ومائة وألف في أوائل المحرم تنافس الشريف أحمد بن غالب مع جماعة من الأشراف ذوى زيد فخرجوا من مكة مغاضبين له، ولم يبق بمكة منهم إلا السيد عبد المحسن بن الشريف أحمد بن زيد، ووصلوا إلى ينبع، واستمالوا العرب، واتفقوا على تولية الشريف محسن بن الحسين بن زيد، ونادوا له بشرافة مكة في ينبع وأخذوا ستمائة أردب حَبّ كانت هناك للشريف أحمد بن غالب كتبوا إلى صاحب مصر يعرفونه بإخراج الشريف أحمد لهم من مكة، وخرج جماعة من الأشراف من ذوي عبد الله، وأخذوا القنفدة ومنعوا الزَّالة، وانقطع طريق اليمن وكثر المقطاع في طريق جدة، وكثرت السرقة بمكة ووقع القتل ليلًا ونهارًا، وكثرت أقاويلٌ بين العامة في ذلك.

وتنافر السيد أحمد سعيد بن مبارك بن شنبر مع الشريف أحمد بن غالب، وقبل ذلك نافره أيضا ذوو الحارث فتتابع الأشراف المنافرون في الخروج من مكة واجتمعوا على السيد أحمد بن سعيد بن مبارك بن شنبر، ونزلوا الحسينية، وأراد الشريف أحمد بن غالب الركوب عليهم فلم يتيسر ذلك.

ثم جاءه الخبر أن نودي في جدة للشريف محسن بن الحسين بن زيد، فاضطرب حال الشريف، وفرَّق العسكر في المدارس والطرقات وشعاب مكة، واضطرب الناس لذلك، ثم اجتمع العلماء كتبوا محضرًا لصاحب جدة يسألونه عن هذا الأمر، ونزل به مولانا السيد عبد الله بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي، ومعه السيد عبد المحسن بن هاشم بن محمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي، ومعهم جماعة

ص: 239

من القاضي ومن أصحاب البلوكات - الفرق النظامية في الجيش - فرجعوا وأخبروا بعدم الوفاق، ولم يزل الأمر يتفاقم.

وسبب انقلاب صاحب جدة على الشريف أحمد بن غالب توليته وزارة جدة لابن حميد القرشي، فإنه ورد جدة وجعل يناقض الباشا في كل أمر إلى أن تكدَّر خاطره بعد صفائه، فرجع لغدره بعد وفائه.

ثم جاء الخبر من الطائف بأن السيد حسن بن أحمد الحارث نادى في الطائف للشريف محمد بن الحسن بن زيد، وتنادت الأشراف الذين مع السيد أحمد بن سعيد إلى البلد، وأخذوا إبلًا للشريف أحمد بن غالب نحو خمسمائة ناقة من السعدية، ولم يزل مولانا الشريف في التحرز وأمر عسكر اليمن بملازمته في الأروقة التي خارج المسجد ليلًا ونهارًا.

وفي عشرين من جمادى الثانية خرج من مكة السيد محمد بن حمود مغاضبًا أيضًا ونزل العابدية، كتب أهل مكة عرضًا إلى صاحب مصر، وإلى أبواب السلطنة، ينهون فيه ما وقع من صاحب جدة، أكثروا من التشنيع عليه.

وفي سادس رجب عقدوا مجلسا في الحطيم حضره جاعة من الأشراف والعلماء والقاضي، فجعل مولانا الشريف يشكو ما وقع من صاحب جدة في حقه، وإنه كان سبب تفرق الكلمة وتفحّل الأشراف عليه، وقد انقطعت السبل، وقد نادى في جدة للشريف محسن بن حسين بن زيد من غير أمر السلطنة، وأن مطلوب أن تكتبوا لي حجة في تجويز مقاتلته، لئلا تنقم عليّ السلطة، فقال له كبير أغا سردار العسكر:

ص: 240

يا شريف نحن محافظون لمكة نذود عنها العدو، ونقاتل حتى نقتل، وأما الأشراف فهم بنو عمك لا ندخل بينكم، وأما الباشا فنسأله عما فعل، فإنه لا يفعل شيئًا من ذاته في بلد السلطان، فاتفق الأمر على أن يرسلوا إلى صاحب جدة رسولا من القاضي، وانقضى المجلس عن شناعة ظاهرة، فأرسل القاضي رسولا إلى صاحب جدة فعاد بلا مراد، وفي هذا اليوم أخرج الشريف بعض المدافع إلى جهة الشبيكة، وبعضها إلى جهة المعلاة، وبعضها إلى بركة ماجن من جهة اليمن في كل جهة مدفعان.

وفي ثامن عشر رجب جاء الخبر أن الشريف محسن بن حسين بن زيد ومن معه نزلوا الزاهر، وأن السيد أحمد بن سعيد بن مبارك بن شنبر في أول القوم، وأطلق الصنجق - رئيس اللواء أو رئيس حاملي الأسلحة - سبع مدافع لما نزل الزاهر.

فركب من بقي مع الشريف أحمد من الأشراف وغيرهم، وخرجوا إلى جرول ومعهم بيرق عسكر اليمن، وأخرج إلى جهة المعلى جماعة من العسكر، وجماعة إلى جهة البركة والشريف أحمد بن غالب في بيته.

وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أرسل الشريف محسن بن حسين بن زيد جماعة من الأشراف فدخلوا مكة وقصدوا قاضي الشرع، واستدعوا رءوس البلوكات، وأظهروا صورة بيوردي باشدي، وطلبوا من القاضي تسجيله فامتنع، ومضمونه تولية الشريف محسن وطلب القاضي نفس البيوردي الباشدي.

وثارت الإنكشارية لعدم تنفيذ البيوردي الوارد صورته من الباشا،

ص: 241

وهجموا على القاضي، وإعانتهم العامة لما لحقهم من التعب، فهرب القاضي من سطح المدرسة فلم يجدوه، فنهبوا ما وجدوه، وأطلقوا البنادق على المدرسة، وجاءت طائفة من جماعة مولانا الشريف ودخلوا المسجد، ورموا في وسط الحرم، وتطاردوا ساعة، ودخل العسكر مدوسة المفتي عبد الله أفندي عتاقي زاده، على أهله وعياله، وأرادوا قتله، ففرَّ منهم، واستتر عنهم، ثم أخرجوهم من الحرم بعد قتل بعض العبيد، وقتل رجل في المسجد من الهنود، وعزَّل السوق.

ثم جاء من جهة الشريف محسن بن حسين السيد عبد الله بن سعيد، واجتمع بالشريف أحمد بن غالب، ثم خرج من عنده، وأرسل الشريف أحمد لجماعة الشريف محسن بن حسين يطلب منهم أن يعينوا له رجلا يودعه طرائفه، فعينوا له السيد أحمد بن سعيد، وطلب مهلة عشرين يومًا يتجهز فيها.

ولما كان ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رجب خرج الشريف أحمد بن غالب إلى الحسينية قاصدًا جهة اليمن ومدة دولته سنة كاملة، وتسعة أشهر وعشرون يومًا

(253)

.

هذا ما ورد بشأن إمارة الشريف أحمد بن غالب في كتاب "أمراء البلد الحرام"، والواقع أن التنافس بين الأشراف كان يجعل الإمارة تنتقل من أمير إلى أمير ثم تعود إلى الأمير الأول، وقد أحصيت إمارة بعض الأمراء فوجدتها تتكرر المرة بعد المرة وإليك مثالًا لهذا التعدد:

(253)

"أمراء البلد الحرام" للسيد أحمد بن زيني دحلان: ص 150 - 153.

ص: 242

تولى الشريف سعيد بن سعد بن زيد إمارة مكة خمس مرات في التواريخ التالية:

العام

1099 هـ الولاية الأولى

(254)

.

1103 هـ الولاية الثانية

(255)

.

1113 هـ الولاية الثالثة

(256)

.

1116 هـ الولاية الرابعة

(257)

.

1123 هـ الولاية الخامسة

(258)

.

وتولى أبوه الشريف سعد بن زيد إمارة مكة أربع مرات بدأت أولاها في عام 1077 هـ وكانت أُخراها في عام 1116 هـ

(259)

ولا نريد أن نطيل الاستشهاد والاقتباس لئلا نخرج بالبحث عن غرضه.

ونعود إلى السيد جعفر البيتي لنقرأ معا شعره في بعض هذه الأحداث:

يقول السيد جعفر البيتي: وقلت على لسان أهل المدينة المنورة

(254)

"أمراء البلد الحرام" للسيد أحمد زيني دحلان: ص 147.

(255)

نفس المصدر: ص 157.

(256)

نفس المصدر: ص 167.

(257)

نفس المصدر: ص 170.

(258)

نفس المصدر: ص 212.

(259)

نفس المصدر: ص 192.

ص: 243

شكاية إلى الشريف مسعود بن سعيد ملك مكة المشرفة، وإنهاءًا لضررهم الواقع عليهم من الفتنة الكائنة سنة 1148 هـ:

قفوا تنظروا آثار ما صنع الظلم

وجوسوا خلال الدار تنبيكم الأكْمُ

قفوا بالرسوم الدارسات فربما

تحققتم منها وما نطق الرسم

قفوا نشتكي ما قد أصاب فإنه

عظيمٌ وأن الأمر حادِثه ضخم

على كل دعوى في الظلامة حجة

يصدقها التحريق والهدم والردم

إلى عدلكم يا آل زيد توجهت

وجوه شكايانا وعندكم الحُكم

إليكم يساق الأمر والنهي في الورى

وأنتم ملوك الأرض والسادة الشُّمُّ

إليكم وإلا فالسلام على الحمى

إذا حامت الأعدا عليه ولم تَحْمُوا

سلوا فلسان الحال من كل مسلم

أصيب ببلوى عنده خبر جَمُّ

سلوا كل دار بالمدينة ما الذي

لقينا فعند الدار من أهلها علِمُ

سلوها عن الهتْكِ الذي قد أصابها

قريبًا فمن لقياه في وجهها وسم

سلوها عن الأعراب كيف تسنمت

ذراها كيف النهب والهَتْك والغنم

كيف ارتقوا فوق المنائر وانتهوا

إلى غابة ينحط من دونها النجم

كيف أُعيدت وقعة الحرة التي

إلى هذه الأخرى تضاف وتنضم

يزيدية رُدَّتْ وحقك إنها

لفاقرةٌ أسبابها الجَوْرُ والغشم

ولولا رجال يخربون بيوتهم

بأيديهم ما أخربوها ولا هَمُّوا

وما عزموا في ذاك إلا برأيهم

ولو هَمُّوا ما كان عندهمو عزم

هموا جمعوا المال الحرام وأنفقوا

على البغي ذاك المال فاجتمع الإِثم

ولله كل الحمد إذْ كان حسرة

عليهم من الانفاق أعقبها الغرْم

ولم تر قدما من يعين بماله

على عرضه إلا الدنيُّ أو الخدم

أعانوا على السلطان أعداء ملكه

وشقوا عصا الإسلام جهرًا وما لَمُّوا

وقد زعموا أن الحميّة منهم

له وهي لا تخفى على عاقل وَهْمُ

ص: 244

فقل لهمُوا هل كانت السِّتَة التي

نقيم لها من مبتدا أمركم علم

وهل حضروا لما غدرتم عشية

وقطَّعتموا في السوق من لا له جرم

وصُلْتم جميعا بالبنادق بعدها

وحاربتموا من عنده حَرْبُكُمْ حتم

وهل طلبوكم للشريعة خيفةً

على الفتنة العمياء من أنها تنمو؟

وهل كان داعي الصلح يدعوا فتسمعوا

وتعصون إلا الحرب أم أنتم صُمُّ

وما ذاك إلا عن هوى وتغرض

يراه عيانًا فيكموا من له فهم

إلى الله نشكوا ما أصاب وإنها

أمور لها في الدين مذ صدرت ثلم

عسى في خبايا الدهر نصر معجل

يُرَمُّ به شعث الأنام ويلتمُّ

عسى حق مقتول أُصيب ويُتّمَتْ

أرامله حتى أضرَّ بها اليُتْم

على رغم من يهوى الفساد ويبتغي العنـ

ـاد ولم يَبْرَحْ إلى بدعة يسمو

عسى دعوة المظلوم حين دعا بها

أُجيبت عسى أجدت عسى نفذ السهم؟

لعل العذارى المحصنات يراهمو

غيور على العورات ذو نخوة شهم

عسى رافع هتك المحارم دافعُ الظلائم

عدلٌ بالرعية يهتم

عسى نافذ الأحكام والأمر فيصل

له نظر أعلا وآراؤه حزم

ومَنْ غَيْرَ مسعود يساعد بالمنى

ويُرْجى، وذاك الماجد البطل القَرْمُ

قريع العلا ملك الأباطح سيد الجحا

جح من تعنوا لعزله البهم

وقد جاء فأل الخير منه مساعد

شبيه اسمه يا حبذا الفال والاسم

ويا حبذا يعسوب ملك مقدم

له الصدر قدما مثلما قدمت بَسْمُ

لك الخير والبشرى لديك فإنني

أشم رياح النصر إن صدق الشمّ

فيا غوث ملهوف الفؤاد ومنتهى المر

اد وجالي الهم إن عظم الهمُّ

وأمْن مخوفات البلاد وملتجا

العباد ومن في عدله لهم قسم

أعد نظرًا في الحال والحادث الذي

جرى وانبرى من عُظْمه اللحم والعظم

وفي كل مسكين فقير ووالد

حزين ومولود أصيبت به الأمُّ

ص: 245

وأرملة جاعت ثلاثين ليلة

وعشرا بها الخوف المبرح والعُدْم

وقد بلغ السيل الزبا وتصرمت

جحيم وغى قد ذاب من حَرِّها الجسم

خُذ الأمر بالمعروف واحكم بما ترى

وشمِّر لحسم الداء ينفعنا الحسم

رضينا بما ترضى من الأمر كله

لنا وعلينا لا إباءٌ ولا رَغْمُ

لك العفو والحلم الذي أنت أهله

ولكنَّ في العاصين لا يحمد الحلم

فما صنعوه غير خافٍ وظلمهم

شهيد عليه عندك العرب والعجم

فلا تلتفت للعذر منهم فإنه

بقايا خداع جرحه ليس يندمُّ

ولو صدقوا لم يستبدوا برأيهم

لأمرٍ فظيع عنده العار والذَّمُّ

ولكنهم في زعمهم أن حكمهم

إليهم ولا أمرٌ عليهم ولا حُكْمُ

وقالوا كثيرًا مثل هذا وإنه

قبيح وأولى من إعادته الكتم

لقد رضعوا دَرَّ الحرام وإنه

عسير عليهم بعد طول المدا الفطم

وأعظم بلوى نالت الناس إنها

تضام، ولا عند الملوك بها علم

يخافون فرمانا على غير موجب

إذا ما شكوا ظلمًا فكلهم بُكْم

إذا حاولوا الإنصاف لم يسعفوا به

كيف يُرجَّى العدل والحكم الخصم؟

بقيتم لنا يا أسرة الهدْي إنكم

مصابيح في الظلماء يمحى بها الظلم

جزى الله كل الخير حسن صنيعكم

وما فعل التدبير والحزم والجزم

إذا دام فينا حكمكم والتفاتكم

فكلَّ ليالينا وأيامنا سلم

لكم غرر الأفعال من كل صالح

على الناس يروي ذلك النثر والنظم

على جَدِّكم أزكى الصلاة وبعده

عليكم وفيكم يحسن البدء والختم

(260)

هذه القصيدة الطويلة التي تجاوزت أبياتها الستين بيتا توضحها رسالة مخطوطة عنوانها "الأخبار الغريبة" في ذكر ما وقع بطيبة الحبيبة،

(260)

ديوان البيتي: ص 39 - 43.

ص: 246

من تأليف السيد جعفر بن حسن بن يحيى المدني نشرها العلامة الباحث المؤرخ الأستاذ الشيخ حمد الجاسر في مجلته القيمة "العرب" يقول فيها: وفي سنة 1148 هـ في زمن شيخ الحرم بشير بك أغا، أورد صاحب الرسالة خبر فتنة بسبب هذا الأغا، ملخصها قوله: وفي زمن شيخ الحرم بشير بك أغا، وقعت فتنة عطمة بين أهل المدينة وأغاوات الحرم، فأدخل شيخ الحرم الأعراب من قبيلة حرب المسجد النبوي، وأغلق أبوابه، وأطلعهم على المنابر، فصاروا يرمون الناس بالرصاص، فيصيب من حول المسجد، واستمر ذلك خمسة وأربعين يوما، ثم أورد قصيدة للسيد جعفر البيتي مطلعها:

قفوا تنظروا آثار ما صنع الظلم

وجوسوا خلال الدار تُنْبِكُمُ الأكم

(261)

وهي القصدة التي أوردناها كاملة، وهي تصور جانبًا من أحوال الناس في المدينة المنورة، حيث كان الأغوات يتولون مشيخة الحرم المدني بأمر من السلطان العثماني، وكانت تقع الاضطرابات في المدينة بسبب تسلطهم على مقدرات الناس، واستعانتهم بالأعراب، وقد عمت الشكوى من تصرفات هؤلاء الأغوات ولم تكن هذه الفتنة الأولى ولا الأخيرة التي حدثت منهم في طيبة الطيبة

(262)

.

وللشاعر البيتي قصيدة أخرى في فتنة أخرى وقعت بالمدينة بعد الفتنة الأولى بسبع سنوات وهي تفيض لوعةً وأسى يقول الشاعر:

(261)

انظر تفصيلا أوفى عن ذلك في مجلة العرب محرم وصفر 1406 هـ: ص 439 - 444.

(262)

ديوان البيتي: ص 37 - 43.

ص: 247

وقلت في فتنة أهل المدينة الواقعة عليهم من جماعة أغوات الحرم ومن في طرفهم من أهل المدينة وشيخ الحرم عبد الرحمن أغا سنة 1155 هـ.

بكى على الدار لما غاب حاميها

وَجَرَّ حكَّامُها فيها أعاديها

بكى لطيبة إذ ضاعت رعيتها

وراعها بكلاب البَرّ راعيها

بكى لمن هاجروا بالكره واحتملوا

عنها، وكانوا قديمًا هاجروا فيها

واهًا لكربتها، واهًا لغُرْبتها

واهًا لجائعها، واهًا لعاريها

(263)

واهًا لحالي لما قمت أُنشدها

الدار أطبق إخراسٌ على فيها

(264)

يا دمنة سُلبت منها بشاشتها

وأُلْبست من ثياب المَحْل باقيها

وقفت فيها أُعزّيها لكربتها

أعجب على جَلَدي أني أُعزّيها

فمن معيني بأحزان يضاعفها

عليَّ مَنْ لعيوني، مَنْ يواسيها؟

يا صاح ناد البواكي وابْكِ أنت معي

ولا تصبّرْ نفسي، ولا تُسَلِّيها

ما مثلُ طيبة ما مثلُ الذي لقيت

من الألى فبمن ترجو تأسِّيها

حاشا لمختلف الأملاك من غِيَرِ

الدنيا وما صنعت فيها لياليها

بأبي الفداءُ لها من كل حادثة

لو كان ينفعها أني أُفدِّيها

وغاية الجهد أن أبكي لها أسفًا

حتى تجفَّ دموعي في مآقيها

كان التغزّل في جيران ذي سلم

واليوم قد كثرت فيها مراثيها

هي المدينة أمست بعد عزتها

كسيرةٌ غاب عنها اليوم حاميها

ملهوفة كبدها حرًّا مقطعة

محروقة فاسقها إن كنت تُسقيها

(263)

يقول ناسخ الديوان: هذا الشطر لأبي نواس.

(264)

يقول ناسخ الديوان: هذا الشطر لأبي نواس.

ص: 248

ما قمت في نصرها حقَّ القيام فلا

أقلَّ من أدمعي فيها تروِّيها

ما في الحياة ولا في العيش من أرّبٍ

مَنْ مُنْعِمٌ بوفاةِ منه يسديها؟

عشنا إلى أن رأينا ما يصدُّعها

عشنا إلى أن رأينا ما ينكّيها

مصيبةٌ عرضت للمسلمين غدت

عن كربلاء ويوم الدار تلهيها

فيا شقاوة من أمسى يروّعها

ويا سعادة من أمسى يراعيها

يا رحمتا من قلوب المؤمنين لها

في كشف عورتها ممن يغطيها

أشد دارٍ خرابًا لا عمار له

دارٌ أتى هدمها من كفّ بانيها

قصّوا العجائب عني وانقلوا خبري

على الحقيقة أمليكم وأرويها

وذاك في مائة والألف يتبعها

خمس وخمسون أحصاهنَّ محصيها

كان الأغاءُ اصطفى في السرِّ طائفةٌ

تبغي على الأمة الجُلَّا وتنويها

لَمُّوا عليه لأحقادٍ مقدمة

تلوح في جُلهم والعجز يخفيها

وأصله في الأغا مالُ الغلال أتى

عثمان بك به للناس يوفيها

فضمُّه منه سرًّا ثم أنكره

على الرعية يقصيها ويلويها

ثم استقر به من بعدما سغبوا

وليتهم تركوا الدعوى وداعيها

لكن دعاهم إلى ما كان ضرهم

ناهيك بالضرِّ والبأسا وناهيها

فدبَّ منه عليهم مع عصابته

عقارب الكيد غاديها وساريها

وجاءهم كُلّ مَنْ في قلبه مرضٌ

يسعى بعلَّته مَعْهم يداويها

ورتَّبوا صحفًا تُقْرا بقلعتهم

ليلًا وجاء العدو في زيّ قاريها

(265)

وحملوا فئة أخرى بنادقهم

وسط التيازير تُخفيها وتطويها

(266)

(265)

ديوان البيتي: ص 76.

(266)

ديوان البيتي: ص 72.

ص: 249

وأصبحوا غلَّقوا الأبواب ثم رموا

بنادق البغي تهوي من مراميها

فقيل ما الأمر قالوا نشتكي ضررا

من ستَّة ووليُّ الأمر يبغيها

إمّا القتال، وإما تخرجونهمُ

وذلك القدر يكفيكم وتكفيها

ثم البقية أيضًا بعد من ذكروا

نعاهد الله. أنَّا ليس نؤذيها

فكان ذلك عام الحزن إذ خرجوا

ظلمًا على الناس تبكيهم بواكيها

وكتَّبوا حجة تحوي فسادهم

تضمَّنت كلّ زور في معانيها

وأكَّدوها بأمهارٍ من الفقها

شهود حوأب لا درَّت مساعيها

قالوا ولا انتطحت شاتان قد صدقوا

لكنها الشهب خرَّت مع ذراريها

وعرَّفوا الدولة العليا بما صنعوا

كي يسعدوها بفرمان يقويها

ومرَّت السنة الشهبا وحاكمنا

يجني على الناس طودًا أو يجنِّيها

أيدى سبا مزقتهم في البلاد يدي

دنياه وهْي من إحدى دواهيها

قصيدة في البلا كانوا العَرُوض لها

وجادت الناس إرسالا قوافيها

وكل ذاك ومسعود ملكيهم

يَدْرَ التَّلافَ ويسعى في تلافيها

وأقبل الحج والإسلام كلهم

أرواحهم بلغت منها تراقيها

وجاء فرمانهم طبقا لموجب ما

أنْهُوا وأنفسهم تمت أمانيها

والذنب والله حقًّا ذنب من شهدت

شهادة الزور تُخفيها وتُبديها

أهل الطيالس إياكم خذوا حذرًا

منها جميعًا فإني لا أسمِّيها

إياكموا هذه الأفخاخ إنِّي لا

آلوكُمْ النصح جهدًا في توقيها

عصابة خلقت للغش والتزمت

باب الولاة بظلم الناس تُفتيها

واستقبلوا السنة الأخرى بحالتهم

لكنهم فسدوا في بعضهم تيها

حتى طمى الجور من نحو الأغاوبدت .. . حوادث بينهم تنموا نواميها

ولم يزل يتداعى الأمر وافترقت

مردان قلعة عنهم مع مواليها

وأصبحوا قتلوا كابوس إذ شهدو

بكفره في أمور كان يأتيها

ص: 250

وأرسلوا طلبوا الناس التي خرجت

وعاد مُبعدها في الحال يدنيها

واستقبلوهم فردّ الباب دونهم

كُبَيْبَةٌ وجماعات مغبِّيها

وأخرجوهم فثار الشرُّ بينهم

لفتنة قد أراد الله يقضيها

وأرسلوا للأغا للصلح فاضطربت

أشياعه وأبَتْ إلا تماديها

وأرسلوا طلبوا هزاع ينصرهم

على المدينة كي ينفي أهاليها

فجاءهم بجنود كالحصى عددًا

البغيْ قادِمُها والظلم تاليها

وشمَّر الحاكم المذكور يسبح في

سفينة الجور يجريها ويرسيها

جرَّ البوادي لها من كل ناحية

فاندكَّ أسفلها منها وعاليها

وحسَّنت علماء السوء عثرته

بحكم طاغوتها فانجرَّ طاغيها

ومنهموا من تولَّى كِبْره وله

عقبى عذاب أليم في توليها

قالوا لنا نسبة الأنصار قلت لعلَّ

أفعالكم صدَّقَتْها في دعاويها

ستين يومًا أقاموا في محاصرها

قتلًا ونهبًا وهدمًا في صياصيها

أيام بؤس حكت أضعاف ما صنعت

أيام مسرفٍ المُرِّي باغيها

(267)

كأنها دار كفر قام مجتهدا

في فتحها يبتغي رضوان باريها

ونزَّلوها على حكم العدوِّ ولا

رثوا لذلِّتها في كفِّ مُدْليها

وأسفر الحال معه في ثمانية

وعشرة بقضاء الجوْر يَجْليها

وكتَّبوا كتبًا في الصلح واحتكموا

على الرعية حكما ليس يرضيها

(267)

مسرف المرِّي: هو مسلم بن عقبة الذي قاد الجيش الذي استباح المدينة في خلافة يزيد بن معاوية في موقعة الحرة وسمى مسرفًا لإسرافه في القتل والبطش. انظر: تاريخ الدولة الأموية للمؤلف (ج 1): ص 276 - 289.

ص: 251

لكنَّها هدنة جاءت على دَخَن

وهدنة الجبر شرط لا يواتيها

وسار هزاع والأحوال فاسدة

والناس مضمرة أشيا تعمِّيها

وكان في قلعة السلطان طائفة

تحققت غشَّ من قد كان يغويها

فأطلعوهم إليهم في الحبال كما

تسعى الأفاعي وترقى في مراقيها

فيا لها لله بسطامية وقعت

أعادت الحرب بكرًا في مجاريها

مات الإغاء ومن في حزبه كمدًا

بها وعاد لتلك الحرب ينشيها

فأدخل الحرمَ الأعرابَ فانتهكت

هناك حرمة هاديها ومهديها

وأصعدوها ولا خافوا ولا اعتذروا

فوق المنائر ترمي من أعاليها

وصاحبُ الأمر باقٍ في تعصّبه

معها على الناس يسليها ويغريها

يصرِّف المال، مال المسلمين على

تلك العصابة يسقيها ويغذيها

وأصبح الحرم العالي وروضته

كالجبّخانة بالبارود يحشيها

لا جمعةٌ لا صلاة لا أذان بها

إلا البنادق ترمي من نواحيها

فصاحت الناس شرع الله وابتدروا

إلى الخصومة قاصيها ودانيها

وبادروا مجلس القاضي لينظر في

فصل القضا ولنار الحرب يطفيها

فصدَّر الحاكم الشرعيّ نحوهم

رسالة تقتضي الدعوى وتحتويها

فلم يردُّوا خطابا عن رسالته

إلا الرصاص جوابًا في حواشيهّا

وتَرسَّوُا مسجد الهادي وثار به

بين الفريقين حرب لست أحكيها

فيا لها زلَّة منهم وفاقرة

جاءت على رغم مفتيها وقاضيها

وقامت الحرب فيهم ترتمي شررًا

ستين أخرى يد الأعراب تذكيها

وصاحب القبر محزون بما صنعوا

غيظًا لأمته ممن يعاديها

وامتدت الحال بالبلوى إلى رجب

ومنتهى صفر قد كان باديها

فسار من عند مولانا الشريف لنا

عساكر لتلافينا يواليها

ص: 252

فسار هزّاع من نحو الإغاء لها

يردُّها دوننا قهرًا ويُرْديها

فصدَّها وأتى منصور يسبقه

إلى المدينة في شعبان يحميها

وجاء هزاع يوم النصف واستعرت

مراجل الحرب والملعون يغليها

وقسَّم البدو نصفًا عنده قعدوا

والنصف عند الإغا مع عبْد يبقيها

وأضحت الدار قفرًا لا أنيس بها

الجن تندبها والأنس ترثيها

أباحها البدوَ نهبًا ثم أحرقها

وراح يشقي بها حقًّا ويشقيها

أباحها وهو يرجو من حماقته

ثواب أصحاب بدر في مغازيها

لكنه صان خيرُ الخلق حوزتها

وأصبح الستر غاطيها وضافيها

(268)

وحقق الله خذلان الذين بغوا

جميعهم وأراد الله يعليها

وسيروا هدنة للحج وانتظروا

فيها الجواب وساعيهم وساعيها

وارتدّ هزاع مفشولا وعصبته

بدوًا وحَضْرًا تغطيها مساويها

وأصبح الحاكم المغرور يقرع في

سنّ الندامة مما كان يوليها

والأمر لله مكتوب على يده

أنَّ الأغا سوف يجليهم ويجليها

يا للكبائر من أدعو فيسمعني

حتى أصرَّح عنها أو أكنّيها

من للمدينة إن غصت بريقتها

ومن يجيب نِدَاها من يلبِّيها

ما أفقر الصيدُ إلا بعد مسلمة

أعطت محاسنها الدنيا لماضيها

عادت لنا سيرة التيمور في حلب

أيام صبيانها شابت نواصيها

(269)

ويومه وهو في بغداد يهتكها

ويوم جنكيز بالتتار يرميها

(268)

كان الأصح أن يقول: رب الخلق فهو وحده القادر المتصرف.

(269)

الإشارة في هذا البيت وما يليه إلى تيمور التتري وما جرى على يديه من الفظائع.

ص: 253

وبُخْتَصَر من قبْلِ الذي ذكروا

في مصر والقدس تقريبًا وتشبيهًا

(270)

ويوم تهماز ما أدراك ما صنعت

في شاجهان الموالي مع مواليها

شأن عظيم مضى في الجور أعظمه

شأن المدينة من أيدى شوانيها

حوادث ما رآها دانيالُ ولا

قصَّت ملاحمُه شيئًا يساويها

يا شدَّة ليس إلا الله يكشفها

وغُمَّة ليس إلا الله يجليها

أين الحجاز وأين الروم تسمع لي

صوتي إذا قمت من كربي أناديها؟

يا آل عثمان عين في ممالككم

مطروفَة لطَمتها كَفُّ واليها

عين لدولتكم عين لدينكمو

قد كاد لولا دفاع الله يعميها

أمَّنتموها فضاعت عنده سفها

ويل الأمانة ممن لا يؤديها

نمتم ولا نوم عبُّود الذي ذكروا

عن المدينة حتى قام ناعيها

هُنَّا عليكم وهانت بعد عزتها

وأصبح الكل جافينا وجافيها

أحوالنا علمتها الصين واعجبًا

من كان يمنعها عنكم ويثنيها،

خمسون عامًا لنا والظلم يلحقنا

نقارع البدو فيها أو نداريها

ووام سعد بن زيد قطع دابرهم

لكن عَدَتْه من البلوى عواديها

سلوا عن العهد عما كان سبَّبه

فليس ذا أول الشكوى وثانيها

غضضتموا الطرف عن أشياء أبدعها

بشير بك فجا هذا يسوِّيها

(271)

سوسوا البلاد بعين من نفوسكم

دعوا الأجانب أعطوا القوس باريها

لو أن مسعود قلَّدتم له عملا

أجزا وثار لأعدام يجازيها

(272)

(270)

بختصر هو الذي أخرج اليهود من القدس.

(271)

الإشارة هنا إلى فتنة بشير أغا حاكم المدينة سنة 1148 هـ التي ذكرناها قبل.

(272)

مسعود: هو أمير مكة في ذلك الزمان.

ص: 254

لكنه راح مربوطًا على يده

تحت الإشارة لا يبغي تعديها

ينهى إليكم وبعد الحوْل ينظر في

جوابكم عن أمور كان ينهيها

ما أبعد الوِرْدَ إن بات العطاش على

وادي الغضا وبوادي الرمل ساقيها

تالله لو كان هذا الدين مبدؤه

على التساهل والإغفال تمويها

ما صدَّق الرسل في الدنيا مصدِّقها

ولا جَبا ساحة الإفرنج جابيها

سلوا ففي كي قباذ الفرس معتبر

يغني الملوك إذا شاءته تنبيها

صلوا ففي علج عمورية نبأ

أين الرشيد ومن نادته تنويها

وأين تلك مع الدار التي شرفت

على الممالك إعظاما وتنزيها

ما أحوج الأرض للفتح الجديد فقد

عَمَّ البلا وطغى طوفان عاصيها

من باب مصر إلى بصري إلى عدن

إلى العراق يمانيها وشاميها

ومن سواكم وعين الناس ترقبكم

قد وجَّهوا لكم الآمال توجيها

بخدمة المصطفى أسلافكم شرفت

على الملوك وهنَّاها مُهَنِّيها

تميمة علقت في جيد دولتكم

تذبُّ عنها أعاديها وتحميها

عُضُّوا عليها وصونوها فإن سقطت

تَفَزَّعَتْ وغدت لا شئ يشفيها

وإن تروا حادثًا في الدهر أو قلقًا

من العدا فهو من عقبى تناسيها

ما كان أحوجنا أن تبعثوا ثقة

ينهي إليكم قضايانا ويسليها

سلوا الطريق عن الحُجَّاج تخبركم

بالقتل والنهب فيها من بواديها

سلوا عق الحجرة الزهراء إن خفيت

أسوارها ربما التسأل يفشيها

سلوا عن المال فيها والذخائر مَنْ

بالبخس قد باعها من كان يشريها؟

وأجزوا العساكر إحسانًا فقد ستروا

عوراتها وسبوا من جاء يسبيها

وكم أيادٍ لقاضي الشرع قدمها

لله والله في الأخرى يكافيها

فإنه صان عرض المسلمين رمى

بسهمه وعَنَاهُ ما يعنِّيها

ص: 255

والنفس لا تستوي من جاء يقتلها

وآخرٌ قام يحميها ويحييها

مشاهدٌ صالحوا الأروام تشهدها

لنا وإن سئلت عنها تؤديها

فهمُ وحكام مولانا الشريف لَهُمْ

أعمال بِرٍّ عسى المولى يزكِّيها

كلهم بذلوا في حال غيبتكم

أرواحهم دونها واستقتلوا فيها

هم المحامون دون الدار لا فئة

نماك حرام وتكفيها مخازيها

(273)

جرى القضا عرفت أصحابها سَقَرٌ

وجنة الخلد قد باءت بأهليها

نام الخلي عنك والمحزون خاطره

بكى على الدار لما غاب حاميها

(274)

هذه القصيدة الملحمة التي بلغت عدة أبياتها مائة وأربعا وستين بيتا تقدم لنا بعد أكثر من مائتين وخمسين عامًا صورة وصفية كاملة ومفصلة للأحداث التي روعت المدينة المنورة وسكانها في سنة 1155 هـ.

ولم أجد ذكرًا لهذه الفتنة في تواريخ مكة المكرمة بالرغم من أن القصيدة تذكر أن أمير مكة الشريف مسعود أرسل جيشا لإنقاذ المدينة يقول البيتي:

فسار من عند مولانا

لنا عساكر لتلافينا يواليها

فسار هزاع من نحو الإغاء لها

يردها دوننا قهرًا ويرديها

فصدَّها وأتى منصور يسبقه

إلى المدينة في شعبان يحميها

وجاء هزاع يوم النصف واستعرت

مراجل الحرب والملعون يغليها

(273)

هذا البيت غير مستقيم ولعله من الناسخ ولعل الأصح جنت حراما.

(274)

ديوان البيتي: ص 71 - 75.

ص: 256

هذه الأبيات تدلُّ على أنه لما طالتْ معاناة أهل المدينة أرسل إليهم الشريف مسعود أمير مكة المكرمة جيشًا لإنقاذهم ولكن الحاكم التركي عبد الرحمن أغا استنصر بهزاع شيخ قبيلة حرب، فصد هزاع جيش أمير مكة فأبقى نصف جيشه عند الأغا، واحتفظ بالنصف الباقي من جيش البدو، ثم انتهى الأمر بانتصار الأغا بمعونة شيخ قبيلة حرب وأتباعه من البدو، حتى انتهى الأمر بإباحة المدينة للبدو:

أباحها البدو نهبًا ثم أحرقها

وراح يشقي بها حقًّا ويشقيها

والقصيدة تصور الأحداث في تسلسلها من البداية يقول البيتي:

وأصله في الأغا مال الغلال أتى

عثمان لك به للناس يوفيها

فضمه منه سرًّا ثم أنكره على

الرعية يقصيها ويلويها

ويفهم من هذا أن عثمان بك أحضر إلى المدينة الغلال التي توزع على أهلها فاستأثر بها الأغا لنفسه وأنكر عليهم حقهم فيها، ولم يكتف بهذا بل كاد لأهل المدينة هو وعصابته التي اجتمعت في القلعة:

ورتبوا صحفًا تُقرا بقلعتهم

ليلًا وجاء العدو في زيِّ قاريها

ثم يقول:

وحملوا فئة أخرى بنادقهم

وسط التيازير تخفيها وتطويها

وأصبحوا غلَّقوا الأبواب ثم رموا

بنادق البغي تهوي من مراميها

فقيل ما الأمر قالوا نشتكي ضررًا

من ستَّةٍ ووليُّ الأمر يبغيها

إما القتال وإما تخرجونهموا

وذلك القدر يكفيكم ويكفيها

ثم البقية أيضا بعد من ذكروا

نعاهد الله أنّا ليس نؤذيها

ص: 257

فاجأ الأغا المدينة بالرمي بالبنادق فلما سئل ما الأمر؟ طالب بإخراج ستة أشخاص يطلبهم ولي الأمر، وأنذر الناس بالقتال إن لم يخرجونهم إليه، وتعهد أن لا يؤذي أحدا إذا ما سلم إليه هؤلاء الرجال يقول البيتي:

فكان ذلك عام الحزن إذ خرجوا

ظلمًا على الناس تبكيهم بواكيها

ولم يكتف الأغا وجماعته بهذا:

فكتبوا حجة تحوي فسادهمو

تضمنت كل زور في معانيها

وأكدوها بأمهار من الفقها

شهود حوأب لا درَّت مساعيها

وعرَّفوا الدولة العليا بما صنعوا

كي يسعدوها بفرمان يقويها

كتب الأغا وجماعته عريضة مزورة ضد هؤلاء الرجال الستة الذين ناصبوا الأغا العداء، وختم عليها الفقهاء بأمهارهم شهادة زور، وأرسلوها إلى الآستانة لاستصدار فرمان بمعاقبة خصوم الأغا:

ومرَّت السنة الشهبا وحاكمنا

يجني على الناس طَرْدًا أو يجنِّيها

أيدي سبا مزقتهم في البلاد يدي

دنياه وهْي من إحدى دواهيها

وخشي الناس صولة الأغا فهاجروا من المدينة وتركوها وتفرقوا في البلاد:

وجاء فرمانهم طبقًا لموجب ما

أنهوا وأنفسهم تمت أمانيها

والذنب والله حقًّا ذنب من شهدت

شهادة الزور تخفيها وتبديها

وجاء الفرمان المطلوب من الآستانة حسبما رسم الأغا فقد أثرت الشهادات المزورة من الفقهاء تأثيرها وهؤلاء الفقهاء هم:

عصابة خلقت للغش والتزمت

باب الولاة بظلم الناس تفتيها

ص: 258

واستبد الأغا بعد أن أيدته الدولة العلية بفرمانها، فانقلب على أنصاره وقتل أحد كبار هؤلاء الأنصار المسمي كابوس الذي شهدوا عليه بالكفر:

وأصبحوا قتلوا كابوس إذ شهدوا

بكفره في أمور كان يأتيها

وأراد الأغا استرجاع من انفضَّ من حوله من أنصاره فدعاهم إلى القلعة ولكن شخصًا اسمه كبيسة مع جماعته، أرسلوا للأغا يطلبون الصلح فأصرَّ أشياع الأغا على التمادي في الخصام، وأرسل هؤلاء الأشياع إلى هزاع شيخ قبيلة حرب فجاءهم بجنود كثيرة من البدو:

وأرسلوا طلبوا هزاع ينصرهم

على المدينة كي ينفي أهاليها

فجاءهم بجنود كالحصى عددًا

البغي قادمها والظلم تاليها

جرَّ البوادي لها من كل ناحية

فاندكَّ أسفلها منها وعاليها

وحاصروا المدينة ستين يوما:

ستين يومًا أقاموا في محاصرها

قتلًا ونهبًا وهدمًا في صياصيها

وأعاد البدو في المدينة ما فعله مسرف المرِّي الذي أباح المدينة أيام موقعة الحرة في خلافة يزيد بن معاوية:

كأنها دار كفر قام مجتهدا

في فتحها يبتغي رضوان باربها

ولم تلبث المدينة أن استسلمت تحت وطأة هذه الظروف القاسية فنزلت على حكم الأغا وجماعته:

وأنزلوها على حكم العدوِّ ولا

رَثُوا لذلِّتها في كف موليها

وأسفر الحال في ثمانية

وعشرة بقضاء الجور يجليها

وكتَّبوا كتبًا في الصلح واحتكموا

على الرعية حكمًا ليس يرضيها

ص: 259

وسار هزاع من المدينة بعد أن فك الحصار عنها، ولكن الناس كانت تضمر أشياء كثيرة من الظلم الذي وقع عليهم ويبدو أن ضمائر بعض من كان في القلعة مع الأغا استيقظت فانقلبوا على الأغا بعد ما رأوا من غشه وسوء تصرفه فمدُّوا الحبال إلى بعض من اتفقوا معهم على نصرتهم وأصعدوهم إلى القلعة، يقول البيتي:

وكان في قلعة السلطان طائفة

تحققت بَغْيَ مَنْ قد كان يغويها

فأطلعوها إليهم في الحبال كما

تسعى الأفاعي وترقى في مراقيها

فيا لها الله بسطامية وقعت

أعادت الحرب بكرًا في مجاريها

مات الأغاء وَمَنْ في حزبه كمدا

بها وعاد لتلك الحرب ينشيها

ولكن الأغا الذي فوجئ بهذا الانقلاب لم يتورع عن إدخال الأعراب إلى المسجد النبوي الشريف وأصعدوهم على المنائر يرمون القذائف منها، وانقطعت الصلاة في المسجد النبوي الشريف بعد أن تحول إلى ثكنة عسكرية، وحلت أصوات البنادق محل الأذان، يقول البيتي:

فأدخلَ الحرمَ الأعرابَ فانتهكت

هناك حرمة هاديها ومهديها

وأصعدوها ولا خافوا ولا اعتذروا

فوق المنائر ترمي من أعاليها

ويقول:

وأصبح الحرم العالي وروضته

كالجبُّخانة بالبارود يحشيها

(275)

لا جمعة لا صلاة لا أذانَ بها

إلا البنادق ترمي من أعاليها

(275)

الجبخانة - باللغة التركية - هي المكان الذي توضع فيه أسلحة الجيش وذخائره.

