المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أعلام الحِجَاز في القرن الرابع عشر والخَامِس عشر الهِجري تأليف محمَّد عَلي - أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة - جـ ٤

[محمد علي مغربي]

فهرس الكتاب

أعلام الحِجَاز في القرن الرابع عشر والخَامِس عشر الهِجري

تأليف

محمَّد عَلي مَغربي

ص: 1

ح محمد على مغربى

مغربى، محمد على.

أعلام الحجاز في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

ص؛ .. سم

ردمك 2 - 348 - 27 - 9960

1 -

الحجاز - تراجم 2 - السعودية - تاريخ

1.

العنوان.

ديوي 920.5312 - 2115/ 14

رقم الإيداع: 2115/ 14

ردمك 2 - 348 - 27 - 9960

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

الطبعة الأولى 1414 هـ

ص: 2

أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري

ص: 3

تصميم الغلاف: عباده الزهيري

مطابع دار البلاد - جدة - ت: 6700333

ص: 4

‌المقَدِّمَة

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، والشكر له شكرًا يليق بنعمائه وآلائه، وصلاة وسلامًا على خير خلقه وخاتم رسله وأنبيائه وبعد.

فهذا هو الجزء الرابع من أعلام الحجاز تحدثت فيه عن عشرة من أعلام الرجال كانوا ملء السمع والبصر، وقد فارقوا هذه الحياة الدنيا فانتهت حياتهم، وبقيت لنا آثارهم وذكرياتهم.

ولعل أطول هذه التراجم وأحفلها بالمادة التاريخية هي ترجمة الشيخ عبد الله غازي مؤلف الكتاب الموسوعة في تاريخ مكة والذي سمَّاه "إفادة الأنام في أخبار البلد الحرام" هذا الكتاب المخطوط في ست مجلدات كبيرة ضخمة، وقد استخلصت منه ما أعتبره إكمالًا لما سبق أن ورد في الأجزاء الماضية من أعلام الحجاز عن آثار مكة المكرمة والكعبة المشرفة والمسجد الحرام، وقد فصلَّت ذلك كله في مكانه ليكون القارئ ملمًا بهذا التاريخ الضخم عبر القرون، وبتلخيص كتاب إفادة الأنام للشيخ الغازي يكون هذا الجزء من أعلام الحجاز قد احتوى على حقائق تاريخية كثيرة عن الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، ومكة المكرمة وجبالها وعيونها ومعالمها، وبعض هذه الحقائق يرجع تاريخه إلى قرون سالفة كثيرة، ولا أريد الإطالة في الحديث عن كتاب الغازي في هذه المقدمة فقد تحدثت في الترجمة نفسها عن ذلك بإسهاب.

والأعلام الذين تحدثت عنهم في هذا الجزء فيهم العالم والمؤرخ والشاعر والتاجر والمصلح والأديب والناشر، وكل منهم كان علمًا في مجاله، وقد اجتهدت ما وسعني أن أقول فيهم كلمة حق مشيدًا بالحسنات مبتعدًا عن الشوائب والهِنات التي لا تخلو منها حياة الناس، والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينتفع القارئ بما في سيرة هؤلاء الرجال من القدوة الطيبة والعمل الصالح إنه وحده سميع مجيب.

محمد علي مغربي

ص: 7

السَّيد أحَمد الفَيْض آبَادِي مُؤسس مَدرَسة العُلوم الشَرعية بالمدِينَة المنورة

ص: 9

‌السَّيد أحمَد الفَيض آبادي

أسمر اللون، متوسط القامة، ينمُّ بريق عينيه عن ذكاءٍ وقَّادْ، قويَّ العزم، اشتعل رأسه شيْبًا قبل أن يبلغ المشيب، خفيف اللحية التي يختلط فيها البياض بالسواد، بسيط المظهر، يرتدي ثوبًا من القماش الأبيض، ويعتمر قلنسوة حجازية ملتصقة بالرأس

(1)

، تفيض نفسه بالرغبة في الإصلاح والمحبة للناس، مشغول الفكر بالعمل العظيم الذي نذر نفسه لتحقيقه رغم المصاعب والعقبات.

‌الاسم والنسب:

ولد السيد أحمد الفيض آبادي بقرية "بانكرمو" التابعة لفيض آباد بتاريخ 21 ربيع الثاني 1293 هـ، ويرجع نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، حيث هاجر جَدُّه الأعلى السيد نور الحق إلى الهند في عهد السلاطين الغزنويين واستقر بقرية "الله داربور" من أعمال فيض آباد التي استوطنتها أسرته جيلًا بعد جيل، حتى نزح منها حفيده حبيب الله إلى الحجاز، وحبيب الله هو والد السيد أحمد الفيض آبادي.

‌تعليمه:

التحق أحمد الفيض آبادي بمدرسة حكومية في قرية تانده، حيث كان والده مدرسًا بها، ونجح الطالب أحمد وكوفئ باعانة مالية شهرية من قبل القائمين بأمر المدرسة تشجيعًا له.

ثم التحق بمدرسة ديوبند الجامعة في سنة 1315 هـ حين بلوغه الثانية والعشرين من العمر، وبعد تخرجه بعام واحد هاجر والده من الهند إلى المدينة المنورة بأسرته وجاء الشاب أحمد الفيض آبادي إلى المدينة المنورة مع أسرته، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى الهند حيث بقي بها

(1)

2 - 17 - 18 السيد أحمد الفيض آبادي لعبد القدوس الأنصاري.

ص: 11

أربعة أعوام، وفي عودته إلى الهند اتصلت أسبابه بالسيد أحمد الكنكوهي طيلة عامي 21، 22، ولازمه ملازمة الظل وأفاد من هذه الصحبة رياضة النفس على الأخلاق الفاضلة.

كان السيد أحمد على علم باللغات فقد كان يتكلم اللغتين الفارسية والأردية إلى جانب إتقانه للغة العربية مع إلمام بمبادئ اللغتين التركية والانجليزية.

وكان يتقن الخط والكتابة، وكتابته بقلم النسخ آية في الجمال، وأجمل منها كتابته بقلم التعليق الفارسي

(1)

.

‌أسرته:

وينتمي السيد أحمد إلى أسرة اشتغلت بالعلم والتعليم فوالده عمل رئيسًا للمدِّرسين في مدرسة صفي بور بالهند، ثم تنقَّل في البلاد والأعمال حتى ألقى عصا التسيار ببلده - بانكرمو - فعين مدرسًا بإحدى مدارسها واقترن بابنة عمه وهو مقيم بها، وبها ولد أبناؤه صديق، وأحمد الفيض آبادي، وشقيقه حسين، ومن هذه البلدة هاجر إلى المدينة المنورة

(2)

.

وشقيقه السيد حسين أحمد، الذي وصل إلى المدينة برفقة والده كان مشتغلًا في بدء حياته بالعلم والتعليم.

كانت له حلقة بالمسجد النبوي الشريف وتتلمذ على يديه الكثيرون من علماء المدينة المنورة وشعرائها منهم. على سبيل المثال، الشيخ عبد الحفيظ كردي عضو المحكمة الكبرى بالمدينة المنورة وأحد شعرائها، وأحمد البساطي نائب القاضي، ثم أحد مدرسي القسم العالي بمدرسة العلوم الشرعية، ومنهم بشير الابراهيمي الزعيم الجزائري الذي وصل إلى المدينة مهاجرًا من بلده، بعد أن احتلته فرنسا وأصرتْ على اعتبار الجزائر اقليمًا فرنسيًا.

وحسين أحمد هو الذي نصح الابراهيمي الزعيم الجزائري وزميله عبد الحميد باديس بالعودة إلى بلدهما قائلا لهما ما معناه.

أن بقاءكما بالمدينة لن يفيد الجزائر بشيء، ولكن عودوا إلى بلادكم وابدأوا بتعليم القرآن الكريم في كل مكان يتيسر لكما ذلك، أن الفرنسيين لن يستطيعوا الأمر بمنع تعليم أطفال الجزائر القرآن الكريم.

وهذا القرآن هو الذي يفتح الباب للعمل لاستقلال الجزائر، وعاد الابراهيمي وعاد معه عبد الحميد باديس، وبدأ العمل لاستقلال الجزائر من كتاتيب تعليم الأطفال سور القرآن الكريم، وقد كتب الله لحسين أحمد العودة إلى الهند ليشارك في العمل على اخراج الانجليز من الهند فكان واحدًا من أبرز الرجال الذين عملوا لاستقلال الهند، ونعود بعد هذا الاستطراد لنتحدث عن حسين أحمد بالمدينة.

(1)

1 - 59 - 62 أحمد الفيض أبادي.

(2)

1 - 27 السيد أحمد الفيض أبادي لعبد القدوس الأنصاري.

ص: 12

ظل حسين أحمد مقيمًا بالمدينة يلقي الدروس على تلاميذه بالمسجد النبوي الشريف إلى أن نشبت الحرب العالمية الأولى، فسافر إلى مكة المكرمة والطائف، وبعد أن قامت الثورة على الحكومة العثمانية طُلب منه أن يفتي بوجوب الخروج على الدولة، ولم يكن يرى ذلك فامتنع فنُفي إلى جزيرة مالطة ومكث بها أن أن انتهت الحرب العالمية وأطلق سراحه فعاد إلى الهند، وعمل بالنصيحة التي نصح بها الابراهيمي وباديس، فعاد إلى الهند ليبدأ جهاده فيها، رائدًا ينشر العلم، ومصلحًا يوقظ الهمم الخامدة، داعيًا إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، فهما السبيل إلى رفعة الأمة لتخلع عن عاتقها نير الاستعباد وكان الرجل يتقن اللغتين العربية والأردية كما رزق موهبة الخطابة والفصاحة، فكان لذلك تأثيره القوي في السامعين.

وبعد كتابة ما تقدم قرأت للأستاذ محمد حسين زيدان في سبب نفي حسين أحمد إلى مالطة ما يلي:

والصحيح أنه جمع أموالًا تبلغ أكثر من مليون روبية فذهب بها إلى الطائف عونًا للباشا التركي ضد موقف الحسين بن علي، فحكومة الشريف هي التي سلمته للانجليز فنفوه إلى مالطه

(1)

.

أقول: إنني شخصيًا أستبعد صحة هذه الرواية التي ذكرها الزيدان ولم يذكر مصادره فيها، فالزمن الذي قام فيه الحسين بن علي بالثورة على الأتراك زمن الحرب العالمية الأولى، فكيف تمكن حسين أحمد وهو بالمدينة أن يجمع المليون روبية ويذهب بها إلى الطائف ليسلمها للقائد التركي هناك وأهل المدينة ليس لديهم ما يكفيهم وحجاج الهند بينهم وبين الوصول إلى المدينة الحرب العالمية.؟

أخشى أن يكون الخبر مكذوبًا أو مبالغًا فيه.

اشتغل حسين أحمد مدرسًا بالجامعة التي تخرج منها فشغل منصب مشيخة علم الحديث النبوي، كما عمل نائبًا لرئيس جمعية العلماء في دهلي.

وقدم إلى المدينة زائرًا سنة 1358 هـ وألقى محاضرة قيِّمة في مدرسة العلوم الشرعية التي أسسها أخوه السيد أحمد، فكانت محاضرة جامعة تحدَّث فيها عن المجتمع الإسلامي، ارتجلها باللغة العربية الفصحى، فكانت آيةً في الاستيعاب والدقة، والملاحظات الشاملة، وقد نشرت هذه الحاضرة في مجلة المنهل في أعداد متسلسلة

(2)

.

وأخوه الثاني جميل أحمد، التحق بالمكتب الاعدادي التركي بالمدينة المنورة، ومن هذا المكتب أوفد إلى الاستانة للالتحاق بالمدارس العليا بها، ولكن المنيَّة وافته وهو في ذروة شبابه فتوفي بالمدينة قبل اكمال دراسته العليا.

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 43

(2)

18 - 20 السيد أحمد الفيض آبادي

ص: 13

وأخوه الرابع محمود أحمد، التحق بالمكتب الإعدادي في المدينة المنورة، وتخرج منه عام 1235 هـ والتحق كاتبًا بالمحكمة الشرعية بالمدينة، وتدرج في وظائفها حتى أصبح رئيسًا لكتاب المحكمة في العهد الهاشمي، وفي العهد السعودي استمر في عمله بالمحكمة ثم انتدب قاضيًا لمدينة جدة، ومارس فيها وظيفة القضاء عامين، ثم عاد إلى المدينة بعد أن اعتذر عن البقاء في جدة، واشتغل بالأعمال التجارية إلى جانب الأعمال الحكومية التي أسندت إليه، ومنها كتابة عدل المدينة المنورة، وعضوية المجلس الاداري، ورئاسة مجلس الأوقاف ورئاسة المجلس البلدي

(1)

.

‌تفكيره في تأسيس المدرسة:

في هذه البيئة العلمية نشأ أحمد الفيض آبادي ودرج، فلما عاد من الهند واستقر بالمدينة المنورة، رأى أن هذه البلدة الطيبة في حاجة إلى مدرسة تنشر العلم بطريقة منظمة، كانت الدروس الدينية وحلقات العلم موجودة بالمسجد النبوي الشريف، ولكن المدرسة التي فكَّر فيها أحمد الفيض آبادي نمطًا آخر يجمع بين ما يُلقى في حلقات المسجد النبوي الشريف من علوم الدين، وما يحتاج إليه الناس في حياتهم من أسباب المعاش، يقول أحمد الفيض آبادي عن ذلك:

منذ وصلت إلى المدينة المنورة مهاجرًا إليها مع الوالد عام 1316 هجرية تعلَّق بذهني مشروع انشاء مدرسة لتعليم أبناء هذه البلدة المطهرة ما يعيد إليهم مجد أسلافهم في ناحيتي العلم والعمل، وظلَّت هذه الأمنية الغالية عالقة بذهني إلى أن قدم أحد معارفنا من أثرياء الهند إلى المدينة المنورة سنة 1334 هـ، فعرضت عليه تفاصيل مشروعي فأبدى استعداده للتبرع بمبلغ سبعة عشر ألف روبية للمشروع إذا شرعت فيه.

لذلك تقدَّم أحمد الفيض آبادي إلى الحكومة التركية بطلب الأذن بتأسيس المدرسة وذكر الوعد الذي تلقاه من الثريِّ الهندي بالمبلغ الكبير الذي رصده لهذا المشروع.

كانت الحكومة التركية قد قرَّرت إنشاء جامعة اسلامية بالمدينة المنورة تحمل اسم صلاح الدين الأيوبي يلتحق بها المتخرجون من المدرسة الاعدادية الوحيدة بالمدينة والتي تأسست عام 1318 هـ، ويرغبون في مواصلة دراستهم العالية، وكانت الدولة العثمانية تبعث طلاب الدراسات العليا إلى القدس والأستانة.

شرعت الدولة العثمانية في بناء الكلية عام 1332، وتم تشييد الطابق السفلي منها بالحجارة السود المنحوتة التي تبنى بها المباني العظيمة في المدينة المنورة.

(1)

20/ 21 السيد أحمد الفيض آبادي.

ص: 14

وحينما تقدَّم أحمد الفيض آبادي بطلبه الترخيص ببناء المدرسة قوبل بالرفض وطلب منه تقديم تبرع الثريِّ الهندي إلى مشروع الجامعة الإسلامية التي تبنيها الدولة.

وكان هذا الرفض ضربة لآمال أحمد الفيض آبادي تلقَّاها على مضض وهو يترقب ما تأتي به الأيام.

أما مشروع الدولة العثمانية فكان وقوع الحرب العالمية الأولى من الأسباب التي قضت عليه ويقول الدكتور محمد العيد الخطروي أن الطابق السفلي من مدرسة طيبة الثانوية في الوقت الحاضر كان هو النواة لبناء الجامعة المذكورة التي بدئ في تأسيسها

(1)

.

جاءت الحرب العالمية الأولى وهاجر الناس من المدينة وهاجر أحمد الفيض آبادي مع من هاجر من أهلها إلى أدرنة في تركيا، ثم عاد إليها مع من عاد من أهلها سنة 1337 وما زالت فكرة المدرسة تلح على خيال الرجل وتستولي على أفكاره.

وفي سنة 1339 قدم للحج أحد أغنياء الهند وكانت له معرفة سابقة بأحمد الفيض آبادي، وأتيحت له الفرصة ليتحدث إلى هذا الثريِّ عن آماله في إنشاء المدرسة بالمدينة المنورة ووعده الرجل خيرًا، وبعد عودته إلى الهند بعث إلى أحمد الفيض آبادي أربعين جنيهًا ذهبًا كانت هي النواة الأولى للعمل في مشروع المدرسة العتيد.

‌البدء بالمشروع:

لم يكن أحمد الفيض آبادي من ذوي اليسار، ولكنه كان عالي الهمة حسن التدبير وهداه تفكيره أن يبدأ بمشروع المدرسة صغيرًا ليكبر مع الأيام.

اشترى أرضًا بجوار المسجد النبوي وابتدأ البناء فيها مستعينًا بالمبلغ الذي تلقاه من الثري الهندي، وبما يصل إليه من تبرعات بعد ذلك، وقرر التوسع في البناء كلما توفرت له الموارد وهي في البداية إنما تأتي من تبرعات أثرياء الهند الذين يفدون للحج والزيارة في كل عام، وكانت البداية سنة 1345 للهجرة.

ولم يكن المبلغ الذي تبرع به الثريِّ الهندي كافٍ للقيام بالمشروع فاقترض ثمن الأرض التي اختارها بجوار المسجد النبوي الشريف، اقترض قيمة هذه الأرض من الشيخ عبد الجبار الدهلوي من كبار تجار مكة المكرمة، ومن أخيه السيد محمود أحمد الذي تحدثنا عنه آنفًا

(2)

.

وفي سنة 1341 كمل البناء الابتدائي للمدرسة، وقام أحمد الفيض آبادي باختيار المدرسين الذين يقومون بالتعليم فيها، واختار للعمل معه الشيخ محمد الطيب الأنصاري، وكان له تلاميذ كثيرون يتلقون العلم على يديه في المسجد النبوي الشريف ليل نهار.

(1)

8/ 9 مدرسة العلوم الشرعية للخطراوي.

(2)

مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة.

ص: 15

فكان هؤلاء التلاميذ مع من لحق بهم هم النواة الأولى لطلاب المدرسة، وقد بقي الكثيرون منهم حتى تخرجوا من المدرسة وعملوا فيها

(1)

.

بدأت الدراسة باثني عشر مدرسًا يرأسهم الشيخ محمد الطيب الأنصاري، وكان البرنامج الذي وضعه مؤسس المدرسة يجمع بين العلم والعمل، فإلى جانب العلوم الدينية التي تلقى على التلاميذ، كانت هناك الفنون الحديثة التي تفتح عقول الطلاب وتستهوي أفكارهم.

ولما كانت موارد المدرسة تقوم على التبرعات وخاصة من أثرياء الهند، فقد أحدث المؤسس قسمًا للتعليم الصناعي ليكون وارد هذا القسم رافدًا من روافد المدرسة لمواجهة مصر وفاتها.

‌القسم الصناعي:

هذا القسم الصناعي كان يقوم على تعليم الطلاب بعض الحرف المهنية مثل مزاولة الخياطة الآلية، وزخرفة الأخشاب ونجارتها، ونسيج السجاجيد المحلاة بالزخارف والصور، وعمل لوحات جميلة مكتوبة من الخشب المزخرف وصناعة الأدوات المنزلية ذات النقوش المتموجة، وتطور القسم الصناعي مع الأيام فصار يقوم بصنع الكراسي والمناضد والمكاتب، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية، وانقطع استيراد الآلات من الخارج تطور هذا القسم فأصبح يسدُّ حاجة المدينة وغيرها من قطع المكائن التي تحتاجها الزراعة في المدينة، فالمدينة بلد زراعي، وقد تعرفت على المكننة في ري المزارع بها، فلما نشبت الحرب العالمية الثانية انقطع ما كان يرد إليها مما تحتاجه من قطع الغيار لهذه المكائن فكانت مخارط مدرسة العلوم الشرعية تقوم بصنع القطع المطلوبة لمن يحتاجها، فكان ينتج البساتم والبنوز وطلمبات رفع الماء.

وفاضت شهرة القسم الصناعي بما يخرجه من آلات متقنة فكانت الإدارات الحكومية تطلب منه ما تحتاج إليه، كما كان يقدِّم هذه القطع للمكائن الزراعية التي يملكها الأمراء والمواطنون في الرياض وعنيزة وحائل وغيرها من مدن المملكة علاوة على سدِّ حاجة المدينة المنورة منها.

ومن هذا القسم الصناعي تخرج المهندسون الذين عملوا في تسيير الآلات اللاسلكية للدولة، فكان منهم المهندسون والمساعدون

(2)

.

هذا القسم الصناعي كما قلنا كان رافدًا من روافد الصرف على المدرسة وقد أدرك أحمد الفيض آبادي بما وهبه الله من الحكمة وبعد النظر أن أمور الحياة لا تستقيم إلا على الموازنة بين

(1)

35/ 38 أحمد الفيض آبادي.

(2)

48/ 50 أحمد الفيض آبادي.

ص: 16

الأمور فالمدرسة التي قامت على تبرع المحسنين تفتقر إلى مورد ثابت، وهي تكبر مع الأيام، لهذا فقد قام بإحداث هذا القسم الصناعي ليسدَّ به حاجة المدرسة لما تحتاج إليه من نقص في إيرادها، ولتخرج في نفس الوقت صناعًا يتقنون بعض المهن التي تحتاج إليها البلاد، وهذا في حد ذاته كسب للطلاب وللبلد الذي ينتمون إليه.

ويقوم فريق من المتخرجين من القسم الصناعي بإدارة مطبعة المدرسة وتسيير مطحنتها اللتان تساعدان على تنمية واردات المدرسة لمواجهة النفقات المستمرة في الاتساع

(1)

.

نستطيع أن نقول بحق أن أحمد الفيض آبادي كان بما أحدثه في مدرسة العلوم الشرعية من الجمع بين علوم الدنيا والدين رائدًا من الرواد، كان رائدًا في ادخال التعليم المهني ضمن برامج مدرسته الرائدة، وقد أثبتت الأيام أن هذا القسم الصناعي أحدث أثره الطيب حينما نشبت الحرب العالمية الثانية، واحتاجت البلاد إلى انتاجه لتسيير الآلات التي كادت أن تتعطل عن العمل والدوران.

‌المكائد تثور:

يتعرض المصلحون في كل زمان ومكان لمكائد الكائدين وحسد الحاسدين، وبقدر إخلاصهم وثباتهم يهئ الله تعالى لهم أسباب النجاح والظفر.

قامت المدرسة في رحاب المدينة المنورة، وانتظم فيها الطلاب وافتتح فيها القسم الصناعي وبدأت تؤتي أكلها الطيب، وأخذ الناس يشعرون بما تقدمه هذه المؤسسة بقسميها العلمي والصناعي من فائدة لسكان طيبة الطيبة، فأثار هذا النجاح حقد بعض الحاقدين الذين لا يخلو منهم مجتمع أو مكان.

رأوا أن تبرعات الأثرياء الهنود تأتي إلى مؤسس المدرسة فصوَّرت لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أن ينسبوا إليه أنه اتخذ هذه المدرسة أداة لجمع المال، مع أن التبرعات لم تكن تكفي لمواجهة مصاريف المدرسة التي تتصاعد عامًا بعد عام.

أن المدرسة تبدأ صغيرة بفصل واحد ثم تزيد فصولها عامًا بعد عام.

ورأوا أن القسم الصناعي يُدر على المدرسة بعض المال لتغطية مصروفاتها فزاد ذلك من غيظهم ومكائدهم.

كان العهد هو عهد الحكومة الهاشمية، وكان الخلاف بين هذا العهد وبين المذهب الوهابي الذي تمثله دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والذي يراه آل سعود معروفًا للكافة.

ومن هذه الثغرة دخل المغرضون فاتهموا المدرسة أنها تعلم طلبتها المذهب الوهابي يقول الدكتور محمد العيد الخطراوي:

(1)

49/ 50 أحمد الفيض آبادي.

ص: 17

استغل الحاقدون هذا الوضع، وأشاعوا أن مؤسس المدرسة السيد أحمد رحمه الله وهابي وأن المدرسة إنما أسست لخدمة المذهب الوهابي، متخذين من قيام المدرسة بتدريس كتب الحديث وشروحاتها البعيدة عن الخرافة، وتدريس الفقه وأصوله أصبعًا تشير إلى وهابيته، علمًا بأن الوهابية لقب أطلقه أعداء الدعوة السلفية على أتباع الدعوة للنيل منها، واظهارها بمظهر الابتداع والمروق، وإنما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رجلًا حنبليِّ المذهب، دعا الناس إلى تصحيح عقائدهم، وتطهيرها مما علق بها من خرافات وأضاليل، ولكن الموازين عند هؤلاء وأمثالهم تنقلب، لتصبح الاستقامة على منهج السلف جرمًا يعاقب عليه، وتهمة توجه لتقويض الناس والمؤسسات.

‌إغلاق المدرسة:

فعلت الوشايات والمكائد فعلها فقام المسؤولون الحكوميون عن التعليم بالمدينة المنورة بالتفتيش على المدرسة والتأكد مما نسب إليها والى صاحبها، وبعد محاورات مريرة مع السيد أحمد والمدرسين أمروا باغلاق المدرسة وتسريح طلابها وموظفيها.

أغلقت المدرسة أبوابها، ولكن المؤسس والمدرسين انتقلوا بطلابهم إلى رحاب المسجد النبوي الشريف فباشروا تدريس الطلاب في حلقات في رحاب المسجد الشريف، واتخذوا العلنية شعارًا لهم ليرى الناس ويسمعوا ما يلقى في هذه الحلقات من دروس واستمروا يمارسون عملهم هذا بضعة أسابيع كانت كافية لتفنيد التهم الكاذبة والوشايات المغرضة المدسوسة فعادت المدرسة إلى مقرها في منتصف عام 1343 هـ.

وتلقى مؤسس المدرسة الموافقة من إمارة المدينة بالترخيص للمدرسة بالعمل فعادت إلى مقرها في شهر شوال من عام 1343

(1)

.

وهكذا انتصر الخير على الشر، وأبطل الله كيد الكائدين ومكر الماكرين، وعادت المدرسة لمزاولة عملها الطيب دون حذر أو مخاوف.

‌معاونة الطلاب:

من المشاكل التي واجهت مدرسة العلوم الشرعية، أو على الأصح التي واجهت مؤسسها السيد أحمد الفيض آبادي نشوب الحرب العالمية الأولى، واشتغال الناس بتدبير أمور معاشهم، وانصراف الآباء عن تعليم أولادهم، ولترغيب الآباء في تعليم أولادهم، عمد السيد أحمد إلى تخصيص مكافآت شهرية للمتفوقين من الطلاب، وخصَّ الفقراء منهم بمكافآت أسبوعية أو يومية مراعيًا حالة الآباء المادية، واحتياجهم إلى تشغيل أبنائهم والإفادة منهم.

(1)

19/ 21 مدرسه العلوم الشرعية و 38/ 42 أحمد الفيض آبادي.

ص: 18

هذا الأسلوب نفسه عمد إليه الحاج محمد علي زينل بالنسبة لطلاب القسم العلمي، كانت الدراسة في مدرسة الفلاح ست سنوات، ثم أنشأت المدرسة القسم العلمي ومدته ثلاث سنوات، يتخرج منها الطالب بعد تقوية معلوماته في العلوم الدينية والعربية، ورأى كثير من آباء الطلاب أن السنوات الست الأولى كافية، فحينما يتخرج منها الطالب يستطيع أن يعمل كاتبًا في البيوت التجارية، أو موظفًا في دوائر الحكومة، وهذه الوظيفة حكومية أو أهلية تتيح للأسرة الاستفادة من عمل أبنائها، ورغب مؤسس الفلاح أن يستبقي المتفوقين من الطلاب للدراسة في القسم العلمي، فعمد إلى ترتيب مرتب شهري لآباء الطلبة المتفوقين حتى يسمحوا لأولادهم بالاستمرار في هذه الدراسة العلمية المتخصصة، وقد أشرت إلى ذلك في ترجمتي للحاج محمد علي زنيل مؤسس الفلاح في الجزء الأول من أعلام الحجاز

(1)

.

هذه السياسة التي انتهجها السيد أحمد الفيض آبادي في مدرسة العلوم الشرعية حققت الإقبال من قبل الطلاب وآبائهم على المدرسة، فأقبلوا على الدراسة فيها زرافات ووحدانا

(2)

.

وهذا التشجيع على طلب العلم من مؤسس مدرسة العلوم الشرعية مع قلة الموارد في المدرسة واعتمادها على التبرعات وعلى واردات القسم الصناعي بها يدل على أن فكرة المدرسة احتلت من قلبه وفكره مكانًا عظيمًا.

وهذا البذل مع الإقلال، لا يجود به إلا العظماء من الرجال.

‌المتخرجون:

ثم افتتاح المدرسة في سنة 1340 للهجرة كما ذكرنا، وانتظمت الدراسة وبدأت المدرسة تؤتي ثمارها يانعة طيبة، ونورد فيما يلي أعداد المتخرجين منها في الأقسام المختلفة من بدء افتتاح المدرسة إلى نهاية العام الدراسي 1358 - 1359 هـ.

عدد المتخرجين

187 من شعبة القرآن الكريم.

67 الحاصلون على الشهادة الابتدائية.

30 الحاصلون على شهادة العلوم العربية العالية

(3)

.

____

284

(1)

أعلام الحجاز ج 1 ص 322/ 323.

(2)

أحمد الفيض آبادي 83/ 84.

(3)

انظر أسماء المتخرجين من الشعب المختلفة في مدرسة العلوم الشرعية صفحة 49/ 64.

ص: 19

هذه هي أعداد المتخرجين في السنوات الثماني عشر التي ذكرناها، فإذا قرأنا أسماء هؤلاء المتخرجين وجدنا بينهم رجالًا برزوا في مختلف مجالات الحياة العامة، وتسلم بعضهم أعلى المراكز نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

- الشيخ محمد علي الحركان: الذي تولى القضاء بالمدينة المنورة ثم تولى رئاسة المحكمة الشرعية الكبرى بجدة، وكان أول وزير للعدل في المملكة، ثم اختير أمينًا لرابطة العالم الإسلامي إلى جانب عضويته في هيئة كبار العلماء في المملكة

(1)

.

- الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: المؤرخ والمؤلف والأديب الغني عن التعريف مؤسس مجلة المنهل وصاحب التآليف الكثيرة المشهورة، والذي عمل مدرسًا بمدرسة العلوم الشرعية ثم عمل في ديوان أمارة المدينة المنورة ثم انتقل إلى مكة المكرمة رئيسًا لتحرير جريدة أم القرى، ثم نقل إلى ديوان سمو نائب الملك بالحجاز، ثم تقلد وظائف كثيرة في مجلس الوكلاء بعد تأسيسه

(2)

.

- الأستاذ محمد عمر توفيق الوزير والكاتب الشهير وصاحب المؤلفات المعروفة، والمقالات المستفيضة في مختلف الصحف، تقلب في وظائف عديدة وأسند إليه جلالة المرحوم الملك فيصل وزارة المواصلات، ثم ضم إليها وزارة الحج والأوقاف

(3)

.

- الأستاذ محمد الحافظ من أبرز قضاة المحكمة الشرعية الكبرى بالمدينة المنورة، عمل مدرسًا بمدرسة العلوم الشرعية وتتلمذ على يديه الكثيرون من أدبائها وعلمائها كما عمل مدرسًا بالمسجد النبوي الشريف، وشارك في النشاط الأدبي والعلمي بالمدينة المنورة

(4)

.

- الأستاذ عبد العزيز الربيع: الذي قضى حياته في التربية والتعليم مديرًا لبعض المدارس في المدنية إلى أن تولى مديرية التعليم بها وله مؤلفات ومساهمات أدبية كثيرة معروفة

(5)

.

- الأستاذ محمد هاشم رشيد: شاعر المدينة المنورة ورئيس ناديها الأدبي وصاحب الدواوين الشعرية الكثيرة، والنشاطات الأدبية العديدة

(6)

.

ونكتفي بهذا القدر من أعيان المتخرجين، ومن رغب الاستزادة فليرجع إلى كتاب الدكتور محمد العيد الخطراوي الذي أورد أسماء المتخرجين في مدرسة العلوم الشرعية من أقسامها المختلفة وحسب سنوات تخرجهم.

(1)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 588/ 590.

(2)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 591/ 593.

(3)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 590.

(4)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 594/ 596.

(5)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 597/ 599.

(6)

انظر ترجمته في مدرسة العلوم الشرعية ص 600/ 601.

ص: 20

أن متعلمًا واحدًا في أسرة هو كسب عظيم لها، وكم رأينا آباءً حرموا من نعمة العلم، هبط الجهل بهم، ثم ظهر من أبناء هذا الرجل عالم واحد ارتفع بأبويه فبرزت أسماؤهم، وتحسنت أحوالهم فاغتنوا بعد فقر، وإذا كان هذا شأن العلم والمتعلمين في الأسرة الواحدة فإن شأنه بالأمة أعظم.

لهذا كان هؤلاء المتخرجون من مدرسة العلوم الشرعية، وأمثالها من المدارس كسبًا عظيمًا لأهليهم ولبلادهم.

وإذا علمنا أن مؤسس مدرسة العلوم الشرعية إنما أسسها في العهد العثماني الذي كان التعليم المنظم فيه قليلًا، والجهل فيه فاشيًا أدركنا مدى أهمية هذا العمل، وبُعد همة المؤسس يرحمه الله، ثلاثة رجال عظماء ظهروا في هذه البلاد المباركة في ثلاث مدن مختلفة من مدن الحجاز، أدركوا فداحة ما تعانيه الأمة من الجهالة والفقر، فأنشأوا المدارس، كل في البلد الذي ظهر فيه، بدأوا صغارًا، كما تبدأ الزرعة بغراس صغيرة، حتى كبرت مع الأيام فآتت أكلها أشجارًا عالية تحفل بالثمر الجني وتمتد ظلالها الوارفة، فيفيء إليها الناس آمنين مطمئنين.

أولهم الشيخ رحمه الله العثماني مؤسس المدرسة الصولتية بمكة الذي أسس مدرسته بمكة سنة 1285 للهجرة

(1)

.

وثانيهم الحاج محمد علي زينل رضا مؤسس مدارس الفلاح بدأها بافتتاح مدرسة الفلاح بجدة سنة 1323، ثم بافتتاح مدرسة الفلاح بمكة المكرمة سنة 1330، واتبعهما بمدرستي الفلاح في دبي والبحرين سنة 1347، ومدرسة الفلاح في بومباي سنة 1350

(2)

.

وثالثهم هو السيد أحمد الفيض آبادي الذي خصصنا له هذه الترجمة مؤسس مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة سنة 1340 للهجرة.

كان الدافع للرجال الثلاثة واحدًا، هو الرغبة الجامحة في محو الجهالة، ونشر العلم والمعرفة.

بدأوا صغارًا ثم كبروا مع الأيام.

بعث الله الأميرة الهندية صولت النساء لأداء فريضة الحج، واتصلت أسباب الشيخ رحمة الله العثماني بها حينما قدمت إلى مكة، وقد أحضرت معها مبلغًا من المال لتشيد به رباطًا باسمها فأقنعها أن مكة تحتاج إلى مدرسة أكثر من حاجتها إلى رباط، فتحول مشروع الرباط إلى مدرسة سماها الشيخ رحمه الله المدرسة الصولتية نسبة إلى هذه الأميرة الخيِّرة الكريمة.

(1)

انظر ترجمته في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 286/ 331.

(2)

انظر ترجمته في الجزء الأول من أعلام الحجاز ص 317/ 330.

ص: 21

وبدأ محمد علي زينل مدرسته في مقعد بأحد المنازل بمدينة جدة، ثم تبرعت زوجته بمجوهراتها وحليها ليشتري المبنى الذي حوله إلى مدرسة الفلاح بجدة، وهاجر إلى الهند ليعمل بالتجارة حيث يتوفر له المال للصرف على المدرسة ففتح الله له أبواب الرزق، وعمل في تجارة اللؤلؤ حتى أصبح ملك اللؤلؤ في العالم، ثم ظهر اللؤلؤ الصناعي وانهارت أسعار اللؤلؤ الأصلي، ولكن مدارس الفلاح بقيت، فقد حلَّت الأمة كلها محل الرجل الذي أنفق على مدارس الفلاح طيلة أربعين عامًا.

واقترض أحمد الفيض آبادي من أخيه ومن أحد تجار مكة قيمة الأرض التي بنى بها مدرسته بجوار المسجد النبوي الشريف وبدأت المدرسة صغيرة حتى أصبحت صرحًا شامخًا بمبناها الإسلامي الطراز.

وهكذا بارك الله في أعمال الرجال الثلاثة الذين وهبوا حياتهم للعلم فتخرج من مدارسهم الأجيال الذين أمسكوا زمام الأمور في البلاد، فكان منهم العلماء والوزراء، والقضاة والمدرسون والكُتَّاب، والذين عملوا في مختلف مجالات الحياة فأفادوا واستفادوا رحمهم الله تعالى وجزاهم أفضل ما يجزي به عباده العاملين والمصلحين.

‌وفاة السيد أحمد الفيض آبادي:

توفي السيد أحمد الفيض آبادي عصر يوم العاشر من شوال سنة 1358 للهجرة عن عمر يناهز الخمسة والستين سنة، وكان قد أصيب بالمرض منذ وقت مضى ولكنه لم يلزم سريره إلا بعد اشتداد المرض عليه، وكان يشكو من ضغط الدم

(1)

.

توفي بعد أن قرت عينه بنجاح المشروع العظيم الذي كرَّس حياته له فمدرسة العلوم الشرعية التي بدأت صغيرة صارت صرحًا شامخًا يبلغ تعداد طلابها الستمائة والمتخرجون منها يشاركون في الحياة العامة عاملين في مختلف المجالات، والمبنى الصغير تحول إلى عمارة ضخمة على الطراز الأندلسي بجوار المسجد النبوي الشريف، تستوقف الأنظار بجمالها ومتانتها.

والقسم الصناعي فيها تطور وكبر وعظمت منافعه في البلد الطيب المقدس.

‌حبيب أحمد يخلف عمه:

أحسَّ السيد أحمد الفيض آبادي قبل أن يدركه المرض بضرورة وجود من يخلفه على رعاية المدرسة بعد وفاته، والموت حق على العباد وكان الشاب حبيب أحمد بن أخيه السيد محمود أحمد طالبًا من طلاب مدرسة العلوم الشرعية، ظهرت بوادر نجابته منذ أن كان ناشئًا، فحفظ

(1)

59/ 62 أحمد الفيض آبادي.

ص: 22

القرآن الكريم في سنة واحدة

(1)

وواصل دراسته حتى تخرج من القسم العالي سنة 1358، وهو ابن عشرين سنة.

ورأى عمه السيد أحمد أن ابن أخيه حبيب هو خير من يخلفه في إدارة المدرسة ورعايتها فأنابه عنه في إدارة المدرسة وأكَّد هذه الإنابة بصك شرعي منحه فيه التصرف المطلق في أمورها بما يراه مناسبًا لإدارتها واستمرارها فتولى إدارة المدرسة بعد وفاة مؤسسها، فأتم العمارة التي بدأها المؤسس، وعمل على تطوير الأقسام الصناعية بها بتزويدها بالآلات الحديثة، وحينما أزيل مبنى المدرسة وأدخل في توسعة الحرم النبوي الشريف، أقدم على شراء أرض قريبة من المسجد وشيد فيها المبنى الجديد للمدرسة وهو من أجمل المباني في المدينة المنورة، التي أصبحت تسير في برامجها حسب منهج وزارة المعارف، ولا تزال المدرسة تمارس مهمتها العظيمة في البلدة المقدسة وقد بلغ تعداد طلابها سنة 1415 هـ ألفًا وثلاثمائة طالب

(2)

.

رحم الله السيد أحمد الفيض آبادي وجزاه خير الجزاء بما بذل من جهد في نشر العلم في مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ووفق الله السيد حبيب لإكمال العمل العظيم الذي بدأه المؤسس والذي يقوم عليه من بعده خير قيام.

(1)

390/ 391 مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة.

(2)

390/ 401 مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة.

ص: 23

أحمَد محمَّد جَمَال

ص: 25

أحمد محمد جمال

ص: 26

‌أحمَد محمَّد جَمال

جميل الصورة. أبيض البشرة، أقنى الأنف، خفيف اللحية والشارب، حليق العارضين، معتدل القامة والبنية، مشرق الوجه، تلوح في وجهه علامات الذكاء والهيبة. ولد أحمد محمد جمال بمكة المكرمة سنة 1343 للهجرة، وتلقى دراسته الابتدائية بالمدرسة العزيزية بحي الشامية، وتخرج منها سنة 1358 هـ، والتحق بالمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة.

ولكنه ترك الدراسة بالمعهد بعد عام واحد من التحاقه به، حيث عمل موظفًا بالمحكمة الشرعية بمكة، ويبدو أن ظروف عائلته اضطرته إلى العمل، وكانت أول وظيفة أسندت إليه بدائرة رئاسة القضاء التي كان يتولاها الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ في سنة 1359 هـ، وبعد بضع سنين انتقل إلى دائرة كاتب العدل بمكة المكرمة التي كان يرأسها الشيخ عرابي سجيني.

ولكن أحمد جمال لم ينقطع عن العلم والتعليم، فقد واظب على الدراسة في حلقات السيد علوي مالكي بالمسجد الحرام، وغيره من علماء مكة المكرمة الذين تنتظم الدراسة في حلقاتهم في أوقات معينة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، وبين المغرب والعشاء.

وحُبب إليه القرآن الكريم فاجتهد في حفظه حتى أتمَّه، وأكب على معرِفة أسراره فتتلمذ على السيد علوي مالكي في دراسة التفسير، وما زال هذا القرآن الكريم نورًا يضيء العقول، ويهدي النفوس للسامعين والدارسين وسيكون لنا حديث عن أثره العظيم في نفس أحمد جمال حينما نتحدث عن كتبه العظيمه في تفسير القرآن الكريم، ونعود الآن إلى رحلة أحمد جمال في مطلع شبابه، ومن المحكمة الشرعية انتقل إلى العمل في جريدة البلاد السعودية سنة 1365 هـ عمل فيها أولًا بوظيفة محاسب ولكنه تحول من العمل المالي إلى التحرير فأصبح

ص: 27

سكرتيرًا للتحرير، وفي جريدة البلاد السعودية بدأ أحمد جمال نشاطه الأدبي، فظهرت كتاباته الأولى في صحيفة البلاد.

ثم انتقل للعمل في وزارة الداخلية مساعدًا لمدير قسم الثقافة والتعليم، قبل إنشاء وزارة المعارف، وشغل في وزارة الداخلية وظائف إدارية حتى أصبح مدير إدارة الجوازات والجنسية.

وحينما أصدر شقيقه الأستاذ صالح محمد جمال جريدة حراء كان أحمد جمال يشارك أخاه أعباء إصدارها وتحريرها والكتابة فيها، وبعد دمج الصحف صدرت الندوة بعد حراء فكان أحمد جمال يشارك أخاه في شؤونها

(1)

.

وفي الصحف التي عمل فيها أحمد جمال وجد المجال للكتابة والنشر، ووجد الطريق ممهدًا ليظهر آراءه وآماله للناس، وكان الشاب أحمد جمال جريئًا في إبداء الرأي لا يخشى في الحق لومة لائم، وقد وُهِب القدرة على التعبير، فكان لكلماته وقعها في نفوس القارئين.

مارس أحمال جمال هوايته الأدبية في مجالات شتى في الشعر والنثر، وأصدر العديد من المؤلفات وسنتحدث عن مؤلفاته بعد استكمال مسيرة حياته العملية والتي نوجزها فيما يلي:

عين في عام 1375 عضوًا في مجلس الشورى.

وفي عام 1381 اختير عضوًا في لجنة وضع النظام الأساسي للحكم.

وحينما تأسست جامعة الملك عبد العزيز اختير أحمد جمال أستاذًا للثقافة الإسلامية في عام 1387 هـ.

واختير أستاذًا لمادة تفسير القرآن الكريم بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، واستمر يدرس هذه المادة إلى أن توفاه الله.

وأشرف على إصدار مجلة التضامن الإسلامي التي تصدرها وزارة الحج والأوقاف.

كما ظل مشرفًا على إصدار كتاب دعوة الحق، وهي مجلة شهرية تصدرها رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ويمثل كل عدد منها كتابًا من الكتب التي تعني بشؤون الدعوة وبلغ ما أشرف على إصداره من هذه الكتب مائة وخمسة وثلاثين كتابًا.

وكان إلى جانب هذه الأنشطة جميعها يحتل عضوية مجالس ولجان كثيرة.

كان عضوًا في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي.

وعضوًا بمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي منذ عام 1406 هـ.

كما كان عضوًا بالمجلس البلدي بمكة المكرمة، وعضوًا بمجلس الأوقاف.

(1)

انظر تفصيل ذلك في ترجمة صالح جمال في نفس هذا الكتاب.

ص: 28

وإلى جانب هذا وذاك كان يشارك في المؤتمرات الإسلامية في خارج المملكة، ويشرف على المعسكرات الإسلامية والثقافية التي تقيمها الدولة في داخل المملكة.

ويلقي المحاضرات والبحوث في هذه المؤتمرات في كثير من دول العالم.

واختير بعد وفاة شقيقه الأكبر صالح جمال لرئاسة جمعية البر بمكة المكرمة التي كان عضوًا فيها.

بعد هذا الاستعراض لمسيرة أحمد جمال العظيمة آن لنا أن نتحدث عن مؤلفاته.

‌مؤلفات أحمد جمال:

أصدر الأستاذ أحمد جمال اثنين وثلاثين كتابًا، نثبت أسماءها وتاريخ إصدارها فيما يلي:

1 -

ماذا في الحجاز، وهو أول مؤلفاته صدر سنة 1364 هجرية الموافقة لعام 1945 الميلادي.

2 -

سعد قال لي - وهو كتاب قصصي صدر سنة 1366 الموافقة لسنة 1946 للميلاد.

3 -

الطلائع - ديوانه الشعري الوحيد صدرت طبعته الأولى سنة 1366 الموافقة لسنة 1946 وصدرت طبعته الثانية بعنوان "وداعًا أيها الشعر" عام 1397 هجرية الموافقة لعام 1977 للميلاد.

4 -

على مائدة القرآن - ما وراء الآيات صدر سنة 1371 الموافقة لسنة 1952 للميلاد.

5 -

على مائدة القرآن - دين ودولة صدر سنة 1372 الموافقة 1953 للميلاد.

6 -

على مائد القرآن - مع المفسرين صدر سنة 1373 الموافقة لسنة 1954 للميلاد.

7 -

استعمار وكفاح - صدر سنة 1374 الموافقة لسنة 1955 للميلاد.

8 -

على مائدة القرآن - مبادئ ومثل صدر سنة 1381 الموافقة لسنة 1961 للميلاد.

9 -

نحو سياسة عربية صريحة - صدر سنة 1381 الموافقة لسنة 1962 للميلاد وهو الجزء الثاني لكتابه السابق استعمار وكفاح.

10 -

الإسلام أولًا - صدر سنة 1384 الموافقة لسنة 1964 للميلاد.

11 -

مجتمعنا العربي كما ينبغي أن يكون صدر سنة 1384 الموافقة لسنة 1964 للميلاد.

12 -

مكانك تحمدي صدر سنة 1384 الموافقة لسنة 1964 للميلاد.

13 -

رفقًا بالقوارير صدر سنة 1385 الموافقة لسنة 1965 للميلاد.

14 -

من كشمير إلى فلسطين وخطر الصهيونية والصليبية على الإسلام صدر سنة 1385 هـ الموافقة لسنة 1965 للميلاد.

15 -

مسؤولية العلماء في الإسلام صدر سنة 1386 الموافقة لعام 1966 للميلاد.

16 -

تاريخنا لم يقرأ بعد - صدر سنة 1387 الموافقة لسنة 1967 للميلاد.

17 -

محاضرات في الثقافة الإسلامية صدر سنة 1391 الموافقة لسنة 1971 للميلاد.

ص: 29

18 -

مفتريات على الإسلام صدر سنة 1392 الموافقة لسنة 1972 للميلاد.

19 -

من أجل الشباب - صدر سنة 1395 الموافقة لسنة 1975 للميلاد.

20 -

كرائم النساء - صدر سنة 1397 الموافقة لسنة 1977 للميلاد.

21 -

الشباب - دراسات ولقاءات صدر سنة 1399 الموافقة لسنة 1979 للميلاد.

22 -

نساؤنا ونساؤهم تكريم الإسلام للمرأة المسلمة صدر سنة 1399 الموافقة لسنة 1979 للميلاد.

23 -

عقود التأمين بين الاعتراض والتأييد صدر سنة 1400 الموافقة لسنة 1980 للميلاد.

24 -

نحو تربية إسلامية صدر سنة 1400 الموافقة لسنة 1980 للميلاد.

25 -

الأمة الواحدة - صدر سنة 1401 الموافقة لسنة 1981 للميلاد.

26 -

يسألونك - صدر سنة 1403 الموافقة لسنة 1983 للميلاد.

27 -

نساء وقضايا - صدر سنة 1404 الموافقة لسنة 1984 للميلاد.

28 -

مأدبة الله في الأرض - صدر سنة 1404 الموافقة لسنة 1984 للميلاد.

29 -

قضايا معاصرة في محكمة الفكر الإسلامي صدر سنة 1406 الموافقة لسنة 1986 للميلاد.

30 -

القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته صدر سنة 1406 الموافقة لسنة 1986 للميلاد.

31 -

تعليم البنات بين ظواهر الحاضر ومخاطر المستقبل صدر سنة 1409 الموافقة لسنة 1989 للميلاد.

32 -

الصحافة في نصف عمود - صدر سنة 1412 الموافقة لسنة 1992 للميلاد.

وهناك كتاب شارك أحمد جمال في إصداره وتحقيقه والتعليق عليه هو كتاب أعلام العلماء ببناء المسجد الحرام، اشترك مع الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في تحقيقه والتعليق عليه وقد صدر هذا الكتاب عام 1369 الموافقة لسنة 1950 ميلادية

(1)

.

والمتأمل في هذه المكتبة العظيمة من مؤلفات أحمد جمال يرى أن الرجل قد أوقف حياته كلها في الدعوة إلى الله فالقرآن الكريم، والإسلام العظيم، وقضايا المسلمين هي محور هذه المؤلفات، هي القاسم المشترك الأعظم الذي جنَّد أحمد جمال قلمه وفكره لإيضاحها للناس وشرحها للطلاب، والدفاع عنها في كل زمان ومكان.

كتب المقالات في الصحف، ودرَّس الطلاب في الجامعات وألَّف الكتب ونشرها منذ مطلع شبابه إلى أن لقي الله تعالى وهو في السبعين من العمر، وطاف بالدنيا شرقها وغربها، مشاركًا في المؤتمرات الإسلامية، في آسيا وافريقيا وأوربا وفي استراليا يلقي المحاضرات،

(1)

استقينا هذه المعلومات من العدد الخاص لمجلة الأربعاء عن أحمد محمد جمال الصادر بتاريخ 19 ذي الحجة 1413.

ص: 30

ويناقش الآراء، ويعلِّق على ما يستمع إليه من آراء ويجيب على أسئلة شباب المسلمين في بلادهم، وفي ديار الغرب، الشباب الذين يستمعون إلى اعتراضات العلمانيين وتشويهات المضللين من الكتابيين مسيحيين ويهود، فيجيب بما وهبه الله من قوة الحجة، وسعة الأفق، والإحاطة بمشاكل العصر، وأقوال الفقهاء والمفكرين.

فيشفي الغلة، ويزيل الغمة، ويهدي بقدرة الله تعالى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

وكان للمرأة المسلمة وهي نصف المجتمع النصيب الكامل من اهتمامات الأستاذ أحمد جمال يرحمه الله، فدافع عنها، وأظهر ما خصها به الإسلام من حقوق تحفظ كرامتها وتصون وجهها وعرضها.

وقد أدركته المنية وهو يكتب عن المناهج الدراسية لتعليم البنات، ويشرح آراء المعلمات ويدلي برأيه فيما يتعرض له البعض منهن من متاعب أو مشكلات.

وكان أحمد جمال يرحمه الله يعيش مشاكل الأمة العربية والإسلامية، فيجهر بالرأي الجريء وإن خالف به الكثيرين.

ولقد كان من أوائل الكتاب الذين طالبوا باتباع سياسة الأمر الممكن في فلسطين بدلًا من التمسك بالحق الكامل الميؤوس منه.

كان يدعو إلى هذا الرأي منذ ربع قرن بعد أن استمع إلى الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وهو يتحدث عن تجربته في انتزاع استقلال تونس من الفرنسيين، نأخذ الممكن، ونطالب بالباقي طالما أننا لا نستطيع أن نأخذ حقنا كاملًا، وحينما زار السادات القدس وعقد اتفاقية كامب ديفيد التي استرد بها الأرض المصرية من الإسرائيليين كان أحمد جمال من المؤيدين لهذه السياسة، مع أن الإجماع العربي في ذلك الزمان كان يخالف السادات، ولكن أحمد جمال بشجاعته في الحق كان يقول للفلسطينيين افعلوا كما فعل السادات، واسترجعوا ما استطعتم من أرضكم، ثم طالبوا بالباقي، بدلًا من الوقوف دون حراك.

كان يتساءل ماذا فعلنا خلال أربعين عامًا.

رفضنا التقسيم فأخذ اليهود أكثر منه.

وحاربنا إسرائيل فخسرنا فلسطين كلها بما فيها القدس، وخسرنا إلى جانبها الجولان وسيناء.

وعاش أحمد جمال يرحمه الله إلى أن رأى العرب يتفاوضون مع الإسرائيليين بعد طول امتناع واعتراض.

وكان إلى جانب الاهتمام بشؤون المسلمين العرب يهتم بشؤون الناس في بلاده، فيكتب في الصحف ما يتراءى له من أمور تستحق الإصلاح والالتفات، أو ما يصله من رسائل

ص: 31

الناس، ومحادثاتهم الهاتفية، داعيًا إلى الإصلاح والتقويم بالكلمة الهادفة والرأي الصائب البعيد عن الإسفاف.

نستطيع أن نقسم مؤلفات أحمد جمال رحمه الله إلى أقسام عدة نوجزها فيما يلي:

1 -

القرآن الكريم وله فيه ستة مؤلفات.

2 -

الإسلام وله فيه عشر مؤلفات.

3 -

المرأة وله فيها ست مؤلفات.

4 -

الشئوون السياسية للعرب والمسلمين وله فيها أربع مؤلفات.

5 -

الشباب المسلم وله فيه كتابان.

6 -

الشئوون الاجتماعية المحلية وله فيها كتابان.

7 -

الشعر وله فيه ديوان واحد.

8 -

القصة وله فيها كتاب واحد.

هذا ما تيسر لي الإلمام به من مؤلفات الأستاذ/ أحمد جمال، وربما كانت له مؤلفات أخرى لم تصل إلى علمي كما أنني أرجح أن تكون هناك مؤلفات مخطوطة لم تقدم إلى المطبعة بعد، فقد كان الرجل دائم النشاط كتابة وتدريسًا، وكان يجمع ما يكتب ويقدمه إلى المطابع ليقرأه الناس، والمتتبع لتواريخ طبع مؤلفاته يرى أنها تتواصل عامًا بعد عام، وإذا حدث أن تأخر النشر في بعض الأعوام، فإن أعوامًا أخرى تشهد ظهور أكثر من كتاب واحد، كما يظهر ذلك من بيان مؤلفاته الذي أثبتناه قبل.

كان الكتاب الأول الذي ظهر لأحمد جمال وهو في الحادية والعشرين من العمر كتاب ماذا في الحجاز، وهو كتاب يهدف إلى التعريف بالحجاز وما يأخذ به من أسباب النهضة ومواكبة العصر، وهذا الكتاب لم يتح لي الاطلاع عليه، وقد وصفه الأستاذ/ عبد العزيز الرفاعي بأنه كتاب إعلامي، ولا غرابة في أن يكتب أحمد جمال معرِّفًا ببلده، فقد كان الناس في البلاد العربية الأخرى لا يعرفون عن بلادنا إلا النذر اليسير لم تكن صحفنا مقروءة في خارج بلادنا، ولم يكن لدينا من الصحف إلا أقل من أصابع اليد الواحدة، وكأن الشاب أحمد جمال الممتلئ حبًا لبلاده أراد أن يقدم للناس صورة مشرفة عنها، فكتب كتابه ماذا في الحجاز.

ومارس أحمد جمال نظم الشعر في بداية حياته ونشر ديوانه الطلائع، وهو في الثالثة والعشرين من العمر، وكانت هذه البداية تبشر بميلاد شاعر متمكن يجمع بين حرارة العاطفة والعلم باللغة، وتصريف الكلمات، ولكن أحمد جمال انصرف عن الشعر إلى المهمة العظمى التي هيأ لها نفسه، والتي سخره الله تعالى لها والتي عمل فيها إلى أن توفاه الله تعالى.

وحينما أعاد طبع ديوانه الأول والوحيد بعد أكثر من ثلاثين عامًا من إصداره اختار له عنوانًا جديدًا هو - وداعًا أيها الشعر.

ص: 32

كما مارس أحمد جمال نظم الشعر في بداية حياته، مارس كتابة القصة فصدر له وهو كذلك في الثالثة والعشرين من العمر كتابه القصصي سعد قال لي:

انصرف أحمد جمال عن الشعر وعن القصة، وغيرهما من فنون الأدب ليتفرغ للكتابة عن القرآن الكريم بعد أن حفظه، وتلقَّى تفسيره في المسجد الحرام، ثم عكف على دراسة كتب المفسرين، فألمَّ بآرائهم، وأضاف إليها اجتهاداته الخاصة فظهرت مؤلفاته الأولى، "على مائدة القرآن" وهو دون الثلاثين من العمر، ثم انتهى به الأمر أن يُختار مدرسًا لمادة تفسير القرآن الكريم في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.

وكان قد سبق اختياره مدرسًا للثقافة الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز حين تأسيسها عام 1387، وهو في الرابعة والأربعين من العمر.

وأود أن أقف قليلًا مع القارئ لنرى كيف اختير أحمد جمال مدرسًا في جامعتين من أكبر جامعات المملكة ومؤهله الدراسي الشهادة الابتدائية، ودراسة عام واحد في المعهد العلمي السعودي، وبتعبيرًا آخر وهو متخرج من السنة الأولى الإعدادية، كما هو الاصطلاح في الوقت الحاضر

؟

وأجيب على هذا السؤال بتساؤل آخر: كيف كان علماء المسلمين الذي نبغوا في شتى فنون العلم والأدب وألفوا فيها المؤلفات العظيمة التي لا زالت تتدارسها الأجيال جيلًا بعد جيل

؟

هل كانت هناك جامعات يدرسون فيها ويقدمون فيها الرسائل التي تمنح الماجستير والدكتوراة

؟

لم يكن شيء من هذا ولا ذاك كما هو معلوم، ولكن كان هناك أساتذة يتلقون العلم على أيديهم، وكانوا إلى جانب هؤلاء الأساتيذ يقرأون ويبحثون، يهبون أنفسهم للعلم، ويفرغون أنفسهم لتحصيله، فإذا بلغ الواحد منهم الحدَّ الذي يرى فيه مشايخه أنه تأهَّل لتعليم الناس أجازوه، فجلس يعلِّم كما تعلَّم.

ولكن أحمد جمال إذا استثنينا دراسته على السيد علوي المالكي يرحمه الله في المسجد الحرام، فإنه لم يتلق العلم عن المشايخ وإنما تلقاه عن أئمة المفسرين والفقهاء فقرأ كتبهم وأطال النظر فيها، وأضاف إليها ما هداه الله إليه من آراء كشف عنها العلم، أو ظهر لها معانٍ جديدة مع تغير الزمان، أن القرآن الكريم كتاب معجز بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي آياته الكريمات من المعجزات ما يظهر مع توالي العصور، وإني أقص هنا ما حدث لي شخصيًا مع آية من آيات الكتاب العظيم، كنت كلما تلوت قوله تعالى في سورة آل عمران:

ص: 33

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

(1)

.

كنت كلما تلوت هاتين الآيتين الكريمتين الكريمتين أو سمعتهما وددت أن أعرف كيف يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ورجعت إلى كتب المفسرين قديمهم وحديثهم فوجدت أنهم يفسرون خروج الحي من الميت بالحبة من القمح تغرس في الأرض فتنبت الشجرة، والنخلة من النواة، والبيضة من الدجاجة، والمؤمن من الكافر

(2)

.

وكنت أقول في نفسي أن المعنى أعمق وأكبر من ذلك مع إكباري لسادتنا العلماء الأجلاء.

وظل المعنى يدور في ذهني زمنًا، وأخيرًا تذكرت وأنا أفكر في الأمر أن التفسير قائم بين أيدينا في كل يوم

؟

ألا يؤخذ القلب من الميت فيزرع في جسم الحي، فيمشي به بين الناس

؟ ألا تؤخذ الأعضاء الأخرى من الموتى فتزرع في أجسام الأحياء، أليست عمليات زراعة القلوب والأعين، والكلى، والكبد، عمليات يومية تجري في مستشفيات الدنيا كلها كل يوم بل كل ساعة أليس هذا هو التفسير لإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي

؟

تبارك الله وتعالى ما أعظم كتابه، وما أعجب آياته، وما أجلَّ معجزاته

؟

أن القرآن الكريم كما ذكرت كتاب معجز تتجدد آياته مع كرِّ الزمان، فيظهر له في كل زمان معنى لم يكن معروفًا للناس في زمان سابق، بل أن كرّ الأيام يزيد هذه المعاني جلاءًا، ولقد توصل الطب بقدرة الله تعالى إلى استبدال الأعضاء التالفة في جسم الإنسان الحي بأعضاء من أجسام الموتى، فكان هذا التفسير أكثر جلاءًا ووضوحًا، ولم يك هذا التفسير ميسورًا في الزمن السابق لتوصل الطب إلى هذه الإنجازات، ففسره المفسرون بما ذكرنا من خروج الزرع من الحبة والبيضة من الدجاجة، مما أشرنا إليه قبل، ولقد أشرت إلى هذا المعنى في بعض شعري حيث قلت:

يمضي الزمان ويبقى سر معجزه

سَحَرَ العقول تقرَّاهُ الالبَّاءُ

في كل يوم له معنى يجدِّدُه

كرَّ الزمان وتبقى منه أشياءُ

ولا أريد أن أطيل في هذا المعنى ولكني أرجو أن يوفقني الله تعالى إلى التأمل في بعض آيات القرآن الكريم، وأن يهديني إلى معانيها وأسرارها، ويوفقني إلى كتابة ما يهديني الله إليه وإذاعته للقارئين.

(1)

سورة آل عمران الآيات 26، 27.

(2)

انظر موجز تفسير المفسرين في صفوة التفاسير ص 194/ 195 الجزء الأول.

ص: 34

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى ترجمة الأستاذ/ أحمد محمد جمال فنثبت هنا بعض ما كتبه في تفسير بعض آيات القرآن الكريم نقلًا عن كتابه "مأدبة الله في الأرض".

(مأدبة الله في الأرض)

يقول الأستاذ/ أحمد جمال في تفسيره للآية الكريمة: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ما يلي:

وهناك حقيقة إلهية أخرى في قوله عز وجل "وترزق من تشاء بغير حساب" يقول بل هو مظهر آخر للقدرة الإلهية والمشيئة الإلهية أيضًا. وهو مثار جدل وشكوى بين الناسِ في كل زمان ومكان بل ربما كان محل اعتراض واستنكار من بعضهم، لأنهم يرون غنيًا فاسقًا وفقيرًا صالحًا، ويتساءلون: لماذا لا يفتقر الفاسق

؟ أو لماذا لا يستغني الصالح.؟ ويكرر القرآن هذا المعنى أو هذه الحقيقة الإلهية لأن الناس يتكرر اعتراضهم عليها ويتكرر عجبهم منها في قوله تبارك وتعالى في آياتٍ متعددة منها.

{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

(1)

.

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}

(2)

.

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(3)

.

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

(4)

.

يقول الأستاذ/ أحمد جمال:

ونجد هذا المعنى في سورة الروم والرعد والقصص والشورى والزمر ونلاحظ أن الله عز وجل في سورة الشورى يبين حكمته في قسمته للأرزاق بين عباده قبضًا وبسطًا حيث يقول: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .

ويؤكد نفس الحكمة في آية الإسراء السابقة:

{إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} .

وفي آية العنكبوت:

{أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

(1)

البقرة آية 245.

(2)

الإسراء آية 30.

(3)

العنكبوت آية 62.

(4)

سورة سبأ آية 36.

ص: 35

وفي آية سبأ:

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

ويأتي الحديث القدسي فيزيد القضية بيانًا:

"يا عبادي أن منكم من أغنيته، ولو أفقرته لفسد حاله، وإن منكم من أفقرته ولو أغنيته لفسد حاله"

(1)

.

أقول: وهكذا نرى أن بسط الرزق أو تقتيره على الناس هو لحكمة ارتضاها الخالق جل وعلا فهو أعلم بعباده، وأعلم بما يصلحهم وما يفسدهم.

ويقول في تفسير قوله تعالى:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}

(2)

.

يقول بعد استعراض أقوال المفسرين ومناقشتها ما يلي:

ونحن نلمس هذا السكن مع آثاره من المودة والرحمة بين الزوجين، فيما نراه من إيثار الرجل للمرأة على أهله من أبوين وأخوة، وإيثار المرأة للرجل على أهلها كذلك.

أن كلا منهما يحن إلى زوجه أكثر مما يحن إلى أبويه وإخوته.

ويعارض هذا "الواقع" الزوجي بين المرأة والرجل ما جاء في القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم من مطالبة الأبناء ببر الآباء ربما يؤكده بطريق غير مباشر لأنه يعني التحذير من طغيان العاطفة الزوجية على حق الآباء في برِّ الأبناء.

كذلك ما أسرع كلا من الزوجين إذا ظلم رفيقه أو أخطأ في حقه إلى الندم ثم المصالحة والرضا بكلمة أو همسة، ونسيان ما حدث من خطأ أو ظلم في لمح البصر.

ولا يكون ذلك على هذه الصورة السريعة بين الآباء والأمهات، ولا بين الأخوة، ولا بين البنات والأمهات

(3)

.

أقول: وكأنَّ الله تعالى قد أودع في نفوس الزوجين ما أودع من المحبة والإيثار، أراد أن ينبه الأولاد إلى حقوق الآباء والأمهات حتى لا تطغى العاطفة الزوجية على عاطفة البنوة، فشدَّد الحرص على البر بالآباء والأمهات.

وقال في تفسير قوله تعالى من سورة الرحمن: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .

(1)

مأدبه الله في الأرض 69/ 71.

(2)

سورة الروم آية 21.

(3)

مأدبة الله في الأرض 84/ 85.

ص: 36

كل المخلوقات تتوجه إليه عز وجل في كل لحظة بلسان مقالها، أو لسان حالها على اختلاف لغاتها وكلماتها، تسأله الغنى من فقر أو الشفاء من علَّة، أو الاستقواء من ضعف، أو الاقتدار من عجز، ويسأله العقيم ولدًا، والأرملة عائلًا، والعانس زوجًا، ويسأله المظلوم ناصرًا، والحائر هدى.

فكل يوم هو في أمر جديد من أمور خلقه، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .

فقالوا: وما ذاك الشأن يا رسول الله .. ؟

قال: "أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا. ويضع آخرين"

(1)

.

ويقول في وصف الموت وسكراته:

الموت بداية اليقظة. بداية معرفة الحقيقة التي نسيها أو جهلها الإنسان، وبداية الحساب على ما قدَّم من خير أو شر، فإذا نفخ في الصور، واستيقظ اليقظة الكبرى، كان الحساب الأكبر والجزاء الأوفر، فريق في الجنة وفريق في السعير

(2)

ويقول في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .

فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين في الدنيا بما حمل إلى الناس من نور وهدى فأنقذهم من الضلال والكفر، ورحمة للعالمين في الآخرة بما يشفع لأهل المعاصي فيخرجون من النار ويدخلون الجنة

(3)

.

ونكتفي بهذه الأمثلة التي نقلناها من كتاب مأدبة الله في الأرض، وأود أن يقرأ القارئ كتب الأستاذ/ أحمد جمال، ويتأمل ما جاء فيها في تفسير بعض الآيات الكريمات فإن ذلك أبلغ وأنفع.

‌مذكرات أحمد جمال:

للأستاذ/ أحمد جمال يرحمه الله مذكرات بعضها منشور وبعضها مخطوط، وقد تفضل نجله الكريم الأستاذ/ رجاء باطلاعي عليها، وفي هذه المذكرات يتحدث عن مسيرته الأدبية، كما يتحدث عن مسيرته كأستاذ للثقافة الإسلامية في جامعتي الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى، وعن أمور أخرى كثيرة كأدب المرأة وتوظيفها والأعمال التي تمارسها والتي لا يرى أنها صالحة لها، والأسئلة التي كانت توجه إليه من بعض الصحفيين أو من بعض الصحف وإجابته عليها.

(1)

مأدبة الله في الأرض 89/ 90.

(2)

مأدبة الله في الأرض 103.

(3)

مأدبة الله في الأرض 125/ 126.

ص: 37

وتحدَّث كذلك عن رحلاته إلى أقطار الدنيا المختلفة، داعيًا إلى الله تعالى مع الدعاة في المؤتمرات الإسلامية التي حضرها، وكيف رأى أن من الضروري للداعية إتقان مخاطبة الناس ارتجالا، وأنه بدأ تدريب نفسه على ذلك سنة 1377 هـ، في أول رحلة له إلى باكستان تلبية لدعوة تلقاها من جامعة البنجاب للمشاركة في الندوة العالمية للإسلاميات

(1)

.

ثم تحدث عن الموضوعات التي أثيرت في مؤتمرات أخرى كثيرة وأبدى رأيه فيما تم التطرق إليه من بحوث ورَدُّهُ على من يخالفونه الرأي وهي موضوعات هامة ويجدر بالقارئ أن يقرأها بنفسه لأن تلخيصها لا يقدم الصورة الكاملة عنها.

وفي المذكرات مراسلات دارت بينه وبين بعض كبار المسؤولين على جانب كبير من الأهمية لما تضمنته من آراء ومناقشات يستقطب بعضها اهتمام الناس ويدور تساؤلهم حولها.

وقد استوقف نظري في مذكراته الأدبية التي نشرت مسلسلة في مجلة المنهل بعض الحوادث والطرائف أنقلها.

فمن الحوادث التي تعرض لها وزملاؤه في المعهد السعودي أنهم أصدروا مجلة خطية سمَّوها الأمل اشترك في إصدارها الطلاب إذ ذاك في المعهد العلمي السعودي، عبد العزيز الرفاعي، وسراج مفتي، وعبد القادر جان، وعبد العزيز الربيع، وسراج خراز وعلي غسَّال، وغيرهم.

وكان الطلبة ينشرون في هذه المجلة الخطية الكلمات والقصائد من إنتاجهم، يقول أحمد جمال في مذكراته: فإذا بنا نفاجأ بطلب من الشرطة لكل واحد منا في بيوتنا مما أفزع آباءنا وأمهاتنا، وذهبنا إلى مقر الأمن العام فيما كان يسمى - الحميدية - على عهد مهدي بك، وكان رجلا مهيبًا يرحمه الله، واقتادونا إلى غرفة القسم العدلي، وكان يرأسه طلعت وفا يرحمه الله، وهناك أخذ منا تعهدًا بعدم إصدار المجلة، وألَّا كان جزاؤنا شديدًا فقلنا سمعنا وأطعنا

(2)

.

وإذا كانت هذه الحادثة قد انتهت نهاية سليمة فإن الحادثة التالية لم تكن كذلك فقد نشر بعض القصص القصيرة في مجلة الرابطة الإسلامية التي كانت تصدر بالقاهرة سنة 1368 هـ، وكانت هذه القصص بعنوان "صور من المستشفى" وكانت هذه القصص تصور حالات من إهمال الأطباء ومعاناة المرضى، وبسبب هذه القصص سجن سبعة أيام في السجن الاحتياطي بأجياد.

ويقول أحمد جمال، وقد حظيت في السجن بزيارة كبار القوم من العلماء والوجهاء. أمثال السيد محمد أمين كتبي، والشيخ سليمان الصنيع وكلاهما من العلماء، والشيخ بكر حمدي من

(1)

مجلة المنهل العدد 449 الربيعان 1407 هـ.

(2)

مجلة المنهل الحلقة السادسة من المذكرات.

ص: 38

كبار موظفي رئاسة القضاة وهو زوج أخت أحمد جمال، كما أنه أطلق من السجن بعد توسط الشيخ عمر بن حسن رئيس عام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عنِ المنكر لدى الملك عبد العزيز، وكان عمر بن حسن يعطف عليه كثيرا، وكان يحثه دائمًا على الاستمرار في طريقه الذي يسير فيه نحو العمل الإسلامي

(1)

.

‌الرقابة على الصحف:

ومن الطرائف التي تضمنها المذكرات الحديث عن الرقابة على الصحف وقد جاء فيها ما يلي:

وذكر الأستاذ/ الأنصاري في مقدمتهم - مراقبي الصحف - الشيخ حسين عبد الغني يرحمه الله، وقال أنه كان يضيف عبارات من عنده بين سطور المقالات والقصائد المراد نشرها في جريدة أم القرى التي يتولى الأستاذ/ الأنصاري رئاسة تحريرها مابين سنة 1359 هـ وسنة 1369 هـ، وأنه كان متشددًا جدًا.

ومما عاناه الأنصاري من شدته أنه كان يشطب من المقالات جملة السعادة الاجتماعية ويعلل تصرفه بقوله في هامش المقال أنه ليس هناك سعادة في الدنيا وأن السعادة في الآخرة.

كما أضاف ذات مرة في قصيدة للشيخ/ أحمد إبراهيم الغزاوي كان قد ألقاها في احتفال لجلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله أضاف جملة (بإذن الله) بعد كل عبارة بها - سنعمل، سنضع، سنقوم.

ونشر الأستاذ/ الأنصاري القصيدة بهذه الإضافات الشاذة التي اضطرب لها وزن القصيدة متعمدًا اثارة الشيخ الغزاوي، وفعلًا كان له ما أراد وأصع إليه مستنكرًا

(2)

.

‌الكاتب الإسلامي:

ومما جاء في هذه المذكرات أن أحمد جمال كان يدعو الله تعالى بعد طوافه بالبيت الحرام أن يجعله أديبًا اسلاميًا مثل مصطفى صادق الرافعي

(3)

.

‌آدم وحواء:

ومن الملاحظات الدقيقة التي وردت في المذكرات انتقاده لبعض الصحف المصرية، بل لبعض كتابها البارزين استعمال اسمي آدم وحواء رمزًا للخطيئة بين الرجل والمرأة، أو للمناكفة بين الزوج والزوجة، يقول أحمد جمال بعد أن أورد نماذج مما نشره بعض كبار الكتاب المصريين مبديًا رأيه يقول:

(1)

مجلة المنهل الحلقة الثالثة من المذكرات.

(2)

الذكريات - مجلة المنهل الحلقة الخامسة.

(3)

مجلة المنهل - الحلقة الثالثة عن الذكريات.

ص: 39

تفعل ذلك بعض الصحف والمجلات المصرية ازاء آدم عليه السلام، بينما هو رمز التجلة والتكريم بما أسجد الله له ملائكته، ورمز الرفعة والمعرفة بما علَّمه الله من أسماء خلقه، ورمز الأفضلية والأولية بما جعل الله له من استاذية في السماء وخلافة في الأرض، والذين يكتبون التفاحة المحرمة، وخروج آدم وحواء من الجنة بسببها أجهل الجهلاء وأسفه السفهاء، وأن حملوا أرقى الشهادات وتزيوا بزي العلماء والعقلاء

(1)

.

وأكتفي بهذا القدر من التعليق على الذكريات الأدبية التي تضمنتها مذكرات الأستاذ/ أحمد جمال، وأرجو أن يوفق ابناءه الكرام إلى جمع هذه المذكرات على اختلاف مواضيعها، ونشرها في كتاب ليتاح لقرائه الكثيرين الاستمتاع بها ومعرفة بعض الأمور الهامة أو الطريفة في حياة الكاتب وعمله، وفقهم الله لذلك وأعانهم عليه.

‌وفاة أحمد جمال:

توجه أحمد جمال إلى القاهرة بصحبة شقيقه محمود في أوائل شهر ذي الحجة، وكان قد انقطع عن زيارة القاهرة ست سنوات، وفي ليلة التاسع من ذي الحجة أخبر مرافقيه أنه سيصبح صائمًا وضبط جرس الساعة في غرفته ليستيقظ قبل الفجر، ليصلي لله تعالى في جوف الليل كما هي عادته دائمًا.

واستيقظ أخوه على صوت الجرس الذي قرع طويلًا، فأسرع إلى غرفة أخيه ودعاه فلم يجب وحركه فلم يتحرك. واستدعى الطبيب، فقال: لقد توفاه الله.

هكذا انتهى أحمد جمال وهو على نية الصلاة في الليل وصيام يوم عرفة، فيا لها من خاتمة سعيدة لجهاد طويل في الدعوة إلى الله.

وكان لوفاته المفاجئة صدى أليم في نفوس الكثيريِن من الناس الذين ذهلوا للنبأ وسارع البعض إلى التاكد وكأنهم يرجون أن لا يكون صادقًا، ولكنها إرادة الله وقضاؤه ولا راد لما قضاه الله.

نُقل جثمان أحمد جمال في طائرة خاصة بأمر من خادم الحرمين الشريفين، ووصل إلى مكة مساء يوم التاسع من ذي الحجة 1413، وصُلي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الفجر، ودفن في مقبرة المعلاة.

فإلى رحمة الله وعفوه. وإلى رحاب جناته، أنه سميع مجيب.

* * *

(1)

مجلة المنهل - الحلقة التاسعه والعشرون من الذكريات.

ص: 40

أحمد عبد الغفور عطار

ص: 41

أحمد عبد الغفور عطار

ص: 42

‌أحمَد عبَد الغفُور عطار

أسمر اللون، شديد السمرة، نحيل البدن، متوسط القامة، واسع العينين يضع على عينيه نظارة سوداء بعد أن كبرت سنه وقصر نظره يرتدي ملابس بيضاء ويضع على رأسه غترة وعقالًا.

ولد بمكة المكرمة سنة 1337 هـ، وتلقى دراسته بها، وتخرج من المعهد العلمي السعودي بمكة، وابتعث إلى مصر للدراسة، ولكنه لم يتمَّ دراسته في مصر وأعيد إلى مكة المكرمة، على أثر وشاية وشيت عنه وسجن في مكة، ثم نفي إلى الرياض وسجن في سجن المصمك لعدة شهور، وقد ألف العطار كتابًا عن هذه الواقعة سماه "بين السجن والمنفى" سأتحدث عنه فيما بعد.

استقر به المقام في مكة المكرمة وعمل موظفًا في الوظائف الحكومية لعدة سنوات، أذكر منها وظيفته في إدارة الأمن العام.

ولكن العطار الذي عشق البحث والكتابة، والذي حكمت عليه الأيام بالابتعاد عن الدراسة الأكاديمية المنتظمة لم يثنه ذلك عن مواصلة البحث والدرس، والكتابة والتأليف فاستقال من الوظائف الحكومية وفرَّغ نفسه للبحث والتأليف فألَّف ما يقرب من مائة كتاب.

‌أول مؤلفات العطار:

ألَّف العطار كتابه الأول وهو مجموعة مقالات سماه "كتابي" وتم طبع هذا الكتاب بمطبعة أم القرى في مكة المكرمة على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز - الملك فيصل فيما بعد - وكان الأمير فيصل يعطف على العطار ويشجعه منذ أن كان تلميذًا بالمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة

(1)

.

(1)

بين السجن والمنفى ص 15

ص: 43

ومما أذكره عن هذا الكتاب أن العطار يرحمه الله أوكل أمر توزيعه إلى الشركة العربية للطبع والنشر بمكة المكرمة التي كان الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله قد أسسها، وكنت أشرف على أعمالها بحكم عملي لديه.

وجاء العطار من مصر، وحضر إلى مكتب الشيخ محمد سرور الصبان يرحمهما الله جميعًا، ورأيته لأول مرة في عام 1356 هـ شابًا صغير السن وسأل عن كتابه "كتابي" وكان غاضبًا لأن شركة الطبع والنشر لم تحسن تسويقه كما قال لي إذ ذاك.

وكان الكتاب يفتقر إلى الكثير من مقومات النجاح، فهو أول كتاب ألَّفه العطار وماذا ينتظر من مقالات يكتبها شاب حديث السن في الخامسة عشرة من العمر .. ؟ هل سيقبل الناس على شرائه، وقراءته، ولم يظهر اسم الكاتب بعد، ولم يعرف عنه الاجادة

؟

قلت له إنك قد حضرت فلْتتولَّ أنت أمر التسويق والنشر.

وأود أن أذكر هنا أن العطار الذي ألَّف الكتب الكثيرة في اللغة بعد ذاك والذي أخرج معجم الصحاح كان كتابه الأول يحتاج إلى تصحيح بعض ما جاء فيه من اللغة والاعراب، وليس ذلك ليعيب العطار، فقد كانت بدايته متحمسة متعجلة ولكنه لم يلبث أن استدرك ما فاته، واستكمل عدته، فكان منه الأديب الضليع لغة وفكرًا وأسلوبا وعلمًا، وبعد هذه المقدمة نذكر ثبت مؤلفاته كما أوردتها جريدة المدينة المنورة بعد وفاته.

‌أعمال ومؤلفات العطار:

أ - كتب نفدت:

1 -

كتابي - مجموعة مقالات، طبع بمطبعة أم القرى بمكة الكرمة حرسها الله سنة 1354 هـ الموافقة 1934 م.

2 -

محمد بن عبد الوهاب: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1362 هـ (1943 م)، الطبعة الثانية - القاهرة سنة 1376 هـ (1956 م)، الطبعة الثالثة - بيروت، سنة 1387 هـ (1967 م).

3 -

محمد بن عبد الوهاب: (كتاب جديد غير السابق) الطبعة الأولى بيروت 30 ذي الحجة 1391 هـ (8 يناير 1972 م)، الطبعة الثانية بيروت 20 ذي الحجة 1391 هـ (4 فبراير 1972 م)، الطبعة الثالثة بيروت 10 محرم 1392 هـ (24 فبراير 1972 م)، الطبعة الرابعة بيروت 5 رجب 1392 هـ (4 أغسطس 1972 م)، الطبعة الخامسة بيروت سنة 1394 هـ (1974 م).

4 -

محمد بن عبد الوهاب: (باللغة الأردية ترجمة العلامة الشيخ محمد صادق خليل) الطبعة الأولى لاهور (باكستان) 1395 هـ (1975 م).

ص: 44

5 -

الهوى والشباب: (ديوان شعر) الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1365 هـ (1947 م).

6 -

الخراج والشرائع: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1365 هـ (1946 م).

7 -

أريد أن أرى الله (مجموعة قصص) الطبعة الأولى القاهرة سنة 1366 هـ (1947 م)، الطبعة الثانية بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

8 -

المقالات: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1366 هـ (1947 م).

9 -

الهجرة: (مسرحية) الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1366 هـ (1947 م) الطبعة الثانية (ضمن مجموعة بحوث تحت عنوان الهجرة) بيروت 1399 هـ (1979 م).

10 -

صقر الجزيرة: (3 أجزاء) الطبعة الأولى القاهرة سنة 1366 هـ (1946 م)، الطبعة الثانية جدة سنة 1385 هـ (1956 م)، الطبعة الثالثة (ثلاثة أجزاء في مجلد واحد) جدة سنة 1385 هـ (1965 م).

11 -

البيان (نقد أدبي): الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1369 هـ (1949 م).

12 -

الزنابق الحمر (مسرحية لطاغور، مترجمة عن البنغالية): الطبعة الأولى القاهرة سنة 1371 هـ (1951 م).

13 -

المقدمة (دراسة لمعجم صحاح الإمام الجوهري): الطبعة الأولى (كتبت مقدمة لمعجم " تهذيب الصحاح" للزنجاني)، القاهرة سنة 1372 هـ (1952 م)، الطبعة الثانية - القاهرة سنة 1372 هـ (1952 م).

14 -

قطرة من يراع: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1375 هـ (1955 م).

15 -

الصحاح ومدارس المعجمات العربية: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1375 هـ (1956 م)، الطبعة الثانية (صدرت مع معجم الصحاح للجوهري تحت عنوان "مقدمة الصحاح") في جزء مستقل - القاهرة 1377 هـ (1957 م)، الطبعة الثالثة - بيروت سنة 1386 هـ (1966 م)، الطبعة الرابعة مع معجم الصحاح للجوهري، الطبعة الثانية بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

16 -

مقصورة ابن دريد (بحث تاريخي أدبي): الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1376 هـ (1956 م).

17 -

الإسلام والشيوعية: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1377 هـ (1956 م)، الطبعة الثانية (مزيدة ومنقحة) بيروت سنة 1391 هـ (1972 م).

18 -

حرب الأكاذيب: الطبعة الأولى - القاهرة سنة 1377 هـ (1957 م)، الطبعة الثانية نشرت بجريدة "عكاظ" الطائف سنة 1380 هـ (1960 م) الطبعة الثانية، نشرت في الطبعة الثانية من كتاب الإسلام والشيوعية، بيروت سنة 1391 هـ (1972 م).

19 -

الفصحى والعامية: الطبعة الأولى القاهرة سنة 1377 هـ (1957 م).

ص: 45

20 -

عشرون يوما في الصين الوطنية: الطبعة الأولى - تايبيه (الصين الوطنية) سنة 1383 هـ (1963 م).

21 -

الشرعية لا القانون: الطبعة الأولى جدة سنة 1384 هـ (1964 م).

22 -

الإسلام طريقتا إلى الحياة: الطبعة الأولى جدة سنة 1384 هـ (1964 م).

23 -

آراء في اللغة: الطبعة الأولى جدة سنة 1384 هـ (1964 م).

24 -

كلام في الأدب: الطبعة الأولى جدة سنة 1384 هـ (1964 م).

25 -

المفتش: (مسرحية لنقولا جوجول) الطبعة الأولى دمشق 1385 هـ (1965 م)، الطبعة الثانية بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

26 -

الزحف على لغة القرآن: الطبعة الأولى بيروت سنة 1385 هـ (1966 م).

27 -

الإسلام خاتم الأديان: الطبعة الأولى بيروت سنة 1386 هـ (1966 م).

28 -

إنسانية الإسلام: الطبعة الأولى بيروت سنة 1386 هـ (1966 م).

29 -

اليهودية والصهيونية: الطبعة الأولى بيروت سنة 1391 هـ (1972 م).

30 -

صقر الجزيرة 7 أجزاء: (وهو غير الكتاب السابق) الطبعة الأولى بيروت سنة 1392 هـ (1974 م).

31 -

ابن سعود وقضية فلسطين: الطبعة الأولى بيروت سنة 1394 هـ (1974 م).

32 -

الشيوعية وليدة الصهيونية: الطبعة الأولى بيروت سنة 1394 هـ (1974 م).

33 -

الماسونية: الطبعة الأولى بيروت سنة 1394 هـ (1974 م).

34 -

عروبة فلسطين والقدس أصيلة منذ عشرات الآلاف من السنين - والهيكل لم يكن مقدسًا عند سليمان واليهود: الطبعة الأولى بيروت سنة 1394 هـ (1974 م).

35 -

حِجَّة النبي صلى الله عليه وسلم: الطبعة الأولى دمشق سنة 1396 هـ (1976 م).

36 -

مؤامرة الصهيونية على العالم: الطبعة الأولى بيروت سنة 1396 هـ (1976 م) الطبعة الثانية (خاصة بوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية) بيروت 1391 هـ (1972 م)، الطبعة الثالثة بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

37 -

بروتوكولات صهيون (مترجم): الطبعة الأولى بيروت سنة 1396 هـ (1976 م) الطبعة الثانية بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

ب - كتب محققة نفذت:

38 -

تهذيب الصحاح: (معجم لغوي) تأليف الامام الزنجاني 3 أجزاء بالاشتراك مع الأستاذ/ عبد السلام هارون - الطبعة الأولى القاهرة سنة 1372 هـ (1952 م).

39 -

مقدمة تهذيب اللغة: للامام الأزهري - الطبعة الأولى القاهرة سنة 1376 هـ (1956 م).

ص: 46

40 -

ليس في كلام العرب: للإمام ابن خالوية - الطبعة الأولى القاهرة سنة 1386 هـ (1956 م).

41 -

آداب المتعلمين ورسائل أخرى في التربية الإسلامية لابن خلدون وغيره - الطبعة الأولى القاهرة سنة 1376 هـ (1956 م)، الطبعة الثانية بيروت سنة 1386 هـ (1966 م).

42 -

الصحاح: للامام الجوهري 7 أجزاء (منها المقدمة) الطبعة الأولى القاهرة سنة 1377 هـ (1957 م) الطبعة الثانية بيروت 1399 هـ (1979 م).

ج - كتب مترجمة للمؤلف، طبعت حديثًا:

43 -

محمد بن عبد الوهاب: باللغة الانكليزية، ترجمة الدكتور راشد البراوي، الطبعة الأولى مكة المكرمة سنة 1399 هـ (1979 م).

44 -

محمد بن عبد الوهاب باللغة الأردية: ترجمة الشيخ/ محمد خليل صادق الطبعة الثانية مكة المكرمة سنة 1399 هـ (1979 م).

45 -

إنسانية الإسلام: باللغة الانكليزية - الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

د - كتب صدرت حديثًا: 1399 هـ (1979 م):

46 -

الكعبة والكسوة منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم: الطبعة الأولى بيروت سنة 1397 هـ (1977 م) الطبعة الثانية بيروت سنة 1398 هـ (1978 م).

47 -

أحكام الحج والعمرة من حجة النبي وعمراته: الطبعة الأولى بيروت سنة 1397 هـ (1977 م).

48 -

الحجاب والسفور: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

49 -

وفاء الفقه الإسلامي بحاجات هذا العمر وكل عصر: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

50 -

وفاء اللغة العربية بحاجات هذا العمر وكل عصر: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

51 -

دفاع عن الفصحى: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

52 -

الهجرة: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

53 -

الهجرة (مسرحية): الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

54 -

جحا يستقبل نفسه: الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

55 -

ويْلَك آمِنْ (نقد لبعض آراء الشيخ ناصر الدين الألباني): الطبعة الأولى بيروت سنة 1399 هـ (1979 م).

ص: 47

56 -

شرح مقصورة ابن دريد، لابن هشام اللخمي (تحقيق): الطبعة الأولى بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

57 -

الشيوعية والإسلام: الطبعة الثانية بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

58 -

اليهودية والصهيونية: الطبعة الثانية بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

59 -

الشيوعية خلاصة كل ضروب الكفر والموبقات والشرور والعاهات: الطبعة الأولى بيروت 1400 هـ (1980 م).

60 -

الإسلام دين خاص أم عام: الطبعة الأولى بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

61 -

انحسار تطبيق الشريعة في أقطار العروبة والإسلام: الطبعة الأولى بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

62 -

الجوهري: الطبعة الأولى بيروت سنة 1450 هـ (1980 م).

63 -

أصلح الأديان للبشرية عقيدة وشريعة: الطبعة الأولى بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

64 -

عروبة فلسطين والقدس: الطبعة الثانية مزيدة ومحققة بيروت سنة 1450 هـ (1980 م).

65 -

إنسانية الإسلام: طبعة ثانية بيروت 1400 هـ (1980 م).

66 -

ليس في كلام العرب: الطبعة الثانية مزيدة ومحققة ومفهرسة بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

67 -

الديانات والعقائد في مختلف العصور: أربعة أجزاء في أربعة مجلدات - الطبعة الأولى بيروت سنة 1400 هـ (1980 م).

هـ - كتب أعيد طبعها:

1 -

حجة النبي صلى الله عليه وسلم: الطبعة الثانية دمشق سنة 1396 هـ (1976 م).

2 -

صقر الجزيرة 7 أجزاء: الطبعة الثانية بيروت سنة 1397 هـ (1977 م).

3 -

محمد بن عبد الوهاب: الطبعة الخامسة بيروت سنة 1397 هـ (1977 م)، الطبعة السادسة بيروت سنة 1397 هـ (1977 م)، الطبعة السابعة بيروت سنة 1397 هـ (1977 م).

و- كتب معدة للطبع:

1 -

المكتبات.

2 -

فيصل.

3 -

مئة كلمة.

ص: 48

4 -

لا أؤمن بالاشتراكية لأني أؤمن بالإسلام.

5 -

مع الكتب والمؤلفين.

6 -

الأسرة.

7 -

نقد كتاب "كشف الظنون".

8 -

مذكرات لارا.

9 -

قال بيديا.

10 -

خمس دقائق قبل الفطور.

11 -

وراء القضبان.

12 -

ورود من كلام.

13 -

العقاد.

14 -

مسلمة في سيبيريا.

15 -

مع الملوك والرؤساء.

16 -

الأدب الضاحك.

17 -

الرحلات.

18 -

عائشة أم المؤمنين.

19 -

في اللغة.

ز - كتب محققة للطبع:

20 -

الأزمنة، لقطرب.

21 -

ما اتفق لفظه واختلف معناه، لابن العميثل.

22 -

كشف الظنون، لحاجي خليفة.

23 -

مجموعة المعاني (مختارات شعرية) طبعة الجوائب.

وقد استلفت نظري أن العطار أعاد تأليف بعض كتبه بمعنى أنه لم يكتف بتأليف الكتاب لأول مرة، وإنما أعاد تأليفه مرة أخرى وينطبق هذا على كتابه محمد بن عبد الوهاب الذي صدرت طبعته الأولى بالقاهرة سنة 1362 هـ الموافقة لسنة 1943 م.

فقد أعاد كتابته أو تأليفه مرة أخرى في سنة 1391 هـ الموافقة لسنة 1972 م أي بعد ثلاثين سنة من تأليف الكتاب لأول مرة.

وكذلك الأمر بالنسبة لكتابه صقر الجزيرة الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1366 هـ الموافقة لسنة 1946 م فقد أعاد تأليفه مرة أخرى وصدرت طبعته الأولى سنة

ص: 49

1392 هـ الموافقة لسنة 1972 م أي بعد أكثر من ربع قرن من تأليفه لأول مرة ويقول العطار في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه الجديد ما يلي:

هذه الطبعة تختلف عن الطبعات السابقة، فهي تمتاز عليهن بالتنقيح والزيادة والصور التاريخية، ومن بينها صور لم يسبق نشرها في أي مؤلف عن صقر الجزيرة

(1)

والإضافات والتنقيح للمؤلفات حين إعادة طبعها أمر معروف للمؤلفين والقراء خاصة إذا مضى على تأليف الكتاب عشرات السنين. واطلع المؤلف على جديد تحسن اضافته إلى ما كتبه أول مرة، فسجَّله ليضاف في الطبعة الجديدة.

على أي حال فإن إعادة التأليف أو إعادة النظر على الأصح في الكتاب بعد تأليفه وإضافة ما يستحق الإضافة إليه يدل على أن المؤلف كان دائم البحث في المواضيع التي يتوفر على كتابتها وبحثها.

هذه ملاحظات عابرة رأيت أن أذكرها ونحن أمام هذه المكتبة التي خلفها العطار من المؤلفات والتي يمكن تقسيمها إلى:

1 -

كتب إسلامية تدافع عن الإسلام ضد أضاليل العصر وأكبر هذه الضلالات الشيوعية التي أكرم الله تعالى العالم كله بمشاهدة انهيارها وفضح أكاذيبها بعد أن احتلت العالم إلا القليل حوالي السبعين عامًا، وللعطار في هذا المجال عشرون كتابًا.

2 -

كتب في اللغة تشتمل على تحقيق المعاجم، وتبويبها وكتابة المقدمات لها، والدفاع عن اللغة العربية وصلاحيتها لكل عصر، وللعطار في هذا المجال ستة عشر كتابًا.