ص: 260

وشكر الناس إلى قاضي الشرع فأرسل إليهم يخطرهم بالحضور لسماع الدعوى المقامة عليهم، ولكن إجابتهم على رسالة القاضي كانت الإمعان في الرمي بالرصاص والإصرار على الحرب، وثارت الحرب بين الفريقين مرة أخرى واستمرت ستين يوما:

وقامت الحرب فيهم ترتمي شررًا

ستين أخرى يد الأعراب تذكيها

وامتدت الحال بالبلوى إلى رجب

ومنتهى صفر قد كان باديها

وأراد شريف مكة الأمير مسعود إنقاذ المدينة فسيَّر إليها الجنود لتلافي الفتنة ولكن الأغا استنصر بهزاع شيخ قبيلة حرب فجاء هزاع بجنوده من البدو فردَّ جيش الشريف، وقد أوردنا الشواهد من القصيدة عن ذلك سابقًا وتمخضت الأمور بانتهاب المدينة وإباحتها للبدو وإحراقها:

أباحها البدو نهبًا ثم أحرقها

وراح يشقى بها حقًّا ويُشقيها

أباحها وهو يرجو من حماقته

ثواب أصحاب بدر في مغازيها

ثم اتفقوا على هدنة للحجِّ فارتدَّ هزاع عن المدينة إلى البادية، ثم يتطرق الشاعر إلى الحال البائسة الحزينة التي صارت إليها مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه فيقول:

مَنْ للمدينة إن غُصَّت بريقتها

ومن يجيب نداها من يلبيها؟

ويشبِّه ما وقع في المدينة من الكوارث بما وقع لبغداد وحلب على أيدي التتار، وما وقع في القدس على يد بُخْتَنَصَّر:

عادت لنا سيرة التيمور في حَلَبٍ

أيام صبيانها شابت نواصيها

ويومُه وهو في بغداد يهتكها

ويوم جنكيز بالتتار يرميها

وبُخْتَصَّر من قبل الذي ذكروا

في مصر والقدس تقريبًا وتشبيها

ص: 261

ثم يتساءل الشاعر:

أين الحجاز وأين الروم تسمع لي

صوتي إذا قمت من كربي أُناديها

ثم يخاطب الحكام العثمانيين فيقول:

يا آل عثمان عين في ممالككم

مطروفة لطمتها كَفُّ واليها

عين لدولتكم عين لدينكمو

قد كاد لولا دفاع الله يعميها

ومنها:

أمَّنتُموها فضاعت عنده سفهًا

ويل الأمانة ممن لا يؤديها

نمتم ولا نوم عبود الذي ذكروا

عن المدينة حتى قام ناعيها

هُنَّا عليكم وهانت بعد عزتها

وأصبح الكلُّ جافينا وجافيها

أحوالنا علمتها الصين واعجبًا

من كان يمنعها عنكم ويثنيها

ويقول الشاعر: إن المدينة ظلت تعاني من هذا الحال خمسين عامًا والدولة لا تولي الأمر ما يستحقه من الاهتمام بل تغضُّ الطرف عن سوء التصرف من الحكام الأغوات الذين تبعثهم الأستانة، ثم يدعوهم إلى إقصاء الأجانب عن الحكم في المدينة وإعطاء القوس باريها:

خمسون عاما لنا والظلم يلحقنا

نقارع البدو فيها أو نداريها

ومنها:

غضضتموا الطرف عن أشياء أبدعها

بشير بك فجا هذا يسويها

سوسوا البلاد بعين من نفوسكم

دعوا الأجانب وأعطوا القوس باريها

ثم يصف حال أمير مكة ووقوفه مكتوف اليدين لأن صلاحيته في التدخل محدودة، ولقد كان يكتب إلى الدولة العلية وينتظر الحول ليصل

ص: 262

إليه الرد:

لو أن مسعود قلدتم له عملا

أجزا، وثار لأعداكم يجازيها

لكنه راح مربوطًا على يده

تحت الإشارة لا يبغي تعديها

ينهي إليكم وبَعْد الحول ينظر في

جوابكم عن أمور كان ينهيها

وينهي البيتي ملحمته العظيمة بإيراد أمثلة من النجدة والحزم مشهودة في التاريخ فيقول:

ما أبعد الوِرْد إن بات العطاش على

وادي الغضا وبوادي الرمل ساقيها

تالله لو كان هذا الدين مبدؤه

على التساهل والإغفال تمويها

ما صدَّق الرسل في الدنيا مصدِّقُها

ولا جبَا ساحة الإفرنج جابيها

سلوا ففي كي قباذ الفرس معتبر

يغني الملوك إذا شادته تنبيها

سلوا ففي علج عمورية نبأ

وابْن الرشيد ومن نادته تنويها

والإشارة في البيت الأخير إلى المرأة المسلمة التي استنجدت بالمعتصم فكان فتح عمورية ويقول الشاعر:

وأين تلك مع الدار التي شرفت

على الممالك إعظاما وتنزيها

ثم يقول:

ما أحوج الأرض للفتح الجديد فقد

عمَّ البلا وطغي طوفان عاصيها

من باب مصر إلى بصرى إلى عدن

إلى العراق يمانيها وشاميها

ثم يذكر العثمانيين بماضي أسلافهم الطيب في خدمة الإسلام:

بخدمة المصطفى أسلافكم شرفت

على الملوك وهنَّاها مهنيها

والمدينة تميمة علقت في جيد دولتكم

تذبُّ عنها أعاديها وتحميها

ص: 263

ثم يتساءل:

ما كان أحوجنا أن تبعثوا ثقة

ينهي إليكم قضايانا ويمليها

ثم يقول:

سلوا الطريق عن الحُجَّاج تخبركم

بالقتل والنهب فيها من بواديها

سلوا عن الحجرة الزهراء إن خفيت

أسرارها، ربما التسآل يغنيها

سلوا عن المال فيها والذخائر مَنْ

بالبخس قد باعها، من كان يشريها

ثم يدعوهم إلى سؤال الصالحين من الأروام والأتراك المقيمين بالمدينة:

مشاهدٌ صالح الأروام تشهدها

لنا وإن سئلت عنها تؤديها

ويختتم القصيدة بهذين البيتين:

جرى القضا، عرفت أصحابها سقر

وجَنَّةُ الخلد قد باءت بأهليها

نام الخلي عنك والمحزون خاطره

بكى على الدار لما غاب حاميها

هذه القصيدة أو الملحمة التاريخية أوردها الشاعر مفصلة كما رأينا ولم تورد كتب المؤرخين شيئًا عنها رغم ضخامة المأساة وطول الوقت الذى استغرقته، وقد نشر الأستاذ العلامة المحقق حمد الجاسر رسالة مخطوطة للسيد جعفر بن حسين بن يحيى الحسيني المدني عنوانها:"الأخبار الغريبة في ذكر ما وقع بطيبة الحبيبة" وقد استشهد المؤلف بقصائد الشاعر جعفر البيتي في هذه الحوادث. يقول الأستاذ حمد الجاسر عن المؤلف ورسالته ما يلي:

وبين يديَّ الآن رسالة عنوانها: "الأخبار الغريبة في ذكر ما وقع

ص: 264

بطيبة الحبيبة" لخصها السيد جعفر بن حسين بن يحيى الحسيني المدني، ويظهر أنه من أهل القرن الماضي - لعل الأستاذ الجاسر يقصد القرن الثالث عشر الهجري - لأنه ينقل عن مؤلفات البعض علمائه ومنهم أحمد زيني دحلان، المتوفي سنة 1304 هـ ويقول: إنه لخص ما في الرسالة من مسودة تاريخ العالم الخطيب عبد الرحمن بن حسين الأنصاري، الذي وجده بخطه مخروما، وفيه من الوقائع التي وقعت في المدينة ما لا يوجد في غيره من المؤلفات يقول الأستاذ الجاسر:

وقد سرد في هذه الرسالة حوادث وقعت في المدينة يدور أغلبها على سوء تصرف مشايخ الحرم من (الأغاوات)، ثم عدد الأستاذ حمد الحوادث أو بعض الحوادث التي وردت في الرسالة ومن ضمنها الفتنة التي وقعت في سنة 1155 هـ واستشهد المؤلف بقصيدة السيد جعفر البيتي التي هي موضوع بحثنا هذا .. تقول الرسالة:

في سنة 1155 هـ قال صاحب الرسالة في الكلام على فتنة عبد الرحمن أغا الكبير، وهو الذي صارت في زمنه الفتنة العظيمة المشهورة بفتنة (كابوس) وقال عن سببها:

إن عثمان بك أتي بمال الغلال فأخذه، ومنع كل ذي حق حقه، بعد أن اتفق مع رؤساء عسكر القلعة، فحصل احتكاك بين أناس تزعمهم رجل عسكري يدعي حسن كابوس وبين مَنْ في القلعة، ثم انتهى الأمر صلحًا إلا أن شيخ الحرم ومن معه أثاروا الفتنة التي شارك فيها بعض أهل المدينة وقتل منهم من قتل، كما قتل حسن كابوس الذي عرفت الفتنة به، فأرسل شيخ الحرم إلى أمير مكة الشريف مسعود يستنجد به، ولكن مسعودًا، أرسل إلى أمير المدينة سرًّا يحرضه على شيخ

ص: 265

الحرم إن لم يخرج أهل القلعة، فعرف شيخ الحرم ذلك، فأرسل إلى هزاع شيخُ قبيلة حرب، واستماله بالمال، ليرد عنه المدد الذي أرسله الشريف مسعود لأمير المدينة، فجمع هزاع من قدر عليه، وهجم على الذين أرسلهم أمير مكة في رابغ، فقتل منهم من قتل، وهرب الباقون، واستدعى شيخ الحرم وهو عبد الرحمن أغا مشايخ حرب، ومنهم هزاع وعيد، ومكَّنهم من المدينة فأخربوها ونهبوها، وجلا أكثر الناس إلى المناخة، واستمر الحال على ذلك إلى شهر رجب سنة 1156 هـ، فأرسل الشريف مسعود وسعى في الصلح بينهم ظاهرًا، وكان مباطنًا لأهل القلعة، فتمت بينهم الهدنة إلى أن وصل الحاج الشامي إلى المدينة ومعه فرمان بعزل عبد الرحمن أغا شيخ الحرم، ونصّب عبد الرحمن أغا الصغير.

ثم تورد الرسالة قصيدة البيتي المذكورة آنفا

(276)

.

والمتأمل في النص الذي أوردته الرسالة يراه اختصارًا لما فصَّله البيتي في قصيدته الطويلة العصماء، وإذا كان من تعليق على ما ورد في الرسالة فهو أن مؤلف الرسالة ذكر في نهاية النص أن الشريف مسعود كان مباطنًا لأهل القلعة، ويمكن تفسير ذلك بأن الشريف مسعود ربما مال لأهل القلعة بعد انقلابهم على شيخ الحرم كما أوردته قصيدة البيتي، والله أعلم.

(276)

مجلة العرب (ج 7، 8) محرم وصف 1406 هـ: ص 441 - 443.

ص: 266

وجاء في هذه الرسالة أن فتنة وقعت في سنة 1134 هـ بالمدينة وكان شيخ الحرم أيوب أغا (من الأغوات) عرفت هذه الفتنة عند أهل المدينة باسم "قصة العهد"، وأورد قصيدة للسيد جعفر البيتى جاء فيها:

فَجَرَت هنالك صيحة يرقى إلى

أفق السماء حجاجها بل يعتلي

وطغت لجم بعد ذلك عصبة الـ

أغوات مع أتباعهم والجُهَّل

أقول: والفتنة التي وقعت في سنة 1134 هـ كان من نتائجها الحكم على السيد عبد الكريم البرزنجي بالقتل وقتل في جدة وألقيت جثته في محلة المكلام وسميت المحلة المظلوم نتيجة لهذه الحادثة.

ولم أجد هذه القصيدة بالديوان المخطوط، مما يدل على أن هذه النسخة الموجودة بمكتبة عارف حكمت لا تضم جميع قصائد الديوان، يؤيد هذا الرأي ما ذكره الأستاذ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله أن هناك نسخة أخرى لديوان السيد جعفر البيتي بجاوة، وأن هذه النسخة أضخم بكثير من هذه النسخة الثانية، ذكر هذا الأستاذ عبد القدوس رواية عن أحد أقطاب الحركة الأدبية من الشباب الحضرميين

(277)

.

وفي الديوان قصيدة تصف حالة الأمن في طريق المدينة وقد نظمها الشاعر على لسان بعض الزائرين فقال:

وكتبت على لسان بعض السادة العلويين، القاطنين بجدة، وهو يومئذ بالمدينة المنورة زائرًا أيام المعراج وقد أدرك في طريقه إليها متاعب وعوائق من الأعراب المحاصرين للمدينة المنورة في هذا التاريخ وهو سنة 1151 هـ إلى باش بازجي إبراهيم عبد الوهاب بخبره بما قاساه في طريقه

(277)

انظر: البحث المنشور عن جعفر البيتي في "مجلة المنهل".

ص: 267

إلى الزيارة إلى أن وصل إلى المدينة، وقد خلطها بالجدِّ والهزل المراد به الجد كما قيل وشَرُّ الشدائد ما يضحك وهذه هي القصيدة:

خليليَّ عن حالي سلا وتفقَّدا

وميلا إلى نحو الوسادة واقعدا

أبثكما مما لقيت عجائبًا

بليت بها فاستخبرا وتنشَّدا

فلي قصة يا صاحبيَّ جعلتها

حديثًا عن البلوى، عن الضيق مسندا

عن العُسْرِ، عن كربٍ عن الغمِّ عن

عنَى عن الحزن، عن غمٍّ غلا وتصعدا

خرجنا نهار السبت من أرض جدة

وقد كان نحسًا ذلك اليوم أنكدا

والقصيدة طويلة ولكنا نختار منها ما يصف حالة الأمن في الطريق من الأعراب فيقول:

ورحنا وأصبحنا على بئر رابغ

فمستورة فالخبت قِلْنا به غدا

على قوم عادٍ أو ثمودَ تَجَبُّرًا

وظلمًا وبغيًا في البرية واعتدا

ومن بعده اليوم العصيب غداة ما

بدونا على الصفراء في حِزْب من بدا

أقمنا بها حينا على شرِّ حالة

نكابد بالضراء عيشًا مُنكَّدا

وقد حاصروا إذ ذاك بلدة أحمد

ونحن بها نبغي زيارة أحمدا

وصدُّوا جميع الزائرين وأذَّنوا

ونادوا ولا خافوا الذي يُعقب النِّدا

ورحنا حيارى كلما مرَّ فاجرٌ

علينا تعدَّى أو طغى أو تهدَّدا

فقلنا لهم يا قوم نخشى عقوبة

عليكم من السلطان سيفًا مهنَّدا

ومن خلفكم تدبير صاحب مكة

فلا تحسبوا هذا يروح لكم سُدا

فأضْرب كلُّ مُنهموا عن مقالنا

وأعرض عنا هازئًا وتوعَّدا

وقالوا لنا خمسون عاما كما ترى

ولو كان سلطانٌ هناك لأنْجَدا

وقد بُحَّ صوت المستغيثين عنده

فكيف ترى يهنا على الضيم مرقدا

وإن كان لا يدري فتلك مصيبة

وإن كان يدري فاسألوا ما الذي عدا

ص: 268

لعلكم يا حُمْقُ ترجون أنه

يجينا على البُلْقِ العتاق مجرِّدا

فيا ليته لو كان يحفظ حَجَّه

ولم يعط عند الخيف مالًا معدَّدا

يشير الشاعر في هذا البيت إلى المال الذي كان يدفع من الدولة للأعراب وقد أوضحه الشاعر في النسخة الخطية للديوان إذ جاء فيها ما يلي:

(دفع المال المذكور حدث بعد وقعة نصوح باشا عام 1123 هـ لأنه فتح خُرْقًا، وقُتل قبل سدِّه وكانت الحجاج قبله يضعون أسلحتهم بالمدينة، ويتوجهون إلى الحج مجردين ثم لم تزل تزيد العربان إلى يومنا هذا).

ويوالي هذا الشاعر السخرية بالحكام العثمانيين، وكذلك بأمراء الحج الذين يصلون مع الحجاج ويتألفون البدو بدفع الأموال لهم فيقول:

فكم قد قتلنا جوخدار ومجدجي

وأيضًا مصرلي فوق ذاك وكَتْخَدا

ولم تحترك للثأر قَطُّ نفوسهم

ولا جزعوا مما أقام وأقعدا

وقد عودونا بالمداراة والرُّشا

لكلِّ امرئ من دهره ما تعودا

(278)

وهذا دليل العجز لا شك فيهم

فلا تقصدوا الشيء الذي ليس مقصدا

فقلنا لعل الله يأتي بنصره

ويبعث للفتح المبين ممهدا

وأقبل هزاع يجرُّ ذيوله

على الأرض تيها راكبا فوق أجردا

(279)

فقال عسى باصُرَّةٌ في رحالكم

فقلت نعم أهلا وسهلا بمن بدا

(278)

الشطر الثاني من البيت للمتنبي.

(279)

هزاع: هو شيخ قبيلة حرب في ذلك الزمان.

ص: 269

فقدم لي طرفًا عتيقًا مسوّمًا والى علينا بالرحيل وأكَّدا

فسرنا وأصبحنا السدارة غدوة نُراعي هزاع الصنيعة واليدا

(280)

ولكن الفرحة لم تتم فقد جاءهم من يخبرهم أن المدينة محاصرة ويردُّهم من حيث أتوا:

ولم ندر إلا وابن فايز قد أتى

وآلى علينا بالرجوع وأكَّدا

وقال ارجعوا إن المدينة حوصرت

وليست تحوم الطير فيها ولا الحُدا

ولكنهم لم يستمعوا لفايز هذا فتركهم وما يشاءون فساروا:

ورحنا وأصبحنا الفريش وبعده الحسا

أقمنا ثَمَّ نرقب مرصدا

(281)

وأقبلت الأعراب من كل جانب

ومعهم بخيت شيخهم شاهري المُدا

(282)

لهم من جريد النخل رمح مُشَطَّبٌ

تكسَّر لكن بالسيور تجلَّدا

وشيخهم المذكور لابس بردة

مشى فوقها الدهر الطويل مقيّدا

على ناقة ترغي وتزبد تحته

تقول إذا اقلولى عليها وأقردا

وقبع تموت النار قبل احتراقه

من الوضر الباني عليه بُّلَبَّدا

وفردة نعل ضمَّها في يمينه

وقد لبس الأخرى وثوبا مزَنَّدا

عجاجيل الأنعام خلْقا وخلقة

أضلَّهم الرحمن طُرًّا وما هدى

فقالوا سلام يا رجال وقَوِّكُمْ

فقلتا سلام للذي اتبع الهدى

وقال بخيت لا تخافوا وأبشروا

وقرَّبنا مما نريد وأبعدا

(280)

اسم منزل من منازل الطريق.

(281)

الفريش: قرب المدينة، والحسا: هي آبار علي قرب العنبرية.

(282)

المُدَا: السكاكين.

ص: 270

أروح بكم نحو العوالي وتنزلوا

ببيتي قريب النخل بيتًا موصَّدا

ونكرمكم باللحم والرز عندنا

وجرَّ العبا من صاحبي وتمَدَّدا

ونادي على أصحابه قال أقبلوا

وقال عيسى يا سيِّدي عندكم غدا؟

فقام سويدان إلى القدر مسرعا

وحطَّ على الماء الدقيق وصعَّدا

ومال على طست الحمار وأفرغ العصـ

ـيدة فيه ثم سَوَّى وأثردا

وقدَّمها فورا وقال تسمَّمُوا

عساها عليكم علَّة تحتوي وَدَا

فقالوا أجل لا أخلف الله عنكم

وشتَّت هذا الزاد عنكم وبدَّدا

وشمَّر كل منهمُ عن ذراعه

وأوْغل في بلع العصيد وأجهدا

وما زال يحشي كل ملعونَ كرشه

من الأكل حتى صار طَبْلًا مُشدَّدا

وعاد إلينا الطست وهو مخرَّقٌ

بما نال من أظفارهم وتكدَّدا

وقام بخيت يمسح الدُّهْن في العبا

ومال إلى ظلِّ الينا وتبرُّدا

وقال عسى غليون تنباك عندكم

عسى قهوة هاتوا وصاح وردَّدا

ولم يكتف بالأكل والكيف فبدأت المساومة:

وراغ على تلك الحمول وجَسّها

وأطرق يبغي غفلةً وتلدَّدا

وقال ترى يا مير سَلْمان إنني

أخاف عليكم في الطريق من الرَّدَا

ولكن عساني بالدراهم أقتفي

رحالا لكم من حرب عونا ومعضدا

فصاح المهيري واشتكى وبكى له

وأقسم إيمانًا وضجَّ وعربدا

وقال سويدان إليكمو فارهنوا

إزاري والعمامة والرِّدا

وقلت أنا هاكم حذاي وجزمتي

...................

ولكنهم أصروا على النقود:

ولم يمشي إلا ما أرادوا وأخرجوا

لجينا من الصندوق نضًّا وعسجدا

ص: 271

وحين رأوا عين الدراهم وهْوَهُوا

وحنَّ حِوار القوم واستحكم الجدا

وشدُّوا على تلك الحمول ووجهوا

وجوه المطايا وهي تمشي تأوُّدا

وسار بها من لا يسير مشمِّرا

وغنَّى بها من لا يغنِّي مغرِّدا

ولما بدا وجه الحدائق أشرفوا

وأبرق من فيها علينا وأرعدا

والأبيات التالية تصور ما كان يحصل بين الأعراب في الطريق أجمل تصوير:

وجاء ابن سمري وابن سلمان مشعل

وسلمان شبَّ النار فينا وأوقدا

فقمنا جميعا نحو شاربه عسى

يعلِّقنا فيه فكشَّ وصدَّدا

وجاء بخيت بعد وابن حُوَيْضِرِ

ومَبْرَكُ مُنضمِّين في ضمن من عدا

وصالوا علينا بالبنادق كلهم

وصبيانهم شالوا عِصِيًّا وأعمدا

وجاءَ المهتدي حدْقُه فوق جفنه

تكدر منها ثم أصبح أرْمَدا

وشُجَّ بمشعاب على أمِّ رأسه

فكمدها بالنار فورا وضمَّدا

فصاح بخيت عند ذاك عليهم

وقال لهم وجهي وأرغي وأزيدا

وراح بنا للبيت ثم أضافنا

بفضلة لحم كان في الحجِّ قدَّدا

وذرَّ على الماء الهبيد ولتَّه

وودَّك من مُخِّ الجمال وسرهدا

ودشَّ لنا سمحًا وقال تسمَّحوا

ومن كان يختار الهبيد تهبَّدا

وأولغ في الماعون مَعنا ولتَّه

وثم تجشَّا في الأنا وتحمَّدا

ومال بباقي العظم في شق بيته

ومشمش يومًا كاملًا ثم ألبدا

وقمنا على ذاك المقام ثمانيا

نكابد أهوالا وهمًّا مسهدا

وقد حلَّقوا حول البلاد وطنَّبوا

ولم تر إلا مُحرقا أو مُهدِّدا

وآخر مقتولا وإلا مهشَّما

على الطرق مطروحا ونخلا مُجدَّدا

ولكنَّما الخذلان بادٍ عليهمو

ونرجوه أن يبقي دواما مؤبَّدا

ص: 272

والأبيات التالية تصور اقتتال الأعراب مع بعضهم البعض:

وصال بنوا ردَّاد يوما على بني

عليٍّ فأدمى البعض بعضا وجوَّدا

وصرَّع ما بين الفريقين تسعة

وغُلِّبَ ردَّادُ اللعين وشرَّدا

وأجزر يوم السيح أصحاب طيبة

ثمانية منهم فكانوا لهم فدا

فتشاءم الأعراب من وجود هؤلاء الزوار بينهم:

وراحوا بنا مستشئمين وأجمعوا

على أمرهم أن يخرجونا ونطردا

فساروا بنا صبحا إلى نحو طيبة

نؤم بها خير الأنام محمدا

وقدامنا منهم كلاب وخلفنا

تحوم وتبغي نهبة وتصيدا

ولما وصلنا بعد طول مشقة

تشوه منا حالنا وتحرمدا

(283)

ونكتفي بهذا القدر فقد طال الاقتباس من هذه القصيدة العجيبة التي تصور حالة الأمن في طريق الحج والزيارة أصدق تصوير، وتصفه أبدع وصف في أسلوب هو السهل الممتع، وفي تفصيل دقيق ينقل إلى القارئ صور الأحداث والأشخاص وكأنها من تصاوير الأفلام السينمائية.

وهكذا نرى السيد جعفر البيتي يطالعنا بهذه الصور بعد مائتين وخمسين عاما، فينقل إلينا أحداث التاريخ مصورة أجمل تصوير.

ونكتفي بهذا القدر من الشعر السياسي - إذا صح هذا الوصف - لننتقل إلى فنون أخرى من شعر البيتي.

كتب شخص يدعى يحيى البدين كتابا إلى السيد جعفر البيتي يطالبه فيه بسداد دين له على أبيه فأجابه البيتي بالقصيدة التالية:

(283)

ديوان البيتي: ص 51، 52.

ص: 273

يا زمان الهوى وعهد التصابي

إنما أنت من شجون الشباب

ووقوع المشيب في الرأس واشٍ

في خلال الباب والأحباب

فسقى الجزع والكثيب وبانَ المنحنى

والعقيق ساري السحاب

ورعى الله معهدا راجعتنا

فيها أيامَ زينب والرَّباب

ودواعي الوصال وافرة الأسباب

إذ ذاك بالحسان الكعاب

من لِطاف الخُصور فُلج الثنايا

أعْيُنُ العين فتنة الألباب

غانيات الجمال كاملة الأوصاف

في الحسن واضعات النقاب

حبذا هُنَّ من مهًا وغصون

تتثنَّى في عبقري الثياب

بين بانِ النقاوما ضَمِن البان

بسفح النقا ونُزْل العباب

لا خلا سِرْبُها وحيَّاه منا

صيِّبُ الريح دائمُ التسكاب

تتوالى عهاده ويغاديه

نسيم الصبا بتلك الرحاب

ما بعثنا السلام يهدي إلى حضرة

يحيي البدين عالي الجناب

الأعز الأجل عندي قديم العهد

وُدًّا خلاصة الأصحاب

من أتانا منه على وفق ظن

الصدق وُدٌّ ينصُّه في كتاب

زاعمًا بالولاء منه ولا بأس

من ولاء أمرٍ مشاب

يا له من ولاء صدقٍ منوطٍ

بادِّعاءٍ في غاية الاضطراب

يقتضي الوفاء في دين مال

برئت منه ذمتي في الطلاب

وهو في ذمة الذي قد توفى

وقديمًا قد آذنت بخراب

فبأي الوجوه يا أيها الشيخ

تقاضيني بغير الصَّواب

أبمال رأيته فاضَ عندي

من تُراثِ أدركتُ أم باكتساب

كون أن الشريف يصبح بالمال

غنيا أمر عجيب العجاب

فدعاء الكفاف يأبى عليه

سعة الارتزاق من كل باب

ص: 274

فلتكن عاذرا إذا أنا أعرضت ولم ألتفت لذاك الخطاب:

لم أجد للذي سألت جوابا

فرأيت الجواب ترك الجواب

ثم لما كرَّرت في ذاك قولا

في كتاب يحوي جزيل العتاب

وتراءى لك الغنى فيَّ حتى

قد تلقَّيْتُ ذاك من ميزاب

غير أني رأيته منك بشرى

تُرتجى من خزائن الوهَّاب

فأل خير لعله نظر الشيخ

إليه هناك في اسطرلاب

وعلى جملة المقال فأرجو

ذاك من غير هذه الأسباب

(284)

والأبيات الأولى في صدر القصيدة تذكرنا بشعر الشريف الرضي في الحجازيات التي كان يبدأها بالوصف الجميل، الأمر الذي يدل على أن البيتي كان واسع الاطلاع على شعر الشعراء المجيدين قبله، وكان هذا الاطلاع الواسع من أسباب تمكنه من مقاليد الشعر، وإجادته في فنونه المختلفة، ومن أبرز ما يلاحظ في شعر البيتي هذه السهولة التي تبدو في وصفه للحوادث، وتصويره للمشاعر، سهولة تدخل إلى الأفهام في يسر وهي في نفس الوقت من السهل الممتع الذي لا يقدر عليه إلا الموهوبون.

‌ضيق حال البيتي:

أما الجزء الثاني من القصيدة فهو إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن البيتي كان يعاني من ضيق مادي لم يتمكن معه من الوفاء بدين أبيه فلجأ إلى الاعتذار كما رأينا بهذا الأسلوب الشعري الجميل وقد وصف البيتي في كتابه الذي نقلناه آنفا حالته هذه فقال:

(284)

ديوان البيتي: ص 15، 19.

ص: 275

فقلما تحسن الحال إذا كثر العيال، أو تتصور الراحة، إذا صفرت الواحة، وأخوك قد أساء الزمن إليه وعرض خصلتي الضبع عليه إلى أن يقول:

ما أكسد الأدب الذي ذكرت وأطنبت فيه بما قدرت، وليست سلسلة النسب من حبائل النشب، ولا تنسخ الأدب من فخوخ الذهب ويتساءل:

ماذا حصل للخليل، بالبسيط والطويل، وهل أفطر على الصعيد من بحر المديد؟ إلى آخر خطابه الطويل الشعري المسجوع الذي نقلناه آنفا

(285)

.

‌سعيه لخدمة الملوك ثم زهده في ذلك:

ولقد سعى البيتي بما حباه الله من مواهب الشعر والنثر ليلتحق بخدمة الملوك ثم زهد في ذلك، جاء في صفحة 62 من الديوان:

أعجب ما في أمري أني كنت أحاول في المدة الماضية التعلق بخدمة الملوك لترميم المعاش، وستر العالة، فلما حصَّلتُ، وإلى البعض وصلْتُ، زهدت في ذلك، وبقيت أتطلع لكفاف يوجب العفاف، مع حسن الجوار في ظل سيد الأبرار، وما ذلك على الله بعزيز.

ولعل من نتائج هذا المسعى ذهابه إلى ينبع وتولية وظيفة الأمين بها، والتي وصف أحواله وأحوالها بما نقلناه آنفا.

(285)

ديوان البيتي: ص 20، 24.

ص: 276

‌شعر الغزل:

للبيتي قصائد قليلة في الغزل مثبتة في ديوانه، ولكن هذه القصائد أشبه بالمقطوعات إذا قيست بنفَسه الطويل في القصائد الأخرى وخاصة القصائد السياسية التي تصف أحوال البلاد والعباد، وبقدر ما أجاد البيتي وأطال في الأخرى، نجد شعره في الغزل لا يرقى إلى مستوى شعره في الفنون الأخرى، فهو في رأيي شعر تقليدي يخلو من حرارة العاطفة ووهج المشاعر، بل إننا نجد مطالع وافتتاحيات قصائده الأخرى أجزل ألفاظا وأجمل أسلوبا، ونحن نثبت هنا بعضا من هذا الشعر:

عالجت قلبى على سلوانكم فأبى

وطار شوقا إلى لقياكم وصبا

ونص لي عاذلي كل الملاح فما

مال الفؤاد لهم كلا ولا طربا

يزداد داء جنوني يوم أذكركم شوقا

وتزداد ناري في الهوى لهبا

مسحورُ والله فيكم مستهامُ بكم

سقيمُ مبْتَلى عليَّ الوجد قد غلبا

كونوا كما شئتموا إني وحقكم

قضيت ديْن التصابي كل ما وجبا

يا رحمتاه لمن تبكى عواذله

له وعند الأَحِبَّا الجافلين غبا

سقى لنا بالمصلى عهد مجتمع

ويا رعى الله عصرا معْكُموا ذهبا

أيام أنس ولذَّات ووقت هوى

وطيب وصل قضيناه وحُسْنُ صِبا

ردُّوا فؤادي الذي قَطَّعْتُموا قطعا

عليَّ أو فاجعلوا للملتقى سببا

ثلاثة أيام غبتم عن منازلنا

وإن تزيدوا عليها تسمعون نبا

(286)

ولعل أجل مقطوعة غزلية في ديوان البيتي هي:

لا نال جسمك من ضناي

ولا عناي ولا ولوعي

يا تاركي بفراقه

لهفان أكْرع من دموعي

(286)

ديوان البيتي: ص 88، 93 والبيت الأخير غير مستقيم الوزن.

ص: 277

سهران مبلى قد يئست

من الكوى ومن الهجوع

يَقْوى عليل السقم من

جسمي بما كنَّت ضلوعي

يا رحمتاه لواله الأكباد

والقلب المروع

متخلِّفا بعد الظعائن

باكيا بين الربوع

يُجرى مديد الدمع في

بحر البسيط وفي السريع

(287)

وأنا الذي هجت الحمام

على البكا وعلى السُّجوع

متصدع الأكباد

لولا الثوبا أبصرتم صدوعي

وإذا دعا اللاحى فما

أنا بالبصير ولا السميع

أهون بعذل العاذلين إذا

دعوا غير المطيع

يا ناهين القلب هلَّا

كان عندكوا جميعي

هذا النزاع اليكمو

والله من طول النزوع

كانت دروع الصبر تعصمني

فمزَّقتم دروعي

(288)

ونكتفى بهذا القدر من هذه المقطوعة ونختتم هذه النماذج بالأبيات التالية من مقطوعة أخرى:

يا ساكنين البان رقوا

للشجى المضني المشوق

إن الليالي بعدكم جا

ءت تغصصني بريقي

متلفتا نحو الحمى لا بالأسـ

ـير ولا الطليق

أهوى الشقيق لأجلكم وأحـ

ـنُّ للروض الأنيق

يا راشقي بِرناه يا طعَّـ

ـان بالقدِّ الرشيق

(287)

المديد والبسيط والسريع هي من أوزان الشعر.

(288)

ديوان البيتي: ص 89، 93.

ص: 278

وفِّرْ على رمقي وحنَّ

على معنَّاك الرميق

غرقان في بحر الهوى

بالله خذ بيد الغريق

بارت بضائع لوعتي

فيكم متى تَحْتَظُّ سُوقي

(289)

وإذا كان لنا من تعليق على شعر البيتي الغزلي فإنه شعر تقليدي عادي لا يرقى إلى مستوى شعره السياسي الذي يتألق فيه ويتجلَّى فلا تملك نفسك معه من الإِعجاب والتأثير.

‌وصف ديك:

للبيتي قصيدة طريفة في وصف ديك تصلح أن تكون أُنموذجا لشعره الوصفي، كما أنه تعمد فيها تنويع القافية مع الالتزام في كل مقطوعة بالقافية في شطري البيت نثبتها فيما يلي مع المقدمة التي وردت في الديوان عنها يقول البيتي:

كان لنا صاحب من مشايخ عسكر الشريف المرتّبين ببندر الينبع، وكان حسين بن ناصر ريِّس بعض المراكب أخذ منه ديكًا عزيزًا عنده ووعده بعوض عنه، ثم سافر ولم يعوِّضْه، فتأثَّر من ذلك وغضب وحزن حيث مكر به، وبلغني الخبر وأنا إذ ذاك بالمدينة، فكتبت إليه على سبيل المباسطة واسمه الشيخ مسعود بن صبح:

نهدي السلام وجزيل الأدعية

مع التحيات وفرض الأثنية

ووافرات من صنوف التسلية

للشيخ مسعود رَثا وتعزية

مما جرى لديكه العشاري

(289)

ديوان البيتي: ص 94.

ص: 279

أبيض يا قوتي العيون أفْرَق

مثل الحمام صادِحٌ مُطَوَّقُ

يعرف عرف الفجر قبل يطرق

يَشُمْ بأنفه وينشق

ويعرف الأوقات في النهار

له اطلاع بدقيقات الفلك

وسير كل كوكب أنَّى سلك

ما قطُّ خَلَّى واجبًا ولا ترك

يصطاد أوقات الزمان في شرك

حرصًا على خدمة أهل الدار

أبلق من أبناء ديك العرش

يسعى على هام بنات نعش

تحسده الغز إذا ما يمشي

وألف غرش فوق ألف غرش

قليلة في الريش والمنقار

أكرم به من أبلج المحيا

ظامي التوالي والصدور ريَّا

كأنما في رِجْلِه الثُّريا

كأنما في عينة الحُمَيَّا

فإنه بالتيه في حُمَّار

له انتهى التحرير والحساب

ودانت الحُسَّاب والكُتَّاب

كأنه في ضبطه الميكاب

كأنه في وزنه اسطرلاب

كأنه جهينة الأخبار

كأنه في صوته مزمار

كأنما في لحنه أوتار

كأنَّ ذاك العُرْف جُلَّنارُ

أو وردة أو أنَّه بَهَارُ

(290)

أو الشقيق راق للأبصار

إذا تغنَّى بالجِناح يضرب

يمدُّه طورًا وطورًا يَجْذُب

فيصدع القلب هوى ويُطربُ

فهو فقيه شاعر ومُعْرِب

وصدره سفينة الأشعار

(290)

البهار في اللغة الأردية هو الورد.

ص: 280

ويلٌ لأُمِّ ابن عطا ما فعل

غدوة راح الديك عنه وَرَحَلْ

قد كان أقراه الأذان والعمل

وصَنعة الألحان سيكا ورمل

(291)

وقبله قد كان كالجدار

ويل لمن في ينبع يؤذَّن

من بعده من ذا تراه يُحْسِن؟

ويلٌ على الجيران إن لم يحزنوا

يحقُّ أن تبكي عليه الأعين

وتصبح الأكباد في انفطار

بكى له القلب ولوعًا وانتحب

واستعرت نار الهموم والكُرَبْ

واحربًا لو كان أغناني الحرب

فلا سقيت الغيث يا ريِّسْ حَطَبْ

ودمت طول الدهر في بوار

أخذت ديكًا ما تساوي نعله

ولا توازي ظفره ورجلهْ

ولا رأيت في الطيور مثله

بل أنت أعمى بعده وقبله

تخوض في بحر الضلال الجاري

يا قدم الشوم ويا شوم القدم

ويا محالٌ في الوجود يا عدم

يا نهبة البُوم ويا صَيْد الرَّخَم

يا مسكن القِرْدانِ يا بيت الحَلَم

يا مربض الدب وغار الفار

يا خرجة السكان من مدخله

يا خرقة المركب من أسفله

.............................

يا قصفة تحوي على دَقَّلِه

يا ورطة الغريق في التيار

كم من صنوف حيل أحكمتها

ومن حبال خدعة برمتها

كم من دجاج بعده أيْمتهَا

وكم من فراخٍ عندنا يتَّمْتَها

طارت من الحزن عن الأوكار

(291)

السيكا والرمل: نوعان من الألحان.

ص: 281

يا ابن صبيح لا عداك الأجر

اصبر فيما يصبر إلا الحُرُّ

قد شقَّ والله عليَّ الأمْرُ

في وسط قلبى لا عج وجر

ولا البكا أراه يطفى ناري

فسايِرَ الدهر وكن قلاوي

وأحرص على وظيفة الحِدَّاوى

فإنها من أحسن التداوى

واحذر ولا يخدعك كل حاوى

أتقن فن الدَّك والأسحار

كيف وأنت قدوة العساكر

وشيخهم في الجمع والمحاضر

يميل بك كيد حُسَيْنَ ناصر

ويخطف الديك ولم تبادر

له بماضي سيفك التبار

حكاية ما مثلها حكاية

ولا سمعنا قبلها رواية

قرا عليك رقية وآية

وأطلق البخور في القراية

واستخرج الديك من الوجار

أين العصا كانت وأين البندقهْ

أين غدا الشنكال اين الدرقة

وأين جات العدة المعلقة

...........................

يسير بالديك ولست داري

والله ما في الديك قط من عَوَرْ

كمثل ما قالوا عليه واشتهر

ولم يكن أدرك نوحا في الكبر

لكن حسين قد تعاطى فعقر

تبًّا له من ماكر غدَّار

لو أنه قبلك كان ديكي

ما كنت أهديه إلى الملوك

فضلا عن الفقير والصعلوك

ولا رضيت فيه باللكوك

(292)

ولا سمعت سومة التجار

(292)

اللكوك: كلمة هندية معناها الألوف إحدها لك.

ص: 282

ولو غدا يؤخذ مني غصبًا

لكنت شَهَّبْتُ عليه حربا

أهُزَّ رمحًا وأسُلَّ عُضْبًا

في كل يوم غارة ونهبا

وأكب البُلْقَ لأخذ الثار

أجرُّ رومًا وأجرُّ تُرْكا

وأحبك الجيش عليهم حبكا

خيلًا مع البر وبحرًا فُلْكا

حتى ترى الأرض عليهم ضنكا

وتشرق السماء بالغبار

يا ليتك استفزعت بالمدينة

كيما تجيك السُّرْبَةُ المتينة

ويدحضون الزربة اللعينة

ويجعلون الكلب في القطينة

في الحبس في القلَّةِ في الصَّغَار

ففي البلاد عندنا عساكر

وفي البلاد عندنا قنابر

(293)

وكل شئ في البلاد حاضر

اشيا واشيا ما لهنَّ آخر

من فضل ربي الواحد القهار

ليتك لو شاورتني قبل العمل

لكنه قد سبق السيف العذل

فقل له حقك هذا يا بطل

علَّقَنَا في شنكل من الحيَلْ

الحكم لله العزيز الباري

وقد أردت أن أجيك منجدًا

مجردًا بكل مهر أجردا

نقيم يومًا في العداة أسودا

ونفتدي الديك بمهما يفتدى

بالسيف والدرهم والدينار

لكن كفانا الله من قتاله

وجاءت البدو إلى نزاله

وقطَّعو المركب مع حباله

وأحدث الريِّس في سرواله

ومزقوا الكرَّان بالشِّفار

(293)

القنابر: هي القنابل.

ص: 283

وكل هذا من عقوبات الدعا

لما نال سفح الضلوع جزعا

حاق عليه مكره ووقعا

وليس يُجْزَى المرء إلا ما سعى

هذا وفي الأخرى عذاب النار

وكل شئ قد تقضّى ومضى

ولا نسيت الديك حيَّاه الرضى

من بعده ما قط جفنى غمضا

وكلما مَوْهِنُ برقٍ ومضا

بكيته في وهنة الأسحار

أسألُ عنه آيبًا وذاهبًا

وأنشد الشمال والجنايبا

وأسأل الركبان والركائبا

أقول من يعرف منكم غائبا

طارت به أجنحة الأسفار

ديك أخٍ كان له يسلي

يدفع عنه همه ويجلي

يقرن بالواجب ندب النفل

مؤذّن مرجِّعٌ مُصَلِّي

مصدَّرٌ في صحف الأبرار

روى لنا عنه مزايا جمّة

وقال ديكي ذاك كان أُمَّهْ

قد أوعيت إليه كل حكمة

فاق على النحل عطا وقسمه

ويحفظ الصحيح والبخاري

فهل رأيتم في الزمان قبلي

فتى أصيب في الديوك مثلي

راح مُجَلِّي الحَلْبَةِ المُصَلِّى

وهكذا يدرج أهل الفضل

ويذهب الزمان بالأخيار

من بعده صار العشا في المغرب

والشمس قد عادت كمثل الكوكب

وشوشت أوضاع كل الرتب

أعجب ويا لِلَّهِ كل العجب

تحيرت في سيرها الدراري

وما قطعنا الياس منه مرَّة

لأننا نرجو الزمان كَرَّهْ

ص: 284

تكون منه للعيون قرة

وتبدل الأحزان بالمسرةَّ

وتنجلي سحابة الأكدار

(294)

والقصيدة كما يراها القاريء طويلة، ولكن البيتي تفنن فيها وأبدع أيما إبداع، وهي بنفسها الطويل وتعدد القافية فيها وبالموسيقية التي يختتم بها كل مقطع من مقاطعها تعبر أحسن تعبير عن تمكن الشاعر من ناصبة اللغة، وتذليلها لما يريد في أسلوب سهل جميل، وهي إلى جانب دقة الوصف وحماله يمكن تصنيفها في شعر الفكاهة التي تدخل إلى القلوب في يُسْرٍ فتشيع البهجة في نفس القارئ والسامع بما حوته من الفكاهة والسخر في قالب فني بديع.

‌شعر الرثاء:

نظم البيتي قصائد كثيرة في الرثاء نختار منها هذه القصيدة التي رثى بها الشريف حمود بن عبد الله بن عمرو الذي توفي بالمدينة كتب بها إلى أخيه أبي طالب بن عبد الله بن عمرو وهي:

نعم إن سرح الصبر جافٍ وحافلُ

وهيهات إن الدمع كاف وكافل

هو الحزن حُزْنا منه حظًّا وأنه

على قدر ما تدعو المصيبة نازل

صروفًا من الأيام، ذَودًا من الأسا

تساق إلينا والقلوب مناهل

قضى ما قضى من طبعه الدهر إنه

على جمعه الضدين عادٍ وعادل

وإنا لأغراضٌ نُصِبْنَ على الشَّفا

ودهرك والأقدار سهم ونابل

فكيف سها عن سيبويه بأننا

أسامٍ وأن الحادثات عوامل

(294)

ديوان البيتي: ص 102، 109.

ص: 285

خذوا من لسان الدمع شاهد لوعتي

فكل بليغ بعد دمعي باقل

ولم يبكني إلا السوابغ والظُّبا

وسُمْرُ القنا فيما أرى والحجافل

لَقًى في جفير السِّلْم صونًا من القذا

ويا طالما التفَّتْ عليها القساطل

وللعود والجرد العتاق سوائما

تلوك شكيم الغيظ وهي هوامل

ومن كرم الأخلاق كيف سَنامُها

يبات هزيلًا والرياح ذوابل

وفرقد مجد في سماء رياسة

بدا وهو مع بُرْجِ الشرافة آفل

وإن عقود المكرمات تساقطت

وأضحت وجيد الدهر منهن عاطل

على هالِك شَقَّت عليه جفونها

عيون المعالي فهي أيّم ثاكل

فيا لمصاب في لؤي بن غالب

بنوا عمرو فيهمْ واحدٌ وهو شامل

فليت المنايا كالرجال إذا التقت

يذب الفتي عن نفسه ويناضل

إذن لم يمت صبرًا ولا حتف أنفه

ولم تتكشَّفْ من حمود المقاتل

وأسْرف في أثر الجريرة مسرف

وأذَّن للثارات حق وباطل

فدى لك مني يا حمود من الردى

رقاب القناة والصافنات الصواهل

فدى لك لو أجْدَى الفِدا لتحملت

عليه شعوبٌ جَمَةٌ وقبائل

وكل نفيس بعد ذاك دخرته

ونفسي إن أجدت فإني باذل

وكم لك من طُلَّاب وِتْرِ مهلهل

لو الخصم جَسَّاسٌ وإنك وائل

ولكنَّ ما في الجهد غير الذي تري

نصيري دمعي والتَّصَبُّر خاذل

سلام على أرض البقيع التي انطوت

عليك وشقتها الغيوث الهواطل

من المرسلات الرائجات عَشِيَّةٌ

منائح ضرع المزن فيهنّ حافل

وليًّا على الوسميِّ أنْوا تتابعت

إذا شحَّ منها وابل سَحَّ وابل

رحلت ومن حرصي على العود أنني

أُؤمل في نفسي بأنك قافل

تقدمت في الركب المغذِّين للبِلا

ولكن باقي السفر بعدك راحل

ص: 286

فقابلك الرحمن منه برحمة

وعفو وغفران ونعم المقابل

أبا طالب لا فاتك الصبر إنه

جميل به تنسي الأسى بل تجامل

وكيف سلوٌّ من حزين إذا بدا

له ذاك يومًا ذكَّرته المنازل

وما جزعٌ عند الحليم بنافع

ولا تحت حمل الهم والحزن طائل

لعمرك إنَّا في المصاب لواحد

جميعًا وإن الحزن للكل حاصل

وإن كان صبري ناقصًا وتجلُّدي

فدمعي بإيضاح التلهف كامل

وما حال عهد الود عما عهدته

بَلَى وأَبي لكنَّ جسمي حائل

فلا تبْغ من سجع البلابل في الدُّجى

معينًا فعندي في الفؤاد بلابل

وطائر شجوي بالمراثي مترجم

تطارحه وُرْقَ الرُّبا وتساجل

على القرب أمليك الجوى وإذا نأت

بك الدار يوما فالدموع رسائل

تَعَزَّ ويكفيك العزاء بمن خلا

وراك ويشفيك القرون الأوائل

ومهما تشا فاطلب من الأرض شاهدا

فصيحا فكم فيها مجيب وقائل

إلى الله شأن في الضمير سترته

أروح وأغدوا وهو جاء وجائل

فهمنا عن الأيام سرَّ فعالها

وشتان دارٍ بالأمور وجاهل

تصرِّف من تهوى وتَصْرِف من تشا

وما بين ما تعطي وتأخذ فاصل

خذ الحُكْم من حظ اللئيم فإنه

يفيدك إن الدهر هازٍ وهازل

وإلا فللدنيا مُعَلًّى وناقصٌ

قسيمٌ وللأخرى سفيح وفاضل

صرفنا عنان الاعتراض لأننا

علمنا بأن الله للكل فاعل

فدونك من خدن القريض ظعائنا

يروقك معني حسنها والشمائل

ملاهي ينسين المصاب وإنها

وأعجب ما فيها إليه وسائل

ودمنا لا عدمنا في سلامتك البقا

تُسَرُّ بك الدنيا وتُزْهى المحافل

مدى الدهر ما أنشا وأنشد قائل

نعم إن سرح الصبر جاف وجافل

ص: 287

يقول البيتي عن هذه القصيدة:

وقد أنشدت هذه المرثية زين العابدين بن الشيخ سعيد المنوفي فاستحسنها، ثم قال: ليتني كنت الميت وإني رثيت بها ثم مات بعد أيام في سنة 1151 هـ

(295)

يقول البيتي فرثيته والقصيدة من عيون شعر البيتي وقد استوقفني فيها هذه الأبيات:

فليت المنايا كالرجال إذا التقت

يذب الفتي عن نفسه ويناضل

إذًا لم يمت صبرا ولا حتف أنفه

ولم تتكشف من حمود المقاتل

وأسرف في أثر الجريرة مسرف

وأذَّن للثارات حق وباطل

يتمنى الشاعر أن تكون المنايا كالرجال، يقابلها المرء وجها لوجه، فيدافع عن نفسه، ويذب عن روحه، لو كان الأمر كذلك لما مات حمود في فراشه حتف أنفه دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه، ولما تكشفت مقاتله للموت يسدد إليها سهامه فيصيبه الإصابة القاتلة، ومن هذا المعنى نستخلص أن حمودًا هذا كان من الشجعان الذين تتجلى شجاعتهم في ميادين القتال، وهم يقاتلون الأبطال، ويصاولون الرجال، والمعنى طريف وجديد، ولا أدري إن كان البيتي قد سُبق إليه من فحول الشعراء قبله، أم لم يسبق، ولكنه معنى طريف أجاد البيتي صياغته في هذا الأسلوب البديع.

أما القصيدة التي رثى بها البيتي الشيخ زين العابدين الذي أوردنا خبر استحسانه لمرثية البيتي للشريف حمود فهي لا تقل شأوًا عن رثائه

(295)

ديوان البيتي: ص 63، 67، 68.

ص: 288

للشريف حمود ومطلعها:

دعي عنك هذا الدمع يهمي ويهمل

ولا تذكري السلوى ولا الصبر أجمل

(296)

ولا تندبيني للتأسي ولا العزا

فمن ذوب عزمي في التصبر أغزل

ومنها:

متى أتَرَقَّى بالنباهة في الوري

وحظي غبيٌ والزمان مُعقِّل

أرى زهر الآداب صوَّح نبتُه

وكان على عهدي به وهو مخضل

أرى مورد اللذات من كل جانب

تكدَّر حتى ليس في الأرض منهل

سلام على الدنيا تحية زاهد

لما ناله منها وما يتحصَّل

ومنها وهو معنى جميل يصف صديقه المرثي فيقول:

على من ثوى بطن المعالي صيانَةٌ

عن الترب قبرًا أو يواريه جندل

على هادم ركنَ المكارم فقدُه

وكان قديمًا وهو للمجد معقل

ويصف بلاغة الميت وفصاحته فيقول:

على خاطب قُسٌّ إليه بناته

من الفكر ولهانا بها يتغزل

على من على سحبان يسحب ذيله

بأحسن ما بنشي وما يترسَّل

(297)

ويصف سداد رأيه وحكمته التي تخرج عليها ملوك الأولين والآخرين:

(296)

في الديوان: السلوان، وهو خطأ صحته السلوى وإلا لما استقام وزن البيت.

(297)

هو قيس بن ساعدة الأيادي، خطيب العرب المشهور، وسحبان بن وائل من بلغاء العرب.

ص: 289

على مبدع رأيًا سديدًا وحكمة

تخرج سابورٌ عليها وهِرقل

(298)

قعيدة أبناء الملوك موفق

أقر له المهديُّ والمتوكل

(299)

ومن الغريب أن هؤلاء الملوك جميعا قد تقدم بهم الزمان عن زمان زين العابدين الذي يرثيه البيتي، ولكن أعذب الشعر أكذبه كما يقولون. ثم يفخر بشعره فيقول مخاطب أهل المتوفي:

عليَّ لكم في حلبة الشعر سابق

أخب به يوم الرهان وأرمل

عليَّ لكم أن تَسْتَمِلُّوا قوافيا

يساجلني فيها حبيب وجرول

(300)

عليَّ لكم روض من النظم زاهر

زهير على أبياته يتطفل

(301)

والقصيدة كذلك من عيون شعر البيتي وإن اشتملت على المبالغات الكثيرة التي أوردنا طرفًا منها، ونكتفي بما أوردناه عن شعر الرثاء للبيتي، لنقرأ معًا نماذج من شعره في فن آخر.

‌سخرية البيتي:

يتميز البيتي بسخرية لاذعة في شعره ونثره المسجوع، وقد كتب إلى عبد الرحمن بن مصطفى السيوري الجداوي الذي مرَّ بمدينة ينبع،

(298)

سابور ذو الأكتاف من قواد الفرس وحكمائهم، وهِرَقْل هو قيصر الروم.

(299)

المهدي والمتوكل من الخلفاء العباسيين.

(300)

حبيب بن أوس الطائي: هو الشاعر أبو تمام، وجرول: هو الحطيئة الشاعر.

(301)

زهير بن أبي سلمى من شعراء المعلقات. ديوان البيتي: ص 64، 65، 69.

ص: 290

وكان قد أرسله الشريف مسعود بن سعيد ملك مكة المشرفة، فوعد البيتي بإرسال هدية إليه ثم مطل، وأخذ يجدد الوعد مع كل آت إلى ينبع، فكتب إليه البيتي كتابًا طويلًا خلط فيه الشعر بالنثر كعادته في رسائله، نقتطف منه ما يلي:

أهدي مزيد سلامٍ ألذُّ من الوصال، في طيف الخيال، وأحلى من الإقبال بالآمال، وأحبُّ من الإِتحاف بالإِسعاف، وأعذب من الورود، على حياض الوعود، وأعشقُ إلى الطالب من حصول المطالب، وأكرم من الغمام بإهداء السلام، أريجًا يَكُمُّه الزهر في أكمامه، ويلمُّه الجيد في نظامه، ويجعله الرحيق من ختامه، ويسهب البيتي كعادته في وصف السيوري هذا فيسبغ عليه من الأوصاف الكثيرة ما تعودناه في رسائله وشعره إلى أن يقول:

وبعد فالشوق إنْ تسألْ فإنَّ له

شواهدًا وسؤالي عنك أصدقها

وإنَّ في البعد ما ينسى الأخُوَّة

والتسآلُ عنك بلا شك يحققها

فكيف أنت وكيف الحال، دمت على

ما كنت أعهد من نعمًا وتُرْزَقُها

سوى المودة فيما بيننا فلقد

رأيت منك يدُ السلوى تمزِّقُها

وذاك مع طول عهد بالإخاء مضى

عمر الصداقة حتى شاب مفرقها

ثم يقول البيتي وهنا تبدأ السخرية العجيبة:

جاء في بشير المواعيد، على بريد، فملت إلى النفس أبشرها، وعلى الفرش أنشرها، وإلى الزلاع أنظفها، وعلى القفاع أصفِّفها، واشتغلت باللحية أسرِّحُها، وأهل الحارة أفرِّحها، ثم ذكرت وصول الحبوب في الغبش، فعبيت الخِيَشْ، وقلت ربما يصل التمر في العصر، فأخليت

ص: 291

القصر، ويا ترى تلك البضاعة، تسعها القاعة، أم لابد من توسعة الضيق، لتلك الصناديق، وكيف نُعيِّن الزبون، لافتراض العربون، وتسليم الجمَّال، إذا وصلت تلك الرسالة، ثم أنشدت وأنا أدور، بين الدور:

ألا بشرى لجيراني

مع الأصحاب والأهْل

فقد جاد لنا المولى

محل الجود والفضل

فلابُدَّ لأصحابي

من الإنعام والبذل

لهم مني مدى الأيام فضـ

ـل الزاد والأكل

وكلٌّ يكتسي مني

على الهيئة والشكل

من الفروة للجوخة

للعِمَّة للنَّعْل

وأيضًا خِلْعَةٌ أعطي

من الرأس إلى الرِّجْل

إلى السَّرْح إلى الرَّحْل

إلى القتب إلى الخَلِّ

فسجل يا غلام الخير

خيراتي على الكل

ونادى الأهل والجيران

وابعث نحوهم رُسْلِي

وخاطبهم إذا اجتمعوا

بدقٍّ الزير والطبل

وقل هذي مضايفنا

وهذي قِدرنا. يغلي

من اللحم إلى الرُّزِّ

إلى السمن إلى البَقْل

وأنواع من الغليِّ

والمَشْوِيِّ والمقلي

وأجناس من الزير بـ

ـاج بالمشمش والخلِّ

ولا تخرج أضيافي

إلى الشمس من الظل

وأما النقد فالحاضر

عامود وفندقلي

ومن يطلب زنجرناه

إن شاء بزنجرلي

ص: 292

فدعني ألبس التاج

بهذا المجلس الحفل

وإن كنت تنحنحت إنَا يا عبـ

ـد نَعِّمْ لي

تراني مقصد الحاجات

ما بعدي ولا قبلي

تراني أقتل الأقران يوم

الحرب مَنْ مثلي؟

وإن كنت تريد الحرب

هذا الخيل يا خلي

فقل ما شئت في قولـ

ـي وقل ما شئت من فعلي

وإن كنت توضَّأت علـ

ـي قصد الثنا صليِّ

وصف جودي وصف عودي

وصف سيفي وصف نصلي

فهذا الجيش ملآن

من الأعداد كالنمل

وهذا الخير مطروح

على الطرقات والسُّبْل

بصيتي سارت الرَّكْبُ

من الوعر إلى السهل

هنِّي اليوم بالأموال

قد أصبحت درهملي

ثم أخذت الإبريق، وملت على الطريق، واستكت واغتسلت، وتوضأت واكتحلت، وتنحنحت وسعلت، وخرجت ودخلت ثم ملت إلى الصندوق، ولَفِّيْتُ القاووق، ولبست الزربفت، من فوق التَّفت، وجلست على تخت التيمور.

ويستمر البيتي في هذا الخيال الساخر فيقول:

ثم خلعت على العتالين، وقدَّمت أجرة المخزِّنين، سبع سنين، ثم كررت إلى المحبرة، وطالعت الورقة بالنظرة فإذا السكر المكرر قد تسطر، وإذا البز المخزوم، ولطايف الملبوس والمشموم، وتأملت في

هامش الكتاب فإذا جراب وفيه الوعد بكل نفيس، وفي ضمن الجميع

ص: 293

كيس، وفيه المنّة بمفاتيح قارون، ومقاليد القُلَل والحصون، والوعد بطلسم الأهرام، وكتاب العهد على اليمن والشام، ولم أجد العهد على الصين، ولا فارس وقزوين، وأرض الدروب وفلسطين فحصل لي العجب العجاب، وقمت إلى الجراب، بعد إغلاق الباب، وقد أذكيت المصباح وفَتَّشْتُ إلى الصباح وإذا كتابان، وقد كتبا بالزعفران، وضُمِّخا بالعبير، ولُفَّا في حرير، وفي الأول ملك خراسان، وتقليد الشحر وعُمان إلى إقليم السودان، وما وراء النهر وعبادان، وإليه جزيرة العرب، وغوطة دمشق وحلب، ولم يزل يُنْعم ويَهَب، ويجئ بالعجب، وفي ذيل المنشور، وتمام السطور، تفضَّل بالأقاليم، وأنعم بتاج العز والتكريم:

ثم رتبت دفترا للعطايا

وقسمت البلدان بين الأخلا

قلت ذاك الصديق أعطيه صَنْعا

في بني حمير الكرام الأجِلا

وعلى فارس صديقٌ وأرض الروم

ثانٍ والهند أُوليه خِلّا

حاصل الأمر أن كل محبٍّ

لي على قدر حظه يتولَّى

وأنا في السحاب بيتي وتختي

كل يوم إلى السما يتعلَّى

واقترضنا في الحال ألفين دينارا

نقضي بها هنالك شغلا

واشترينا خمسين عبدًا خصينا

منهموا نصف ذاك إلا أَقَلَّا

واستعرنا لهم ثلاثين قاووقا

على رأسهم وللرِّجْلِ نعلا

ثم ناديتهم وقلت هلموا

فادخلوا هذه الطوالة قبلا

كل شخص منكم حمار يُنَقِّي

ثم شيخ العبيد يركب بغلا

وخذوا ذا السلاح سيفًا ورمحًا

ودروعا تسمو وقوسًا ونبلا

واعرضوا نَفْسَكُم عليَّ فإني

أشتهي العبد في السلاح المحلّا

واقعدوا عند بابنا ثم قولوا

يوم تأتي الحمول أهلا وسهلا

ص: 294

ثم إني أفكرت إن أصبح الخير

علينا ماذا تقدم فعلا

قلت حط القماش والبز في المجلـ

ـس واجعل باقي التفاريق سفلا

هذه صُفَّةٌ نحطّ عليها المسك أم

هذه بذلك أولى

هذه للزبار تحمل قرنـ

ـا هذه يا فلان تأكل رطلا

(302)

ثم يتساءل البيتي بعد كل هذا:

يا ترى تحمل المخازن عشرا

من هدايا فضل السيوري أم لا؟

ثم يضرب المندل الذي يستحضر به الجان ليخبروه عن هذه الهدايا التي يحملها السيوري إليه، ولا يكتفي بذلك فيضرب ما يراه في الرمل، وما ينبئه به المندل مستنبئًا

(303)

.

وبعد أن يصف ما يراه في الرمل، وما ينبئه به المندل يخاطب السيوري قائلًا:

يا ذا الذي وعد المعروف ثم مضى

لذاك عمر الأماني والزمان فني

ومن على مذهب الحسبان ملَّكَنا

كنوز قارون من مصر إلى عدن

إن كان عندك محض الجود تحسبه

أصلًا من الجود أو فرعًا من المنن

فعد بحنطة بولاق واتبعها

مع ساحل البنِّ غابات من التُّتُن

وافرض بأنك قد قلّدتني عملا

بالهند أجبي صنوف الخَزِّ والقُطُن

وولِّني ساحل البحرين أجلبه

بسوق سعدك بازارًا بلا ثمن

(302)

الزَّبار: عطر يمني قديم.

(303)

المندل والرمل هما من الأعمال السحرية التي يلجأ إليها المنجمون والمشعوذون، وهي ليست من الدين بل ينهي عنها الإسلام.

ص: 295

وخذ بإيوان كسرى والخورنق

والقصر المشيد وملك الشام واليمن

وأعقد لي التاج زعمًا منك واجعلني

على طوائف ذي القرنين في المدن

وقل وهبتك ما في الأرض نِعَمٍ

باللحم والجلد والأصواف واللبن

ولا تكن خشية الإِنفاق مقتصرًا

ما دام كنزك من وعدٍ وبتَّ غني

ثم يقول:

الله وعدك مذ عامين أنشدني

أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني

خذ من علومي ولا تركن إلى عملي

ولا يغرُّكُ مني خُضْرَةُ الدَّمَن

فقلت أَجْرَي عند الله أطلبه

حولين يا وَعْدُ تسقيني وتطعمني

من العجائب أبديت الشجاعة في

وعدي وعدت أكلت الخبز بالجُبُن

مبالغات من الأقوال نسمعها

لو كُنَّ في البحر ريحًا طرن بالسفن

يا ذا الذي جاد في الأحلام لي كرمًا

يهنيك إني قد استغنيت من أذني

فلا تكن تقطع التسويف عني في

كتاب ودّك لي في لفظك الحسن

حتى أفوز بملك الأرض منك ولا

أرضى بأني في غمدانَ ذو يزن

وخذ ثوابك وعدًا مثل وعدك لي

هذا بذاك ولا عتب على الزمن

(304)

والمتأمل في سخرية البيتي يرى أنها تقدم معرضًا من الصور ترسمها ريشة فنان بارع، وتوشيها خيالات شاعر مبدع يبدأ بتهيئة نفسه الاستقبال الهدية التي بُشِّر بها فقام يهيئ نفسه لذلك بإعداد الأماكن التي ستنزل بها حمول الهدايا، وتنظيف المواعين التي ستوضع فيها ثم قام يبشر جيرانه بما سينالهم من هذا الخير القادم عليهم، فتخلع عليهم الكساوى الكاملة من الفروة للجوخة للعِمَّة للنَّعْلِ.

(304)

ديوان البيتي: ص 39 - 40.

ص: 296

وكما يبشر الجيران والأهل بالكساوي والخلع فهو يبشرهم بالضيافة التي تتكون من:

اللحم إلى الرز

إلى السمن إلى البقل

ولا يكتفى بذلك فهناك العطايا من النقود:

وأما النقد والحاضر

عامودي وفندقلي

ومن يطلب زنجرناه

إن شاء بزنجرلي

ولعل خبيرا في النقود والمسكوكات يلقي الضوء على النقد العامودي، والفندقلي، والزنجرلي الذي جاء في البيتين، وبعد العطايا والهبات يستعد البيتي للجلوس في هذا المجلس الحافل الذي تتغنى الركبان بجود صاحبه وشجاعته، ثم يلبس البيتي أجمل ما لديه من لباس استعدادا لاستقبال الهدايا القادمة، وينظر بعين الخيال فإذا السكر المكرر قد تسطر، وإذا البز المخزوم، ولطايف الملبوس والمشموم.

ويمعن البيتي في خيالاته بل وفي سخريته اللاذعة فيتصور أنه تلقى كتابًا بالولاية على اليمن والشام (ولم أجد العهد على الصين ولا فارس وقزوين وأرض الدروب وفلسطين) فعجب أن تسلخ هذه البلاد من ولايته فيبحث في الجراب فيجد ماذا؟

"وإذا كتابان، قد كتبا بالزعفران، وضُمِّخا بالعبير ولفَّاتِ الحرير، وفي الأول ملك خراسان، وتقليد الشِّحر وعُمان"(إلى إقليم السودان، وما وراء النهر وعبادان، وإليه جزيرة العرب، وغوطة دمشق وحلب).

ص: 297

وبعد أن يطمئن الشاعر إلى أن حكم هذه الدنيا العريضة قد أصبح إليه، أخذ يقسّم الولايات بين أصدقائه وذويه:

قلت ذاك الصديق أعطيه صنعًا

في بني حميْرِ الكرام الأجِلّا

وعلى فارس صديقٌ وَأَرْضُ الروم ثانِ

والهند أُولِيه خلا

حاصل الأمر أن كل محب

لي على حظه يتولى

وبما أن هذه الولاية العظيمة تقتضي ما يصلح لها من الخدم والأعوان فقد اقترض البيتي ألفي دينار:

واشترينا خمسين عبدًا خصينا

منهمو نصف ذاك إلا أقلا

واستعرنا لهم ثلاثين قاووقا

على رأسهم وللرجل نعلا

ثم اشترى لهم الدواب:

كل شخص منكم حمار ينقي

ثم شيخ العبيد يركب بغلا

وخذوا ذا السلاح سيفًا ورمحًا

ودروعا تسمو وقوسًا ونبلا

ثم قال للعبيد:

واعرضوا نفسكم عليَّ فإني

أشتهي العبد في السلاح المُحَلَّا

واقعدوا عند بابنا ثم قولوا

يوم تأتي الحمول أهلا وسهلا

وبعد أن يمهد الشاعر لاستقبال الهدايا بكل هذه الصور الرائعة، ثم تبطئ في وصولها يلجأ إلى ضرب الرمل والمندل وصنوف الشعوذة، يتنبأ بها عن الهدايا التي أبطأ وصولها، ثم يتبيَّن في نهاية الأمر أنه كان يعيش منذ عامين في أحلام الوعود الكاذبة فيشبه حال السيوري بحال المعيدي:

ص: 298

الله وعدك مذ عامين أنشدني

أنا المعيديُّ فاسمع بي ولا ترني

خذ من علومي ولا تركن إلى عملي

ولا يغرَّك مني خضرة الدَّمن

والواقع أن هذه المهزلة التي ضمنها البيتي سخريته اللاذعة من السيوري تصلح بما حوته من مناظر مختلفة، وصور رائعة أن تصاغ في رواية هزلية تمثل على مسرح من المسارح، فقد جمعت كلما يحتاج إليه فن التمثيل من صور وخيالات وحوار، وهي قبل كل شيء، وبعده شاهد عظيم على إبداع البيتي وما يتصف به شعره وأدبه من فنون الإبداع في أداء بارع وخيال جميل.

‌فنون أخرى:

عالج البيتي فنون الشعر بأنواعها المختلفة فنظم في الحكمة، ووصف مجالس اللهو والمجون، ونظم في الطب ووصفات الدواء، ومدح وهجا، وكان شاعر المدينة وكاتبها في عصره ونحن نورد هنا نماذج من هذه الفنون نختارها بصورة عفوية لتكتمل للقارئ صورة البيتي في هذه الفنون:

‌شعر الحكمة:

لا تستخفَّ بشيء في الورى أبدًا

فالمرء يقتُله ما يستخف به

ولا تفرِّط ولا تُفْرِطْ وخذ وسطًا

تنجو بنور الهدى من ظلمة الشُّبَه

وقال:

تحرك لحفظ الشيء عندك مرة

فإن أنت لم تفعل تحركت أربعا

ومن تك قد جرَّبْته فحمَدْتَه

فعضَّ عليه بالنواجذ أجمعا

ص: 299

ولا تتحول عن أخ قد عرفته

لآخر ما جرَّبته تندما معا

وما الناس إلا كالدواء فبعضه

كَفَا وشَفَا والبعض آذي وأَوْجعا

ودار عدوًا والصديق كنفعه

فمن لم يدارِ المشط ضَنَّ وقطعا

وقال:

تحفَّظ على أهل الحجي من ذوي التُّقَى

فإن التقى للمتقين ذمام

فمن لم تكن فيه مع الله ذمة

فليس له في العالمين

(305)

‌شعر الهجاء:

للبيتي هجاء مقذع لم يتورَّع فيه عن إلصاق التهم القبيحة بمن يوجه إليهم الهجاء، ونقل هنا من الديوان بعض الأبيات من قصيدة بهجو بها رجلا أطلق لسانه بالذمِّ في البيتي ومنها:

سمعت عنك حديثًا

لذمِّنا متَضمِّن

والكلب ينبح جهرًا

وأنت تنبح مكمن

ومنها:

من لي بقطع لسانك

وقلع ضرسك والسِّنْ

وحلق دقنك نَتْفًا

حتى تقرَّ وتَذْعن

والصفع لابُدَّ منه

أعلم بهذا وأيقن

ومنها:

يا رافضي مُتَخَفِّي

وناصبي مُتَبَيِّنْ

تظن أنك تخفي

وأنت جهلك بَيِّنْ

(305)

ديوان البيتي: ص 5.

ص: 300

ومنها:

إن قلت دَنَّسْت عرضي

فليس عرضك صَيِّن

(306)

والقصيدة طويلة، وقد اخترنا أخف ما فيها:

ويقول من قصيدة أخرى:

يا ذا الذي قد أقام درسًا

لمثله ليس بالحقيق

ويل لوجه عليك صَلْدٍ

أشد من جُرَّةِ الطريق

يا قبة الكبر ما رأينا

أوقح من وجهك الصفيق

قعدت تروي العلوم جهلا

في زي طَبْلٍ وصوتٍ بُوقِ

ومنها:

زَلَّ حمار العلوم لما

جلست يا وحل في الطريق

فاستر على الجهل لا تدلِّسْ

وتخلط الفحم بالدقيق

(307)

ونكتفي بهذين النموذجين من شعر الهجاء عند البيتي.

‌البيتي يصف شعراء عصره:

ونورد هنا وصفًا للبيتي أثبته في ديوانه لشعراء وأدباء عصره وهو مما يدخل في باب الهجاء، ونثبته هنا لطرافته، ولأهميته من الناحية التاريخية:

(306)

ديوان البيتي: ص 94، 98.

(307)

نفس المصدر: ص 99.

ص: 301

أدباء هذا الوقت بُلْهٌ

في جلود الأذكياء

يتعاظمون نفوسهم

وهمُ أدَقُّ من الهباء

لو صُوِّرت أشعارهم

ما جئن إلا كالنساء

فعقولهم فصل الخريف

وشعرهم فصل الشتاء

جمع الركاكة والبرودة

في نسيب كالعزاء

مرضُ المسامع والفؤاد

كأنه زمن الوباء

تخشى على الممدوح يقضي

فيه من برد الثناء

يا غربة الآداب ضاعت بـ

بين أظهر هؤلاء

(308)

وتشبيه النسيب بالعزاء في وصف برودة الشعر تشبيه دقيق رغم قسوته، أما تشبيه هذا الشعر الركيك البارد بالوباء فهو تشبيه جيد، نستطيع أن نستعيره من البيتي لنطلقه على هذا الهراء الذي تفيض به الصحف والمجلات الأدبية مما يسمونه شعر الحداثة، وقد خلا من موسيقية الشعر، كما خلا من جمال المعنى وحسن الأداء فما أشبه الليلة البارحة.

‌البيتي شاعر المدينة في عصره:

اشتهر البيتي في عصره بإبداعه في الشعر وتبريزه في النشر، فكان شاعر زمانه في المدينة المنورة يلجأ إليه الكبراء وغيرهم في كتابة الرسائل إلى الملوك والعظماء، والإخوان والأصدقاء، وقد أثبت البيتي في ديوانه صورًا لهذه الرسائل التي تجمع غالبًا بين الشعر والنثر المسجوع، وهو أمر يدل على اعتراف أهل المدينة في عصره بإمامته في الشعر والنثر فكان

(308)

ديوان البيتي: ص 104.

ص: 302

لسان عصره في المدينة، وربما في الحجاز، فقد نعته المترجمون بأنه متنبي الحجاز، أو كاد أن يكون كالمتنبي

(309)

، فقد أثبتنا بعض مطولاته التي أرسلت للشريف مسعود ملك مكة المكرمة على لسان أهل المدينة في شأن الفتنة التي وقعت عام 1148 هـ

(310)

. كما أثبتنا القصيدة التي كتب بها على لسان بعض السادة العلويين يصف ما وقع عليهم من الأعراب وهم في طريقهم لزيارة المدينة المنورة

(311)

والديوان حافل بهذه الرسائل التي يعتبر بعضها إلى جانب البراعة الشعرية وحسن البيان تسجيلا تاريخيًّا لأحوال المدينة السياسية والاجتماعية في عصره، وقد أسلفنا الحديث عن هذا الأمر، ولم تقتصر رسائل البيتي على الأحداث السياسية في عصره وإنما كان مقصودًا من الناس لكتابة الرسائل إلى الكبراء في قضاء حاجاتهم، فهناك قصيدة أثبتها البيتي في ديوانه وقدم لها بما يلي: وسأل مني أحمد ريحان الجداوي أن أكتب له مكتوبًا إلى حضرة المرحوم السيد عبد الله أسعد زاده مفتي المدينة المنورة سابقًا ومضمون ذلك التماس شيء من فواضله

(312)

وأمثال هذه الرسائل يحفل بها الديوان كما أسلفنا وقد أبدع البيتي فيها كعادته أيما إبداع.

‌خلاصة الرأي في أدب البيتي:

نستطيع أن نوجز الرأي في أدب البيتي أنه كان تعبيرًا صادقًا

(309)

انظر: المختصر من كتاب"نشر النور والزهر": ص 154.

(310)

ديوان البيتي: ص 37.

(311)

نفس المصدر: ص 51.

(312)

نفس المصدر: ص 82.

ص: 303

وجميلًا عن الحياة في عصره من شتى جوانبها السياسية والاجتماعية، وأن قارئ الديوان والمتأمل فيه يخرج منه بتصور إن لم يكن كاملًا فهو شبه كامل لأحداث هذا العصر سياسية واجتماعية، ونستطيع أن نلخص هذه الأحداث السياسية أنها كانت مضطربة أشد اضطراب. فقد وصف البيتي هذه الأحداث حينما عمل بينبع أمينًا المخازن الغلال فقدم لنا صورة عن حالة الأمن المضطرب وتسلط الأعراب من البدو على مدينة ينبع ومحاصرتهم لها في بعض الأحيان، كما صور أحوال النهب والسلب السائدة في ذلك الزمان، وإهمال العثمانيين معالجة هذه الأمور بما يجب لها من الحزم والعزم، كما صور الحياة الاجتماعية في ينبع فوصف الأحوال الصحية وتسلط الحشرات في أسلوب يجمع بين الجد والهزل ولكنه يعطي صورة لما كانت عليه أحوال ينبع الصحية والاجتماعية في ذلك الزمان. أما بالنسبة للمدينة فديوان البيتي يصور لنا المدينة المنورة وهي موزعة ممزقة بين تسلط الأغوات - الخصيان - الذين كانوا يتولون مشيخة الحرام في المدينة المنورة، والذين كانوا يَسْتَعْدُونَ الأعراب على أهل المدينة. ويتحالفون مع مشايخ قبيلة حرب الذين يهرعون بأتْباعهم من البدو إلى محاصرة المدينة والذين لم يتورعوا عن تحويل المسجد النبوي الشريف إلى ما يشبه الثكنة العسكرية تتكدس فيها الذخائر والأسلحة وتستعمل المنائر لإطلاق النار منها على خصومهم من أهل المدينة، كما تسجل قصائد البيتي ما بلغه هؤلاء الأعراب من القوة والبأس حينما انتصروا على القوة التي أرسلها الشريف مسعود أمير مكة المكرمة فدحروها في رابغ، كما تصور لنا قصائد البيتي ورسائله الإهمال الفظيع الذي كانت تلقاه المدينة من الحكام العثمانيين، والذين تركوا مشايخ الحرم من - الأغوات - الخصيان

ص: 304

يعيثون فسادًا فيها، فلم يقدموا على إصلاح الأوضاع التي عمت الشكوى منها بل كان هؤلاء الأغوات لسابق خدمتهم في بيوت السلاطين يجدون دائمًا العون والنصير لباطلهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى قتل السيد عبد الكريم البرزنجي وإلقاء جثمانه بجوار مسجد الشافعي بجدة حيث سمي المكان الذي ألقي فيه جثمانه - المظلوم - إشارة إلى الظلم العظيم الذي وقع على هذا العالم الجليل.

وفي ديوان البيتي يستشف القارئ ملامح الحياة الاجتماعية في المدينة المنورة، يرى هذه الملامح في فنون كثيرة من شعر البيتي يحفل بها ديوانه يصف بها مجالس اللهو، إن لم تكن صادقة كل الصدق لأن فيها من مبالغات الشعراء، فإن الناقد البصير يستطيع أن يستخرج منها الصورة الأقرب إلى الصدق دون عناء، وقد عالج البيتي في ديوانه فنونًا كثيرة لا تمت إلى الشعر بصلة مثل وصف الأدوية للأمراض البسيطة التي كانت في مجتمع المدينة، كما وصف صناعة المربيات وغيرها مما لا يدخل في باب الشعر، ولكن قدرة البيتي على النظم طوعت له اللغة ليصف كل هذه الأمور، ومنها يستطيع القارئ المتأمل تصور جوانب طريفة من الحياة الاجتماعية لأهل المدينة في ذلك الزمان.

رحم الله السيد جعفر محمد البيتي، فلقد كان شاعرًا عظيمًا في زمانه وبعد زمانه فأفدنا من ديوانه بعد مرور أكثر من مائتين وخمسين عامًا هذه الفائدة العظمى التي عرفنا بها أحوال المدن الحجازية في ذلك الزمان السحيق.

* * *

ص: 305

أَعْلامُ الحجَاز في القرن الرابِع عَشْر للهجرة وبَعض القرون الماضية

ص: 307

الشيخ حسن محمد المشاط

ص: 308

‌الشيخ حَسَن مُحَمَّد المشاط

‌وصفه:

طويل القامة في غير إسراف، معتدل الجسم، شديد الاسمرار، واسع العينين، أقنى الأنف، مسبل اللحية والعارضين، يرتدي الملابس الحجازية البيضاء، ويشمل هذا البياض الثوب والجبة الواسعة، ويلف على رأسه عمامة بيضاء لا يحتفل بإتقان لفاتها، وإنما يكوّرها في بساطة محببة، تلمح في وجهه علائم الذكاء والنبل، وفي سيمائه وحركاته إشارات البساطة والزهد.

‌مولده ونشأته:

ولد بمكة المكرمة في 3 شوال سنة 1317 هـ، وفي السابعة من عمره التحق بالكتَّاب لقراءة القرآن وتجويده وتعلم مبادئ الكتابة والإِملاء والحساب، فقرأ القرآن الكريم وجوَّده على الشيخ محمد السُّنَّاري والشيخ عبد الله حمدوه السُّنَّاري وتعلم الخط وحسَّنه والإِملاء والحساب على السيد علي حسن الليثي - رحمهم الله تعالى -

(313)

، والتحق بالمدرسة الصولنية بمكة في عام 1329 هـ التي أسسها الشيخ العثماني رحمه الله بمكة في سنة 1292 هـ

(314)

وحصل على شهادة منها

(313)

إمتاع أولي النظر ببعض أعيان القرن الرابع عشر الهجرى للشيخ محمد ياسين الفاداني المكي: ص 58.

(314)

انظر: ما كتبناه عن الشيخ رحمة الله العثماني والمدرسه الصولتية في الجزء الثاني من أعلام الحجاز.

ص: 309

في غرة محرم سنة 1336 هـ، وطلبت إليه إدارة المدرسة الانضمام إلى هيئة التدريس بها فأصبح من مدرسيها

(315)

، ولم يكتف الشاب حسن المشاط بما تعلَّمه في المدرسة الصولتية، ولكنه كان يترقب العُلماء الوافدين إلى مكة المكرمة فيأخذ عنهم، طيلة إقامتهم في البلد الحرام.

يقول عن نفسه:

قدم العلامة الشيخ حمدان بن سيدي حمد الجزائري الونيسي القسنطينى مكة المشرفة حاجا عام 1337 هـ، وتشرفت بالاجتماع به وقرأت عليه من أول مختصر خليل بمكة وبمنى أيام الحج وبعد النزول، ومكث بها إلى نهاية ذي الحجة ومحرم الحرام، وانتفعت منه الشئ الكثير

(316)

.

وهذا الحرص من طالب العلم إن دلَّ على شئ فإنما يدل على الرغبة الشديدة في الطلب، فهو يواصل الطلب حتى في أيام التشريق بمنى، لا يصرفه عن ذلك ما يصرف غيره من انشغال بأداء المناسك، وإنما هو يضع هَمَّه كله في تحقيق الغاية التي يسعى إليها فيذلل الصعاب، ويتحمل المشاق ليبلغ ما يريد.

ويروي قصة تلقيه العلم من عالم آخر هو الشيخ محمد عبد الله زيدان الذي توطن المدينة ثم غادرها خلال الحرب العالمية الأولى

(315)

كتاب "الجواهر الثمينة" للشيخ حسن المشاط، ترجمة المؤلف بقلم الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان محقق الكتاب: ص 19.

(316)

"الجواهر الثمينة" نقلًا عن مذكرات الشيخ حسن المشاط: ص 21.

ص: 310

عام 1333 هـ فسافر إلى الشام والأردن ثم رجع إلى مكة عام 1334 هـ فيقول:

اجتمعت به، وتشرفت ولازمته أكثر من غيرى، لأنه كان يبتعد عن الناس، ويركن إلى الخلوة، كنت فارغا ليس لي شغل إلا العلم، فكنت آتيه داره في الصباح إلى قرب الزوال، كنت أستعمل معه شيئًا من السياسة فأغيب اليوم واليومين لئلا يشعر أني اتخذت هذا عادة، بل كان في بعض الأوقات لا يأذن لي بالدخول فأرجع، ثم أعود وأزعجه في كثرة التردد، فإني إذا لم أظفر صباحا لا أتركه مساءًا، حتى قال لي يوما وهو على فراشه طريحا، أو قلت له كيف حالك يا سيدي؟ قال لي: لا روح فيَّ، يقول الشيخ حسن المشاط:

كنت شابًّا لا أفهم معنى ذلك - غفر الله لي - إنما همتى وغايتى العلم، فآخذ بيده وأقيمه ليجلس، وأسلم عليه وأباسطه - والله يغفر لي -

(317)

.

وهذه القصة وأمثالها تذكرنا بما كان يتحمله طلبة العلم من مشايخهم، فقد كان طلبة العلم يقفون على باب الإمام مالك بن أنس وهو في العقيق خارج المدينة فيأذن لهم أو يمنعهم، وهكذا كان حسن المشاط طالب العلم يتحمل الصدَّ من شيخه عبد الله زيدان، فإن منعه الدخول في الصباح عاد إليه في المساء، وإن كان مريضًا طريحًا أقعده

(317)

كتاب "الجواهر الثمينة" نقلًا عن مذكرات الشيخ حسن المشاط، بتحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: ص 21.

ص: 311

وأقامه وباسطه وروَّح عنه حتى يتلقى عنه، وهذا الإِلحاح في الطلب، والجدُّ فيه يدل على أن نفس الشاب حسن المشاط وقد أشربت حب العلم، فاندفع بكليته يسلك السبيل الذي يوصله لتحقيق الغاية التي يسعى إليها، والتي وضعها نصب عينيه.

وقد تلقى العلم على الشيخ عبد الرحمن دهان والشيخ عيسى رواس من علماء مكة المكرمة، وكما اتصلت أسبابه بأسباب الشيخين حمدان الونيسى ومحمد عبد الله زيدان فقد اتصلت أسبابه كذلك بالسيد محمد عبد الحى الكتابي، وهو من كبر علماء الحديث في زمانه، وكذلك بالشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي والشيخ عمر حمدان المحروسى والشيخ محمد الخضر بن مايابي الجكنى وتلقَّى عليهم وأخذ إجازاتهم، حتى استوى مدرِّسا له حلقة بالمسجد الحرام

(318)

وكان يحرص على التدريس في هذه الحلقة أكثر من حرصه على أي شئ آخر، لا تشغله عن ذلك المشاغل الخاصة أو العامة، وكان لا ينقطع عن التدريس في المسجد الحرام في أيام المواسم التي يشتد فيها الزحام ولم يكن يتقاضى على التدريس في المسجد الحرام أيَّ راتب أو مكافأة مصرًّا على أن يكون عمله هذا حسبة لوجه الله تعالى.

وهذا الذي نقلناه عن مذكرات الشيخ حسن المشاط مما كتبه صديقنا العالم المحقق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان يذكرني بقصة أخبرني بها الشيخ محمد المشاط والد الشيخ حسن المشاط قال لي:

(318)

كتاب "الجواهر الثمينة" وانظر: الترجمة الوافية لمحقق الكتاب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: ص 26، 27.

ص: 312

حينما كان ابني حسن وهو بكر أولادي جنينا في بطن أمه نذرته للحرم، كان الشيخ محمد المشاط يدعو الله تعالى أن يكون الجنين ولدا ذكرا يربيه ويعلمه حتى ينشأ عالما يقف حياته على خدمة الحرم، ولقد استجاب الله دعوة هذا الرجل الطيب فاستقبل ميلاد ابنه البكر وهو ملئ القلب بالشكر لله تعالى أن حقق الله رجاءه وأجاب دعاءه فنشأ ابنه حسنا على حب العلم فكانت حياته كلها ما بين متعلم ومعلِّم، وكانت صلته بالمسجد الحرام عميقة وشديدة، ففى رحاب المسجد الحرام تلقى العلم، وفي هذه الرحاب المطهرة المقدسة عقدت له حلقة التدريس فتخرج على يديه الكثير من الرجال الذين أصبحت لهم حلقات للتدريس في المسجد الحرام، والذين قام بعضهم بتأسيس المدارس لا في مكة المكرمة وحدها وإنما في أندونيسيا وماليزيا، وقد أورد الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان تراجم مختصرة لتلاميذ الشيخ حسن مشاط منها ما يعطى صورة مصغرة عن هذا العمل الطيب الذي باركه الله تعالى فكان كالنبتة الطيبة تغرس في الأرض فتؤتي أكلها بإذن الله تعالى ثمارًا جنيَّة شهية يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:

من الصعب جدًا حصر الطلاب الذين تلقوا العلم على يد فضيلة الشيخ المشاط فقد تخرج بفضيلته أعداد كبيرة تسنَّموا مناصب علمية كبيرة في الجزيرة العربية والأقطار الإسلامية فمن هؤلاء بالحرمين الشريفين:

العلامة الفقيه السيد محسن بن السيد علي المساوى المدرس بالمدرسة الصوليتية، ومؤسس دار العلوم الدينية بمكة المكرمة عام 1353 هـ.

ص: 313

الشيخ محمد عبد الكريم السنَّاري مدير المعهد العلمي للمعلمين بالمدينة المنورة، ووكيل مدير التعليم بالمدينة المنورة سابقا والمتوفي بها عام 1405 هـ.

ومنهم الشيخ زكريا بن عبد الله بيلا المدرس بالمسجد الحرام وعضو إدارة الحرم المكي وصاحب التآليف الدينية، وكذلك الشيخ علي بكر سليمان الكنوي المدرس بالحرم المكي وبكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى والمتوفي عام 1399 هـ.

والشيخ ياسين بن عيسى الفاداني المكي المدرس بالمسجد الحرام ومدير مدرسة دار العلوم الدينية والشيخ عبد الله أحمد دردوم من كبار علماء الحرمين الشريفين، والشيخ الشريف طاهر بن محمد المغربي الإدريسي.

والشيخ عثمان بن محمد سعيد تنكل المدرس بالمدرسة الصولتية .. ومقري مكة الشهير الشيخ زين عبد الله باويان. وقد أورد الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان تراجم مختصرة لكل هؤلاء السادة الأفاضل عدَّد فيها مؤلفاتهم، ومآثرهم فليرجع إليها من شاء الاستزادة

(319)

.

وقد كان للشيخ حسن مشاط تلاميذه من آل المبارك في الأحساء، وقد عَدَّد الدكتور إبراهيم أبو سليمان أسماءهم كما ذكر أسماء آخر المتخرجين على يدي فضيلته، منهم: الدكتور السيد محمد علوي مالكي، والدكتور عبد الوهاب أبو سليمان نفسه وكثيرون لا يتسع المقام

(319)

"الجواهر الثمينة" للشيخ حسن المشاط، بتحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: ص 36 - 40.

ص: 314

لذكرهم جميعا، فليس المراد في هذه الترجمة الاستقصاء وإنما المراد هو التمثيل للتدليل.

ولكنَّ أعظم ما استوقف نظري وأثار اهتمامي ما ذكره الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان جزاه الله خيرًا عن تلاميذ الشيخ في أندونسيا وماليزيا ونجتزيء منه ما يلي:

يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:

يأتي في مقدمة هؤلاء العلامة الفاضل المجاهد الذي وهب نفسه وحياته لنشر الدعوة الإسلامية الشيخ محمد زين الدين الأنمفتاني مؤسس نهضة الوطن وفروعها وصاحب المؤلفات البديعة يقول الشيخ زين الدين عن تأسيس هذه المدارس:

بعد أن منَّ الله تعالى لإتمام الدروس والدراسة بالمدرسة الصوليتية ذات الاحترام عام 1325 هـ رجعنا إلى أرض الوطن أندونسيا سنة 1354 هـ بإذنٍ من الشيخ الإمام حسن محمد المشاط، وكان دائما كعادته الحسنة يبسط يد الإرشاد والتوجيه بالمثابرة على نشر العلم، وبثِّ محاسن الأخلاق والدين بين الأخوة الإيمانية والإنسانية فبحسن توجيهاته أسَّسْنا أول وأقدم مدرسة دينية بجزيرتنا: أنفتان لومبوك: نوساتنغار الغربية، من جزائر أندونسيا سميناها بمدرسة نهضة الوطن الدينية الإسلامية سنة 1356 هـ الموافقة لسنة 1937 هـ، وفي عام 1362 هـ. تأسست مدرسة نهضة البنات الدينية الإسلامية، ومن المدرستين تفرعت مدارس جمعية نهضة الوطن، فهما كآدم وحواء بجزيرتنا وما حولها، والآن فروعها أربعمائة مدرسة ما بين دينية وابتدائية، وثانوية وعالية ومعلمين ومعلمات، وكليات ومعاهد دار القرآن والحديث.

ص: 315

يقول الشيخ محمد زين: ونحن على يقين من أن هذا الإنتشار الهائل السريع كله - بفضل الله تعالى - ثم بركة ترادف دعوات شيخنا وإمامنا وحسن إرشاداته وجميل توجيهاته.

وأريد أن أقف مع القاريء قليلا لنتأمل نتائج هذا العمل الطيب الذي وضعت بذرته الأولى في رحاب البيت الحرام، ثم انتقلت إلى غرب أندونسيا بعيدا عن مكة المكرمة آلاف الأميال لتُغْرس في أرضها الطيبة أربعمائة مدرسة تعكف على تعليم أبناء وبنات المسلمين في تلك الديار فتحتضنهم من الابتدائية إلى الكليات والمعاهد العالية المتخصصة، وهذا العمل الطيب ليس الأول من نوعه، فإن صلة البلاد الإسلامية وخاصة بلاد الشرق الإسلامي بمكة المكرمة، وعلمائها قديمة، ولقد أنشئت المدرسة الصوليتية بمكة لتعليم أبناء مسلمي الهند فيها فإذا أتموا تعليمهم عادوا إلى بلادهم لينشروا فيها العلم، ويقاوموا فيها التبشير المسيحي الذي يهدد أبناء المسلمين وبناتهم

(320)

أما بالنسبة لبلاد أندونسيا وماليزيا فإن الأندونسيين يرسلون أبناءهم لتلقي العلم فيها على يد علماء مكة المكرمة، كما كنا نرسل أبناءنا إلى مصر ولبنان في الماضي، وكما نرسلهم إلى أمريكا وأوربا في الوقت الحاضر لتلقي العلم هناك، كان الأندونسيون يرسلون أبناءهم لتلقي العلم على يد العُلماء في المسجد الحرام، وكان هؤلاء العُلماء يرعون هؤلاء التلاميذ الرعاية الأبوية الكاملة، ولا تزال بعض الأسر المكية تقوم بهذا العمل الطيب لرعاية الطلبة الأندونسيين

(320)

انظر: ترجمة الشيخ محمد رحمة الله العثماني مؤسس المدرسة الصوليتية بمكة من أعلام الحجاز (ج 2): ص 286 - 313.

ص: 316

وتعليمهم، وتَفَقُّد شئونهم حتى يُتمُّوا تعليمهم، مثل أسرة اليماني، والمالكي وغيرهم من علماء مكة المكرمة، وبعضهم يخصص لهم الأماكن في منازلهم للمعيشة فيها ويتولون السهر على شئونهم جزاهم الله خير الجزاء، ولقد قام الشيخ أحمد حسن المشاط نجل الشيخ حسن المشاط بما كان يقوم به والده الكريم من رعاية لهؤلاء التلاميذ واهتمام بشئونهم جزاه الله خير الجزاء.

وما أذكره في هذا الصدد أن سائقًا أندونسيا كان يعمل عندي في منزلي بجدة وكان هذا قبل أكثر من ثلث قرن، وكنت مسرورا من عمله فقد كان يجمع بين الأمانة والنشاط وهؤلاء الأندونسيون مشهورون بالأمانة والنظافة، انقطع هذا السائق عن العمل فجأة دون إنذار، وكنت في عجب من أمر انقطاعه فلم يحدث ما ولا منه ما يوجب هذا الانقطاع، وطال انقطاعه أياما ثم علمت أن أباه حضر من أندونسيا حينما علم أنه انقطع عن الدراسة في مكة وانتقل للعمل في مدينة جدة، كان هذا الأب قد أرسل ابنه إلى مكة لتلقي العلم في المسجد الحرام والعودة إلى أندونسيا للاشتغال بالعلم والتعليم ولكن هذا الابن لسبب أو لآخر آثر العمل على العلم، وما أن علم الأب بذلك حتى حضر إلى الحجاز ليعيد ابنه إلى جادة الصَّواب، وكان هذا الابن خائفا من بطش والده به أشدَّ الخوف كما علمت.

وقد أورد الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان أسماء أعلام الرجال الذين تلقوا العلم على يد الشيخ حسن المشاط كما وردت في الرسالة الخاصة التي تلقاها من الشيخ محمد زين الدين عبد الحميد الانفتاني والتي يقول فيها:

ص: 317

أما الآخذون منه والمنتسبون إليه فكثير جدًّا لا نحصيهم كثرةً منهم:

الشيخ عبد الحليم مدير المدارس المصطفوية بتفانولي - سومطرا - وفضيلة الشيخ زين العابدين زعيم جمعية نهضة العُلماء، وعميد الجامعة الحكومية سابقًا بفلمبان سومطرا، وفضيلة الشيخ عثمان مقام الآشي بالشئون الدينية، وفضيلة المرحوم الشيخ عدنان لوبيس أحد أركان الجمعية الوصلية بميدان، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن زعيم نهضة العُلماء بميدان، وفضيلة الشيخ محمود مؤسس جمعية الاتحاد بميدان. ونكتفي بما ذكرنا للتدليل على انتشار تلاميذ الشيخ المشاط في أندونسيا وتأسيسهم المدارس وتبوئهم المراكز الدينية العالية، ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى الترجمة القيمة التي كتبها الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان للشيخ المشاط

(321)

فليس الغرض هنا الاستقصاء وإنما التدليل والتمثيل كما أسلفنا والله الموفق.

‌وظائفه:

عمل الشيخ حسن المشاط بالتعليم في المدرسة الصوليتة بعد تخرجه منها كما أسلفنا، واحتفظ بعمله مدرسا فيها لمدة ثلاثين عاما، ولم يمنعه عمله بالمحاكم الشرعية من مواصلة عمله في التدريس فيه وفي المسجد الحرام، ولم يكن الشيخ حسن المشاط راغبًا في الوظائف الحكومية وإنما كانت همته متجهة إلى نشر العلم ولكنه فوجئ بصدور

(321)

"الجواهر الثمينة" للشيخ حسن المشاط: ص 36 - 44.

ص: 318

الأمر الملكي بتعيينه عضوا في هيئة التمييز التي تشكلت عام 1361 هـ برئاسة الشيخ محمد بن مانع وصدر الأمر بحل هيئة التمييز بعد ثلاث سنوات من تشكيلها، وشرعت الحكومة في تعيين أعضاء هذه الهيئة في الوظائف الحكومية الأخرى، ورأى الشيخ حسن المشاط أن الفرصة قد حانت للتخلص من الوظائف الحكومية فحزم أمره وسافر إلى السودان ومصر وسوريا ولبنان وطرابلس ثم عاد إلى مصر مرة أخرى ليعود منها إلى مكة المكرمة.