3 -

كتب أدبية تشمل المقالات والشعر والقصة والنقد والمسرحيات وللعطار في هذا المجال سبعة عشر كتابًا.

4 -

الصهيونية واليهود ومؤامراتهم وبروتوكلاتهم، وهي مشكلة الأمة العربية في هذا القرن، وللعطار في هذا المجال أربع مؤلفات.

5 -

التراجم وللعطار فيها خمس كتب.

وهكذا نرى العطار لم يترك مجالًا من المجالات إلا وشارك فيه بقلمه وبحثه وعلمه فخلَّف للناس مكتبة شاملة تضم الكثير من فنون العلم والأدب والتاريخ والدين.

ولإكمال ثبت مؤلفات العطار أذكرها هنا كتابين أهداهما إليَّ يرحمه الله قبل وفاته ولم أجدهما ضمن ما نشرته المدينة وهما بين السجن والمنفى وقد صدر في مكة المكرمة سنة 1451 هـ الموافقة لسنة 1981 م، ومحمد رسول الله تحاربه قوى الشر والتخريب، وقد صدر في عمان سنة 1408 هـ الموافقة لسنة 1988 م وأشرفت على طباعته وتصحيحه وإخراجه زوجته مزين

(1)

صقر الجزيرة مقدمة الكتاب ص 7.

ص: 50

خالد حقي بعد أن تأثر نظر العطار بعد إصابته بالجلطة وفقد نظره إلى أن أكرمه الله بالشفاء جزئيًا من هذه الإصابة، وكانت زوجته تعني به وتقرأ له الصحف والكتب، ويملي عليها ما يريد كتابته

(1)

.

هذا هو العطار الكاتب المؤلف اللغوي المؤرخ، الذي تفرَّغ للبحث والدرس والكتابة والتأليف والنشر فترك وراءه مكتبة حافلة في شتى العلوم والفنون والأدب.

‌جائزة الدولة التقديرية:

وقد منح العطار جائزة الدولة التقديرية في سنة 1404 هـ

(2)

وهو يستحقها بكل جدارة وقد تبرع العطار يرحمه الله بقيمة الجائزة في السنة التي منحها فيها للمجاهدين الأفغان وكانت حرب تحرير أفغانستان قائمة على أشدها إذ ذاك.

‌العطار الصحفي:

أسس العطار جريدة عكاظ سنة 1379، وحينما تحولت الصحف إلى مؤسسات انشئت مؤسسة عكاظ للصحافة وهي من أنشط الصحف اليومية، تصْدرُ جريدة عكاظ باللغة العربية وسعودي جازيت باللغة الإنجليزية، وتعتبر جريدة عكاظ من أكثر الصحف اليومية توزيعًا، ولها قراء كثيرون.

وإلى جانب جريدة عكاظ أسس العطار مجلة كلمة الحق الإسلامية التي أصدرها سنة 1386 هـ

(3)

.

ويبدو أن هذه المجلة لم تستمر طويلا، ولا أعرف شيئا عن أسباب توقفها والمدة التي استمر صدورها.

‌العطار الشاعر:

وللعطار ديوان شعر وحيد سماه الهوى والشباب ظهرت طبعته الأولى سنة 1362 هـ وقدمه الدكتور طه حسين بمقدمة أثنى فيها على الديوان قال فيها:

وجدت في شعرك من رصانة اللفظ وعمق المعنى، وعذوبة الموسيقى، وحسن الانسجام وحرارة العاطفة وصدق الشعور ما أذكرني عهودًا لم أنسها، ولن أنسها بل لم أفارقها ولن أفارقها لأنها قوام الحياة الأدبية لكل أدب عربي، وهي عهود الشعر الحجازي حين كان غض الشباب خصبًا من جميع نواحيه

(4)

.

(1)

المدينة المنورة العدد 8672، 27 رجب 1411 هـ.

(2)

جريدة المدينة المنورة العدد 8672، 23 رجب 1411 هـ.

(3)

جريدة الشرق الأوسط العدد 4457، 10/ 2/ 1991 م.

(4)

الهوى والشباب ص 10/ 11.

ص: 51

وأعاد العطار طبع ديوانه هذا سنة 1400 هـ الموافقة لسنة 1980 م، ولكن العطار انقطع عن الشعر مشتغلًا بالتآليف الكثيرة والمباحث المتنوعة التي ملأت أيامه ولياليه.

‌صلة العطار بأدباء عصره:

كان للعطار يرحمه الله نشاط عظيم في الاتصال بالأدباء الكبار في مصر، ومن أبرز هذه الاتصالات صلته بالعقاد التي سنتحدث عنها بعد، وقد أثمرت صلاته هذه أعمالًا أدبية فاشترك مع الأستاذ/ محمد عبد السلام محمد هارون في إخراج تهذيب الصحاح للزنجاني وكتب له العطار مقدمة ضافية، وقام بطبعه ونشره معالي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله، وإذا كانت صلة العطار بأدباء عصره أنتجت عملًا أدبيًا ولغويًا نافعًا، فإن بعض هذه الصلات أوصله إلى السجن.

فقد كان على صلة بالكاتب المصري المسيحي سلامة موسى، واتهم العطار بسبب هذه الصلة وما يشبهها بأنه ينشر دعايات ضارة ضد المملكة وحكومتها، وسجن بسبب ذلك وأبعد عن البعثة السعودية في مصر وحرم من التعليم الجامعي، وكتب العطار في آخر سنى حياته كتابًا عن هذه الواقعة سماه بين السجن والمنفى، وهو من أمتع الكتب بما يحويه من عفوية وبساطة وسلاسةفي الأسلوب.

‌صلة العطار بالعقاد:

كانت صلة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار - يرحمه الله - بالكاتب والأديب العبقري الكبير الأستاذ/ عباس محمود العقاد صلة حميمة بلغت حدَّ أنهما اشتركا في تأليف كتاب اسمه "الشيوعية والإسلام" صدرت طبعته الأولى سنة 1376 هـ الموافقة لسنة 1956 م وطبع مرة ثانية سنة 1392 هـ الموافقة لسنة 1972 م.

ولا أريد أن أتعرض لحقيقة الأمر في هذا الكتاب وهل شارك الأستاذ/ الكبير عباس محمود العقاد في تأليفه مع الأستاذ/ العطار، أم أنه وضع اسمه على غلاف الكتاب من قبيل المجاملة التي تقتضيها الصداقة الحميمة بينه وبين العطار ولكن قبول العقاد بوضع اسمه على الكتاب مع العطار هو أعظم دليل على صلة الطرفين وعلى ما يكنُّه كلٌّ منهما للآخر من مودة وتقدير.

وقد حدثني العطار - يرحمه الله - كيف بدأت صلته بالعقاد قال:

بعد وفاة زعيم مصر الكبير سعد زغلول - يرحمه الله - أصدر العقاد كتابه المعروف عن سعد زغلول في سنة 1936 الموافقة لسنة 1355 هـ.

كان العقاد من الكتاب المقربين إلى الزعيم الراحل، وكان يحظى منه بالتأييد وكان

ص: 52

إعجاب سعد بالعقاد كبيرًا حتى لقبه بالكاتب الجبار، وقد أشار العقاد إلى هذه التسمية في رثائه لسعد حيث يقول في قصيدة طويلة مطلعها:

أمضت بعد الرئيس الأربعون

كيف بالله إذًا تمضي السنون

ويخاطب العقاد سعدًا فيقول:

أنا جَبَّارُكَ لا تعهدني

ذلك الجبار في الدمع السخين

أصدر العقاد كتابه في الوقت الذي ثار الخلاف بين زعيم مصر مصطفى النحاس باشا، وبعض أعضاء الوفد بزعامة الدكتور أحمد ماهر والنقراشي باشا، وانضم العقاد إلى المنشقين على النحاس والذين ألفوا فيما بعد حزبًا جديدًا سموه الحزب السعدي نسبة إلى اسم الزعيم سعد زغلول.

وفي الوقت الذي كان يأمل فيه العقاد أن يتخاطف الناس كتابه عن سعد زغلول، كان العداء بينه وبين النحاس باشا وأعضاء الوفد قد استشرى فأثر هذا العداء على الكتاب، وربما امتنع الكثيرون من أعضاء الوفد وأشياعهم عن شراء الكتاب خشية إغضاب النحاس باشا.

في هذا الوقت بالذات وصل العطار إلى مصر وزار العقاد في بيته وعرف الموقف بالنسبة للكتاب، والحالة النفسية التي يتعرض لها العقاد بسبب الخصومة مع النحاس باشا.

يقول العطار:

خرجت من منزل العقاد وذهبت لزيارة الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية السعودية الأسبق الذي كان يزور مصر وذكرت لمعاليه أن الأستاذ/ عباس محمود العقاد قد أصدر كتابا قيِّمًا عن زعيم مصر الراحل سعد باشا زغلول، ولم يخرج العطار من مجلس الشيخ عبد الله السليمان إلا وفي يده مبلغًا لعله مائتي جنيه مصري وكان الجنيه في ذلك الزمان جنيهًا ورجع إلى العقاد ليسلمه المبلغ ويخبره أن الشيخ عبد الله السليمان الوزير السعودي يقدمها لشراء كمية رمزية من كتاب سعد زغلول وسُرَّ العقاد كثيرًا بهذه البادرة التي قام بها العطار، فأثَّرتْ في نفسه أعظم تأثير، وكانت هي البداية للصداقة الحميمة بين الرجلين.

‌العطار ينتصر للعقاد:

ولقد كان إعجاب العطار بالعقاد عظيمًا إلى حدِّ أنه كاد أن يحرج الشيخ محمد سرور الصبان مع الدكتور طه حسين بسبب انتصاره للعقاد ضد طه حسين، وتفصيل الموضوع أن معالي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله أقام في منزله بمكة المكرمة حفلًا لتكريم الدكتور طه حسين الذي حضر للزيارة أو للحج في ذلك العام، ودعى لهذا الحفل علماء المملكة وأدباءها وكثيرًا من الحجاج الزائرين للبلاد المقدسة.

ص: 53

وخطب الخطباء في الحفل معبرين عن شعورهم بلقاء الأديب الكبير أو عميد الأدب العربي كما كان يسمى يرحمه الله، وقام العطار لا ليذكر محاسن المحتفى به، وإنما ليدلي برأيه في الخصام الذي كان مستعرًا في ذلك الوقت بين العقاد وطه حسين وكانت مجلة الرسالة تنشر للأديبين الكبيرين مقالاتهما النارية ضد بعضهما البعض وكان عنوان هذه المقالات "لاتينيون وسكسونيون" واللاتينيون هم الذين درسوا في فرنسا وطلبوا العلم في جامعاتها، فاتسمت ثقافتهم بهذا الطابع الفرنسي الذي عبر عنه باللاتينية والذي كان يمثله الدكتور طه حسين يرحمه الله، أما العقاد فقد كان يتقن اللغة الإنجليزية وقد قرأ الكثير من مؤلفات الشعراء والعلماء والأدباء والمؤرخين بهذه اللغة "السكسونية" فنسب إليها في هذا الخصام بينه وبين طه حسين باعتباره يمثل الطرف السكسوني أو الانجليزي بحكم ثقافته في هذه اللغة.

كنت أنا والأستاذ/ محمد حسين زيدان نجلس إلى مائدة واحدة في حديقة منزل الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله حينما قام العطار وألقى خطابه المكتوب ينتصر للعقاد ضد طه حسين، وشعرنا أنا والزيدان بالحرج مما فعله العطار، ولعل الشيخ محمد سرور الصبان شعر بحرج أكثر، ولكن طه حسين يرحمه الله لم يلبث أن نهض للرد على كلمات الخطباء وخصص الجزء الأكبر من خطابه للرد على كلمة العطار، وكان الرد بليغًا، وقد كتب محمد حسين زيدان يرحمه الله في اليوم التالي في جريدة البلاد السعودية يصف الموقف ويلوم العطار على فعلته، لأن المقام لم يكن ليسمح له بفعل ما فعل.

أردت من سرد هذه الحادثة أن أذكر أن العطار كان في إعجابه بالعقاد قد ذهب بعيدًا حتى سمح لنفسه بالاقدام على نقد طه حسين في حفل أقيم لتكريمه في مكة المكرمة بعيدًا عن مصر وعن العقاد وفي موقف هو موقف التكريم والاشادة.

‌الأيام الأخيرة في حياة العطار:

مرض العطار وانتقل إلى جدة وعصر يوم من الأيام اتصل بي يرحمه الله وسألني عن تسمية الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بذي النورين، فأحلته إلى كتابي "عثمان بن عفان ذو النورين"، وكنت أهديته إليه حين صدوره كما أفعل بجميع مؤلفاتي، ويفعل هو يرحمه الله باهدائي مؤلفاته حين صدورها، ورأيت أن أرسل إليه الكتاب مع بعض كتبي الأخرى، وسألته عن محل اقامته لأرسل إليه الكتب ولأقوم بزيارته، وتفضلت زوجته الفاضلة باخباري عن العنوان، وأرسلت إليه كتاب عثمان بن عفان ومجموعة من كتبي الأخرى، وبعث إليَّ مع الرسول بعض آخر مؤلفاته مسجلا اهداءه عليها بخطه الجميل، وكان يتقن الخط كما يتقن فنون كثيرة أخرى مضمنًا الاهداء مشاعره الكريمة وجميل تقديره.

ص: 54

وكنت على عزم الذهاب لزيارته في جدة حينما اتصلت بي صحيفة البلاد ونعته إليَّ يرحمه الله، فقد توفي إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة 17 رجب 1411 هـ عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما تغمده الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته.

وأرجو أن يوفق الله تعالى أبناء الفقيد إلى طبع ما ترك من الكتب المخطوطة وفاءًا بحقه وتكريمًا لذكراه، والله ولي التوفيق.

ص: 55

حسين بن علي سرحان

ص: 57

حسين بن علي سرحان

ص: 58

‌حسين بن عَلي سَرحان

بدوي الطلعة، أصفر الوجه، نحيف البدن، كبير الرأس، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، حليق اللحية والشارب والعارضين، تبدو في وجهه سيماء الشموخ، وليس هو بالمتعالي ولكنه لا يحفل بما تعارف عليه الناس من احتفاء بالمظاهر، وإكبار للمناصب فهو يعيش في دنيا خاصة من أفكاره.

ولد بمكة المكرمة سنة 1334 هـ أو سنة 1332 هـ على اختلاف بين الروايتين.

وتلقَّى تعليمه الابتدائي في الكتاتيب في المعابدة، ثم انتقل للدراسة في المسجد الحرام على يد الشيخ محمد العلي التركي، فمكث عدة أشهر يتلقى عنه دروسه في الفقه والتفسير والفرائض، وبعض علوم اللغة العربية، ثم أشار عليه الشيخ التركي بالانتظام في مدرسة الفلاح، فالتحق بها، وبقي بها لمدة عام ونصف العام من عام 1348 - 1349 هـ، وترك المدرسة وهو في الصف السابع الابتدائي دون أن يحصل على الشهادة الابتدائية

(1)

.

قرأ حسين سرحان الكثير من أمهات الكتب العربية شعرًا ونثرًا، وقد استقبلني في بيته بمكة في محلة المعابدة في مجلس تكتظ رفوفه بالكتب، فأدركت لأول وهلة أن حسين سرحان أديب يستمد ثقافته من منابع الأدب العربي الأصيل، وكان هذا اللقاء في أواخر الخمسينات وهو في الرابعة والعشرين من العمر، وكان إلى جانب هذا وذاك يطالع الصحف ويقرأ أحدث ما تخرجه المطابع من مؤلفات أدباء العصر، فكان يجمع في ثقافته بين قديم الأدب وحديثه

(2)

. وكان للبيئة التي يعيش فيها تأثيرها في تكوين شخصيته فهو كما جاء في التعريف به في آخر مؤلفاته ينتسب إلى قبيلة الروسان من المراوحة من طفيح من برقا من عتيبة من هوازن

(3)

.

(1)

شعر حسين سرحان دراسه نقدية ص 15/ 19.

(2)

حديث عبد الله بلخير بجريدة عكاظ بتاريخ 8 ذي القعدة 1413 هـ.

(3)

الصوت والصدى التعريف بالشاعر في الغلاف الأخير.

ص: 59

وكان أبوه علي بن سرحان من حاشية سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز النائب العام لوالده الملك عبد العزيز في الحجاز "ملك المملكة العربية السعودية "فيما بعد، وكان يسكن في محلة المعابدة، وهي محلة بظاهر مكة المكرمة تتميز بالسمات البدوية لسكانها الذين يأخذون بأسباب الحضارة ومظاهرها، ويحتفظون في نفس الوقت بإباء البادية وخشونتها.

نشأ حسين سرحان في كنف جده لأمه عبيد الله بن سرحان لأن والده كان يعيش في نجد، وكان جده عمدة لمحلة المعابدة، وكان في نفس الوقت يَتَّجَرَ في الماشية وله أغنام يشرف على رعيها وبيعها، ونشأ الشاعر في هذه البيئة البدوية فمارس في صباه ما كان يمارس جده وتمارسه القبيلة من رعي الأغنام والاتجار فيها بيعًا وشراءًا، وكان جده ينتجع الرصيفة وهي في الجنوب الغربي لمكة، فيقضي مع أصته ومن يلوذ بهم شهورًا عديدة يصِّيفون بها، وقد استمر يحيا هذه الحياة البدوية إلى ما قبل البلوغ بقليل

(1)

.

وقد وصف حسين سرحان نفسه أصدق وصف في هذا البيت:

بدوي طبعٍ عنجهيُّ سليقةٍ

وكأنني منْ قد نماه مُكدِّمُ

(2)

عاش حسين سرحان في بحبوحة من العيش في ظل جده، فلم يبحث عن وظيفة يعيش منها أو يعين أهله بما تدره عليه، كما كان الحال بالنسبة لكثير من أترابه وزملائه في ذلك الزمان.

ووجد الوقت أمامه فسيحًا للقراءة والاطلاع، والتفرغ للشعر والأدب.

كان أبوه من حاشية النائب العام الأمير فيصل بن عبد العزيز الذين يطلق عليهم مسمى - الخويا - وحينما شب ابنه حسين التحق بالحاشية وأصبح من الخويا، واستمر على هذه الصفة فيما بعد، وكان من مقتضيات الخويا إجادة الرماية، وحمل السلاح خاصة في الأوقات التي يرافقون فيها الأمير في رحلاته، ورافق حسين سرحان سمو الأمير فيصل في رحلات متعددة إلى ليَّة ثم إلى الخرجة، والى العتمة

(3)

.

وفي عام 1362 وحسين سرحان في الثلاثين من العمر التحق بأول عمل رسمي له فقد دعاه الشيخ عبد الله السعد ليعمل في فرع مصلحة اللوازم العامة بالطائف، ولم يكن راغبًا في الوظيفة، ولكنه وقد رأى نفسه يبلغ الثلاثين من العمر دون ارتباط بعمل يدر عليه دخلا، قبل العمل الذي عرض عليه، وقد وصف شعوره بعد ارتباطه بالوظيفة في قصيدة عنوانها "الموظف الجديد" سنتحدث عنها حينما نتحدث عن أبواب الشعر في دواوين حسين

(1)

شعر حسين سرحان دراسة نقدية ص 17.

(2)

أجنحه بلا ريش 166.

(3)

شعر حسين سرحان دراسه نقديه ص 22.

ص: 60

سرحان، ومن هذه القصيدة نعرف أنه انتظم في سلك الوظائف مكرهًا ولم تكن الوظيفة صالحة له، ولم يكن هو بحكم طباعه، وما درج عليه في حياته صالحًا لها، ولكنه اضطر إليها.

ومن اللوازم العامة انتقل إلى الإدارة العامة بوزارة المالية بوظيفة سكرتير في سنة 1370 هـ، وربما كان لصفته الأدبية دخل في اختياره هذا العمل، وبعد العمل في وزارة المالية انتقل إلى إدارة شؤون الحج، ولعلَّ لصداقته بالأستاذ الشاعر أحمد قنديل يرحمه الله أثر في هذا الانتقال، فقد كان القنديل مديرًا لإدارة شؤون الحج، وحينما انتقل من إدارة الحج إلى عمل آخر وجه لصديقه القنديل قصيدة فيها دعابة.

ثم انتقل إلى مشروع توسعة الحرم المكي الشريف ثم عمل بعد ذلك في مطبعة الحكومة، ثم استقال أخيرًا وآوى إلى الراحة

(1)

.

لم يحقق حسين سرحان في عمله الوظيفي ما كان خليقًا بمثله أن يحققه، من علو مركز أو نباهة ذكر وخفض عيش، فلم يكن مهيئًا للعمل الوظيفي، ولم تكن طموحاته في مجاله، فبقي في الوظائف الكتابية التي لم يبلغ مرتبها الشهري الألفي ريال حتى أحيل إلى التقاعد، وكان راتبه التقاعدي أقل من هذا.

يقول صديقه العلامة الشيخ/ حمد الجاسر:

ولولا نظرة كريمة من أولي الأمر نحو حالته لعاش عيشة فقر وبؤس فقد أكرموه أكرمهم الله بزيادة راتبه التقاعدي وبقضاء ديْنٍ لحقه حين بنى بيتًا

(2)

.

إلى جانب العمل الحكومي كان لحسين سرحان حضور واضح في الصحافة: كان ينشر قصائده الشعرية في جريدة أم القرى منذ عام 1349 هـ.

وحينما ظهرت صحيفة صوت الحجاز سنة 1351 هـ كان ينشر فيها القصائد والمقالات واستمرَّ في نشر انتاجه الأدبي بها بعد أن أصبح اسمها البلاد السعودية، وقد اشترك في تحرير هذه الصحيفة حينما كان يرأس تحريرها الأستاذ/ عبد الله عريف يرحمه الله، كما أشرف على الصفحة الأدبية في نفس الجريدة بعد أن صار اسمها البلاد، وكان ينشر انتاجه الأدبي في الصحف الأخرى عكاظ، والمدينة، والندوة، والمنهل، وقريش

(3)

.

وفي الآونة الأخيرة كان ينشر مقالات قصيرة في جريدة الرياض

(4)

.

ولابد أن يكون هذا النشر بإلحاح من أصدقائه، لأنه آثر الانزواء التام والبعد عن المجتمع في السنوات الأخيرة، كما يفهم ذلك من أحاديث أصدقائه المقربين.

(1)

شعر حسين سرحان دراسة نقدية ص 22.

(2)

ذكريات حمد الجاسر المنشورة في جريدة الشرق الأوسط العدد 5267 بتاريخ 30/ 1993/4 الموافقة 9 ذو القعدة 1413 هـ.

(3)

شعر حسين سرحان دراسة نقديه ص 23.

(4)

جريدة الرياض العدد 9075 بتاريخ 8 ذو القعدة 1413 هـ.

ص: 61

هذه هي سيرة حسين سرحان العملية في الحياة، وقد آن لنا أن ننظر في شعره لنقرأ فيه ما أراد هو أن يقوله عن نفسه، فهو أعرف بها من الناس، ولا ينبئك مثل خبير.

‌مؤلفات حسين سرحان:

أصدر حسين سرحان ثلاثة دواوين شعرية.

- أجنحة بلا ريش طبع الطبعة الأولى سنة 1389، والطبعة الثانية سنة 1397 هجرية.

- الطائر الجريح.

- الصوت والصدى، طبع سنة 1409 هجرية.

- أوزان في الميزان مخطوط.

- مجموعة مقالات أصدرها النادي الأدبي بالرياض.

- الأدب والحرب مجموعة مقالات أصدرها النادي الأدبي بالطائف.

وهناك مجموعة أخرى من المقالات والقصائد يجري اعدادها للطبع.

أول ما يطالعك من ديوانه الأول أجنحة بلا ريش قصيدة عنوانها لا أبتغي إلا التفاتًا.

هذه القصيدة شهدت ميلادها إذا صح هذا التعبير، ولعها من بواكير شعره فإن تاريخها يعود إلى عهد الشباب إلى النصف الثاني من الخمسينات في القرن الرابع عشر الهجري.

كنا جماعة من الشباب نجتمع أصيل كل يوم في محلة قروة بالطائف في الفضاء الفسيح أمام القشلة - الثكنة العسكرية في الطائف - وكان حسين سرحان عضوًا في هذه الجماعة، وكانوا جميعًا من أدباء الشباب، وكانت أحلام الشباب وآماله تتدفق في مشاعرهم، وتجري على ألسنتهم.

وذات مساء دعوت حسين سرحان يرحمه الله إلى منزلي، وتحدَّثنا، وقرأ عليَّ القصيدة وهي موجهة إلى صاحب السمو الأمير فيصل النائب العام لجلالة والده الملك عبد العزيز في الحجاز يرحمهم الله جميعًا، وأعجبت بالقصيدة، بموسيقيتها المتمثلة في القافية النونية المتبوعة بالهاء، وكأنها رنين الوتر، وبمعانيها الجميلة الأنيقة والتي تبدأ بهذه الأبيات:

يا من أود لو أنني سوط تحركه يمينه

وأود لو أني عقيدته المكينة أو يقينه

وأود لو أني فداه إذ ارسا فيه مكينه

وأود أني ظله أحمي خطاه ولا أدينه

وأود أني سيفه أردي عداه ولا أخونه

ومنها: وأود لو أني الميام له إذا أرقِتْ جفونه

ص: 62

ومنها: وأود لو أني كتاجٍ زانه فيما يزينه

(1)

وقلت: لحسين هل قدمت القصيدة لسمو الأمر فيصل

؟

قال: لا

قلت: أسرع بتقديمها إليه فإنها قصيدة رائعة وستحلُّ من نفسه محلًا حسنا.

وذهب حسين سرحان وقدَّم القصيدة لسمو الأمير فيصل يرحمه الله وأبدى إعجابه بها وجاء حسين وقصَّ عليَّ القصة، واتفقنا أن نغتم هذه القصة لنتقدم بطلب الإذن لنا بإصدار مجلة أدبية.

وقلت: لحسن تقدم أنت بطلب الإذن فلعل صلتك بسمو الأمير فيصل تجعل له قبولًا.

وتقدم حسين سرحان بالطلب ولكن الإذن لم يصدر.

أذكر هذه القصة بعد أن مضى عليها أكثر من خمسة وخمسين عامًا، وأعود الآن إلى القصيدة لا نفسها التي نظمها حسين سرحان وهو في منتصف العشرينات، فأجد أن هذه القصيدة لا تصدر إلا عن شاعر أسلست له أعنة الشعر قيادها، فتدفقت فيها الصور الشعرية، رائعة وضاءة لتستولي على القارئ بموسيقيتها العذبة الرنين.

وإذا كانت هذه القصيدة التي نظمها في عنفوان شبابه بهذا المستوى من الإبداع والاجادة، فقد كانت مؤشرًا لما سيكون عليه حسين سرحان في دنيا الشعر في قابل الأيام.

ولقد لاحظت أن المبدعين في جميع الفنون تظهر آثار ابداعهم في سن مبكرة فكأن الموهبة تولد مع الإنسان ثم تصقلها الأيام.

وحسين سرحان شاعر يذكرك شعره بالصور الشعرية التي تحفل بها دواوين فحول الشعراء في العصرين الأموي والعباسي.

فقد أكبَّ على قراءة هذه الدواوين، فانطبعت صورها الشعرية الرائعة في ذهنه، وأثرت موسيقيتها في نفسه، ومكَّن لهذا الأمر حياته الشخصية التي تتصل بالصحراء وحياة البادية.

يقول في قصيدة النأي:

قضى الدهر ما بيني وبينك بالذي

قضاه فانآك افتراقُ وانآني

تُيَمِّمُ بي شارةٌ نحو مكة

وسِرْتَ على الخوص النواجي لنجران

فاشْمَلْتَ إذ أجْنَبْتُ يا بُعْدَ فرقد

تحدَّاك طولًا بيننا وتحدَّاني

(1)

أجنحة بلا ريش ص 15/ 16.

ص: 63

فيا بعد مجرى العين عن بئر عسكر

وأين كداءٌ عن سباسب ظهران

إذا أعنقت فيها المطايا تظالعت

وحَنَتْ بارزامٍ مُلحٍّ وَارْنانِ

هذه الصورة للمطابا وهي تَحِنُّ بارزام وأرنان هي صورة لاعرابي فارق حبيبته فسارت شمالًا وسار هو جنوبًا، وهذا البيت الذي يقول فيه:

فاشملت إذ أجنبت يا بعد فرقد

تحداك طولا بيننا وتحداني

هذا البيت يذكرني بصورة مشابهة وردت في شعر عمر بن أبي ربيعة يقول فيها:

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استهلت

وسهيل إذا استهل يماني

وابن أبي ربيعة يكني بنجوم السماء لأن الحبيبة اسمها الثريا.

ومن الصور البدوية التي يحفل بها شعر حسين سرحان قوله في ذكريات هوى:

وثبت وثبة كدري على قُلَلٍ

من الجبال طوال فوق اثباج

(1)

أنه هنا ينجو بنفسه هاربًا فيثب كما يثب طائر القطا على قمم الجبال.

ويقول في وصف النيل:

والنيل باركه الآله

اشمَّ مَطَّرِدُ القوام

أن مرَّ سبْقا كالجوا

دوان تلألأ كالحسام

(2)

ووصف النيل بالجواد الأشم في جريانه، وبالحسام في تلألئه ولمعانه من أجمل ما توصف به الأنهار والبحار، ولكنها صور بدوية تبدعها مخيلة فارس بدوي شاعر.

وأمثال هذه الصور كثيرة، ولسنا هنا في مجال الاستقصاء، وإنما نقدم المثل لإيضاح الصورة.

‌حسين سرحان الموظف:

وصف حسين سرحان نفسه، وسخر منها بعدما مارس عمله موظفًا في - قلم اللوازمات - التابع لوزارة المالية في الطائف فقال في قصيدته المؤظف الجديد.

أصبحت في قلم اللوازم

كالغلام مُسَخَّرا

قد بعت أربح بيعة

وشريت اغبن مشترى

يسعى الزمان إلى الأمام

وانت تسعى القهقرى

(1)

أجنحة بلا ريش ص 48.

(2)

أجنحة بلا ريش ص 54.

ص: 64

ومنها:

كنت الطليق تجرُّ ذيلك

فوق مرتفع الذرى

كالبرعم النشوان يأرج

في الصباح منورا

كالبلبل الصداح

يوقظ بالغناء ذوي الكرى

ثم يقول:

ما بال نفسك مُرَّةً

واديم قلبك مقفرا

تهتاج مثل الثور يو

م يرى الرداء الأحمرا

اتراك حين وقعت في

الشرك المعَدِّ مخيرا

أم كنت تسخر بالزمان

وبالمكان وبالورى

ويصف السرحان وصول الرئيس إلى الإدارة:

وإذا جرى الجلواز يوْ

مًا قلت ويحك ما جرى.؟

قال الرئيس أتى

فقمت مهلِّلًا ومكبرا

ونفخت زقا فارغا

ورفعت صوتا منكرا

وضحكت واستنجدت

نابا أسودا أو أصفرا

هذا عقابك ياحسين

صبرت أم لم تصبرا

(1)

لقد ذكرت أن حسين سرحان لم يلتحق بالوظيفة إلا بعد أن بلغ الثلاثين من العمر، كان يحيا حياة طليقة من أغلال الوظيفة ومراسمها، يفعل بأيامه ما يشاء دون حسيب أو رقيب، ولابد أنه كان مكفيِّ المؤونة بما يوفره له والده الذي كان من حاشية الأمير فيصل بن عبد العزيز، وكذلك كان هو من الحاشية أو "الخوايا" كما اصطلح على تسميتهم، ولهذا عاش حياة حرة لا تعرف قيود الوظيفة، ولا ما يجب لها من التزام، فلما اضطر إليها أدرك بطبيعته الساخرة، وبما غرس في طبعه الشامس من اعتزاز أنها لا تصلح له ولا يصلح لها، فصوَّر حاله ومشاعره في الوظيفة الجديدة.

وفي تصوري أن حسين سرحان كان مضطرًا إلى دخل ثابت يقيم به شؤون نفسه وأسرته فهو يصف حاله وحال أسرته وهم ينتقلون من دار إلى دار في مقطوعة صغيرة بعنوان ايجار الدار.

دائن جاء يبتغي إيجاره

بعد أن أسبل الدجى أستاره

ومضى العام شَرَّ عامٍ وقد

ذقنا الرزايا في حارةٍ بعد حاره

كل عام يزيد عما مضى في

اجرة الدار كالرياح المثاره

(1)

أجنحة بلا ريش ص 157/ 158.

ص: 65

رب كوخ أركانه مائلات

وهو في سعره كدار سفاره

المئات المئات ماذا؟ أنرمي

الأهل من رأس شاهق أو مناره

أم ترانا نعود كالعرب الرحل

والناس هرولوا للحضاره

بين رسم عفى ونؤي تبدَّى

وبعير شمردل وحماره

(1)

وقد وصف حسين سرحان حاله بعد أن قضى عامه الأول في الوظيفة في قصيدة عنوانها "تورطت" يقول فيها:

تورطت فيها بعد طول تمنِّع

وكنت مثال الحازم المترفع

مناصب يرقاها وضيع فيعتلي

بها ويلقاها جهول فيدِّعي

ويحسب أنَّ الناس من طوع أمره

بغلوة سهم أو بمقعد أصبع

وتصقله حتى يكون كيلمع

وتنفخه حتى يظل كلعلع

وتبرز فيه من خفايا غروره

أفانين من بعد الطوى والتسكوع

وبعد هذه الأبيات الذي يصف فيها ما تفعله الوظائف ببعض أربابها يقول عن نفسه:

وما أنا من طلابها أو هواتها

فإن تَلْحَينِّي فالْحَ القضاء اذن معي

دفعت إليها لم تكن لي حيلة

ولا رأيَ فاعذرني وإلا فقرِّع

عبودية شنعاء يمقتهما الفتى

ويفني بقلب عن هواها مشيع

ثم يصف ما كان حاله قبل الوظيفة فيقول:

وقد كنت عنها غانيًا بين مونق

من الكتب اصفيه الوداد ممتع

أحادث فيها الجاحظ الفذ تارة

وآونة اصغي إلى ابن المقفع

فكيف قبلتُ القيد ارسف تحته

بخيلا باحساسي سخيًا بادمعي

وكيف أرى حريتي بعد محبس

مقيت الجنى أبصر به ثم أسمع

(2)

وقد شبه حسين سرحان حاله في الوظيفة بالعيش بين الجن، بل أنه اعتبر أن العيش بين الجن على سوئه وفظاعته أحسن موقعًا من حاله أو عيشه في الوظيفة يقول:

قل للذي جعل الوظيفة همه

وسعى إليها سعى ضيغم غاب

العيش بين الجن آنس موقعا

من زحمة الكُتَّاب والحُسَّاب

هذا يجيئك باحثًا عن نمرةٍ

ويحوم ذاك على رتاج الباب

ويسومك الفرَّاش شرح رسالة

ويرومك الساقي لعرض كتاب

وتظل تحفر باليراع جداولا

ولوائحا سودا بغير حساب

متبرمًا مما يشق على النهى

متلويا من شدة الأكباب

(1)

أجنحة بلا ريش ص 131.

(2)

أجنحة بلا ريش ص 159/ 160.

ص: 66

وترى الرئيس مناوحًا لك قائلا

اشرح وحرر واحتفل بجواب

بيمينه التوقيع يحسب أنه

توقيع قيصر في وغى وغلاب

وإذا أتى الزوار ظلوا برهة

يتلفتون تَلَفُّتَ الهيَّاب

وللقصيدة بقية أبيات وضع الناشر مكانها أصفارًا مما يدل على أن هذه الأبيات مما لا يحسن نشره.

(1)

وإذا كان لنا أن نقول كلمة في شأن الوظيفة والشاعر فإن سواد الناس ومنهم الأدباء والعلماء يعملون في الوظائف وهي سبيل معاشهم، ولا ينظرون إليها هذه النظرة الهازئة المتعالية، ومنهم من يأخذ على مجتمع الوظائف ما قد يكون فيه من غرور بعض الرؤساء، وانتهازية بعض الزملاء، وسخف بعض المترددين، ولكن الحياة تحفل دائمًا بهذه الأشكال من الناس، وباختلاف الطبائع والغايات، والرجل الحصيف هو الذي يكيفُ نفسه مع واقع الحياة دون أن يفقد أصالة الخلق، ويعامل الناس المعاملة الكريمة اللائقة به وبهم.

لقد كان حسين سرحان يؤثر أن يعيش حياته بين الكتب، فلا يشارك الناس حياتهم اليومية بما فيها من مضحكات أو مبكيات، ولكنَّ الحياة ليست بين صحائف الكتب، وإنما هي في زحام المجتمعات.

والغزل عند حسين سرحان غزل حسي إذا صح هذا التعبير، يصف جمال المحبوبة وصفًا حسيًا يذكرك بالمشهورين من شعراء الغزل كعمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد، ولكنك لا تجد فيه وجدانيات الشعراء العذريين المعروفين كعباس بن الأحنف وكثيِّر عزة وجميل بثينه، يقول حسين سرحان في قصيدة رشأ:

يا بعيني ومهجتي

رشأ طاب محتده

في بني هاشمٍ يقوم

على العزِّ مولده

ناعس الطرف حُلْوُه

ناعم العود املده

اصطفاني بحبه

وصفا لي تودُّدُهْ

وسقاني بثغره

عَلَلًا لذَّ مورده

قبلا تبعث المنى

بين لحن يردده

نغما رجَّعَتْهُ

منه لهاة تعسجده

لكأني إذا فتحت

له السمع أشهده

رب لحن تراه بالعين رؤيا تجدده

مستادًا كما استعيد مثال تحدده

(1)

أجنحة بلا ريش ص 163.

ص: 67

يا حبيبي عشقت حبك لولا مسهده

وعشقت البكاء فيك إذ كنت تسعده

وعشقت الصبا الجميل يرى منك أمره

وعشقت الجفون حبلى بسحر تولده

وعشقت الوصال يدنو إذا شئت مبعده

وغدًا ارتجيه لولاك لم يرتغب غده

وزمانا تضمنا منه إذ نلتقي يده

وسهادا على انتظارك يحلو تعدده

رب غصن إذا طلعت جفاه تأوده

وخلا من ليانه ونآه مُغَرِّده

هذه القصيدة من شعر الغزل تعطينا صورة للشعر الغزلي عند الشاعر، الغزل الحسي الصريح فالحبيب.

ناعس الطرف حلوه

ناعم العود املده

وهو قد اصطفى الشاعر بحبه وصفى له الود معه:

وسقاني بثغره

عَلَلًا لذَّ مورده

قبلا تبعث المنى

بين لحن يردده

والشاعر يعشق هذا الحب لولا ما يجره هذا العشق من السهاد، ويعشق البكاء في الحب إذا كان الحبيب يسعده:

وعشقت الصبا الجميل يرى منك امرده

وعشقت الجفون جبلى تولده

وعشقت الوصال يدنو إذا شئت مبعده

كل هذه عواطف حسية نفتقد معها المعاني الروحية السامية التي تبعثها عاطفة الحب، وهي من أقوى العواطف الإنسانية وأعظمها تأثيرًا في النفوس، ولكن الشاعر هنا يعبر عن مشاعره، وهو صادق في هذا التعبير وفي هذا التعبير صور جميلة تلفت النظر فيقول في وصف غناء الحبيبة:

رب لحن تراه

بالعين رؤيا تجدده

هذا الغناء الذي يحس به السامع يصوره الشاعر رؤيا تراها العين وهو معنى جديد، وفي بيت آخر يصف الجفون المثقلة بالسحر فيقول:

وعشقت الجفون حبلى بسحر تولده

والمعنى جديد كذلك إلا أني لا أستسيغ الجفون الحبلى، حتى وإن كانت مثقلة بالسحر

ص: 68

والدلال.

ولحسين سرحان قصيدة أخرى، ربما كانت من شعر الصبا والشباب يقول فيها:

خذ من وصال الغواني ما سمحن به

وكن خفيفًا كدأب العابث الراجي

إني إذا ما قرعت الباب بعد مدى

فتحته وإن استعصى بارتاج

إذا أدمت الهوى أمست مناهله

مشوبة من أخاليط وامشاج

.........................

حتى أعيش بقلب جد مهتاج

(1)

وقد أمسكت عن إثبات الأبيات التالية، ولكن القارئ لهذه القصيدة يخرج منها بانطباع من أن قائل هذا الشعر لا يعرف إلا لونًا واحدا من ألوان الحب هو هذا اللون العابث النهاز للفرص حيثما أتيح له انتهازها، واستثناءًا من هذا الرأي أثبت له بيتين يقول فيهما:

ما هو الحسن يا ترى شفة رفت

وطرف سبى وعطف مالا

إنما الحسن حين تعشق نقصا

ثم يمسى من فرط حب كمالا

(2)

وهذا الذي ذكره حسين سرحان هو الذي كنت أبحث عنه في شعره الغزلي، الحب الذي يرى النقص في المحبوب فيستحيل من فرط الحب كمالا في عين المحب، هذا المعنى الإنساني السامي

ولكنهما بيتان يتيمان إذا صح هذا التعبير، أثبتهما من باب الأمانة، ولعل هذين البيتين هما الاستثناء الذي تثبت به القاعدة.

‌حسين سرحان في بيته:

لحسين سرحان قصيدة نشرت في جريدة صوت الحجاز سنة 1354 هـ بعنوان "يا ابنتي" وهي أول بنت رزقها وهو في مطلع شبابه، مطلعها:

يا ابنتي ما شربت خمرا من

الراووق أحلى من خَمْرِ فِيِكِ واسكر

لا ولا قد جنت يداي من البستان

وردا من ورد خديك انضر

ومنها:

يا ابنتي إن رأيتني أتمنى

عمرًا خالدًا ومالًا وفيرا

فهو من أجل أن أراك على حال

جميل فاغتدى مسرورا

(1)

أجنحة بلا ريش ص 48/ 50.

(2)

أجنحة بلا ريش ص 189.

ص: 69

فأماني ابيك انت تدرين

بما في فؤاده من أماني

أنت لا تعرفين شيئا سوى

الثدي فمصيه في رضى وأمان

ثم يقول:

يا ابنتي أيما أحب إليك

قبلة الأم أم عناق أبيك

لست أدري لكني اتمنى

قبلة استمدهما من فيك

اتسامى بهما إلى الفلك العالي

فاحيا بهما وتنعش روحي

هي رمز الحياة لكنها في

كبر العمر رقصة المذبوح

(1)

والقصيدة تعبر عن مشاعر الأبوة التي تعتلج في صدر الشاعر وهو يستقبل هذه الطفلة التي كانت أول ما رزق من الولد.

وقد رزئ حسين سرحان بفقد ولده الوحيد في حادث سيارة ولكني لم أجد له شعرًا في هذا المصاب، ولعله من شعره الذي لم ينشر، فليس أقسى من فقد الولد على الوالد وخاصة إذا كان هو الولد بين أخواته البنات، ويقول أصدقاء حسين سرحان أن الحادث أثَّر في نفسه كثيرًا، ولكني كما ذكرت لم أجد فيما قرأت من شعره المنشور - والغير مطبوع شيئًا في هذا المصاب الأليم.

ولحسين سرحان مقطوعة صغيرة في رثاء أبيه يقول فيها:

أنا لم أهنأ بلقياك أبي

لا بأهْلٍ قلت لي أو مرحب

كنت مثل الشلو ممدودا على

ثبج من غمرات الكرب

رد منك الطرف نحوي فإذا

فيه ايماض كومض السحب

وجرى منه دموع سكبت

في فؤادي أي دمع سكب

أنا أخفيه ولكن كذبت

مهجة ما وصمت بالكذب

(2)

وفي هذه المقطوعة يصف الشاعر حياته مع أبيه الذي كان مبتعدًا عنه يقول في مطلعها:

أنا لم أهنأ بلقياك أبي

لا بأهْلٍ قلت لي أو مرحب

لقد جاء الأب وقد أثقله المرض فلما وقعت عينه على الابن أومضت ايماضة فاضت منها الدموع دموع الولد والوالد، ثم كان الفراق الأخير.

(متى أعيش)

ولحسين سرحان قصيدة نشرت في النصف الثاني من الخمسينات مطلعها:

يا ليت اني بلا عم ولا خال

ولا أحاط بحساد وعذال

(1)

شعر حسين سرحان دراسة نقدية ص 382.

(2)

أجنحة بلا ريش ص 44.

ص: 70

وقد جاءت في ديوان الصوت والصدى وقد تحول المطلع إلى:

متى أعيش لا عم ولا خال

ولا أحاط بحساد وعزال

ثم يقول:

قوم إذا عاش أقوام بصمتهم

عاشوا على رغد بالقيل والقال

والهبوا بالرياح الهوج السنة

كأنهنَّ صلالٌ بين ادغال

تبيت تحفر للاعراض هاوية

كبرى وتشعل فيها أي اشعال

موكلون بها مستلئمون لها

إذا استدارت رحاها ألف سربال

ما النار تشتد في رطب وفي

يبس منهم باقسى ولا انكي على حال

بل ليت أنني نبت برابية

شجراء يلتف فيها السبع بالضال

يجري السحاب عليها كل محتفل

وتسحب الريح فيها أي اذيال

والقارئ لهذه القصيدة يستشف منها ضيق حسين سرحان بمجالس الغيبة التي كان يرتع أصحابها في لحوم الناس، والذي كانت تضمهم المجالس التي وصفها والتي أنكرها عليهم أشد انكار.

والقارئ لشعر حسين سرحان يرى فيه مسحة من التشاؤم والحزن، لعلها تعبير صادق عن حالته النفسية في السنين الأخيرة من عمره، ولكن الدارس والمتأمل لشعره يجد هذه المسحة تطل برأسها في الشعر الذي نظمه في شبابه ورجولته.

يقول في قصيدة موجز حياة:

أغدو مع الناس لا أني أعايشهم

ولست اسخر لكن يسخر القدر

في هيكل عن هباء الجسم مصدره

فقد تعذر فيه الورد والصدر

محنَّطا آويا في كل مرزئة

إلى خراب عليه العقل يندحر

وربَّ نائبة في أثْرِ نائبة

تلقى الكلاكل عندي ثم تنتظر

وضحكة بدرت في غير ساعتها

على فؤاد من اللأواء ينفطر

حتى الكواكب في لألآء طلعتها

اطفأتها ودموع القلب تعتصر

(1)

وإذا كان هذا وصفه لنفسه بعدما تقدم به السن فقد وصف نفسه بقوله:

ولدت شيخا أو أرى أنني

خلقت من قبل الثرى والجبال

كابرت دهري ثم خلَّفْته

يدُّب من خلفي دبيب النمال

(1)

الصوت والصدى ص 25/ 26.

ص: 71

ويقول:

اليوم عندي سنة مُرَّةٌ

والعام لا يوصف عندي بحال

كم قد طواني حين لم أطوه

عمر شديد الوطء جم النكال

لو مت طفلا خلت أني به

معذب المهجة فيما أخال

(1)

ثم وصف نفسه وهو في الثلاثين من العمر قائلا:

ثلاثون عامًا يالطول بقائنا

ويالمقامي فارغ النفس ثاويا

تعاظمتها لا استزيد بها الهوى

واهدرتها ايامها واللياليا

وأوسعتها جدا ولهوا وحكمة

وجهلا وتذكارا لها وتناسيا

فإن أكُ حَيَّا في حساب زمانها

فقد كنت في معنى الحقيقة فانيا

(2)

وقال وهو في الخمسين من العمر:

أخمسون عاما قد طويت كأنها

منام تو شِّيِه الرؤى وكذابها

وقد برمت نفسي علائل عيشها

فكيف وقد وَلَّتْ واقبل صابها

(3)

وقال وهو في السابعة والخمسين:

إني إلى الموت محجور فما رئتي

حتى ولا كبدي فيما اكَبَّدهُ

تلك التي بين عيني حين ابذرها

زهرا فتأتي المنايا وهي تحصده

وسبعة بعد خمسين مصادرها

ماء على رنق ماطاب مورده

(4)

وهكذا نرى أن بذرة التشاؤم كانت قد بذرت في نفس الشاعر من عهد الشباب، ثم أخذت تنمو مع الأيام والسنين حتى أصبحت شجرة باسقة تخيم بظلالها على حياته حتى انتهى به الأمر إلى اعتزال الناس إلا من بعض أصدقائه الخُلَّص وخاصة أهله الذين كانوا يتردَّدُون عليه بغية إخراجه من هذه العزلة التي فرضها على نفسه. حينما صدر ديوان الشاعر حمزة شحاتة يرحمه الله الذي كنت مشاركا في جمعه وترتيبه بتكليف من صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل مدَّ الله في عمره وحينما صدر هذا الديوان تأخر نشره في الأسواق، فكان بعض من يعلمون باشتراكي في جمعه وترتيبه يطلبونه مني، وكنت أجيب هذه الطلبات.