ولكن الوظائف الحكومية التي كان يهرب منها، لم تكن لتهرب منه فعين في عام 1365 هـ وكيلا لرئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة والتي كان يرأسها السيد زكي البرزنجي، وبقي في هذا العمل عامين، ثم عين عضوا رسميا في المحكمة الشرعية بمكة، وكل هذه الوظائف لم تمنعه من مواصلة التدريس في المدرسة الصولتية، يقول الشيخ حسن المشاط:

ولم يمنعني ذلك من مواصلة التدريس بالصولتية صباحا أيام الصيف، وبعد الظهر إذا خرجت من الوظيفة أيام الشتاء.

وفي عام 1372 هـ صدر أمر جلالة الملك سعود بتعيينه عضوا في مجلس الشورى، فكان سروره عظيما إذ ظن في ذلك الخلاص من وظائف القضاء، ولكن الفرحة لم تتم فقد طالب الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة بعودته إلى القضاء لأن المجال القضائي في حاجة إلى خبراته، كتب سماحة الشيخ رئيس القضاة بذلك إلى ولي الأمر فصدر الأمر بإعادته إلى القضاء فعيِّن على غير رغبة منه معاونا الرئيس المحكمة الشرعية الكبرى.

ص: 319

يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:

كان الشيخ حسن المشاط رحمه الله يحلم بالتخلص من القضاء، وتحت إلحاحه الشديدة جاءت الموافقة على طلب استقالته منه في العاشر من شهر شوال عام 1375 هـ فسعد بها، وانقطع للعلم وطلابه، وقد عبَّر عن مشاعره في التخلص من القضاء بقوله: وكان يوم قبول استقالتي من العمل الحكومي الذي حمدت الله عليه أسعد يوم طلعت عليه الشمس

(322)

.

أقول: إن كره الشيخ حسن المشاط لوظائف القضاء ليس غريبا على من كان في مثل طباعه، فقد وهب نفسه للعلم والتعليم، ولقد سبق الشيخ المشاط إلى العزوف عن المناصب وعن وظائف القضاء خاصة الكثير من أئمة الفقهاء فقد عرض الخليفة هارون الرشيد على الإمام الشافعي القضاء في أيِّ مكان يريد، أو الولاية لأيِّ قطر يختار، ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، وأن يعود إلى مكة ليعيش بين أهله من قريش ولنشر ما تعلَّمه بين الناس فأذن له الرشيد

(323)

.

وعرض الخليفة المنصور على فقيه مصر الإمام الليث بن سعد ولاية مصر فاعتذر قائلا:

يا أمير المؤمنين إني أضْعَف من ذلك، إني رجل من الموالي، وأدرك المنصور زهده في المناصب فقال ما بك من ضعف معي،

(322)

"الجواهر الثمينة" للشيخ حسن المشاط: ص 47.

(323)

"أئمة الفقه التسعة" لعبد الرحمن الشرقاوي: ص 145.

ص: 320

ولكن ضعفت نيّتك في العمل عن ذلك لي، ثم أردف لقد أعجبتني، أكثر الله في الرعية من أمثالك

(324)

.

أما الإمام أبو حنيفة فقد لقى العذاب إصراره على رفض منصب القضاء، عرض عليه الأمويون منصب القاضي فرفضه فسجنوه، وعذَّبوه في السجن، وعرض عليه العباسيون منصب قاضي القضاة، فأبي وتمسَّك بالتفرغ للعلم، قالوا له: إنه قد حصل من العلم ما يجعله في غني فردَّ عليهم قائلا: من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه

(325)

.

وسأل أحد الخلفاء العباسيين أبا حنيفة عن أسباب رفضه لولاية القضاء أو أن يكون مفتيا للدولة، يرجع إليه القضاء فيما يصعب عليهم القضاء فيه فقال أبو حنيفة يجيب الخليفة: والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب، ولو اتجه الحكم عليك ثم هدَّدتني أن تغرقني في الفرات أو الحكم عليك لاخترت أن أغرق، ثم قال أبو حنيفة ثم إن تلك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك.

وأمر الخليفة بحبسه وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد ولكنه أصرَّ على الرفض فسجن وعُذِّب وضرب بالسياط ولكنه أصر على رفض المنصب وأخرج من السجن وهو يعاني سكرات الموت، فلم يستطع الجلوس بعدها للناس

(326)

.

(324)

"أئمة الفقه التسعة" لعبد الرحمن الشرقاوي: ص 108.

(325)

نفس المصدر: ص 68، 69.

(326)

نفس المصدر: ص 70، 71.

ص: 321

والحديث في هذا الباب طويل، والذي أريد أن أخلص إليه أن الشيخ حسن المشاط حينما يرغب عن مناصب القضاء، إنما كان يقتدي بأئمة الفقهاء من قبله.

‌حكم قضائي عجيب:

يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: كان له - الشيخ حسن المشاط - في القضاء مواقف واجتهادات ولعل أبرزها حكمه في القضية رقم 328 عام 1368 هـ بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة وخلاصة هذه القضية كما أوردها الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان كما يلي:

طلَّق رجل زوجته وهي حامل منه باعترافه، وكان يؤدي لها نفقة الحمل حتى أتَّمت سنةً من حملها ولم تلد فارتاب الزوج في انغشاش الحمل وقطع عنها النفقة، وكانت المرأة متأكّدة من أن جنينها في بطنها فردت كل من تقدم للزواج منها، وبعد خمس سنين وتسعة أشهر وضعت الزوجة ولدًا، فأنكره الزوج، وأقام الدعوى ضد زوجته السابقة، وكان القاضي الذي ينظر في هذه القضية هو الشيخ حسن المشاط، فأصدر حكمه بإثبات نسب الولد إلى الزوج، ولكن الزوج لم يقتنع بالحكم فاعترض عليه ورفع شكواه إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله فأمر جلالته بتأليف لجنة من العُلماء برئاسة الشيخ محمد بن مانع للنظر في هذه القضية، وكان غالب أعضاء هذه اللجنة يخالفونه الرأي وكان هو مقتنعة بصحة حكمه ومصرًّا عليه، ورفع الأمر إلى جلالة الملك عبد العزيز فأحال القضية إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية في ذلك الزمان لدراستها وإبداء الرأي الفصل فيها.

ص: 322

وقد أيَّد مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رأي القاضي الشيخ حسن المشاط في ثبوت نسب الولد إلى أبيه، وقد أثبت الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حيثيات الحكم التي وردت من مفتي الديار السعودية ونوجزها هنا فيما يلي:

إن مسألة مدة الحمل هي موضوع اختلاف بين العُلماء ولم يحصل إجماع على تحديد مدة معينة لأدنى الحمْل وأقصاه، وقد ثبت أن مدة الحمل لدى بعض النساء سنتان وبعضها أربع سنوات، كما ثبت وجود حالات حمل استمرت ثلاث سنين وخمس سنين وسبع سنين، وقد احتج كثيرٌ من العُلماء في تلك القضايا بالحالات التي ثبتت لدى العُلماء في زمانها وعلى هذا فلا يجوز تحديد مدة الحمل بأجل معين، والأصح هو عدم التحديد لأن المرأة التي تتجاوز مدة الحمل الطبيعي وهو تسع شهور إلى عامين مثلا أو إلى ثلاث يجوز أن يركد الجنين في بطنها إلى أكثر من ذلك، ويقول سماحة مفتي الديار السعودية في ختام حكمه:

ولم نجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتحديد أكثر مدة الحمل بأربع سنين حجة بل الكتاب والسنة يشهدان بنقيض ذلك، فإنهما قد أُطْلِقا ولم يحدِّدا أكثر مدة الحمل فمن حدَّد أكثر مدته فقد قصد إلى تقييد ما أطلقه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير حجة شرعية تصلح لتقييد ذلك المطلق.

ونكتفي بما اجترأناه من حيثيات الحكم في هذه القضية العجيبة، خشية الإطالة والإملال، ومن أراد الاستزادة فليرجع إليها مفصلة

ص: 323

في كتاب "الجواهر الثمينة"

(327)

بتحقيق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان.

وهكذا نرى الشيخ حسن المشاط يصرُّ على رأي تبيَّن له صوابه فيصدر حكمه فيه مستندًا إلى الأدلة الشرعية فيعيد للمرأة المطلقة الصابرة كرامتها، ويثبت نسب الولد إلى أبيه المنكر لبنوته.

‌مؤلفات الشيخ حسن المشاط:

أورد الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ثبتًا بأسماء مؤلفات الشيخ حسق المشاط وعرَّف كل كتاب من مؤلفاته تعريفًا وافيًا ونحن نثبت أسماء هذه المؤلفات مع تعريف موجز عنها:

(1)

كتاب "الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة في علم أصول الفقه" وهو أول كتب الشيخ حسن المشاط رحمه الله تأليفًا وآخرها طبعًا، فقد تم تأليف الكتاب عام 1341 هـ وطبع طبعته الأولى على نفقة ابنه الشيخ أحمد المشاط في عام 1406 هـ بتحقيق العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ومن هذا الكتاب استقينا المعلومات الخاصة بترجمته من المقدمة التي كتبها الدكتور عبد الوهاب لهذا الكتاب أما موضوع الكتاب فهو بَحْثُ وعرض أدلة الاجتهاد والاستنباط عند إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رضي الله تعالى عنه - ومما يجدر ذكره أن الشيخ حسن المشاط قد درس مذهب الإمام مالك وكان من المتمكنين فيه.

(327)

"الجواهر الثمينة" للشيخ حسن المشاط: ص 48 - 51.

ص: 324

(2)

"إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وسلم"، تم تأليف الكتاب عام 1360 هـ وطبع طبعته الثالثة بجدة في مطبعة الأصفهاني عام 1396 هـ وهو يتعلق بغزوات الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقد أثبت فيه الشيخ حسن المشاط أشهر ما أُلِّف في المغازي.

(3)

"رفع الأستار"، عن محيا مخدرات طلعة الأنوار في علم آثار النبي المختار، تم تأليف الكتاب عام 1349 هـ وطبع هذا الكتاب طبعته السادسة عام 1398 هـ، وموضوع الكتاب علم مصطلح الحديث.

(4)

"التقريرات السنية في شرح المنظومة البيقونية"، تم تأليف هذا الكتاب عام 1350 هـ وطبع طبعته الحادية عشرة في مطبعة البنوي بجدة عام 1392 هـ وهو كذلك في مصطلح علم الحديث.

(5)

"التحفة السنية في أحوال الورثة الأربعينية في علم الفرائض"، تم تأليف الكتاب في عام 1346 هـ وهو رسالة مختصرة تقع في وريقات لا تتجاوز أصابع اليد والغرض منها تقريب علم الميراث للمبتدئين، وافتراض الحالات المختلفة للوارثين وحصصهم، وقد طبعت عشرات الطبعات لينتفع بها الناس.

(6)

"إسعاف أهل الإيمان بوظائف شهر رمضان"، تم تأليف الكتاب عام 1355 هـ، وطبع طبعته الرابعة بمطابع البنوي بجدة عام 1392 هـ، وقد جمع فيها مجموعة من الأحاديث الصحيحة في موضوع الصيام وشرحها شرحًا وافيًا.

(7)

"إسعاف أهل الإسلام بوظائف الحج إلى بيت الله الحرام"،

ص: 325

تم تأليف الكتاب عام 1379 هـ وطبع طبعته الثالثة بمطابع البنوي بجدة عام 1397 هـ، وهو يتعلق بشعيرة الحج وقد أثبت المؤلف أحكامها على المذاهب الأربعة لينتفع بها كافة المسلمين.

(8)

"أربعون حديثًا في الترغيب والترهيب، مع تعليقات مفيدة عليها"، وقد اختار المؤلف الأحاديث الصحيحة مع شرح ما يستفاد من هذه الأحاديث الشريفة.

يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: هذا الكتاب هو آخر ما اشتغل به المؤلف رحمه الله وقد طبع بمطابع البنوي بجدة عام 1398 هـ.

(9)

"نصائح دينية ووصايا هامة"، تم تأليف هذه الرسالة وهي تقع في أربع وستين صفحة من القطع الصغير عام 1398 هـ وخلال عام واحد طبعت طبعات كثيرة وكانت طبعتها التاسعة عام 1399 هـ بمطابع شركة الطبع والنشر، وهذه الرسالة تحتوي على مجموعة من النصائح الهامة والأذكار النبوية التي تقال بعد الصلوات المكتوبة، وفي الصباح والمساء.

(10)

"بغية المسترشدين بترجمة الأئمة المجتهدين"، تم تأليف الكتاب عام 1383 هـ وقد قام المؤلف بتأليف هذا الكتاب بناءًا على طلب ورده من أندونسيا - من تلميذه الشيخ محمد زين الدين الأمفتاني مؤسس مدارس النهضة الوطنية بأندونسيا، والتي انتشرت في أنحاء أندونسيا كما ذكرنا آنفًا وهي تحتوى على التَّراجم الوافية لأئمة المذاهب الأربعة الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله وقد قامت جمعية نهضة الوطن بطبع الكتاب في أندونسيا ونشره بها.

ص: 326

(11)

"حكم الشريعة المحمدية في تعليم المسلمين أولادهم بالمدارس الأجنبية"، تم تأليف هذا الكتاب في عام 1373 هـ وطبع طبعته الأولى بمطابع المدني بمصر عام 1385 هـ، والكتاب عبارة عن رسالة صغيرة تقع في أربعين صفحة أراد المؤلف أن يبين فيها مخاطر تعليم أبناء المسلمين في المدارس الأجنبية وخاصة تلك المدارس التي تنتسب إلى الإرساليات الدينية، والتي تتبع المذهب العلماني فتبعد الدروس الدينية عن مناهجها.

وأود أن أذكر بمناسبة هذه الرسالة تجربة مررت بها بالنسبة لتعليم أولادي، وكانت فكرة إلحاق الأولاد بالمدارس الأجنبية قد انتشرت في البلاد وكان هذا قبل أكثر من ثلث قرن، كنت في مصر فنصح لي بعضهم بإلحاق ابني بمدرسة أجنبية في مصر الجديدة وقابلت مدير المدرسة، وبعد أن عرفت منه شروط الالتحاق ومتطلباته، قلت له: إن ابني صغير السن، وأنا حريص على أن يتعلم لغته ودينه فقال لي: إنني أحترم الرجل الذي يحترم لغته ودينه، ولكن نظام مدرستنا لا يسمح بذلك .. فانصرفت عن المدرسة، ثم نصح لي الناصحون بإلحاق أبنائي بمدارس فكتوريا بالمعادي، وأثنوا عليها ثناءًا عاطرًا، وألحقت ابني وبنتي بها لعام واحد، في القسم الداخلي وتركت والدتهم في مصر زمنا للإشراف عليهم والاطمئنان إلى شئونهم، ولكني لم أكن مطمئن القلب إلى صحة تصرفي وجاء الحاج محمد علي زينل رضا - رحمة الله - إلى جدة وتفضل بزيارتي في مكتبي، كنت أضع صورة ابني وبنتي في المكتب، وكان يعرفهما، وبما فطر عليه من التواضع والمودة سألني عنهما، وحينما علم أنهما في كلية فكتوريا نظر إليَّ باستنكار وقال معاتبًا: أنت تفعل هذا ونحن نعلق

ص: 327

عليك أكبر الآمال! .. ثم أردف: أعدهما ودع ابنك يتعلم حيث تعلمت. ولم أتردد فحينما انتهى العام الدراسي عادا إلى جدة، وذهبت إلى مدرسة الفلاح وقابلت المرحوم الشيخ عبد الوهاب النشار وهو من أساتذتي فيها وقلت له: إننى أخطأت في حق ابني وأريد أن أصلح هذا الخطأ، فأرجو أن تختار لي أستاذًا من أساتذة الفلاح ليكمل له ما ينقصه وليدرك ما فاته، وقد اختار رحمه الله الأستاذ عبد الله معتوق، فكان يحضر يوميًّا إلى المنزل وكان مجاورًا لمدرسة الفلاح التي ألحقته بها، وأثمرت العناية ثمرها، فقد أدركت ما وقعت فيه من خطأ، أما ابنتي فقد تولى تعليمها المرحوم السيد عبد العزيز الدباغ وكان يتولى تعليم البنات الصغيرات قبل أن توجد مدرسة منظمة لتعليم البنات، وأراد الله تعالى أن يكون بدء تعليمها على يديه، ثم التحقت بأول مدرسة للبنات في جدة، أنشأتها السيدة نعيمة بركات، وهكذا كان ..

أما أعجب ما مرَّ بي في موضوع المدارس الأجنبية فحادثة حدثني بها صديق عزيز قال: بعثت ابني إلى مدرسة إنجليزية في قُطْر عربي شقيق، وانتهى العام الدراسي وعاد إليَّ فذهبت بالأسرة لزيارة المدينة المنورة واصطحبت ابني للصلاة في المسجد ورأى الابن أغوات الحرم المدني الشريف فسألني قائلا: هل هؤلاء يا أبي هم الأنبياء؟ يقول الوالد: وصعقت وأنا أبصر جهل ابني بأبسط أمور دينه، وأدركت مقدار جنايتي عليه، وفي تلك اللحظة قررت أن يكون تعليمه في وطنه. وقلت له: كَلَّا يا بنيّ هؤلاء هم خدم المسجد الشريف، وخدم الحجرة النبوية الشريفة، أما الأنبياء فإن آخرهم هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد توفي منذ أربعة عشر قرنًا، ولا نبي بعده، صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 328

يقول الصديق: وأدخلت ابني في مدرسة الفلاح التي تعلمت بها، واعتنيت بأمره عناية شديدة لإصلاح ما أفسدت من أمره، ومرَّ العام وذهبنا إلى المدينة المنورة واصطحبته لزيارة مآثرها، وذهبنا عصر يوم إلى جبل أُحد وقرأنا الفاتحة لشهدائها وفي مقدمتهم أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وكان يرافقنا في هذه الزيارة بعض الأصدقاء من شباب المدينة ومثقفيها، يقول الصديق: وسألني ابني عن مكان موقعة أُحد وأي جبل هو الجبل الذي وقف عليه الرماة؟ واستعنت بأصدقائي من أهل المدينة ليشرحوا الموقعة ومكانها، وكان ابنى يستمع في شوق ويناقش مناقشة العارف بأحداث الموقعة وتفاضيلها.

يقول الصديق: فحمدت الله كثيرًا أنني استطعت خلال عام واحد أن أصل به إلى هذه المرحلة التي يهتم فيها بمعرفة التاريخ الإِسلامي وأحداثه كل هذا الاهتمام.

أوردت هذه الذكريات ليتبين للقاريء أهمية هذه الرسالة الصغيرة التي ألَّفها المرحوم الشيخ حسن المشاط لينوِّر بها بصائر الآباء الذين اندفعوا إلى إرسال أولادهم وإلحاقهم بالمدارس الأجنبية في مصر ولبنان وهي إما مدارس تبشيرية مسيحية وإما مدارس علمانية، تتعمد إبعاد الأولاد عن معرفة عقيدتهم.

ونحمد الله كثيرا أن تغير الحال، فانتشر التعليم وبثت المدارس والكليات والمعاهد بل والجامعات في أنحاء المملكة تستقبل الأولاد والبنات من سن الحضانة إلى الجامعات.

(12)

الحدود البهية في القواعد المنطقية، هذه الرسالة مخطوطة ولم تطبع

ص: 329

وهي تشتمل على أهم موضوعات علم المنطق التي يحتاج إليها المبتدئ وقد كتبت على طريقة الأسئلة ثم الإجابة، يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عنها: يتداولها طلاب العقيدة والأصول بالجامعات والمدارس الدينية.

(13)

تعليقات شريفة على لب الأصول في أصول الفقه، وهي خلاصة دراسته ومطالعاته عن الموضوعات الأصولية التي كان يدرسها في كتاب لبّ الأصول لشيخ الإسلام أبي زكريا يحيى الأنصاري.

(14)

الإرشاد بذكر بعض ما لي من الإجازة والإسناد، جمع فيه على عادة المحدثين مشائخه الذين تلقى العلم منهم وأجازوه بمروياتهم، وعرض الكتب التي درسها عليهم فأجازوه بها.

يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: ولفضيلة الشيخ حسن محمد المشاط رحمه الله من البحوث والدراسات والتعليقات والفتاوى في كثير من الأحداث العصرية الشئ الكثير الذي لو قدر الله التفرغ لجمعه وتنطمه وتبويبه لأتى في مجلد ضخم.

والمتأمل في مؤلفات الشيخ حسن المشاط رحمه الله يرى أنها كتب تعليمية يواصل بها عمله في تعليم أبناء المسلمين أمور دينهم يبدأ هذا التعليم في المدرسة الصولتية، وفي المسجد الحرام وينتهي إلى تسجيل هذا العلم في مؤلفات ورسائل يكمل بها ما بدأه في المدرسة والمسجد فجزاه الله خير الجزاء.

‌ذكرياتي عن آل المشاط:

عرفت الشيخ حسن المشاط كما عرفت والده الفاضل الشيخ

ص: 330

محمد المشاط وأبناءه منذ عشرات السنين، وأذكر أني رأيت الشيخ حسن المشاط ووالده الكريم لأول مرة في أوائل الأربعينات من القرن الرابع عشر الهجري، حينما حضرت أسرة المشاط إلى جدة خلال الحرب السعودية الهاشمية، كنت إذ ذاك في العاشرة من العمر واستقر بهم المقام في منزل بحارة اليمن في مدينة جدة، ولكن صلة آل المشاط بأسرتنا كانت صلة رحم قديمة فقد أصهر الشيخ حسين المشاط رحمه الله إلى أسرتنا وتزوج بعمتي السيدة أسماء عبد الوهاب مغربي، وأنجبت منه ولدًا هو المرحوم محمد حسين المشاط، وبنتًا هي السيدة ملكة حسين المشاط، ثم افترق الزوجان وانتقلت عمتي إلى بيت أبيها الشيخ عبد الوهاب بغربي في مكة ومعها ابنها وبنتها، وشاء الله لهما أن يعيشا مع والدتهما الكريمة في بيت أبيها، وكانت من أرجح النساء عقلا، كما كانت تحظى بالرعاية والتكريم من كافة أفراد الأسرة وأحسنت هذه السيدة الكريمة تربية أولادها وحينما كبرت بنتها تقدم الشيخ محمد المشاط فخطبها لابنه الشاب حسن المشاط ابن عمها، وزُفَّتْ إليه في الرابعة عشر من بيت جدِّها وجدِّنا جميعًا الشيخ عبد الوهاب مغربي رحمه الله، وكانت خير زوجة وكان لها خير بَعْل، أما أخوها الشيخ محمد مشاط فقد بقي بجوار والدته الكريمة في بيت المغربي بحارة الباب بمكة، وفيه تزوج وأنجب إلى أن اختاره الله تعالى إلى جواره، واستمرت الصلة بين الأسرتين فقد تزوج الشيخ أحمد المشاط ابنة خاله الشيخ محمد المشاط، واحتضن ابنه عبد اللهادي المشاط بعد وفاة والده رحمه الله.

أقول: رأيت الشيخ حسن المشاط ووالده في هجرتهم إلى جدة عام 1343 هـ كما رأيت لأول مرة بقية أفراد الأسرة، وكان تردُّدهم

ص: 331

على دار الأسرة أسرة المغربي في جدة كثيرًا، للزيارة ثم اجتمعت مع الشيخ محمد المشاط رحمه الله وأولاده في المدينة في عام 1353 هـ أو بعدها بعام، وكان الشيخ محمد المشاط رغم الفارق الكبير بيني وبينه في العمر فلقد كنت بالنسبة له كالحفيد أو الابن الأصغر، إلا أنّ الرجل فطر على التودد للناس، وإلانة جانبه لهم فكان يلقاني دائمًا بوجهه الطلق، ويغمرني بسماحة طبعه، وجميل تودُّده، وحينما انتقلت إلى مكة للعمل بها عام 1355 هـ كان طريقى من سوق سويقة وكانت دكاكين آل المشاط بها، فإذا مررت بالدكان، وكان الشيخ محمد المشاط فيه يستجلسني، ويغمرني في هذه الجلسة القصيرة بما طبعت عليه نفسه الكريمة من التودد والمحبة، هذا بالنسبة للشيخ محمد المشاط، أما بالنسبة للشيخ حسن المشاط فلقد كنت أحمل له من المحبة والتقدير في نفسي الشئ الكثير، كنت أرى فيه صورة من أجمل الصور للعلماء الذين وهبوا أنفسهم للعلم ابتغاء مرضاة الله، وكانت تصل إليَّ أخبار عزوفه عن المناصب، ومجاهدته للبعد عن مناصب القضاء، كنت أعجب من رجل تسعى إليه الدنيا بالجاه والمال، فيبتعد عنها في إزْوِرَار، وكانت هذه الأحوال تذكِّرني بما قرأته عن علماء آثروا ما عند الله فانصرفوا للعلم، وابتعدوا عن زخارف الحياة.

كنت كثير التردد على المدينة لزيارة المسجد النبوي الشريف ولكني ما ذهبت إليها مرة إلا ووجدت الشيخ حسن المشاط أمامي في المسجد بملابسه البيضاء، وطلعته المشرقة بنور العلم والتقوى، قلت له مرة: لقد أصبحنا نجتمع دائما في المدينة، فما حضرت إليها مرة وإلا ووجدتك فيها:

ص: 332

قال رحمه الله: إن شاء الله نجتمع في الجنة.

قلت: أرجو الله تعالى أن يحقق ذلك.

ومما أذكره عن لقاءاتي بالشيخ حسن المشاط في المدينة، أننا كنا جلوسا ننتظر صلاة الفجر في الروضة المشرفة في آخر أيام رمضان، فسمعنا صوت طلقة مدفع فرفع إليَّ الشيخ حسن رحمه الله رأسه متسائلا؟ قلت: قد ثبت دخول العيد كل عام وأنتم بخير، وكان هذا على ما أذكر في عهد جلالة الملك سعود رحمه الله قال: لا، أظنه مدفع الإمساك. قلت: لقد مضى وقت الإمساك ونحن في انتظار صلاة الفجر، وانطلق المدفع الثاني وتوالت الطلقات فأيقن أنه العيد، ورأيته رحمه الله يتهيأ للخروج من المسجد فقلت له: أن تركت مكانك فلن تستطع الصلاة داخل المسجد. قال: لابد لي أن أخرج، أن مفتاح المنزل معي ولنا رفيق سيعود ليتهيأ لصلاة العيد ولا يجوز أن نعوقه عن ذلك، ثم أضاف قائلا: حاول أن تحتفظ لنا بالمكان وكان قد وضع فيه سجادة، قلت سأحاول ولكني متأكد، إنها محاولة فاشلة. فمن ذا الذى يستطع الاحتفاظ بمكان في الروضة الشريفة فجر يوم من أيام العيد إن لم يكن جالسًا فيه؟

وخرج الشيخ حسن المشاط ورفيقه ولم يستطع العودة إلى المكان، ولعله اضطر إلى الصلاة خارج المسجد، ولكن خلقه المفطور على الوفاء أبي عليه أن يترك رفيقه في المنزل محرومًا من أداء صلاة العيد رحمه الله.

والمتأمل في أمر أسرة المشاط يرى أن الشيخ حسن المشاط

ص: 333

وقد نذره والده للحرم قد حقق الله نذره فكان الشيخ حسن المشاط خادمًا للعلم في المسجد الحرام طيلة حياته، وأراد الله به الهداية للطلبة الكثيرين خاصة من الأندونسيين الذين أتموا تعليمهم على يديه في مكة المكرمة، ثم عادوا إلى بلادهم فأسسَّوا فيها المدارس الإسلامية والكليات ونشروا العلم في ربوعها، ولقد كان طيلة حياته حفيًّا بهؤلاء الطلبة الذين يرسلهم آباؤهم إلى مكة المكرمة لتلقى العلم على يد علمائها، فيبدأون مع الشيخ حسن المشاط دراستهم الابتدائية حتى يصل معظمهم إلى الحد الذي يستطيع به الدخول في مجال طلب الرزق، فينخرطون في أعمالهم ليبدأ مع طائفة أخرى نفس البداية، ويبقى معه الراغبون في إكمال دراستهم يستزيدوا من العلم ما يمكّنهم من العودة إلى بلادهم ليعلّموا الناس، هكذا أراد الله تعالى للشيخ حسن المشاط أن يكون مصدر علم وهداية، ولا شك أن إخلاص الرجل في هذا السلك قد آتى بفضل الله تعالى أكلَه وأَثْمَرَ ثَمَرَه فبارك الله فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإذا كان الشيخ حسن المشاط لم يَنَلْ من أعراض هذه الدنيا ما ناله غيره فقد أراد الله تعالى لابنه الشيخ أحمد المشاط أن يكون من رجال الأعمال الناجحين، وهكذا يختار الله تعالى لعباده ما يصلح لهم، وهو أعلم بهم، كلٌّ مسخر لما خلق له في هذه الحياة.

‌وفاة الشيخ حسن المشاط:

في الثالث والعشرين من شهر رمضان عام تسع وتسعين بعد الثلاثمائة والألف وبعد إتمام صلاة التراويح في المسجد الذي أنشأه الشيخ حسن المشاط بجوار منزله في محلة أم الدرج خارج مكة المكرمة، وكان قد أتم ختم القرآن في تلك الليلة مع مجموعة الحفظة من تلاميذه، أصيب

ص: 334

بمرض مفاجئ نقل على أثره إلى مستشفى الدكتور أحمد زاهر، وقد اتضح أن مرضه كان بسبب جلطة في الدماغ، وكان في الفترات التي يخف فيها ما يعانيه من آلام يتحدث كعادته في العلوم والعبادة، وإسداء النصائح لزوَّاره، كما كان دائما في حال صحته، وبَلَغ الكتاب أجَلَهُ ففاضت روحه إلى بارئها في السابع من شهر شوال عام 1399 هـ ودفن في مقابر المعلاة، وفقدت مكة بموته عالمًا من علمائها الصالحين قرن العلم بالعمل فشيعت جنازته في موكب حافل اشترك فيه العُلماء والوجهاء والأعيان وكافة الطبقات، فلقد كان الرجل محبوبًا من الناس بصورة عامة رحمه الله.

وحينما بلغ خبر وفاته إلى أندونسيا كان لذلك أعظم وقع في نفوس الناس هناك وأقيمت عليه صلاة الغائب في المساجد الكثيرة في تلك البلاد. رحم اللهُ الشيخ حسن المشاط وجزاه خير الجزاء.

* * *

ص: 335

أَعْلامُ الحِجَاز في القرن الرَّابِع عَشَر للهِجْرة وبَعض القرون الماضية

ص: 337

الشَّيخ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد الله سَراج

ص: 338

‌الشَّيخ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد الله سَراج

ولد الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله سراج بمكة المكرمة في سنة ألف ومائتين وتسعة وأربعين، وحفظ القرآن المجيد، كثيرًا من الفنون، وتتلمذ على والده شيخ علماء مكة مفتي الأحناف الشيخ عبد الله سراج، كما تلقى العلم على يد مفتي مكة الشيخ جمال عبد الله، شيخ علماء مكة الذي تولى مشيختها بعد وفاة الشيخ عبد الله سراج والد الشيخ عبد الرحمن سراج

(328)

، كما درس على السيد أحمد زينى دحلان مفتى الشافعية، شيخ علماء مكة المكرمة وصاحب التآليف الشهيرة، وعلى الشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله مؤسس المدرسة الصولتية

(329)

وكان مجتهدًا في الطلب مجدا فيه، متميزا بين الأقران، فحصل على إجازات أقطاب العُلماء في زمانه، وأصبحت له حلقة في المسجد الحرام وتتلمذ عليه طلاب العلم وتخرج جماعة منهم على يديه.

وتوجه شيخه وأستاذه جمال عبد الله مفتى الأحناف لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنابه عنه في منصب الفتوى، فقام به أحسن قيام إلى أن عاد شيخه إلى البلد الحرام.

‌مفتي الأحناف بمكة:

ولما توفي الشيخ جمال عبد الله مفتي الأحناف ولي الشيخ

(328)

انظر: ترجمة الشيخ جمال عبد الله في مختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 161.

(329)

انظر: ترجمة الشيخ محمد رحمة العثماني: ص 386 - 313 من أعلام الحجاز (ج 2) للمؤلف.

ص: 339

عبد الرحمن سراج هذا المنصب، أسنده إليه الشريف عبد الله بن عون أمير مكة المكرمة

(330)

فسلك فيه جادة الاستقامة كما يقول صاحب كتاب "نشر النور والزهر"

(331)

، ولم يعرف عنه أنه أخذ جعلا من أحد مدة توليته الإِفتاء، كان الشيخ عبد الرحمن سراج شديد النزاهة كثير التحرُّج والورع، فقد كان يرفض الهدايا التي تقدم إليه وهو في منصب الفتيا، كما عرف بتصلبه في أمر الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم.

‌اقتناء الكتب:

وكان محبًّا للكتب وخاصة الكتب النفيسة النادرة يطلبها من مظانها، ويسعى في طلبها من الأقطار البعيدة وينسخ منها بخطه ما يرغب في الاحتفاظ به لمكتبته العامرة الزاخرة

(332)

.

وعلى ذكر اقتناء الكتب أثبت هنا ما أتحفني به الصديق الأديب الأستاذ عبد العزيز الرفاعي عن اشتراك الشيخ عبد الرحمن سراج وجماعة من علماء مكة وأعيانها في طبع كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي نقلًا عن الأستاذ عبد السلام هارون الذي قام بتحقيق هذا الكتاب ونظم فهارسه، وقدم له بمقدمة ضافية تحدث فيها عن تاريخ طبعات هذا الكتاب.

(330)

انظر: أخبار الشريف عبد الله بن عون في "أمراء البلد الحرام" للسيد أحمد زيني دحلان: ص 366 - 376.

(331)

انظر: ترجمة الشيخ عبد الرحمن سراج في المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 243، 244.

(332)

نفس المصدر.

ص: 340

يقول الأستاذ عبد السلام هارون: ومما هو جدير بالذكر ولا يعرفه الكثيرون أن نشر الطبعة الأولى - لخزانة الأدب - تطلَّب بذل مجهود كبير، واقتضى إسهامًا مصريًّا وعالميًّا كذلك، ففي ثبت خاتمة هذه الطبعة البولاقية تنويه بمن كان لهم الفضل في ذلك وهم سبعة رهط من العُلماء هم الشيوخ: عبد الرحمن سراج مفتي مكة في ذلك العهد - مفتي الأحناف -، وعبد الرحمن الميمني، وأحمد المشاط

(333)

، وعبد الرحمن الشيبي

(334)

، وحسين بن عبد الله الميمني، وأبو طالب الميمني، وعبد الله بن الشيخ محمد الباز الكتبى

(335)

، نهضوا جميعا بتمويل هذه الطبعة بنسب تبتدئ بقيراط ونصف، وتعلو إلى ستة قراريط من 24 قيراطا.

(333)

أحمد المشاط كان كبيرًا لتجار جدة واشتهر بالأمانة وحسن الإِدارة والكرم، أكلت إليه الحكومة المصرية وكالة البواخر التي تحمل الحجاج إلى جدة فأحسن الإدارة وأراح الحجاج من الإِتاوات التي كانت تؤخذ منهم، وأمَّن التجار على بضائعهم من التكدس فمدحه الشعراء، انظر: ما كتبه عنه الحضراوي في كتاب "الجواهر المعدة في فضائل جدة". وقد وردت الإشارة إلى ذلك ضمن ترجمة الحضراوي في هذا الكتاب.

(334)

الشيخ عبد الرحمن الشيبي كان سادنًا للبيت الحرام في عهد الشريف عون الرفيق، فغضب عليه الشريف عون ونفاه إلى الطائف فظل بالهدى إلى أن توفي هناك وسيرد ذكر ذلك بعد.

(335)

لا يزال بيت الباز يشتغلون بتجارة الكتب في مكة المكرمة كما ذكر الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، الأمر الذي يدل على أن أسرة الباز توارثت هذه التجارة عن الأجداد.

ص: 341

ويعلق الأستاذ عبد العزيز الرفاعى على ما أخبره به الأستاذ عبد السلام هارون فيقول: وقد دلنى تأمل أسماء هؤلاء الشيوخ السبعة ولا أقول الرهط على أنها أسماء مكية وهي من عائلات معروفة في الأوساط المكية.

ثم يقول: وقد أكبرت وجود هذا الوعي والحرص على نشر كتاب الخزانة وأن يكون متوفرًا في العصر العثماني الذي كان يغلب على القوم فيه أدب الصنعة والترصيع .. ثم يقول: ولكن ها نحن نجدهم يدفعون بدراهمهم القليلة في سبيل نشر كتاب كبير، بالغ التكلفة ويتوزعون نفقته بينهم قراريط.

وأستطيع أن أستخلص مما ذكره الأستاذ عبد السلام هارون أن الطبعة الأولى من كتاب "خزانة الأدب" التي طبعت بمطبعة بولاق، تمت بمبادرة مكية في ذلك العهد السحيق لأن تمويل الكتاب شارك فيه سبعة رجال من مكة فيهم العُلماء والتجار الذين وردت أسماؤهم في الطبعة البولاقية، وقد كان في مقدمتهم الشيخ عبد الرحمن سراج صاحب هذه الترجمة.

ولعل ما عرف به الشيخ عبد الرحمن سراج من تعلق بالكتب وطلب النفيس النادر منها واقتنائه لها ومشاركته في الأدب إلى جانب مكانته العلمية والدينية لعل لهذا كله أثره في مشاركته بالمال في إخراج "خزانة الأدب" للبغدادي مطبوعة بعد أن كانت مخطوطة.

‌مشاركته في الأدب:

ويذكر صاحب كتاب "نشر النور والزهر": أن الشيخ

ص: 342

عبد الرحمن سراج جمع إلى جانب غزارة علمه بالفقه والأحكام مشاركته في الأدب، وأخبار أعيان الرجال من الأدباء والعلماء تعينه على ذلك ذاكرة قوية، وذكاء وقّاد.

‌التدريب العسكري:

جاء في كتاب "خلاصة الكلام في تاريخ أمراء البلد الحرام" ما يلي:

في أول سنة 1294 هـ استحسن الشريف عبد الله بن عون أن يتعلم أهل مكة الحركات العسكرية النظامية كيفية الرمى بالبنادق فصدر الأمر بذلك لأجل إرهاب الروس وإظهار الاستعداد لهم، فامتثل الناس لذلك، وأحضرت الحكومة لهم البنادق، وعينوا لهم المُعلمين من العساكر النظامية الوجودة بمكة، فتعلم كثير من الناس في أقرب زمن، وكان ذلك في أول سنة 1294 هـ واستمر التعليم نحو أربعة أشهر ثم تركوا ذلك

(336)

.

وجاء في "تاريخ مكة" للسباعي عن هذا الأمر ما يلى:

وشوهدت العُلماء وطلبة العلم والأعيان، وأصحاب الحرف وأهل الحارات ينزلون إلى ساحة التعليم صفوفًا متراصة تتلقى تعاليم الجندية على أساتذتهم من الضباط الأتراك وذلك في سنة 1292 هـ.

ثم يقول: واشترك في التدريب العسكرى أولاد الشريف عبد الله وبنو عمومتهم برياسة عون باشا - الذى ولي إمارة مكة فيما بعد - واتخذ

(336)

"تاريخ أمراء البلد الحرام" لزينى دحلان: ص 375.

ص: 343

المدربون لباسًا خاصًّا قوامه قميص وبنطلون من قماش كانوا يسمونه (مُلًّا) وجعلوا العقال فوق العمامة البيضاء غطاءًا لرؤوسهم

(337)

.

هذا ما أورده مؤرخو مكة المكرمة عن موضوع التدريب العسكري الذي جرى في مكة المكرمة، ولقد اهتم المؤرخون بإيراد هذه الحادثة وتدوينها لأن الدولة العثمانية تعودت أو عودت أهل الحجاز أن تعاملهم معاملة خاصة تعفيهم فيها عما تلزم به الأقاليم الأخرى التابعة للدولة العثمانية، ذلك أن نظرة حكام الأتراك إلى أهل الحجاز تتسم بكثير من العطف والرعاية، فكانت ترسل لهم الجرايات من الأرزاق والنقود، كما سمحت بإقامة التكايا والأربطة في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهذه التكايا خاصة كانت توفر حياة الكسل لساكنيها فهم يجدون فيها المأوى والمأكل دون مشقة أو عناء، فينصرفون إلى العبادة في زعمهم والدعاء للسلطان، والكثير منهم إنما استمرأ هذه الحياة الهينة اللينة الخالية من التكاليف، لهذا رأى المؤرخون في أمر التدريب العسكري في مكة في هذه الفترة أمرا يستحق التسجيل، والمتتبع لتاريخ الدولة العثمانية يعرف الأسباب الكامنة وراء هذا الأمر.

فقد اشتبكت الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في حرب طاحنة مع الروس، بدأت هذه الحرب بعصيان الهرسك الذين كانوا تابعين للدولة العثمانية في بلاد الروم إيلي، وهم نصارى، فجهزت الدولة العثمانية جيشا لمحاربتهم، وكانت الدولة قادرة على إخماد هذه

(337)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 539 نقلًا عن تذييل شفاء الغرام للشيخ عبد الستار الصديقي: ص 313.

ص: 344

الفتنة، ولكن الدول الأوربية تدخلت لمساعدة الهرسك، وكان تدخل الروس بصورة خاصة كبيرًا وواضحًا، حتى تحولت هذه المساعدة إلى حرب بين الدولة العثمانية وروسيا، وانضمت الدول المسيحية في أوربا إلى جانب الروس، مما اضطر الدولة العثمانية إلى حشد الجيوش الكثيرة وإنفاق الأموال الطائلة لمواجهة هذه الحرب التي تحولت إلى ما يشبه الحروب الصليبية.

يقول صاحب كتاب "الفتوحات الإسلامية":

فقدَّر الله بانهزام جيوش الإسلام، وأسر كثير منهم في بلونة، وذلك بسبب محاصرة العساكر الروسية لهم في ذلك البلد، وعدم إمكان وصول الميرة إليهم، لشدة البرد، وككرة الثلج، وممن أُسر من كبار عساكر الإِسلام الوزير عثمان باشا الغازى، قوماندان الجيش في بلونة، ثم أطلق مع كثير ممن أُسروا، وكان إطلاقهم بجد انعقاد الصلح، وتَمَلُّك الروس كثيرًا من المدائن العظام إلى أن وصلوا إلى قرب أدرنة

(338)

.

أقول: البوسنة والهرسك من الولايات العثمانية في شبه جزيرة البلقان، وهي ما يطلق عليه في الوقت الحاضر يوغسلافيا، وكانت هذه الولايات تابعة للدولة العثماني، وهي تضم جاليات إسلامية إلى جانب الىسكان المسيحيين

(339)

.

(338)

"الفتوحات الإسلامية" لأحمد زيني دحلان (ج 2): ص 311، 312.

(339)

كتاب "لعنة هذا الزمن" لكاتب هذه السطور: ص 113.

ص: 345

ويتضح مما كتبه صاحب كتاب "الفتوحات الإِسلامية" عن هذه الحرب، أن الدولة العثمانية حينما شعرت بخطورة والتحالف المسيحي في أوربا ضد الأقاليم التابعة لها، عمدت إلى استنفار الجيوش الإِسلامية من شتى أنحاء الخلافة، ويشمل هذا الاستنفار لأول مرة الحجاز، ومكة المكرمة بالذات، فكان التدريب على الجندية الذي ذكرنا ما أورده مؤرخوا مكة بشأنه.

‌دور العُلماء في التدريب:

ولقد كان لكبار العُلماء في مكة دور هام في هذا التدريب، فلقد كان صاحب الترجمة الشيخ عبد الرحمن سراج مفتى الأحناف وشيخ علماء مكة يخطب في المسجد الحرام، كما كان يفعل غيره من أصحاب الفتوى للمذاهب الأخرى، وكانوا يحضون الناس على الجهاد، ولم يكتف العُلماء الأجلاء بهذا وإنما انخرطوا بأنفسهم في سلك التدريب. أخبرني الأستاذ حسين سراج أنه عمن أبيه الشيخ عبد الله سراج: أن الشيخ عبد الرحمن سراج كان يخطب الناس في المسجد الحرام يحضُّهم على الجهاد، ويدعوهم إلى الخروج إلى ميدان التدريب وكان يعطى بنفسه القدوة العملية فيرتدي الزي الخاص بالتدريب العسكري والذي أوردنا وصفه آنفا، ثم يتدرب على الرمي، ويقف في صفوف المتدربين، كما يفعل غيره من أعيان الناس وأوساطهم، وهذا الذي فعله الشيخ عبد الرحمن سراج، وهو يتبوأ أكبر منصب دينى في مكة فقد كان مفتى الأحناف، والدولة العثمانية تسير في أحكامها على المذهب الحنفى، كان دافعا للناس جميعا إلى الاندفاع في الجهاد، والاستعداد له بالتدريب والتعليم.

ص: 346

وللأسف فقد كانت نهاية هذه الحرب خسارة الدولة العثمانية فيها كما يقول السيد أحمد زيني دحلان وتملُّكُ روسيا كثيرًا من المدائن العظام إلى أن وصلوا إلى أقرب أدرنة، وختام الأمر أن بقية الدول توسطت في الصلح سنة خمس وتسعين، على أن يبقى تحت يد روسيا ما تملكوه من البلاد، وأن الدولة العلية تدفع لهم غرامة الحرب، وكان شيئًا كثيرًا، ويبقى للدولة أدرنة، وما يليها إلى دار السلطة العلية

(340)

.

‌الشريف عون الرفيق ينفي أصحاب الفتيا في مكة:

تولى الشريف عون الرفيق إمارة مكة المكرمة في التاسع من ذي الحجة عام 1299 للهجرة

(341)

، وكان الشريف عون غريب الأطوار، وقد ضاق أهل مكة ذرعًا به وبتصرفاته الغريبة، مما اضطر أصحاب الفتيا في مكة إلى تنظيم مضبطة إلى السلطان عبد الحميد يشكون فيها الشريف عون، ويعدِّدون المآخذ التي يأخذونها عليه وقد وقعوا عليها بتوقيعاتهم وهم:

الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي الأحناف - وصاحب هذه الترجمة -، والشيخ محمد عابد بن حسين مفتي المالكية

(342)

، والسيد إبراهيم نائب الحرم مفتي الحنابلة، والسيد عبد الله بن محمد الزواوي

(340)

الفتوحات الإسلامية (ج 2): ص 312.

(341)

"أمراء البلد الحرام" للسيد زينى دحلان: ص 301.

(342)

انظر ترجمته في: "سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة" لعمر عبد الجبار: ص 152، 153.

ص: 347

مفتي الشافعية

(343)

، والسيد علوي السقاف شيخ السادة

(344)

بمكة، فأمر الشريف عون بنفيهم من مكة، وآمر السلطان عبد الحميد بتأليف لجنة للتحقيق في أمر هذه المضبطة، وكانت هذه اللجنة برآسة المشير أحمد راتب باشا والي الحجاز.

يقول الأستاذ حسين سراج رواية عن والده الشيخ عبد الله سراج الذي رافق والده الشيخ عبد الرحمن سراج إلى جدة:

نزلنا في جدة في بيت شيخ السمَّاكة - لعله شيخ دلالي السمك - وكنا نسكن في غرفة حقيرة، وليس لدينا من المال ما يصلح أحوالنا، وزارنا في هذا المنزل الحقير الأفندي عمر نصيف كبير جدة، وأخبر والدي أن من الخير له أن يغادر الحجاز لأن الشريف عون قد أثَّر على اللجنة التي حضرت لتولي - التحقيق في أمر المضبطة، ووعد الأفندي نصيف بتدبير أمر سفرنا سرًّا من جدة.