(1)

الصوت والصورة ص 32/ 34.

(2)

أجنحة بلا ريش ص 111.

(3)

أجنحة بلا ريش 135/ 136.

(4)

الصوت والصدى 61/ 62.

ص: 72

وفي ضحى أحد الأيام حضر إليَّ من مكة الأستاذ الشاعر/ عبد الله جبر وهو يحمل في يده قطعة ورق صغيرة من حسين سحان يرحمه الله يطلب فيها نسخة من الديوان، وكان الأستاذ/ جبر يشعر بشيء من الحرج، وهو يقدم لي هذه القصاصة من الورق، فقدمها وهو يعتذر عن حسين سحان، ويشير إلى ما وصلت إليه حاله ..... قلت لا عليك ..... إنه من أحق الناس بان يهدي إليه ديوان حمزة شحاتة حتى دون أن يطلبه.

وقدمت إليه النسخة ولكني أدركت في نفس الوقت مقدار ما يعانيه يرحمه الله.

لقد طال بنا الحديث عن شعر حسين سرحان ولكني قبل أن يختم هذا الحديث أود أن أثبت له أبياتًا من قصيدة عنوانها "إيمان وتسبيح" يقول في مطلعها:

يا ذا الجلال وذا الجمال وذا الكمال

رب العجائب والغرائب والمواهب

أبرمت أمرك أي علم غير علمك .. ؟

فإذا الحقيقة والحقيقة طوع حكمك

الكون يمخر في العماء أو الهواء

والشهب تبدو في الفضاء أو السماء

والواقف الراسي يزيد تمددا

والدائر الجاري يهرول سرمدا

وطبيعة مرسومة لا تنكشف

بإرادة علوية لا تختلف

ومنها:

سُبُّوحُ يا قُدُوسُ يا رب الجنود

لمَّا مضوا في التيه وانتهكوا العهود

هل كان موسى غير عبد من عبيدك

تركوه واتبعوا الهوى في يوم عيدك

أو كان عيسى يوم أرسل من لدنكا

إلا نبي جاء بالانقاذ منكا

أو كان أحمد في الصراط المستقيم

إلا صاح لاح في ليل بهيم

نشأت جوارحه على تمجيدكا

ودعت أوامره إلى توحيدكا

ص: 73

فإذا البرية فوق مفترق الطرق

وإذا العقول على جلالك تفترق

ومنها:

أحَدٌ توحدت الصفات على ظلاله

وتبجَستْ سحب الصغائب من نواله

وبديع كون من ثراه إلى سمائه

رمز عليه في دجاه أو ضيائه

ونختم هذه القصيدة بهذه الأبيات:

جد بالهداية لا حياة بلا هدايه

وانف الغواية لا كمال مع الغوايه

يا ذا الجلال وذا الجمال وذا الكمال

رب العجائب والغرائب والمواهب

والقصيدة مناجاة للخالق وتسبيح بحمده وإجلال لقدرته المختلفة في عجائب الكون، وهي من أجمل ما نظم حسين سرحان، يرحمه الله.

‌وفاة حسين سرحان:

توفي حسين سرحان يوم الثلاثاء السادس من ذي القعدة سنة 1413 هـ عن عمر يناهز الثمانين عامًا بعد عزلة طويلة عن الناس، وبعد أن نحف جسمه من الضنى، وخيَّمت على نفسه مشاعر اليأس والكآبة.

وقد فقدت البلاد بوفاته شاعرًا كبيرًا تميز من بين شعراء المملكة بأسلوبه الذي يذكر القارئ بشعراء العربية الكبار في العصور الزاهية للشعر العربي فكان نمطًا فريدًا بين شعراء عصره.

غفر الله لحسين سرحان، وتغمده برحمات منه ورضوان.

ص: 74

صالح محمد جمال

ص: 75

صالح محمد جمال

ص: 76

‌صالح محمَّد جمال

متوسط القامة ممتلئ الجسم في غير إسراف، أبيض البشرة، واسع العينين، أقنى الأنف يطالعك بوجه دائم الابتسام، تزيِّنه لحية لطيفة مخضوبة، بعد أن سرى إليها الشيب.

ولد الشيخ صالح محمد جمال كما قرأت في مذكراته الشخصية عام 1338 هـ في مكة المكرمة وأدخله أبوه مدرسة الفائزين ولكنَّ الطفل الصغير ترك المدرسة مرتاعًا بعد أن رأى القسوة التي يعامل بها بعض المدرسين تلاميذهم وكان الضرب في تلك الأيام عادة تكاد تَعُمُّ جميع المدارس، الضرب بالعصا أو بالمسطرة على كفِّ اليد، أو وضع الرجلين في الفلكة لمن يعتبرهم المدرسون مستحقين لعقوبة أكبر.

ولم ير أبوه بُدًا من إغرائه وتحبيب المدرسة إليه فوعده بقرش كامل يأخذه يوميًا إن هو ذهب إلى المدرسة التحضيرية القريبة من منزلهم وانتظم فيها، وفعل الاغراء فعله في نفس الطفل الصغير، ولعل اختلاف وجوه المدرسين وربما طريقة تعاملهم مع التلاميذ، وقرب المدرسة من المنزل كانت من الأسباب التي سكنَّتْ روع التلميذ الصغير وحبَّبت إليه المدرسة والمدرسين.

قضى صالح محمد جمال ثلاث سنوات في المدرسة التحضيرية، انتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية فقضى بها عامين حيث شجعه بعض أساتذته فيها إلى الانتقال إلى المعهد العلمي السعودي الذي أنشئ كمدرسة ثانوية في مكة المكرمة، وبقي في المعهد العلمي سنتين، واضطر أن يقطع دراسته بالمعهد، ليخرج إلى المجال العملي بعد أن اضطرته ظروفه العائلية إلى ذلك.

كان والد صالح جمال تاجرًا ميسور الحال يتجر في بعض المواد الغذائية مع شريك له وفسد الأمر بين الشريكين، وتعثَّرت البقالة فأثَّرت على الوالد، واضطر صالح جمال أن يقطع دراسته المتقطعة ابتداءًا، ليلحق بوظيفة في بيت المال في مكة المكرمة كاتبًا للوفيات بمرتب

ص: 77

مقداره واحد وعشرون ريالًا في الشهر، وهكذا ترك المدرسة وهو في السادسة عشر من العمر ليدخل في سلك الوظائف والموظفين.

كانت الحياة رخيصة وتكاليفها هينة، وكان المرتب الصغير مفيدًا للأسرة وعونًا لها على تكاليف الحياة، وخلال ستة أعوام تدرج كاتب الوفيات في المحكمة الشرعية الكبرى إلى كاتب ضبط أول، ثم إلى كاتب ضبط ثان، ثم أصبح مساعدًا لرئيس كتاب المحكمة الكبرى، وتدرَّج الراتب حتى وصل إلى ستين ريالًا في الشهر.

وكان الكاتب الشاب موضع ثقة رؤسائه من القضاة فقربوه إليهم، وأولوه اهتمامهم وكان بحكم عمله في كتابة ما يدور في الجلسات بين المتخاصمين، وما يوجهه القضاة من أسئلة، وما يعلقون عليه من إجابات يحيط بسير القضايا في المحكمة.

يقول صالح جمال عن القضاة الذين عمل معهم:

وقد اختصني منهم بالتعليم السيد/ محضار عقيل الذي كان إذا استوت القضية وآن أوان الحكم يمتحنني سائلًا: ما هو الحكم الآن

؟

وكان الشيخ محمد زكي البرزنجي هو الآخر يطلعني على النص في كتاب الكشَّاف أو المنتهى وهما الكتابان المعتمدان للحكم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في المحاكم.

يقول صالح جمال: وهذا ما أهَّلني بعد ذلك أن أشير إلى مستند الحكم من النصوص حينما كنت أُعد صحيفة الحكم.

يقول صالح جمال: وهو ما لم يسبقني إليه أحد من كُتَّاب المحكمة في ذلك الزمان، ولا تزال تلك الصكوك مسجلة بسجلات المحكمة الكبرى في أوائل الستينات وموقعة بختمي الذي أحتفظ به إلى الآن

(1)

.

هذه الوظيفة التي قام بأعبائها صالح جمال أكسبته ثقافة لم يكن ليحصل عليها لو لم يتقلد هذه الوظيفة، ولو لم يكن هو شخصيا مستعدًا استعدادًا نفسيًا للتعلم والتدريب، وقد بقي يعمل في المحكمة الكبرى عشر سنوات انتقل بعدها في سنة 1365 هـ للعمل في الأمن العام مديرًا للمستودعات، فأتيحت له الفرصة لأن يضيف إلى عمله الوظيفي عملًا آخر سيكون له أثر كبير في تكوين شخصيته في قابل الأيام.

‌مكتبة الثقافة:

كان العمل في الأمن العام ينتهي بانتهاء صلاة الظهر، ووجد الشاب صالح جمال نفسه خاليًا بعد ذلك فعمل أولًا وكيلا للأستاذ/ محمد حسين الأصفهاني موزع الصحف المصرية في جدة، عمل صالح جمال وكيلا له في توزيع هذه الصحف في مكة المكرمة، ثم تطورت

(1)

مذكرات صالح جمال ص 7/ 8 مخطوط.

ص: 78

الفكرة إلى شركة بينهما انضم إليها بعض أصدقائهما فتم تأسيس مكتبة الثقافة، وحصلت الشركة على حق توزيع مجلات دار الهلال، ودار أخبار اليوم، وروز اليوسف، ومجلتي الثقافة والرسالة، واتسع العمل ونجح، ولكن بعض أعضاء الشركة استقال للتفرغ لعمله الخاص، وبقي البعض الآخر.

وبعدها أقدم الشاب صالح جمال على التفرع للعمل، وإعطائه كل وقته.

استقال من عمله بالأمن العام وتفرع للعمل في توزيع الصحف، وأضاف إليها العمل في تجارة الكتب، وهكذا بدأت مكتبة الثقافة صغيرة متواضعة، ثم ما لبث أن نمت وتطورت فاهتمت بنشر الكتب وتوزيعها.

قامت مكتبة الثقافة بنشر مؤلفات المؤلفين السعوديين الذين لا يستطيعون الإنفاق على طبع مؤلفاتهم، فنشرت ديوان الشاعر المرحوم/ طاهر زمخشري، وكتاب تاريخ مكة لأحمد السباعي - يرحمهما الله، وقد نجح الكتاب الثاني وتكرَّر طبعه أكثر من مرة، ولكن الكتاب الأول تعثر توزيعه، وقد تعلم الناشر صالح جمال من هذه التجربة ما يتطلبه سوق الكتاب، وما يقبل عليه القراء من الكتب، وما عنه ينصرفون.

يقول عن ذلك:

ألفت كتابًا اسمه "دليل الحاج المصور" جمعت فيه مناسك الحج والأدعية المأثورة، وموجزًا لتاريخ مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والكعبة المشرفة، والمسجد الحرام، والمسجد النبوي، وبعض الآثار في المدينتين المقدستين، وقامت مكتبة الثقافة بطبعه ونشره وتوزيعه، وقد طبع حتى الآن أكثر من عشر طبعات، ولا يزال يطبع.

كما قمت بتحقيق كتاب "الدرة الثمينة في أخبار المدينة" لابن النجار من مخطوط وجدته في مكتبة نسيبي السيد بكر حمدي رحمه الله وقامت المكتبة - بطبعه ونشره وقد طبع طبعتان.

واستأذنت ورثة الشيخ/ رشدي ملحس - يرحمه الله - في إعادة طبع كتاب أخبار مكة للإمام الأرزقي وأذنوا لي، وقامت المكتبة - مكتبة الثقافة - بطبعه ونشره، وقد جرى طبعه عدة مرات، ولا يزال يطبع كلما نفذت طبعته.

وقامت المكتبة - مكتبة الثقافة - أيضا بطبع كتاب "الجامع الصغير لابن ظهيرة القرشي" وهو من مؤرخي مكة المكرمة، ويتم توزيع هذا الكتاب في مواسم الحج، ومثله كتاب الحكمة البالغة وهو مجموعة خطب منبرية

(1)

.

وقد ذكر الأستاذ/ صالح جمال الكتاب الذي جمع فيه مقالاته والذي سماه من أجل بلدي، وسأتحدث عنه حينما نتحدث عن صالح جمال الكاتب الصحفي.

(1)

مذكرات صالح جمال ص 12 مخطوط.

ص: 79

‌صالح جمال الصحفي والكاتب:

هيأت مكتبة الثقافة والعمل فيها لصالح جمال أسباب الثقافة، واستكمال ما فاته من أسباب التعليم حينما اضطر إلى قطع دراسته، واشتغل بالعمل الوظيفي، ثم بالعمل الحر في مكتبة الثقافة، وكان قبل ذلك شابا طموحًا يتمنى لبلاده أن تبلغ ما تستحقه من أسباب المجد والرفعة، وليس مثل القراءة والاطلاع ما يحفز الشباب وشملك بهم طريق الإصلاح.

عمل الأستاذ/ صالح جمال في جريدة البلاد السعودية أمينًا للصندوق، ثم مديرا للإدارة ثم مشرفًا على الإدارة والتحرير، وبدأ ينشر مقالاته فيها، ويكتب في غيرها من الصحف في ذلك الزمان، وبدأ صالح جمال الكتابة في جيريدة البلاد السعودية بتوقيع مستعار، اختار حرف - الصاد - الحرف الأول من اسمه ليوقِّع به على الكلمات القصيرة التي تنشرها له الجريدة، ويقول في تعليل إخفاء اسمه أنه لم يكن على ثقة من جودة ما يكتب، وقد اختار صالح جمال الكتابة عما يتحدث عنه الناس من المشاكل اليومية التي يعانونها وكان من عناوين الكلمات القصيرة التي ينشرها: أحاديث الناس، وحديث الجمعة، وحديث الخميس وكل صباح، ووجدت هذه الكلمات القصيرة صداها لدى القراء فشخعه هذا على الاستمرار في الكتابة وإظهار اسمه الصريح فيما بعد.

أما الموضوعات التي كان يتحدث عنها صالح جمال فيقول عنها:

كنت أتناول فيها أحاديث الناس الناقدة طبعا لأي موقف أو عمل جماهيري حكومي أو أهلي كالبلدية أو شركة الكهر باء أو الأوقاف أو المياه، وأحيانًا أكتب مقالات في المناسبة الدينية كالهجرة أو رمضان أو الحج، وكان يكتب كذلك عن بعض الشخصيات من أعلام المسلمين كالرازي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم تحت عنوان عباقرة العرب

(1)

.

أحاديث الناس هذه التي تتحدث عن المشكلات اليومية التي يتعرض لها الناس، والموجودة في كل مجتمع كانت علامة بارزة من اهتمامات صالح جمال صاحبته من مطلع شبابه منذ أن شرع قلمه للكتابة في الصحف، واستمرت معه إلى أن بلغ الشيخوخة، ولم يقتصر التعبير عن هذه الاهتمامات على الكتابة في الصحف، وإنما تحولت إلى أعمال ومشاريع اجتماعية تستأثر باهتمام الشيخ صالح جمال في المراكز العديدة التي شغلها فيما بعد، والتي سنتحدث عنها بعد.

وقد استمر الأستاذ/ صالح جمال يكتب في هذه الموضوعات الاجتماعية التي تصادف الناس في حياتهم اليومية، وبأسلوب يتسم بالشجاعة والصراحة، وكنت أقرأ كلما يقع عليه نظري من هذه الأحاديث في الصحف اليومية، وكنت أعجب دائمًا بشجاعته وجهره بما يعتقد أنه حق وصواب.

(1)

مذكرات صالح جمال ص 16 مخطوط.

ص: 80

ولقد جَرَّتْ هذه الشجاعة عليه بعض المشكلات فإن الحق لم يكن ليرضى كل الناس، ولكنه تحمل هذه الجرائر بإيمان من يعتقد أن عليه أمانة واجبة الأداء، وان أغضب البعض أو جرت عليه شجاعته المصاعب والمشكلات.

‌جريدة حراء:

أصدر الأستاذ/ صالح جمال جريدة حراء بعد أن انتهى عمله في جريدة البلاد السعودية التي انتقلت إداراتها إلى جدة ولم ينتقل معها، وكانت حراء تصدر أسبوعية كل يوم سبت، وكانت تطبع في جدة في مطابع الأصفهاني.

يقول الأستاذ/ صالح جمال عن إصدار حراء ما يلي:

اخترت لصدور حراء يوم السبت حيث لا توجد جريدة، وصدر العدد الأول منها يوم السبت 6 جمادى الأولى عام 1376 هـ، وكان أخي أحمد "الكاتب الكبير والعلامة الأستاذ أحمد محمد جمال" مساعدي الأيمن، واستعد زميلي بالبلاد السعودية الأستاذ/ عبد الله الداري في التصحيح، واستعد الأستاذ/ حسن قزاز أن يشارك بحكم إقامته في جدة بالإشراف على الطبع، وكنت أنا وأخي أحمد والأستاذ/ الداري ننزل كل ثلاثاء بعد الظهر إلى مطابع الأصفهاني لنشرف على توضيب الصفحتين الداخلتين 2، 3 وكانت الجريدة من أربع صفحات فقط. ونأذن بالطبع ثم ننزل يوم الخميس لتوضيب الصفحتين 1، 4 الحاملة لآخر الأنباء الخارجية، وآخر الأحداث الداخلية والافتتاحية وإجازتها، ثم انتظار إتمام الطبع واصطحابها معنا إلى مكة تمهيدًا لإصدارها يوم السبت.

ويقول صالح جمال عن ظروفه المالية يوم إقدامه على إصدار صحيفة حراء:

وإذا كان الكاتب الكبير الأستاذ/ مصطفى أمين يقول في مذكراته أنه أصدر صحفًا عدة كان آخرها أخبار اليوم بقروش كان يوفرها من مصروفه الخاص، فإنني قد أصدرت جريدة حراء بدون رأس مال، فقد كانت مطابع الأصفهاني تطبعها على الحساب، وكانت إدارة حراء في بيتي، وكان التوزيع يتم في مكتبة الثقافة

(1)

.

وإذا كان إظهار حراء في تلك الظروف المالية الصعبة التي ذكرها الأستاذ/ صالح جمال تدل على عصامية الرجل، وإقدامه، وإصراره على النجاح فلابد أن يذكر بالشكر الأصدقاء الذين ساعدوه في رحلته هذه الشاقة وهم:

أولًا: شقيقه الأستاذ/ أحمد وأصدقاؤه الأستاذ/ محمد حسين أصفهاني الذي سهَّل له الطبع في مطابعه والأستاذ الداري، والأستاذ حسن قزاز الذين ساهما في التصحيح والإشراف بدون أي مقابل، قوبلت حراء بالترحيب من القراء لأنها كانت تعبر عن أحاسيس الناس ومشاعرهم إزاء المشكلات اليومية التي يعانونها وأمدَّها الأدباء والكتاب بكتاباتهم فتسنَّمت مكانها المرموق في نفوس الناس الأمر الذي دفع مؤسسها إلى التفكير في إصدارها

(1)

مذكرات صالح جمال ص 17 مخطوط.

ص: 81

يومية فقام باستيراد مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة. ولم يمض سوى عام ونصف العام حتى صدرت حراء من مكة المكرمة بعد أن كانت تصدر أسبوعية، وصدر العدد الأول يوم 12/ 1377/11.

يقول صالح جمال عن أوليات حراء ما يلي:

ولأول مرة تنشئ صحيفة سعودية قسمًا خاصًا بها يلتقط بواسطته الأخبار العالمية الطازجة من مصادرها، ومن مختلف الإذاعات قبل أن تعرف الصحافة السعودية الاشتراك في وكالات الأنباء

(1)

.

ويقول كذلك:

صدرت حراء متطورة بالنسبة لصحافة المملكة، فاستحدثت التحقيقات الصحفية المصورة عن وزارة الداخلية والزراعة بالمملكة، ومدينة الرياض، ومستشفيات جدة وغير ذلك من الموضوعات الحيوية التي كان يجريها الأستاذ أنور زعلوك المحرر بحراء

(2)

.

كما استحدثت الزوايا والصفحات الخاصة مثل زاوية طبيبك، وركن البوليس وركن المزارع، واضحك مع فنان قديم، ورَّوحوا القلوب ساعة بعد ساعة، ومجتمع الطلبة وصفحة حراء الطبية، وصفحة الرياضة، والصفحة النسائية، ومن أجل صحتك، وكانت حراء كما يقول صالح جمال:

أول من كتب عن مشكلة لحوم الأضاحي والهَدْي وإهدارها ووجوب الإفادة منها وهي - حراء - أول من طالب بإنشاء مدرسة لتعليم قيادة السيارات كما عالجت موضوع تطويف الحجاج في سلسلة مقالات بأقلام عدد من الكتاب تحت عنوان نحو مستوى أفضل للمطوفين والحجاج

(3)

.

‌دمج الصحف:

لم يمض على صدور حراء يوميًا إلا بضعة شهور حتى أصدرت وزارة الإعلام أمرا بدمج الصحف فأدمجت حراء والندوة في صحيفة واحدة تصدر باسم الندوة، وعرفات والبلاد السعودية في صحيفة واحدة، واشترى الأستاذ/ صالح جمال من الأستاذ/ أحمد السباعي صاحب جريدة الندوة حصته بعد إدماج الصحيفتين فتفرّد بملكيتها واستقل برئاسة تحريرها، ولم يلبث السباعي أن أصدر منفردًا مجلة قريش، واستمرت حراء في خطتها القائمة على معالجة المشاكل اليومية للناس منذ باكورة صدورها.

(1)

مذكرات صالح جمال ص 17/ 18 مخطوط.

(2)

أنور زغلوك هو الآن رئيس تحرير جريدة رأي الشعب التي تصدر بالقاهرة.

(3)

مذكرات صالح جمال ص 18.

ص: 82

‌تحويل الصحف إلى مؤسسات:

صدر أمر وزارة الإعلام بتحويل الصحف التي يملكها الأفراد إلى مؤسسات صحفية يشارك في كل مؤسسة مجموعة من الناس بدلًا من أن تكون ملكًا لفرد أو أسرة، واختارت وزارة الإعلام قائمة بأسماء الأعضاء المؤسسين لجريدة الندوة كان من ضمنها اسم صالح جمال وأخيه الأستاذ/ أحمد جمال ولكن الأخوين اختارا الاعتذار بعد أن قدَّم صالح جمال من قبله قائمة لم تحظ بموافقة وزارة الإعلام، وانتهى بذلك دور صالح جمال كصاحب صحيفة، ولكن دوره ككاتب في جميع الصحف التي تصدر في المنطقة الغربية لم ينته فقد استمر يكتب بصورة أسبوعية في الصحف الثلاث الندوة، والبلاد، وعكاظ، وكان فِي كل ما يكتبه إنما يعبر عن المشاكل اليومية التي يعاني الناس منها في حياتهم اليومية وكان جريئًا كعادته من يوم أن بدأ إلى أن توفاه الله.

‌من أجل بلدي:

وقبل أن أنهي الحديث عن صالح جمال الصحفي والكاتب يجب أن أشير إلى كتاب متوسط الحجم، جمع فيه مختارات مما كان ينشره في جريدة الندوة وأثبت تاريخ النشر، ورقم العدد في كثير من الأحيان، والكتاب من منشورات المكتب التجاري في بيروت وتم طبعه عام 1384 هـ الموافقة 1964 للميلاد، وهو متوسط الحجم في مائتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط.

هذا الكتاب بموضوعاته المختلفة وتواريخ النشر المتقاربة أو المتباعدة تصور اهتمامات صالح جمال الكاتب بالهموم اليومية إذا صح هذا التعبير للمجتمع الذي يعيش فيه.

وبعض هذه الموضوعات حينما يقرأ القارئ يظن أنه يعالج مشاكل يومية ما زالت قائمة يتحدث الناس عنها وتستأثر باهتماماتهم، وهو في كلما يعالجه شجاع صريح، يجهر برأيه في غير وجل ولا هيبة، ينشد الحق، والإصلاح ويبتعد عن الطعن والتجريح وقد جرَّ عليه أسلوبه هذا الكثير من المتاعب مع الكثير من الناس، وتحدث هو عن بعض هذه المتاعب في مذكراته الشخصية، كما أنه تلقى المكافأة عن بعض ما عالجه من الأمور باقتناع المسؤولين بآرائه، وأثبت ذلك كله في كتابه هذا من أجل بلدي.

والكتاب في مجمله شهادة حق لمؤلفه، بشجاعة الرأي والجهر بالحق والسعي في الإصلاح والتعبير عن مشاعر المواطنين في غير تزييف ولا مغالاة، وفي غير ادلال ولا افتخار، ولمن رغب الاستزاده في هذا الباب أن يقرأ كتاب صالح جمال، فهو خير من يعبر عن آرائه وعمله.

ونكتفي بهذا القدر عن صالح جمال الصحفي والكاتب لنتحدث عن صالح جمال في مجال آخر من مجال العمل الاجتماعي الذي لازمه كما قلنا من النشأة حتى الممات.

‌جمعية البر بمكة المكرمة:

كان الأستاذ/ صالح جمال هو أول من دعا إلى إنشاء جمعية للبر بمكة المكرمة في مقال نشره في

ص: 83

جريدة البلاد السعودية سنة 1371 هـ، وقد لاقت هذه الدعوة استحسانًا عظيمًا وقبولًا من الناس، وافتتح التبرع لها معالي الشيخ/ محمد سرور الصبان، وتولى الأستاذ/ عبد الله عريف، التعريف بأغراض هذه الجمعية التي سميت هيئة صندوق البر في جريدة البلاد السعودية التي كان يتولى رئاسة تحريرها.

كانت أغراض الجمعية اجتماعية، هي مساعدة الفقراء والمعدمين وخاصة من الأرامل والأطفال على إيجاد السكن المناسب وتقديم العون المادي للأسر المحتاجة، وكانت دعوتها تقوم على حث الناس على التبرع لهذه الغاية بما يستطيعون، وحث الموظفين بصورة خاصة على تخصيص مبالغ شهرية من مرتباتهم لهذه الغاية، وتشكلت الهيئة من الأستاذ/ عبد الله عريف رئيسًا.

والأستاذ/ صالح جمال أمينًا عاما.

والأستاذ/ حامد مطاوع أمينًا للصندوق.

والأساتذة/ أحمد محمد جمال، وعمر عبد الجبار، وعبد العزيز ساب رحمهم الله، وعبد الرازق بليلة وعبد العزيز الرفاعي أعضاء.

واتخذت جمعية البر من جريدة البلاد مقرًا لها في محلة الشامية، وأقبل الناس عليها يمدونها بتبرعاتهم، وساهم الموظفون خاصة بمبالغ تقتطع من مرتباتهم الشهرية وأقامت النوادي الرياضية مباريات خصصت ريعها لصالح الجمعية وحينما أنشأت الدولة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووضعت الأنظمة للجمعيات الخيرية حصلت جمعية البر على تصريح لها بالعمل باسم جمعية البر بمكة المكرمة.

وأعطى الأستاذ/ صالح جمال الكثير من وقته وجهده للجمعية بعد أن أختير رئيسًا لها، واني أنقل هنا من آخر تقرير للجمعية نبذة عن أعمالها.

لقد بدأت الجمعية عملها في سنة 1372 مقتصرة على تقديم مساعدات مالية للأسر الفقيرة، ثم تطورت أعمالها عندما نمت مواردها بأن أنشأت في فترة أزمة طاحنة في المساكن، أول مجمع خيري سكني في حي الزهراء يحتوي على 45 وحدة سكنية، وأسمتها عمارة التوفيق، ثم أنشات مُجمَّعًا آخر بحي المعابدة بجوار مسجد الإجابة يضم خمسًا وأربعين وحدة سكنية أيضًا، وأطلقت عليه اسم عمارة السلامة.

وأخذت تتوالى إنشاء المجمعات السكنية على ضوء شدة الطلب، وتزاحم المحتاجين إليها، فأنشأت المجمع الثالث بالمسفلة عمارة الفوز، والجمع الرابع بجرول "عمارة الأمل" والمجمع الخامس بالتيسير "عمارة التيسير" والمجمع السادس "عمارة السعد" بالنزهة والمجمع السابع "عمارة الصلاح" بالهنداوية، والمجمع الثامن بالمسفلة وبه ثلاث وعشرون وحدة سكنية.

وتبرع لها المرحوم الشيخ/ يوسف زمزمي بعمارة الزاهر بالزهراء، والشيخ محمد سعيد

ص: 84

المداح بعمارة الرصيفة بالرصيفة، وهاتان العمارتان خاصتان بالنساء، والأستاذ/ عابد عجيمي بعمارة العوالي بالعوالي، وعمارة جبل دفان.

فأصبح للجمعية بذلك عشر مجمعات سكنية تتكون من ثلاث عشرة عمارة مبنية على أحدث طراز معماري تشغلها 278 عائلة، وتتولى الجمعية إدارتها ونظافتها وحراستها وصيانتها.

وقامت الجمعية بمساعدة الشباب الراغبين في الزواج والذين عجزوا عن إيجاد السكن المناسب لظروفهم المالية، قامت الجمعية بتقديم فرش شقة كاملة لكل عريس يثبت حاجته للمساعدة بعد بحث حالته، والاطلاع على عقد النكاح، وعقد استئجار الشقة وقد تقدم لها حتى الآن "كما يقول تقرير الجمعية السنوي" عدد من الشباب، وجرى بحث حالاتهم كما تم فرش المساكن لهم.

وقد زاد عدد المتقدمين للزواج عن الثمانين.

إلى جانب هذه الأعمال العظيمة، وفي مقدمتها المساعدات العينية من الأرزاق والمساعدات النقدية إلى آلاف الأسر الفقيرة بمكة، وفي آخر إحصاء لهذه الأسر بلغ تعدادها ثمانية آلاف وخمسمائة عائلة

(1)

.

هذه الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها جمعية البر بمكة المكرمة، والمؤلفة من رجال أفاضل من أهل البلد الأمين الذين ساهموا بأموالهم ومجهوداتهم في أعمالها، واستقبلوا التبرعات لها من المحسنين، وواصلوا العمل عامًا بعد عام حتى أصبحت الجمعية مثالًا يحتذى في العمل الطيب وتنميته والاستمرار فيه.

كان المرحوم الشيخ/ صالح جمال هو أول من أطلق الدعوة لها وواكب أعمالها أربعين سنة منذ بدء وجودها في سنة 1372 إلى أن توفاه الله وهو يتولى رئاستها عام 1411 هـ.

بدأت الجمعية نبتة صغيرة في باطن الأرض، ثم نمت حتى صارت شجرة عظيمة يانعة الثمر قوية الجذور، وامتدت حتى أصبحت حديقة عظيمة تمتد ظلالها في أحياء مكة، ويصل خيرها إلى بيوت آلاف الأسر في البلد الحرام.

ولم يقتصر عمل صالح جمال على جمعية البر وحدها، فقد شارك في مجالات كثيرة من مجالات العمل الاجتماعي في مكة المكرمة، كان رئيسًا للغرفة التجارية الصناعية في مكة المكرمة وكان رئيسًا لمؤسسة مطوفي العرب، وكان رئيسًا للمجلس البلدي وكان عضوًا في هيئات كثيرة لا مجال لتعدادها، والى جانب هذا كله كان يدير أعماله الخاصة في مطابع ومكتبات الثقافة وكان يشارك في المناسبات الاجتماعية الكثيرة، يشارك الناس أفراحهم وأحزانهم، ولست أدري كيف كان يوزع أوقاته بين كل هذه الأعمال والواجبات التي أكسبته محبة الناس، وثقتهم، وقد تجلَّت منزلته في قلوب الناس يوم وفاته، وما تلاها من أيام.

(1)

التقرير السنوي لجمعية البر بمكة المكرمة لعام 1412، 1413 هـ ص 7/ 8.

ص: 85

‌وفاة صالح جمال:

كنت مدعوًا مع أصحاب شركات نقل الحج إلى اجتماع مع معالي وزير الحج والأوقاف الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع ضحى يوم السبت 25 ذي القعدة 1411 هـ، وفي قاعة الجلوس بالوزارة، وجدت المرحوم الأستاذ/ صالح محمد جمال حاضرًا لمقابلة الوزير في عمل يتعلق بحجاج المغرب وكانت المفأجاة سارة لكلينا، فكلانا مشتاق للقاء الآخر، وجلسنا جنبًا إلى جنب نتحدث ثم دعي إلى مقابلة الوزير، وحينما انتهت المقابلة دعيت مع أصحاب شركات نقل الحجاج للدخول إلى قاعة الاجتماعات.

وغادرنا صالح جمال مودعًا إلى مكة، وقبيل المغرب هتف لي أحد الأصدقاء معزيًا في وفاة صالح جمال، أثر حادث مروري في طريق مكة، لقد شاء الله أن يقود سيارته، وكان قد تخلى عن قيادة السيارة منذ أعوام وأعوام.

ووقع القضاء الذي لا مفر منه، وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في الثالثة والسبعين من العمر يرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.

توجهت إلى داره في مكة معزيًا، وفوجئت بالشوارع المحيطة بمنزله في حي الزاهر مكتظة بالسيارات، وبحركة المرور وقد توقفت، فترجلت من السيارة وسرت إلى المنزل الذي كانت الجماهير تتدفق عليه، وشققت طريقي إلى حيث يجلس أهله وفي مقدمتهم شقيقه ورفيق دربه الصديق العلامة الأديب الأستاذ/ أحمد محمد جمال، وأبناؤه الدكاترة طارق وحسن وياسر صالح جمال، والأستاذ/ فائز، وماهر، وبقية أهله وأصهاره.

كان الناس وقوفًا في صفوف طويلة متراصة الأمر الذي حدا بآل جمال إلى الجلوس من كثرة ما أصابهم من الإرهاق، وكان سيل المعزين لا ينقطع.

لقد حضرت مكة كلها تعزّي في صالح جمال وشارك محبوه وأصدقاءه في المدن الأخرى في الحضور من جدة والطائف وغيرها.

كان هذا الحشد الكبير هو أعظم تعبير عن فداحة المصاب في الرجل الفقيد وكان كل هؤلاء المعزون بهذا الحضور الكبير يعبرون عن المكانة التي كان يحتلها صالح جمال في نفوسهم من المحبة والتقدير.

لقد أحب صالح جمال الناس منذ نعومة أظفاره، وعبر عن هذا الحب بقلمه ولسانه وبعمله وإنجازاته فأحبه الناس وأوسعوا له مكانًا في قلوبهم، وأثنوا عليه الثناء كله.

رحم الله صالح جمال، فقد كان مثالًا للخلق والصدق.

جهر بالحق في شجاعة ورجولة، وعمل للوطن في دأب واخلاص، وقضى حياته في إعانة المحتاجين، وتيسير أمور الناس ما استطاع، رحمه الله رحمة واسعة، وأحسن جزاءه إنه سميع مجيب.

* * *

ص: 86

الشيخ عبد الله غازي المكي

ص: 87

الشيخ عبد الله غازي المكي

ص: 88

‌الشيخ عبد الله غازي المكي

ولد الشيخ الغازي سنة 1290 للهجرة كما ذكر ذلك الأستاذ/ عمر عبد الجبار في ترجمته له، وذكر الشيخ/ طاهر الكردي تاريخ ولادته سنة 1291 للهجرة

(1)

وذكر الشيخ محمد نصيف أن الغازي وصل إلى الحجاز وهو ابن سبع سنين وتلقى العلم بمكة وبها نشأ

(2)

.

وأيًا كان الأمر فإن الشيخ/ الغازي بحكم نشأته بمكة وتعلمه بها، وقضاء حياته فيها يعتبر عالمًا من علماء البلد الحرام.

تلقى الغازي العلم في المدرسة الصولتية بمكة على أيدي الأساتذة الأفاضل من مدرِّسيها، وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وأمَّ الناس في صلاة التراويح وهو ابن اثنتي عشرة سنة.

واجتمع بكثير من علماء عصره وأخذ الإجازة منهم على ما جرى به العرف في ذلك الزمان

(3)

.

عمل الغازي بعد تخرجه أمينًا لمكتبة المدرسة الصولتية بمكة فحُبِّبت إليه القراءة فعكف عليها واشتغل بها، وكان الرجل يعيش عيش الزاهدين يسكن في رباط بمكة يدعى رباط محمد باشا، أو رباط الحنابلة قرب باب الزيادة، جعل جزءًا صغيرًا منه مكانًا لبيع الكحل، واتخذه كذلك مكانًا مختارًا للقراءة والتأليف.

فرَّغ الغازي نفسه بعد أن قرأ الكثير من كتب التاريخ مطبوعة ومخطوطة لكتابة تاريخ مكة المكرمة، فكان دائب الاشتغال بكتابة هذا التاريخ وجمعه وتنسيقه فاستوى له ما لم يستو لغيره حينما ألَّف كتابه الموسوعي عن تاريخ مكة الذي سماه "إفادة الأنام بأخبار البلد الحرام" استعرض في هذا الكتاب الضخم كلما كتبه المؤرخون عن مكة وقسَّمه إلى أبواب كثيرة تحدث

(1)

كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم ج 1 ص 22/ 23.

(2)

انظر نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهور ص 215 مخطوط.

(3)

انظر سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر ص 202/ 203.

ص: 89

فيها عن عمارة الكعبة المعظمة عبر التاريخ، وكذلك عن المسجد الحرام، وعماراته وما مرَّ فيه من الحوادث والأحداث، وشملت أبواب الكتاب تفاصيل دقيقة عن كل ما يتعلق بالبيت المعظم والمسجد الحرام، عن الحجر الأسود، والميزان، وسقف البيت، والملتزم، والحِجْر وكسوة البيت، وعن المسجد الحرام ودار الندوة وزمزم، وأبواب السجد الحرام ومنائره والمدارس والأربطة حوله، وسيول مكة وجبالها، وأسواقها، وآبارها والعيون التي جرت إليها، وعن كل ما يخطر ببال القارئ من تاريخ مكة عبر القرون، ولو أردت استعراض الأبواب التي يضمها الكتاب لطال بنا الحديث.

لذلك فإني أكتفي بوصف مجمل للكتاب.

‌كتاب إفادة الأنام مخطوط في سبع مجلدات:

المجلد الأول: يقع في سبعمائة وثمان وأربعون صحيفة في كل صحيفة ستة عشر سطرًا، وفي نهايته هوامش تتكون من خمس وثلاثين صفحة بعضها خالٍ من الكتابة، وهذا المجلد يحتوي على مباحث تتعلق بالكعبة المعظمة والبيت الحرام وما وقع فيه من أحداث عبر التاريخ وعن حارات مكة وأسمائها مما لا يتسع المقام لتفصيله.

المجلد الثاني: ويقع في ستمائة وواحد وثمانين صحيفة في كل صحيفة اثنى عشر سطرًا، وفي نهايته هوامش تتكون من ثلاثين صحيفة بعضها خالٍ من الكتابة.

وهذا المجلد يحتوي على مباحث تتعلق بأماكن المناسك كعرفة، ومزدلفة ومنى، كما يتحدث عن شعاب مكة، وضواحيها، وعن مقابر مكة والمدفونين بها من الصحابة والتابعين والعلماء وأعلام الرجال ومواضع دفنهم.

كما يتحدث عن العيون والبرك والمساقي والمطاهر، والأربطة والمدارس الموقوفة بمكة المكرمة، وأسماء مؤسسيها والموقوف عليها والأحداث التي وقعت في هذه الأوقاف عبر القرون، كما يتحدث عن سيول مكة، والأمطار التي نزلت عليها وتأثيرها على الناس في أوقاتها والعواصف والرعود، وما إلى ذلك عبر القرون.

كما يتحدث هذا المجلد عن الغلاء وأسعار الطعام والأوقات التي شحَّ فيها وما إلى ذلك، ويتحدث كذلك عن الأوئبة والطواعين التي حصلت في الحجاز، ثم يتحدث عن قطع الطريق من قبل الأعراب وما يتعرض له الحجاج من النهب والفتك والقتال الذي وقع بسبب ذلك، وفي النهاية يتحدث المؤلف عن المكوس والضرائب التي فرضت على البضائع الواردة إلى جدة ومقدار جبايتها، وما كان يأخذه الملوك منها، وما يخصُّ شريف مكة فيها.

المجلد الثالث: ويقع في أربعمائة وواحد وخمسين صحيفة يتكون بعضها من ثلاث عشر سطرًا، والبعض الآخر من اثنتي عشر سطرًا، ويتبع هذه الصفحات ملحقات وهوامش تتكون من مائة وسبعين صحيفة، وبخط يختلف عن الخط الذي كتب به الكتاب الأصلي،

ص: 90

وفي هذه الملحقات تطرق المؤلف إلى مباحث أخرى تتعلق بتاريخ اليمن ونجد، والبحرين، وقبائل العرب وغيره مما يخرج عن تاريخ مكة والحجاز إلى تواريخ البلاد العربية المجاورة.

ويتحدث المجلد الثالث عن المحامل التي كانت تصل إلى مكة مع حجاج مصر والعراق والشام واليمن، والصدقات التي رتبها السلاطين والملوك لفقراء الحرمين، وعن حوادث أخرى متفرقة في مكة، ثم يتحدث المؤلف في هذا الجزء عن حج الملوك والسلاطين، وينتهي هذا المجلد بحج خديوي مصر عباس حلمي سنة 1327 هجرية وقدوم السلطان وحيد الدين آخر خلفاء سلاطين العثمانيين سنة 1341 للهجرة.

الجزء الرابع: ويقع في ثلاثمائة وثلاث وخمسين صحيفة كل صحيفة ثمانية عشر سطرًا ويحتوي هذا الجزء على ولاية الشريف الحسين بن علي مكة من قبل الدولة العثمانية، ثم قيامه بالثورة عليها، وأحداث هذه الثورة، ويشتمل هذا الجزء على تاريخ الدولة الهاشمية في الحجاز إلى سنة 1342، وقد أتبع المؤلف هذا الجزء بخمس صفحات سجل فيها قصيدة شاعري الشام خير الدين الزركلي، وشفيق جبري، وكلتا القصيدتين موجهتان إلى الشريف الحسين بن علي بعد خروجه من الحجاز، وتولِّي السلطان عبد العزيز بن سعود العرش، ومطلع قصيدة الزركلي:

صبر العظيم على العظيم

جبار زمزم والحطيم

وهي قصيدة مشهورة، ومنشورة في ديوانه.

ومطلع قصيدة شفيق جبري:

ماذا جنيت فأنت اليوم مسلوبُ

تاج الملوك وأنت اليوم مغلوب

الجزء الخامس: يقع في ثلاثمائة وخمس وستين صحيفة كل صحيفة حوالي عشرين سطرًا، ويضم بقية تاريخ الدولة الهاشمية في الحجاز وما أصدرته من نظم، كما يضم الخلاف بين الشريف الحسين والسلطان عبد العزيز، والحرب التي وقعت بينهما وتنازل الشريف الحسين عن العرش لابنه علي، ومغادرته جدة، وكذلك عن أحداث الحرب بين الشريف علي والسلطان عبد العزيز واتفاق الطرفين على تسليم البلاد للسلطان عبد العزيز، وما قامت به الحكومة السعودية من أعمال.

وينتهي الجزء الخامس بأحداث سنة 1349 للهجرة.

الجزء السادس: يقع في 735 صحيفة كل صحيفة فيها ستة عشر سطرًا، ويتحدث هذا الجزء عن ولاة مكة من بعد فتح النبي صلوات الله وسلامه عليه لها، وولاتها في عهود الخلفاء الراشدين من بعده، وفي الخلافة الأموية والعباسية، كما يتحدث عن ولاة مكة من الأشراف، والحوادث التي وقعت بينهم، وكذلك عن الحوادث التي وقعت بمكة بين الأشراف، وجيوش الدول التي كانت تحكم الحجاز أو تتطلع لولايته كالمصريين

ص: 91

والعثمانيين، وكذلك عن استيلاء الدولة السعودية الأولى على الحجاز، والحرب بينهم وبين محمد علي باشا والي مصر، والأحداث التي وقعت بعد ذلك في مكة في العهد العثماني.

وتنتهي بأخبار الانقلاب العثماني سنة 1326 للهجرة.

المجلد السابع: ويقع في سبعمائة وست وخمسين صحيفة تتكون كل صحيفة من ثمانية عشر سطرًا، ويتحدث المؤلف في هذا الجزء عن حدود بلاد العرب وتقسيمها وقبائلها كما يتحدث عن بلاد اليمن وأوديتها وزراعتها، وحكامها من أول أئمة الزيدية، وأحداث اليمن السياسية مع الدولة العثمانية إلى أن يصل إلى الإمام يحيى حميد الدين، كما يتحدث عن السلطنات اليمنية واحتلال الإنجليز للمحميات التسع، ثم يتحدث عن أبها وبلاد عسير، وعلاقة آل عايض بالدولة السعودية، ودخول الجيش السعودي أبها في سنة 1340، ويتحدث المؤلف عن الأدارسة، وابتداء دولتهم والحرب التي وقعت بينهم وبين الدولة العثمانية، ثم انضمام الأدارسة إلى الدولة السعودية وتسليم البلاد لها، ويتحدث المؤلف بعد ذلك عن بلاد حضر موت وقبائلها وسكانها وأحوالهم، ثم يتحدث عن البحرين ومدنها واستخراج اللؤلؤ منها وحكامها والأحداث التي وقعت فيها، ثم يتحدث المؤلف عن الكويت وأحوالها وولاية آل الصباح لها، وما وقع بين أمراء آل الصباح، وطلب الشيخ مبارك الصباح الحماية الإنجليزية، والأحداث السياسية التي وقعت بها، ثم يتحدث المؤلف عن بلاد نجد وحائل وعن أمراء آل الرشيد والأحداث التي وقعت بينهم إلى حين استيلاء السلطان عبد العزيز بن سعود على حائل، ثم يتحدث المؤلف عن القصيم وعن مدن نجد وقراها وعن الاحساء والقطيف والعقير، ويتحدث المؤلف كذلك في هذا الجزء عن أمراء آل سعود والأحداث التي وقعت بينهم، واستيلاء آل الرشيد على الرياض وخروج الامام عبد الرحمن بن فيصل من نجد، ثم عودة النجديين إلى الرياض بقيادة الأمير الشاب عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وانتصاره على آل الرشيد، وعن علاقة ابن سعود بالأتراك والانجليز.

ثم يعود المؤلف بعد ذلك فيتحدث عن العرب البائدة والعرب العاربة والمستعربة وعن عادات العرب في الجاهلية، وعن علوم العرب القديمة كالقيافة والفراسة وقصِّ الأثر وما إلى ذلك.

ثم يتحدث المؤلف عن أسواق العرب، والأودية والجبال، ويعود المؤلف بعد ذلك للحديث عن طريق قوافل الحج من مصر، ومن دمشق ومن القدس الشريف، ومن صنعاء، ومن العراق، والرياض والكويت، ثم يتحدث عن طرق المدينة إلى مكة وطريق ينبع إلى مكة، والقبائل التي تسكن في هذه الطرق.

ثم يتحدث المؤلف عن سكان مكة بعد انتشار الإسلام من الأشراف والسادة والعائلات المشهورة.

ص: 92

ويتحدث كذلك عن أخبار مدينة جدة والأحداث التي وقعت بها، ثم يتحدث عن الطائف وقراه وحصونه ومساجده.

ويختم الكتاب بذكر من دفن بالطائف من الصحابة والفضلاء والأمراء، ويعتبر هذا المجلد السابع هو خاتمة موسوعة الشيخ عبد الله الغازي الكبيرة.

‌أسلوب التأليف:

أتبع المؤلف في كتابه هذا أسلوبًا قد يكون جديدًا بالنسبة لعصره، وطريقة المؤلفين من قبله، فهو يقسم الكتاب إلى أبواب كثيرة، يتحدث في كل باب منها عن قسم معين لا يتعدَّاه إلى غيره، ويجمع في هذا القسم ما وصل إليه من كتابات المؤرخين قبله ويذكر أسماء الكتب التي نقل عنها، وأسماء مؤلفيها.

فإذا تحدث مثلا عن الحجر الأسود، ذكر ابتداء وضعه في مكانه بيد الخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وما ذكره المؤلفون قبله عن هذا الحجر، ونزول جبرائيل عليه، السلام به من الجنة، ثم يذكر تاريخ الحجر الأسود، وكيف اختلف القرشيون بسببه ثم وضع النبي صلوات الله وسلامه عليه في موضعه بعد أن جعل القبائل المختلفة تشترك في حمله، وما فعله ابن الزبير بعد هدم الكعبة، فأطال الصلاة حتى يتمكن من كلَّفَهم بوضعه في مكانه ليجنِّب الناس أمر الاختلاف فيه، ثم يستعرض الحوادث التي مرَّت بالحجر الأسود واستيلاء القرامطة عليه، وأخذه معهم إلى هَجَرْ، وإعادته بعد اثنتين وعشرين سنة، ويذكر كذلك تَفَتُّت الحجر وما جرى من محاولات لاصلاحه عبر التاريخ، وهكذا لا يترك المؤلف شاردة ولا واردة في الموضوع إلا وينقل ما كتبه المؤرخون عنها.

وهكذا يصنع المؤلف في كل موضوع يتحدث عنه، فالكتاب بهذا الأسلوب يكاد أن يكون موسوعيًا في المواضيع التي يتحدث عنها، وأجمل ما فيه أنه يخصص الحديث عن كل موضع في القسم الخاص به من الكتاب، ولا يتجاوزه إلى غيره، بحيث يسهل مهمة الباحث، فلا يضطره إلى البحث عن هذا الموضوع في أقسام أخرى من الكتاب إلا في الحالات التي تقتضي الربط بين موضوع وآخر، وهي قليلة جدا، ولها ما يبررها.

والمؤلف يذكر مصادره غالبًا باسم الكتاب الذي ينقل عنه، وتارة باسم مؤلف الكتاب، ولو أنه عمد إلى توثيق ما ينقله بأرقام الصفحات وجعل لكل ذلك هامشًا لكان عمله أكمل، ولكنَّ المؤلف كان يكتب في زمن لم يعرف الكثير من مؤلفيه وكُتَّابه هذا الأسلوب الوثائقي في التأليف، وأنا شخصيا أعتبر الغازي مجددا في أسلوبه في التأليف بالنسبة لعصره لاتِّباعه أسلوب التقسيم الذي تحدثت عنه للمواضيع والأبواب، ولذكره أسماء المصادر التي نقل عنها، ولتعمِّده نقل ما كتبه المؤلفون قبله بأسلوبهم دون تحريف، وهي أمانة لها قيمتها في النقل، وأود أن أذكر أن هذا الأسلوب يسهِّل على الباحث الرجوع إلى المصادر التي ذكرها

ص: 93

المؤلف، وقد جرَّبت هذا شخصيًا في مراجعة بعض الأبحاث التي ذكرها، فوجدت الأصل الذي نقل عنه مطابقًا للنقل.

والروايات التي ينقلها الغازي عن المؤرخين قد تحمل بعض الاختلاف فينقلها بنصِّها ولا يتدخل فيها بتصحيح أو تعليق، ولا يدلي برأيه الخاص في الاختلاف إن وجد، فهو ينقل ما كتبه المؤرخون وبنسبه إليهم، وهو بهذا يشبه شيخ المؤرخين الإمام الطبري في طريقته في رواية الروايات وبعض هذه الروايات التي ينقلها الغازي مكذوبة، وبعضها ملفَّق لا يقبله عقل ولكنَّ الغازي ينقلها بنصها ولا يبدي رأيه فيها، ولا يعترض على ما هو منكر وظاهر البطلان.

وأسوق على ذلك رواية ذكرها في حديثه عن الماء في مكة وعن عيون مكة وآبارها.

فقد نقل الغازي عن كتاب "آكام المرجان في أحكام الجان" رواية منسوبة إلى الشيخ نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني امام الحنابلة بمكة، والذي كان يشرف على إجراء ماء العين إلى مكة يقول فيها:

أنَّ رجلًا كان يعمل في الحفر فخرج مصروعًا يتكلم ويقول: نحن سكان هذه الأرض ولا والله ما فيها مسلم غيري، ولا يحل لكم أن تظلمونا، وقد أرسلوني إليكم يقولون: لا ندعكم تمرُّون بهذا الماء في أرضنا حتى تقدموا لنا حقنا، قلت وما حقكم

؟ قال: تأخذون ثَوْرًا فتزينونه بأعظم زينه، وتلبسونه، وتزفونه من داخل مكة حتى تنتهوا به إلى هنا، فاذبحوه، ثم اطرحوا لنا دمه وأطرافه ورأسه في بئر عبد الصمد وشأنكم بباقيه، وإلا فلا ندع الماء يجري إلى هذه الأرض، والرواية طويلة ظاهرة التلفيق وينتهي من منامه بأن الشيخ نجم الدين إمام الحنابلة عرض الأمر على كبراء أهل مكة فاشتروا ثورًا وزَينوه وألبسوه، وخرجوا يزفونه إلى الموضع الذي حدَّده رسول الجان لهم، وقاموا بذبح الثور، وألقوا رأسه وأطرافه ودمه في البئر التي سمَّاها، فما أن طرحوا رأس الثور وأطرافه ودمه حتى جاء رجل إلى الشيخ نجم الدين وأشار إليه بالحفر في موضع عيَّنه له، فلما تمَّ ذلك كان الماء يموج في ذلك الموضع، وإذا طريق منقور في الجبل يمرُّ تحته الفارس فلما أصلح هذا الطريق ونُظف جرى الماء إليه يسمع هديره، ولم يكن إلا أربعة أيام، فإذا الماء بمكة وصار حول البئر موردًا. انتهى.

هذه الرواية منسوبة إلى الشيخ شمس الدين الحنبلي، ويعرِّفُه ناقل الرواية بأنه ابن القيم الجوزية، ويصف من روى له الرواية بأنه من أصدق الناس وأعظمهم ديانة وأمانة، وأهل البلد كله يشهدون له بالديانة والصدق وشاهدوا هذه الواقعة بعيونهم.

ويقول الشيخ الفاسي: بئر عبد الصمد المذكورة في هذه الحكاية لا تعرف الآن، والعين المشار إليها عين بازان ويغلب على ظني أن ذلك جرى فيها لما عمَّرها أصحاب جوبان، والله أعلم.

ص: 94

هذه الحكاية أوردها كذلك تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام منقولة عن كتاب "آكام المرجان في أحكام الجان" والرواية هذه وقعت في سنة ست وعشرين وسبعمائة التي أجرى الأمير جوبان نائب السلطنة بالعراقين الماء إلى مكة

(1)

.

ولقد عجبت من ذكر الغازي هذه القصة وهي ظاهرة الخرافة والتلفيق، وعجبت أكثر من رواية الفاسي لها فهذا العمل إن صحَّ فهو يدل على أن الخرافة في مكة في ذلك الزمان حلَّتْ محل العقل، وأن الشعوذة استولت على عقول الناس فتوارت العقيدة الصحيحة لتفسح المجال لأوهام الدجالين والمشعوذين، وإلا فكيف تقبل عقول الناس حكاية كهذه الحكاية التي يَزفُّ فيها المكيون ثورًا يزيِّنُونه ويلبسونه أحسن الحلل، ويخرجون به من مكة في موكب بالطبل والزمر، حتى يوصلونه إلى منى فيذبحونه، ويلقون رأسه وأطرافه ودمه في بئر استجابة لطلب الجن الذين يتحكمون في الماء فيجرونه أو يمنعونه، ونجد هذه الرواية منسوبة إلى نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني أمام الحنابلة المعروف بصدقه وأمانته ويتحسر في نهايتها شمس الدين الحنبلي الذي هو ابن القيم الجوزية على أيام الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب الذي يفرق منه الشيطان، فيجري ماء النيل دون أن يذبح له عصفور.

ترى هل نسي الشيخ شمس الدين، والشيخ نجم الدين إمام الحنابلة، هل نسوا الآية القرآنية الكريمة في حرمة الذبح لغير الله تعالى.

حُرِّمَتْ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به .. إلى آخر الآية الكريمة؟ وأين علماء مكة من هذا الحدث البالغ الخطورة؟

هذه الحادثة لم يقبلها عقلي، ولم أوردها لأنها كانت ظاهرة التلفيق والكذب وقد أيَّد ذلك عندي حادثة أخرى رواها الشيخ الغازي منقولة عن كتاب بلوغ القرى للعلامة عمر بن فهد، في سنة 890، وهي تشبه الحادثة الأولى بنصها ورد فيها اسم المحتسب سنقر الجمالي ووظيفته شاد العماير السلطانية، وقد خرج الموكب من بيت المحتسب بالثور المزين بالملابس والحلل، والطبل والزمر إلى بركة ماجن في أسفل مكة، وسار الموكب بعد ذلك إلى أعلى مكة بسوق الليل وإلى بئر المظلمة التي يبدو أنها كانت في أعلى مكة بسوق الليل، وقد زُفَّ هذا الموكب الخرافي لأن مجرى عين عرفة ودبولها عميت على القائمين عليها فأرادوا بتقديم هذا الثور أن يستعينوا على معرفتها، ولكنَّ ابن فهد الذي روى هذه الحادثة لم يذكر ما أسفرت عنه من نتائج كما وقع بالنسبة للثور السابق

(2)

.

إن تكرار هذه الحادثة يدلُّ على أنها من الروايات المكذوبة التي يتداولها الناس في العهود التي تشيع فيها الخرافات والجهل، ويستولى فيها المشعوذون على عقول العامة وأشباههم، ولكن الغريب في الأمر أن هذه الخرفات يسجلها مؤرخون أمثال تقي الدين الفاسي، وعمر بن فهد، وهما من علماء مكة ومؤرخيها.

(1)

انظر ذلك في شفاء الغرام ج 1 ص 347/ 350.

(2)

انظر إفادة الأنام مجلد 2 ص 305/ 306.

ص: 95

لقد امتنعت عن إيراد هذه الرواية فيما نقلته عن الغازي، لأني موقن بعدم صحة وقوعها، ولست أدري إن كان نقل الغازي لها إنما تم على طريقته في النقل على مسئولية المنقول عنهم، أو أنه كان موقنًا بصحة ما ينقل، والطريقة التي أراها صحيحة هي أنه إذا كان لابد من أداء الامانة في النقل فإن الواجب هو التأكد من صحة ما ينقل عن المؤرخين، أو إبداء الرأي في ذلك وهو أضعف الإيمان.

أما نقل الأخبار المشوهة والخرافية دون تعليق فهو يقدم للقاريء صورة مشوهة عن زمن الرواية وأهله.

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى إكمال الحديث عن الغازي وكتابه إفادة الأنام.

لقد ذكرنا موجزًا عن المواضيع التي تطرق إليها الغازي في المجلدات السبعة التي تضمها موسوعته الفذة، والتي بلغت صفحاتها أربعة آلاف وثلاثمائة وأربع وعشرين صفحة، والتي أوقف حياته على تدوينها، فقد ذكر معاصروه أن الرجل كان مشغولًا بالكتابة والتأليف في حانوته الصغير وكان لا يمرُّ به أحد إلا ويراه عاكفًا على الكتابة، والأوراق بين يديه، والكتب أمامه، ولم يكن إفادة الأنام هو الكتاب الوحيد الذي ألفه الغازي، ولكنه أهم كتبه وأجمعها.

وقد اخترت أن يكون ما أكتبه عنه مستمدًا من هذا الكتاب الهام، وأسارع فأقول إن هذه الصفحات الكثيرة التي سيقرأها القاريء مختارة من المجلدين الأول والثاني ونصف المجلد الثالث، والسبب في ذلك هو أنني اقتصرت في اختياري على أخبار مكة والكعبة المعظمة والمسجد الحرام وما يتعلق بهما، وحارات مكة، ومساجدها، وجبالها، وآبارها، وعيونها، وبالمشاعر المقدسة وما يتعلق بها عبر القرون، وأود أن أذكر كذلك أنني لم أنقل عن الغازي كل ما أورده في هذا الصدد وإنما نقلت عنه الأخبار أو الأحداث التي لم ترد فيما كتبته سابقًا في هذا الصدد، فقد سبق لي أن لَخَّصْتُ كتابَيْ الشيخ حسين باسلامة عن المسجد الحرام والكعبة المعظمة في الجزء الثاني من أعلام الحجاز

(1)

كما لَخَّصْتُ كتاب أحمد السباعي تاريخ مكة

(2)

، وجزءًا من كتاب تاج تواريخ البشر لأحمد محمد الحضراوي

(3)

في الجزء الثالث من أعلام الحجاز.

ولقد كان كتاب إفادة الأنام للغازي مصدرًا من أهم مصادر السباعي في كتابه تاريخ مكة كما أن الشيخ حسين باسلامة قد استعرض نفس المصادر التي استقى منها الغازي فحرصت أن يكون ما أنقله عن إفادة الأنام، مما لم يسبق لي الحديث عنه في الترجمات التي ذكرتها آنفًا حرصًا على عدم التكرار، وقد أشرت إلى ذلك فيما نقلته.

(1)

أعلام الحجاز ج 2 ص 18/ 124.

(2)

أعلام الحجاز ج 3 ص 12/ 74.

(3)

أعلام الحجاز ج 3 ص 83/ 130.

ص: 96

كما أنني لم أتعرض للحوادث السياسية التي خصَّص الغازي لها أبوابًا كثيرة لأن الحديث عنها ليس مكانه هذه الترجمة، ولكنها ستكون مصدرًا هامًا لمن يرغب الكتابة عن تاريخ الحجاز السياسي عبر القرون.

فقد جمع الغازي في إفادة الأنام الكثير من أخبار الحوادث السياسية، ولا شك عندي أنه كان أحد المصادر الهامة للأستاذ أحمد السباعي في كتابه تاريخ مكة.

هناك مسألة أخيرة لابد من ذكرها ..

كان الغازي حريصًا على أن يسجل كل ما يصل إليه علمه من تاريخ مكة وغيرها من البلاد العربية، وكان في نفس الوقت شديد الحرص على أن يظلَّ كتابه هذا مخطوطًا لا يُطبع ولا يُتداول بين الناس.

رأيت هذا مسجلًا في النسخة التي تفضل بإهدائها إليَّ صديقنا العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وهي مصورة عن النسخة المخطوطة التي اشتراها كبير جدة الشيخ/ محمد نصيف من الغازي، والتي ذكر في جميع أجزائها حرص المؤلف الشديد على عدم سماحه بطبعها، وكان الشيخ محمد نصيف يرحمه الله يؤكد تعهده للمؤلف بذلك.

وعلى أي حال فإن رغبة المؤلف قد احترمت حتى الآن.

ولا شك عندي أن الدافع للشيخ الغازي على إبقاء كتابه مخطوطا، وعدم تداوله أن الرجل تحدث عن أحداث كثيرة في أزمان مختلفة فهو من مواليد عام 1291، وقد عاصر الأحداث الكثيرة التي وقعت في مكة خاصة، وفي الحجاز والعالم من حوله عامة، عاصر العثمانيين، وأمراء الأشراف في العهود العثمانية، كما عاصر الدولة الهاشمية في عهد الملك حسين بن علي وابنه الملك علي بن الحسين، وعاصر كذلك الدولة السعودية من بداية عهدها في الحجاز إلى أن توفاه الله سنة 1365 للهجرة

(1)

وقد ظل الرجل يواصل الكتابة طيلة حياته، حتى استوى له هذا الكتاب الموسوعي العجيب، ولا شك عندي أن الرجل خشى أن يكون في بعض ما كتبه ودوَّنه ما لا يرضى عنه البعض من الناس، فآثر السلامة، وأصرَّ على أن يبقي ما كتبه مخطوطًا لا تصل إليه الأيدي والأبصار، ولا شك عندي أنه لولم يثق ثقة تامة بالشيخ محمد نصيف لما قدَّم إليه كتابه أو باعه له، فقد قال الشيخ/ محمد نصيف أن الكتاب مملوك له، كتب ذلك في مقدمة المجلد الأول بخطه الذي أعرفه جيدا، وفي الأجزاء الأخرى.

وفي رأيي أن الكتاب يحتوي على كل ما يتعلق بتاريخ مكة عبر القرون، وهو جدير بأن ينشر في أجزاء متسلسلة يحمل كل جزء منها موضوعا خاصًا، وحبذا لو تكلفت إحدى الجامعات بتحقيقه والتعليق عليه من قبل رجال متخصصين، وطبعه ونشره.

فإن الكتاب يعتبر مصدرًا هامًا من مصادر تاريخ مكة المكرمة عبر القرون.

(1)

التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم مجلد 1 ص 22/ 23.

ص: 97

‌مؤلفات الغازي:

ألَّف الغازي كتبا ذكرها مترجموه وهي:

- إفادة الأنام في سبع مجلدات مخطوط وهو الذى نقلنا منه مختارات في هذه الترجمة.

- مجموع الأذكار من أحاديث النبي المختار.

- رسالة في ذم اللعب واللهو سمَّاها "كشف ما يجب من اللهو واللعب".

- رسالة في الفرائض سماها "بيان الفرائض شرح بدائع الفرائض".

- فتح القوي في ذكر أسانيد السيد حسين الحبشي العلوي.

- تنشيط الفؤاد من تذكار الإسناد، أو إرشاد العباد إلى طريق الإسناد، في مجلدين.

- نظم الدور في اختصار نشر النور والزهر، وهذا الكتاب اختصار لكتاب الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير الذي يضم تراجم لعلماء مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، ولا يزال اختصار الغازي لهذا الكتاب مخطوطًا، ولكن ظهر اختصار آخر لهذا الكتاب، وترتيبه وتحقيقه للأستاذ محمد سعيد العامودي، يرحمه الله، والأستاذ أحمد علي، أمدَّ الله في عمره.

- نثر الغرور في تذييل نظم الدرر في تراجم علماء مكة المكرمة، وفي هذا الكتاب المخطوط أورد الغازي تراجم لعلماء مكة الذين لم يرد ذكرهم في كتاب عبد الله أبو الخير مرداد حيث توفي عام 1343 للهجرة، وهو في نظري مرجع لتراجم علماء مكة في عصر الغازي نفسه لأنه يترجم للعلماء الذين عاصرهم في القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة

(1)

.

وبعد فقد أطلنا الحديث عن الغازي وكتابه إفادة الأنام، وآن لنا الآن أن نفتح صفحات هذه الموسوعة لنقدم للقاريء مختارات منها.

* * *

(1)

انظر ثبت مؤلفات الغازي في سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة ص 202/ 203.

ص: 98

‌بناء الكعبة في عهد قريش

ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز بناء قريش للكعبة قبل الإسلام، وقد جاء فيه أن السفينة التي انكسرت قرب ساحل جدة والتي اشترت قريش أخشابها كانت لرجل رومي يتجر إلى بندرٍ وراء ساحل عدن.

ونقل الشيخ الغازي في إفادة الأنام رواية أخرى نوردها بنصها إكمالًا للموضوع قال الأموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم يحمل فيها الرخام والخشب والحديد مع باقوم إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت قرب مرسى جدة، بعث الله عليها ريحا فحطمتها.

‌نجار قبطي بمكة يصنع سقفًا للكعبة:

ونقل الغازي عن ابن إسحق أنه كان بمكة قبطي يُعْرَفُ بنجر الخشب وتسويته فوافق قريشًا أن يعمل لهم سقفًا للكعبة ويساعده باقوم

(1)

.

‌دعائم الكعبة من العود القافلي:

ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز أن عبد الله بن الزبير جعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب وجاء في إفادة الأنام رواية أخرى نوردها فيما يلي:

جاء في ذكر بناء ابن الزبير للكعبة أنه جعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وكانت قريش قد جعلت فيها ست دعائم في صفين.

يقول لبيب البتنوتي في الرحلة الحجازية عن هذه الدعائم الثلاث أنها من العود القافلي عليها مقاصير ترتكز على حائط الميزان من جهة، وحائط الحجر الأسود من جهة أخرى، وقطر كل عمود نحو ثلاثين سنتيمترًا، وهي من زمن عبد الله بن الزبير، وقيمتها أكبر من أن يقدر لها ثمن ويقال أن عليها كتابة محفورة ولكني لم أرها

(2)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 215/ 216.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 265/ 266 وانظر الرحلة الحجازية ص 106.

ص: 99

‌أراد السلطان أن يجعل حجارة الكعبة من الذهب والفضة:

نقل الغازي عن السيد أحمد دحلان في السالنامة الحجازية أن السلطان أحمد بن السلطان محمد بن مراد سليم الثاني بن سليمان الأول فاتح مصر أنه أراد أن يجعل حجارة الكعبة المعظمة ملبَّسة حجرًا بالذهب وحجرًا بالفضة، فمنعه شيخ الإسلام المولى محمد بن سعد الدين وقال له: هذا يزيل حرمة البيت، ولو أراد الله سبحانه وتعالى لجعله قطعة من الياقوت فكفَّ السلطان عن ذلك

(1)

.

‌لون الحجر الأسود من الداخل:

ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ما أورده المؤرخون عن الحجر الأسود والحوادث التي تعرض لها ونضيف إلى ذلك ما ذكره الشيخ الغازي إكمالًا للفائدة.

جاء في ذكر عمارة الكعبة الشريفة في العهد العثماني ما يلي:

وفي سابع رجب حضر مولانا الشريف وبعض أبناء عمه وجملة من الأعيان، وأرباب العمارة، وأرادوا خلع الحجر الأسود لتمكينه في محله على وجه الكمال، فما أمكن لهم ذلك، وغاية ما قدروا عليه رفع الحجر الذي فوقه.

يقول المؤلف: وأخبرني مولانا الشيخ عبد العزيز الزمزمي، وكان حضر هذا المجلس معهم أنه رأى باطن الحجر، وأن لونه أشهب، وأنه مربع كتربيع المفتاح

(2)

.

أقول: كانت عمارة السلطان سليم العثماني للمسجد الحرام بدأت في سنة 981 للهجرة واستمرت حتى سنة 984 هـ، وقد كانت عمارة عظيمة أبدلت فيها السقوف الخشبية بالقباب الموجودة حاليا، وتوفي السلطان سليم قبل إتمامها فأكملها السلطان مراد الثاني

(3)

ونقل الغازي عن الشيخ محمد بن علان الصديقي وهو يتحدث عن شظايا الحجر الأسود حينما تفتت بعضها وأخرجت في عمارة الكعبة الشريفة التي حدثت في عام 1039 هـ.

يقول محمد بن علان وأخبرني الجمَّال الوقاد أن لون ما انكشف من الأحجار التي تفتت أخضر زيتي، وقال غيره فيه شوب صفرة كالمحبب بالزعفران

(4)

.

أقول: العمارة التي حدثت في سنة 1039 هـ كانت بسبب سقوط الجدار الشامي للكعبة، كما سقط بعض جداريها الشرقي والغربب، وقد فضلنا ذلك في الجزء الثاني من أعلام الحجاز

(5)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 280.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 200 - 201.

(3)

انظر أعلام الحجاز ج 2 ص 24 - 27.

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 345.

(5)

انظر أعلام الحجاز ج 2 ص 72 وما بعدها.

ص: 100

‌ذرع الحجر الأسود:

وجاء في الرسالة التي ألفها الشيخ/ محمد بن علان الصديقي الشافعلي والتي سماها "العمل المفرد في فضل وتاريخ الحجر الأسود" ما يلي:

ولون ما يستتر من الحجر الأسود بالعمارة في قدر الكعبة أبيض بياض حجر المقام، وذرع طوله نصف ذراع بذراع العمل، وعرضه ثلث ذراع، ونقص منه قيراط في بعضه لتآكل ذلك المحل منه، وسمكه أربعة قراريط

(1)

.

أقول: قد يرى القارئ في وصف لون الحجر الأسود اختلافا بين الرواة، ولعل مرد ذلك إلى وصف كل منهم للألوان حسب تقديره لها، وحسب الأوقات التي تمت فيها الرؤية وتعرض الحجر للضوء، ولكن الأوصاف كلها متقاربة في حقيقتها.

‌إحضار خشب الساج من بيوت جدة لعمارة الكعبة:

ويقول الشيخ/ محمد بن علان في حديثه عن عمارة الكعبة الشريفة في العهد العثماني: وفي يوم السبت بوم عيد المعراج، أصبح ابن شمس الدين من جدة، وقد عين لسقف الكعبة من خشب الساج من بيوت جدة، وينتقد ابن علان شمس الدين هذا فيقول:

وارتكب في جمعه ما يجازيه الله تعالى عليه في عرصات القيامة، فكم أخرب بيتا وهدم وقفا، والبيت في غنى عن ذلك، وقد كان بغير سقف في بناية إبراهيم عليه السلام.

وقد ألهم الله قريشا في الجاهلية أن لا يدخلوا في البيت شيئا غصبًا وأن إخراج أذرع منه إلى الحجر أهون من إدخالهم ذلك فيه فانتبه

(2)

.

أقول: لم يقدم الشيخ بن علان تفصيل ما اغتصب من بيوت جدة تأييدا لما أورده عن ذلك، أما عن المعراج فإن يوم المعراج هو يوم السابع والعشرين من شهر رجب كما تعارف الناس في تلك الأيام.

‌عربة يجرها إثنى عشر جملا لنقل عمود من الخشب للكعبة:

ويقدم لنا الشيخ بن علان صورة لنقل أحد الأعمدة الثقيلة المراد استعمالها في عمارة الكعبة يقول:

وصل كاتب جدة المحروسة الشهاب أحمد القباني ومعه بعض أخشاب السقف الباقي ووصل "بالبستل" قطعة من دَقَلِ مَرْكُبٍ من نحو ثلاثة، حمل من جدة على عجلتين مقدمين ومثلهما مؤخرين، وجُرَّتْ بإثنى عشر جملًا، وأدخلت القطعة من باب الصفا حملها إثنى عشر رجلا، ووضعوها أمام المقام المالكي.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 342 - 343.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 359.

ص: 101

أما العمودان الباقيان لسقف الكعبة فقد حمل أحدها على خمسة عشر رجلا وألقيتا عند باب إبراهيم

(1)

.

أقول: الدَّقَل بتشديد الدال وفتحها وفتح القاف، هو العمود القوي الذي يستعمل في الراكب الشراعية، والذي يربط إليه الشراع، ويكون عادة من أقوى أنواع الخشب وأثقلها ليتحمل ضغط الرياح التي تتعرض لها الراكب الشراعية في البحر، وقد تمَّ نقل هذه العمدان من جدة إلى مكة كما ذكرلنا الشيخ بن علان بعمل مركبة ذات عجلتين في مقدمتها وعجلتين في مؤخرتها ووضعت الأعمدة على هذه العجلة، وقام بجرها إثنى عشر جملًا حتى أمكن إيصالها إلى المسجد الحرام في مكة.

‌السلم الذي يصعد به إلى الكعبة:

عقد الشيخ عبد الله الغازي فصلا عن السلم الذي يصعد به إلى الكعبة، نلخص ما جاء فيه بما يلي:

كان السلم الذي يصعد به إلى الكعبة في زمن مؤرخ مكة أبو الواليد الأرزقي وهو من رجال القرن الثالث

(2)

من خشب الساج وفيه ثلاث عشر درجة.

وذكر الشيخ محمد بن علي الطبري في الإتحاف: أن المؤيد الجركسي أرسل في سنة ثمانمائة وثمانية عشر، منبرا حسنا إلى المسجد الحرام، كما أرسل درجة يصعد عليها إلى الكعبة، ووصل المنبر والدرجة إلى مكة في موسم العام المذكور.

وقال السنجاري في المنائح:

وفي سنة ألف وتسعين جدد شيخ الحرم درجة الكعبة وجعل لها حاجزًا من خشب وكان أول الدخول عليها يوم الجمعة سادس عشر رمضان من العام المذكور.

‌والى جدة يمنع وصول درجة مهداة إلى الكعبة:

وجاء في إتحاف فضلاء الزمن: أن رجلا من أثرياء الهند يدعى حسين حميدان، أرسل في سنة سبع وعشرين ومائة وألف، درجة للكعبة، فامتنع والي جدة سليمان باشا عن قبولها وقال: لا أركبها، فبقيت الدرجة المذكورة في جدة إلى أن انتهت ولاية سليمان باشا فأرسلها الوالي الجديد محمد المعمار إلى مكة فوصلت إليها وركبت في الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة وألف، ولكنَّ شريف مكة أمر برفعها ولم يمض على بقائها إلا ثفينية أيام، وأمر كذلك بإعادة الدرجة القديمة لعدم استئذانه، واستئذان السلطنة في أمرها، فحفظت في بيت السادن الشيخ/ عبد القادر الشيبي وأسلوا إلى الأستانة يستأذنون السلطة في الأمر، ولم يصل الأمر باستعمالها من الأستانة إلا في مفتتح سنة ألف ومائة واثنين وثلاثين بعد أن ظلت حبيسة في بيت السادن ض سنوات.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 363.

(2)

أنظر أخبار مكة للأزرقي صفحة 13/ 15 الجزء الأول.

ص: 102

وجاء في وصف هذه الدرجة أو هذا السلم أنه قام بخدمة دهنها وزخرفتها الحاج خضر الشامي بأمر إبراهيم باشا والى جدة حتى صارت نزهة من النزهات وفرحة من الفرحات.

‌سلم الكعبة:

ويواصل الشيخ/ عبد الله الغازي حديثه عن سلم الكعبة فيقول:

وفي سنة ألف ومائتين وعشرين أرسل نواب مدراس محمد منور خان درجة للكعبة من خشب الساج فيها إحدى عشر درجة.

وفي سنة ألف وثلاثمائة أرسل إلى مكة نواب رانقون - علي خان - درجة من الخشب ملبسة بالفضة من جميع جوانبها وأحضر هذه الدرجة أو هذا السلم على الأصح مندوب عن نواب رانقون اسمه حسين بخش خان، ولكنَّ الحكومة في مكة امتنعت عن استعمال هذا السلم الفضي إلى أن يستأذن السلطنة في أمره، فلما وصل الإذن بذلك جعلت لاستعمال النساء في يوم نوبتهم.

يقول الشيخ/ الغازي: ثم ترك استعمالها مرة واحدة، وبلغت مصاريفها التي صرفت مع ما عليها من الفضة خمسة وثمانين ألفا وثلاثمائة وأربع وستين ريالا، ذكر ذلك الشيخ/ نجم في أخبار الصناديد

(1)

.

أقول أدركت السلم الذي يصعد به إلى داخل الكعبة، وهو ملبس بالفضة من جميع جوانبه في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ووصفه مطابق لوصف السلم الذي أهداه نواب رانقون، ولكنني لا أستطيع الجزم بأنه هو، وربما كان لدى إدارة الحرم المكي الشريف علم عن حقيقة الموضوع.

‌عمر بن الخطاب يقسِّم كسوة الكعبة على الحجاج:

نقل الشيخ/ عبد الله الغازي رواية عن الأرزقي مؤرخ مكة قال:

حدثني جدي عن مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينزع كسوة البيت فيقسمها على الحجاج

(2)

.

‌معاوية يقسم الكعبة بين أهل مكة:

وكساها معاوية بن أبي سفيان الديباج مع القباطي وأمر شيبة بن عثمان أن يجرد الكعبة عن الكساوي ويخلِّقها بالطيب، ويلبسها ما جهزوا لها، فجرَّدها وطيَّبها، وطيَّب جدرانها بالخلوق وكساها تلك الكسوة التي بعث بها معاوية، وقسَّم الثياب التي كانت عليها بين أهل مكة وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حاضرًا في المسجد الحرام فما أنكر ذلك ولا كرهه

(3)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 401 - 407.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 444 - 445.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 445.

ص: 103

‌عائشة تستفتى في ثياب الكعبة القديمة:

أخرج الأرزقي عن شيبة بن عثمان أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فقال:

يا أم المؤمنين: إن الكعبة تجتمع عليها الثياب الكز فنعمد إلى بئر فنحفرها وندفق فيها ثياب الكعبة، فلا يلمسها الجنب والحائض، فقالت عائشة: ما أصبت، وبئس ما صنعت، إن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لمسها مني حائض أوجنب، ولكن بعها، واجعل ثمنها في سبيل الله تعالى، وابن السبيل، وتصدَّق بثمنها.

ونقل جواز البيع عنّ ابن عباس رضي الله عنهما، وقد بحث هذا الموضوع علماء الشافعية وأجاز بعضهم البيع، وفوض بعضهم الأمر فيها إلى الإمام، وقد استعرض الغازي أقوال الفقهاء في أمر كسوة الكعبة القديمة ثم أورد رأيه فقال:

والذي يظهر لي أن كسوة الكعبة الشريفة إن كانت من قبل السلطان، من بيت مال المسلمين فأمرها راجع له، يعطيها لمن يشاء من الشيبيين وغيرهم، وإن كانت من أوقاف السلاطين وغيرهم فأمرها راجع إلى شرط الواقف فيها لمن عيَّنها - وإن جُهل الشرط عمل فيها بما جرت به العوائد السابقة كما هو الحكم في سائر الأوقاف.

‌كسوة الكعبة بين أمراء مكة والسادن:

نقل الفاسي أن أمراء مكة كانوا يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة مع جانب كبير من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملة عوضا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مغامس لمَّا ولي أمر مكة في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وتبعه أمراء مكة في الغالب.

ثم أن السيد حسن عجلان بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة وكسوة المقام، ويهديهما لمن يريد من الملوك وغيرهم، وقد استمر الأمر كذلك من أمراء مكة بعد السيد حسن عجلان مع الحجبة إلى يومنا هذا .... انتهى.

أقول: إن كاتب هذا هو السيد تقي الدين الفاسي مؤرخ مكة المكرمة، ومنه يفهم ما جرت عليه العادة في أمر الكسوة في زمنه.

‌كيفية قسم الكسوة بين السدنة:

ونقل الغازي عن الشيخ/ حسن الشيبي في الإتمام: أن العادة التي تداولت في كسوة الكعبة المعظمة هو أن حجبة الكعبة المعظمة من بني شيبة يأخذون الكسوة العتيقة لأنفسهم ويقسمونها بينهم بالسوية ذكورا وإناثًا وأطفالًا، وأن المولود منهم في يومه يستحق كما يستحق الشيخ منهم ويجعلون لرأسهم أي شيخهم سهمين كما هي عادتهم في تقسيم الهدايا من الزوار بينهم

(1)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 445 - 448.

ص: 104

أقول: كانت الكساوي التي تهدى إلى الكعبة حتى من قبل الإسلام تترك عليها ولا تنزع وقد أوردت في الجزء الثاني من أعلام الحجاز: ما ذكره مؤرخو مكة المكرمة عن هذا الأمر

(1)

وأوردنا هنا ما ذكره الشيخ/ الغازي في إفادة الآنام إكمالا للبحث ومنه علمنا الرأي الحصيف الذي أفتت به أم المؤمنين في أمر كسوة الكعبة بعد أن تنزع عنها، وما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تقسيمها للحجاج، وما فعله معاوية من تقسيمها بين أهل مكة، وما ذكره الفقهاء في أمر الكسوة، وقد أصبحت الكسوة منذ عام 1345 تصنع في مكة المكرمة وتصرف عليها الدولة كما هو معلوم.

‌الوليد بن عبد الملك يحلِّي باب الكعبة وأساطينها بالذهب:

ذكر الأرزقي أن الوليد بن عبد الملك أرسل بستة وثلاثين ألف دينار، يضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب، وعلى أساطينها، وعلى الميزاب، وعلى أركانها من الداخل

(2)

أقول: الوليد بن عبد الملك سادس الخلفاء الأموين، وقد اشتهر بحبه لعمارة المساجد، وصرفه عليها بسخاء وهو الذي بنى جامع بني أمية في دمشق، كما أدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي الشريف وزاد فيه زيادة عظيمة

(3)

.

‌الخليفة المتوكل يصفح زوايا الكعبة بالذهب:

وذكر الأرزقي أن حجبة الكعبة أرسلوا إلى الخليفة المتوكل العباسي يذكرون أن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها مصفح بالذهب، وزوايا أخرى مصفحة بالفضة، وسألوه أن يجعل الزوايا كلها مصفحة بالذهب، فأرسل المتوكل إلى إسحاق بن - الاسم غير واضح - الصايغ ذهبا، وأمره بعمل ذلك، فكسر إسحاق تلك الزوايا وأعادها من الذهب، وعمل منطقة من فضة ركبها فوق باب الكعبة من داخلها عرضها ثلث ذراع، وجعل لها طوقا من الذهب متصلا بهذه المنطقة.

قال الأرزقي: وكان أسفل الباب عتبة من خشب الساج ففسدت، وتآكلت فأبدلها بخشب آخر وألبسه صفائح من فضة.

قال إسحاق الصايغ: وكان مجموع الزوايا والطوق الذهب ثمانية آلاف مثقال ومنطقة الفضة وما على الباب وما حلِّي به المقام من فضة سبعين ألف درهم

(4)

.

(1)

انظر الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 87 - 97.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 449.

(3)

أعلام الحجاز ج 2 ص 196 - 200.

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 449/ 450.

ص: 105

‌بعض ولاة مكة يقطع الذهب من عضادتي باب الكعبة:

ذكر التقى الفاسى أن بعض ولاة مكة قطع أيام الفتنة عضادتي باب الكعبة وغيرها وسبكها دنانير، وصرفها على الفتنة.

‌الخليفة المعتضد يعيدها ذهبا:

فكتب حجة البيت إلى الخليفة المعتضد بذلك فأمر بإعادة ذلك جميعه فأعيدت كما أشار به

(1)

أقول: ولي الخليفة العباسى المعتضد في سنة تسع وسبعين ومائتين وكان خليفة حازما أعاد للخلافة هيبتها بعد أن ضعف أمر الخلفاء، وفي أيامه ظهر القرامطة ووقعت بينه وبينهم وقائع كثيرة مبسوطة في كتب التاريخ

(2)

.

أما الفتنة التي ذكر أن بعض ولاة مكة أخذ فيها عضادتي باب الكعبة الذهبيتين وسبكها دنانير وصرفها على الفتنة فلم أعثر على نص صريح عنها، ولكن وقعت في مكة قبل خلافة المعتضد فتنة في سنة مائتين واثنين وسبعين بين أمير مكة ويوسف بن الساج وبدر غلام أحمد الطائى أمير المدينة المنورة ووقع القتال على أبواب المسجد وأسر ابن الساج بدرا، فغضب له بعض أهل الحج، وثاروا على ابن الساج حتى أسروه وساقوه إلى بغداد فربما كانت هذه الفتنة هي التي وقع فيها ما أشار إليه الحجبة

(3)

.

‌أم الخليفة المقتدر تلبس إسطوانات البيت الشريف ذهبا:

وذكر الفاسى أن أم الخليفة المقتدر العباسى أمرت غلامها لؤلؤان يتوجه إلى مكة وأن يلبس جميع اسطوانات البيت ذهبا ففعل ذلك في سنة عشر وثلاثمائة

(4)

.

‌الوزير الجواد يحلى أركان الكعبة بصفائح الذهب والفضة من الداخل:

وذكر الفاسى أن الوزير جمال الدين بن محمد بن على بن منصور المعروف بالجواد الذى تولَّى الوزارة في مصر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، أرسل صاحبه إلى مكة ومعه خمسة آلاف دينار ليعمل صفائح الذهب والفضة في أركان البيت من الداخل

(5)

.

أقول: ذكرنا قبلا أن الخليفة المتوكل العباسى أمر بعمل زوايا الكعبة من الذهب، ولابد أن هذه الزوايا الذهبية قد ذهبت بتو إلى القرون أو ذهب بعضها فأراد الوزير الجواد أن يعمل شيئا فيها.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 450.

(2)

البدايه والنهايه ج 11 ص 86.

(3)

تاريخ مكه 167.

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 450/ 451

(5)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 451

ص: 106

‌هدايا الكعبة:

كنت ذكرت في الجزء الثاني من أعلام الحجاز تلخيصا لكتاب الشيخ حسين عبد الله باسلامة عما ورد من الهدايا للكعبة المعظمة عبر العصور، وقد وجدت ذلك كله مسجلا في كتاب إفادة الأنام للشيخ/ عبد الله الغازى مع هدايا أخرى لم يرد ذكرها في كتاب الشيخ/ باسلامة فرأيت إكمالا لهذا البحث أن أذكرها هنا، وأود أن أذكر أيضا أنه ربما كانت هناك هدايا أخرى كثيرة لم نتطرق إلى ذكرها لأن ما بأيدينا من كتب المؤرخين لم يتطرق إليها.

‌الظاهر بيبرس يهدى قفلا للكعبة:

أهدى الظاهر بيبرس صاحب مصر قفلا ومفتاحا للكعبة المشرفة وركب عليها القفل المذكور أقول: الظاهر بيبرس من سلاطين المماليك، تولى السلطنة في مصر بعد مقتل السلطان قطز في شهر ذي القعدة سنة 658 وبالرغم من اشتراكه في مقتل السلطان قطز إلا أنه كان من المشاركين في حرب التتار وانتصار المسلمين عليهم

(1)

.

‌الكوكب الدري إلى المدينة المنورة:

جاء في تحصيل المرام: أرسل السلطان أحمد بن محمد بن مراد الكوكب الدري وقال: لا قيمة له، ولم يسبق لأحد من ملوك الهند والعجم مثله وعلق على القبر الشريف

(2)

أقول: لا قيمة له تعنى أن قيمته لا تقدر بمال.

‌حجر من الماس من آثار الدولة العثمانية:

وفي سنة ألف ومائة وثمانية وأربعين قدم شعبان أفندي المدينة المنورة ومعه حجر من الماس محفوف بأحجار مختلفة مكتوب بصفائح الذهب والفضة، وهذا الحجر من آثار الدولة العثمانية فوضع الحجر المذكور تحت الحجر الذى وضعه السلطان أحمد خان

(3)

.

‌حجران من الماس ثمنهما ثمانون ألف دينار:

وقال السيد/ أحمد دحلان في السالمنامة، ومن مفاخر السلطان أحمد أنه في سنة أربع وعشرين وألف بعث للحجرة النبوية الشريفة فصين من الألماس قيمتهما ثمانون ألف دينار، فوضعها فوق الكوكب الدري، وهذا الكوكب تجاه الوجه الشريف، وهو مسمار من الفضة مموه بالذهب. في رخامة "الكلمة غير واضحة تماما" حمراء، من استقبله كان مستقبل الوجه

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 457.

(2)

انظر كتاب دولة الظاهر بيبرس في مصر للدكتور/ محمد جمال الدين سرور.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 459.

ص: 107

الشريف

(1)

أقول: ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز نقلا عن كتاب مرآة الحرمين لإبراهيم رقعت باشا أن الحجرين من الألماس المذكورين نقلهما فخري باشا إلى الاستانة خلال الحرب العالمية الأولى، ولم يعادا إلى الآن

(2)

وفخري باشا هو القائد التركى ووالي المدينة قبيل الحرب العالمية الأولى وحينما قام الشريف الحسين بن على بالثورة ضد الدولة العثمانية قاوم الثورة مقاومة شديدة وحينما ترك المدينة أخذ معه ذخائر الحجرة النبوية الشريفة وهداياها ومن ضمنها الكوكب الدري، وأحجار الماس التي مرَّ ذكرها، وقال لى بعض الإخوان أنها موجودة بمتحف توب كابى في مدينة استنبول، أما الوصف الذى نقل عن السالنامة للكوكب الدري فيبدو لي أنه غير دقيق، لأن المعروف أن الكوكب الدري هو حجر كبير من الألماس الثمين لا تقدر قيمته بمال كما ورد في وصفه قبل، وليس مسمارا من الفضة مموها بالذهب.

‌البتنوني يصف الذخائر الموجودة في الكعبة:

نقل الغازي عن الرحلة الحجازية للبتنوق ما يلي:

ومعلق في سقف البيت - الكعبة - كثير مما بقى من الذخائر التي أهديت إلى الكعبة، ومن ذلك مصباحان ذهبيان مرصعان بالجوهر، أهداهما للكعبة السلطان سليمان القانوني سنة 984

(3)

.

أقول: حج الخديوى عباس حلمى الثاني خديوى ممر في سنة 1327 هجرية، وكان محمد لبيب البتنوني في ركاب الخديوى وألف كتابا سماه الرحلة الحجازية يصف فيه حج الخديوى وزياراته للأماكن المقدسة، وأفرد فيه فصولا تاريخية هامة عن الحجاز وقبائله وأحواله وحكامه يعتبر مرجعا هاما من كتب الرحلات إلى الحجاز.

‌الشريف غالب أمير مكة يربِّي السادن في داره:

توفي في عام ألف ومائتين وعشرة - أو اثنتى عشرة - سادن بيت الله الحرام الشيخ عبد القادر الشيبى ولم يؤخر من الذكور أحدا عدا ابن عمه محمد زين العابدين وهو يومئذٍ حديث السن ولم يوجود في زمانه أحد غيره من السدنة الفاتحين للكعبة المعظمة وكان أمير مكة يومها الشريف غالب بن مساعد فاحتضنه وربَّاه في بيته إلى أن كبر، وعيَّن على أملاكه عالما من علماء مكة يقال له الشامى، وولد للسادن الصغير بعد أن شب وتزوج ستة من الولد هم "عبد القادر، وجعفر، وسليمان، ومحمد، وعبد الله، وعلي.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 459

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 203

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 460/ 461

ص: 108

يقول الشيخ/ الغازى: فأما عبد القادر وسليمان فإنهما عقيمين، وأما الباقون فذريتهم موجودون

(1)

.

‌الشريف عون يعزل السادن وينفيه عن مكة:

ذكرنا في الجزء الثالث من أعلام الحجاز خبر الشكوى التي بعثها مشايخ علماء مكة إلى السلطان عبد الحميد ضد الشريف عون أمير مكة المكرمة، وما صدر به أمره من عزلهم عن الفتيا ونفيهم عن مكة المكرمة، وقد ذكر الشيخ/ الغازى أن سادن بيت الله الحرام الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن زين العابدين كان من ضمن من وقعوا على الشكوى التي بعثت إلى السلطان عبد الحميد وذكر أن ذلك كان في عام ألف وثلاثمائة واحدى عشر، وأن سبب الشكوى هو خلاف حصل بين الشريف عون والوالي التركى عثمان نورى باشا، وأن الأمر صدر من الخلافة بعزل المفتيين من وظائفهم ونفيهم عن مكة المكرمة عدا الشيخ عبد الرحمن الشيبى فإنه لم ينف من مكة ولكنه خرج منها إلى الهدا وهي قرية قريبة من الطائف، وبقى فيها حتى توفاه الله، وأسند الشريف عون سدانة البيت إلى الشيخ محمد صالح بن أحمد بن زين العابدين

(2)

.

أقول: لهذه الحادثة تفصيل أوفى ذكرناه في الجزء الثالث من أعلام الحجاز، فليرجع إليه من شاء الاستزاده

(3)

.

‌السلطان عبد الحميد يبنى بيتا لمفتاح الكعبة:

سافر الشيخ/ على بن محمد بن زين العابدين وكان شقيقا لسادن بيت الله الحرام الشيخ/ أحمد بن محمد بن زين العابدين سافر إلى دار السعادة - استنبول - في زمن السلطان عبد الحميد خان، فقابله السلطان وأكرمه وأمر بإعطائه مالا لتعمير بيت لمفتاح الكعبة المشرفة، وعاد الشيخ على من الاستانة واتفق السدنة أن يبنى المنزل وأن يسكنه من يتولى السدانة منهم وتمت عمارة البيت ولكن السادن لم يتمكن من سكناه حيث أدركته الوفاة فنقل إليه وغسل وكفن فيه، ثم خرجت جنازته منه

(4)

.