‌المعتمد البريطاني يعرض منصب قاضي القضاة في الهند:

ويواصل الشيخ عبد الله سراج الحديث قائلا:

بينما كنت ووالدي ننتظر في هذا المنزل الحقير تدبير أمر هروبنا من جدة خشيةً من بطش الشريف عون بالوالد، زارنا في هذا المنزل مندوب

(343)

انظر ترجمته في: "سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة" لعمر عبد الجبار: ص 140 - 142.

(344)

انظر ترجمته في: المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 343 - 345.

ص: 348

من المعتمد البريطاني في جدة. قال هذا المندوب للوالد: إن المعتمد البريطاني في جدة يعرض عليك باسم الحكومة البريطانية إصدار فتوى بجواز أن يكون للمسلمين خليفتان، فإذا أفتيت بهذا فإن بارجة حربية بريطانية تصل إلى جدة وتنقلك إلى الهند لتتولى منصب قاضي القضاة هناك.

‌عبد الرحمن سراج يلطم ابنه على وجهه:

التفت الشيخ عبد الرحمن سراج إلى ابنه الشاب عبد الله قبل أن يجيب رسول المعتمد البريطاني. يقول عبد الله سراج: قلت للوالد: إنه لا بأس بهذه الفتوى، فقد جاءنا الفرج للخلاص من هذا الكرب الذي نحن فيه.

نظر الشيخ عبد الرحمن سراج إلى ابنه نظرة صاعقة ثم أهوى بيده على وجه ابنه فلطمه على خده لطمة أليمة.

‌لن أبيع ديني بدنياي:

والتفت إلى مندوب المعتمد البريطاني قائلا: قل لسيدك: إني لن أبيع ديني بدنياي.

وعاد الرسول إلى المعتمد البريطاني يجرّ أذيال الخيبة ليبلغ سيده ما قاله عبد الرحمن سراج.

أقول: كانت بريطانيا في ذلك الزمان تحكم دولًا كثيرة وبعض هذه الدول غالبية أهلها من المسلمين كمصر وفلسطين وماليزيا والبعض فيها مسلمون كثيرون كالهند، وكان المسلمون في الهند وفي مصر يدينون

ص: 349

بالولاء للخليفة العثماني، ولابد أن بريطانيا أرادت بإغرائها الشيخ عبد الرحمن سراج وهو في محنته أن يفتي لها بجواز تنصيب خليفة ثان، لتختار خليفة يكون طوع إرادتها تنافس به الخليفة العثماني وتستصدر منه من الأحكام ما يوافق هواها، وكان الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي الأحناف في مكة وهو منصب له أهميته العظمى خاصة وأن الدولة العثمانية تتبع المذهب الحنفي في الحكم، ولكن خاب ظنها فقد كان الشيخ عبد الرحمن سراج صخرة تتكسر على صلابتها رؤوس الطغاة.

‌عمر نصيف يدبر للشيخ عبد الرحمن سراج أمر السفر:

ويستطرد الشيخ عبد الله سراج فيقول: ووجد لنا الأفندي نصيف سفينة شراعية رحلنا بها من جدة هاربين إلى مصر.

‌أخبار الشريف عون في تاريخ مكة:

ولعل من الخير أن نورد هنا ما أورده مؤرخو مكة عن الشريف عون الرفيق وأحواله:

جاء في "تاريخ مكة" لأحمد السباعي نقلًا عن كتاب "إفادة الأنام" للشيخ عبد الله" غازي ما يلي:

في عام 1304 هـ قبض الشريف عون على موسى البغدادي، وأمين ماصة لي، ومحمد السعدي فنفاهم إلى خارج البلاد

(345)

.

أقول: كان موسى البغدادي أو الأفندي موسى كما كان يطلق

(345)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 551.

ص: 350

عليه في جدة ثاني اثنين هما أكبر رجالات جدة في ذلك الزمان، أما الرجل الأول فهو الأفندي عمر نصيف جَدُّ أسرة نصيف الشهيرة، وموسى البغدادى هو الذي تنسب إليه محلة البغدادية في جدة، وكان واسع الثرء، عظيم النفوذ، وقد بنى البغدادي بيتا على البحر كان من أعظم بيوت جدة أكبرها

(346)

، وكان الرجلان البغدادي ونصيف يتقاسمان النفوذ ويتنافسان تنافسا عظيما فيكيدان لبعضهما البعض، والتنافس بين الأقران قديمٌ قدم الزمان.

ومن الروايات التي كان يتناقلها الناس في جدة والتي سمعتها من المعمِّرين فيها أن موسى أفندي البغدادي استطاع أن يكيد للأفندى عمر نصيف فيدخله السجن، وأن الأفندى نصيف رَدَّ هذا الكيد بمثله أو أنكى منه فاستطاع أن ينفي موسى أفندي البغدادي من جدة في سفينة شراعية إلى اليمن، كنت أظن أن هذه الرِّواية مبالغ فيها، إلى أن وجدت ما يشير إلى صحتها، أو صحة بعض ما ورد فيها من نفي الشريف عون لموسى البغدادي ومن معه، ولم تورد الرِّواية التي أوردها السباعي أسباب هذا النفي، وقد نقلها من كتاب "إفادة الأنام"، وهو كتاب مخطوط للشيخ عبد الله الغازي.

ولكن ما أعرفه شخصيًّا أن الأفندى عمر نصيف كان رجلًا واسع الدهاء، وكان أريبًا، استطاع الجمع بين وكالة شريف مكة، وصداقة الوالي التركي، فكان وكيلًا دائمًا لأشراف مكة وأمرائها يرعى مصالحهم

(346)

انظر: صورة هذا المنزل في "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز": ص 234 الطبعة الثانية لكاتب هذه السطور.

ص: 351

وينفذ أوامرهم، وكان في نفس الوقت على صلة حسنة بولاة الأتراك المقيمين في جدة، والذين كانوا عادة على خلاف وتنافر مع أمراء مكة من الأشراف لتضارب المصالح، والتنافس على الحكم، ولقد كان الوالي التركي في الحجاز المشير أحمد راتب باشا يقضى الصيف في مدينة جدة، وينزل في قصر الأفندي عمر نصيف، وكان هذا القصر بن الفخامة بحيث يستطيع راتب باشا أن يصعد إلى أعلى القصر وهو يمتطي صهوة الحصان، فلقد كانت سلام القصر مبنية بالشكل الذي يسمح بذلك

(347)

، وانظر ما كتبناه عن قصر نصيف في كتاب "أعلام الحجاز"

(348)

.

وإني لأتساءل الآن هل كان نفي الشريف عون لموسى أفندي بغدادي ومن معه بناءًا على شكوى من الأفندي عمر نصيف؟ وبتعبير آخر هل كان للأفندي عمر نصيف يد في هذا النفي؟ سيظل هذا السؤال قائما إلى أن يوجد لدينا أو لدى غيرنا ما يثبته أو ينفيه.

ونعود بعد هذا التعاليق إلى "تاريخ مكة" لأحمد السباعى فنورد الحوادث التي ذكرها صاحبه عن الشريف عون الرفيق يقول السباعى:

قبض الشريف عون على إبراهيم العجيمى، وعبد الله كردي إمام

(347)

انظر: صورة لقصر نصيف في كتابنا "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز": ص 233 الطبعة الثانية.

(348)

أعلام الحجاز (ج 1) الطبعة الثانية: ص 234، 235.

ص: 352

الشافعية، والشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله، فقيه أحد

(349)

الأئمة، والشيخ علي زين العابدين هندية ونفاهم كذلك.

يقول الأستاذ السباعي: وقد ذكر أنهم كانوا يتصلون بالوالي التركي عثمان باشا فنهاهم عن ذلك حتى انتهوا، ثم ما لبثوا أن عاودوا الاتصال بالوالي الجديد على أثر وصوله، فعاقبهم بالنفي.

وقد رفعت قضايا النفي إلى دار الخلافة فلم توافق عليها، وأباحت للمنفيين العودة إلى مكة فغادوا

(350)

، وقد عزل الشريف عون الشيخ عبد الرحمن الشيبي من وظيفة السدانة، ونفاه إلى الهند، فظل فيها إلى أن مات وعين للسدانة غيره من آل الشيبي

(351)

.

ويستطرد الأستاذ السباعي بعد ذلك: فذكر حادثة الشيخ عبد الرحمن سراج وأصحاب الفتيا التي ذكرناها آنفا فيقول:

وفي سنة 1314 هـ صدر أمر الشريف عون بإبعاد الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي الأحناف والشيخ محمد عابد بن حسين مفتي المالكية، والسيد إبراهيم نائب الحرم، والسيد علوى سقاف شيخ السادة بمكة، والسيد عبد الله بن محمد الزواوي.

(349)

توجد ترجمة للسيد أحمد بن عبد الله بافقيه في المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 75 وأرجح أن صحة الاسم هو أحمد بن عبد الله بافقيه والله أعلم.

(350)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 551.

(351)

نفس المصدر.

ص: 353

ثم ذكر الأستاذ السباعي قصة المضابط التي وقعها هؤلاء العُلماء الأجلاء بتوقيعاتهم وبعثوا بها إلى السلطان عبد الحميد فأعادها إلى الشريف عون ليطلع عليها، فانتقم لنفسه من أصحابها وعاقب بعضهم بالسجن والبعض الآخر بالنفى.

يقول السباعي: ويذكر بعضهم أن المضابط أعيدت إلى مكة تصحبها لجنة على رأسها أحمد راتب باشا للتحقيق في موضوعها، وأن عونا استطاع أن يكمسب وُدّ أحمد راتب باشا ويظفر بنتيجة التحقيق، وقد ظل راتب باشا في مكة على أثر ذلك يقوم بوظيفة الوالي بعد أن عزل جميل باشا.

أقول: والرواية الثانية تؤيد ما نقلناه آنفا على لسان الشيخ عبد الله سراج

(352)

.

ولقد انتهت النتيجة بهروب الشيخ عبد الرحمن سراج إلى مصر، وهروب الشيخ محمد عابد بن حسين مفتي المالكية إلى اليمن، أو نفيه إليها ثم رحل من اليمن إلى الخليج العربي متنقلا من إمارة إلى أخرى حتى استقر بمدينة دبي مدة طويلة ثم غلبه الحنين إلى مكة فعاد إليها متنكرا مع الحجاج، وبقى بها مختفيا إلى أن مات الشريف عون في عام 1313 هـ

(353)

، أما السيد عبد الله الزواوي فقد هرب إلى جاوة واستقر بها.

(352)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 551، 552.

(353)

انظر: ترجمة المذكور في "سير وتراجم" لعمر عبد الجبار: ص 152، 153.

ص: 354

وهكذا نرى كيف كان الشريف عون يعامل العُلماء الكبار وأصحاب الفتيا، وأعيان الرجال فيأمر بنفيهم وإبعادهم.

يقول الأستاذ السباعي:

ويذكر هؤلاء أن عونا غدا أشد وطأة على الأهالي بعد قضية المضابط وأنه بعد أن انتقم من أصحابها اشتط في معاملاته مع غيرهم مما كان له أسوأ الأثر

(354)

.

ويعلق الأستاذ السباعي على غرابة أطوار الشريف عون فيقول:

ويبدو أن الشريف عونا كان بغض النظر عن موضوع المضبطة غريب الأطوار، متناقض الأعمال، يقدس بعض معاصريه فيه غزارته العلمية ومحبته للخير العام، وتبسطه في مجالسة الخاصة، وتودده للمسالمين، وينعون عليه في الوقت نفسه تبذله بين ندمائه وقسوته في معاملة الحجاج، وإمعانه في عقوبة مخالفيه، واصطناعته "الخزناوية" الذين كانوا يضطهدون عامة الشعب

(355)

.

ويوضح الأستاذ السباعي الخزناوية فيقول:

‌الخزناوية:

فرقة اتخذها الشريف عون كحرس خاص لخدمته، والاستعانة بهم على تنفيذ أوامره، فكانوا يتسلطون على الأهالي ويستغلون نفوذهم

(354)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 552.

(355)

نفس المصدر.

ص: 355

في اضطهاد من يضطهدونه، أو يطعمون في أمواله فكان لا يجرأ أحد على الشكوى منهم.

ويعلق بعض المنتقدين بمرارة على أعمال الخزناوية ويقول: إنه كان يختارهم من طبقات العامة، ويجيز لهم من النفوذ ما يستطعون به إذلال الخاصة نكاية بهم

(356)

.

أقول: ويبدو أن هؤلاء الخزناوية قد استبدوا في معاملة الناس استبدادا شديدا بدليل ما رواه السباعي عنهم بعد وفاة الشريف عون فقال:

ولما تولى الأمر علي باشا أمر باعتقال الخزناوية، وصادر أموالهم وممتلكاتهم لقاء تسديد ما اغتصبوا من أموال الناس

(357)

.

‌المجذوب علي بوّ:

عمد الشريف عون إلى رجل من المجاذيب اسمه علي بوّ كان يذرع الشوارع بجسمه العاري فجعله من جلسائه بعد أن أمر بتنظيفه وإلباسه الأثواب الفخمة التي تؤهله لصدور المجالس، واتخذ هذا المجذوب أنيسًا، وأمر علية القوم وعظماءهم بتقبيل يده، وأحلَّه مكان الصدارة منهم، وكان إذا خرج في موكبه أجلس هذا المجذوب عن يمينه في عربته الخاصة، وأمر الناس بالوقوف لأداء التحية له على نحو ما يفعلون لدى مرور الموكب الأميري

(358)

.

(356)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 552 - 553.

(357)

نفس المصدر: ص 557.

(358)

نفس المصدر: ص 553.

ص: 356

‌قصر علي بوّ:

هذا وقد شيد الشريف عون لهذا المجذوب قصرا منيفا في محلة القشاشية قرب المسجد الحرام بعد أن أجبر أصحاب الدور في المنطقة على إخلاء بيوتهم التي تم هدمها ثم بنى القضر مكانها

(359)

.

أقول: لقد أدركت هذا القصر في مكة في الخمسينات وكان مقرا لإدارة البرق والبريد العامة، وكاني علي بو صاحب القصر يعيش في مكة ويمشي بين الناس، ولكنه فيما يبدو أنه كان به مَسٌّ من لوثة عقلية هادئة، وكانت عائلة البَوّ هي التي تؤجِّر القصر الجميل. وقد أزيل هذا القصر وأدخلت أرضه في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام.

يقول الأستاذ السباعي:

وعمد الشريف عون إلى قطعة أرض أمام القصر مكتظة بالبيوت فحكم على أصحابها بإخلائها ونقدهم ثمنها، ثم أمر بهدمها ليجعل منها حديقة يمتع المجذوب بصره فيها، ويبالغ بعضهم فيقول: إن عونا أراد أن يتوسع في الهدم حتى ينتهي إلى الغزة ليجعل المسافة بين قصر الإمارة وقصر المجذوب خالية لا يعترضها عند النظرة شئ بين القصرين وهي مسافة لا تقل عن ثلاثمائة متر

(360)

.

وقد ظلت هذه القطعة من الأرض خالية طوال أيام الشريف عون ثم أجَّرها ورثته بعده لمن أقاموا عليها دكاكين وبيوتا من الصفيح، وظلت

(359)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 553.

(360)

نفس المصدر: ص 553، 554.

ص: 357

كذلك إلى عهد الحكومة السعودية حيث ألزمت الورثة من آل عون بتخطيطها وبناء دكاكين وشوارع فيها، وقد دخل اليوم بعضها في مشروع توسعة المسجد الحرام

(361)

.

أقول: وقد اشترى المرحوم الشيخ عبد العزيز كعكى الأرض التي أمام قصر البو في القشاشية، وأنشأ فيها عمارة حديثة تقوم على دكاكين. وتعلوها مكاتب، وقد اتخذ منها الدكتور محمد الخاشقجي رحمه الله مقرا لماكينة الكهرباء الضخمة التي استوردها إلى مكة والتى أنار بها شارع القشاشية، كما اتخذ منها مقرا للتصوير الشعاعى وهي أول ماكينة تصوير شعاعى ترد إلى مكة

(362)

.

أورد الأستاذ السباعى رواية تقول: إن هدم البيوت التي أمام قصر علي بَوّ إنما كان بأمر من السلطان عبد الحميد لإِنشاء نزل للحجاج بمكة، وإن النقود أرسلت من السلطان لهذا الغرض

(363)

.

أقول: لو كان هذا الأمر صحيحا لما سمحت الحكومة العثمانية لورثة الشريف باستغلال الأرض وتأجيرها على الآخرين، ولهذا فالأرجح أن الشريف عون إنما قام بنزع ملكية هذه البيوت لإِنشاء الحديقة عليها لهذا المجذوب الذي كان يعتقد فيه الولاية والصلاح فقد تنبأ مرة بنبوءة

(361)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 553، 554.

(362)

انظر تفصيل ذلك في: ترجمة الدكتور محمد الخاشقجي في كتابنا "أعلام الحجاز في القرن

الرابع عشر الهجري" (ج 1): ص 221 - 230 الطبعة الثانية.

(363)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 554.

ص: 358

عند عون وصحت هذه النبوءة فاعتقد فيه الولاية

(364)

ولله في خلقه شئون.

ويعلق الأستاذ السباعي على تصرفات الشريف عون بأنها نوع من الشذوذ الذي يصيب بعض العظماء بينما يرى البعض الآخر أن دهاء الشريف عون حمله على اصطناع هذا المجذوب الذي أخضعَ له العظماء وسادةَ الناس. وهناك رأي يقول: إن عونا إنما لجأ إلى هذه التصرفات ليوهم السلطان عبد الحميد أنه رجل ساذج فيبقيه في إمارة مكة، كما أن البعض الآخر يرى في هذه التصرفات دليلا على السذاجة والغفلة

(365)

.

أقول: أيًّا كان الرأي في تصرفات الشريف عون فإن الأمر الهام بالنسبة للناس أنه كان حاكمًا عليهم، يأمر فيطاع، وقد عانى الناس من هذه التصرفات ما عانوا مما اضطر أولي الحل والعقد في مكة المكرمة إلى كتابة مضبطة للسلطان يذكرون فيها معاناة الناس، ولست أشك أن هذه المضبطة كانت تهدف إلى تخليص الناس من حكم الشريف عون بدليل أن السلطان اهتم بما جاء فيها وأرسل لجنة للتحقيق في محتوياتها.

‌فيل الشريف عون:

ذكر الأستاذ أحمد السباعي في "تاريخ مكة" نقلا عن إفادة الأنام للشيخ عبد الله غازي ما يلي:

وأهدى أحد عظماء الهند للشريف عون فيلا فكان الفيل ينطلق

(364)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 554.

(365)

نفس المصدر: ص 554، 555.

ص: 359

في شوارع مكة يصحبه مروِّضه، وكان يصيِّف في الطائف إذا صيَّف الشريف عون

(366)

.

وهذا الذي أوجزه السباعى في شأن الفيل حقيقته: أن هذا الفيل كان ينطلق في شوارع مكة ويتوقف أمام حوانيت الأغذية كالبر والشعير والدخن والأرز وما إلى ذلك فيلتهم ما شاء الله له أن يلتهم ولا يستطيع أصحاب هذه الحوانيت له دفعًا أو منعًا، ومن ذا الذي يستطيع أن يمنع فيل الشريف من أن يأكل ما يشاء.

وكان من ضمن المؤاخذات التي أخذها علماء مكة على الشريف عون حكاية هذا الفيل الذي نال الناس من أذاه ما نالهم كما أخبرني بذلك الأستاذ حسين سراج بلسان والده الشيخ عبد الله سراج المعاصر للشريف عون .. والواقع أني أدركت الناس في مكة يتحدثون عن هذا الفيل كما يتحدثون عن بقرة الشريف عون، التي كانت تطوف بحوانيت تجار الأغذية فتلتهم محتويات الزنابيل ولا يستطع أصحاب هذه الحوانيت لها دفعًا أو منعًا، وقد أعجبتنى القصة التي كان يتناقلها الناس في مكة عن هذه البقرة واعتبرتها من القصص الشعبي الذي يستحق التسجيل، وكتبت عنها أقصوصة صغيرة نشرتها ضمن الأقاصيص الصغيرة التي نشرت في الطبعة الثانية من كتاب "البعث"

(367)

.

وتتلخص هذه الأقصوصة في أن تجار الأغذية في مكة ضاقوا

(366)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 555.

(367)

البعث: مجموعة قصصية لمحمد علي مغربي: ص 29 - 31 الطبعة الثانية.

ص: 360

ذرعًا بأمر هذه البقرة فاجتمعوا وقرروا أن يذهبوا إلى الشريف عون يشكون أمرهم حتى يصدر أمره بمنع هذه البقرة من الطواف في الشوارع فيكفَّ أذاها عنهم.

وتجمع خمسون من أصحاب الحوانيت لدى شيخ السوق وانطلق بهم الشيخ إلى قصر الشريف عون، ولكنهم أخذوا يتفلتون وهم في الطريق إلى القصر، فانصرف ما يقرب من نصف التجار في الطريق وحينما وصل شيخ السوق إلى قصر الشريف كان الباقون مع الشيخ عشرة أشخاص، وحينما صعد السلالم انصرف بعضهم، ولم يبق مع الرجل سوى رجلين آخرين، ولما وصل إلى مجلس الشريف ورأى شيخ السوق الشريف في صدر المجلس تسلل الرجلان الآخران فوجد شيخ السوق نفسه وحيدًا أمام الشريف، وحار الرجل في أمره، إن شكا باسم التجار فأين هم الشاكون؟ ومن نصبه زعيمًا عليهم، ومتحدثًا باسمهم؟ وهو يعرف ما سيواجهه به الشريف.

وكان الرجل ذكيًّا واسع الحيلة فأكبَّ على يد الشريف يقبلها ويطلب منه باسم أهل السوق بقرة أخرى أو أكثر لأن هذه البقرة مباركة، فهي لا تقف أمام حانوت من الحوانيت إلا ويفتح الله على صاحبه فيبيع في ذلك اليوم أضعاف ما يبيعه عادة، ولقد عرف تجار السوق لهذه البقرة هذه المزية فأخذوا يتنافسون عليها، كل يريدها لحانوته أولا لتناله بركاتها ..

والقصة كما كنت أتصورها قصة رمزية، تنعي على الناس اندفاعهم وحماستهم فيما يرون أنه حق لهم ثم تقاعسهم بعد أن تفتر

ص: 361

موجة الحماس الأولى، وانصرافهم وإيثارهم للعافية، وتواكلهم بحيث يتركون زعيمهم وحيدًا في مواجهة الأحداث.

كما ترمز من جهة أخرى إلى ذكاء شيخ السوق الذي انتقم منهم بطلب المزيد من البقر حتى ينالوا جزاء تقاعسهم وخذلانهم.

وعلى أي حال فقد ظهر لي الآن أن هذه القصة الرمزية لها أصل تاريخي فيما أثبته مؤرخ مكة الشيخ عبد الله غازي ونقله عنه الأستاذ أحمد السباعي، ولا أستبعد حماس الناس في بقية القصة واندفاعهم للشكوى ثم تراجعهم خشية من عواقب إقدامهم على الشكوى من هذه البقرة أو هذا الفيل.

‌الشريف عون يبيع حقوق الطوافية:

وفي عام 1318 هـ قسّم الشريف عون طوافة بلاد مصر وجاوة والهند والمغرب، وبلاد الأناضول وغيرها أقساما تسابق المطوفون إلى شرائها وبذلك ألغى سؤال الحاج عن مطوفه وألزمه بتبعية المطوف الذي اشترى حقوق الطوافة للبلاد التي يتبعها ذلك الحاج

(368)

.

يقول إبراهيم رفعت باشا صاحب كتاب "مرآة الحرمين" تعليقا على هذا التقسيم: تسابق المطوفون إلى شراء هذه الأقسام بأثمان باهظة ظنُّوها متناسبة مع أهمية المركز وثروة حجاجه، ولكن كثيرا منهم خسر في ذلك خسارة فادحة، إذ دفعوا في الأقسام أثمانا باهظة بلغت الخمسين جنيها وزادت، ولما حان الموسم لم يحصِّلوا مقدار ما دفعوا، ولكن قليلا

(368)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 556 - 557 نقلا عن مرآة الحرمين.

ص: 362

منهم سعد جَدُّه فربح أرباحا عظيمة، وقد نشأت خسارة من خسر من علو ثمن الأقسام، ومن أنه كان سافر إلى بعض الجهات، وأنفق في رحلته تلك، وفي تلك الهدايا التي كان يأخذها لمريدي الحج النفقات الطائلة، ثم ظهر بعد ذلك أن كثيرا منهم لم يأت في القسم الذي اشتراه.

ولما رأى بعض المطوفين أن حجاج قسمه فقراء وما يدفعونه بخس، اشتد عليهم وأغلظ لهم القول، وحصل من جراء ذلك تشاحن وتسابٌّ بين الفريقين .. وكانت العادة المتبعة قبل هذا التقسيم أنه يجبى من كل مطوف للشريف ريال عن كل حاج ينزل عنده، وبالضرورة يأخذ المطوف من الحاج أمثال هذه الضريبة، ولو كان في فقر مدقع، وإن كانت لديه شفقة تجاوز عنه، وحصَّل أضعافه من الموسرين، والشريف لا يقيل أيّ مطوف من الضريبة مهما قدَّم من الأعذار، فإما أن يدفع، وأما أن يزج به في غيابة السجن، وكذلك نولِّي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون

(369)

.

ونقل الأستاذ السباعي في تاريخ مكة عن مرآة الحرمين أن جميل باشا جاء إلى مكة فأبطل تقسيم بلاد الجاوة، ثم عادت التقسيمات في عهد راتب باشا، ويقول: إن بعض الصحف الجاوية نشرت تنتقد أعمال عون وتتهم بعض موظفي قصره وتقول: (إن هذا البعض يعطي للأمير من الشاة أذنها وقد بنوا الدور والقصور)

(370)

.

(369)

"مرآة الحرمين" لإِبراهيم رفعت باشا (ج 1): ص 63، 64.

(370)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 557.

ص: 363

هذا ما كتبه اللواء إبراهيم رفعت باشا عن تقسيم البلاد الإِسلامية إلى أقسام، وبيع حقوق الطوافة فيها لمن يشتري هذه الأقسام، ويسمى هذا البيع تقارير، وهذه التقارير تحدد جغرافية الأماكن التي يرد منها الحجاج ويكون الحجاج الواردون من هذه الأماكن حقًّا مقررًا لصاحب التقرير لا يشاركه فيه مشارك، حتى ولو ذكر الحاج أو رغب في النزول عند مطوف آخر، وكانت العادة المتبعة قبلًا أن يسأل الحجاج عند وصولهم إلى جدة عن أسماء المطوفين الذين يرغبون النزول لديهم، ويتسلم وكلاء المطوفين هؤلاء الحجاج ليقوموا بترحيلهم إلى مكة أو المدينة حسب رغبات الحجاج، فلما جاءت هذه التقارير أصبح حجاجها لا يُسألون وإنما يُحوَّلون إلى أصحاب التقارير، وإنما يكون السؤال للأماكن والبلاد التي لا تشملها هذه التقارير.

‌نشأة الطوافة:

ولقد مرت مهنة الطوافة بأطوار كثير ولا نجد بين أيدينا في كتب التاريخ ما يدل عليها.

ويقول الأستاذ السباعي في "تاريخ مكة": إن السلطان قايتباي حج في عام 884 هـ ولم يحج من ملوك الشراكسة غيره، وإن القاضي إبراهيم بن ظهيرة تقدم لتطويفه، وتلقينه الأدعية، ولم يذكر المؤرخون مطوفًا قبل القاضي كان يلقن الحجاج في مكة فيما قرأته من تواريخ مكة، كما يقول الأستاذ السباعي

(371)

.

(371)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي نقلا عن الأعلام للقطبي: ص 337.

ص: 364

أقول: إن الطوافة ليست هي تلقين الحاج الأدعية التي يتلوها في طوافه بالبيت فقط، فهذا مظهر من مظاهرها، ولكن مهنة الطوافة أوسع من ذلك كثيرًا، ولي في هذا الموضوع رأي قديم توصلت إليه بعد تفكير ولا بأس من إثباته هنا:

لقد كانت مكة المكرمة منذ ظهر الإِسلام، ومنذ أن فرض الله فريضة الحج مكانًا تهوى إليه أفئدة المسلمين فيفدون إليه حاجين، ولما خَصَّ الله به البيت الحرام كان للإِقامة بمكة فضلها العظيم وثوابها الجزيل، فكان الحجاج يفدون إليها والبعض منهم يتخلف للإِقامة بها، كما كان البعض يستطيب الإِقامة فيها لطلب العلم، فلقد كانت مكة دائمًا منهلًا من مناهل العلم يفد إليها الناس من شتى أنحاء الأرض، ويحدثنا التاريخ عن حلقة عبد الله بن العباس - رضى الله عنه - في المسجد الحرام حيث يضرب إليه الناس آباط الإِبل يسألونه ويتفقهون على يديه، وجاءت بعد حلقة ابن العباس حلقات أخرى للعلماء في مكة والمدينة أمثال عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب وابن عطاء، وربيعة الرأي وغيرهم، ثم توالت الحلقات لأئمة الفقه والحديث عبر العصور، ولقد أدركت مكة في منتصف القرن الهجرى الرابع عشر وهي تستقبل طلبة العلم ص من جاوا وأفريقيا، ومن الهند، كان المسلمون يبعثون أبناءهم إلى مكة لتلقى العلم على يد علماء المسجد الحرام فيقضون الأعوام العديدة في طلب العلم، ثم يعودون إلى بلادهم لينشروا هذا العلم في أوطانهم، ولقد كانت المدرسة الصولتية في مكة تقوم بتعليم طلبة المسلمين الهنود في مكة ليعودوا إلى الهند فينشروا

ص: 365

العلم في تلك الديار

(372)

. كانت مكة منذ القدم مكانًا يفد إليه الناس ويقيمون فيه كما ذكرنا، وكان القادم للحج إذا كان له قريب أو إنسان تربطه به معرفة أو سبب يسأل عن هذا القريب حين وصوله إلى مكة فينزل عنده، إن كانت الصلات التي تربطه به تستوجب هذا النزول أو على الأقل يستعين به وهو القادم من ديار بعيدة لقضاء حجه، وتسهيل أمره، فإذا كان المقيم في مكة على سبيل المثال مصريًّا فإن القادمين من بلده في مصر يسألون عنه حين وصولهم، وتتصل أسبابهم بأسبابه، يستعينون به في تجهيزهم للسفر إلى عرفات وأداء المناسك مثلا ثم في زيارتهم للمدينة المنورة، والمقيم يعرف من شئون البلد الذى يقيم فيه ما لا يعرفه الزائر، ولا غرابة أن يجتمع لهؤلاء المقيمين العدد الكبير من الوافدين من ديارهم في كل عام، فيكون هؤلاء المقيمون هم المرشدون لهؤلاء الوافدين والمعينون لهم على أداء مناسكهم.

وهكذا بدأت مهنة الطوافة من الصداقة والمعرفة ثم تطورت إلى عمل تجاري تنافس فيه الناس فكان لا بد من أن يتدخل الحكام لتنظيمه فكان التنظيم أولًا هو بسؤال الحاج عن المطوف الذي يرغب الالتحاق به، ثم طرأت مسألة التقارير التي يمنحها الحكام للمطوفين أو يبيعها بعضهم كما فعل الشريف عون.

وأذكر أنني كنت بمكة في الخمسينات من القرن الرابع عشر الهجري كنت أبحث في بداية تاريخ الطوافة ونشأتها واتصلت أسبابي

(372)

انظر: ما كتبناه عن المدرسة الصوليتية في "أعلام الحجاز"(ج 2) لكاتب هذه السطور: ص 286 - 313.

ص: 366

بأسباب الصديق المرحوم الشيخ محمد جعفر لبنى

(373)

وكان يشغل منصب رئيس قضايا المطوفين فسألته عن هذا التاريخ فقال لي: إن أقدم تقرير في الطوافة في مكة هو تقرير بيت صحرة، وهم من مطوفي إيران وإن هذا التقرير يعود إلى ستمائة عام، وقد حاولت الاطلاع على هذا التقرير فلم أتمكن فإذا صحَّ ما ذكره لي المرحوم الشيخ محمد لبنى وهو خبير في هذا الشأن فإن هذا التقرير يكون قد سبق التاريخ الذي ذكره الأستاذ السباعي بمائة وثلاثين عاما - والله أعلم -.

على أي حال لقد مرت أعوام كان الناس في مكة والكثيرون منهم يعتمدون في حياتهم على الحجاج وكان المطوفون في مكة، ووكلاؤهم في جدة يشكلون الطبقة الثرية في البلاد التي تقتنى القصور، وتعيش حياة البذخ والترف، وكانوا يكتفون بعملهم في الطوافة فلا يعملون إلى جانبها عملا آخر لما تدرُّه عليهم من الأموال الكثيرة، كانوا يستقبلون الحجاج من جمادى الأولى، وكانت أول باخرة تفد بالحجاج من جاوة تنقل الفوج الأخير من حجاج السنة الفائتة فكان الحجاج يقضون في البلاد الشهور الطويلة، وكان الحجاج أثرياء، كانت الروبية الجاوية غالية الثمن فكان الجنيه الإِنجليزي الذهب بخمس روبيات جاوية وسبع روبيات هندية، وكان الحجاج يحضرون معهم الماس والذهب وكانوا ينفقون الأموال الكثيرة في الحجاز.

ثم دارت الأيام الأيام دورتها فتبدل الحال غير الحال، فحلَّت

(373)

انظر. ترجمته في: أعلام الحجاز (ج 1) الطبعة الثانية: ص 165 - 168.

ص: 367

الطائرات محل السفن، وأصبحت إقامة الحجاج في الحجاز محدودة، وكثر التوالد في البلاد الإِسلامية فعانت من الكثافة السكانية، ومن التضخم المالي ومن المشاكل الاقتصادية الكثيرة فلم تعد مهنة الطوافة تكفي أصحابها، ولهذا فإنهم قد اتخذوها مهنة مساعدة واتجه الكثيرون منهم وخاصة الجيل الجديد إلى الأخذ بأسباب الحياة الكثيرة فكان منهم الأطباء والمهندسون والعلماء ورجال الأعمال وأصحاب المراكز في الدولة وحسنا فعلوا فالتطور سنة الحياة.

ولقد تطورت الطوافة من السؤال والتقارير فأصبحت الآن مؤسسات تضم الأجناس المختلفة ولها هيئات خاصة بها يقوم بها المطوفون أنفسهم، وتشرف وزارة الحج والأوقاف على هذه المؤسسات ويستمر التطور لمصلحة الحجاج ولمصلحة المطوفين إلى الأفضل بإذن الله.

‌إبراهيم رفعت باشا يصف حكم الشريف عون:

وصف إبراهيم رفعت باشا حكم الشريف عون في مكة في كتاب "مرآة الحرمين" في حجته عام 1318 هـ فقال:

يلقب شريف مكة بسيد الجميع تمييزًا له عن بقية الأشراف، وهو الحاكم الذي لا ينازع في أمر، ولا يرد له قول، ينفى من شاء، ويحبس من شاء، ويعاقب من شاء، بيده عقد الأمور وحلها، وكل الحكام بمكة طوع إشارته من كبيرهم أحمد راتب باشا المشير إلى صغيرهم، فإن عارضه واحد منهم عزل في الحال، لأن الشريف له يد قوية في الدولة، فأيّ الأمور طلب أجيب إليه، بل غالب الشكايات منه ترد إليه ليفصل فيها بما شاء من شرع أو هوى لا معقب لحكمه فالويل كل الويل لمن شكا.

ص: 368

ويعلق الباشا على ما كتب فيقول:

نعم هذه اليد المستبدة تناسب حال الأعراب الأشرار الذين لا ترغمهم إلا القوة، ولا يقوّمهم إلا البطش بهم، ولكن لو ضمت إلى القوة العدالة لكبح الأشرار عن سيئاتهم، والتفَّ الناس حوله بأجسامهم وقلوبهم لأن للعدل من السلطان على النفوس ما ليس للقوة الغاشمة

(374)

وهذا الوصف الذي ذكره صاحب "مرآة الحرمين" يلخص تاريخ الشريف عون الذي استمر يحكم مكة من 9 ذي الحجة 1299 هـ إلى جمادى الأولى 1323 هـ دون معارض.

‌ضرائب الشريف على الحجاج:

ذكر إبراهيم رفعت باشا أن عدد الحجاج في عام 1318 هـ بلغ مائة وخمسين ألف حاج وعدَّد أنواع الضرائب فقال: إنه كان يؤخذ للشريف على كل رأس من الذبائح التي تباع على الحجاج خمسة قروش تؤخذ من البائع

(375)

ويؤخذ على كل شقدف يباع في جدة ستة قروش ونصف مصرية - روبية - ويؤخذ من أجرة الجمل الذى يقل الحاج من جدة إلى مكة ريالان للشريف، وخمسة قروش عثمانية للحكومة، وريال آخر لوكيل المطوف بجدة ولمتعهد المطوف ضرائب ما أنزل الله بها من سلطان، كما كان يؤخذ للشريف على كل جمل يباع خمسون قرشا ويؤخذ للشريف على الجمل الواحد إلى عرفات ريال واحد، أما أجرة الجمل من مكة إلى المدينة فينبع فإن للشريف فيها اثنا عشر ريالا

(376)

وقد أفاض

(374)

مرآة الحرمين (ج 1): ص 65.

(375)

نفس المصدر: ص 53.

(376)

نفس المصدر: ص 65، 66.

ص: 369

صاحب كتاب "مرآة الحرمين" في هذا الأمر إفاضة كبيرة فليرجع إليها من رغب.

كما ذكر الارتفاع المستمر في أجور الجمال للحجاج فقد كانت 850 قرشا أجرة الجمل الواحد في سنة 1314 هـ فما زالت تزيد حتى وصلت إلى 2096 قرشا في سنة 1318 هـ

(377)

.

‌إعانة السكة الحديدية الحجازية:

وفي عام 1318 هـ أمر الشريف عون بجمع إعانة للسكة الحديدية وقدَّر على كل حاج ريالًا، فأخذ المطوفون يجمعونها ويورِّدونها للشريف، وقد حبس الحجاج بمكة سبعة أيام حتى يتم استحصال هذه الإِعانة الجبرية منهم، ولقد حاول بعض الحجاج التظلم من حبسهم عن السفر فذهب بعض حجاج المغاربة يشكون إلى الوالي فأرسل معهم مندوبا من قبله إلى الشريف ليسمح لهم بالخروج، فلما وصلوا إليه انقض عليهم - البارودية -

(378)

ضربًا بالعصى فتشتتوا مذعورين، وحينما سمح للحجاج بالسفر من مكة أوقفوا في مكان ضيق مخصوص في الطريق لاستحصال ريال واحد للحكومة، واستعملوا كل غلظة وقساوة مع الحجاج، فدخلت الشقادق في بعضها وكاد الناس يكونون طبقات بعضها فوق بعض، وهناك تحطَّم كثير من الشقادف وسقط بعض الراكبين من عليها فتهشمت منهم العظام وبلغت فيهم الجراح

(379)

.

(377)

مرآة الحرمين (ج 1): ص 67.

(378)

البارودية: نسبة إلى حاملي البارودة، وهي البندقية وهم حرس القصر للشريف.

(379)

مرآة الحرمين (ج 1): ص 71، 72.

ص: 370

ونكتفي بهذا القدر الذي أورده المؤرخون عن سيرة الشريف عون في مكة المكرمة والتي امتدت ما يقرب من ربع قرن، وقد أفضنا فيها لننقل للقارئ صورة من الحياة في مكة قبل ما يقرب من مائة عام، ليعرفوا شيئًا من تاريخ البلد الحرام في ذلك العصر السحيق، وليأخذوا العبرة، وليحمدوا الله تعالى على ما أَفاء عليهم من النعم الكثيرة، أمنًا شاملًا، ورخاءًا عظيمًا، وتطورًا فاق ما يتصوره الخيال.

‌رئيس النظار يطلب إرسال عبد الرحمن سراج إلى مصر:

ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل إلى الشيخ عبد الرحمن سراج الذى تركناه يستقل سفينة شراعية ومعه ابنه الشاب عبد الله سراج إلى مصر هاربًا من بطش الشريف عون، فيصل إلى الشواطئ المصرية وهو مريض مدنف، وقابل الشيخ عبد الرحمن سراج حكمدار السويس وطلب منه أن يخبر رئيس النظار مصطفى فهمى باشا بوصوله إلى مصر، وطلب رئيس النظار إرسال الشيخ عبد الرحمن سراج إلى القاهرة فوصلها ضيفًا على رئيس النظار الذي كانت له معرفة سابقة به.

أقول: مصطفى فهمي باشا رئيس وزراء مصر كان والد السيدة صفية زغلول أم المصريين وزوجة زعيم مصر العظيم الراحل سعد باشا زغلول.

‌وفاة الشيخ عبد الرحمن سراج:

ولكن حياة الشيخ عبد الرحمن سراج آذنت بانتهاء فقد اشتد عليه المرض، فقضي غريبًا عن وطنه، بعيدًا عن أهله وأحبابه، وكانت وفاته

ص: 371

في سنة 1314 للهجرة في السادسة والستين من العمر بعد حياة حافلة كان فيها مثال العالم العامل الذي يجهر بالحق والذي لا تأخذه في الله لومة لائم، والذي يأنف الظلم على العباد والذي يرفض المناصب العظيمة في إباء واعتزاز، ويؤثر ما عند الله على ما عند الناس.

* * *

ص: 372

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 373

الشيخ عبد الله عبد الرحمن سراج

ص: 374

‌عَبْدُ اللهِ عَبْدُ الرَّحْمَن سراج

متوسط القامة أقرب إلى الطول منه إلى القصر، مليء الجسم في غير إسراف، قمحى اللون، واسع العينين ثاقب النظرة، عظيم الأنف، وخط الشيب لحيته وعارضيه، تلمح في وجهه ملامح الذكاء والإِباء، يرتدي الجبة والعمامة الحجازية، وتتميز لفة العمامة بالميسم الذي تتميز به عمائم العلماء فلا ترى لها عَذَبَة ظاهرة كما هو شأن التجار والوجهاء، ولكنها متكورة اللفات شأن العلماء في سمتهم.

ولد الشيخ عبد الله سراج في سنة 1296 هـ بمكة وتلقى تعليمه فيها، فالتحق بالمدرسة الصولتية التي ابتدأت الدراسة فيها في سنة 1290 هـ وتخرج منها

(380)

كما تتلمذ على أعلام علماء مكة. فقد أدرك الشاب عبد الله سراج أباه وصاحَبَهُ حينما نفاه الشريف عون الرفيق من مكة، صاحبه إلى جدة أولا ثم سافر معه إلى مصر وبقي بجانب أبيه إلى حين وفاته في مصر سنة 1314 هـ، وكان عبد الله سراج في ذلك الحين فتى يقترب من العشرين من العمر، وكان والده كما وصفه صاحب كتاب "نشر النور والزهر":

أوحد علماء هذا العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه، تفنن في علومه،

(380)

انظر: كل ما يتعلق بالمدرسة الصولتية ومؤسسها في "أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجرى"(ج 2) لكاتب هذه السطور: ص 286 - 313.

ص: 375

وأجاد في منثوره ومنظومه، وتميز بالفضل على أقرانه، وزاحم بمنكبه صدور أهل زمانه إلخ ..

نعم لقد تلقى عبد الله سراج من والده الكثير من العلم والمعرفة كما تلقى عنه دروسًا أخرى لا تقل أهمية عنها.

‌الشيخ عبد الرحمن سراج يؤدب ابنه:

كان الشريف عون الرفيق قد نفى كبار علماء مكة المكرمة وأصحاب الفتيا فيها، وكان أحد المنفيين هو الشيخ عبد الرحمن سراج الذي سافر معه ابنه عبد الله سراج فوصلوا إلى جدة ونزلوا في بيت شيخ دلالي الأسماك فيها وكان عبد الرحمن سراج مريضًا، ولم يكن معه من المال ما يصلح أحواله وأحوال ابنه، وفي المسكن البسيط الذى لجأ إليه في جدة زار الشيخ عبد الرحمن سراج رسول المعتمد البريطاني في جدة وعرض على الشيخ عبد الرحمن سراج رغبة الحكومة البريطانية إصدار فتوى بجواز أن يكون للمسلمين خليفتان في وقت واحد، فإذا أصدر الشيخ عبد الرحمن هذه الفتوى، فإن الحكومة البريطانية تنقله في بارجة حربية إنجليزية إلى الهند ليتولى منصب قاضى القضاة هناك.

ونظر عبد الرحمن سراج إلى ابنه، كأنه يستطلع رأيه، ورأى الشاب عبد الله سراج أن الفرج قد جاء إلى أبيه في هذا العرض الذي يستردَّ به ما فقد من منصب وجاه، فقال لأبيه، إنه لا يرى بأسًا بإصدار هذه الفتوى؟

ولكن عبد الرحمن سراج نظر إلى ابنه نظرة صاعقة، وأهوى بيده على وجهه فلطمه على خده لطمة أليمة، والتفت إلى رسول المعتمد

ص: 376

البريطاني يقول:

ارجع لسيدك فأخبره أني لا أبيع ديني بدنياي

(381)

.

هذه اللطمة التي أهوى بها عبد الرحمن سراج على وجه ابنه الشاب كانت له درسًا من أعظم الدروس، ظل يهتدي به طول حياته، حتى أنه حدَّث ابنه البكر حسين سراج عنه بعد عشرات السنين.

‌عبد الله سراج في مصر:

سافر عبد الله مع أبيه الشيخ عبد الرحمن إلى مصر هاربيْن من بطش الشريف عون في سفينة شراعية دبر سفرهما فيها كبير جدة الأفندي عمر نصيف، ووصلا إلى مصر، وعلم بمقدم الشيخ عبد الرحمن سراج رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت مصطفى فهمى باشا فنزل الشيخ عبد الرحمن وابنه في ضيافة رئيس الوزراء .. وكان عبد الرحمن سراج مريضًا فلم تطل أيامه في مصر فتوفِّي هناك في سنة 1314 هـ، ووجد الشاب عبد الله سراج نفسه وحيدًا في مصر بعد وفاة أبيه فالتحق بالجامع الأزهر، يتلقى العلم على شيوخه الأجلاء، وحصل على شهادة العالمية من الأزهر.

‌السفر إلى الهند:

ولم تكن أحوال الشاب عبد الله سراج في مصر حسنة، فقد كان يشعر بالضيق بعد وفاة والده وبعد وفاة مضيفهم مصطفى فهمى باشا،

(381)

فصلنا في ترجمة الشيخ عبد الرحمن سراج قصته وقصة علماء مكة مع الشريف عون.

ص: 377

ونفاذ ما لديه من المال القليل، حدَّث عن نفسه فقال:

كنت أجلس يوما في أحد المقاهي القريبة من الجامع الأزهر، ومرَّ بي رجل هندي تنم عنه ملابسه وهيئته وأخذ يطيل النظر إليّ، ويتعمَّد المرور أمامي جيئة وذهوبًا، فدعوته إلى الجلوس معى بعد أن أدكت أن لديه ما سيفضي به إليّ، جلس الرجل وسألنى من أي البلاد أنت؟ فلما أخبرته خبري قال: إنه يعرف والدي، وإنه تتلمذ عليه في مكة المكرمة، ودعاني إلى السفر معه إلى الهند وزيَّن لي الأمر.