‌ماذا فعل القرامطة بالحجر الأسود:

كنت أوردت في الجزء الثاني من أعلام الحجاز قصة دخول القرامطة إلى مكة في شهر ذي الحجة من سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين للهجرة، وما قاموا به من الفظائع من قتل الناس في

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 473/ 472

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 473/ 472

(3)

أعلام الحجاز 3 ص 348/ 347

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 473

ص: 109

المسجد الحرام ونهب بيوت مكة، وإقدامهم على اقتلاع الحجر الأسود وأخذه معهم إلى هجر، وقد ذكر الشيخ الغازى في إفادة الأنام أن القرمطى ذهب بالحجر الأسود وعلَّقه على الاسطوانة السابعة من جامع الكوفة، وأنه استمر عنده إلى أن اشتراه المطيع لله أو المقتدر العباسى بثلاثين ألف دينار، وأعيد إلى مكانه سنة تسع وثلاثين وثلاثماثة

(1)

.

أقول القرمطي كان يسكن هجر وأن الخبر الذى أورده الشيخ الغازى يذكر أن القرمطي علَّق الحجر على الاسطوانة السابعة من جامع الكوفة، وأن الحجر استمر عند القرامطة اثنين وعشرين عاما حتى أعيد إلى مكة بعد أن اشتراه الخليفة المقتدر العباسى بثلاثين ألف دينار، ولو أن الحجر علِّقَ في جامع الكوفة لما احتاج الخليفة العباسى إلى شرائه، فالكوفة كانت في حكم الخلفاء العباسيين في ذلك الزمان، ولما استمر الحجر مغيبًا عن مكة وعن مكانه من البيت المعظم طيلة اثنين وعشرين سنة والأقرب إلى المعقول أن يكون الحجر قد بقي لدى القرامطة في هجر في السنوات التي غيب فيها عن مكة إلى أن أعيد إليها وقد ذكر الغازى بعد ذلك أن أبو طاهر القرمطى بنى دارا في هجر سماها دار الهجرة، أراد أن ينقل الحج إليها، وهذا الخبر يدل على بقاء الحجر في هجر، وقد فصلنا البحث في هذا الموضوع في الجزء الثاني من أعلام الحجاز كما سبقت الإشارة، فليرجع إليه من شاء الاستزاده.

‌تطويق الحجر الأسود:

كنت ذكرت في الجزء الثاني من أعلام الحجاز أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه لما قام ببناء الكعبة وجد أن الحجر الأسود انقسم إلى ثلاثة شظايا من تأثير الحريق الذى وقع في الكعبة فشدَّ ابن الزبير الشظيتين اللتين وجدهما من الحجر بالفضة، أما الشظية الثالثة فقد بقيت عند بعض آل شيبة دهرا

(2)

.

وقد ذكر الشيخ/ عبد الله الغازى ما جدَّ بعد ذلك من أعمال الخلفاء والسلاطين في الحجر الأسود فرأيت إيراده إكمالا للموضوع.

‌هارون الرشيد يطوق الحجر بالفضة:

ثم كانت الفضة التي صنعها ابن الزبير للحجر قد رثت وتزعزعت حول الحجر الأسود، حتى خافوا على الركن أن ينقض، فلما اعتمر أمير المؤمنين هارون الرشيد في سنة تسعة وثفينين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود فنقبت بالألماس من فوقها، ومن تحتها، ثم أفرغ فيها الفضة وبقى الحجر كذلك إلى أن قلعه القرامطة، ولما أعيد الحجر في خلافة المطيع - الصحة في خلافة المتقدر العباسى - جعل له طوق ثم جدد مرارا.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 495 وانظر الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 80/ 84

(2)

انظر تفصيل ذلك في أعلام الحجاز 2 ص 65/ 66

ص: 110

‌السلطان عبد المجيد يطوق الحجر بالذهب:

ثم في سنة ألف ومائتين وثمانية وستين بعث السلطان عبد المجيد العثماني طوقا من ذهب صحبة الشريف عبد المطلب في ذي القعدة من ذلك العام، يقول الغازى وذلك الطوق بحسب التخمين نحو ألف دينار، ثم رُكِّبَ بعد أن أزيلت الفضة ومكتوب فوقه "بسم الله الرحمن الرحيم" ويقول الغازى نقلا عن الحضراوي في كتاب نزهة الفكر:

ولم يعلم أن الحجر الأسود قد طوق بالذهب قبل ذلك، ويصف الحضراوى طوق الفضة الذى كان مطوقا به الحجر بقوله: كان في غاية الإتقان من التنقيش ومكتوب حوله آية الكرسى، وبعض آيات قرآنية، ويقول كذلك أن طوق الفضة هذا أرسل إلى الاستانة بعد أن حل محله طوق الذهب الذى أرسله السلطان عبد المجيد.

ونقل عن الحضراوي أن وزن هذا الطوق الذهبى عشر اقات، ولعل الصحة أن وزنه عشر اوقيات أو أن ذلك خطأ من الناسخ لكتاب الحضراوى ويقول الحضراوى كذلك: واصل ذهب هذا الطوق من كنز وجد بمكة في شعب أجياد

(1)

.

أقول: كان الشيخ/ أحمد الحضراوى من معاصرى هذه الفترة التي أرسل فيها السلطان عبد المجيد الطوق الذهبى للحجر الأسود فقد ولد الحضراوى سنة 1252 هـ بالإسكندرية وهاجر مع والده إلى مكة وهو ابن سبع سنين، فروايته عن الطوق الذهبى الذى أرسله السلطان عبد المجيد هي رواية المشاهد المعاصر للحدث، ولكن ما لفت نظرى في رواية الحضراوى قوله: أن هذا الذهب اصله من كنز وجد في شعب أجياد بمكة المكرمة فهل أرسل هذا الكنز الذهبى إلى الاستانة وأمر السلطان عبد المجيد بصنع الطوق الذهبى منه؟ ويقول الحضراوى: أن السلطان عبد المجيد أرسل بميزاب للكعبة مصفحا بالذهب الخالص وهو بقية ذلك الذهب الذى وجد في شعب أجياد.

ومن المهم أن نذكر أن الشيخ/ الغازى يذكر الروايتين ولا يرجح بينهما ولا يعلق عليهما وذلك أسلوبه في إيراد الرويات التي يذكرها.

‌تغيير الفضة المحاطة بالحجر الأسود في زمن السلطان رشاد:

وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف غُيِّرت الفضة المحاطة بالحجر الأسود، وذلك في خلافة السلطان محمد رشاد خان ابن السلطان عبد المجيد خان

(2)

.

أقول: نقلنا ما ذكره مؤرخو مكة عن إرسال طوق ذهبي من السلطان عبد المجيد للحجر الأسود في سنة ألف ومائتين وثمانية وستين، والخبر الذى ذكرناه آنفا يذكر أن السلطان محمد رشاد بن السلطان عبد المجيد غيَّر الفضة المحاطة بالحجر الأسود، فأين ذهب الطوق الذهبي الذي أرسله والده في عام ألف ومائتين وثمانية وستين؟

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 504/ 505

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 506

ص: 111

‌تحلية مقام الخليل إبراهيم عليه السلام:

جاء في إفادة الأنام في الفصل الخاص بمقام إبراهيم عليه السلام، أن موضع غوص القدمين ملبس بالفضة، وعمقه من فوق الفضة سبع قراريط ونصف قيراط.

وروى الأرزقي عن عبد الله بن شعيب بن شبَّه عن جبير بن شبَّه قال:

ذهب ربع المقام في خلافة المهدى، قال: وهو من حجر رخو يشبه السنان فخشينا أن يتفتت فكتبنا في ذلك إلى المهدى فبعث إلينا بألف دينار فصنعنا بها المقام، أعلاه وأسفله ولم يزل ذلك الذهب عليه، حتى ولي أمير المؤمنين المتوكل على الله فجعل عليه ذهبا فوق ذلك الذهب وفي سنة ست وخمسين ومائتين ذكر الحجبة لعلي بن حسن العباسي أمير مكة في ذلك الزمان أن المقام قد وهي ويخاف عليه، وسألوه أن يجدد عمله، فأمر بقلع ما على المقام من الذهب والفضة، وضم إليه ذهبًا آخر وحُلى المقام بذلك كله.

وكان ابتداء العمل في الحرم سنة ست وخمسين ومائتين، وكان الفراغ منه في ربيع الأول من تلك السنة.

يقول الفاكهي: وكان تحلية ما في الطوقين الذي عمل في المقام بالنجوم، ألفي مثقال ذهب إلا ثمانية مثاقيل.

‌ذهب المقام يضرب دنانير:

يقول الشيخ/ الغازي:

ثم أن الذهب الذي حلي به المقام في خلافة المتوكل لم يزل عليه إلى أن أخذه جعفر بن الفضل ومحمد بن حاتم في سنة إحدى وخمسين ومائتين، وضرباه دنانير وأنفقاه على حرب إسماعيل العلوى

(1)

.

أقول: كانت ولاية الخليفة المهدي العباسي الذي بعث بألف دينار بين سنتى "158 - 168"

(2)

للهجرة، وكانت خلافة المتوكل ما بين عامي 232 و 247 للهجرة

(3)

.

‌فتنة العلوى بمكة:

أما حرب إسماعيل العلوى الذي ظهر بمكة فقد ذكرها الحافظ بن كثير في البداية والنهاية ونوجزها فيما يلى:

في سنة مائتين وواحد وخمسين ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة المكرمة فهرب منه نائبها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى، فانتهب منزله ومنازل أصحابه، وقتل جماعة من الجنود وغيرهم من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس

(1)

إفاة الأنام مجلد 1 ص 517 - 518

(2)

أمراء البلد الحرام ص 14

(3)

أمراء البلد الحرام ص 18

ص: 112

نحوا من مائتي ألف دينار، ثم خرج إلى المدينة المنورة، فهرب منه نائبها علي بن الحسين بن علي بن إسماعيل، ثم رجع إسماعيل بن يوسف إلى مكة في رجب، فحصر أهلها حتى هلكوا جوعا وعطشا، فبيع الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم الرطل بأربعة، ومشربة الماء بثلاثة دراهم ولقي منه أهل مكة كل بلاء، فترحَّل عنهم إلى جدة، بعد مقامه عليهم سبعة وخمسين يوما فانتهب أموال التجار هنالك، وأخذ المراكب، وقطع المسيرة عن أهل مكة، ثم عاد إلى مكة لا جزاه الله خيرًا عن المسلمين، فلما كان يوم عرفة، لم يمكِّن الناس من الوقوف نهارا ولا ليلا، وقتل من الحجيج ألفا ومائة، وسلبهم أموالهم، ولم يقف بعرفة عامئذ سواه، ومن معه من الحرامية، لا تقبَّل الله منهم صرفا ولا عدلا

(1)

.

ويقول السيد أحمد زيني دحلان في خلاصة الكلام عن إسماعيل هذا ما يلي:

تغلب إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم على مكة فمانعه صاحب مكة جعفر بن الفضل وأخذ جعفر ما على المقام من الذهب، وكان وضعه المتوكل فضربه دنانير، وصرفه في قتاله، تغلب إسماعيل على مكة فهرب جعفر، واستولى إسماعيل على مكة ثم سار إلى المدينة فملكها ثم مات بالجدري سنة مائتين واثنين وخمسين

(2)

.

ويتضح من رواية السيد الدحلان أن أمير مكة جعفر بن الفضل حارب إسماعيل بن يوسف حينما هاجم مكة وخلع ما على مقام إبراهيم من الذهب، وسكَّه دنانير ليصرفها في حربه لإسماعيل إلا أن إسماعيل تغلب عليه فاضطر إلى ترك مكة له.

‌سرقة ذهب المقام:

وذكر الشيخ/ سعد الدين الاسفرائيني في كتابة "زبدة الأعمال" أنه في سنة تسع وخمسين وسبعمائة في زمان القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الدين الطبري سرق الذهب الذي كان عليه - على المقام - فعمل عليه الفضة

(3)

.

‌موضع المقام:

ذكرت في الجزء الثاني من أعلام الحجاز أن الملك المسعود بنى قبة حديدية على مقام إبراهيم، وكانوا قبل بناء هذه القبة ينقلون حجر المقام إذا اشتد الزحام إلى داخل الكعبة أو أحد أركان المسجد وذكرنا كذلك أن هذه القبة أزيلت بكاملها توسعة للمطاف، ووضع حجر المقام في مكانه الحالي في مواجهة حجر إسماعيل داخل أناء بلَّوري شفاف يعلوه هلال من الذهب الخالص، وتم هذا في 18 رجب 1387 للهجرة

(4)

.

(1)

البداية والنهاية مجلد 1 ص 518

(2)

خلاصة الكلام ص 19

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 518

(4)

أعلام الحجاز ج 2 ص 29 - 30

ص: 113

ونذكر هنا المراحل التاريخية التي تمت في هذا الموضوع نقلا عن إفادة الأنام ونوجز ذلك فيما يلى:

ذكر ابن جبير في أخبار رحلته إلى مكة أن حجر المقام لم يكن ثابتا في مكانه، وأنه كان يوضع في موضعه المواجه لحجر إسماعيل، ويرفع إذا اشتد الزحام فيجعل حينا في الكعبة المشرفة في البيت الذي فيه الدرجة التي يصعد منها إلى السطح - سطح الكعبة - وإذا وضع في موضعه وضع في قبة من خشب فإذا كان الموسم قلعت قبة الخشب، وجعلت عليه قبة من حديد، ذكر ابن جبير ذلك في شهر رجب من سنة تسع وسبعين وخمسمائة وهو يصف اعتمار مكثر بن عيسى بن فليتة أمير مكة حيث قال:

فلما فرغ من الطواف صلَّى عند الملتزم، ثم جاء إلى المقام وصلى خلفه، وقد أخرج له من الكعبة ووضع في قبته الخشب التي يصلي خلفها، فلما فرغ من صلاته، رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح، ثم أعيدت القبة عليه.

أما القبة الحديدية التي صنعها الملك المسعود للمقام فأغلب الظن أن ذلك تم في أوائل القرن السابع الهجري ما بين عامي 619 - 626 للهجرة، حيث كان للملك المسعود هذا أحداث في مكة سنذكرها بعد.

وقد وصف الفاسي في شفاء الغرام القبة التي وضع فيها المقام فقال:

أما صفة الموضع المشار إليه فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق حجارة منحوتة بينها أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة، ويدخل إلى المقام من الجهة الشرقية، والقبة مما يلى المقام مزخرفة بالذهب، ومما يلى السماء مبيضة بالنورة، وأما موضع المصلَّى الآن فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة منها عمودان عليهما القبة، وهو متصل بها، وهو مما يلى الأرض منقوش مزخرف بالذهب ومبيض، ومما يلى السماء مبيض منور، وأحدث وقت صنع فيه ذلك في شهر رجب سنة ستة عشر وثمانمائة، واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع بسبب عمارة له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديدية في قبة من حديد ثابت في الأرض، والقبة التي عليها ثابتة أيضا في الأرض بجصاص مصبوب، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها، ولعل هذه القبة الحديدية التي في جوفها المقام الآن، هي القبة الحديد التي كانت توضع عليه عند قدوم الحاج إلى مكة لكونها أحمل للازدحام والاستلام على ما ذكره ابن جبير.

يقول الغازى: وما عرفت من جعل المقام ثابتا على صفته التي هو عليها الآن

(1)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 518 - 520

ص: 114

أقول: ونستطيع مما ذكرناه آنفا أن نستخلص الأدوار التاريخية عن موضع المقام وما عمل بشانه، ونوجز ذلك فيما يلى:

كان المقام كما ذكر ابن جبير في قبة من خشب فإذا كانت المواسم والازدحام وضعت عليه قبة من حديد، وكان ينقل من مكانه إلى داخل الكعبة، ويوضع في مكانه أمام حجر إسماعيل وذلك كان في أواخر القرن السادس الهجري حينما حجَّ ابن جبير عام تسع وسبعين وخمسمائة.

ثم بنى الملك المسعود في أوائل القرن السابع بين عامي 619 - 626 القبة الحديدية وقل وضع المقام بعد ذلك في موضعه أمام الحجر ووضع له شباك من حديد لم يذكر لنا الفاسي مؤرخ مكة من الذى صنعه، ولكنه يذكر أن الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر قام بعمارة له وكتب اسمه في الشباك الشرقي الذي وصفه الفاسي كما ذكرنا قبل، كما كتب اسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية الذي صنع أو على الأصح شارك في صنع هذا الشباك الحديد في سنة ست عشرة وثمانمائة.

أقول: وقد أدركنا المقام وهو في داخل الشباك الحديدي الذي وصفه تقي الدين الفاسي وعليه القبة الحديدية التي وصفها إلى أن تمت إزالة البناء كله وتم وضع المقام داخل كرة بلورية لها هلال من الذهب في 18 رجب 1387 كما قدمنا.

‌الملك المسعود في مكة:

ذكرنا أن الملك المسعود هو الذي بنى القبة الحديدية على مقام إبراهيم عليه السلام ونذكر هنا أن الملك المسعود هو ابن الملك الكامل الأيوبي الذي كان يحكم مصر، وقد استمد الملك المسعود من قوة أبيه فحكم اليمن باسم أبيه الملك الأيوبي، وكان يحكم مكة في ذلك الزمن الحسن بن قتادة الذي قتل أباه خنقا، واستولى على إمارة مكة سنة 617 للهجرة، واستطاع أن يستصدر مرسوما من الخليفة الناصر لدين الله بتوليته إمارة مكة، وكان الذي حفر بالمرسوم إلى مكة مملوك من مماليك الخليفة الناصر اسمه اقباش.

وقد علم الحسن بن قتادة أن أخاه الشريف راجح بن قتادة اتصل باقباش وأغراه بنقل امارة مكة إليه بدلا من أخيه الحسن، وبذل له وللخليفة الناصر أموالا، فغضب الشريف حسن، وأغلق أبواب مكة، ومنع الحاج العراقي من دخولها، فقاتل أقباش عند باب مكة، ثم ما لبث أقباش أن انفرد عن جنده مصعدا في جبل الحبشي بجوار سو رمكة، ادلالا بمركزه، وثقة في نفسه.

ويعلل الأستاذ/ السباعي صاحب كتاب تاريخ مكة ذلك بأنه ربما صعد الجبل بمفرده طلبا للتفاهم مع الشريف الحسن.

أحاط جنود الحسن بأقباش واحتزوا رأسه، وحملوه على رمح، فنصبه الحسن عند دار العباس بالمسعى، وانهزم عسكر العراق، وأحاط بهم جنود الحسن لينهبوهم فمنعهم الحسن من ذلك.

ص: 115

ولكن راجحا أخو الحسن لم يهدأ له بال، وأراد الثأر من أخيه الحسن الذي قتل أباه وعمه في سبيل الاستئثار بامارة مكة، فاتجه إلى اليمن، واتفق مع الملك المسعود الذي كان يتولى اليمن باسم أبيه الملك الأيوب، وزيَّن راجح للمسعود الاستيلاء على مكة وضمها إلى نفوذ الأيوبيين، وصل الملك المسعود ومعه راجح بن قتادة في ربيع الأول من سنة 619 أو 625 هجربة وهاجم مكة هجوما مفاجئا، فاشتبك معه المدافعون عنها في المسعى، وقاوم الحسن وجنوده بعض المقاومة ولكنه رأى أن لا طاقة له بقتال الملك المسعود وجنده، فخرج من مكة وتركها للملك المسعود.

يقول الأستاذ/ أحمد السباعى:

ونهب عسكر المسعود بيوت مكة، وجردوا المدنيين من ثيابهم وأموالهم، ونبشوا قبر قتادة وأحرقوا تابوته، فلم يجدوا الجثة في القبر، فعلم الناس أن الحسن دفن أباه خفية في مكان سري.

يقول السباعي:

ورؤي الملك المسعود يصعد فوق قبة زمزم ويرمي حمام البيت بالبندق

(1)

كما رؤي غلمانه في السعى يضربون الناس بالسيوف في أرجلهم، ويقولون: خففوا من سعيكم فإن السلطان نائم سكران، وكان الدم يجري من سيقان الناس في الطريق بجوار دائرة السلطنة بالمسعى

(2)

.

أقول أننى أشم رائحة المبالغة في حديث المقريزي عن غلمان المسعود الذين يضربون الناس بالسيوف في أرجلهم ليخففوا من سعيهم لأن السلطان نائم وسكران، وهل يقول الغلمان عن سيدهم أنه سكران ليشوهوا اسمه وسمعته ويعطو الدليل على فسقه في الحرم .. ؟

يقول السباعي:

وأهلَّ موسم الحج في ذلك العام 619 أو 620 فسار المسعود بجيشه إلى عرفات، ومنع أن تنصب راية العباسيين على الجبل، ونصب بدلا منها راية أبيه الملك الكامل، وكاد أن يشتبك معه أمير الحج العراقي لكنه شعر بقلة جنده، وقيل أنه أباح رفع الراية العباسية قبل غروب يوم عرفة بعد أن خوَّفه بعضهم من سطوة العباسيين.

ثم غادر المسعود مكة بعد فراغه من الحج، وعاد إلى اليمن بعد أن أبقى بها نائبه عمر بن علي بن رسول، وثلاثمائة من الجند لحراسته، وولي راجح بن قتادة بعض الأعمال المتصلة بالبادية، وقد حاول الحسن بن قتادة استرجاع مكة من الملك المسعود بعد عودة المسعود إلى اليمن فاستنفر القبائل في ينبع، وسار بهم فلقيه نائب المسعود ابن رسول في الحديبية وهزمه ففرّ إلى بغداد حيث مات بها.

(1)

البندق كرات تضع من العلين والحجارة أو الرصاص أو غيرها كما ورد في التمدن الإسلامي ج 5 ص 159.

(2)

الذهب المسبوك للمقرزي ص 78.

ص: 116

كما حاول أمير المدينة قاسم الحسيني في سنة 622 استخلاص مكة من نائب المسعود فسار إليها بجيش كثيف وحاصرها شهرا دون أن يظفر بطائل.

وتوفي الملك المسعود بمكة في سنة 626 حيث قدم لزيارتها فما لبث أن أصيب بمرض الشلل فتعطلت يداه ورجلاه وقاسى ما لا يطاق من الآلام المبرحة، وكأنما شعر بعظيم جنايته وعرف أن أمواله التي جمعها من الحرام لا تصلح لتجهيزه، فتصدق عليه أحد المغاربة بمائتي درهم لتكفينه ودفنه.

وقد استمر حكم مكة يتجاذبه ملوك مصر واليمن نحوا من ثمانية وعشرين عاما إلى أن استطاع الحسن بن علي بن قتادة الاستيلاء عليها في التاسع من ذي القعدة سنة 647 للهجرة وتفاصيل هذه الأحداث في تاريخ مكة للسباعي

(1)

.

ونعود الآن بعد هذه الفذلكة التاريخية عن الملك المسعود إلى تكملة البحث عن مقام إبراهيم عليه السلام.

‌تجديد قبة المقام:

ونقل الغازي عن مرآة الحرمين ما يلي:

وقد جددت قبة المقام في سنة تسعمائة للهجرة، وكذلك في سنة ألف وتسع وأربعين ونقشها بالذهب في سنة ألف واثنين وسبعين سليمان بك والي جدة من قبل سلطان مصر - الاسم غير اضح - ويقول صاحب مرآة الحرمين:

وقد رأيت مكتوبا بأعلى القبة من الجهة الجنوبية، أمر بتجديد هذا المقام الشريف مولانا العبد الفقير إلى الله تعالى سلطان الإسلام والمسلمين، قاتل الكفرة والمشركين، ملك البرين والبحرين خادم الحرمين الشرفين السلطان المالك الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره في 15 رجب الفرد سنة 955.

‌ومكتوب عليها في الجهة الغربية المقابلة لباب الكعبة:

أمر بتجديد هذا المقام المعظم سيدنا ومولانا السلطان المظفر سليم خان بن السلطان با يزيد خان، وعلى الجهة الشمالية بقية أجداده سنة 1049

(2)

.

‌الشيخ طاهر الكردي يصف حجر المقام:

وصف الشيخ طاهر الكردي مؤلف كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم - وهو من

(1)

تاريخ مكة صفحة 230 - 237.

(2)

إفادة الأمان مجلد 1 ص 521/ 522.

ص: 117

الكتب الموسوعية عن الكعبة المعظمة والمسجد الحرام - باستثناء الحوادث السياسية التي حدثت في مكة فقد تعمد عدم الحديث عنها

(1)

.

أقول: وصف الشيخ طاهر حجر المقام بعد أن استاذن من الأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية وملك المملكة العربية السعودية فيما بعد في فتح المقام لمعاينة حجر المقام والكتابة عنه كتابة مشاهد رأى بعينه، وتمت هذه المعاينة في السابع من شهر شعبان عام ألف وثلاثمائة وسبع وستين، وقد كتب عنها الشيخ طاهر كتابة وافية في الجزء الرابع من كتابه التاريخ القويم، ونورد هنا وصف حجر المقام كما شاهده الشيخ طاهر الكردي يقول: وجدنا حجر مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مثبتا فوق قاعدة صغيرة من الرخام المرمر بقدر قياس نفس المقام الشريف طولا وعرضا، وأما ارتفاعها فثلاثة عشر سنتمتر وقد استمسك المقام بهذه القاعدة بواسطة الفضة التي تحيط بنفس المقام مع جزء من هذه القاعدة حتى صار المقام ثابتا فيها ثبوتا قويا بحيث لا يمكن تحريكه قط.

ثم أن هذه القاعدة الصغيرة مثبتة ثبوتا محكما في وسط قاعدة كبيرة من الرخام المرمر أيضا تشبه البركة طول ضلعها من جميع الجهات مترا واحدا، وارتفاعها من الأرض ستة وثلاثون سنتمترا ولون الرخامين أبيض.

ويحيط بهذه القاعدة الكبيرة صندوق من الخشب كهيئة الهرم الرباعى، ارتفاعه نحو القامة وليس به منافذ مطلقا سوى الباب الذي يرى منه المقام الكريم، وهو في الجهة الشرقية.

وهذا الصندوق ملبَّس كله من الظاهر بصفائح الفضة مكتوب عليه من الجهة الشرقية فقط ما يأتي:

"بسم الله الرحمن الرحيم وبه الهداية، أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

كتبه الحافظ إسماعيل الزهدي وادرنوي خوجة، كتبه عام ألف ومائتين وثمان وعشرين.

وباب الصندوق مصفح من الظاهر بالفضة أيضا، وقد كتبت عليه هذه العبارة صاحب الخيرات والحسنات، سلطان البرين، وفاتح الحرمين الغازي السلطان محمود خان بن عبد الحميد خان، دام ملكه سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين.

ويقول الشيح طاهر الكردي: والذي يظهر لنا من هذه العبارة أن الذي أمر بتلبيس هذا الصندوق بصفائح الفضة هو السلطان محمود خان المذكور، وأما الصندوق من الداخل فهو خشب عادي بلونه الطبيعي لا أثر فيه لكتابة أو نقش، وهذا الصندوق مغطى كله من قمته إلى الأرض بكسوة من الحرير مكتوب فيها بعض آيات قرآنية كتبها مؤلف هذا الكتاب - طاهر الكردي - سنة ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين، وصنعت بدار الكسوة بمكة المشرفة في السنة

(1)

انظر ما كتبناه عن هذا الموضوع في ترجمة الشيخ طاهر الكردي في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 316/ 339.

ص: 118

المذكورة ومن هذه السنة إلى الآن لم تغير الكسوة، ثم يحيط بهذا الصندوق الشباك الحديدي المضروب باللون الأخضر من الجهات الأربع.

أما مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام: فهو حجر ليس بصوَّان لونه ما بين الصفرة والحمرة، وإلى البياض أقرب، ويمكن أن يحمله أضعف الرجال.

ثم يقول:

وفي هذا الحجر الشريف غاصت قدما خليل الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مقدارا كبيرا إلى نصف ارتفاع الحجر، فعمق إحدى القدمين عشرة سنتمترات وعمق الثانية تسعة سنتمترات، ولم نشاهد أثرا لأصابه القدمين مطلقا.

فقد انمحى من طول الزمن ومسح الناس بأيديهم، وأما موضع العقبين فلا يتضح إلا لمن دقق النظر وتأمل، وحافة القدمين الملبستين بالفضة، أوسع من بطنهما من كثرة مسح الناس بأيديهم.

ويقول الشيخ طاهر عن قامة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما يلي:

ولقد كان طول سيدنا إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه كطول الرجل العادي في زماننا لا بالطويل ولا بالقصير الخ ..

(1)

.

أقول: ويفهم مما ذكره الشيخ طاهر الكردي أن السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان أمر بتلبيس صندوق المقام بالفضة عام ألف ومائتين وثمان وعشرين.

والواقع أن أمراء المسلمين وسلاطينهم وملوكهم كانوا يولون العناية بالمقام وغيره من الآثار الشريفة المقدسة بدافع من إيمانهم وشعورهم بوجوب المحافظة عليها على مدى العصور والأزمان.

‌مفتاح المقام يحفظ عند السادن:

ورد في الإتمام على أعلام الأنام ما يلي:

مفتاح مقام إبراهيم عليه السلام عند السدنة بني شيبة الفاتحين للكعبة المعظمة ويضعون مفتاحه مع مفتاح الكعبة المعظمة في كيس واحد ومحل واحد

(2)

.

‌السلطان سليمان يكسو حجر المقام:

يقول الغازي: أنه منذ ما رتب السلطان سليمان خان كسوة الكعبة المعظمة، رتّب أيضا

(1)

التاريخ القويم لمكة بيت الله الكريم الجزء الرابع ص 10 - 26.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 522.

ص: 119

"للمقام" في كل سنة كسوة، وستارة معمولة مثل الحزام، وستارة في باب الكعبة المعظمة بالأسلاك الفضية المموهة بالذهب

(1)

وفي الرحلة الحجازية للبتنوني ما يلي:

ولمقام إبراهيم كسوة من الحرير المزركش بالقصب تأتي إليه سنويا من مصر مع كسوة الكعبة

(2)

.

‌المهدي يقطع خيفا لعبد الله بن عثمان المحيي:

جاء في تاريخ الأزرقي: حدثني غير واحد من مشيخة أهل مكة قال:

حج المهدي أمير المؤمنين سنة مائة وستين فنزل دار الندوة، فجاء عبد الله بن عثمان المحيي بالمقام - مقام إبراهيم - في ساعة خالية نصف النهار - مشتمل عليه - فقال للحاجب: ائذن لي على أمير المؤمنين، فإن معي شيئا لم يدخل على أحد قبله، وهو يسر أمير المؤمنين فأدخله الحاجب على المهدي، فكشف عن المقام، فسر به المهدي وتمسح به وسكب فيه ماءًا ثم شربه، وقال له اخرج وأرسل المهدي إلى بعض أهله فشربوا منه وتمسحوا به، ثم ادخل عبد الله بن عثمان على المهدي فاحتمل المقام ورده مكانه.

وأمر المهدي بجوائز عظيمه لعبدالله بن عثمان وأقطعه خيفا "بنخلة" يقال له القويعة فباع عبد الله بن عثمان الخيف من منيرة مولاة المهدي بعد ذلك بسبعة الآف دينار

(3)

.

أقول: الخليفة محمد المهدي ثالث الخلفاء العباسيين ولي الخلافة في سنة 158 للهجرة بعد وفاة أبيه الخليفة المنصور، وتوفي المهدي سنة مائة وثمان وستين

(4)

ويفهم مما ذكره الأرزقي أن حجر المقام في ذلك الزمن لم يكن في مكان ثابت، وإنما كان ينقل من مكانه كما سبق إيراده.

‌رومي يحاول سرقة حجر المقام:

جاء في الجامع اللطيف: أن رجلا يهوديا كان بمكة يقال له جريج فأسلم، فقصد المقام ذات ليلة، فوجد عنده، فأراد أن يخرجه إلى ملك الروم فأخذ منه وقتل

(5)

.

أقول: أوردنا ما ذكره المؤرخون عن مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام للإحاطة بالأدوار التاريخية التي مرت على حجر المقام الذى قام عليه الخليل صلوات الله وسلامه عليه حين بنائه للكعبة المعظمة وقد أدركنا المقام وهو موضوع في مكانه في مواجهة حجر إسماعيل داخل غرفة ذات شبابيك من الحديد المدهون باللون الأخضر تعلوه القبة التي وصفها مؤوخو مكة، ثم ما

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 522.

(2)

إفادة أنام مجلد 1 ص 523.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 523.

(4)

خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام ص 14.

(5)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 524.

ص: 120

أنتهى إليه أمره في الوقت الحاضر بعد وضعه داخل إناء بلوري يعلوه، هلال ذهبي في الثامن عشر من شهر رحب عام ثلاثمائة وسبع وثمانين وألف للهجرة، كما ذكرنا ذلك سابقا، وسيرى القاريء صورة للحجرة التي كان يوضع بها المقام قبل وضعه داخل هذا الإناء البلوري، إكمالا للصورة التي كان عليها قبل.

‌عمارة المطاف:

ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز أن عبد الله بن الزبير فرش الأحجار في المطاف بمقدار عشرة أذرع حين عمارته للكعبة المعظمة سنة خمس وستين للهجرة

(1)

.

وقد أورد الشيخ/ عبد الله الغازي شيئا عن العمارات التي وقعت في المطاف بعد ذلك فرأيت إيرادها إكمالا للبحث:

ذكر الفاسي في شفاء الغرام ما يلي:

عمارة الرخام الذي في المطاف تم ذلك على دفعات حتى صار على ما هو عليه اليوم، وكان مصيره هكذا في سنة سبعمائة وستة وستين، وممن عمره المستنصر العباسي سنة ستمائة وإحدى وثلاث.

وممن عمره الملك شعبان صاحب مصر.

ومن مبرات السلطان سليمان تغيير بلاط المطاف القديم وتجديده ببلاط جديد أي رخام على يد أحمد حليبي في سنة تسع وخمسين وتسعمائة ذكره في درر الفوائد، وفي تاريخ القطبي، وأما عمارة المطاف الشريف فوقع في سنة إحدي وستين وتسعمائة وهذه هي عمارة السلطان سليمان خان.

وقال ابن فهد في حوادث سنة ست وأربعين وثمانمائة وفيها في سادس عشر شوال أذيب الرصاص، وجعل بالحفر التي بأرض المطاف

(2)

.

أقول: أن عمارة ملوك المسلمين وأمرائهم للمسجد الحرام بجميع أجزائه استمر عبر العصور، وقد أوردنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ملخصًا لكتاب الشيخ/ حسين باسلامة عن المسجد الحرام، وكتابه عن الكعبة المعظمة فليرحع إليه من شاء الاستزادة

(3)

.

‌باب زمزم ومفتاحه وأسرة الزمزمي:

عقد الشيخ/ عبد الله الغازي فصلًا بعنوان: باب زمزم جاء فيه موجزه:

أن مفتاح باب زمزم بيد ذرية الشيخ عبد السلام بن أبي بكر المعروفين الآن ببيت الريس

(1)

أعلام الحجاز ج 2 ص 67.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 541/ 543.

(3)

أعلام الحجاز ج 2 ص 119/ 124.

ص: 121

• صورة قديمة للكعبة المشرفة ويظهر بها المنبر ومقام إبراهيم، وباب بني شيبة، وبئر زمزم ويعود تاريخ هذه الصورة إلى سنة 1880 ميلادية الموافقة لسنة 1298 هجرية نقلا عن ألبومات ليدز التاريخية.

ص: 122

من سنة ستمائة وثلاثين إلى وقتنا هذا، وعندهم مرسوم من أحد خلفاء العباسية ونائبه عليها من قبل سلاطين آل عثمان.

قال الشيخ خليفة بن فرج بن محمد الزمزمي البيضاوي في كتابه "نشر الآس في فضائل زمزم وسقاية العباس" ما يلي:

كانت زمزم ليس لها باب ولا غلق وإنما هي مفتوحة لمن دخل وورد إليها، ولذلك كان

(1)

أمر السقاية للجد بطريق النيابة عن الخلفاء العباسيين، فلما أن صار أمر البئر إلى الشيخ/ عبد السلام بن أبي بكر الزمزمي أنهى بمحضر إلى خليفة ذلك الزمن العباسي، بأن زمزم في أوقات الصلاة يكثر فيها الناس والازدحام، فيشوشون على الإمام والمصلين، وطالما دخلت الكلاب والبِسَسْ في الليل فيضجون فيها، وطلب أن يقام عليها باب يمنع ما ذكر، فأجابه إلى سؤاله وجَعل عليها بابا، ثم أنه لما صار أمر زمزم والسقاية إلى ذرية الشيخ/ عبد العزيز بن عبد السلام المذكور طلبوا من خليفة زمنهم المتوكل العباسي أن يجعلوا ضبة على باب زمزم يقفلونها في أوقات الصلوات وفي الليل وأن يكون المفتاح عند الأكبر منهم ثم من ذريتهم فأجابهم خليفة ذلك الزمان إلى ما طلبوا.

وقد أورد الشيخ الغازي نص المرسوم الصادر من الخليفة العباسي المتوكل على الله وفيه موافقة الخليفة على عمل باب لزمزم يقفل عليها منعًا لما فيه ضرر على المسلمين، وقد أصدر الخليفة مرسومًا آخر إلى أمير مكة المشرفة - الجناب العالي الأميري مغلباي - الأمير بمكة المشرفة، وناظر الحسبة الشريفة بما أجازه له الخليفة العباسي للشيخ/ سراج الدين عمر بن الشيخ عبد العزيز الزمزمي مفتي مكة المشرفة، والقائم عنا بخدمة زمزم الشريفة وسقاية جدنا العباس، وأجاز الخليفة في هذا المرسوم أن يعمل بيد الشيخ عمر مفتاح، ويقيموا من شاءوا من جهتهم من يتولى إغلاق الباب وفتحه وتاريخ هذا المرسوم العشرين من شوال سنة عشرين وثمانمائة

الخ

(2)

.

أقول: انتهت الخلافة العباسية ببغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة بمقتل الخليفة المستعصم بالله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر العباسي، حينما دخل التتار بغداد وقتلوا خليفتها وأكثر أهلها بقيادة القائد التتري هولاكو

(3)

.

ثم انتقلت الخلافة إلى مصر بعد أن وصل إليها الخليفة العباسي أحمد بن الخليفة الظاهر الملقب بالمستنصر بالله سنة تسع وخمسين وستمائة. وبايعه بالخلافة الملك الظاهر بيبرس البندقداري من سلاطين المماليك سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد انتصاره على التتار في عين

(1)

الكلام غير واضح وقد تكون الجملة أمر السقاية للجد.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 562/ 563.

(3)

البداية والنهاية ج 12 ص 200/ 205.

ص: 123

جالوت، وقتله السلطان قطز

(1)

وقد بقي الخلفاء العباسيون في مصر، ولكن السلطة الحقيقية كانت بيد سلاطين مصر من المماليك، ثم من الجراكسة الأتراك وكان الخلفاء العباسيون لا حول لهم ولا طول، وربما تعرضوا للمهانة والإذلال على أيدي السلاطين وهذا الخليفة المتوكل على الله الذي أصدر المرسوم بالسقاية لأسرة الزمزمي ولي الخلافة في مصر وعزل منها عدة مرات

(2)

ولو لم تكن السقاية أصلا لجده الأعلى العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه لما استطاع إصدار مرسوم عنها، وإذا نظرنا إلى هذا المرسوم وجدناه خاصا بعمل ضبة لباب زمزم ومفتاح يحفظ عند الساقي وأسرته.

وهكذا تدور الدنيا، ويهون الزمان فسبحان من بيده الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير.

‌جد الزمازمة قدم من العراق:

وينقل الشيخ/ الغازي من كتاب نشر الآس السابق ذكره الكيفية التي وصلت بها أسرة الزمزمي إلى السقاية فيقول:

نقلا عن الشيخ/ خليفة بن فرج الزمزمي البيضاوي في كتابه ما يلي: أن جدنا الأكبر علي بن محمد البيضاوي قدم مكة عام ثلاثين وستمائة من العراق، وباشر عن الشيخ/ سالم بن ياقوت المؤذن خدمة زمزم، فلما ظهر له خيره نزل عنها، وزوَّجه ابنته فولدت منه أولادًا فصار لهم أمر البئر وسقاية العباس

(3)

.

‌البعض ينازع ورثة الزمزمي في السقاية:

وذكر الشيخ/ الغازي أن رجلا يدعى عبد العزيز بن عبد الله الزمزمي، نازع ورثة الزمزمي في السقاية في سنة ثمانمائة وسبعة وسبعين، وذكر أن كل من جَبَذ دَلْوًا من زمزم نسب إليها. ادعى ذلك الرجل الشراكة مع أولاد الشيخ/ إسماعيل الذين أخذوها من جدهم عن الشيخ سالم بن ياقوت وهم وكلاء الخلفاء العباسيين في ذلك الزمان، ودلَّسَ ذلك الرجل على خليفة زمانهم فأشركه معهم، فأنهى أولاد الشيخ/ إسماعيل إلى الخليفة فأرسل إليهم - الأجواد بك - بضم أوله وفتح الموحدة فبحث عن هذه الخدمة، وعقد مجلسًا حفره القضاة وكثير من أعيان مكة ووقف على ما بيد أولاد الشيخ/ إسماعيل البيضاوي من المستندات، وظهر أن هذه الخدمة لأولاد الشيخ، وأخرج المعتدي عليهم.

(1)

نفس المصدر ج 1 ص 231/ 233.

(2)

النجوم الزاهرة ج 2 ص 398/ 399.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 563.

ص: 124

ويعلق الشيخ/ الغازي على ذلك فيقول:

ومثل هذه الحادثة وقعت في زماننا، وهي أن رجلًا يقال له عبد الله حميد، كان وكيلًا عن الشيخ/ الريس شيخ زمزم، واستمر مدة من الزمان، ثم بعد ذلك ادعى أن خدمة زمزم له شراكة معهم، وأن بيده تقارير من أشراف مكة، تبين مكانها فأرسل آل الريس رجلا من طرفهم إلى الآستانة العلية، وبيده من الخلفاء العباسيين ومن سلاطين آل عثمان ما يثبت أن هذه الوظيفة لهم، وعاد الرجل من الآستانة وبيده فرمان سلطاني يمنع كل من يتعرض لهم، وأن تبقى هذه الخدمة بأيديهم كما كان عليه أسلافهم.

وقد أورد الشيخ الغازي صورة الشكوى التي رفعها الشيخ/ عثمان بن أحمد الريس إلى والي ولاية الحجاز عثمان باشا وجوابه الذي صدر منه إلى مدير الحرم في سنة 1258 للهجرة

(1)

.

* * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 562/ 564.

ص: 125

‌أبواب المسجد الحرام وأسماؤها

‌باب إبراهيم نسبة إلى خياط اسمه إبراهيم:

كنا ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز أن الخليفة العباسي المقتدر بالله أدخل زيادة في المسجد الحرام في سنة ست وثلاثمائة سميت بباب إبراهيم، وأنه كانت هناك ساحة بين بابين من أبواب المسجد الحرام كان أحدهما يسمى باب الحزورة أو باب الخياطين، والثاني باب بني جمح، وكانت هذه الساحة امام دارين لزبيدة أم الأمين فأدخلت هذه الساحة في المسجد الحرام

(1)

وقد ذكر الشيخ/ الغازي نقلا عن كتاب الأعلام: أن من جملة محاسن المقتدر بالله العباسي زيادة باب إبراهيم، وليس المراد به الخليل عليه السلام، فقد كان إبراهيم هذا خياطًا يجلس عند هذا الباب فعرف به، ثم ذكر الغازي نقلا عن مؤرخي مكة الزيادة المذكورة والبيوت التي كانت في موضعها وتواريخ إدخالها إلى المسجد الحرام مما لا يخرج عما ذكرناه، ونعرض عن إيراده تجنبًا للتكرار

(2)

وقد رأيت هنا إيراد سبب تسمية باب إبراهيم لأن الكثير من الناس يظن أن هذا الباب ينسب إلى الخليل إبراهيم عليه السلام.

‌باب بازان:

سمي هذا الباب لقربه من عين مكة المعروفة ببازان.

‌باب العباس:

سمي هذا الباب بباب العباس لأنه كان قريبًا من دار العباس.

‌باب الصفا:

أما باب الصفا فكان اسمه سابقا باب بني مخزوم

(3)

.

(1)

أعلام الحجاز ج 2 ص 25/ 26.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 625/ 626.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 652.

ص: 126

‌تسمية الأبواب تختلف باختلاف الزمان:

كان أمام التكية المصرية بأجياد قبل إدخالها في المسجد الحرام في التوسعة السعودية باب للمسجد الحرام أورد له الشيخ الغازي عدة أسماء منها:

باب مدرسة الشريف عجلان بن رميثة لاتصالها به، وقد جدد هذا الباب وعدد شرافاته عشرون، ويقال له باب بني تميم، وسماه صعاحب النهاية بباب العلافين، وفي زماننا هذا يعرف بباب التكية المصرية

(1)

.

أقول أسس محمد علي باشا التكية المصرية عام 238 اهـ أثناء حكم المصريين للحجاز

(2)

.

‌باب أم هانيء:

يقول الغازي عنه: وقد جدد هذا الباب ببناء حسن لطيف وعدد شرافاته ثلاثة عشر شرافة قال في تحصيل المرام، وهذا الباب مما يلي دور بني عبد شمس وبني مخزوم، ويقال لهذا الباب "باب الفرج" على ما وجد بخط الاقشيري، وذكر له صاحب تحصيل المرام اسمًا آخر لم نتبين حقيقته لعدم وضوح الخط، وسماه صاحب النهاية باب أبي جهل يقول الشيخ الغازي: قلت وفي زماننا هذا يعرف بباب الشريف، لأنه كان يخرج منه الشريف سرور إلى بيته الذي بأجياد

(3)

.

‌باب الوداع:

يقول الغازي: وعامة أهل مكة يسمونه باب العزوزة بالعين المهملة وإنما هو بالحاء المهملة الحزورة، وهذا الباب يلي المنارة التي تلي أجياد الكبير، ويقال له باب حكيم بن حزام وباب الزبير بن العوام ذكره القرشي.

يقول الشيخ الغازي: وفي زماننا هذا يعرف بباب الوداع لأن الحاج حين توجههم بعد الحج لبلادهم يخرجون من هذا الباب.

‌باب العمرة:

سمي بباب العمرة لأن المعتمرين من التنعيم يدخلون ويخرجون منه في الغالب وكان يسمى قديمًا باب بني سهم

(4)

.

وفي الجانب الشمالي من المسجد الحرام خمسة أبواب.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 652.

(2)

أعلام الحجاز ج 3 ص 39.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 653.

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 653.

ص: 127

‌باب ابن عتيق:

الأول ويعرف بباب السدة، وكان يقال له باب عمرو بن العاص، قال في الارج المكي: باب السدة يعرف في زمننا بباب أبن عتيق لكونه قريبًا من داره.

أقول: وقد أدركت هذا الباب وهو يسمى باب العتيق في الخمسينات من القرن الماضي.

‌باب الباسطية:

الثاني باب العجلة، ويدعى كذلك باب الباسطية لاتصاله بمدرسة الخواجة عبد الباسط وهو على يمين الخارج، أوقفها على الفقراء، وهي في غاية الإحكام، والإتقان، ولها شبابيك تكشف على الحرم، وجعل سبيلا بجانب المدرسة من خارج.

توفي عبد الباسط سنة ثمانمائة وإحدى وثمانين.

وقد علل ابن ظهيرة تسمية باب العجلة بان هذا الباب كاليمن عند دار تسمى قديمًا دار العجلة وسبب التسمية إن ابن الزبير كان ينقل حجارتها على عجلة اتخذها على البُخْتِ والبقر ذكر ذلك الأرزقي.

أقول: وقد احتفظ باب الباسطية باسمه إلى حين أجراء التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام التي بدأت سنة 1375 للهجرة وانتهت سنة 1396 للهجرة

(1)

وسنتحدث عن المدرسة الباسطية في الفصل الخاص بالدارس التي بنيت حول المسجد الحرام بعد.

‌باب القطبي:

الثالث: باب القطبي، ولا يعرف له اسم غير هذا.