يقول عبد الله سراج:

ولما كنت غريبا في مصر، مبتعدًا عن وطنى في الحجاز قبلت الأمر، وسافرت مع الرجل إلى الهند، كنت أطوف بمدن الهند بترتيب من هذا الرجل، وجاء رمضان وصليت بالمسلمين هناك صلاة التراويح في شهر رمضان في مدينة حيدر آباد، وفي آخر ليلة من ليالي هذا الشهر الكريم تدفقت الهدايا للإِمام فبلغت قيمتها أربعين ألف روبية، وكان هذا المبلغ في ذلك الزمان ثروة طائلة.

وعلم السيد عبد الله الزواوي مفتى الشافعية الذي نفاه الشريف عون مع أبي علم بمكاني في الهند، وكان هو قد هاجر إلي جاوة - أندونسيا - فأرسل إليّ يدعوني للقدوم إلى هناك وسافرت إلى جاوة ثم عدت منها مرة أخرى إلى الهند.

أقول: كان المسلمون وما زالوا ينظرون إلى الأماكن المقدسة نظرة تقديس، وكانوا ينظرون إلى أهلها نظرة إكبار وإجلال، خاصة إذا كانوا من العلماء، فإذا حل المكى والمدني أرضًا أحلَّه أهلها بينهم محل التكريم

ص: 378

والإِعزاز، يلتمسون فيهم القدوة الحسنة ويغدقون عليهم الهدايا العظيمة، وخاصة إذا كان القادم رجل علم وفضل، وكان حميد السيرة في أعماله وسلوكه، ولقد تعوَّد الناس في الحجاز كلما ضاقت بهم الحال، أو نبا بهم المقام أن يرحلوا إلى الديار الإِسلامية، يلتمسون فضل الله تعالى عليهم في هذه الرحلات، فيجنون منها أطيب الثمر، وأحسن الأثر.

ولقد كان من عادة المطوفين خاصة إذا ما انتهى الحج وانقضت أيامه أن يرحلوا إلى البلاد التي يرد منها حجاجهم، توثيقًا لعلائقهم بالحجاج وبالراغبين في القدوم إلى الحج، وكانوا يصطحبون معهم الهدايا التي يحبها الحجاج لتقديمها إلى كبار الرجال، ويتلقون بدورهم الهدايا والألطاف، بل إن بعض المطوفين كان يصهر إلى أهل الديار فيتزوجون من نسائها، وكان الناس هناك يقبلون على تزويجهم راضين لأنهم من أهل البلاد المقدسة.

ولكن النظرة إلى القادم من الحجاز ترتبط دائما بتصرفاته وحسن سلوكه، فإذا أخطأ كان خطؤه عظيمًا وكان حسابه على هذا الخطأ أعظم، ولهذا فإن الذين كانوا يرحلون إلى البلاد الإِسلامية ينظر إليهم كممثلين لبلادهم المقدسة والويل كل الويل لهم لو انحرفوا أو زلُّوا فإن السخط عليهم وعلى تصرفاتهم يكون عظيمًا، هكذا كان الحال في الماضي، حينما كانت البلاد الإِسلامية بلاد الخير والبركة، وحينما كان الحجاز يعتمد في حياته على الحج والحجاج، وقد دار الفلك دورته، وأصبح الحجاز بل أصبحت المملكة العربية السعودية مركز الثقل الاقتصادي في العالم الإِسلامي، وأصبحت الدولة تنفق على الحج ومرافقه آلاف الملايين من الريالات، فلم يَعُدْ أهل هذه البلاد بحاجة إلى السفر

ص: 379

لاستقدام الحجاج، ولكنهم يسافرون للسياحة، والتجارة، والاستشفاء، وأصبح الحجاج يتسوقون من مدن الحجاز ما ينقص بلادهم من الأجهزة المختلفة والهدايا النفيسة، والأدوية المبذولة فسبحان مغير الأحوال، وحمدًا له تعالى على كل حال.

‌عبد الله سراج في الآستانة:

يقول عبد الله سراج، ولكني آثرت بعد ذلك السفر إلى استانبول عاصمة الخلافة العثمانية في ذلك الزمان رغبة منى في الالتحاق بإحدى المدارس هناك .. وسافر عبد الله سراج إلى استانبول واستقر بها وزار الشريف الحسين بن علي - ملك الحجاز فيما بعد - وكان يقيم بها في البشكطاش، فدعاني إلى الإِقامة في ضيافته الكريمة. يقول عبد الله سراج فانتقلت إلى دار الشريف الحسين بن علي وبقيت معه في الآستانة ثمانية عشر عاما، وكانت غرفتى في داره مجاورة لغرفة الأمير الشريف عبد الله بن الحسين - جلالة ملك المملكة الأردنية الهاشمية فيما بعد - وتوثقت صلة عبد الله سراج بالشريف الحسين بن علي كما توثقت صلته بابنه الأمير عبد الله بن الحسين، كما كان يتولى الإِمامة في منزل الشريف الحسين الذي تعمَّد إبقاءه في داره.

وفي أثناء إقامته بالآستانة توثقت صلته برجال الدولة في عهد السلطان عبد الحميد فنال ثقتهم وأنعم عليه السلطان عبد الحميد بالوسام الحميدي.

‌إعلان الدستور في تركيا:

تطورت الأحداث في تركيا فقام الاتحاديون بإعلان الدستور

ص: 380

في 27 جمادى الثانية 1326 هـ مع بقاء السلطان عبد الحميد على العرش

(382)

ثم خُلع في نفس العام ورحل مع أسرته إلى سلانيك ثم أعيد إلى الآستانة فظل فيها أسيرا.

‌إعلان الدستور بين الشريف والوالي:

لما قام الاتحاديون بإعلان الدستور وعزل السلطان عبد الحميد أصدروا أوامرهم إلى الوالي التركي في الحجاز أحمد راتب باشا بإعلان الدستور في البلاد، ولكن راتب باشا تباطأ في الأمر وصرح لكبار الضباط بعدم التسرع في نشر الدستور، وأن يتم ذلك تدريجيًّا خشية من الفتن في الحجاز.

ولكن أنصار الدستور من الضباط والجنود وبعض الأهالي لم يقتنعوا برأيه، ورأوا ضرورة التعجيل بإعلان الدستور وكان الأمير في الحجاز هو الشريف علي باشا بن عبد الله في مصيفه بالطائف، كتب أحمد راتب باشا إلى الشريف علي باشا يطلب منه الحضور إلى جدة لمساعدته في إخماد الفتنة التي يتوقعها حين إعلان الدستور.

وكتب علي باشا إلى الوالي يوافق على رأيه في إرجاء إعلان الدستور، ولكنه لم يحضر إلى جدة لمساعدته على إخماد الفتنة .. واستطاع أنصار الدستور في جدة القبض على راتب باشا وإرساله إلى مكة أسيرًا في القلعة.

ثم أعلنوا الدستور، ونادوا به في شوارع مكة وجدة والطائف.

(382)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 558، 559.

ص: 381

‌عزل راتب باشا:

وعلم الاتحاديون في الآستانة بتباطئ راتب باشا في إعلان الدستور فصدر الأمر بعزله، وتولية كاظم باشا الذي وصل إلى مكة في رمضان من العام المذكور 1326 هـ

(383)

.

‌ثورة القبورى:

لم تكن ثورة الاتحاديين على السلطان عبد الحميد وعزله عن الخلافة لتمرَّ دون أن تترك آثارها في نفوس الناس، خاصة لما عرف عن الاتحاديين أو على الأصح عن بعضهم من عدم الالتزام الكامل بأمور الدين، فكان الناس في شكٍّ من أمرهم، وقد قام بعض أنصار الاتحاديين في مكة بفرض ضريبة على دفن الموتى مقدارها خمسة ريالات، قالوا: إن هذه الضريبة ستصرف في إصلاح القبور.

واستدعى لهذا الغرض شيخ القبوريين لإِبلاغه باستيفاء هذه الضريبة من أهل الموتى، ولكن شيخ القبوريين استنكر الأمر وخرج من دار الحكومة صائحًا فاجتمع إليه الناس، فأعلن الأمر إليهم في صورة استثارت مشاعرهم وكانوا - كما يقول الأستاذ السباعى - لم يتوطنوا بعد على مبادئ الدستوريين، ولم يقتنعوا بثورتهم على الخليفة وصاح صائحهم بالجهاد في سبيل الله. واستجاب الشباب من جميع الحارات، وخرجوا بأسلحتهم ينادون بالثورة على الأتراك، فاشتبكوا مع الجند في عدة مواقع من الأسواق، وقتل وجرح من الفريقين عدد غير كبير.

(383)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 558، 559.

ص: 382

ثم استطاع الأتراك بمساعدة بعض الأشراف إخماد الفتنة بعد ساعات من نشوبها.

‌عزل علي باشا أمير مكة وتولية عبد الله بن محمد عون:

وقد اتهم الأتراك الشريف علي باشا أمير مكة بتدبير هذه الفتنة ومساعدتها، وكانوا قد استاءوا من تباطئه في إعلان الدستور فأصدروا أمرهم بعزله في 28 رمضان 1326 هـ وتولية الشريف عبد الله بن محمد بن عون.

‌وفاة عبد الله بن محمد بن عون وتولية الحسين بن علي:

ولكن المنية عاجلت الشريف عبد الله قبل أن يصل إلى مكة فتوفي في 3 شوال من عام 1326 هـ بعد خمسة أيام من تعيينه وكان سقيمًا أنهكته الأمراض كما كان يقيم في الآستانة، فوجهت الولاية إلى الشريف الحسين بن علي - ملك الحجاز فيما بعد - ووافق الخليفة محمد رشاد الخامس على ذلك فتوجه الحسين وكان مقيمًا في الآستانة فوصل إلى مكة في ذي القعدة من عام 1326 هـ

(384)

.

‌عبد الله سراج يعود مع الحسين إلى مكة:

وبعودة الشريف الحسين بن علي إلى مكة عاد إليها في معيته الشيخ عبد الله سراج، وقد عرفنا أنه كان مقيمًا بدار الشريف الحسين في الآستانة.

(384)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعي: ص 560، 561.

ص: 383

‌وظائف عبد الله سراج في مكة:

أسند الشريف الحسين إلى الشيخ عبد الله سراج وظيفة الإِفتاء التي كان يتولاها أبوه الشيخ عبد الرحمن سراج، وجَدُّهُ الشيخ عبد الله سراج الذي كان رئيسًا لعلماء مكة

(385)

، فالرجل سليل أسرة علم وفتيا جيلا بعد جيل فلا غرابة أن يسند إليه الشريف الحسين بن علي هذا المنصب الجليل، وهو من أقرب الناس إليه كما أسلفنا.

‌انتخاب عبد الله سراج عضوا في مجالس المبعوثان:

جاء في "تاريخ مكة" للسباعي نقلا عن كتاب "إفادة الأنام" ما يلي:

على أثر إعلان الدستور في الحجاز صدرت أوامر الاتحاديين بانتخاب مبعوث عن كل خمسين ألف شخص لتمثيل بلادهم في مجلس المبعوثان - مجلس الدستور - فانتخبت مكة المفتى الشيخ عبد الله سراج بصورة أقرب إلى التعيين منها إلى معنى الانتخاب.

‌والشيخ عبد الله سراج يستقيل:

وسافر المنتخب إلى السويس ثم ما لبث أن استعفى وبذلك عقد مجلس المبعوثان في ذلك العام، ولم يحضر مبعوث مكة

(386)

.

(385)

انظر ترجمة الشيخ عبد الله سراج الجد في المختصر من كتاب "نشر النور والزهر": ص 297 - 300.

(386)

"تاريخ مكة" نقلا عن كتاب "إفادة الأنام" مخطوط للشيخ عبد الله غازى: ص 560.

ص: 384

وللقارئ أن يتساءل معي عن الأسباب التي دفعت الشيخ عبد الله سراج للاستعفاء من هذا المنصب العظيم ونستطيع تعليل هذا الاستعفاء بأنه كان بوحْي من الشريف الحسين بن علي الذي لم يكن راضيًا عن الاتحاديين والتى كشفت له إقامته الطويلة في تركيا دخائل أمورهم وما كانت تموج به عاصمة الخلافة من العناصر المختلفة وخاصة ما كان العرب يهيئون أنفسهم له من استقلال عن تركيا بعد أن ظهرت بوادر العنصرية لدى الأتراك ضد العرب.

ويبدو أن الحسين آثر إظهار المسايرة للاتحاديين فأمر بانتخاب عضوين في العام التالي لمجلس المبعوثان هما ابنه الشريف عبد الله بن الحسين، والشيخ حسن عبد القادر الشيبى

(387)

.

‌الشريف الحسين يعلن الثورة على الأتراك:

استمر الشريف الحسين أميرًا على مكة من القعدة 1326 هـ إلى 9 شعبان 1334 هـ، وكان طيلة مدة إمارته يهيئ نفسه للانقضاض على الاتحاديين، وكان لا يترك للوالي التركي فرصة للعمل فقد كانت مجالسه تفيض بالنشاط، وكان دائم الاتصال بطبقات الشعب والأهالي، كما كان يستقبل وفود البلاد العربية القادمين إلى الحج، ويطيل في حديثه عما يتوجسه من الاتحاديين.

وقد ذكر الأستاذ السباعى في "تاريخ مكة" أن السنوات السبع

(387)

انظر ما كتبه السباعي عن ذلك في "تاريخ مكة": ص 561 - 562.

ص: 385

من إمارته في مكة تعاقب فيها ستة ولاة من الأتراك هم: كاظم، وحازم، وفؤاد، وأحمد نديم، ووهيب، وغالب - مع حفظ الألقاب -

(388)

.

وقد اغتنم الحسين فرصة اندلاع الحرب العالمية الأولى وانضمام الأتراك إلى الألمان في محاربة الإِنجليز والفرنسيين، فاتفق الحسين كما هو معلوم مع الإِنجليز وقام بإعلان الثورة عليهم في مكة في 19 شعبان 1334 هـ.

‌الشيخ عبد الله سراج يخطب معلنًا الثورة في المسجد الحرام:

يقول الأستاذ حسين سراج:

وبأمرٍ من الشريف الجسين قام الشيخ عبد الله سراج مفتي الأحناف في مكة بالخطابة في المسجد الحرام معلنا الثورة على الأتراك في الوقت الذي أطلق فيه الشريف الحسين الرصاصة الأولى من منزله معلنًا بدء الثورة.

‌عبد الله سراج يشترك في احتلال قلعة أجياد:

ويقول الأستاذ حسين سراج:

بدأت ثورة الشريف الحسين باحتلال قلعة أجياد التي كانت بها مجموعة من الضباط والجنود والأتراك، وكان الشيخ عبد الله سراج يشترك في مهاجمة القلعة تشجيعًا للمهاجمين وهو بهذا يذكّرنا بما فعله والده الشيخ عبد الرحمن سراج الذي اشترك في التدريب العسكري

(388)

"تاريخ مكة" لأحمد السباعى: ص 562.

ص: 386

الذي فرضته الدولة وحث الناس عليه

(389)

.

‌الشريف عبد الله بن حسين يهاجم الأتراك في الطائف:

يقول الأستاذ حسين سراج نقلًا عن والده الشيخ عبد الله سراج:

كان الجيش التركي في الطائف قوامه ثلاثة آلاف جندي وكان الشريف الحسين يخشى أن يزحف الأتراك بجيشهم هذا على مكة فآثر أن يبادئهم بالهجوم، وأرسل ابنه الشريف عبد الله بن الحسين لمهاجمة الطائف.

يقول الأستاذ حسين سراج نقلا عن والده: وكان الإِنجليز قد ألحُّوا على الشريف الحسين بمهاجمة الطائف وأبوا إمداده بالسلاح حتى يهاجم الطائف .. وكان الشريف عبد الله بن الحسين يخشى نتائج الهجوم على الطائف فأرسل الشريف الحسين الشيخ عبد الله سراج في أثره لصلاته الكبيرة بقبائل الطائف، ومن المعلوم أن أسرة الشيخ عبد الله سراج من أُسَر الطائف المعروفة، وكانت ولا تزال لهم بساتين شهار وأراضيها الشهيرة هناك.

يقول الشيخ عبد الله سراج:

إن الشريف عبد الله بن الحسين وجيشه منوا بهزيمة منكرة في الجولة الأولى، من هجومهم على الطائف وإن عدد القتلى منهم بلغ خمسمائة قتيل.

(389)

انظر: ترجمة الشيخ عبد الرحمن سراج.

ص: 387

ولكن الشريف عبد الله بن الحسين أعاد الكرَّة بعد أن جمع قبائل الطائف وأمدَّهم الشريف الحسين بالمدفعية التي يقودها القيسوني باشا فسلمت مدينة الطائف.

يقول الأستاذ أمين سعيد في كتاب الثورة العربية:

استسلمت الطائف عند منتصف ليل 22 سبتمبر سنة 1916 م (24 ذي القعدة 1334 هـ) فقد جاء الوالي غالب باشا بنفسه مع ضباطه إلى المعسكر العربي خارج السور، وسلموا أنفسهم كما سلمت القوات التركية سلاحها للجيش العربي

(390)

.

‌عبد الله سراج أول المبايعين:

بالرغم من قيام الحسين بن علي بالثورة على الأتراك في 9 شعبان 1334 هـ إلا أن مبايعته بالملك لم تتم إلا في 6 من محرم 1335 هـ الموافق 3 ديسمبر 1916 م، يقول الأستاذ أمين سعيد:

ولم يشأ الشريف أن يعجل بالعمل مع أنه قبض فعلا على زمام الحجاز، ما خلا المدينة المنورة، بل ظل يوقع رسائله ومنشوراته باسم شريف مكة وأميرها، ويخاطب الدول بهذه الصفة حتى ختام أول موسم للحج في العهد الجديد، وزوال كل خطر عن الثورة، فجرت البيعة بالملك يوم الخميس 6 محرم 1335 هـ الموافق 3 ديسمبر 1916 م، فجاء الحسين من القصر الملكي إلى مدرسته الخاصة الملاصقة للكعبة فدخلها يَحُفُّ به آله وذووه والعلماء والكبراء، ولما استقر بهم المقام سلم

(390)

"الثورة العربية" لأمين سعيد (ج 1): ص 201.

ص: 388

الشيخ عبد الله سراج مفتي الحنفية في مكة الشيخ عبد الله الخطيب كتاب البيعة فتلاه على الجماهير المحتشدة في الحرم، ثم قام الشيخ ابن سراج فبايع الحسين بالمُلك ولقّبه بملك البلاد العربية وتبعه الناس بالبيعة

(391)

.

‌قاضي القضاة ووكيل رئيس الوكلاء:

وفي اليوم التالي أصدر الحسين أول مرسوم بتأليف أول وزارة وجَّهه إلى حضرة العالم الكامل الشيخ ابن سراج ووجه إليه منصب قاضي القضاة وعينه وكيلًا عن رئيس الوكلاء العظام، وكان رئيس الوكلاء هو الأمير علي بن الحسين - ملك الحجاز فيما بعد - وكان مشغولًا بالحرب:

وهكذا نرى الشيخ عبد الله سراج يتبوّأ أعلى المناصب في أول حكومة تؤلف في العهد الهاشمي، ويوجه إليه أول مرسوم بتأليف الوزارة

(392)

.

‌في عهد الملك علي:

وحينما تنازل الملك الحسين بن علي عن العرش وبويع لابنه الملك علي بن الحسين كان الشيخ عبد الله سراج يشغل نفس المناصب التي يشغلها في عهد الحسين، فكان رئيسًا للوكلاء وقاضيًا للقضاة ومفتي الأحناف.

(391)

"الثورة العربية" لأمين سعيد (ج 3): ص 13.

(392)

انظر التفاصيل في "الثورة العربية" لأمين سعيد: ص 131 - 134.

ص: 389

‌الملك فؤاد يرنو إلى الخلافة:

بعد إلغاء الأتراك للخلافة وعزل آخر الخلفاء العثمانيين السلطان محمد رشاد الخامس طمح الكثيرون بأبصارهم إلى الخلافة، فعمل الأمير عبد الله بن الحسين على البيعة لوالده الملك الحسين بن علي ملك الحجاز بالخلافة وتمت البيعة له في عمان يوم 12 مارس 1924 هـ

(393)

، وعاد إلى الحجاز وهو يحمل لقب الخلافة إلى جانب الملك.

ولكن أيام الحسين في الملك وكذلك في الخلافة لم تطل فقد تنازل عن الملك يوم 5 ربيع الأول 1342 هـ حيث بويع لابنه الملك علي بن الحسين، وغادر هو جدة إلى العقبة، وقد رأى الملك فؤاد ملك مصر أن الفرصة قد سنحت له ليحظى هو بلقب الخليفة فدعى إلى عقد مؤتمر إسلامي في القاهرة، وقد دُعى الشيخ عمد الله سراج قاضى القضاة ومفتي الأحناف في الحجاز لحضور هذا المؤتمر ضمن من دعي إليه من أعلام الرجال في البلاد الإِسلامية.

وأثناء إقامة عبد الله سراج في مصر تم الصلح بين الملك علي والسلطان عبد العزيز آل سعود - كان لقبه الرسمي في ذلك الوقت سلطان نجد وملحقاتها - تم الصلح بينهما على تسليم البلاد للسلطان عبد العزيز الذي أصبح لقبه الرسمي ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها .. فعرض الملك فؤاد على عبد الله سراج منصب قاضى القضاة في السودان كما أنعم عليه بوشاح النيل من الدرجة الأولى فاعتذر عن قبول المنصب.

(393)

"الثورة العربية" لأمين سعيد (ج 3): ص 176.

ص: 390

‌عبد الله سراج في الأردن:

أرسل الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرقي الأردن إلى عبد الله سراج يدعوه للحضور إلى الأردن ففعل.

‌عبد الله سراج رئيسًا لوزراء الأردن:

كان عبد الله سراج محل رعاية الأمير عبد الله بن الحسين وثقته فأسند إليه رئاسة الوزارة الأردنية عام 1348 هـ وخلال رئاسته للوزارة جرى العمل على تأسيس المجلس التشريعي، وكان أهم إنجازات عبد الله سراج في رئاسة الوزارة الأردنية استصدار قانون منع بيع وتأجير الأراضي للأجانب، فقد كان اليهود يطمحون إلى شراء أو استئجار الأراضي في الأردن لاستيطان العائلات اليهودية بها، امتدادًا لمخططاتهم الرامية إلى الاستيلاء على الأراضي العربية رغبة في أن يشملها وعد بلفور المشئوم.

فكان هذا القانون طعنة نافذة قضت على هذه المخططات.

‌عبد الله سراج يطرد مدير مشروع روتنبرج:

حدثنى الأستاذ حسين سراج قال:

أثناء رئاسة والدي الشيخ عبد الله سراج للوزارة الأرنية حضر اليهودي المسمى كوهين مدير مشروع روتنبرج، كنت أتولى الترجمة بينه وبين الوالد، وبينما كان كوهين هذا ينتظر الإِذن بالدخول على والدي أخبرني أنه جاء بعرض مُغْرٍ للوالد فيه ثروة طائلة.

يقول الأستاذ حسين سراج: حذَّرت كوهين هذا من غضب الوالد فقال لي إنك لا تزال صغيرًا .. فقلت له: إنك لا تزال قليل الأدب.

ص: 391

وأذن الوالد لمدير مشروع روتنبرج بمقابلته، وما أتم هذا اليهودي كلامه حتى كان الوالد قد ضغط على الجرس، فحضر الحاجب فأمره الوالد أن يضع الأصفاد في يد مدير مشروع روتنبرج، ويسير به مخفورًا إلى أن يصل به إلى جسر اللنبي فيطرده خارج الأردن.

‌إقالة عبد الله سراج:

استمر عبد الله سراج في رئاسة الوزارة سنتان وأربع شهور، ثم أُقيلت وزارته.

‌الملك عبد العزيز وعبد الله سراج:

يقول الأستاذ حسين سراج: استدعى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله عمي الشيخ محمد علي سراج وكان تولى القضاء في الطائف والظفير، كما كان عضوًا برئاسة القضاة، وكان قبل ذلك تولى الإِمامة والخطابة في المسجد الحرام في العهد العثماني

(394)

استدعاه جلالة الملك عبد العزيز وأمره أن يكتب للوالد بأن جلالته يرحب به إن كان راغبًا في العودة إلى الحجاز، وإنه سيلقي من جلالته الإِكرام والتقدير.

يقول الأستاذ حسين سراج: تلقى والدي هذه الدعوة الكريمة بالشكر والعرفان، وكتب إلى جلالة الملك عبد العزيز معبِّرًا عن تأثره البالغ بعطف جلالته وكرمه، ولكنه آثر البقاء في الأردن، فلم يتمكن من تلبية هذه الدعوة الكريمة.

(394)

انظر ترجمة الشيخ محمد على سراج في "سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة": ص 274.

ص: 392

‌مرض عبد الله سراج ووفاته:

أصيب الشيخ عبد الله سراج بالشلل، وبقي سبعة عشر عاما وهو يعاني من هذا الداء العضال، إلى أن توفاه الله تعالى في شهر رجب من عام 1368 هـ الموافق لعام 1948 م.

‌عاش فقيرًا ومات فقيرًا:

ورثاه الملك عبد الله بن الحسين في جريدة الأردن فقال عنه فيما قال:

عاش فقيرًا، ومات فقيرًا دأب من شايع بني هاشم، وأمر بدفنه في المقابر الملكية بعمان.

رحم الله الشيخ عبد الله سراج فلقد كانت حياته مثالًا للعصامية والكفاح، خرج من بلاده شابًّا وعاد إليها بعد أن صار رجلًا، وقد تزود من العلم في أسفاره واغترابه، وتبوأ أعلى المناصب في الحجاز والأردن، وتقلب به الزمان فكان ملتزما بأخلاقه ومبادئه، وعالق فقيرًا ومات فقيرًا كما وصفه الملك عبد الله بن الحسين، فلم تكن هذه المناصب العظيمة لتغير من أخلاقه أو تجلب له الثراء الحرام.

ص: 393

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 395

السيد علي عبد القادر حافظ

ص: 396

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 397

السيد عثمان عبد القادر حافظ

ص: 398

‌عَليّ وعُثمان أبناء عَبْد القَادِر حَافِظ

الشقيقان الأديبان، مؤسسا جريدة المدينة المنورة، ومؤسسا مدرسة الصحراء الخيرية بالمسيجيد، ارتبط اسماهما ارتباطا وثيقا فكانا يذكران معا، ويعملان معا،، واختلطت الروح بالروح فكان إخاؤهما فريدا، قلَّ أن يجود به الزمان، قال لي الأستاذ محمد علي حافظ، وهو ابن السيد علي حافظ:

كان مكتبهما في غرفة واحدة، كان مكتبا واحدا للأخوين، وكان بالغرفة خزنة حديدية يحفظان بها نقودهما، كلاهما يودع في هذه الخزنة ما يصل إليه، ويأخذ ما يحتاج إليه دون حساب مفرد، وإذا اشتريا أرضا أو عقارا كان الشراء باسمهما معا، وسكنا في بيت واحد حتى ضاق البيت بما أكرمهما الله به من الولد، فتحول أحدهما إلى سكن آخر، ولكنهما كانا معا دائما في كل مكان.

وكان صديقهما الشيخ محمود شويل - رحمه لله - يطلق عليهما: "الحافظان".

هذه المقدمة أكتبها بين يدي هذه الترجمة لأنها أول ترجمة أكتبها لشخصين معا، وقد لا أكررها ..

حينما توفي صديقنا السيد علي حافظ وأردت أن أترجم له في أعلام الحجاز كان تأسيس مدرسة الصحراء الخيرية بالمسيجيد من أبرز الأعمال التي جعلتني أسلكه في عداد الأعلام، ولم يكن بوسعي

ص: 399

أن أتحدث عن مدرسة الصحراء الخيرية وتأسيسها دون أن أذكر عثمان حافظ شقيق علي الذي شاركه كل خطوة خطاها في تأسيس مدرسة الصحراء منذ كانت حلما لمع في ذهن الشقيقين إلى أن أصبحت منارة علم يتخرج منها أبناء الصحراء، وكان إصدار جريدة المدينة المنورة بالمدينة وما صاحبه من الجهد الدءوب من أعمال الأخوين معا، وربما كان لعثمان حافظ نصيب أكبر من الجهد في تأسيس مطبعة المدينة المنورة وإدارتها، فكان لا بد أن يوفي حقه، ويذكر سعيه وجهده وإلا كانت الترجمة ناقصة مبتورة .. لهذا كله قررت أن أترجم للأخوين معا فأقول:

أما أولهما علي حافظ فقد صار إلى رحمة الله تعالى، وأما الثاني فهو مريض مدنف نسأل الله له الشفاء والعافية.

‌علي حافظ

ولد علي حافظ بالمدينة المنورة سنة 1327 هـ - 1907 م، وتعلم في مدارسها وانتظم في حلقات الدروس في المسجد النبوي الشريف يتلقى العلم على أيدي العلماء الأجلاء، مثل أبناء جيله، وكانت حلقات الدروس في المسجدين تمثل الدراسة العليا في علوم الدين واللغة والآداب في ذلك الزمان، وحصل على شهادة التدريس. عمل علي حافظ كاتبا بقسم المحاسبة في مديرية المالية بالمدينة المنورة، ثم كاتبا في المحكمة الشرعية، ثم رئيسا لكُتَّاب المحكمة الشرعية في المدينة المنورة .. ثم تولى مديرية فرع وزارة الزراعة بالمدينة المنورة، ثم اختير رئيسا لبلدية المدينة المنورة وظل بها حتى استقال في عام 1383 هـ رغبة في التفرغ

ص: 400

لأعماله الخاصة، والكتابة والتأليف

(395)

.

أما أهم أعمال علي حافظ فهو تأسيسه مع أخيه عثمان مدرسة الصحراء الخيرية بالمسيجيد، وإصدارهما قبل ذلك جريدة المدينة المنورة مما سنفصّل فيه الحديث بعد ..

‌مؤلفاته:

صدرت للسيد علي حافظ المؤلفات الآتية:

فصول من تاريخ المدينة المنورة، وقد طبع للمرة الثانية وترجم إلى اللغة الإِنجليزية كما أخبرني بذلك الأستاذ فاروق لقمان الكاتب والأديب المعروف.

حقوق الإنسان في الإِسلام، وقد ترجم إلى اللغة الإِنجليزية وقُدِّم إلى مؤتمر الصحافة العالمي في طوكيو.

نفحات من طيبة، وهي مجموعة شعرية.

أضواء من تاريخ المدينة، تحت الطبع، وهي مجموعة أحاديث قدمها للإِذاعة السعودية.

شارك بقلمه في كتابة المقالات والأبحاث في جريدة المدينة المنورة وفي غيرها من صحف المملكة العربية السعودية طيلة ما يقرب من خمسين عاما ويعمل أبناؤه على جمع هذه المقالات وتنسيقها وإخراجها

(395)

انظر ترجمة علي حافظ في غلاف ديوانه "نفحات من طيبة" وفي كتبه الأخرى.

ص: 401

مطبوعة في الوقت الحاضر

(396)

.

‌عثمان حافظ

وثانيهما عثمان حافظ، ولد بالمدينة المنورة عام 1328 هـ، وتلقى دراسته الأولى في الكُتّاب وفي المدارس الأولية، ثم تلقى العلم علي أيدي العلماء الأجلاء في حلقات الدرس في المسجد النبوي الشريف، ونال شهادة التدريس من أستاذه الشيخ عبد القادر توفيق الشلبي الذى لازمه عدة سنوات

(397)

.

عمل عثمان حافظ كاتبا في مديرية المعارف بالمدينة المنورة عام 1345 هـ، ثم عين عضوا وسكرتيرا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمدينة المنورة وفي عام 1350 هـ اشتغل بالتدريس، فعمل مدرسا بالمدرسة الابتدائية بالمدينة المنورة، وكانت أكبر مدرسة حكومية بالمدينة.

وفي عام 1362 هـ عين معتمدا للمعارف بالمدينة المنورة، ثم انتقلت خدماته إلى وزارة المالية فعين مفتشا للشمال وفي عام 1365 هـ عين مديرا لإِدارة الحج بالمدينة المنورة وبقي في هذا العمل

(396)

انظر ترجمة علي حافظ في غلاف ديوانه "نفحات من طيبة" وفي كتبه الأخرى.

(397)

انظر ترجمة عثمان حافظ في غلاف كتابه "صور وأفكار" وفي كتبه الأخرى.

ص: 402

عشرين عاما. وفي عام 1386 هـ تولى رئاسة تحرير جريدة المدينة المنورة ومكث في رئاسة تحريرها أحد عشر عاما.

‌مؤلفاته:

ألف السيد عثمان حافظ كتاب: "تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية" في جزءين كبيرين، خصص الجزء الأول للحديث عن الصحافة تحدث فيه عن أول صحيفة صدرت في العالم، وأول صحيفة صدرت في أوربا، وفي إنجلترا وفرنسا، ثم تحدث عن أول جريدة صدرت في البلاد العربية.

ثم تحدث عن الصحافة في الحجاز في العهد العثماني، ثم في العهد الهاشمي، ثم في العهد السعودي ويعتبر هذا الكتاب من أهم ما ألف عن الصحافة والصحف في الحجاز، فاعتبره المختصون مرجعا تاريخيا، واحتفلت جامعة الملك عبد العزيز بالكتاب والمؤلف فدعته إلى إلقاء المحاضرات على الطلبة، كما أوصوا الطلاب بقراءة الكتاب والاستفادة بما حواه من معلومات، وهو يستحق ذلك بكل تأكيد.

أما الجزء الثاني من كتاب "تطور الصحافة" فقد خصصه المؤلف لقصة جريدة المدينة المنورة منذ كانت حلما يلمع في ذهنه وذهن أخيه علي إلى أن أصبحت حقيقة ماثلة للعيان، وهو قصة الجهد الدءوب والعصامية التي تستهين بالصعاب، وهو من اجمل الكتب في عفويته الآسرة، وفي صراحته وبساطة أسلوبه. وسأعود للحديث عن هذا الجزء من الكتاب حين أتحدث عن جريدة المدينة المنورة بعد ..

وللسيد عثمان حافظ كتب أربع تضم ما كتبه من مقالات خلال

ص: 403

سنوات طويلة في جريدة المدينة المنورة وهذه الكتب هي على التوالي:

صور وذكريات عن المدينة المنورة، أصدره النادي الأدبي بالمدينة سنة 1403 هـ.

صور وأفكار، إصدار شركة تهامة في سنة 1404 هـ.

صور وذكريات، طبع دار العلم للطباعة والنشر سنة 1404 هـ.

صور وذكريات، طبع دار العلم للطباعة والنشر سنة 1405 هـ.

ونعود الآن لنتحدث عن الأخوين علي وعثمان حافظ في أبرز أعمالهما، وهما: تأسيس مدرسة الصحراء الخيرية بالمسيجيد، وتأسيس جريدة المدينة المنورة وإصدارها.

‌مدرسة الصحراء الخيرية بالمسيجيد:

سألت الأستاذ محمد علي حافظ: ما الذي جعل السيدان علي وعثمان حافظ يفكران في إنشاء مدرسة الصحراء الخيرية؟ قال: كانا في رحلة بين المدينة المنورة وجدة، توقفا في المسيجيد كما يتوقف المسافرون في ذلك الزمان للاستراحة والتزود بالوقود، فقد كان الطريق صحراويًّا لم يعبَّدْ، ووَعْرًا لم يُذَلَّل، وحينما كانا يستريحان في المسيجيد رأيا أبناء البدو يشحذون .. يشحذون من الحجاج والمسافرين .. وفي تلك اللحظة قررا أن يعملا على تحويل هؤلاء الغلمان إلى تلاميذ ومتعلمين.

هذه الإِجابة التي أجاب بها الأستاذ محمد علي حافظ على سؤالي ذكرتني بأول رحلة قمت بها إلى المدينة المنورة قبل أكثر من خمسين عاما .. وصلنا إلى رابغ وجلسنا نستريح بها ونتناول طعام الغداء، كان

ص: 404

الجو قائظا شديد الحرارة، وجلست في المقهى أنتظر الطعام الذي أوصينا عليه ورأيت أمامي منظرًا لا أنساه .. كان هناك صَفٌّ طويل من الأطفال والغلمان والنساء يجلسون على التراب تحت الشمس الحارة ويشكِّلون صَفًّا طويلا دون حراك، وسألت لماذا يجلس هؤلاء الغلمان في الشمس هناك؟

وقال صاحب المقهى: في تفريق

وأشار إلى رجل هندي يلبس ملابس هندية يجلس أمامي في المقهى ومعه بعض الحجاج الهنود .. وفهمت أن هذا الرجل أو هؤلاء المجموعة من الرجال الهنود سيفرِّقون بعض النقود على هؤلاء الغلمان، فأمروا أن ينظموا أنفسهم في صف طويل لينال كل منهم ما تيسر من قروش وهللات ..

وثارت نفسى للمنظر الأليم .. وشعرت بالذلة لا لهؤلاء الغلمان ولكن لنا جميعا لأننا رضينا بهذا الواقع المزري، ولم نفعل شيئا لتغييره.

ألم يكن في وسع هذا المُحسن أن يجمع هؤلاء الغلمان في مكان ظليل بدلا من صهرهم تحت الشمس الحارة وفوق هذا التراب الحار؟ وقلت لنفسى: إن من حق هؤلاء الغلمان أن يذهبوا للمدرسة، وأن يجتمعوا بها بدلا من اجتماعهم لالتماس الصدقات .. واكتفيت بالألم وغادرت رابغ ولم أفعل شيئا.

ولكن الأخوين عليا وعثمان عملا شيئا، وشيئا رائعا يذكر لهما بالفخر والثناء.

‌المقهى يتحول إلى مدرسة:

بدأت المدرسة بغرفة في مقهى المسيجيد، وبثلاثة عشر طالبًا

ص: 405

من أبناء البادية، وتقع المسيجيد في قلب الصحراء وتبعد عن المدينة ثلاثة وثمانين كيلومترا، واستطاع المؤسِّسَانِ أن يجتذبوا للمدرسة أستاذًا من أكفأ أساتذة المدينة المنورة هو الشيخ سالم داغستاني الذي ضحى بمركزه المرموق في المدينة المنورة ليعمل في مدرسة في الصحراء تبدأ بغرفة في مقهى وبثلاثة عشر طالبًا، كما ضحت أسرته معه بالانتقال من بيوت المدينة المنورة وما تحفل به من حياة مطمئنة متحضِّرة إلى بيت في البادية بين أحضان الجبال في وسط الصحراء.

وأصرَّ المؤسِّسَانِ أن تبدأ المدرسة بداية طيبة فقرروا أن تكون مدرسة ابتدائية تتبع نهج مدارس وزارة المعارف السعودية .. كانت العقبات عظيمة والمصاعب كبيرة .. كان السفر من المدينة إلى المسيجيد ومنها إلى المدينة فيه من المصاعب ما تنوء به الأجساد .. كان الطريق وعرًا، كثير الرمال والحُفَر، وكان في مواضع أخرى مليئًا بالحصى والأحجار، ولم تكن طرق المواصلات قد عرفت التعبيد بعد، وكان السفر على سيارات اللوري المكشوفة، فلم يكن علي ولا عثمان من أصحاب السيارات، ولا من أصحاب الثراء، كانا موظفين من أوساط الناس، وكانا يقومان برحلات متتابعة للمدرسة قبل التأسيس وبعده بهذه السيارات المكشوفة الصناديق، وكان يشاركهما مدير المدرسة الأستاذ سالم داغستاني متاعب الرحلات إلى أن استقرَّ به المقام فسكن بجوار المدرسة في المسيجيد، وقامت المدرسة على التبرعات القليلة من المؤسسين ومن أصدقائهما.

‌الدولة تمنح المدرسة مبنى:

وفي عام واحد ازداد عدد الطلاب فوصل إلى ثلاثة وأربعين طالبًا،

ص: 406

وكان للحكومة في المسيجيد استراحة لكبار الزوار، فأمر وزير المالية الأسبق الشيخ عبد الله السليمان الحمدان بتخصيص هذا المبنى للمدرسة فانتقلت إليه.

‌صبي المقهى:

ويقصُّ الأستاذ علي حافظ ذكرياته عن الأيام الأولى بمدرسة الصحراء فيقول:

كنت وأخي السيد عثمان حافظ في قهوة حمدان بالمسيجيد أثناء تفقدنا لمدرسة الصحراء، وأقبل علينا طفل في الثامنة أو التاسعة يقدم لنا صينية الشاي، ولمحنا في حديثه الذكاء والفطنة، فسألته: هل دخلت المدرسة؟

قال: لا.

قلت: لِمَ لا تدخل المدرسة؟

قال: إذا دخلت المدرسة (مين يُأَكِّلْ أمي) كان حمدان يعمل بالمقهى لينفق على والدته وعلى نفسه.

قال السيد علي: فقلنا له: كم يعطيك حمدان كل يوم؟

قال: نصف ريال.

قلت له: إذا أعطيناك نصف ريال تدخل المدرسة؟

قال: أشاور أمي.

وجاء الصبي في اليوم التالي ومعه أمه، ووجهت سؤالها إلى السيدين علي وعثمان حافظ:(ليش تبغوا تأخذوا الولد؟)

قالا لها: لا نريد أن نأخذه، نريد أن ندخله المدرسة في الصباح

ص: 407

يتعلم القرآن والكتابة ونعطيه كل يوم نصف ريال ويعود إليك بعد الظهر.

قالت الأم: خذوه ما يخالف.

يقول السيد علي حافظ: واتفقنا مع حمدان صاحب المقهى أن يدخل الصبي المدرسة صباحا ونعطيه ربع ريال، ويعمل في المقهى بعد الظهر ويعطيه ربع ريال فوافق ودخل الصبي المدرسة.

‌مخصص يومي للطلاب:

ويواصل السيد علي حافظ حديثه فيقول: ومن تلك اللحظة قررنا أن نعطي لكل طالب يعول والدته أو أحد أقربائه ربع ريال يوميًّا، وكل طالب يعول أهله ثلاثة قروش.

ويقول السيد علي: وبعد دخول هذا الطالب للمدرسة وإعلاننا أننا سندفع ربع ريال اللطالب الذي يعول أهله، وثلاثة قروش للطالب الذي يعول أحد أقربائه، بدأ الطلبة يدخلون المدرسة، وأصبح عددهم يتزايد يوما بعد يوم، وضاق صندوق المدرسة عن دفع مخصصات الطلاب، ولم نستطع أن نتراجع عن قرارنا، وبلغ ما كنا نصرفه على الطلبة فقط من 450 - 500 ريال شهريًّا، والزيادة مستمرة كل شهر، ولم يكن للمدرسة وارد يتحمل هذه النفقات، وأصبح ما يصرف لمخصصات الطلبة يماثل ما يصرف على هيئة التدريس. يقول الأستاذ علي: ومن أين؟ التبرعات كانت بالريالات، وبعشرات الريالات إذا كثرت.

‌جلالة الملك عبد العزيز يعين المدرسة:

لجأ المؤسسان إلى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله فكتبا

ص: 408

إليه عن المدرسة وما صار إليه أمرها وقالا: إن انتساب الطلاب للمدرسة يتوقف على مساعدتهم في معيشتهم وطلبا منه تخصيص نصف ريال لكل طالب. وكانت استجابة الملك عبد العزيز لطلب المؤسسين سريعة فأصدر أمره على وزارة المالية بصرف نصف ريال لكل طالب من طلاب مدرسة الصحراء بالمسيجيد يوميًّا.

يقول السيد علي حافظ: وهي أول مدرسة في المملكة يتقاضى طلابها معونات من الحكومة، وأول مدرسة تؤسس لتعليم أبناء البادية في الصحراء، ولم يسبق أن فتحت مدرسة في البادية على هذا المستوى

(398)

.

‌مدرسة للبادية في ينبع:

هذا ما ذكره الأستاذ علي حافظ .. ونذكر للتاريخ ما يلي:

ذكر الأستاذ حمد الجاسر في كتابه "بلاد ينبع": أنه كان في ينبع سنة 1354 هـ مدرسة مخصصة لأبناء البادية تقوم الحكومة بالإنفاق على طلبتها وإيوائهم وتعليمهم، وقد خُصِّص لهم مكان يسكنون ويتعلمون فيه، وكان طلاب هذه المدرسة يؤتى بهم من أبناء البادية كثيرا ما كانوا يهربون من المدرسة لعدم إِلْف أبناء البادية للاستقرار في المدن، ولكن الأمير حمود بن إبراهيم كان يولي هذه المدرسة الكثير من عنايته، وكان يستعمل الصرامة في قسر بعضهم على البقاء في هذه المدرسة وإرجاعه إليها إذا هرب منها.

(398)

"فصول من تاريخ المدينة" للسيد علي حافظ: ص 247 - 254.

ص: 409

ويقول الأستاذ حمد الجاسر: ولقد أفادت هذه القسوة فكان من هذه المدرسة النواة الطيبة التي رغَّبَتْ أبناء البادية هناك في التعليم، وأوجدت منهم شبابا تقدم إلى التعلم في عهد مبكر وأصبح الآن يتولى أعمالا حكومية نافعة، منهم عيد بن سليمان، تولى إدارة مدرسة ينبع، وأخوه عودة بن سليمان، أول من تولى إدارة مدرسة المجمعة في نجد، وعائش بن حسين، أصبح مفتشا في وزارة المالية، وغيرهم من شباب جهينة النجباء.

ويواصل الأستاذ حمد الجاسر حديثه عن هذه المدرسة فيقول:

ومما يؤسف له أن المدرسة بعد نقل الأمير حمود من إمارة ينبع بدأ أمرها يضعف حتى زالت، هكذا كل عمل نافع يفقد مَنْ لَه أثَرٌ في إيجاده، لا يلبث أن يتلاشى مهما كان نافعًا

(399)

.

ولقد أخبرت الأستاذ علي حافظ رحمه الله عن هذه المدرسة، وكان لم يطلع على كتاب "بلاد ينبع" للشيخ حمد الجاسر فقدمته إليه، وفي رأيي أن وجود مدرسة في البادية قبل مدرسة الصحراء لا ينقص من قيمة العمل العظيم الذي قام به مؤسساها، وقد أراد الله لمدرستهما الدوام فاستمرت وتوسعت حتى تم تسليمها لوزارة المعارف بعد حوالي ستة عشر عامًا من تأسيسها كما سيأتي تفصيله فيما بعد ..

‌مدرسة الصحراء تكبر:

أصبحت مدرسة الصحراء منارة علم في قلب الصحراء يقول الأستاذ على حافظ:

(399)

بلاد ينبع: ص 129 - 131.

ص: 410

وأقبل البدو يُلحقون أبناءهم، ووصلت سمعتها إلى القرى المجاورة، فأقبل عليها الطلاب من رءوس الجبال وبطون الأودية، ومن بين الآكام والتلال، وجاءوا إليها من أماكن بعيدة من الفريش وبئر الروحاء، ومن رحقان ومن جبل الأحامدة، ومن الخيوف بوادي الصفراء، وصار الطلاب يؤلفون رفاقًا وجماعات، يقضون الأسبوع في الدراسة ويشتركون في تأمين حاجياتهم من دكاكين القرية، ويعودون في نهاية الأسبوع إلى أهليهم.

أما أهل المسيجيد فإنهم يرتادون المدرسة نهارًا، ويأوون إلى أهليهم بعد الدراسة كثيرا ما كنا نراهم في مسجد المسيجيد ليلًا وهم كخلية النحل تجمعًا ودَويًّا، يذاكرون دروسهم على مصابيح الغاز البدائية التي يتصاعد دخانها المُسْوَدّ.