أقول: ذكر الشيخ حسين باسلامة أن هذا الباب بجوار مدرسة قطب الدين الحنفي، وكان يسمى قديمًا باب زيادة دار الندوة، وهو واقع غرب تلك الزيادة ولم يجدد في العمارة التي وقعت سنة 984 وله منفذ واحد، ويعلو عن رواق الزيادة بثلاثة عشر درجة ولم يكتب عليه شيء وهو لا يزال على عمارته التي أنشئت في خلافة المعتضد بالله العباسي سنة 281 هـ، وهو الباب الأثري الباقي على بنائه القديم نحو ألف ومائة سنة، وهو لا يزال في العصر الحاضر قوي البناء لا فرق بينه وبين سائر أبواب المسجد الحرام في متانته انتهى

(2)

.

أقول: وقد احتفظ باب القطبي باسمه هذا إلى أن تمت العمارة السعودية الأولى ما بين عامي 1375/ 1396 للهجرة، وكنت أسمع من إخواننا المكيين أن هذا الباب ينسب إلى أحد العلماء المسمى بالقطبي.

(1)

أعلام الحجاز ج 2 ص 43/ 52.

(2)

تاريخ عمدة المسجد الحرام للشيخ حسين باسلامة ص 131.

ص: 128

‌باب الزيادة:

الباب الرابع: باب الزيادة، قال الأرزقي:

وهو باب دار بني شيبة بن عثمان يسارمنه إلى السويقة، ذكره القرشي.

الخامس:

باب الدريبة بالقرب من منارة باب السلام. انتهى ما ذكره الغازي عن الأبواب الشمالية للمسجد الحرام، ونواصل الحديث عن الأبواب الأخرى.

‌باب الداودية:

وكان فتحه داود باشا لما بنى مدرسته ورباطه بين باب السدة وباب الواسطية وهو باب لطيف طاق واحد، فتح أيام بناء المدرسة.

أقول: سنتحدث عن المدرسة الداودية وعن المدارس الأخرى في فصل خاص بعد.

وقد كنا نزور الأديب الشيخ/ حسين نظيف رحمه الله في رباط الداودية في النصف الثاني من القرن الهجري الماضي 1355 هـ، حينما كان يسكن في ذلك المكان، ثم أزيل الرباط في التوسعة الأولى للعمارة السعودية للمسجد الحرام.

‌الأبواب الأخرى:

وللمدارس السلطانية بابين لطيفين نافذين على الحرم حديثًا عند بناء المدارس المذكورة كل واحد طاق واحد يسمى الأول باب القاضي لسكناه بتلك المدرسة ويسمى الثاني باب السليمانية.

وبين باب السلام وباب النبي باب لطيف "طاق واحد" يعرف بباب السلطان قايتباي لأنه فتح حين بنى مدرسته

(1)

.

أقول: وسنتحدث عن مدرسة السلطان قايتباي في القسم الخاص بالمدارس حول المسجد الحرام.

أما عن أبواب المسجد الحرام وأسمائها فيتضح مما أوردناه آنفًا أن هذه الأبواب كانت تختلف أسماؤها باختلاف الزمان، وباختلاف المجاورين لها في السكن، أو البانين حولها، وقد أزالت التوسعة السعودية الأولى كثيرًا من أسماء الأبواب القديمة التي صار ذكرها تاريخًا يذكر الناس بما كان في قديم الزمان.

وتكملة لهذا البحث فقد تفضل صديقنا العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان الأستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء، بكتابة بحث مفصل عن أبواب المسجد الحرام وأسمائها، كما هي في الوقت الحاضر، وأنه ليسرني أن أثبت هذا البحث كما تفضل به الصديق الكبير.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 653/ 656.

ص: 129

‌أسماء أبواب المسجد الحرام وتعدادها في التوسعة السعودية الأولى

بطلب من سعادة الأديب الكبير والمؤرخ القدير الشيخ/ محمد علي مغربي لمعرفة عدد أبواب المسجد الحرام وتعدادها في الوقت الحالي، قمت أنا عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان شخصيًا بإحصائها وتدوين أسمائها فدونت التالي.

شملت التوسعة السعودية الأولى الجهات الأربع للحرم المكي الشريف، وقد شمل التغيير ضمن ما شمل تغيير أسماء الأبواب التي كانت معروفة عبر التاريخ، وبعضها لا زال قائمًا فاستعمل في تسمية بعض الأبواب في التوسعة الجديدة، وأقرب ما يكون موازيًا للباب القديم في التوسعة الجديدة، وفيما يلي تفصيل هذه الأسماء وبيان مواقعها:

الأبواب بالجانب الشرقي (المسعى) مواجهًا باب الكعبة الشريفة ابتداء من الصفا في اتجاه الشمال نحو (المروة) من الجهة اليمنى:

أولًا: باب دار الأرقم، ولعله محاذٍ لهذا الموضع الأثري المعروف.

ثانيًا: باب بني هاشم، ولعل تسميته بهذا الاسم لأنه في الجانب من شعب بني هاشم (شعب علي) حيث أزيل هذا الحي كاملًا معه بسبب اتجاه الأنفاق وأغراض أخرى.

ثالثًا: باب علي، ولعله محاذٍ في الحرم القديم لباب علي سابقًا وهو معروف لدى أهل مكة قديمًا.

رابعًا: باب العباس، وهو من الأسماء القديمة المحتفظ بها في التوسعة الجديدة وموقعه إلى جانب الميلين الأخضرين.

خامسًا: باب النبي، وهو من الأسماء القديمة التي احتفظ بها في التوسعة الجديدة في نفس الجهة.

سادسًا: باب السلام، وهو أحد الأبواب الرئيسة في الحرم القديم واحتفظ باسمه في الجديد، ولكنه لم يأخذ مكانته مساحة وشكلا ليتلاءم مع مكانته الدينية والتاريخية، فلم يأخذ المساحة والشكل المطلوبين في باب الفتح والعمرة وعبد العزيز.

ص: 130

سابعًا: باب بني شيبة، وهذا الاسم معروف قديمًا للعقد الكبير على حدود المطاف مقابل باب الكعبة.

ثامنًا: باب الحجون، وتسميته بهذا الاسم لأنه في نفس الاتجاه لهذا المكان التاريخي المعروف بأعلا مكة المكرمة.

تاسعًا: باب المعلاه، لأنه في اتجاه (سوق المعلاه) المعروف قديمًا وحديثًا، وهو أحد أسواق مكة الكبيرة.

عاشرًا: باب المدعى، والمدعى هي المنطقة التي تلي الحرم في الاتجاه إلى المعلاه وهي سوق كبيرة مشهورة من أسواق مكة المزدحمة بالبشر والبضائع.

حادي عشر: باب مراد، ولعله أحد أسماء الأبواب القديمة سمي بأحد أسماء سلاطين آل عثمان المشهورين.

وفي الجهة اليسرى من المسعى الشريف توجد أبواب لها أسماؤها، وتطل على رحبة واسعة حيث يصب فيها الخارجون من المسجد الحرام من المسعى إذ يوجد بها سوق للذهب والملابس، والأبواب التالية في الجهة اليمنى للنازل من المروة في اتجاه الصفا.

ثاني عشر: باب المروة، يقابل باب مراد.

ثالث عشر: باب المحصب، يقابل باب المدعى.

رابع عشر: باب عرفة، يقابل باب المعلاة.

خامس عشر: باب منى، يقابل باب الحجون.

سادس عشر: باب قريش، يقابل باب بني شيبة.

هذا مجموع أبواب الحرم المكي الشريف في مشعر المسعى من كلا جناحيه الشرقي والغربي.

أما أبوابه من الجهة الشمالية تجاه الشامية والقرارة فهي كالآتي من الشرق إلى الغرب:

سابع عشر: باب القرارة، ويقع في الركن الشرقي مزويًا يقود الداخل إلى المسجد الحرام في اتجاه باب السلام نزولًا إلى أروقة الحرم، وصعودًا إلى الدور الثاني منه.

ثامن عشر: باب الفتح، وهو مطل على ساحة كبيرة بها ميضأة للرجال وأخرى للنساء وبها سوق للذهب والملابس، وفيها يلتقي الخارجون من أبواب المسعى القريبة (باب المروة، والمحصب، وعرفة، ومنى، وقريش) وهو أحد أبواب الحرم الكبيرة الرئيسة إذ يحتل مساحة ثلاثة بوائك واسعة مرتفعة يقود الداخل إلى الحرم إلى صالة واسعة خالية من الأعمدة يشاهد الداخل الكعبة المشرفة مباشرة.

تاسع عشر: باب عمر الفاروق.

العشرون: باب الندوة، وهو محاذ لما هو معروف بدار الندوة داخل الحرم الشريف.

الحادي والعشرون: باب الشامية.

ص: 131

الثاني والعشرون: باب القدس.

الثالث والعشرون: باب المدينة المنورة.

الرابع والعشرون: باب الحديبية، وعند هذا الباب تنتهي الأبواب في الجهة الشمالية من المسجد الحرام. أما الأبواب في الجهة الجنوبية من ناحية أجياد بدءًا من الصفا فهي كالتالي:

الخامس والعشرون: باب الصفا.

السادس والعشرون: باب إسماعيل.

السابع والعشرون: باب حنين.

الثامن والعشرون: باب بلال.

التاسع والعشرون: باب أجياد.

الثلاثون: باب الملك عبد العزيز، وهو أحد الأبواب الرئيسة بالمسجد الحرام ذات المساحة الواسعة والشكل المتميز، ومنه ترى الكعبة المشرفة مباشرة، والباب بمساحته الواسعة ذات البوائك الثلاث يقود إلى صالات واسعة متتالية داخل المسجد الحرام خالية من الأعمدة، ومستوى المدخل متباين عن مستوى الصالات الداخلية، ينزل الداخل إليها بواسطة درج رخامية.

أما الأبواب بالجهة الغربية من المسجد الحرام فقد أصبحت أروقة تنفذ إلى التوسعة السعودية الثانية لتوصل بين أروقة الحرم القديم، والتوسعة الحديثة، وأسماء الأبواب في هذه الجهة قبل التوسعة الحديثة تجاه ما كان معروفًا بـ (السوق الصغير) كالتالي من الشمال إلى الجنوب:

الحادي والثلاثون: باب العمرة، وهو باب رئيسي في هذه الجهة ذو مساحة واسعة وشكل متميز كسابقيه باب الفتح، وباب الملك عبد العزيز، وهو من الأسماء القديمة لأبواب الحرم الشريف، ظل الاحتفاظ به وفي محاذاة موقعه القديم من المسجد الحرام، ولعل سبب التسمية أنه في اتجاه (التنعيم) مكان اعتمار الحجاج وأقرب الحل لمكة المكرمة.

الثاني والثلاثون: باب الشبيكة لأنه في اتجاه حي الشبيكة المكان التاريخي المعروف حيث يشمل في نفس الاتجاه المعروف (السوق الصغير) موضع التوسعة الحالية للحرم الشريف.

الثالث والثلاثون: باب إبراهيم، وهذا حسب التسمية القديمة المعروفة لهذا الباب.

الرابع والثلاثون: باب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعله سمي به حيث يوجد بالمسفلة مسجد أبي بكر الصديق إشارة إليه.

الخامس والثلاثون: باب الهجرة، ولعل التسمية مستوحاة من توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أسفل مكة للهجرة إلى المدينة المنورة مع صاحبه الصديق رضي الله عنه.

السادس والثلاثون: باب أم هانيء، ولعله إبقاء لتسمية الباب في الحرم القديم ومحاذ له.

ص: 132

هذه مجموع أبواب الحرم المكي الشريف أحصيتها وقوفًا بها وتطوافًا بجميع جهات الحرم ليلة الجمعة 15/ 7/ 1413 هـ، نقلا من الأسماء المدونة على الأبواب على حجر الرخام.

وتوجد مداخل عليا للدور الأعلى من المسجد الحرام من الجهة الشمالية من جهة القرارة والشامية حيث أن مستوى الأرض في هذين الحيين ترتفع نسبته عن أرضية الحرم الشريف بعد التوسعة السعودية، وتتلاءم نسبيًا مع أرضية الدور الأعلى، يتوصل إلى هذا الدور من هذه الجهة بواسطة كباري ممتدة من الشارع الرئيسي الذي يطل عليه المسجد الحرام عن طريق الأبواب والمداخل من جهة الشرق إلى الغرب كالتالي:

1 -

باب عثمان بن عفان، وهو الذي يرتفع على جبل المروة مواجهًا لعمارة رئاسة الحرمين الشريفين العائد ملكيتها للأمير بندر بن عبد العزيز.

2 -

باب ابن الزبير (جسر باب ابن الزبير).

3 -

باب الندوة (جسر باب الندوة) يتوسط في الجهة العليا بين بابي الندوة، وعمر الفاروق.

4 -

باب المدينة (جسر باب المدينة المنورة) يتوسط في الجهة العليا بين بابي الحديبية وباب المدينة المنورة.

5 -

باب العمرة (جسر باب العمرة) إلى الجهة اليسرى للداخل إلى باب العمرة.

ومما تجدر الإشارة أنه كان يوجد باب في أعلا الصفا بالدور الثاني يطل على جبل أبي قبيس، ويمثل منفذًا من الدور الأعلى للمسعى يخرج منه المصلون إلى الجسر الذي يوصل المتجهين من السوق الصغير وأجياد إلى الغزة، ويسمى:

6 -

باب أبي قبيس.

وقد تم لي إكمال عدد أبواب المسجد الحرام التي وافت جميعها اثنين وأربعين بابا، ليلة الجمعة 21/ 22/ 07/ 1413 هـ والله ولي التوفيق.

كاتبه

عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

وقد تم ترقيم أبواب المسجد الحرام ووضع أسماء عليها فبلغ تعدادها واحدًا وسبعين بابا، وبدأ الترقيم بباب الملك عبد العزيز رقم 1 وانتهى بالرقم الواحد والسبعين من جهة سوق الصغير، ويقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان الذي تفضل بإكمال هذه المعلومة أن التوسعة التي تمت من جهة سوق الصغير وضعت لها الأرقام ولكن لم توضع لها الأسماء بعد، أثبتنا ذلك إكمالًا للبحث.

‌منائر المسجد الحرام:

نقل الغازي عن صاحب الأعلام ما يلي:

هي الآن سبع منائر يؤذنون عليها في الأوقات الخمس أولاها:

ص: 133

‌منارة باب العمرة:

عمَّرها أبو جعفر المنصور ثالث ملوك بني العباس، وعمَّرها بعده وزير صاحب الوصل الجواد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني في سنة إحدى وخمسين وخسمائة.

وكان رئيس المؤذنين يؤذن عليها في زمن الفاكهي يتبعه سائر المؤذنين، ثم صار في زمن الفاسي رئيس المؤذنين يؤذن في منارة باب السلام، ويتبعه سائر المؤذنين، وهو الآن - في زمن صاحب الأعلام - يؤذن في الأوقات الخمس على قبة زمزم، ويتبعه المؤذنون، إلا ليالي رمضان في التسحير واحدًا بعد واحد، وكذلك في

(1)

والتوديع والتذكير ونحو ذلك.

قال في التحصيل، قلت وهو كذلك في زماننا، يؤذن الريس على قبة زمزم ثم يتبعونه.

أقول: كانت عمارة أبو جعفر المنصور للمسجد الحرام في سنة مائة وثلاثين للهجرة، وتمت هذه العمارة سنة مائة وأربعين

(2)

، ولابد أن تكون عمارة منارة باب العمرة قد تمت من ضمن عمارة المنصور في هذه الأعوام.

أما الفاكهي فهو محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي أبو عبد الله المكي من أقدم مؤرخي مكة المكرمة، وقد ولد ما بين عامي 215 - 220 للهجرة، وتوفي ما بين عامي 272 - 279 على اختلاف بين المؤرخين يا عامي ولادته ووفاته

(3)

.

أما الفاسي فهو الإمام أبو الطيب التقي الفاسي محمد بن أحمد الحسيني المكي مؤرخ مكة المكرمة، ولد سنة 775 وتوفي سنة 832، فهو ممن عاصروا الربع الأخير من القرن الثامن والثلث الأول من القرن التاسع الهجري - وهو مؤلف العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام.

أما صاحب الأعلام الذي نقل عنه الغازي فهو الإمام قطب الدين الحنفي صاحب كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام وهو من رجال القرن العاشر.

وصاحب تحصيل المرام هو الشيخ محمد بن أحمد الصباغ المكي وهو ممن عاصروا القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين.

ويقول الشيخ الغازي: بقيت هذه المنارة - منارة باب العمرة - منذ أن عمرها أبو جعفر المنصور في سنة مائة وأربعين للهجرة إلى أن جَدَّد عمارتها الجواد الأصفهاني وزير صاحب الوصل عام 551 للهجرة، ثم هدمت وأعيد بناؤها بأمر السلطان العثماني سليمان خان سنة 931، وبنيت على الطراز المعماري الرومي، وكانت قبل ذلك مبنية على طراز العمارة المصرية حيث كان على رأسها ثلاثة قناديل في ثلاثة أعواد مغروزة في قبة صغيرة على رأس المأذنة ثم

(1)

الكلمة غير واضحة في الأصل.

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 25.

(3)

انظر ترجمته في أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه ج 1 ص 9 - 32 للأستاذ/ عبد الملك بن عبد الله دهيش.

ص: 134

جدد عمارتها الشريف سرور، وجعل لها دورين وذلك سنة 1251 هـ كما هو مكتوب على باب خلوتها، وبقيت هذه المنارة على ذلك إلى أن تمت التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام حيث يذكر الشيخ/ حسين باسلامة العمارة الأخيرة فيقول:

ولا تزال منارة باب العمرة على ذلك البناء ذات دورين إلى العصر الحاضر الذي ألف كتابه فيه عام 1354 للهجرة

(1)

.

أقول: كان الأذان يتم في المسجد الحرام بارتقاء المؤذنين للمنائر العالية وكانوا يختارون من أصحاب الأصوات الجميلة والقوية، ليتم إيذان الناس بأوقات الصلوات في بيوتهم ومتاجرهم، وكان رئيس المؤذنين في زمن الفاكهي في القرن الثالث الهجري يبدأ الأذان من هذه المنارة فيردد بعده المؤذنون الأذان في المنائر الأخرى التي كانت في المسجد الحرام، والتي سنتحدث عنها بعد.

ثم تحول رئيس المؤذنين في زمن الفاسي في القرن الثامن الهجري إلى منارة باب السلام ويتبعه سائر المؤذنين من المنائر الأخرى، وفي القرن العاشر في زمن صاحب الأعلام صار رئيس المؤذنين يشرع الأذان من قبة زمزم ويتبعه سائر المؤذنين من المنائر الأخرى، وقد تم تجهيز المسجد الحرام بمكبرات الصوت - الميكروفون - بعد الحرب العالمية الثانية في عهد الشيخ/ عبد الرؤوف الصبان يرحمه الله، وركبت الأجهزة في المنائر وصار المؤذنون يؤذنون في موضعهم في البناء المخصص لهم الذي كان فوق قبة زمزم، والذي هو في الوقت الحاضر فوق موضع الإمام في مواجهة الركن اليماني من الكعبة المشرفة.

وينتقل صوت المؤذنين عبر مكبرات الصوت فيصل إلى رحاب مكة شرفها الله

(2)

.

وقد جاء ذكر التسحير والتوديع والتذكير في رواية الفاكهي عن المؤذنين فقد كان المؤذنون في الحجاز يعتلون المآذن وتنطلق أصواتهم بأدعية يصحو عليها النائمون في رمضان لتناول السحور، ويتم ذلك قبل ساعتين من الفجر، أما التذكير فكان يتم في الربع الأخير من الليل قبل الفجر ليوقظوا الناس للذكر، وأما التوديع فلعله كان توديعا لشهر رمضان في الأيام الأخيرة منه، وقد أدركت التذكير والتسحير وأنا طفل صغير، ومما ذكره الفاكهي يظهر لنا أن هذه العادة كانت قديمة في الحجاز تعود إلى القرن الثالث الهجري.

وقد ذكر ابن إياس في بدائع الزهور أن الناصر محمد بن قلاوون سلطان مصر هو أول من اتخذ التذكير يوم الجمعة على المآذن لتستعد الناس للصلاة وذلك في سنة سبعمائة للهجرة

(3)

.

أقول: ذكر ابن إياس ذلك في تاريخه لحكم السلطان في مصر، ولا أعرف إذا كانت هذه العادة - عادة التذكير يوم الجمعة - قد انتقلت إلى الحجاز، ولكن الذي هو حادث الآن في

(1)

تاريخ عمارة المسجد الحرام 242/ 243.

(2)

انظر قصة إدخال الميكروفونات إلى المسجد الحرام مفصلة في أعلام الحجاز الجزء الأول ص 108 - 109.

(3)

بدائع الزهور ج 1 ص 483.

ص: 135

الحرمين الشريفين وفي كافة مساجد المملكة أن يؤذن للجمعة أذانان، الأذان الأول قبل نصف ساعة من موعد الصلاة، والأذان الثاني حين يعتلي الامام المنبر لخطبة الجمعة، كما أنه يؤذن أذانان لصلاة الفجر في الحرمين الشريفين وبعض المساجد الأخرى، الأول قبل ساعة من دخول وقت الفجر، والثاني حين حلول وقته.

وقد أبطلت هذه العادات جميعها في العهد السعودي لأنها لم تكن موجودة في العهد الإسلامي الأول عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه والخلفاء الراشدين من بعده.

نعود الآن إلى إكمال الحديث عن المنائر السبع التي ذكرها الشيخ الغازي.

‌منارة باب السلام:

عمر هذه العمارة المهدي والمنصور العباسي الذي أمر بتوسعة المسجد الحرام في سنة أربع وستين ومائة، وهي بدورين، وقد تهدمت وتمت عمارتها في زمن الناصر فرج بن برقوق في سنة ست عشر وثمانمائة وهي باقية إلى الآن.

أقول: لتوضيح ما ذكره الشيخ/ الغازي عن عمارة المهدي والمنصور، أن الخليفة المنصور العباسي بدأ بعمارة عظيمة في المسجد الحرام عام 164 هـ، وتوفي قبل إكمالها، فأكملها ابنه الخليفة المهدي، وجعل المسجد مربعًا بحيث تظهر الكعبة المعظمة في وسطه تماما

(1)

.

ويقول الشيخ/ حسين باسلامة عن منارة باب السلام أن السلطان مراد خان جَدَّد عمارتها سنة 983 نقل ذلك عن كتاب مرآة الحرمين، وقد بقيت هذه المنارة بعد عمارتها الثالثة إلى أن تمت العمارة السعودية الأولى للمسجد الحرام

(2)

.

‌منارة باب علي:

أول من عمرها المهدي العباسي وقد بنيت مع عمارة باب السلام السابق ذكرها، وآلت إلى الخراب فأمر بعمارتها السلطان العثماني سليمان خان فهدمت وأعيد بناؤها بالحجر الأصفر الشميسي وجعل لها دورين أعلا وأسفل، وكانت بدور واحد وجعل رأس المنارة المذكورة على طراز منائر الحرم الشريف.

ويقول الشيخ/ حسين باسلامة، أن عمارة السلطان كانت في حدود سنة 975 للهجرة وأن هذه المنارة بقيت بعدها إلى أن تمت العمارة السعودية الأولى للمسجد الحرام

(3)

.

‌منارة باب الوداع:

سماها الشيخ الغازي: منارة باب الحزورة، وسماها الشيخ/ باسلامة منارة باب

(1)

انظر ذلك في أعلام الحجاز ج 2 ص 24 - 27.

(2)

تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 242.

(3)

تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 242 - 243.

ص: 136

الوداع، وقد اخترت ما سماه الشيخ/ باسلامة لأنه أقرب إلى مفهوم القارئ في الوقت الحاضر.

بناها المهدي العباسي ثم عمرت في زمن الأشرف شعبان بن حسين صاحب الموصل وكانت قد سقطت عام إحدى وسبعين وسبعمائة، وَسلِم الناس من سقوطها، فوصل المعمرون لعمارتها وفرغوا منها في مفتتح محرم الحرام سنة اثنين وسبعين وسبعمائة، وهي باقية إلى الآن.

ويروي الشيخ/ باسلامة نقلًا عن ابن فهد القرشي في إتحاف الورى كيفية سقوطها فيقول:

وفي ليلة الاثنين ثاني جماد الأولى سقطت مأذنة (باب الحزورة) في ليلة مطيرة، وكفى الله شرها فلم تَضرُّ أحدًا من مجاوريها، ولا من البيوت التي إلى جانبها بعد أن خلت تلك الدور من ساكنيها خوفًا على أنفسهم، فلما بلغ الأشرف شعبان بن حسين صاحب مصر ذلك أمر أمير الحاج المصري علاء الدين بن علي بن كلبك التركماني، شاد الدواوين بمصر أن يتأخر بمكة المكرمة بعد الحج لعمارة مأذنة باب الحزورة، فشرع في عمارتها عقب سفر الحاج وفرغ من العمارة في المحرم من السنة التي بعدها

(1)

.

‌منارة باب الزيادة:

وهي قديمة بناها المعتضد العباسي لما بنى زيادة دار الندوة ثم سقطت، وأنشأها الملك الأشرف "برسباي" في عام ثلاث وثمانين وثمانمائة كما هو مثبت في حجر باب المأذنة قال في تحصيل المرام: وعمرت سنة ألف ومائة وثلاثة عشر حيث وقع دورها فأمر ببنائها.

أقول: كانت عمارة المعتضد العباسي في سنة 281 حيث خربت دار الندوة وكانت مسجدًا مستقلًا عن المسجد فأمر المعتضد بإدخالها في المسجد الحرام وهذه العمارة التي ضمت فيها دار الندوة إلى المسجد الحرام وأحدث لها باب سمي باب الزيادة

(2)

.

‌منارة السلطان قايتباي:

بناها السلطان قايتباي حينما بنى مدرسته كما هو مكتوب على عقد باب مدرسته إلى جهة المسعى (في غاية الصناعة) ثلاثة أدوار.

وبنى نظيرها منارة أخرى على عقد باب مسجد الخيف بمنى وفرغ من بنائها سنة خمسمائة وخمسين.

أقول: التاريخ الذي أورده الغازي عن منارة السلطان قايتباي غير صحيح، لأن السلطان قايتباي من رجال القرن التاسع وليس من رجال القرن السادس الهجري، وقد أدى

(1)

عمارة المسجد الحرام ص 243.

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 25.

ص: 137

فريضة الحج عام 884 هـ

(1)

، وتولى السلطنة بمصر سنة 873 للهجرة، وهو من ملوك الجراكسة المماليك

(2)

. أما المدرسة التي بناها بمكة فسيأتي الحديث عنها في قسم المدارس حول المسجد الحرام بعد، وقد تم بناؤها في سنة 884 هـ، والذي يظهر لي أن السلطان حج في هذا العام بعد أن أكمل بناء المدارس التي أمر بتشييدها في مكة الكرمة وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة

(3)

كما سيأتي تفصيله بعد.

‌منارة السلطان سليمان خان:

وهذه المنارة أمر السلطان خان ببنائها في إحدى مدارسه الأربع فيما بين باب السلام وباب الزيادة، وهي منارة في غاية العلو والارتفاع مبنية بالحجر الشميسي الأصفر لها دورين، وكان بناؤها سنة ثلاثة وسبعين وتسعمائة.

ويقول الشيخ/ باسلامة عن منارتي السلطان قايتباي والسلطان سليمان خان أنهما باقيتان إلى الآن على عمارتهما الأولى حسبما أنشئتا عليه، ولم يحصل فيها تغيير ولا تبديل، إلا بعض مرمات كغيرها من المنائر الأخرى

(4)

.

ويفهم من هذا الذي ذكره الشيخ/ باسلامة أن المنارتين المذكورتين بقيتا إلى أن تمت العمارة السعودية الأولى للمسجد الحرام التي بدأت عام 1375 للهجرة، وانتهت عام 1396 للهجرة.

‌المآذن في العمارة السعودية:

المآذن الموجودة في الوقت الحاضر والتي تمت في العمارة السعودية هي سبعة مآذن مئذنتان عند كل باب من الأبواب الرئيسية والمأذنة السابعة عند باب الصفا، وهي مبنية بالخرسانة المسلحة، ومكسوة بالرخام والحجر الصناعي ويبلغ ارتفاع المأذنة الواحدة ستة وتسعين مترًا عن سطح الأرض

(5)

، وقد سبق لي الحديث عنهما في الجزء الثاني من أعلام الحجاز، وقد اقتضت التوسعة السعودية العظيمة إزالة المنائر السبعة الأولى التي تحدث عنها مؤرخو مكة الكرمة، والتي فصلنا القول فيها نقلًا عنهم وتعليقًا على ما كتبوا بشأنها وليست هذه المرة الأولى التي تهدم فيها المآذن في الحرم الشريف.

(1)

أعلام الحجاز ج 3 ص 61.

(2)

انظر بدائع الزهور ج 3 ص وما بعدها.

(3)

انظر الحديث مفصلا عن هذه المدارس في إفادة الأنام مجلد 1 ص 443/ 449.

(4)

تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 224.

(5)

أعلام الحجاز ج 2 ص 49.

ص: 138

‌المآذن التي كانت على المسجد الحرام وهدمت:

فقد ذكر الشيخ/ الغازي منائر أخرى ثلاث ذكرها مؤرخو مكة وأزيلت منها منارة تشبه الصومعة كانت على باب إبراهيم هدمها بعض أمراء مكة لإشرافها على داره، ذكر ذلك التقي الفاسي مؤرخ مكة في القرن التاسع الهجري.

ومنارة أخرى ذكرها ابن جبير كانت على باب الصفا، وهي أصغر المنائر، كما أنها كانت عَلَمًا لباب الصفا، وكانت ضيقة لا يستطاع الصعود إليها.

ومنارة ثالثة كانت على الميل الذي يهرول عنده الساعون بين الصفا والمروة، ذكر ذلك الفاكهي مؤرخ مكة في القرن الثالث الهجري.

يقول الشيخ/ الغازي ونقلًا عن الشيخ/ باسلامة: وهذه المنائر الثلاث كانت على المسجد الحرام ولا يعلم من بناها ولا متى هدمت

(1)

.

ونختم الحديث عن المنائر ببعض ما كان يعمل فيها من وسائل لاعلام الناس بأمور تهمهم في أمور دينهم.

‌قنديل يعلق على منارة لإعلان الناس بالإفطار والإمساك في رمضان:

يقول الغازي: وبعلو مكة شرفها الله تعالى منارة على مسجد يقال له مسجد الراية على يسار النازل من المعلاة، بقرب بئر جبيرين مطعم بن عدي بن نوفل، ويقال أن النبي صلى الله عليه وسلم ركن رايته يوم فتح مكة فيه، وهي منارة عتيقة ذهب رأسها، وكان لها دوران، ولا أعلم من بناها يؤذن فيها بعض أهل الخير في مغرب شهر رمضان، ويعلق فيها قنديلا لأعلام أهل ذلك المكان بدخول المغرب للافطار في رمضان، ويُسَحَّر عليها في الليل ويطفئ قنديلها بعد السحور، إعلامًا بدخول أول الفجر ليمتنع الصائمون عن الأكل والشرب وهو باقٍ إلى الآن

(2)

.

أقول لم يذكر لنا الشيخ/ الغازي مصدره في خبر هذا القنديل الذي يعلو لاعلان الناس بحلول غروب أيام رمضان، ودخول أذان الفجر، واستبعد أن يكون هذا القنديل كان في زمن الشيخ/ الغازي نفسه لأنه توفي عام 1356 للهجرة أي في منتصف القرن الرابع عشر للهجرة وربما كان هذا الخبر منقولًا من رواية أحد مؤرخي مكة السابقين.

‌هارون الرشيد يقيم المآذن في شعاب مكة وفجاجها:

وينقل الغازي عن التقي الفاسي مؤرخ مكة في القرن التاسع عشر، أن المنائر بمكة كانت كثيرة في الشعاب والمحلات، وكان المؤذنون يؤذنون عليها للصلوات، وكانت لهم أرزاق تُجْرى عليهم، وأول من جَدَّد تلك المنائر على رؤوس الجبال، وفي فجاج مكة وشعابها هارون الرشيد، وأجرى على المؤذنين الأرزاق.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 656/ 659.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 659 - 660.

ص: 139

ذكر الفاسي: إنها كانت خمسين منارة في شعاب مكة، وقال: وقد ترك الأذان على هذه المنائر ولم يبق منها شيء

(1)

.

ويوضح الشيخ/ باسلامة الأمر فيقول نقلًا عن الفاكهي مؤرخ مكة في القرن الثالث: كان أهل مكة فيما مضى من الزمان لا يؤذنون على رؤوس الجبال، وإنما كان الأذان في المسجد الحرام وحده، فكان الناس تفوتهم الصلاة ممن كان منهم في فجاج مكة ونائيًا عن المسجد حتى كان في زمن أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقدم عبد الله بن مالك أو غيره من نظرائه مكة ففاتته الصلاة ولم يسمع الأذان، فأمر أن يتخذ على رؤوس الجبال منارات لتشرف على فجاج مكة وشعابها يؤذن فيها للصلاة، وأجرى على المؤذنين في ذلك أرزاقًا، ولعبد الله بن مالك الخزاعي منائر. ذكر الشيخ/ باسلامة مواضعها، وعبد الله بن مالك هذا ممن خدم هارون الرشيد، وكذلك كانت هناك منائر تنسب إلى "بغا" الذي يكنى بأبي موسى مولى هارون الرشيد.

وذكر الشيخ باسلامة مواضعها، وذكر الفاكهي أنه كانت تجري الأرزاق على المؤذنين فيها وبتطاول الزمان بطل العمل والأذان عليها

(2)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 660.

(2)

انظر تفصيل ذلك في عمارة المسجد الحرام ص 245 - 247.

ص: 140

‌بعض جبال مكة وأسباب تسميتها

‌جبل عمر بالشبيكة:

ومن أسمائه ثبير الزنج، وهو جبل النوبي المعروف بأسفل مكة في جهة الشبيكة الذي كان به مولد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما قيل.

وإنما سمي بذلك لأن سودان مكة كانوا يلعبون عنده، وهم النوبة والسودان الزنوج فطابقت التسمية على كلا الوجهين

(1)

.

أقول: يقول الأرزقي مؤلف أخبار مكة: أن زنوج مكة كانوا يحتطبون منه ويلعبون فيه

(2)

.

‌جبل أبو قبيس:

نقل الغازي عن السيد/ أحمد زيني دحلان في سالنامة الحجاز نقلًا عن القزويني في عجائب المخلوقات ما يلي:

إن من خواص جبل أبي قيس أن من أكل فيه الرأس المشوي، يأمن من وجع الرأس، فصار كثير من الغرباء يحرصون على ذلك، لا سيما حجاج الجاوا، وقال العلامة المُلَّا علي القاري في شرح اللباب، أن ذلك باطل لا أصل له

(3)

.

أقول: لا شك أن ما ذكره القزويني يدخل في باب الخرافات التي لا أصل لها، والتي قد يأخذ بها بعض السذج من الناس، وجبل أبو قبيس هوأحد أخشبي مكة وهو الجبل المشرف على الصفا إلى السويدا إلى الخندقة، وكان يسمى في الجاهلية الأمين، ويقال إنما سمي الأمين لأن الركن الأسود كان مستودعًا فيه عام الطوفان.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 710.

(2)

أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي ج 2 ص 279.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 695.

ص: 141

يقول الأرزقي نقلًا عن بعض أهل مكة أنه إنما سمي أبا قبيس لأن أول من نهض بالبناء فيه كان رجلًا يدعى أبا قبيس، وكان هذا الرجل من اياد، وثاني الأخشبين جبل قيعقان، والأخشب من الجبل الخشن الغليظ، وقيل إن الأخشب الثاني هو الجبل الأحمر، ولكن القطبي صوَّب التسمية الأولى، وقعيقعان هو جبل الهندي المعروف بهذا الاسم في الوقت الحاضر

(1)

.

‌جبل تفاحة:

يقول الغازي، ومن جبال مكة جبل يقال له تفاحة، وهي مولاة لمعاوية كانت أول من بنى في ذلك الجبل فسمي باسمها

(2)

.

أقول: سماه الأزرقي جبل تفاجة، بالجيم وليس بالحاء كما ذكره الغازي

(3)

.

‌جبل النار:

يقول الغازي: هو الجبل الذي يلي جبل زرزر، وسمي بجبل النار لأنه أصاب أهله حريق متوال

(4)

.

‌جبل زرزر:

هو الجبل المشرف على دار منصور الحميري خال المهدي بالسويقة على حق آل نبيه بن الحجاج السهميين، وكان يسمى في الجاهلية القايم، وزرزر حايك كان بمكة، كان أول من بنى فيه فسمي به

(5)

.

أقول: ويفهم من هذا أن الجبل كان يشرف على السويقة وكان سوق سويقة خلف المسعى من الجهة الغربية للمسجد الحرام، وقد أدخلت سويقة كلها بما تحتويه من مبان ودكاكين في العمارة السعودية الأولى للمسجد الحرام عام 1396 هـ.

‌جبل أبي زيد:

هو الجبل الذي يصل زرزر مشرفًا على حق آل عمر بن عثمان، الذي يلي زقاق مهر، ومهر كان رجلا يعلم الكتابة هناك، وأبو زيد هو من أهل سواد الكوفة، كان أميرًا على الحاكة بمكة، كان أول من بنى فيه

(6)

.

(1)

أخبار مكة ج 2 ص 266/ 267.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 715.

(3)

أخبار مكة ج 2 ص 285.

(4)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 716.

(5)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 716.

(6)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 716.

ص: 142

أقول: سمى الأزرقي هذا الجبل جبل أبي يزيد وليس جبل أبو زيد، وكان أبو يزيد هذا يتولى آل هشام بن المغيرة، والحاكة هم الخياطون وكان أبو زيد أميرًا لهم أي شيخًا عليهم

(1)

.

‌جبل الأعرج:

وهو مشرف على شعب أبي زيد - يزيد - وشعب ابن عامر، والأعرج مولى لأبي بكر الصديق، كان فيه فسمي به ونسب إليه

(2)

.

أقول: هذا ما كتبه الغازي عن بعض جبال مكة وقد أفرد الأزرقي فصلًا خاصًا بجبال مكة وشعابها، فصل فيه أسماء الجبال وأسباب تسميتها ومواقعها تفصيلًا وافيًا في الجزء الثاني من كتابه الكبير أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، فليرجع إليه من أراد الاستزادة في هذا الباب.

وتعليقًا على ما ذكره الغازي في تسمية الجبال، وما ذكره الأزرقي هو أن أسماء الجبال تتغير بأسماء ما يقع فيها من أحداث وما يبنى فيها أو حولها كما هو الحال في غيرها من الأماكن في كثير من الأنحاء.

* * * *

(1)

أخبار مكة ج 2 ص 296.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 716.

ص: 143

‌بعض المساجد في مكة وحولها

ذكر الغازي بعض المساجد التي بمكة وحولها وأسباب تسميتها ومواضعها ونوردها فيما يلي:

‌مسجد الإجابة:

جاء في تحصيل المرام عن مسجد الإجابة: وهذا المسجد بالأبطح، ويسمى بالبطحاء وبخيف بني كنانة، وهو المسمى الآن بالمعابدة، وحَدَّه إلى جبل ثقبة، والموضع الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو الموضع المسمى بمسجد الإجابة

(1)

أقول: وفي المدينة المنورة مسجد صغير في داخل المدينة لا يبعد كثيرًا عن المسجد النبوي الشريف يسمى كذلك مسجد الإجابة.

‌مسجد الجن:

قال الأزرقي وهو الذي يسميه أهل مكة مسجد الحرس، وإنما سمي بهذا الاسم، لأن العسس يجتمعون عنده ليلًا قال: وهو فيما يقال الموضع الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ليلة استمع إليه الجن، وأن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ذكره في الأعلام، وفي إتحاف فضلاء الزمن.

‌تعمير مسجد الجن بالمعلاة:

وفي سنة اثنتي عشرة ومائة وألف عمَّر إبراهيم بك مسجد الجن بالمعلاة، لأنه درس ودُفِنَ تحت الأرض مع كثرة السيول وتطاول الأزمان حتى أنهم غرسوا في ذلك المحل بعض أشجار وبستان - كنبق - وبعض الريحان، وكانوا يسمونه الجنينا، فأحضروا المهندسين والعلماء، وحفروا عن ذلك الموضع، وظهر محراب المسجد الذي أسلم الجن فيه (تحت الأرض)،

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 717.

ص: 144

وبادروا بقطع تلك الأشجار، وتنظيف تلك البقعة، ثم بُني فيه مسجد صغير على حَدِّهِ الأصلي، ووضعوا المحراب على ما كان عليه، وجعلوا على أعلا المسجد قبة، ثم بنوا مسجدًا آخر على سطح المسجد المأثور، مسجد كبير بقبة عظيمة، وجعلوا في جانب القبة

(1)

ومحرابًا وسدوا القبة وفتحوا من أطراف القبة لأجل الماء، وجعلوا بجانبه حنفية لطيفة بابها من داخل المسجد المذكور الذي خط عليها النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه أن يخرج عن هذا الخط والدايرة وعمروا هذا المحل أحسن مسجد بأحسن البناء، انتهى

الخ

(2)

.

‌تسمية مسجد الخيف:

في حديث الغازي عن مسجد الخيف قال:

الخيف ما ارتفع من الأرض، وانحدر من الجبل، ومسجد منى المشهور يسمى مسجد الخيف لأنه في سفح جبلها، ذكر ذلك في تحصيل المرام

(3)

.

‌تاريخ بناء مسجد عرفة:

ويسمى مسجد إبراهيم نسبة إلى الخليل إبراهيم عليه السلام، وفي هذه النسبة اختلاف بين العلماء.

يقول الغازي: ولم يذكر الأزرقي تاريخ بنائه، وذكر ابن عبد البر أن هذا المسجد بني بعد مصير الأمر لبني هاشم بعشر سنين - هكذا نقله - عن ابن عبد البر الشيخ/ خليل في توضيحه على مختصر ابن الحاجب، وعلى هذا بني المسجد في أوائل عشر الخمسين.

وفي العقد الثمين: المسجد الذي يصلي فيه الإمام بالناس يوم عرفة ليس من عرفة على مقتضى ما ذكره ابن الصلاح والنووي، وكلام المحب الطيري يقتضي أنه منها، وقيل أن مقدمه من عرنة بالنون ومؤخره من عرفة بالفاء

(4)

.

‌تسمية المزدلفة:

سميت بالمزدلفة لازدلاف الناس إليها أي اقترابهم واجتماع الناس إليها، وقيل لمجيئهم إليها في زلف من الليل - أي ساعات الليل.

ويقال للمزدلفة جمع، قيل لاجتماع آدم وحواء فيها، وقيل لجمع الصلاتين فيها

(5)

.

(1)

الكلمة هنا غير واضحة.

(2)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 718/ 719.

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 729.

(4)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 4، 5.

(5)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 15.

ص: 145

‌تعليل اسم منى:

سميت بذلك لما يُمْنى بها من الدماء - أي يراق - وهو المشهور، والذي ذكره جمهور اللغويين وغيرهم، وقيل لأن جبريل قال لآدم حينما أراد فراقه تَمَنَّ، فقال آدم: أتمنى الجنة، فسميت بذلك لأمنية آدم، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، أو لاجتماع الناس بها لأن العرب تسمي كل مجتمع للناس منى، وقيل لأن الله تعالى منَّ على الخليل عليه السلام بفداء ابنه إسماعيل عليه السلام بها، أو لمنَّ الله تعالى على عباده بالمغفرة إلى غير ذلك

(1)

.

‌سبب تسمية التنعيم:

سميت بذلك لأن جبلا عن يمينها يقال له نعيم، وآخر من شمالها يقال له ناعم والوادي نعمان

(2)

.

‌سبب تسمية الجعرانة:

سميت الجعرانة باسم امرأة من قريش يقال لها رايطة، براء وطاء ومهملتين، بينهما مثناة تحتية بنت كعب، ولقبها جعرانة، وهي امرأة أسد بن عبد العزيز، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها هي التي نزل فيها قوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} .

وعلى ذكر الجعرانة يقول الغازي.

‌الفضة في الجعرانة:

جاء في السالنامة الحجازية: وادي الجعرانة وادٍ مبارك كثير الأنوار، وبه أحجار تستخرج منها الفضة، وقد سمع بذلك بعض الصواغين بمكة، وهو أبو بكر المُلَّا، فخرج إلى الجعرانة ووجد شيئا من الأحجار فاختبرها، واستخرج منها فضة، فكان الخارج بقدر المنصرف، فترك ذلك، ولو فعل ذلك ذو قوة بآلات وعدد لربما يستخرج منها ما يحصل له ربح، انتهى

(3)

.

أقول: السالنامة الحجازية كما علمت هي الجريدة الرسمية أو نشرة رسمية في أواخر العهد العثماني، كانت تصدرها الحكومة العثمانية بمكة، وما جاء في هذه النشرة عن الفضة في الجعرانة إذا كان صحيحًا فربما كان ارتفاع أثمان الفضة في الوقت الحاضر يجعل استخراجها إن وجدت بكميات تجارية ذات جدوى اقتصادية، وعلى أي حال فإن وزارة البترول والثروة

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 20/ 21.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 55.

(3)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 56/ 57.

ص: 146

المعدنية هي الجهة ذات الاختصاص في هذا الشأن، وربما كان لديها من الدراسات ما يدلُّ على وجود الفضة في الجعرانة أو ينفيه، وقد ذكرنا الأمر لدلالته على أفكار الناس قبل ما يزيد على قرن من الزمان.

‌الخرمانية:

سميت بذلك لأن بها حائط - بستان - يسمى خرمان وهو بثنية أذاخرْ

(1)

.

‌جبل الهندي:

نسبة إلى الشيخ تاج الدين بن زكريا بن سلطان الهندي النقشبندي، وكان له رباط بسفح جبل قيقعان، ولما تُوفي دفن فيه، وجبل قيقعان يسمى في الوقت الحاضر جبل الهندي

(2)

.

‌حوض البقر:

كان حوضًا لسقيا الدواب وهو من الأحواض المتصلة بقنوات عين زبيده، لإيصال الماء من نعمان إلى عرفه ومنى

(3)

.

أقول: حوض البقر في الوقت الحاضر أصبح ضاحية من ضواحي مكة المكرمة التي تموج بالعمران ويسمى حاليا "العزيزية" وهو من أجمل الأحياء بشوارعه الفسيحة التي يمتد على جوانبها العمران، وتقوم عليها العمارات الشاهقة، والحوانيت الكثيرة، وتضيئه الكهرباء فسبحان مغير الأحوال.

لقد أدركت حوض البقر وهو خلاء يهرع بعض الناس إليه في الليالى الشديدة القيظ فينامون فيه التماسًا لنسمة هواء باردة، ثم بدأ العمران يدبُّ إليه قليلًا قليلًا فاكتفوا بتسميته - الحوض - وأبطلوا كلمة البقر، وما لبث أن عمَّه العمران واتصلت مكة به أو اتصل بها فسمى العزيزية كما أسلفت.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 260.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 270/ 271

(3)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 294.

ص: 147

‌أسوار مكة

ذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز شيئًا عن أسوار مكة، وقد ذكر الشيخ/ عبد الله الغازي في إفادة الأنام أسوار مكة بتفصيل أوفى نورده فيما يلي:

‌سور المعلاة:

كانت مكة في قديم الزمان مسوَّرة، فجهة المعلاة كان بها جدار عريض من طرف جبل عبد الله بن عمر إلى الجبل المقابل له، وكان فيه باب من خشب مصفح بالحديد، أهداه ملك الهند إلى صاحب مكة، يقول صاحب الأعلام الذي نقل عنه الغازي.

وقد أدركنا منها - من الجدار - قطعة جدار كان فيه ثقوب للسيل، قصير دون القامة وكان صنع باب السور "بكتباية" من بلاد الهند في سنة ست وثمانين وسبعمائة، وأهدى للسيد/ أحمد بن عجلان - أمير مكة في ذلك الزمان - وركَّبه على باب المعلاة عنان بن مغامس بن رميثة في سنة تسع وثمانين وسبعمائة، لما ولى أمرة مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان.

ثم أُحرق ذلك الباب بالنار حتى سقط على الأرض، وهدم كذلك عدة مواضع من سور باب المعلاة من جانبه، وسبب ذلك أن جند السيد/ رميثة بن محمد بن عجلان منعوا جند عمه السيد حسن من دخول مكة، لما ولى أمر مكة عَوَّضَ رميثة في ثامن عشر من رمضان في هذه السنة، فقام بعض جنود السيد حسن بهدم عدة مواضع من السور كما قاموا بإحراق باب السور حتى سقط إلى الأرض.