وكبرت المدرسة، وزادت فصولها، وضاق عنها المبنى الذي منحه وزير المالية الأسبق الشيخ عبد الله السليمان لها فأضاف إليها المؤسسان دورًا ثانيًا، وقد اجتذبت المدرسة اهتمام الناس في الداخل والخارج وتبرعوا لها وبلغ الإقبال عليها إلى الحد الذي جعل مدير المدرسة يعتذر عن قبوال الطلاب الجدد لضيق المكان. يقول الأستاذ علي حافظ:

ومع الزمن تكاثر عدد الطلاب في المدرسة حتى ضاقت بطلابها، وبعد أن كانت المدرسة تجري وراء الطلاب تدعوهم إليها، أصبحت ترفض قبول الطلبات للالتحاق بها كثيرًا ما كنا نتلقى بالمدينة خطابات من أولياء الطلبة يطلبون منا التوسط لدى الأستاذ سالم داغستاني مدير المدرسة لدخول أبنائهم، وكنا نعمل المستحيل ونهيئ

ص: 411

الفرص لكل طالب يرغب في الالتحاق بالمدرسة، وكلما زاد فصل من الفصول عن العدد القانوني للفصل قُسِّم إلى فصلين أو ثلاثة أو أربعة فيكون فصل: أ، ب، ج وهكذا ..

‌إلحاق الطلبة بالكليات العسكرية والسكة الحديد:

كان الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية الأسبق ممن أولوا مدرسة الصحراء اهتمامهم، وكان يوالي المدرسة بالتشجيع المادي والأدبي، ولم يكن يمر بالمسيجيد إلا ويتوقف فيها لزيارة المدرسة وتتبع خطواتها، وقد ذكرنا قبل أنه منح المدرسة المبنى الذي كان لوزارة المالية في المسيجيد، وكان رحمه الله يرى في أبناء المدرسة البذرة الطيبة للطلائع العربية الأصيلة، إذا أُحسن غرسها وتنميتها، وحينما تم تخرج الدفعة الأولى من الطلبة أمر رحمه الله بابتعاث خمسة عشر طالبًا للمدرسة العسكرية. يقول الأستاذ علي حافظ: التحق بعضهم بالكلية الحربية والبعض الآخر بموسيقى الجيش، ثم طلب رحمه الله سبعة عشر - طالبًا ابتعثهم إلى المنطقة الشرقية للعمل بمحطة السكة الحديدية، ونجحت البعثة التي أُرسلت إلى المنطقة الشرقية فطلبوا مجموعة أخرى فبعثت المدرسة إليهم ستة عشر طالبًا، ورأت إدارة السكة الحديد بالمنطقة الشرقية نجابة الطلاب فاختارت عددًا منهم ابتعثتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتدريب على مختلف أعمال السكة الحديدية، وإدارة المحطات، وقيادة القطارات، والأعمال الحسابية، وعاد أفراد البعثة من أمريكا فتسلموا مراكز كبيرة في محطة السكة الحديدية.

‌جني الثمار:

كان الأستاذ عثمان حافظ ضمن الوفد الصحفي الذي رافق معالي

ص: 412

الشيخ عبد الله السليمان للاحتفال بوصول أول قطار من قطارات السكة الحديدية من الظهران إلى الرياض في شهر محرم عام 1371 هـ. يقول الأستاذ عثمان حافظ: - كنت أجلس في هذا الحفل بجوار ممثل وزارة المالية بالمنطقة الشرقية الشيخ عبد الله بن عدوان - أحد وزراء المالية فيما بعد - وكنا جميعًا ننتظر وصول القاطرة الأولى من الظهران وقال لي الشيخ عبد الله مبشِّرًا: إن مدير محطة الرياض من مدرستكم، ومدير محطة الدمام من مدرستكم، ومدير محطة حرض من مدرستكم، وعددًا من مديري محطات السكة الحديدية من مدرستكم .. مدرسة الصحراء إلخ ..

وبعد .. فهذه الثمار يانعة جنية، تحوَّل الأطفال الذين كانوا يشحذون إلى رجال عاملين مسئولين وتحول صبي القهوة الذي ذكرنا قصته قبل إلى رجل مسئول. يقول عنه الأستاذ عثمان حافظ: ونبغ هذا الطالب كما كنا نتوقع له، وكان ممن اخترناه لبعثة السكة الحديد بالمنطقة الشرقية، وممن ابتعثته الشركة إلى أمريكا للتدريب على أعمال السكك الحديدية وعاد بعد سنوات شابًّا مثقفًا يمتلئ حيوية ونشاطًا، وقد رأيناه مرافقًا للشيخ عبد الله السليمان في رحلة للمدينة المنورة، وكان يقوم بالترجمة بينه وبين بعض الأجانب.

وقدمه لنا الوزير على أنه من طلاب مدرسة الصحراء وأثنى على أخلاقه وأخلاق زملائه. يقول الأستاذ عثمان: وعَرَفنا وذكَّرنا بما كان منا ومنه ومن والدته في قهوة حمدان، وكان اسمه فهد الحربي.

إن أعظم مكافأة يتلقاها الإنسان في حياته أن يرى أحلام حياته

ص: 413

وقد تحققت وأن البذرة التي بذرها وسقاها ورعاها قد أثمرت فتحولت إلى شجرة حافلة بالعطاء، ولقد أكرم الله الأخوين علي وعثمان حافظ فأبصرا البذرة التي بذراها في رمال الصحراء تتحول إلى شجرة كبيرة يانعة، وأبصرا الأطفال الذين كانوا يتجمعون للتَّسَوُّل، وقد أصبحوا رجالًا عاملين مسئولين، هذه هي المكافأة الدنيوية وفيها من رضا النفس وطمأنينة القلب، ما يملأ النفوس سعادة ونشوة، أما المكافأة الأخروية فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفَّل بها للعاملين المخلصين {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

‌مدرسة الصحراء تُسلم إلى وزارة المعارف:

استمر علي وعثمان حافظ يرعيان مدرسة الصحراء منذ أن كانت غرفة في مقهى المسيجيد إلى أن أصبحت صرحًا شامخًا في الصحراء ومنارة علم وضَّاءة، والمدرسة كما يعلم القارئ كالمزرعة تبدأ فصلًا واحدًا ثم تنمو فتكبر. فالتعليم الابتدائي يعقبه التعليم المتوسط ثم الثانوي ثم الأكاديمى، وقد استمر المؤسسان ستة عشر عامًا يرعيان مدرسة الصحراء ويشرفان على الشئون الكبيرة والصغيرة فيها حتى استوت قائمة على أصولها فسلماها إلى وزارة المعارف لتكون حلقة في سلسلة كبيرة من الحلقات من مدارس الصحراء، تشمل قرى وصحاري المملكة العربية السعودية الواسعة الأرجاء.

ونختم الحديث عن مدرسة الصحراء بالبيانات التالية:

تأسست مدرسة الصحراء في شوال 1365 هـ، وسُلِّمت إلى وزارة المعارف في أول ربيع الثاني 1381 هـ.

ص: 414

نال الشهادة الابتدائية منها منذ تأسيسها وحتى تسليمها للوزارة مائتان وثلاثون طالبا وانتسبوا جميعًا للمدارس الثانوية والمعاهد العلمية .. ونال الشهادة المتوسطة خلال هذه الفترة عشرة طلاب .. ونال شهادة التوجيهية خلال هذه الفترة خمسة طلاب .. ونال شهادة المعاهد العلمية خلال هذه الفترة مائتا طالب.

عمل في وظائف الدولة نحو ثلاثمائة طالب من متخرجي مدرسة الصحراء في كثير من وظائف الدولة في المواصلات والمطارات، والمحاكم الشرعية وكتابة العدل ودوائر بيت المال.

وبعد فهنيئًا للأخوين علي وعثمان حافظ بهذا العمل الطيب الذي وفقهما الله إليه وبارك لهما فيه، وجزاهما عنه خير الجزاء

(400)

.

‌جريدة المدينة المنورة وتأسيسها:

كان إصدار جريدة بالمدينة المنورة حلمًا يراود أذهان المثقفين وذوى الرأي في مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وتركَّز هذا الحلم في ذهن الشاب عثمان حافظ الذي كان يعمل بالطباعة.

كانت هناك مطبعة يدوية صغيرة تطبع أسماء من يرغبون طبع أسماءهم على أوراق الخاطبات وغلافاتها، كما تطبع بطاقات الدعوة للأفراح

(400)

حميع المعلومات الورادة في هذه الترجمة عن مدرسة الصحراء الخيرية أوردها الأستاذ علي حافظ في كتابه "فصول من تاريخ المدينة المنورة": ص 247 - 254، وكتاب "صور وذكريات" للأستاذ عثمان حافظ: ص 185 - 190.

ص: 415

وما إليها، وكان عثمان حافظ أحد شخصين يملكان هذه المطبعة الصغيرة، والتي تحتل مكانًا لا يتجاوز ثلاثة أمتار في مثلها، وصدرت صحيفة صوت الحجاز بمكة، واشتد شوق المدينة وأهلها إلى إصدار صحيفة مماثلة تحمل اسم المدينة المنورة، وعقدت الاجتماعات والندوات لتحقيق هذا الحلم وإخراجه من حيِّز الخيال إلى عالم الحقيقة والواقع، وكان قطب الدائرة في هذه الاجتماعات والقاسم المشترك الأعظم فيها هو عثمان حافظ صاحب مطبعة باب الرحمة، وكان توفير المال اللازم لشراء المطبعة ومستلزماتها هو الصخرة التي تحطَّمت عليها الأحلام، وقَرَّر عثمان حافظ أن يقوم بإنجاز المشروع بالتعاون مع أخيه على حافظ، واستبعد الأخوان إشراك أي أحد معهما في هذا المشروع، فقد حذَّرهما والدهما من أحرف كلمة (الشوك) وقال لهما احذرا الشراكة والكفالة والوكالة.

كان السيد على حافظ يملك بقالة حديثة في المدينة المنورة فباعها وضم إلى قيمتها ما كان يملكه من مال وسلمه إلى أخيه عثمان حافظ الذي جمع كل ما لديه من نقود كذلك، وعلم صديق الشابين الشيخ محمود شويل بما عزم عليه الأخوان فقدم إلى عثمان حافظ صرة من النقود تضم خمسا وخمسين جنيهًا ذهبًا وقال له استعن بها في المشروع وأصرَّ عليه أن يأخذها ولم يتسلم إيصالًا بها، وقد دفع عثمان بعد ذلك للشيخ محمود شويل هذا المبلغ مُقسَّطًا، كلما احتاج إلى جنيه أو جنيهين دفعها له حتى تم تسديد هذا القرض الحسن.

سافر عثمان إلى مصر مزودًا بالتوصيات إلى الجهات التي يؤمل في مساعدتها له، واستقبله صديقه الطالب فهمى الحشاني الذي كان يدرس طب الأسنان في مصر، وكانت حصيلة النقود التي تجمعت لدى

ص: 416

عثمان حافظ قد وضعت في حزام من الجلد يحتزم به نهارًا، ويضعه ليلًا تحت وسادته.

وقد أصبح هذا الحزام حملًا ثقيلًا بعد أن نزع عثمان ملابسه العربية الفضفاضة وارتدى بدلة أفرنجية فلم يكن لهذا الحزام مكان في وسطه، وترك عثمان الحزام بما فيه من النقود في الغرفة التي ينزل بها مع صديقه الحشاني وغادر المنزل، وحينما عاد عثمان بحث عن الحزام فلم يقع له على أثر، ومادت الأرض أمامه ولكن لطف الله تعالى أدركه سريعًا.

كانت المرأة صاحبة البنسيون الذي ينزل الشابان فيه أمينة، وقد أبصرت الحزام وهي تقوم بتنظيف الغرفة فاحتفظت به خشية أن يتعرض للضياع، وحينما سمعت أصواتهما وهما يناقشان الأمر أحضرت الحزام ولم يُمسّ بسوء، وأسرع عثمان حافظ بحزام النقود إلى قنصل المملكة العربية السعودية بمصر الشيخ فوزان السابق فسلَّمه الحزام أمانة في خزنة الشيخ يعود إليها كلما احتاج إلى شئ من مال.

وبدأ البحث عن المطبعة العتيدة، وزار عثمان حافظ مطابع شركة مصر وكان يحمل خطاب توصية من المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان إلى طلعت باشا زعيم مصر الاقتصادي ومؤسس بنك مصر وشركاته، ولكن المطبعة التي أشار بها عليه مدير مطابع شبكة مصر كانت قيمتها أكبر كثيرًا مما يحمل من مال.

وفي مصر وجد الشاب عثمان حافظ الأستاذ سيد إبراهيم الخطاط المصري والأديب المعروف وتوشَّجت الصلات بين الرجلين فذهبا إلى أمين عبد الرحمن صاحب مجلة الإسلام ومطبعتها، والرجل صاحب خبرة

ص: 417

في المطابع وشئونها .. وقضى عثمان حافظ شهرًا بصحبة أمين عبد الرحمن يزوران المطابع وباعتها ووكلاءها، وأسفرت النتيجة عن أن شراء مطبعة جديدة يكلِّف الرجل عبئًا ماليًا لا يقدر عليه، وبدأ يفكر في شراء مطبعة مستعملة.

ولكن إرادة الله أبت إلا أن تكون المطبعة جديدة .. رنَّ جرس الهاتف في مكتب أمين عبد الرحمن وسأله تاجر المطابع المسيحي، إن كان صديقه العربي قد اشترى مطبعة؟ وأردف لقد وصلت إلينا مجموعة من المطابع في الجمرك، وأنا في حاجة إلى النقود لإخراجها، فإن كان صاحبك يدفع القيمة نقدًا نخفِّض له في القيمة، وذهب الرجلان واشتريا المطبعة وكل ما يلزمها، واستعان عثمان حافظ بأخيه فأعانه بما يلزم من مال .. وإلى هنا فإن الأمر رغم ما اكتنفه من صعاب كثيرة فهو في حدود المعقول، ولكن الغير معقول هو ما فعله عثمان حافظ بعد شراء المطبعة. كان الأسطى محمد المصري مهندس المطابع بمحلات لوسكفتش يرغب في السفر إلى المدينة ليزور ويعتمر، وكان المعقول والطبيعي أن يسهل له عثمان حافظ هذه المهمة لتركيب المطبعة حين وصولها إلى المدينة المنورة، ولكن قلة ذات اليد كما يقول الأستاذ عثمان حالت بينه وبين تحقيق هذا المطلب المعقول.

وقرر عثمان حافظ أن يتعلم كيفية تركيب المطبعة وإدارتها، وهو لا يفقه شيئًا في الهندسة ولا في المكانيكا، واتخذ نوتة وضع فيها رقما لكل قطعة في المطبعة، ووصف كيفية تركيبها، وأخذ يدرس هذه الأمور نهارًا في المطبعة وليلًا في النوتة، وكأنه تلميذ يقبل على امتحان ..

ص: 418

واتَّسَخَتْ ملابس الأفندي عثمان بالزيت وهو يلازم عمال المطبعة فأحضر له أمين عبد الرحمن بدلة خضراء مثل بقية العمال، وارتدى البدلة الخضراء ودخل مطابع أمين عبد الرحمن يعمل بيديه، ويتعلم كيفية إدارة الماكينة ورصّ الصفحات، والتحبير والتلوين وما إلى ذلك .. وظن كان أنه بالأيام التي أنفقها في مطبعة أمين عبد الرحمن، وبالنوتة العتيدة قد أمسك بزمام المطبعة فأسلست قيادها له تركيبًا وإدارة وإنتاجًا. وعُبِّئت المطبعة في صناديق وطرود بلغت ثمانية عشر بين كبير وصغير، وأنفق كل ما بقى معه من نقود في شحن المطبعة إلى ينبع وسافر هو إلى جدة .. وكان قد تحصَّل على أمر من الشيخ حمد السليمان وكيل وزارة المالية الأسبق إلى الشيخ محمد سرور الصبان مدير المالية ليدبِّر له سيارة لوري تحمل المطبعة من ينبع إلى المدينة على أن يدفع هو قيمة البنزين.

وحضر إلى مكة واستدان قيمة البنزين وملأ السيارة بالبراميل واتجه بها إلى ينبع. كان الزمان صيفًا وكانت الصحراء تلتهب بالحرارة، ولم يكن الطريق معبَّدًا، وعانى عثمان في رحلته هذه كثيرًا فلما أقبل على ينبع وجد عثمان جماعة من الغلمان يستقبلون السيارة ويقولون سيارة المطبعة .. وعلم أن المطبعة قد وصلت وأن خبر وصولها. قد عَمَّ ينبع وأهلها فسأل الصبية: هل وصلت المطبعة؟

قالوا: نعم ولكنها سقطت في البحر؟

وكاد السيد عثمان يسقط إعياءًا ولكنه تماسك وأسرع إلى ميناء ينبع .. كان الصندوق الكبير الذي يحمل الطمبور والأدوات الهامة للمطبعة ثقيلا لم يتحمله السنبوك الذي نقل عليه من الباخرة إلى الساحل، وحينما وصل هذا السنبوك كان هذا الصندوق من الثقل بحيث ناء به السنبوك فسقط في البحر.

ص: 419

ووصل عثمان إلى الميناء فوجد ينبع كلها تشترك في إخراج صندوق المطبعة الذي كان قد هوى إلى البحر، ووجد على رأس الناس أمير ينبع الذي استعان به السيد محمد عمر سُبِيِهْ ووكل إليه استلام المطبعة من الباخرة، واندفع الناس بحماس شخصي، وبدافع من المروءة والنجدة لإخراج الصندوق العتيد من البحر، واشتركت ينبع كلها تحت إشراف أميرها في إخراج الصندوق الغريق حتى تم إنقاذه، وكان أهل ينبع من الكرم بحيث رفض الحُمَّال ورجال البحر الذين اشتركوا في إخراج الصندوق قبول أي أجر على العمل الذي أدُّوه بحماس وإخلاص منقطعي النظير.

وتم تحميل المبطعة وبعض صناديقها في اللوري لتصل إلى مأمنها في المدينة المنورة، كان الطريق ما بين ينبع والمدينة شاقًّا كثير الرمال في بعض المواضع بحيث تغوص فيه عجلات السيارة فيضطر أصحابها إلى انتشالها، كثير الحصى والحفر في مواضع أخرى، وقبيل وصول السيارة إلى وادي الصفراء رأى السيد عثمان حافظ عددًا من أبناء البادية في تلك الرمضاء وأصرَّ على سائق السيارة أن يتوقف ليركبهم معه في السيارة المحملة بالمطبعة وبعض صناديقها، ورفض السائق الوقوف فالحمل ثقيل والطريق وعر، ولكن العاطفة تغلبت وتوقفت السيارة لتضيف إلى حملها الثقيل حملًا آخر من البشر، وحدث ما توقعه السائق .. غاصت السيارة في الرمال مرة بعد مرة، وكان الجميع يشتركون في عملية انتشالها وأخيرًا ناءت السيارة بحملها من الحديد والبشر فانكسرت الكرونة والبنيون.

وترك الركاب السيارة وساروا في تلك الرمضاء على أقدامهم ثماني ساعات يستظلون فيها بأول شجرة حتى ولو كانت شجرة شوك إلى أن وصلوا إلى وادي الصفراء وانطرحوا تحت ظل شجرة من الأشجار

ص: 420

يلتمسون شيئًا من الماء يبلون به ظمأً كادت منه أن تزهق الأرواح .. وأقبل شيخ الوادى ابن نصار فغمرهم بكرمه وأنزلهم في داره وهيأ لهم الطعام والماء والفاكهة والفراش، وبعد أن أقام لهم وليمة العشاء أحضر لهم الدواب - الحُمُر - لتنقلهم إلى المسيجيد، التي وصلوا إليها بعد شروق شمس اليوم التالي.

وأخيرًا آن للسيارة - سيارة المطبعة أن تصلّح - وآن للسيد عثمان حافظ أن يعود إلى المدينة بعد غيبة شهور ثلاث، وآن له أن يستقبل المطبعة وقد وصلت إلى مأمنها في طيبة الطيبة بعد جهود وجهود

(401)

.

ونصل الآن إلى نقطة الصفر، إلى الوقت الذى وجب فيه أن يتحول هذا الكم الهائل من الحديد إلى آلة تطبع الكتب، ليقرأها الناس.

لم يكن السيد عثمان حافظ مهندسًا ولا ميكانيكيًا، ولم تكن موارده وموارد أخيه علي المالية لتسمح لهما باستقدام مهندس لتركيب المطبعة في المدينة وتشغيلها فماذا يفعل؟

اتفق مع المهندس المصري الذي يعمل لدى البائع أن يقوم بتفكيك أجزاء المطبعة وتركيبها بحضوره، ثم يقوم السيد عثمان حافظ وحده تحت إشراف المهندس المصري بالتركيب مرة أخرى، واستغرقت العملية أربعة أيام، استعان فيها السيد عثمان حافظ بنوتة سجل فيها

(401)

انظر تفصيل هذه الأحداث في "تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية"(ج 2): ص 13 - 90.

ص: 421

وصف كل قطعة ووضع لها رقمًا، وظن أنه بهذا قد وصل إلى ما يريد .. كان في المدينة مهندس يشرف على كهرباء الحرم اسمه شريف أفندي، واستعان به عثمان في تركيب المطبعة بعد وصولها إلى المدينة وقبل الرجل بعد تهيب وتردد وشاركه السيد عثمان بالنوتة العتيدة، وتعثرت عملية التركيب ولكنها تمت بعد جهد شديد .. وحينما وصل الأمر للتطبيق ظهرت المصاعب التي لم تكن في البال.

رَصَّ السيد عثمان حافظ قوالب الصفحات التي يريد طباعتها كعمل تجريبي للمطبعة ووضع الورق، ودارت المطبعة وكان المفروض أن يتحرك الورق تلقائيًّا كلما طبع صفحة منه لتطبع الصفحة الثانية والثالثة، ولكن الورق التصق بالطنبور وحينما سُحِبَ باليد تمزَّق، وقضى عثمان حافظ وشريف أفندي قضيا أيامًا ثلاثة يحاولون فيها حَلَّ اللغز دون جدوى.

وسافر عثمان حافظ إلى مكة ليرى كيف تدور المطابع ويدور معها الورق ويتحرك، سافر إلى مكة في سيارة صغيرة مخروقة الإطار ووصلت إلى جدة بعون من الله، وسافر من جدة إلى مكة بسيارة البريد، وفي الصباح كان أمام مطبعة أم القرى وهي تدور ورأى الورق يتحرك، كان هناك خيط من الدوبارة الرفيعة يأخذ الصفحة المطبوعة لتحلَّ محلها صفحة لم تطبع وهكذا .. وانكشف السر الذي لم يكن قد سجله في النوتة .. وعاد إلى المدينة بسيارة البريد، ووضع خيط الدوبارة وتحرك الورق بسلام

(402)

.

(402)

تطور الصحافة (ج 2): ص 90 - 102.

ص: 422

هل انتهت التحديات؟ ليس بعد!

كان الأستاذ عبد القدوس الأنصاري - يرحمه الله - قد تحصَّل على رخصة بإصدار مجلة المنهل في المدينة المنورة وصاحَبَ صدور هذه الرخصة وصول المطبعة إلى المدينة فاتفق مع الأخوين حافظ مُمَثَّلَيْن في شخص أحدهما عثمان على طبع مجلة المنهل بهذه الطبعة الحديثة .. كان السيد عثمان حتى هذا الوقت هو مدير المطبعة، وهو عامل الطبع والتحبير والقص والتغليف، كان هو كل شئ في المطبعة، ولا شئ سواه

بدأ عثمان بطبع العدد الأول من مجلة المنهل، وأنقل هنا ما كتبه عن هذه التجربة:

بدأت العمل بأن جمعت ثمان صحائف من مواد مجلة المنهل ووضَّبْتُها على الطوق على ما هو بالمفكرة - النوتة - فكانت الصفحة الأولى توضع فتها الصفحة الثامنة، وعن يمينها الصفحة السادسة عشرة، ومن تحتها الصفحة التاسعة.

يقول السيد عثمان: (وهذا شئ يمخول العقل، عقل المغامر الذي يعمل جزافا).

وخرجت بروفة الملزمة الأولى للتصحيح فظهرت أغلاط كثيرة في التوضيب، كان يجب أن يكون رأس الصفحة الأولى في أعلى الطوق، والصفحة الثامنة التي تحتها يكون رأسها معكوسًا إلى أسفل، ولم يُرَاع هذا الترتيب أثناء التوضيب، وهكذا كانت معظم الصفحات مقلوبة ومشقلبة، وأصبحت أنْقُضُ بالليل ما صنعته في النهار، وبعد جهد وتعب وسهر وضياع وقت تَرتَّبت الصفحات، وبدأنا في الطبع، كنت

ص: 423

لا أشتكي من هذه المتاعب أو السهر، بل أقدم عليها بنشاط وشوق، كنت أتظاهر بالشغل أمام الزوار، وأنا غارق في شبر من الماء، واستطاع عثمان حافظ أن يضبط ترتيب الصفحات، ولكنه وقع في مشكلة الحبر فله موازين دقيقة، لم يسجلها في النوتة.

ودار الطبع فنزل الحبر بكميات زائدة جدًّا حتى طمس معظم الحروف، وصار الورق يلتصق بعضه ببعض، وخَفَّفَ الحبر حتى كادت الحروف لا ترى.

وظهر العدد الأول من المنهل بعد أن أعدم منه السيد عثمان مائتي نسخة كانت سيئة الطبع، وتقبل عبد القدوس - يرحمه الله - الأمر على مضض تشجيعًا لصديقه عثمان وتقديرًا لظروفه، ولكنَّ العدد الثاني من المجلة لم يكن أحسن حظًّا من العدد الأول، فقرر عثمان مع أخيه علي أن يستقدما عاملًا متخصصًا من مكة، واتفقا مع عباس هلال سنبل على أن يكون معهما في دارهما بالمدينة، ويتولى شئون المطبعة بمرتب ثلاثين ريالًا شهريًّا.

وأعطيت القوس باريها فتمَّ إخراج العدد الثالث من مجلة المنهل بصورة مشرفة رضي عنها الأستاذ عبد القدوس واستغرق العمل في توضيب العدد الثالث وطبعه خمسة أيام، وكان عثمان يقضي الشهر كله في التوضيب والطبع

(403)

.

وأود أن أقف قليلًا بعد أن قصصت على القاريء قصة مطبعة

(403)

تطور الصحافة (ج 2): ص 102 - 108.

ص: 424

المدينة المنورة منذ أن كانت حلمًا يراود خيال الأخوين علي وعثمان حافظ إلى أن أصبحت حقيقة لأقول: إنها قصة الكفاح والعصامية، قصة التصميم على بلوغ الغاية مهما كانت المصاعب والعقبات، قصة الحماس الذي يتحدَّى المشكلات التي تبدو مستحيلة، ثم يذللها الإيمان والعمل، يقول السيد عثمان في وصف تأسيس مطبعة المدينة:

إن مثل هذه المواضيع تحتاج إلى اختصاص وعلم، ولكن قلة ذات اليد والاندفاع جعلنا نتحمل المتاعب والمسئوليات، ونخوض المعارك بلا سلاح، ولو أردنا أن نمد أرجلنا على لحافنا كما يقول المثل العامي لما تقدمنا خطوة في المشروع، ولأن إمكاناتنا المادية محدودة جدًّا جدًّا ونحن لا نملك إلا العزيمة والعقيدة، والتوكل على القادر المتعال

(404)

.

هذه قصة المطبعة، مطبعة المدينة المنورة في إيجاز شديد، أما قصة الجريدة - جريدة المدينة المنورة - التي من أجلها جلبت المطبعة فهى قصة أخرى لو أردنا سردها أو حتى إيجازها لخرجنا بهذه الترحمة عن الحيز المقدر لها، وقد كفانا الأستاذ عثمان حافظ هذه المئونة بكتابه القيم الممتع الذي خصص الجزء الثاني منه لقصة المطبعة والجريدة معا فليعد إليه القارئ فهو من الكتب التي أود لشبابنا أن يستمتع بقراءتها ليرى كيف تذلِّل العزائم الصعاب، بل وتَليِّن الحديد .. هذا الكتاب هو كتاب "تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية" الذي كثيرا ما أشرنا إليه قبل، وقبل أن أختم هذا الحديث فإني أود أن يعرف

(404)

تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية (ج 2): ص 111، 112.

ص: 425

القاريء أن قصة صدور جريدة المدينة المنورة التي صدر العدد الأول منها في 26 محرم 1356 هـ والتطورات التي مرت بها إلى أن سلمت للمؤسسة الصحفية التي تحمل اسمها في 1/ 11 / 1383 هـ هي قصة الكفاح والعصامية، والإصرار على بلوغ الغاية المرسومة رغم المتاعب والصعاب. وقد فصَّل الأستاذ عثمان حافظ هذه القصة بصراحة تامة وتفصيل دقيق، فلقد كان إصدار جريدة المدينة المنورة حلمًا في أذهان المثقفين وذوي الرأي في طيبة الطيبة، وكان تحقيق هذا الحلم منوطًا بالأخوين على وعثمان حافظ وقد استطاعا تحقيقه ولكن التضحيات كانت كبيرة وجسيمة، كانا يضطران إلى بيع بعض ما يملكان في أواخر الشهور لتسديد رواتب العمال والموظفين .. وكان ثمن طوابع البريد يرهقهما إرهاقًا شديدًا، ولم يكن للجريدة وارد من الإعلانات أو الاشتراكات يكفى لتغطية النفقات، وجاء وقت فكَّر فيه الأخوان في إيقاف الجريدة عن الصدور بعد أن سُدَّدت في وجهيهما الأبواب، وذهبا إلى الشيخ محمد سرور الصبان مدير المالية العام في ذلك الزمان بمكة يستشيرانه في الأمر وأعانهما بخمسين جنيهًا ذهبيًا واستصدر لهما أمرًا من جلالة الملك عبد العزيز بمعونة شهرية قدرها خمسون ريالًا ثم زادت إلى مائة، ثم استموت في الزيادة حتى وصلت إلى ألف ريال، ولكن أمور الجريدة لم تستقم الا بعد أن قضى المؤسسان ما يقرب من أربعين عامًا في هذا الجهاد المرير.

ومرة أخرى فإن جريدة المدينة المنورة هي قصة العصامية والكفاح فليقرأها الناس بقلم أحد أصحابها ففيها من المتعة ما يجعل هذه القراءة

ص: 426

محببة لمن يقرأ، وفيها من الدرس ما يحتاج إليه الشباب ليشقوا طريقهم في الحياة.

وأخيرًا فلقد ذكر الأستاذ عثمان حافظ أن ميلاد أول عدد من جريدة المدينة المنورة اقترن بميلاد الأستاذ محمد علي حافظ نجل أحد المؤسسين، وكأنَّما كان هذا الاقتران بشيرًا بما كان يخبئه الغيب في ستوره، فقد تولى محمد علي حافظ أمر جريدة المدينة المنورة وانتقل بها من المدينة المنورة إلى جدة، وأدخل من التطوير والتحسين عليها ما جعلها في مصاف الصحف اليومية الكبيرة في المملكة.

وبعد أن سلمت جريدة المدينة المنورة إلى المؤسسة التي تحمل اسمها قام الأخوان هشام ومحمد علي حافظ بإصدار جريدة عرب نيوز في جدة، ثم بإصدار جريدة الشرق الأوسط من لندن، وتوالى إصدار الصحف والمجلات: المسلمون، سيدتي، المجلة، الرياضية، وأهم من هذا وذاك أن الأخوان هشام وعلي حافظ أقدما على طبع صحفهما في أماكن كثيرة باستخدام جهاز الفاكسميلي الحديث فكانت هذه الخطوة الجريئة حَدَثًا هامًّا كل قارات أوربا وآسيا وأمريكا وأفريقيا، وهكذا استطاع الأبناء إتمام مسيرة الآباء، وأصبح لأسرة حافظ هذا الصرح الصحفى الشامخ عبر القارات وأصبح قراء هذه الصحف يجدونها في كل مكان.

وليس أسعد لقلوب الآباء من أن يروا الأبناء وقد ساروا في نفس الطريق فحققوا من النجاح ما لم يحققه الآباء. هنيئًا للأخوين علي وعثمان حافظ ما عملا، وما أنجزا، وهنيئًا لهما ما حقق أبناؤهما من أمجاد.

* * *

ص: 427

أعلامُ الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبَعض القرون الماضية

ص: 429

فَرج يسر

ص: 430

‌فَرَج يسر

لم أعرف الرجل حتى أستطيع التعريف به، ولم أدرك زمانه، وإن كنت أدركت بعض آثاره، فدفعني هذا إلى تلمُّس أخباره، ولقد كان ما عرفت من أخباره لا يروي ظمأ الباحث المتشوق إلى تتبع آثاره الشخصية التي يرغب في تقديمها إلى الناس، ولكنَّ ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه، ولهذا فإنني أروي هذا القليل الذي استطعت جمعه من أخباره، على أمل أن أُضيف إليه ما قد يصل إليَّ من القراء الكرام، أو أجده في ثنايا الكتب التاريخية في مستقبل الأيام.

قالوا: كان فرج يُسر من رجالات مدينة جدة في القرن الثالث عشر، وربما يكون قد أدرك السنوات الأولى من القرن الرابع عشر الهجري، وكان يملك أسطولًا من السفن الشراعية، تقطع البحر الأحمر ثم تخوض لجج المحيط الهندي لتعود محمّلة بما تحتاج إليه من البلاد من مختلف البضائع التي تشمل المأكول والملبوس وما بين هذا وذاك من أصناف، وكان أسطول فرج يُسر من السفن عظيمًا، قالوا: إنه احتفل بزواج ابنه فأوقد المصابيح في مائة سفينة حشدها في ميناء جدة، فكانت مظاهرة بحرية لم تشهدها المدينة في تاريخها الطويل.

وسواء بلغ تعداد أسطول فرج يُسر هذا العدد أو يبلغ فإنه كان علمًا في مدينة جدة في زمانه، وكان عالي الهمة حسن التفكير.

كانت السفن الشراعية تمخر عباب البحر في أوقات معيَّنة من العام، تسافر من ميناء جدة تحمل صُرر الذهب إلى بيوت التصدير في الهند، ثم تعود محمَّلة بما يحتاجه الحجاز كله بل وغير الحجاز من أنواع

ص: 431

البضائع. فلقد كانت الهند في ذلك الزمان هي مخزن العالم وسلة طعامه، وكانت الصلات التجارية بين الحجاز والهند عظيمة، حتى أن كثيرًا من البيوت التجارية في الحجاز، فتحت فروعًا لها في الهند، لتصدير البضائع وخاصة الأرزاق مثل: الأرز، والسكر، والشاي، والحبوب، والأقمشة مثل: البفتة، والدُّوت الذي يسمونه في الحجاز السليطي أو الخام الذي تستعمله البادية في الثياب، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

بيت الحاج زينل وعبد الله علي رضا، وقد انتقل البيت إلى الباكستان بعد تقسيم الهند.

بيت الحاج سليم خنجي - بيت الشيخ إبراهيم الفضل.

وكان لآل الجمجوم فرع في الهند في بعض الأوقات يديره المرحوم الشيخ عبد العزيز جمجوم، كما كان هناك مركز الحاج محمد علي زينل رضا مؤسس مدارس الفلاح رحمه الله الذي كان مختصًّا في تجارة اللؤلؤ ثم شمل عمله المجوهرات، ولعل الشيخ إبراهيم الفضل كان يعمل كذلك في تجارة اللؤلؤ، وذلك قبل ظهور اللؤلؤ الصناعي.

خلاصة القول: أنه كان للتجار العرب وجود ظاهر في الهند في ذلك الزمان. كما كانت هناك بيوت تجارية هندية يتعامل معها التجار في الحجاز أمثال: التاجر الهندي الشهير عبد الله بهاي وغيرهم.

ولم تكن البواخر البخارية في ذلك الزمان السحيق تدخل ميناء جدة، وكان اعتماد التجار هو على السفن الشراعية التي يمتلكها الحجازيون، وكان فرج يسر واحدا من أكبر ملاك السفن الشراعية في ذلك الزمان.

ص: 432

كانت السفن الشراعية تغادر ميناء جدة محملة بصرر النقود الذهبية والفضية وتعود محملة بالبضائع كما ذكرنا، وكانت رحلات هذه السفن في الأوقات التي يكون فيها المحيط الهندي هادئًا، إذ كان ربابنة هذه السفن يتجنبون السفر في أوقات الفيضان، ولهذا فإن السفن بقادتها وعمالها يبقون في مدينة جدة في فصل الشتاء الذي يتعطل فيه سير السفن الشراعية في البحر الهندي المحيط.

وكان بين هؤلاء العمال الذين يسافرون في هذه السفن النجَّارون والدهَّانون، لأن كل سفينة تحتاج إلى نجار لإصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل في هذه الرحلات الطويلة في البحر، وإلى دهَّان أو أكثر لدهن هذه السفن المصنوعة من الأخشاب صيانة لها من التآكل، وكان فرج يسر يشغِّل هؤلاء العمال في بيوت جدة فيقوم النجارون بعمل النوافذ والأبواب، والسقوف، وكان البناء في ذلك الزمان يعتمد على الخشب كمادة أساسية، وكانت البيوت تتميز بالرواشين الكبيرة والنوافذ العالية التي تصنع من الأخشاب، وكان الدهَّانون يعملون كذلك في دهن هذه الشبابيك والسقوف والأبواب بالبوية.

ولقد قيل لي: إن هؤلاء العمال كانوا من الصينيين المهرة، فاستطاع العمال المحليون نقل الصنعة عنهم وإلى هنا فإن فرج يُسر لا يعدو أن يكون رجل أعمال ناجح، أتاح لبلده وجود أسطول شراعي كبير يساهم في جلب حاجات البلاد من الأرزاق والملابس وغيرها وهو عمل طيب يستحق التقدير، ولكن الرجل لم يقتصر على هذا.

ص: 433

‌عين فرج يُسر

كانت مدينة جدة تعاني من نقص الماء، وكان هذا شأن المدينة منذ مئات السنين، ولمدينة جدة مع الماء تاريخ طويل، فلقد كانت سقيا المدينة تعتمد على مياه الأمطار التي تخزَّن في الصهاريج، وكانت للماء تجارة معروفة، فكان الناس يجمعون الماء في صهاريج كبيرة بعضها خارج مدينة جدة في طريق السُّيول، وبعضها في داخل المدينة، فإذا انتهى موسم الأمطار قام أهل الصهاريج ببيع الماء

(405)

، ولقد ظلت مدينة جدة تعتمد في سقياها على الآبار والصهاريج إلى أن قام السلطان الغوري آخر سلاطين المماليك البرجمية في القرن العاشر الهجري بجلب الماء إلى مدينة جدة من وادي قوص الواقع شمال الرغامة.

وعلى ذكر السلطان الغوري فقد كانت لهذا السلطان إصلاحات في مدينة جدة وينبع، فلقد أمر ببناء سور حصين لمدينة جدة في سنة 915 هـ حينما أحسَّ أن البرتغاليين ينوون مهاجمتها والاستيلاء عليها توطئة للاستيلاء على الحجاز وقام بتحصين المدينة وبناء القلاع على السور ولكن البرتغاليين لم يقدموا إلى جدة إلا في سنة 948 هـ، وكانت المدينة مستعدة للقائهم، وقد قاد حملة الدفاع عن مدينة جدة أمير مكة الشريف أبو نمي فترك الحج وحضر إلى جدة مع جنوده وتطوَّع الناس للجهاد فلما حضر البرتغاليون كانت المدينة محصنة خلف السور وقد أصلى المدافعون عنها المهاجمين البرتغاليين نارًا حامية فلاذوا إلى سفنهم

(405)

انظر تفصيلا أكثر عن تجارة الماء في "ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز" الطبعة الثانية للمؤلف: ص 152 - 154.

ص: 434

فارِّين بعد أن خلَّفوا الذخائر والسلاح

(406)

.

وكذلك أمر السلطان الغوري بتشييد أول سور لمدينة ينبع البحر وتم ذلك في نفس العام الذي شيَّد فيه سور مدينة جدة عام 915 هـ، ويبدو أن السلطان خشي مهاجمة البرتغاليين لميناء ينبع كما خشي مهاجمتهم لمدينة جدة، ولكن البرتغاليين لم يصلوا إلى ينبع بعد أن طُردوا من جدة كما أسلفنا

(407)

.

وقد بقيت مدينة جدة تعتمد على هذا الماء الذي أجراه السلطان الغوري من القرن العاشر الهجري إلى القرن الحادي عشر ثم انقطع وصول الماء إلى جدة ربما بسبب الخراب الذي تعرضت له العين ومجاريها، ولعل لحالة الأمن خارج مدينة جدة علاقة بسبب توقف العين أو أن عدم الصيانة وفقدان الأمن كانا معًا من أسباب انقطاع الماء فقد تكرر انقطاع وصول الماء، وفي القرن الثالث عشر الهجري توقف وصول الماء إلى جدة ..

وهنا يأتي دور فرج يُسر الذي أخذ على عاتقه إعادة جريان الماء مرة أخرى إلى المدينة الظامئة. يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه تاريخ موسوعة مدينة جدة:

وفي سنة 1270 هـ قام تاجر من جدة اسمه فرج يُسر، قام بإعادة إجراء العين بأن جمع لذلك إعانات من تجار جدة وموسريها،

(406)

أعلام الحجاز (ج 2): ص 215، 216.

(407)

"بلاد ينبع" للأستاذ حمد الجاسر: ص 107.

ص: 435

وقد استمر جريانها بعد ذلك مع ضعف كامن فيها إلى سنة 1304 هـ، إذ عُنِيَتْ حكومة السلطان عبد الحميد الثاني بإيصال العين الوزيرية

(408)

.

ولم يوضح لنا الأستاذ الأنصاري مقدار التبرعات التي جمعت من تجار جدة، ومقدار ما ساهم به فرج يُسر القائم بكبر المشروع والذي سُمِّيَت العين باسمه، وإنما اكتفى بذكر مساهمة أهل جدة في ذلك، نقلا عن الشيخ محمد نصيف وسواءٌ كانت هذه الإعانات التي ساهم بها التجار قليلة أو كثيرة فإن قيام فرج يُسر بالتصدي لهذا الأمر هو إنجاز كبير يدلُّ على همة عالية وينبع من نفس عظيمة تحسُّ بحاجات الأمة فتنبري لحمل العظائم في سبيل تحقيق ما تحتاجه البلاد، وهو أمر لا يتصدَّى له إلا الزعماء والعظماء.

وكان فرج يُسر يحتاج إلى الماء لتزويد أسطوله الكبير وهو يسافر من مدينة جدة إلى أن يصل إلى أقرب ميناء يتوفر فيه الماء، لقد بذل الرجل جهده في البحث عن الماء وإصلاح العين التي جلبها السلطان الغوري حتى استطاع استخراج الماء من عين في شرق مدينة جدة سميت في زمانه "عين فرج يُسر" ولم يكتف بهذا فأوصل الماء إلى المدينة الظامئة وبنى المناهل - البازانات - في أنحاء المدينة ليأخذ أهل جدة حاجتهم من هذا الماء، وبنى منهلًا خاصًّا قريبًا من الميناء الذي ترسو فيه السفن لتأخذ سفنه وسفن غيره حاجتهم من هذا الماء كذلك.

ولمعلومية القارئ فإن موضع عين فرج يُسر هو الأرض التي تقوم عليها مباني جامعة الملك عبد العزيز في جدة، إذ آلت ملكية عين

(408)

موسوعة تاريخ جدة: ص 145 - 147.

ص: 436

فرج يُسر إلى معالي الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية السعودي الأسبق وقد أقام عليها أربعة قصور وفيلا، ثم تبرع بها وبالأرض الكبيرة المحيطة بها لجامعة الملك عبد العزيز بعد تأسيسها

(409)

فكانت هذه القصور المقر الأول لكليات الجامعة حين افتتاحها، ثم امتدت مباني الجامعة في الأرض الكبيرة المحيطة بها.

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى فرج يُسر فنقول: إنَّ من آثاره في مدينة جدة مسجدًا يحمل اسمه حتى اليوم ويقع هذا المسجد في شارع الذهب وهو الشارع الموازي لشارع الملك عبد العزيز وهو مفتوح تقام فيه الصلوات الخمس حتى هذا اليوم، وذكر الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أن له مسجدًا آخر خارج مدينة جدة كذلك

(410)

.

وبعد فإنَّ اسمْ فرج يُسر يدل على أنه مولًى، فلقد كان الناس في الحجاز يطلقون الأسماء الجميلة على عبيدهم وجواريهم، فيسمون الرجال بأسماء: فرج، وجوهر، وألماس، وياقوت، وسعيد، ومسرور، ويسمُّون النساء بأسماء: بشرى، وسعيدة، ومبروكة، ودام الهناء، ودام السرور، وبخيتة وما إلى ذلك، وهم يطلقون هذه الأسماء الجميلة على الرقيق تيمُّنًا بهم، ولقد انتهى عهد الرقيق ولله الحمد إلى غير رجعة.

أقول: إن اسم فرج يُسر يدل على أنه كان مولى ابن مولى،

(409)

انظر ترجمة عبد الله السليمان في "أعلام الحجاز"(ج 1): ص 112 - 126.

(410)

موسوعة تاريخ مدينة جدة: ص 430.

ص: 437

وهذا لا يحطُّ من مقامه في نظرى ولا في نظر العقلاء والمنصفين، فلئن كان فرج يُسر مولى فلقد كانت أعماله أعمال السادة بل الكبراء من السادة والمصلحين.

قالوا: ولقد توفي فرج يُسر فقيرًا مريضًا لا يملك ما يعينه على حياة الفاقة والمرض، ولا نعرف سببًا لما أصاب الرجل من الفقر بعد الغنى، فالأخبار عنه كما ذكرت قليلة ومتناثرة، ولكنى أُرجِّح أن ظهور السفن التي تسير بالبخار وتَردُّدها بين موانيء البحر الأحمر والمحيط الهندي قد سبب الكساد لأسطول فرج يُسر من السفن الشراعية، فكانت معاناته من الفقر في ختام حياته، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم تصل إلى علمنا.

رحم الله فرج يُسر وجزاه خير الجزاء على ما قدَّم من عمل صالح إنه سميع مجيب.

* * *

ص: 438

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية

ص: 439

محمد بن عبد القادر مغيربي

ص: 440

‌محمد عبد القادر مغيربي فتيح

‌وصفه:

أبيض اللون، متوسط القامة والبنية، حسن الملامح، تزين وجهه لحية صغيرة، متوقد الذكاء، في وجهه إباء وشمم، تلمح في أحاديثه ما وهبه الله من ثقافة ومعرفة، يرتدي العباءة العربية والعقال.

‌ولادته وتعليمه:

ولد الشيخ محمد بن عبد القادر مغيربي بالمدينة المنورة وكان والده قد هاجر إليها قبل .. ولد في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 1318 هـ، وتلقى تعليمه الابتدائي بالمدينة المنورة فحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ إبراهيم طرودي وجوَّده علي يد الشيخ إبراهيم فقيه، ودرس الفقه والتوحيد، ومبادئ الصرف والنحو على يد المشايخ محمود عبد الجواد والشيخ المعصوم والشيخ محمد سعيد مدرِّس، كما درس الخط ومبادئ اللغة التركية على الأستاذ محمد أمين عيسى روحى وكان يتلقى دروسه في المسجد النبوي الشريف، وفي المنزل.

والتحق بالمدرسة الإعدادية العثمانية بالمدينة المنورة، وكانت تسمى إذ ذاك المدرسة الرشدية، بعد نجاحه في امتحان الشهادة الابتدائية، وقد أتم دراسته في المدرسة الإعدادية هذه بعد أن تدرَّج في المرحلة الإعدادية المتوسطة والعلمية النهائية، كما درس السنة التجهيزية التي تعادل في الوقت الحاضر الشهادة الثانوية.

ص: 441

اجتاز الشاب محمد المغيربي الاختبار النهائي للمدرسة الإعدادية العثمانية بالمدينة المنورة بتفوق ملحوظ فكان من أوائل المبتعثين في ذلك العهد لتلقي تعليمه العالي في كلية صلاح الدين الأيوبي بالقدس، وكانت هذه الكلية قد افتتحت بالقدس استعاضة عن الكلية الإسلامية التي تقرر إنشاؤها في المدينة المنورة في العهد العثماني، ويبدو أن ظروف ذلك الزمان حالت دون إنشاء هذه الكلية في المدينة فاستعيض عنها بكلية صلاح الدين الأيوبي في القدس.

كانت مطامح الشاب محمد المغيربي كبيرة، وكان حلمه الأكبر أن يتعلم الطب، ولما لم يكن في كلية صلاح الدين الأيوبي بالقدس ما يحقق هذه الآمال فقد انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت الحرب العالمية الأولى قد ألقت بظلالها على العالم، وكانت التوقعات بدخول أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء، وضد ألمانيا التي وقفت الدولة العثمانية في صفِّها، كانت هذه التوقعات ذات أثر كبير في تغيير مجرى دراسة المغيربي فتحول من الجامعة الأمريكية في بيروت إلى الجامعة الأمريكية في روملي حصار اسطنبول، وتحوَّل كذلك من دراسة الطب إلى دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية، وحصل على البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصاد قبل دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى بأيام قلائل.

كانت الحرب العالمية الأولى قد اشتد أوارها، وثار الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز على الأتراك وزحفت جيوشه بقيادة أبنائه تفتح مدن الحجاز الواحدة بعد الأخرى، وكان القائد التركي في المدينة فخري باشا مصرًّا على القتال، وكانت سكة حديد الحجاز قد خصصتها الدولة التركية لنقل المؤن والذخائر والجند فلا مكان فيها

ص: 442

للركاب، في هذا الوقت كان المغيربي قد أتم دراسته وحصل على البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في استانبول وتهيأ للعودة إلى أهله بالمدينة المنورة، وأدرك والده الشيخ عبد القادر المغيربي المصاعب التي تحول بين ابنه وبين الوصول إلى المدينة المنورة فكتب إلى صديقه السيد أحمد الصافي عضو مجلس المبعوثان - البرلمان العثماني - عن المدينة المنورة، كتب إليه يرجوه أن يصحب ابنه محمدًا في مجيئه إلى المدينة من دار الخلافة.

‌بين التجارة والسياسة:

واصطحب السيد أحمد الصافي الشاب محمدًا معه في العربة الخاصة التي خصصت له في القطار للعودة إلى المدينة المنورة، وفي طريق العودة توقَّف القطار في - مدائن صالح - وهي إحدى محطات السفر بين المدينة والشام، وعلم السيد أحمد الصافي أن الأمير سعود بن عبد العزيز بن رشيد يعسكر بجيوشه في مدينة - الحِجْرْ - قريبًا من مدائن صالح، فذهب للسلام عليه، وبعد بعض الوقت جاء رجال الأمير سعود يستدعون الشاب محمد المغيربي للقاء الأمير سعود.

وكانت المفاجأة العظمى لمحمد المغيربي أن يرى الأمير سعودًا رفيق طفولته في المدينة المنورة، وقد تسنَّم عريق الإمارة في بلاده - حائل - كانت الحرب بين آل الرشيد إثر وفاة الأمير عبد العزيز المتعب الرشيد، وأقدم آل عبيد الرشيد في حائل على اغتيال أبناء الأمير عبد العزيز، ولكن الأمير سعودًا نجا من الموت بفضل الله تعالى ثم بلجوء خاله حمود السبهان إلى المدينة المنورة، حيث اصطحب الأمير الصغير معه، فبقي فيها بعيدا عن الخطر، وفي الفترة التي قضاها سعود بن عبد العزيز الرشيد

ص: 443

في المدينة المنورة، كان يسكن بجورا آل المغيربي، وتوثقت العلاقة البريئة بين الصغيرين، صداقة خالصة تضمخها أطيب الذكريات.

وتكرّ الأيام، ويعود الأمير سعود ليتسلَّم عرش آبائه في حائل بعد أن تغلَّب أخواله على منافسيهم، ثم تجمع الأيام بين الرجلين وهما في مطلع الرجولة والشباب.

طلب الأمير سعود من محمد المغيربي أن يعمل معه في حائل، فقد كان في حاجة إلى شاب في مثل كفاءته وأمانته وعلمه .. اعتذر المغيربي بأنه عائد إلى أبيه في المدينة بعد غيبة طويلة، وأنه لابد من موافقة الوالد على ما يعرضه الأمير .. ولكن الشاب لم يعد إلى المدينة فارغ اليدين، فقد وجد في طريق عودته من الحِجْر إلى مدائن صالح بعض تجار الكويت يعرضون أنواعا من البضائع فيها السكر والقماش والبن.

وكانت المدينة تحتاج إلى هذه الأصناف أشد الحاجة وهي محاصرة بجيوش الهاشميين، وعقد الشاب محمد المغيربي أولى الصفقات مع هؤلاء التجار الذين كانوا يجلبون هذه البضائع من البلاد القريبة التي لم تصلها كوارث الحرب، وعاد إلى المدينة بها، وشجَّعه أبوه على الاستمرار في شراء هذه البضائع وجلبها إلى المدينة المنورة، فقد كانت الحاجة إليها شديدة والربح فيها مجزيًا.

وعاد المغيربي مرة أخرى في رحلة تجارية مع إحدى القوافل التجارية التي سارت إلى الجوف ثم إلى حائل استغرقت أربعين يومًا، وكانت الكويت ترسل بضائعها إلى حائل، فعقد صفقته الثانية فيها.

ص: 444

وحين أعدَّ المغيربي عدته للعودة إلى المدينة كان الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد قد عاد إلى حائل، وجدد عرضه لصديق طفولته محمد المغيربي للعمل معه مستشارًا خاصًّا في معظم الشئون، ووكيلا عامًّا في الشئون السياسية والاقتصادية، قضى محمد المغيربي بضع سنوات إلى جانب الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد متمتعا بثقته الكاملة، وبصداقته الشخصية، وباذلًا كل ما يقدر عليه من علم وكفاءة في خدمة صديقه الأمير.

‌المغيربي يفاوض الشريف الحسين بن علي:

خلال هذه السنوات حضر المغيربي إلى مكة مندوبًا من الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد لمفاوضة الملك الشريف الحسين بن علي مؤسس الأسرة الهاشمية، ونزل مع رفقائه من جنود حائل في الأبطح خارج مكة المكرمة، وزار منزل الأسرة في مكة، وقد حدثني رحمه الله فيما بعد عن هذه الزيارة أنها كانت بطلب من الملك الشريف الحسين بن علي إلى أمير حائل ليرسل مندوبًا عنه للتفاوض في بعض الشئون الخاصة بالبلدين.

‌مقتل الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد:

اغتيل الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد بيد ابن عمه عبد الله الطلال، وبارح المغيربي حائل متوجهًا إلى الكويت، فأحسن وفادته أميرها الشيخ سالم المبارك الصباح الذي كانت تربطه بالأمير سعود الرشيد صداقة وثيقة، ونزل المغيربي في ضيافة أمير الكويت في قصر القزاز حيث تلقى العلاج هناك على يد الدكتور بيرد رئيس المستشفى الأمريكى آنذاك.

ص: 445

‌العودة للدراسة:

حينما أتم المغيربي علاجه في الكويت استأذن أميرها في السفر إلى أوربا لاستكمال دراسته العليا التي كان يرغب في إتمامها، ويبدو أن صاحبنا وقد رأى الفاجعة التي حلَّت باغتيال الأمير سعود الرشيد، آثر البعد عن ميدان السياسة، فاعتذر عن قبول ما عرض عليه من البقاء في الكويت، وأكرم أمير الكويت ضيفه فأمر بترحيله في اليخت الخاص بعد أن زوَّده بتوصية وتذكرة مرور من الحكومة البريطانية للدخول إلى العراق، وذلك في أوائل عهد البريطانيين في العراق.

وصل المغيربي من الكويت إلى البصرة، ورحل منها إلى بغداد، وحصل على تصريح خاص من القنصلية الفرنسية بالدخول إلى سوريا، وبكتاب توصية من القنصل الفرنسى بها، وتوجه المغيربي عن طريق الفالوجة مارًّا بالرمادة، وأبو كمال، ودير الزور، إلى حلب ومنها إلى بيروت، وقابل المندوب السامي الفرنسى هناك الذي زوَّده بتوصية إلى السلطات العلمية العليا في فرنسا للدراسة في جامعة السربون.

وفي بيروت تزوَّد المغيربي ببعض المال الذي زوده به أبوه ثم سافر بحرًا إلى باريس، وفي باريس قرر الالتحاق بجامعة لوزان في سويسرا، لأنه رأى أن باستطاعته توفير سنة واحدة في مدة الدراسة بها، كما كانت الدراسة فيها بأربع لغات هي: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، فاختار الدراسة باللغة الإنجليزية ثم ثنَّاها بالفرنسية وجعل يواصل دراسته في سباق مع الزمن صيفًا وشتاءًا حتى حصل على شهادة الزمالة في الحقوق والسياسة الدولية بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.

ص: 446

هذا التحصيل العلمي الكبير في ذلك الزمن البعيد، نستطع أن نقول: إنه كان أعجوبة من أعاجيب العصر إذا عرفنا أن الأمية كانت منتشرة في البلاد، وأن عدد القارئين فيها قليل ومحدود، لهذا كان المغيربي في زمانه رائدًا عظيمًا.

يقول الأستاذ محمد حسين زيدان في رثائه له في جريدة المدينة المنورة الغراء: إن الآباء في المدينة كانوا يضربون به المثل لأبنائهم، انظروا إلى المغيربي الذي يتكلم باللاوندي، واللاوندي هنا هو اللغات الأجنبية التي كان يعرفها، فقد كان يتكلم الإنجليزية والفرنسية والتركية، وقد درس بهذه اللغات كما أسلفنا.

وأذكر أنني رأيت المغيربي أول ما رأيته وهو ابن عم والدي، حينما حضر إلى جدة في الأربعينات ونزل في دار المغربي الكبير الذي كان يضم كافة الأسرة.

رأيته وكان رجلا كامل الرجولة وكنت في ميعة الصبا غلامًا صغيرًا وسألنى هل تعلمت الإنجليزية؟

قلت: إنني أحاول تعلمها على يد أستاذ خاص، فسألني بالإنجليزية عن أستاذي، وعن مبلغ ما وصلت إليه حصيلتى، وهكذا رأيت لأول مرة بين أفراد الأسرة من يهتم بمحاولاتي الأولى في التعليم.

‌العودة إلى الحجاز:

قرر محمد المغيربي العودة إلى وطنه بعد أن بلغ من العلم أعلى الدرجات فسافر من سويسرا إلى مصر وقابل السيد عبد الملك الخطيب

ص: 447

معتمد حكومة الشريف الحسين بن علي ملك الحجاز في ذلك الزمان 1334/ 1342 هـ فأعطاه تذكرة مرور موصى عليها من قبله، ومن القاهرة توجه المغيربي إلى جدة في باخرة إنجليزية.

وحينما وضع المغيربي أقدامه في ميناء جدة كان العقيد البشناق مدير شرطة جدة في استقباله، فأخبره أن الشريف علم من معتمده بالقاهرة بسفر المغيربي إلى جدة، وسار به إلى قصر الشريف الملك الحسين بن علي.

‌الحسين يأمر المغيربي بالعودة من حيث أتى:

وفي قصر الملك حسين بن علي، وعلى مرأى ومسمع من أعيان جدة ومكة وكبار موظفى الدولة قال الحسين لمحمد المغيربي بالحرف الواحد:

لا مقام لك في بلدنا وأنت متهم بالوهابية - ومشايعة

يقصد الإمام عبد العزيز بن سعود - ولولا خدماتك لشخص ما زلنا نُعِزُّه - يقصد سعود بن الرشيد - لكان لك معنا شأن آخر، ولكن لك مهلة يوم واحد تقضيه في جدة، وتعود في نفس الباخرة التي جئت فيها.

ويعلل المغيربي هذا التصرف من الملك الحسين معه بأن الحسين كان ينقم عليه من أمور معينة أيام توليه المهام السياسية لابن رشيد.

لعل من المهم أن نذكر أن الجزيرة العربية كلها كانت تضطرب بالفتن في العقود الأولى من القرن الرابع عشر الهجري، فقد نشط الإمام عبد العزيز بن سعود الشاب لاسترداد ملك آبائه وأجداده، واستولى على الرياض بعد أن قتل عجلان الذي كان يحكمها باسم آل الرشيد

ص: 448

في حائل، وقام الحسين بن علي بالثورة على الترك في الحجاز وإخراجهم منها والاستيلاء على مدنها حتى وصل جيشه بقيادة ابنه الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق وبويع بالمُلك في الشام لفترة قصيرة ثم تركها إلى باريس بعد أن دخلها الفرنسيون بموجب معاهدتهم مع الإنجليز معاهدة سايكس بيكو، وبدأ نجم الإمام عبد العزيز بن سعود يسطع في سماء الجزيرة العربية، فاستولى على نجد كلها كما استولى على القصيم، والأحساء، وانتصر في جميع المعارك التي خاضها لتوحيد شتات الجزيرة العريية تحت لوائه، إلا أن الأمور بقيت بينه وبين الحسين بن علي قائمة على الاختلاف، وعدم الثقة، وكان الحسين يعمل على أن يضع ابن رشيد قوته في صف الحسين بن علي لمهاجمة نجد، ولكن سعود بن عبد العزيز الرشيد الذي عمل المغيربي مستشارًا سياسيًّا له، كان قد اعترف لابن السعود بأن نجدًا وجميع المناطق الداخلية من الكيف إلى وادي الدواسر، ومخيمات مطير وعتيبة وحرب وبني عبد الله والعجمان، وآل مرة، والمناصير، وبنى هاجر وصبيا والسهول، وقحطوف، والدواسر وكل شخص تضمه هذه المخيمات هم رعايا لابن سعود، وأن ابن الرشيد لا علاقة له بهم ألبتة

(411)

، ولكن الحسين مع هذا لم ييأس من استمالة آل الرشيد إليه بعد هزيمة جيشه في معركة تربة أمام جيوش ابن سعود

(412)

فأرسل الرسل إلى حائل وأمد أميرها بكميات

(411)

انظر: "تاريخ الدولة السعودية" لأمين سعيد (ج 2): ص 99 مطبوعات دار الملك عبد العزيز بالرياض.

(412)

نفس المصدر (ج 2): ص 81 - 93.

ص: 449

من الأسلحة، وفي هذه الفترة بالذات قُتل الأمير سعود بن عبد العزيز الرشيد بيد ابن عمه عبد الله بن طلال الذي بادره حرس الأمير سعود بن عبد العزيز بالقتل فانتقلت إمارة حائل إلى عبد الله بن متعب وكان في الثالثة عشر من العمر، ورأى الإمام عبد العزيز بن سعود أن الفرصة سانحة للاستيلاء على حائل وضمها إلى سلطاته، ليضع حدًّا للحروب الطويلة بين آل السعود وآل الرشيد، فزحف بجيوشه إليها وحاصر مدينة حائل يوم 12 ذي الحجة 1339 هـ وانتهى الأمر باستسلام حائل يوم 29 صفر 1340 هـ، على أن يكون الكتاب والسنة حَكمًا، وعامل ابن سعود حائل معاملة كريمة فصانها من أن تمتد أيدي جنوده إلى سلب أهلها، وتزوج الإمام عبد العزيز بعد الفتح أرملة سعود بن الرشيد، وتبنَّى أولادها منه، كما تزوج ابنه الأمير سعود زوجة من آل الرشيد توثيقًا لأواصر القربى بين البيتين الكبيرين

(413)

.

هذا ما رأيت إيضاحه فيما يتعلق بالشئون السياسية التي كانت تضطرب بها الجزيرة العربية في ذلك الزمان، ونعود الآن إلى المغيربي الذي أمره الحسين بالعودة من حيث أتى.

اتصل المغيربي بوالده في المدينة برقيًّا وحصل على ما يحتاج إليه من المال ليعود إلى مصر، وليضرب في الأرض بعيدا عن وطنه وأهله.

ومن مصر سافر إلى اليمن، وكانت تربطه معرفة قديمة بالوالي محمود نديم توثقت أواصرها في تركيا حيث كانا عضوين في جمعية اتحاد إسلام

(413)

تاريخ الدولة السعودية (ج 2): ص 99 - 102.

ص: 450

التركية، ونزل المغيربي في ضيافة الإمام يحيى حميد الدين الذي استقبله في قصره في صنعاء، ويقول المغيربي: إن مقابلته للإِمام كانت سببا في امتناع الإمام عن إرسال جنود يمنيين إلى الحجاز كان الشريف الحسين قد طلبهم وأرسل إلى اليمن وفدًا برئاسة الشريف ناصر لهذه الغاية، وكان ابن السعود قد أرسل جيوشه للحرب في الحجاز.

ولم تطل إقامة المغيربي في صنعاء فغادرها إلى تركيا واتخذ طريقه من المراوعة إلى مخا، فمصوع حيث استقل باخرة إيطالية كانت متوجهة إلى كاتانيا في جزيرة صقلية، ثم أخذ طريقه إلى مسينا، فبرونديزي، حيث استقل باخرة يونانية إلى ميناء بيريه في اليونان فاستانبول.

وصل المغيربي إلى استانبول في وقت كانت تحتلها جيوش الحلفاء، وكانت الحكومة المركزية بما فيها الخلافة، تحت إشراف الاحتلال بموجب اتفاقية الهدنة .. وكانت الثورة في الأناضول قد بلغت ذروتها بقيادة مصطفى كمال، وكان المغيربي قد حمل من اليمن بعض الرسائل من أمراء وضباط الترك حينما علموا بعزمه السفر إلى استانبول، واستماع المغيربي أن يقابل وزير خارجية تركيا آنذاك أحمد عزت باشا الذي سهل للمغيربي مهمة السفر إلى الأناضول لمقابلة القادة وتسليمهم الرسائل التي حملها من اليمن.

وصل المغيربي إلى أنقرة واستقبله رئيسا الأركان فوزي باشا جاقمق وتسلم الرسائل التي يحملها وبقي في ضيافة رئيس الأركان.

‌اتهام المغيربي والقبض عليه:

فوجئ المغيربي بعد أيام بالقبض عليه ومنعه من السفر وحجزه في التوقيفخانة محجز الضباط والأمراء، وذلك أن إشارة وردت من المخابرات

ص: 451

المركزية التركية عن جاسوس فرنسي يدعى "بول سيكار" يحمل جواز سفر بتأشيرة خروج من جيبوتي لدخول اليمن متوجهًا إلى الأناضول عن طريق سوريا فأطَنَة، وظن بعض المسئولين أن المغيربي هو هذا الجاسوس الفرنسي القادم من اليمن، والذي وصل إلى تركيا والذي ينتظر مقابلة مصطفى كمال فقبض عليه، ولكن عناية الله تعالى أدركته في الوقت المناسب، إذ تم القبض على الجاسوس الفرنسي على حدود أطَنَة قادمًا من الحدود السورية، وهكذا انقشعت الغمة، وأفرج عن المغيربي، وعادت نظرة الحكام إليه مشوبة بالتقدير والاحترام.

‌الحصول على الجنسية التركية:

مُنِح المغيربي الجنسية التركية ترضية له عن التهمة التي تعرض لها وما جرَّت عليه من جرائر، وعُيِّن عضوًا بإحدى لجان وزارة المبادلة والإسكان، التي تقرر إحداثها بعد هزيمة الجيوش اليونانية في الأناضول، وقرار تهجير اليونانيين إلى بلادهم، مقابل إعادة الأتراك الذين كانوا في اليونان إلى تركيا، بموجب شروط هدنة مودانيا .. وأعدَّ المغيربي نفسه للترشيح في انتخابات المجلس الوطنى الكبير عن دائرة أطَنَة التي كان يقطن بها كثير من العرب، ولكن مقالًا نشر في صحيفة - تصوير أفكار - التركية كان سببًا في تغيير الطريق الذي رسمه لنفسه في بلاد الأتراك.

‌حقيقة الدعوة الوهابية:

اطلع المغيربي على مقال نشر في صحيفة تصوير أفكار التركية بعنوان - اسكى وهابيلك - أي الوهابية القديمة، وذلك بمناسبة دخول

ص: 452

طلائع جيوش الإخوان الوهابيين إلى الحجاز، فرأى أن من واجبه إظهار الحقائق التي يعرفها عن الدعوة السلفية وسرِّ قوتها، فسافر من فوره إلى استانبول وشرع في تأليف كتاب باللغة التركية أولا بعنوان:"فرقة الإخوان بنجد" وترجمه إلى اللغة العربية بعنوان: "وهابية اليوم".

يقول المغيربي عن مؤلفه هذا: ضمنته حقائق تاريخية، ومشاهدات عيانية عن سرِّ تلك القوة الهائلة التي أوجدها - عبد العزيز بن سعود - من العدم - على طريقة السلف الصالح، وعقيدة التوحيد الحقة، كما ضمنته أيضا حقائق تاريخية من منشأ الإمارتين المعروفتين في نجد إمارة آل السعود، وإمارة آل الرشيد، وعن الحسين وثورته الغاشمة في الحجاز ضد الأتراك، ثم ما ينبغى أن يكون عليه الحال بعد زوال حكم الحسين من إنشاء حكومة عربية مستقلة حيادية يرأسها الإمام عبد العزيز بن سعود.

نشر هذا الكتاب باللغة التركية وجرى توزيعه في كافة أنحاء تركيا وقدمت نسخ منه إلى القادة وإلى أعضاء المجلس الوطني الكبير، وأتبع المغيربي كتابه هذا بكتاب آخر باللغة العربية تحدث فيه بصورة أوسع وأشمل، عن الوقائع المعاصرة، وكان للكتاب أثره البالغ في تنوير الرأي العام في تركيا.

‌السلطان عبد العزيز بن سعود يدعو المغيربي للعودة إلى الحجاز:

لم يمض طويل وقت على نشر كتاب المغيربي الذي أسلفنا ذكره حتى تلقى كتابًا من السلطان عبد العزيز بن سعود يدعوه إلى العودة إلى وطنه في الحجاز.

ص: 453

غادر استانبول إلى بيروت ثم إلى سوريا فالجوف فدوما وسكاكا حتى وصل إلى حائل، فنزل في ضيافة الأمير عبد الرحمن بن مساعد أمير حائل وقائد المنطقة الشمالية، وبعث برسالة مستعجلة إلى السلطان عبد العزيز فوافاه الرد باستحسان بقائه في حائل مع توصية للأمير عبد الرحمن بن مساعد .. بقي المغيربي بحائل بضعة شهور ثم استدعاه السلطان عبد العزيز للقدوم إلى الحجاز، فعاد إلى المدينة المنورة وقرت عينه بلقاء والده وأسرته بعد طول غياب، ثم واصل سفره إلى مكة المكرمة للسلام على السلطان عبد العزيز.

‌المؤتمر الإسلامي في مكة:

كان السلطان عبد العزيز قد أعلن عن رغبته في عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة بعد أن تم ضم الحجاز وكانت أولى المهام التي أسندت إلى المغيربي هي الاشتراك مع الفريق سليمان باشا الكمالي الذي كان واليًا لأبها، في تنظيم كل ما يتعلق بهذا المؤتمر الذي تم عقده في مكة المكرمة والذي استمر انعقاده من أواخر شهر ذي القعدة إلى نهاية الحجة من عام 1344 هـ، ويصف المغيربي هذا المؤتمر فيقول:

حضره مندوبون عن معظم الشعوب الإسلامية كالهند، وأفغانستان، وإيران، وأندنوسيا، وتركيا، ومصر وغيرها، كما حضره مندوبون عن الجمعيات الإسلامية، كجمعية الخلافة وجماعة علماء الحديث في الهند، وحضره كذلك زعماء مسلمون بارزون، واشترك في المؤتمر مندوبون عن مدن الحجاز، أربعة من مكة، واثنان من المدينة واثنان من جدة، وواحد من ينبع، وواحد من الطائف، وأربعة من قبائل عرب عتيبة وحرب ومن إليهم، وثلاثة يمثلون جلالة السلطان عبد العزيز في المؤتمر وكان اختيار المندوبين عن مدن الحجاز يتم بالانتخاب.

ص: 454

‌المغيربي في عضوية المؤتمر:

كان السلطان عبد العزيز قد وضع اسم محمد المغيربي ضمن أسماء الرجال الثلاثة الذين يمثلونه في المؤتمر ثم جاءت المفاجأة الأولى باختياره مندوبا عن المدينة المنورة مع الشيخ سعود دشيشة، وجاءت المفاجأة الثانية باختياره مندوبًا عن جدة مع الشيخ محمد نصيف، وحينما عرضت هذه النتائج على جلالة السلطان عبد العزيز قال كلمته المشهورة:"نحمد الله الذي جعل شوفتي وشوفة قومي واحدة".

يقصد أن اختيار المغيربي ممثلا للمدينة المنورة وجدة في الوقت الذى اختاره جلالته ضمن مندوبيه يدل على اتفاق النظرة إلى الرجل من جلالة السلطان ومن المواطنين.

أقول: عقد هذا المؤتمر في المبنى الذي كانت تشغله وزارة المالية في أجياد، وقد أطلق على هذا المبنى اسم المؤتمر، وكان قد تم بناؤه في العهد العثماني. ويصف المغيربي نتائج المؤتمر فيقول:

ورغم ما دبر وكيد وحيك في الخفاء لإحباط المؤتمر، فقد أتم الله فضله بإحسانه، وكان النجاح باهرًا لحسن نية الإمام وما ينطوي عليه قلبه الطيب من إيمان وعقيدة.

ونستطيع أن نذكر أن فكرة المؤتمر طرحت من جانب الإمام عبد العزيز - يرحمه الله - للوفد المصري الذي أرسله الملك فؤاد للتوسط في الصلح بين السلطان عبد العزيز، والملك على ملك الحجاز، ذلك أن السلطان عبد العزيز كان يرى أن نهاية الحكومة الهاشمية باتت وشيكة، وقد اعتذر عن قبول وساطة الإنجليز للصلح، كما اعتذر لغيرهم فاقترح

ص: 455

فكرة المؤتمر على الوفد المصري للنظر في أمر الحجاز بعد انتهاء الحرب.

وحينما عقد المؤتمر كان الحجازيون قد بايعوا الملك عبد العزيز ملكًا على الحجاز، وقد كتب الأستاذ حافظ وهبة كتابة ضافية عن هذا المؤتمر

(414)

.

‌تأسيس مجلس الشورى:

بعد انتهاء المؤتمر وعودة الوفود إلى بلادهم، قام السلطان عبد العزيز بزيارته الأولى للمدينة المنورة وكان المغيربي في جملة من اصطحبهم جلالته في زيارته الأولى لطيبة الطيبة، وقضى المغيربي بعض الوقت إلى جانب والده في المدينة المنورة حيث كان يشكو من وعكة ألمَّت به إلى أن تم شفاء الوالد من مرضه.

عاد الإمام عبد العزيز إلى مكة في موسم الحج وكان قد عقد عزمه على تأسيس مجلس الشورى، واستدعى جلالته المغيربي من المدينة إلى مكة المكرمة، وعيَّنه ضمن الرجال الذين عهد إليهم بوضع الترتيبات لتأسيس المجلس الأول للشورى في مكة المكرمة، وكان نظام مجلس الشورى يقوم على الانتخاب التمثيلي لكل مدينة يقول المغيربي:

انتخب في أول عقد للمجلس أربعة من مكة، وعضوان من المدينة، ومن جدة عضوان، ومن ينبع عضو واحد، ومن الطائف عضو واحد، وثلاثة عن جلالة السلطان هم: عبد العزيز بن زيد، وعبد الله الجفالي، ومحمد المغيربي.

(414)

جزيرة العرب في القرن العشرين: ص 256 - 263 الطبعة الثانية.

ص: 456

وكان المغيربي ينتخب عن المدينة المنورة في كل دورة من دورات المجلس، وكان زملاؤه على الترتيب في تمثيل المدينة المنورة السادة: حمزة غوث، والشيخ سعود دشيشة، وذياب ناصر، والسيد عبيد مدني.

أقول: تأسس مجلس الشورى في مكة المكرمة في بداية العهد السعودي في الحجاز، وكان التمثيل فيه بالانتخاب كما أوضحنا آنفًا، وكان المجلس يقوم بدور عظيم في سن الأنظمة والقوانين التي تتطلبها أعمال الدولة، ولم يكن هناك من الوزارات إلا وزارة المالية التي يرأسها الشيخ عبد الله السليمان الحمدان. لهذا فإن المجلس كان يقوم بالكثير من الأعمال، وكانت تحال إليه القضايا التي تقتضي البحث وإيجاد الحلول، وكان رئيس المجلس هو صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز، وينوب عنه في رئاسة المجلس عضو يختاره سموه وقد أدركت السيد صالح شطا، ثم الشريف شرف رضا، ثم الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي رحمهم الله وكانوا على التوالي نوابًا لرئيس المجلس، وحينما يكون الملك عبد العزيز في الحجاز يحضر في كل سنة دورة افتتاح المجلس وكذلك يفعل سمو الأمير فيصل في غياب والده.

وبعد تأسيس الوزارات في أوئل عهد الملك سعود - يرحمه الله - وانتقال عاصمة الدولة إلى الرياض، أحيلت الأعمال الكثيرة التي كانت تنظر بمجلس الشووى إلى الوزارات المختصة، ولكنَّ مجلس الشورى لا يزال محتفظا بكيانه وله أعضاؤه ورئيسه حتى الآن.

استمر المغيربي عضوًا في مجلس الشورى بمكة المكرمة طيلة حياة الملك عبد العزيز - يرحمه الله -، وكان نشاطه في المجلس واضح الأثر،

ص: 457

وخاصة فيما يتعلق بالأنظمة والقوانين، وأذكر أنه حينما قام الشيخ محمد سرور الصبان - يرحمه الله - بتأسيس الشوكات العربية في مكة في الخمسينات من القرن الهجري الماضي، كانت أنظمة هذه الشركات تعرض على المجلس لتعديلها أو إقرارها، كنت أحضر إلى المجلس مندوبًا عن هذه الشركات، وكان الشيخ محمد المغيربي من أبرز الأعضاء الذين يتولون مناقشة هذه الأنظمة، التي كنا نستعين في وضعها بأنظمة الشركات المصرية التي سبقتنا إلى هذه الأعمال، ولا شك أن ثقافة المغيربي القانونية كانت سندًا له في هذا المجال، وقد اختير في عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لرئاسة هيئة إصدار الأنظمة، وذلك بالنظر لما يتمتع به من الخبرة والمعرفة.

‌وظائف ومهام:

أُسندت إلى المغيربي وظائف هامة في حياة الملك عبد العزيز إلى جانب عضويته في مجلس الشورى، فقام برئاسة هيئات إصلاح وتفتيش في داخل المملكة، وفي بعض السفارات خارج المملكة.

وحينما أسس الملك عبد العزيز رحمه الله المبرة الملكية في أيام الحرب العالمية الثانية أُسندت إليه رئاسة هيئة هذه المبرة، وكانت هذه المبرة تقوم بتقديم الخبز للفقراء في الحجاز، وأذكر أنه قيل لجلالة الملك عبد العزيز، إن بعض من يتقدمون بطلب هذا الخبز ليسوا فقراء، فكان جواب جلالته لهم:(كل من مدَّ يده فهو فقير).

وعمل المغيربي في مجلس المعارف عضوًا، كما تولى رئاسة هذا المجلس بعض الوقت، وكذلك عمل في رئاسة قلم المطبوعات، وأسندت

ص: 458

إليه رئاسة الهيئة الملكية للنظر في قضايا المشاغبين، وحينما اختلفت الحكومة السعودية مع الحكومة المصرية ومنع المحمل المصري من الوصول إلى الحجاز، قامت الحكومة المصرية بإيقاف إرسال كسوة الكعبة المعظمة التي كانت تصنع بمصر من القرى الموقوفة على الحرمين الشريفين

(415)

حينما وقع ذلك أسست الحكومة السعودية هيئة المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين، وأُسندت إلى المغيربي عضوية هذه الهيئة ورئاستها، وفي أوائل عهد الملك سعود - رحمه ال له - عين المغيربي رئيسًا للجنة الاستيراد كما عمل عضوًا منتدبًا من مجلس الوزراء في هيئة مراقبة النقد.

وهكذا أسهم المغيربي بنشاط ملحوظ في الأعمال الكثيرة التي أسندت إليه، وكانت عفة يده إلى جانب الخبرة والمعرفة ميسما بارزا في جميع أدوار حياته، وآخر المهام التي مارسها المغيربي هو اختياره لرئاسة بعثة الشرف الملكية التي رافقت السيد كميل شمعون رئيس جمهورية لبنان للمملكة في أواخر عهد الملك عبد العزيز حيث كان الملك سعود يتولى معظم المهام الحكومية أثناء مرض الملك عبد العزيز رحمه الله.

وقد منح جلالة الملك عبد العزيز المغيرو رتبة وزير مفوض، كما حصل على وسام الكوماندز اللبناني بمناسبة هذه الزيارة.

‌المغيربي يتقاعد:

توفي جلالة الملك عبد العزيز - يرحمه الله -، وتعرَّض المغيربي

(415)

انظر تفصيل ذلك في "أعلام الحجاز"(ج 2): ص 87 - 96.

ص: 459

بعدها لمرض شديد اضطر على أثره للسفر إلى خارج المملكة للاستشفاء، ومنحته الدولة إجازة مفتوحة قضى معظمها في أوربا، وعاد إلى المملكة، فخيِّر بين الاستمرار في العمل الحكومي، أو الإِحالة إلى التقاعد بالراتب الكامل فاختار الثانية لأنه كان يشعر بالحاجة إلى مزيد من الراحة والابتعاد عن المسئوليات.

‌العمل في المجال الأهلي:

اختير المغيربي رئيسًا لمجلس إدارة الشركة العربية للسيارات، وكانت يومها الشركة الوحيدة التي تقوم بنقل الحجاج، كما تقوم بنقل البريد، وتؤمِّن طلبات الدولة من السيارات في جميع أنحاء المملكة.

وحينما أسس آل الجفالي أول شركة للكهرباء بمكة المكرمة اختير المغيربي عضوًا مؤسسا لشركة الكهرباء بمكة والطائف .. وأعيد انتخابه للعمل في هذه الشركات لعدة دورات.

‌المهمة العظمى:

تخلى المغيربي بعد سنوات من تقاعده عن الأعمال التي ارتبط بها في الشركات الأهلية، ورحل إلى مصر ليتفرغ لتعليم أبنائه وبناته.

كان حلم الرجل كما ذكرنا في مطلع الحديث عنه أن يتعلم الطب ليخدم بلاده في مجال هو أكبر مجالات الخدمة فيها في ذلك الزمان، إذ كان الأطباء السعوديون لا يصلون إلى تعداد أصابع اليد الواحدة

(416)

(416)

أعلام الحجاز (ج 1): ص 221 - 225.

ص: 460

وقد حالت الظروف بينه وبين هذه الأمنية فلما أنجب الأولاد والبنات كان هدفه الأعظم هو تعليمهم الطب ليتخرجوا أطباء وطبيبات، وكانت أغلى أمانيه أن يبنى لهم مستشفى يعملون فيه.

رتب الرجل أموره، وانتقل إلى القاهرة فألحق أبناءه بمدرسة منيل الروضة الخاصة التي أسسها السيدان ولي الدين أسعد، وعلي أسعد، ثم نقلهم إلى مدرسة فكتوريا بالمعادي، وأخيرا اشترى منزلًا بالاسكندرية ونقل أبناءه إلى كلية فكتوريا هناك، وكانت كلية فكتوريا من أرقى المدارس الإنجليزية الخاصة في مصر، يلتحق بها الأبناء بعد الآباء لما حازته من سمعة طيبة، ولما تهيئه شهادتها من الالتحاق بالجامعات الكبيرة في الخارج.

أقام المغيربى في الإسكندرية متفرغًا لتعليم أولاده وتربيتهم، فكان بثقافته الدينية خير مرشد لهم ومقوِّم، وكان بثقافته الواسعة خير رائد ومعلم، كان يصر على محادثتهم باللغة الإنجليزية ليضمن لهم إتقانها، وكان يراقب سيرهم في الدراسة لا عامًا بعد عام ولكن يومًا بعد يوم، وقد جنى الأولاد ثمار هذه العناية يانعة شهية كما قرَّت عين أبيهم بهم وقد تبوأوا المراكز العليا أطباء بارزين، فقد حصل الدكتور نزار أكبر أبناء المغيربي على الزمالة الأمريكية لأخصَّائي القلب بعد حصوله على الدكتوراه في الطب وقد عمل فترة طويلة مديرًا لمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض. وهو يعمل في الوقت الحاضر رئيس مجلس إدارة الاتحاد السعودي للطب الرياضي ومستشارًا في أمراض القلب.

وحصل ابنه الثاني الدكتور وائل على الزمالة الأمريكية في الجراحة

ص: 461

العامة وجراحة القلب، وهو يعمل الآن مديرًا لقسم القلب بمستشفى الملك فهد بجدة. ويقوم بعمليات القلب المفتوح للأطفال.

وحصل الدكتور زاهر على الزمالة الأمريكية في الأمراض الباطنية والقلب، وهو يعمل مدير عام الخدمات الطبية بالخطوط السعودية بجدة ومنتدبًا كمدير عام طبى في مستشفى الملك خالد للحرسى الوطنى بجدة.

أما بنات المغيربي فقد حصلت ابنته الكبرى الدكتورة جليلة على شهادة البكالوريوس في الجراحة، وهي تعمل في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة في قسم التحاليل الطبية.

كما حصلت ابنته الثانية الدكتورة رباب على شهادة الدكتوراه في تقويم الأسنان من جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعمل الآن كأستاذة مساعدة في كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.

وحصلت صغرى بناته بتول على بكالوريوس في العلوم من الولايات المتحدة، وهي تعمل الآن في قسم الخدمات الاجتماعية في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض.

لقد تحقق للرجل حلمه العظيم كأجل وأحسن ما تتحقق الأحلام، أولاد من كبار الأطباء يتسنمون مراكز طبية مرموقة، وبنات طبيبات يعملن في أشرف مجال هو صحة الإنسان، وإذا كانت الظروف قد حالت بين المغيربي وطموحه في بناء مستشفى لهم فإني أرى أنهم يعملون في المجال الأوسع في مستشفيات الدولة، وفي مختلف المرافق الطبية بين الرياض وجدة، وهكذا قرَّ المغيربي عينًا بما آتته تربيته العظيمة لأبنائه البررة من أطيب الثمرات.

ص: 462

‌بين المغربي والمغيربي:

بعض الناس يسألون وقد عرفوا صلة النسب بيني وبين المغيربي رحمه الله عن التفرقة في اللقب بين المغربي والمغيربى، والمغيربي هو ابن عم أبى، فوالدي هو: عبد الواحد بن عبد الوهاب بن محمد مغربى فتيح الحبَّاب ووالد المغيربي هو: عبد القادر بن محمد مغربي فتيح الحبَّاب فهما يجتمعان في الجد الأول، وكانت أسرتنا أبي وأعمامي وأجدادنا يعملون بتجارة الحبوب مع البادية الذين يملكون قوافل الجمال، ويتمونون بما يلزمهم ويلزم عشيرتهم بالحبوب من محلات الأسرة في مكة وجدة والمدينة، كنت أسمع الأعراب ينادون أبي وعمى بالمغربى بالتصغير، وكنت أعتبره تصغير تحبيب، وكان هذا أسلوب البدو في مخاطبتهم، وقد انتقل والد المغيربى الشيخ عبد القادر إلى المدينة المنورة وكان يعمل بنفس التجارة مع الأعراب فكانوا ينادونه بالمغيربي، فثبت اللقب ولم يجد ما يدعو إلى تغييره أو تصحيحه.

هذا ما كنت أعرفه ولكن المغيربي يذكر في ترجمته الذاتية تفسيرًا آخر، هو أن أهل المدينة المنورة لقبوا والده الشيخ عبد القادر بالمغيربي بدلًا من المغربي تمييزًا له عن مهاجري المغاربة في المدينة، وأضاف أن جلالة الملك عبد العزيز - يرحمه الله - كان ينادي المغيربي بلقبه دون أن يسبقه بالاسم فبقى هذا اللقب علمًا عليه.

‌فتيح لقب الأسرة:

ذكرت قبل أن الاسم الكامل لوالد المغيربي هو الشيخ عبد القادر محمد مغربي فتيح الحباب، والحباب هو اسم المهنة التي كانت تمتهنها

ص: 463

أسرتنا في جدة ومكة والمدينة، والصكوك القديمة التي وجدناها ناطقة بهذا الاسم، وقد احتفظ الجيل الأول بهذا الاسم كاملًا، ثم جاء بَعْدهم فاكتفى بعضهم بلقب المغربي، وأهمل اللقب الثاني فتيح، وأصبحت الشهرة للأسرة هي أسرة المغربى، ولكن ابن المغيربى الأكبر الدكتور نزار احتفظ باسم فتيح فقط فسمى نفسه الدكتور نزار فتيح، ومن الطرائف التي حدثت في هذا الباب، أن الدكتور نزار كان مديرا للمستشفى التخصصي في الرياض، ومن الأطباء الذين يشرفون على صحة المرحوم الملك خالد وقد توثقت صلته به بعدما تعرض لوعكة شديدة - كان الدكتور نزار يرأس الفريق الطبي الذي يشرف على علاجه منها وكان الملك خالد - يرحمه الله - يعرف والده محمد المغيربى، وحضر المغيربى إلى الرياض وذهب للسلام على الملك خالد - يرحمه الله - فسأل جلالته الدكتور نزار كيف أنت فتيح وأبوك المغيربى؟

‌آثار المغيربي الأدبية:

ألف المغيربى كتاب الوهابية الجديدة الذى أسلفنا الحديث عنه، كما ألف كتابًا آخر اسمه - الحقيقة بنت البحث - ولم يتيسر لى الاطلاع على هذين الكتابين، ولهذا فإني أكتفي الإِشارة إليهما فللرجل مشاركات أدبية وفكرية هي نتاج حياته الحافلة بالتجربة بعد الدراسة الطويلة.

‌وفاة المغيربى:

توفى المغيربى فجر يوم الأحد غرة جمادى الثانية عام 1409 هـ ودفن بالمدينة المنورة في بقيع الغرقد بعد صلاة العشاء عن عمر يناهز التسعين عامًا ونصف العام، بعد حياة حافلة، تسلق فيها ذروة المجد صغيرًا، وعصفت به أعاصير السياسة في شبابه وصدرًا من رجولته،

ص: 464

فتغرَّب عن وطنه طالب علم، ورجل سياسة، ثم عاد إليه عاملًا في مجال الخدمة العامة بكل ما أُوتي من قوة، وما وهبه الله من علم ومعرفة، ثم فرَّغ نفسه لتربية أبنائه وبناته، فكانوا أعلاما في مجالاتهم، بتوفيق من الله تعالى لهم، وبما بث فيهم والدهم من حسن الرعاية لهم والقوامة عليهم.

رحم الله الشيخ محمد عبد القادر المغيربي وجزاه خير الجزاء ..

* * *

ص: 465

‌مراجع الكتاب

‌أولا: الكتب

1 -

السيرة التبوية / اين هشام، الطبعة الثانية، دار الكنوز الأدبية.

2 -

البعث / محمد علي مغربي، مجموعة قصصية، الطبعة الثانية 1403 هـ.

3 -

الثورة العربية الكبرى / أمين سعيد، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر.

4 -

الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة / الشيخ حسن محمد المشاط، الطبعة الأولى 1406 هـ.

5 -

الجواهر المعدة في فضائل مدينة جدة / أحمد محمد الحضراوي، مخطوط.

6 -

الأعلام قاموس تراجم / خير الدين الزركلي، طبع دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة مايو 1980 م.

7 -

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة / محمد علي مغربي، الجزء الأول، الطبعة الثانية، مطابع دار العلم سنة 1405 هـ.

8 -

أعلام الحجاز في الفرن الرابع عشر للهجرة / محمد علي مغربي، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، مطابع دار العلم سنة 1404 هـ.

9 -

إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام / الشيخ عبد الله غازي المكي، مخطوط.

10 -

الفتوحات الإسلامية / السيد أحمد زيني دحلان، مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي بمصر.

11 -

اللطائف في تاريخ الطائف / أحمد محمد الحضراوي، مخطوط.

12 -

المماليك / الدكتور السيد الباز العريني، طبعة دار النهضة العربية سنة 1979 م.

ص: 467

13 -

المختصر من كتاب نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر / الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير، الطبعة الثانية، طبعة دار المعرفة 1406 هـ.

14 -

أئمة الفقه والسنة / عبد الرحمن الشرقاوي، إصدار دار اقرأ للنشر والتوزيع والطاعة سنة 1406 هـ.

15 -

بلاد ينبع / حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض.

16 -

تاريخ مكة / أحمد السباعى، الطبعة الرابعة، إصدار نادي مكة الثقافي 1399 هـ.

17 -

تاج تواريخ البشر وتتمة جميع السير / أحمد محمد الحضراوي، مخطوط.

18 -

تاريخ الدولة الأموية / محمد علي مغربي، الطبعة الأولى، مطابع دار المدني بالقاهرة سنة 1409 هـ.

19 -

تاريخ ينبع / عبد الكريم الخطيب.

20 -

تاريخ الدولة السعودية / أمين سعيد، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز بالرياض.

21 -

تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية / عثمان حافظ، شركة المدينة للطباعة والنشر بجدة، الطبعة الثانية 1398 هـ.

22 -

جزيرة العرب في القرن العشرين / حافظ وهبة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1365 هـ الطبعة الثانية.

23 -

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر / محمد المحبى، دار صادر بيروت.

24 -

خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام منذ أولهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم السيد أحمد زيني دحلان، إصدار الدار المتحدة للنشر، بيروت.

ص: 468

25 -

ديوان البيتي / السيد جعفر بن محمد البيتي، مخطوط.

26 -

سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة / عمر عبد الجبار، إصدار تهامة، الطبعة الثانية 1403 هـ.

27 -

صور وأفكار مطبوعات تهامة / عثمان حافظ، الطبعة الأولى سنة 1404 هـ.

28 -

صور وذكريات / عثمان حافظ، الكتاب الثاني، الطبعة الأولى مطابع دار العلم 1404 هـ.

29 -

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين / محمد علي مغربي، الطبعة الأولى، مطابع دار العلم سنة 1403 هـ.

30 -

عجائب الآثار في التراجم والأخبار / عبد الرحمن الجبرتي، إصدار دار الجيل، بيروت.

31 -

فصول من تاريخ المدينة المنورة، علي حافظ، الطبعة الثانية 1405 هـ.

32 -

لعنة هذا الزمن / محمد علي مغربي، الطبعة الأولى 1388 هـ.

33 -

مرآة الحرمين / اللواء إبراهيم عفت باشا، إصدار دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى.

34 -

ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة / محمد علي مغربي، الطبعة الثانية 1405 هـ.

35 -

موسوعة تاريخ مدينة جدة / عبد القدوس الأنصاري، الطبعة الثانية، مطابع الروضة بجدة 1401 هـ - 1980 م.

36 -

مكة المكرمة منذ مائة عام / مجموعات ك بنوك هير جرونج الرائدة.

37 -

نفحات من طيبة / علي حافظ، مطبوعات تهامة، الطبعة الأولى 1404 هـ.

ص: 469

‌ثانيا: الصحف والمجلات

38 -

مجلة العرب.

39 -

مجلة المنهل.

40 -

جريدة الندوة.

41 -

جريدة الشرق الأوسط.

* * *

ص: 470