ثم أمر السيد حسن ببناء ما تهدم من السور، وعوَّض عن الباب المحترق بباب جديد انتزعه من بعض دوره بمكة، وكان الباب الجديد يقل عن الباب المحترق في الحجم فزيد فيه حتى تم إكماله، ووضع في مكانه من السور في ثاني عشر ذي القعدة من العام المذكور.

‌سور الشبيكة:

وكان في جهة الشبيكة سور ما بين جبلين متقاربين بينهما الطريق السالك إلى خارج مكة

ص: 148

وكان في السور بابان بعقدين، أدركنا أحد العقدين يدخل منهما الجمال والأحمال ثم تهدم شيئًا فشيئا إلى أن لم يبق منه شيء الآن، ولم يبق منه إلا فج بين جبلين متقاربين فيه المدخل والمخرج، وهذا التعليق لصاحب الأعلام الذي نقل عنه الغازي.

‌سور المسفلة:

وكان بمكة سور في جهة المسفلة في درب اليمن، يقول صاحب الأعلام، لم ندركه ولم ندرك آثاره.

‌سور آخر بأعلى مكة:

وذكر التقي الفاسي نقلًا عن من تقدم، أنه كان لمكة سور من أعلاها دون السور الذي تقدم ذكره، قريبًا من المسجد المعروف بمسجد الراية، وكان من الجبل الذي إلى جهة القرارة، ويسمى لعلع، إلى الجبل المقابل الذي إلى جهة سوق الليل، قال: وفي الجبل آثار تدل على اتصال السور به. انتهى.

يقول التقي الفاسي: ولم يبق من آثار هذا السور شيء مطلقًا.

ويقول التقي الفاسي عن تاريخ إنشاء هذه الأسوار: فما عرفت متى أنشئت هذه الأسوار بمكة ولا من أنشاها، ولا من عمَّرها، غير أنه بلغني أن الشريف أبا عزيز قتادة بن إدريس الحسيني، جَدُّ ساداتنا أشراف مكة أدام الله عزهم وسعادتهم هو الذي عمَّرها.

قال الفاسي: وأطن أنه كان في دولته عمَّر السور الذي أعلا مكة، وفي دولته سهلت العقبة التي بنى عليها سور باب الشبيكة، وذلك من جهة المظفر صاحب أربل سنة ستمائة وستة، ولعله الذي بأعلا مكة، والله أعلم

(1)

.

أقول: التقي الفاسي مؤرخ مكة كان من مواليد سنة سبعمائة وخمس وسبعين، وتوفي سنة ثمانمائة واثنين وثلاثين، وهو مؤلف كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، وكتاب شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام وهو ممن عاصروا القرنين الثامن والتاسع الهجريين

(2)

أما الشريف قتادة بن إدريس فقد وصل إلى مكة بقومه من ينبع وهاجم أميرها الشريف مكثر واستخلصها لنفسه في سنة خمسمائة وسبعة وتسعين للهجرة

(3)

.

وتعليقًا على ما ذكره التقي الفاسي في تعمير الشريف قتادة لأسوار مكة إن ذلك غير مستبعد لأن الشريف قتادة كان أميرًا طارئًا على مكة قدم إليها من ينبع وأراد تحصينها بالأسوار بعد أن استولى عليها من أمرائها أشراف مكة.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 184 - 187.

(2)

العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين.

(3)

تاريخ مكة للسباعي ص 224/ 225.

ص: 149

‌تسقيف المسعى:

ذكر الشيخ/ الغازي في إفادة الأنام ما يلي:

في سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعين أمر الشريف الحسين الملك الهاشمي بعمل سقيفة للمسعى، وكانت المسعى مكشوفة، وكان الساعون بين الصفا والمروة يتعرضون لحرِّ الشمس ولفح السموم حين سعيهم، وقد أورد الشيخ الغازي الأبيات الشعرية الجميلة التي سجلت هذا الحدث للشاعر الأديب الشيخ/ فؤاد الخطيب والتي سجلت على باب سقيفة المسعى من جهة الصفا، كما أورد الأبيات الشعرية التي نظمها الشاب الأديب صالح قزاز، والتي سجلت على باب سقيفة المسعى من جهة المدعي.

وهذه أبيات فؤاد الخطيب:

نضَّر الله تعالى ورعى

ملك العرب الحسين الأروعا

مرت الأجيال لم يرفع لهم

غيره الظلَّ الذي قد رفعا

وحمى الإسلام في خير حِما

فهو ظل الدين والدنيا معا

ضجَّ بالشكر وبالحمد له

كل من طاف ولبَّى ودعا

وجزى القزاز من همته

خير ما يجزي به من نفعا

صدق الذي قال لنا

ليس للإنسان إلا ما سعى

(1)

أقول الشيخ/ فؤاد الخطيب كان وزيرًا لخارجية الملك الشريف الحسين بن علي، وهو شاعر عربي كبير، وأصله من لبنان، وكان على اتصال بالملك حسين وأولاده، وفي عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، جاء إلى الحجاز فعيَّنه الملك عبد العزيز يرحمه الله سفيرًا للمملكة في أفغانستان، وابنه الآن من سفراء المملكة في الخارج، أما القزاز الذي أشار إليه الخطيب قائلًا:

وجزى القزاز من همته

خير ما يجزي به من نفعا

فهو الشيخ/ عبد الوهاب قزاز من أعيان مكة المكرمة، وكان وزيرًا للنافعة في زمن الملك حسين، ووزارة النافعة في الاصطلاح الهاشمي إذ ذاك تعني وزارة الأشغال في زماننا هذا.

أما الشاب الأديب صالح قزاز الذي سجلت الأبيات التي نظمها في سقف المسعى من جهة المدعي، فهو الشيخ/ صالح قزاز أمين رابطة العالم الإسلامي يرحمه الله فيما بعد وهو من رجالات مكة المعروفين

(2)

.

أقول: ولقد أدركت السقيفة التي أمر بإنشائها الملك حسين والتي أشاد بها الشعراء في حينه، وقد أزيلت هذه السقيفة في العهد السعودي، وأبدلت بسقف جميل المنظر تحمله

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 50/ 51.

(2)

انظر ترجمته في هذا الكتاب.

ص: 150

أعمدة حديدية متقنة الصنعة، وذلك في عهد تولي الشيخ/ عبد الرؤوف الصبان أمانة العاصمة في مكة المكرمة، وذكرت ذلك في أعلام الحجاز وأنقل هنا بعض ما كتبته في ذلك.

كانت المسعى في بعض أجزائها مكشوفة تخترقها الشمس، فكان الناس يتحاشون السعي في أوقات الحرارة، ويؤدون نسكهم بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر أو في الليل في أوقات الصيف، وكان القسم الآخر مسقوفًا بسقف من الخشب كئيب المنظر، أن حمى من حرِّ الشمس فهو لا يحمي من المطر في الشتاء

الخ.

ثم قلت: تقدم الشيخ/ عبد الرؤوف الصبان إلى المسؤولين بإكمال تجميل المسعى، وذلك بإزالة السقف القديم المتآكل الكئيب المنظر بسقف جميل حديث مرتفع قائم على أعمدة حديدية، وكان هذا السقف مع رصف أرض المسعى وتبليطه أول تحسين أدخل على شارع المسعى في التاريخ أن صح هذا التعبير إلى أن تم العمل العظيم الكامل بإدخال المسعى نفسه كاملًا في الحرم الشريف في التوسعة السعودية كما هو بوضعه الحاضر

(1)

.

وعلى ذكر المسعى فقد أورد الشيخ/ الغازي رواية عن حادثة وقعت في مكة المكرمة في زمن الملك قايتباي سلطان مصر، وكان له تابع من التجار مقرَّب من قايتباي أرسله السلطان إلى مكة ليدير أمور تجارته فيها. وليقوم له بتعمير مدرسة باسمه، كما أمره بإجراء بعض العمارة في المسجد النبوي الشريف، وبناء مدرسة له بها، وإجراء العين الزرقاء إلى المدينة المنورة.

ذكر الغازي أن هذا التاجر واسمه الخواجة شمس الدين بن الزمن استأجر ميضأة كانت بين الميلين الأخضرين عمَّرها السلطان شعبان بن الناصر حسن بن قلاوون، فقام شمس الدين هذا بعد استئجارها بهدمها وأراد إنشاء رباط له في مكانها، وأدخل مقدار ثلاثة أذرع في أرض المسعى وباشر بحفر الأساس لبناء الرباط المذكور، ولكنَّ قاضي القضاة بمكة برهان الدين بن علي بن ظهيرة الشافعي منعه من ذلك فلم يمتنع، فجمع القاضي أئمة علماء مكة وذهب بنفسه إلى المسعى، وذهب معه العلماء وقاموا باتخاذ محضر أثبتوا فيه الاعتداء على أرض المسعى، وأوقفوا العمل في البناء، ولكن التاجر شمس الدين لم يستسلم لذلك، واستصدر أمرًا من السلطان قايتباي بإتمام البناء وعزل القاضي ابن ظهيرة، وأمر أمير الحاج المصرى في ذلك العام، يَشْبَك الجمَّال باستئناف البناء، ووقف بنفسه ليلًا على المكان وأمروا البنائين بالعمل إلى أن صعد البناء على وجه الأرض، وجعل ابن الزمن بناءه هذا رباطًا وسبيلًا وبنى في جانبه دارًا، وصَغَّر الميضأة وجعل لها بابا من سوق الليل وكمان ذلك في سنة ثمانمائة وخمس وسبعين، ويعلق مؤرخ مكة الذي نقل عنه الغازي هذه القصة فيقول:

ويا لله العجب من ابن الزمن وما ذكرناه عن فضله وخيرته، وكيف ارتكب هذا الجرم

(1)

انظر تفصيل ذلك في أعلام الحجاز ج 1 ص 109/ 111.

ص: 151

بإجماع المسلمين طالبًا به الثواب، وكيف تعصَّب له سلطان عصره، الملك الأشرف قايتباي مع أنه أحسن ملوك الجراكسة عقلًا ودينًا وخيرية، وهو يأمر بفعل هذا الأمر المجمع على حرمته في مشعر من مشاعر الله تعالى، وكيف يعزل قاضي الشرع الشريف لكونه نهى عن منكر ظاهر الإنكار فرحم الله الجميع وسامحهم وغفر لهم انتهى

(1)

.

أقول: أخذت ابن الزمن العزَّة بالإثم فلم يطق أن يُصَدَّ عن أمر أراد إنفاذه وهو يعلم مكانه من السلطان وكان حَرِيًا به أن لا يخلط بين السيئة والحسنة، ولكن النفوس إذا تسلط عليها الهوى، أعمى بصيرة أصحابها، وقد رأى ابن الزمن من سبقه إلى البناء على أرض المسعى وجوانبها فلم ير ما يحول بينه وبين ذلك، وبإدخال المسعى في المسجد الحرام انقطع الطريق على كل من تسول له نفسه بشيء، فجزى الله القائمين على هذا العمل العظيم خير الجزاء.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 44/ 50.

ص: 152

‌أوليات في مكة

‌هاشم بن عبد مناف أول من سن الرحلتين:

كان القرشيون تجارًا يمارسون التجارة ويتكبَّدون لها الأسفار، وكانوا يقومون برحلتين في العام رحلة في الصيف إلى الشام، ورحلة في الشتاء إلى اليمن، وكانوا ينقلون في الرحلتين من عروض التجارة إلى كل بلد ما يطلبه البلد الآخر، وكانت ترد إلى مكة منتجات البلدان المختلفة مع الحجاج القادمين إليها، والتي كانت تباع في الأسواق المقامة في الحجاز في عكاظ ومِجَنَّة، وذي المجاز، وقد ذكر القرآن الكريم رحلتي الشتاء والصيف في سورة قريش.

وجاء في إفادة الأنام أن هاشم بن عبد مناف الجدُّ الثاني للرسول صلوات الله وسلامه عليه هو أول من سَنَّ الرحلتين لقريش، وهو كذلك أول من أطعم الثريد، واسمه عمرو، وإنما سُمِّي هاشمًا لهشمه الخبز وثَردِهِ لقومه كما قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهما

سفر الشتاء، ورحلة الأصياف

(1)

.

‌الخليفة الراضي يبني أنصاب الحرم بالتنعيم:

كان الخليفة الراضي العباسي، هو الذي أمر ببناء المعلمين الكبيرين لأنصاب الحرم بالتنعيم وذلك في سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين للهجرة، واسمه مكتوب عليها.

‌وصاحب اربل يبني أنصاب عرفة:

كما أمر المظفر صاحب اربل بعمارة العلمين الذين هما حدُّ الحرم من جهة عرفة، في سنة ستمائة وست وعشرين للهجرة، وقال ابن فهد أن بناء المظفر كان في سنة ستمائة وخمس في شعبان.

(1)

إفادة الأنام مجلد 1 ص 166.

ص: 153

وهي أعلام ثلاثة بين منتهى أرض عرفة، ووادي عرفة، والمظفر هو كوكبري ابن علي بن بكتكين صاحب اربل.

‌إصلاحات العيون وإيصالها إلى مكة والمشاعر:

عقد الشيخ الغازي بحثًا طويلًا عن إصلاحات العيون وإيصالها إلى مكة والمشاعر، وقد رأيت أن أنقل بعض ما جاء فيه، وخاصة الإصلاحات التي لم يصل خبرها إلينا، فمن المعلوم أن السيدة/ زبيدة، زوجة الرشيد الخليفة العباسي ووالدة الخليفة الأمين أجرت الماء إلى مكة في العهد الأول للخلافة العباسية، وأخبار هذه العين وما بذلته فيها من أموال كتب عنها المؤرخون، واشتهر أمره، فسميت العين باسم زبيدة، واستمر هذا الاسم متداولا في مكة في جميع العهود والأزمان، وقد كانت في مكة إدارة لهذه العين تسمى عين زبيدة حتى عهد قريب.

ولمَّا تضخم العمران في مكة المكرمة وما حولها، وفي مدن المملكة عامة، عمدت الدولة إلى تحلية مياه البحر، وقامت مصانع التحلمية في شواطئ البحار لاستخراج الماء العذب ومُدَّتْ له الأنابيب لتخترق الأودية السحيقة، والجبال الشاهقة، والصحاري المترامية، فتمد مدن المملكة بالماء العذب، وأضيفت إليه مياه العيون السابقة لتقابل النمو العظيم المتزايد في تعداد السكان، وانتشار العمران، فكان هذا العمل العظيم من أعظم الإنجازات التي تشهدها بلادنا الحبيبة في هذا العهد الذي نعيش فيه.

بعد هذه المقدمة، لعل من واجب المؤرخين أن لا ينسوا ما قام به الأسلاف من مجهودات عظيمة أصبحت في ذمة التاريخ ونحن إذ نسجلها الآن فإنما نذكر بالخير من قاموا بإنجازها وبذلوا الأموال، والجهود العظيمة في هذا السبيل، ثم نحمد الله تعالى على ما ننعم به في الوقت الحاضر مقارنة بما كان يلقاه أسلافنا من مشقات، ومتاعب.

ولما كان تاريخ الماء في مكة والمشاعر حولها تاريخ طويل لا يتسع له هذا البحث فقد رأيت الاقتصار على بعض الحوادث الهامة التي حدثت في العهد العثماني، أما الحوادث السابقة لذلك، فقد أعرضت عن ذكرها تجنبًا للإطالة والملالة وبوسع القارئ الاطلاع عليها في كتاب الغازي إن رغب في ذلك

(1)

.

ونبدأ الحديث عن كلمة يتداولها الناس في الحجاز هي كلمة "بازان":

‌بازان:

يطلق الناس في الحجاز وفي مكة خاصة اسم "بازان" على موارد الماء التي يستقون منها الماء حينما كانت العيون تُجَرُّ إلى المدن، وتصنع لها موارد يستقي منها الناس، ولعل هذه النسبة

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 277/ 327.

ص: 154

تعود إلى رجل اسمه عمر بازان، أرسله إلى مكة نائب السلطنة بالعراقين الأمير جوبان بن تلك بن تداون، وكان نائبًا عن السلطان أبي سعيد خدابنده ملك التتر وكان الماء قد شَحَّ في مكة وعرفة، وكان الناس في جهد عظيم من قلة الماء، فقد كانت الراوية

(1)

من الماء تبلغ قيمتها في الموسم عشرة دراهم، وفي غير الموسم سبعة.

ورغب الأمير جوبان المذكور، إنشاء عمل خيري بمكة، فدلَّه بعض الناس على عين كانت تجري قديمًا وتعطلت، فندب بعض ثقاته وأرسل معه خمسين ألف دينار، وجهزه في الموسم سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فلما قضى حجه تأخَّر بمكة، واشتهر أمره، فاعلم بعين عرفة فنادى بمكة: من أراد العمل بالعين فله ثلاثة دراهم في كل يوم، فهرع إليه العمال، وخرج بهم إلى العمل فلم يشق على أحد منهم، ولا استحثَّه، وإنما كانوا يعملون باختيارهم، فأتاه جمع كثير من العرب وعمل حتى العشاء إلى أن جرى الماء بمكة بين الصفا والمروة في ثامن عشر جمادي الأولى من هذه السنة، فكانت مدة العمل أربعة أشهر، وكثر النفع بهذه العين وعظم، وصرفه إلى مكة وإلى مزارع الخضروات.

وكان جملة ما صرف عليها في هذه العمارة مائة وخمسين ألف درهم

(2)

.

أقول: هذا ما ذكره الشيخ/ الغازي، وقد وجدت في كتاب بدائع الزهور، في أخبار سنة خمس وعشرين وسبعمائة أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون هو الذي أجرى هذه العين، قال ابن إياس:

وفيها - في السنة المذكورة - أرسل السلطان جماعة من البنائين إلى مكة وأجرى بها عين ماء، وهي العين المعروفة بعين بازان، فحصل لأهل مكة بها غاية النفع وهي الآن جارية ويعم نفعها أهل مكة

(3)

.

‌قربة الماء الصغيرة بدينار ذهب:

أورد الغازي عن كتاب بلوغ القرى في حديثه عن الماء ما يلي:

قال العلامة قطب الدين رحمه الله: ثم انقطعت - العين - في أوائل الدولة العثمانية بهذه الأقطار الحجازية، وبطلت العيون لقلة الأمطار - وتهدمت قنواتها - وانقطعت عين حنين عن مكة المشرفة، وصار أهل مكة يستقون من الآبار حول مكة، من ابيار يقال لها "العسيلات" في علو مكة قريبا من المنحنى، ومن آبار في أسفل مكة يقال لها "الزاهر" وتسمى الآن بالجوخي في طريق التنعيم، وكان الماء غاليًا قليل الوجود، وكذلك انقطعت عين عرفات وتهدمت قنواتها، وكان الحجاج يحملون الماء إلى عرفات من الأمكنة البعيدة، وصار فقراء

(1)

الراوية هي القربة من الماء.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 296/ 298.

(3)

بدائع الزهور مجلد 1 ص 457.

ص: 155

الحجاج في يوم عرفة لا يطلبون شيئًا غير الماء لعزته، ولا يطلبون الزاد، وربما جلب بعض الأقوياء - الماء - من أماكن بعيدة للبيع فيحصلون أموالًا من ذلك لغلو ثمنه.

‌قربة الماء الصغيرة بدينار من الذهب:

يقول القطبي: وأني أذكر أنه في سنة تسعمائة وثلاثين قلَّ الماء في الآبار البعيدة أيضًا فارتفع سعر الماء جدًا في يوم عرفة، وكنت يومئذ مراهقًا في خدمة والدي رحمه الله، وفرغ الماء الذي حملناه من مكة، وعطش أهلنا، فطلبت قليلًا من الماء للشرب، فاشتريت قربة ماء صغيرة جدًا يحملها الإنسان بأصبعه بدينار من الذهب، والفقراء يصيحون من العطش، يطلبون من الماء ما يبلُّ حلوقهم في ذلك اليوم، فشرب أهلنا بعض تلك القربة، وتصدَّقوا بباقيه على بعض من كان مضطرًا من الفقراء، وجاء وقت الوقوف الشريف والناس عطاش يلهثون.

‌والغيث يأتي من السماء:

فأمطرت السماء، وسالت السيول من فضل الله تعالى ورحمته، والناس واقفون تحت جبل الرحمة فصاروا يشربون من السيل من تحت أرجلهم، ويسقون دوابَّهم، وحصل البكاء الشديد، والضجيج الكثير من الحجاج في وقت الوقوف لما رأوا من رحمة الله تعالى ولطفه وإحسانه إليهم وتكرمه عليهم.

يقول القطبي: ولا أزال أتذكر تلك الساعة وما حصل فيها من اللطف العظيم من كرم الله العميم

(1)

.

‌الماء في سنة ألف ومائة وأربعين:

ونقل الغازي: من حوادث سنة أربعين ومائة وألف عن الوقوف بعرفة قال:

كانت الوقفة بالسبت، ولم يحصل من المخالفات شيء، وكانت الوقفة في غاية الأمن وإنما شاقَّ - شق - على الناس قلة وجود الماء، فقد بيعت القربة بثلاثين دواني

(2)

.

أقول: الدواني أو الديواني وحدة من العملة العثمانية، فصلَّناها في أعلام الحجاز نقلا عن السباعى

(3)

، ونستطيع أن نستخلص من هذا أن سعر الماء في سنة ألف ومائة وأربعين كان رخيصًا جدًا بالنسبة لما ذكره القطبي عن سعر الماء في سنة تسعمائة وثلاثين أما جلب الماء من الأبار فقد كان الحجاز كله يعاني من شح الماء وقلته.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 327/ 329.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 372.

(3)

انظر أعلام الحجاز ج 3 ص 38.

ص: 156

وفي كتابي ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز تحدثت عن الماء في جدة وعن أنواعه وما يجلب منه من العيون أو الآبار أو يؤخذ من البحر فليرجع إليه من شاء الاستزادة

(1)

.

‌ابنة السلطان سليمان تنفق على إجراء الماء إلى مكة وعرفات:

كان الماء شحيحًا في مكة وعرفة ومنى، وتاريخ العيون وإجراؤها في هذه الأماكن ثم توالي توقفها تاريخ طويل ليس هنا محل بسطه، ولكنما استوقف نظري فيما أورده الشيخ الغازي من هذا التاريخ ما قامت به الأميرة خانم سلطان ابنة السلطان سليمان القانوني التي تقدمت إلى والدها السلطان سليمان في أوائل سنة تسعمائة وتسع وستين، أن يأذن لها في الإنفاق على إيصال الماء إلى عرفات، وكانت عين عرفات قد انقطعت، وأصبح الحجاج يعانون كثيرًا من فقدان الماء وغلاء ثمنه، وكان السلاطين العثمانيون منذ أن صار لهم حكم الحجاز يوالون إصلاح العيون في مكة وعرفة، وكان قاضي مكة عبد الباقي بن علي المغربي، والأمير خير الدين سنجقدار جدة، قد رفعوا إلى السلطان سليمان تقريرًا عن عين عرفات التي انقطعت من سنوات طويلة، وكان في تقديرهم أن إصلاح هذه العين وإيصالها إلى مكة يقضي على مشكلة الماء في هذه الأماكن المقدسة، وقدروا المال اللازم للمشروع بثلاثين ألف دينار فلما علمت الأميرة خانم سلطان بفحوى هذا التقرير التمست من والدها السلطان سليمان أن يأذن لها بالإنفاق على هذا المشروع تشبَّهًا بالسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد التي أجرت العين المسماة باسمها إلى مكة، وكانت هذه العين قد انقطعت عن البلد الأمين بتعاقب القرون.

أذن السلطان لابنته الأميرة بالقيام بهذا العمل الجليل، واختار اسناد هذه المهمة الجليلة إلى الأمير الكبير إبراهيم باشا، دفتردار مصر، ودفعت له الأميرة خمسين ألف دينار ذهبًا بزيادة عشرين ألف دينار مما قدره قاضي مكة لإصلاحها.

سافر إبراهيم باشا بحرًا من مصر، ووصل إلى مكة لثمانٍ بقين من ذي القعدة سنة تسع وستين وستمائة، وبعد مقابلة أمير مكة الشريف حسن بن أبي نمي، وشيخ الإسلام بمكة القاضي حسين الحسني، والاستماع إلى آرائهما، باشر العمل فبدأ أولًا بتنظيف بعض الآبار التي يستقي منها الناس، ثم توجَّه إلى عرفات، وقام بفحص مجاري العين ومشاربها وتتبع الدبول والقنوات التي يجري فيها الماء، وأقام بوادي نعمان، وكان قد أحضر معه للقيام بأعمال الحفر والتنظيف أربعمائة مملوك، واستخدم البنائين، والحجارين، والقطاعين والنجارين والعمال الذين بلغ تعدادهم ألف رجل للعمل في المشروع، وكان قد أحضر معه من مصر كلَّما ظنَّ أنه لازم للعمل من مكاتل ومساحي، ومجاريف، وحديد، وفولاذ، ونحاس، ورصاص، وقسَّم العمال إلى فرق متعددة أوكل لكل فرقة مساحة من الأرض

(1)

ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ص 152/ 154.

ص: 157

يعملون فيها، وكان يقدِّر أن العمل سينتهي خلال عام واحد، وكان التقرير المقدم إلى السلطان يقدر أنه إذا تم تنظيف القنوات التي كان يجري فيها ماء عين زبيدة، وإصلاح ما تهدم منها، وتعميرها يمكن الوصول إلى عين عرفات، ومن ثمَّ العمل إلى إعادة جريانها كما كانت في عهد زبيدة، ولكن المفاجأة التي حدثت أنه حينما اتصل عمل إبراهيم باشا بعمل زبيدة لم يجد العمال دبلًا ولا آثار عمل وتبين لإبراهيم باشا أن زبيدة اصطدمت بصلابة الحجر، وعدم إمكان قطعه في تلك المنطقة فلجأت إلى عين حنين وأنه إذا أراد إبراهيم باشا إيصال عين حنين إلى هذا المكان، فإنه يحتاج إلى شق قناة - دبل - منقور تحت الأرض في الحجر الصوان بطول ألفي ذراع بذراع البنائين، وكان مما يصل إلى الاستحالة نقب ذلك الحجر تحت الأرض، لأنه يحتاج إلى أن يتعمق في الحفر إلى خمسين ذراعًا.

وقام إبراهيم باشا بمحاولة أخرى، هي الحفر في وجه الأرض حتى يصل إلى الحجر الصوان، ثم أخذ يوقد عليه النار، ويقول المؤلف أن إبراهيم باشا أوقد حمولة مائة حمل من الحطب الجزل في ليلة كاملة، وكان العمل في مساحة مقدارها سبعة أذرع في خمسة أذرع من وجه الأرض، وكانت النار لا تعمل إلا في العلو، فإذا نزلت عن وجه الأرض قل تأثيرها فيلين بالحجر من جانب السفل بمقدار قيراطين من أربعة وعشرين قيراطًا، فيكسر بالحديد إلى أن يصل إلى الحجر الصلب الشديد، فيوقد عليه بالحطب الجزل ليلة أخرى وهلمَّ جرَّا إلى أن ينزل في ذلك الحجر مقدار خمسين ذراعًا في العمق في عرض خمسة أذرع إلى أن يستوفي ألفي ذراع تقطع على هذه الصورة.

ويعلق المؤلف فيقول: وذلك يحتاج إلى عُمر نوح، ومال قارون، وصبر أيوب، ولم ير إبراهيم باشا بدًا في الاستمرار في العمل بهذه الطريقة التي وصفناها، حتى فرغ الحطب من جبال مكة، فصار يُجلب من المسافات البعيدة، وغلا سعره، وضاق الناس بذلك، وتعب الأمير إبراهيم وذهبت أمواله ومماليكه، وهو يتجلد عن ذلك إلى أن قطع من المسافة ألف ذراع وخمسمائة ذراع، وصار كلما فرغ المال الذي لديه طلب من مصر مالًا، حتى بلغ ما صرف على المشروع خمسمائة ألف دينار ذهبًا من الخزائن العامرة، وتوفي إبراهيم باشا ناظر العمارة في سنة تسعمائة وأربع وسبعين، بعد استمراره في العمل خمس سنوات، فأسند الأمر من قبل أمير مكة إلى سنجق جدة الأمير قاسم بك، ورفع الأمر إلى السلطان في الأستانة للموافقة، وتوفي السلطان سليمان، وتولى بعده السلطان سليم ابنه، فاختار لإكمال مشروع العين، دفتر دار مصر في ذلك الزمان محمد بك المككجي وحضر الدفتردار المذكور إلى مكة، وشرع في العمل ولكنه توفي في سنة تسعمائة وست وسبعين، ولم يتم إنجاز المشروع فأعيد الأمير قاسم سنجق جدة لمباشرة العمل، وأقره السلطان سليم على ذلك ليكون أمينًا على مصارف العمل وأسند النظارة إلى قاضي القضاة بمكة حسين الحسيني ولكن الأمير قاسم توفي في منتصف سنة تسعمائة وتسع وسبعين، وما زال للعمل بقية، فأمر السلطان سليم أن يتولى قاضي القضاة حسين

ص: 158

الحسيني القيام به، وأراد الله إتمام المشروع بعد خمسة شهور من إسناد العمل إلى قاضي قضاة مكة كما ذكرنا، ووصل إلى مكة لعشرين بقين من ذي القعدة سنة تسع وسبعين وتسعمائة وقد استمر العمل في مشروع إيصال الماء إلى مكة نحو عشر سنوات، وكان المقدر له عامًا واحدًا، وبلغ ما صرف على هذا المشروع خلال هذه العشر سنوات خمسة لكوك وسبعة آلاف دينار، وكان المقدر له ثلاثين ألف دينار، وقد رغبت ابنة السلطان سليمان العثماني أن يكون لها شرف هذه الصدقة الجارية تشبهًا بزبيدة زوجة الرشيد فدفعت من مالها خمسين ألف دينار ولكن المشروع تضاعفت تكاليفه مائة ضعف فأنفقت عليه الدولة العثمانية من خزائنها طيلة عشرة أعوام، وإذا كانت الأميرة العثمانية لم تحقق ما أرادت، فإن لها ثواب النية الطيبة والأعمال بالنيات.

أقول: خمسة لكوك بمعنى خمسة ملايين والكلمة هندية وهي تعني المليون ومفردها لُكُّ.

‌الاحتفال بإيصال الماء إلى مكة:

احتفل الناس في مكة بوصول الماء احتفالًا عظيمًا وصفه صاحب الأعلام بقوله:

وكان ذلك اليوم عيدًا أكبر عند الناس، وزال بوصول ذلك الماء إلى البلد كل هم وباس، وأقام قاضي مكة الذي أكرمه الله تعالى بإتمام المشروع على يديه "اسمطة" موائد عظيمة في الأبطح، في بستان له هناك، دعا إليها الأكابر والأعيان، ونصب لهم السرادقات والصيوان، وذبح أكثر من مائة من الغنم، ونحر عدة من الأبل والنعم، وقدم للناس على صفاتهم الموائد والنَّعم، وخلع على أكثر من عشرة من المعلمين والبنائين والمهندسين حللا فاخرة وأحسن إلى باقيهم بالإنعامات الوافرة، وتصدَّق على الفقراء والمساكين شكرًا لله تعالى على هذه النعمة الجزيلة، وزُفَّتْ البشائر بها إلى السلطان سليم خان، وإلى صاحبة الخيرات بلقيس الزمان، حضرة خانم السلطان، فانعمت بالأنعامات الجزيلة على سائر المبارين والمتعاطين لهذه الخدمة الشريفة الجزيلة، وحصل لمولانا شيخ الإسلام المشار إليه ترقيات عظيمة، وصارت هذه العين من جملة الآثار الباقية على صفحات الليالي والأيام إلى آخر ما ذكره صاحب الأعلام

(1)

.

‌مقدار ما أنفقته زبيدة على إيصال الماء إلى مكة:

أورد الشيخ الغازي مقدار ما أنفقته السيدة زبيدة على إيصال الماء إلى مكة فقال:

"أنه ألف ألف وسبعمائة ألف مثقال من الذهب" قالوا: وأحضر القائمون بالعمل دفاترهم لتطلع عليها، وكانت في قصر عالٍ مشرفٍ على نهر دجلة، فأخذت الدفاتر وألقتها في النهر وقالت: تركنا الحساب ليوم الحساب، فمن بقي عنده شيء من بقية المال فهو له،

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 331/ 346.

ص: 159

ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه، وألبستهم الخلع والتشاريف، فخرجوا من عندها حامدين شاكرين

(1)

.

أقول: لقد أجرت السيدة زبيدة العين المسماة باسمها والتي كانت من الأعمال العظيمة في التاريخ قبل سبعمائة سنة من تاريخ إجراء العين الجديدة التي أرادت بها ابنة السلطان سليم التشبه بزبيدة يرحمها الله، وبذلت من مالها الخاص ما قدَّرت أنه يكفي لإتمام الشروع العظيم، وإذا كانت لم تتمكن من إتمامه من مالها الخاص، فقد كان لها فضل السبق والبداية، والنية الحسنة، فجزاها الله خير الجزاء.

‌لجنة من أثرياء الهند تجمع المال لإصلاح العين:

قصة الماء في مكة كما قلنا لها تاريخ طويل، فلا يكاد يتم وصول الماء إلى مكة ويفرح الناس به إلا وينقطع بعد سنوات تقصر أو تطول، وضمن ما أورده الشيخ/ الغازي من أخبار العيون والآبار المتعلقة بمكة أنه في عام 1291، اجتمع جماعة من علماء مكة المشرفة بالشريف عبد الله باشا أمير مكة، وهم السادة/ الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة، والشيخ/ عبد الله الشيبي فاتح بيت الله الحرام، والشيخ/ عبد الرحمن جمال، والشيخ/ عبد القادر خوقير وغيرهم، وعوَّلوا كما يقول الشيخ/ الغازي على جمع المال من أهل البر والإحسان لإصلاح عين عرفات، وإصلاح عين حنين وإجرائها لإعانة عين عرفات، فوفق الله تعالى أصحاب الهمم العالية، الراجين ثواب الله سبحانه، منهم المرحوم الشيخ/ أحمد أفندي المشاط، فإنه دفع مائة جنيه، وجمع من تجار الهند بجدة مبلغًا، وصادف وجود أشخاص كرام مثل الحاج/ عبد الواحد الشهير بوخدانة الميمني، والحاج/ عبد الله عرب الميمني، فساعدوا على هذا العمل الخيري أحسن مساعدة، وعمَّروا ما تيسر لهم تعميره إلى أن جرى الماء بمكة واستراح الناس قليلًا ولكنهم عملوا وتحققوا أن الأمر مهم، ويحتاج إلى نفقات هائلة.

وفي سنة خمس وتسعين ومائتين وألف رغب الحاج/ عبد الواحد وخدانه والحاج/ عبد الله عرب وبعض جماعة معهما في القيام بهذا العمل الخيري، وذلك بالتفرغ له وجمع الإعانات من كل الجهات الإسلامية.

وصل الرجلان إلى مكة ومعهم من يترجم حديثهم إلى اللغة العربية، وقابلوا أمير مكة في ذلك الوقت وهو الشريف الحسين الشهير فيما بعد بالشهيد، وشرحوا للأمير ما ينوون القيام به، فشكرهم، وأثنى على همتهم وقال لهم، حيث أن الحكومة تدفع سنويًا مبلغ ألف جنيه عثماني لعين زبيدة، فلابد من استئذانها في الأمر، وذكر لهم أنه سيبحث الموضوع مع الوالي التركي، وكان الوالي في ذلك الزمن ناشد باشا.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 287/ 288.

ص: 160

قابل الرجلان ناشد باشا، وعرضوا عليه ما اعتزما عليه، واتفق الشريف والوالي على أن يكتبا سوية إلى الاستانة للحصول على الموافقة المطلوبة من الدولة، وكتبا، وجاء الإذن بالموافقة على الشروع في العمل.

شكَّل الأمير والوالي لجنة تضم جماعة من الأشراف والأهالي وأفاضل المجاورين مثل فضيلة الشيخ/ رحمة الله الهندي، واجتمعت اللجنة وشرعوا في جمع التبرعات التي افتتحها أمير مكة بمبلغ سبعمائة وخمسين ريالًا مجيديًا وتلاه الوالي بمائتين وخمسين ريالًا، وتوالت التبرعات من التجار والأهالي كلٌّ على قدر استطاعته، وتعينت لإدارة المشروع لجنة رئيسها الفخري الشيخ/ عبد الرحمن سراج مفتي الأحناف والحاج/ عبد الواحد خوندا أمينًا للصندوق، ومفوضًا بالنظر والتصرف وكتبت اللجنة إلى جميع الجهات الإسلامية وأعلنوا عن مشروعهم في الصحف بلغات عديدة، وكان المدير التنفيذي باصطلاح عصرنا هذا هو الحاج عبد الواحد الميمني، وكانت الخطوات التنفيذية تتم بعد اطلاع اللجنة عليها والمداولة فيها وتقرير ما يجب تنفيذه، ولا يتم الإقدام على عمل إلا بقرار من اللجنة المذكورة.

تجمَّع في صندوق اللجنة مقدار عظيم من المال يقول المؤلف:

وساعدتهم الحكومة المحلية على هذا العمل الخيري أتم مساعدة، ولم تجعل منها عليهم يدًا أصلًا، إلا بالمساعدة عندما يحتاجون إليها.

وباشرت اللجنة عملها فاستقدمت من الهند المهندسين والصناع، وخرجوا بهم إلى عرفة وحققوا المسافة بين مكة وبين عين زبيدة من وادي نعمان، فوجدوا أنها تنوف على سبعة عشر ألف متر، ورأوا أن البدء بالعمل من عين زبيدة من عرفات أنفع فشرعوا في العمل باجتهاد تام، وقاموا بالحفر من بعد حدود عرفة إلى وادي نعمان، فبحثوا وحفروا في أسفل الدبل نحو ستمائة ذراع، بنوا فيها عدة خرزات دفنوا بعضها، وأبقوا البعض الآخر لسقيا العربان.

كما شرعوا من مكة في تنظيف الدبول وتعمير ما تخرَّب منها حتى وصلوا إلى المفجر وأوصلوا الماء إلى منى "بالآلة النارية" من المفجر، ونحتوا لأجل ذلك بعض الجبال، وواصلوا العمل حتى وصلوا إلى عرفة، وبنوا في عملهم هذا عدة خرزات في طريق مكة، كما بنوا بازانات بمكة منها، بازان الشعب، وبازان سوق الليل، وبازان القشاشيه، وبازان أجياد، وبازانين بحارة المسفلة، وبازان بحارة الباب، وبازان الشبيكة، وبازان الشامية، وبازان سوق المعلاة الذي يسمى بازان التَّمارة.

وعمروا ما كان خرابًا، وزادوا عليه موارد الماء بالبلدة، وقطعوا الجبل الطويل الكائن بأول مكة، وهو الريع المعترض وسط الطريق المشهور بريع الرسام وبنوا به دبلا طويلا يجري فيه الماء إلى حارة جرول، وبنوا في حارة جرول بازانا عظيما يستقي منه الناس، وكذلك أجروا عملًا آخر من جهة العين الأصلية بمكة وهي عين الزعفرانة "والشحاخيد" المعينة لعين حنين ومكثت اللجنة التي كان رئيسها الحاج عبد الواحد الميمني تعمل بعزم وهمة نحو

ص: 161

ثلاث سنين، ثم حصل الضعف في عملهم شيئًا فشيئا، وكان الماء جارٍ بمكة أحسن جريان.

كان صندوق عين زبيدة في ذلك الزمان عامرًا بالنقود المتواردة عليه من التبرعات بصورة دائمة من الهند وغيرها، واستمر كذلك إلى أن حدثت المخالفات من أمين الصندوق.

ثم تدخلت الحكومة المحلية في أمر النقود الموجودة في صندوق عين زبيدة، بتناول شيء منها احتاجوه وصرفوه في بعض تعميرات لازمة للحكومة، فلما بلغ أهل الهند ذلك توقفوا عن إرسال الإعانات، وكان ذلك سببًا في استياء هيئة اللجنة، حتى أوقفوا الأعمال، ثم استعفى الرئيس وأكثر أعضاء اللجنة، وسافر الحاج وخدانه بعد ذلك بنحو عامين إلى الهند، وتشكلت لجنة جديدة محلية.

ويقول المؤلف: أن المبلغ الذي كان في صندوق عين زبيدة، عند الأخذ منه نحو سبعة وخمسين ألف جنيه

(1)

.

أقول: أن العمل العظيم الذي قام به أثرياء الهند المسلمين بإصلاح العيون التي تمد مكة وعرفات بالماء هو عمل مشكور، وقد قام هذا العمل بأموال المسلمين الذين رغبوا التقرب إلى الله تعالى بالصدقة الجارية بتوفير الماء في بلد الله الحرام، والمشاعر المقدسة، وقد سار العمل سيره الحسن، واستمر عدة سنوات إلى أن طمع الطامعون في أموال العين فمدوا أيديهم إليها لتصرف في غير ما جمعت له، فانصرف القائمون على العمل وأمسك المنفقون أموالهم، وعادت أمور الماء في مكة إلى ما كانت عليه قبل ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد ورد ضمن أسماء أعضاء اللجنة التي شكلت لهذا الغرض اسم الشيخ رحمت الله العثماني مؤسس المدرسة الصولتية بمكة، وقد ترجمنا له في الجزء الثاني من أعلام الحجاز

(2)

، والشيخ عبد الرحمن سراج مفتي الأحناف بمكة المكرمة، وقد ترجمنا له في الجزء الثالث من أعلام الحجاز

(3)

فليرجع إليها من شاء الاستزادة.

وما دمنا بصدد الماء في عرفة ومكة نذكر هنا ما أورده الغازي مما يتصل بالموضوع.

‌أول من اتخذ الحياض بعرفة:

نقل الغازي عن كتاب أسد الغابة: أن عبد الله بن عامر بن كريز هو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى عليها الماء، وقد جدَّد السلطان سليمان العثماني هذه الحياض وجددت بعده مرارًا.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 377/ 386.

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 286/ 313.

(3)

أعلام الحجاز ج 3 ص 339/ 372.

ص: 162

يقول صاحب تحصيل المرام: وهي الآن عمارة مملوءة من عين عرفة

(1)

.

أقول: عبد الله بن عامر بن كريز صحابي جليل، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتي به النبيَّ وهو صغير فقال صلوات الله وسلامه عليه هذا يشبهنا، وجعل يتفل عليه ويُعَوِّذُه، فجعل عبد الله يبتلع ريق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فقال صلى الله عليه وسلم: أنه لَمَسْقِيٌ، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.

وهو ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان من ولاة عثمان رضي الله تعالى عنه وافتتح خرسان كلها، وأطراف فارس وسجستان، وكرمان، وزابلستان، وبعث الجيوش ففتح هذه الفتوح كلها، وفي ولايته قتل كسرى يزدجرد فأحرم ابن عامر من نيسابور بعمرة وحجة شكرًا لله تعالى، وكان من الأجواد الممدوحين، وفي ولايته للبصرة اشترى دورًا فهدمها وأنشأ بها سوقًا بالبصرة، وتوفي ابن عامر سنة سبع وقيل سنة ثمان وخمسين وأوصى إلى عبد الله بن الزبير

(2)

.

‌مكان للشنق يتحول إلى سبيل:

ومن الطرائف التي أوردها الغازي في حديثه عن السقايات ذكر الحادثة التالية نقلا عن ابن فهد قال:

وفي سنة سبع عشرة وثمانمائة أنشأ عطية المطيري سبيلا بالمروة، وكان موضع هذا السبيل قبل ذلك معدًا للشنق، فقال شعبان الأتاري في ذلك:

بمكة دار كان للشنق ركنها

وأضحت سبيلا بعد كل بلية

وأضحى لسان الحال منها يقول قد

رضيت من المولى بخير عطية

وقال شاعر آخر:

بمسعى رسول الله دار معدة

لشنق فصارت للأنام سبيلا

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 420.

(2)

انظر ترجمته مفصلة في أسد الغابة ج 3 ص 288/ 289 وانظر كتاب عثمان بن عفان ذو النورين ص 62/ 65.

ص: 163

‌المدارس حول المسجد الحرام

أدركت مكة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، وكثير من البيوت الملاصقة للحرم الشريف تدعى بالمدارس، فيقال مثلا مدرسة الباسطية، ومدرسة الداودية، وما إلى ذلك، ولم تكن هذه البيوت التي تسمى بالمدارس إلا منازل للسكن يسكنها بعض أهل مكة ويعيشون فيها كما يعيش الناس في بيوتهم، والميزة الوحيدة التي كانت تميزها عن غيرها من المنازل أن لها نوافذ مشرعة على المسجد الحرام وفي أسفل كل منها غرفة مطلة على المسجد يصلي بها الناس مؤتمِّين بامام الحرم الشريف، وخاصة في الأوقاف التي يزدحم فيها المسجد بالمصلين كأيام الجمع والأعياد، وأوقات الحج والعمرة ونحو ذلك.

وكنت أعجب لتسمية هذه الأماكن بالمدارس، وليست مخصصة للدرس والتدريس، وقد أزيلت هذه المدارس جميعها مع ما أزيل من بيوت مكة في التوسعة الأولى للمسجد الحرام في العهد السعودي ما بين عامي 1385 - 1396 للهجرة

(1)

، وقد اختفت هذه التسمية نهائيًا بإزالة هذه البيوت.

وقد وجدت في كتاب الشيخ/ عبد الله الغازي - إفادة الأنام - أسباب تسمية هذه الأماكن بالمدارس لأنها كانت مدارس حقيقية في الأصل بنيت لغرض التدريس، وأوقفت على نشر العلم وعين لها المدرسون، ويؤخذ من الفصل الذي خصصه الغازي لهذا الموضوع أن المدارس التي كانت موقوفة بمكة المكرمة، أحد عشر مدرسة نوجز هنا ما ذكره عنها لأهميته التاريخية.

يقول الغازي: أما المدارس الموقوفة بمكة فهي أحد عشر مدرسة فيما علمت، منها بالجانب الشرقي من المسجد الحرام مدرسة الملك الأفضل عباس بن الملك المجاهد صاحب اليمن، أوقفها على فقهاء الشافعية، وتعرف الآن، بابن عبَّاد الله، وهي على يمين الخارج من باب النبي.

(1)

انظر المعلومات التفصيلية عن العمارة السعودية للمسجد الحرام في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 43 - 52.

ص: 164

‌مدرسة الباسطية:

ومنها بالجانب الشمالي منه مدرسة بدار العجلة على يمين الخارج من باب المسجد المعروف بباب العجلة، وتعرف الآن بمدرسة عبد الباسط أوقفها على أئمة مقام الحنفي

انتهى.

وذكر ابن فهد في حوادث سنة أربع وثلاثين وثمانمائة أن القاضي عبد الباسط اشترى الدار المذكورة وأمر - استاداره - ركن الدين عمر الشامي بأن يقيم بمكة المشرفة ويعمرها مدرسة، وكانت هذه الدار مدرسة للأمين ارغون الناصري، نائب السلطنة بمصر عن ابن مولاه الناصر محمد بن قلاوون، فاستولى عليها بعض الأشراف (أولاد راجح ابن أبي نمي) وباعوها في هذه السنة، وفي سنة خمس وثلاثين وثمانمائة ابتدئ في عمارتها، ولم تنقض هذه السنة إلا فرغ من عمارة أسفلها، وغالب علوها، فَدَرَّس بها في العشر الأول من ذي الحجة قاضي القضاة: جمال الدين أبو السعادات بن ظهيرة.

وفي سنة ست وثلاثين أكملت العمارة

انتهى

(1)

.

أقول: يفهم من تاريخ هذه المدرسة أنها بنيت أولًا للأمين ارغون نائب السلطنة بمصر عن ابن مولاه الناصر محمد بن قلاوون، ثم باعها بعض أشراف مكة على القاضي عبد الباسط، فعمرها ما بين عامي 834، 836 هجرية، وقد تولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون السلطنة في مصر ثلاث مرات كانت الأولى سنة 693، والثانية سنة 698، والثالثة سنة 709 الموافقة للسنوات الميلادية 1293، 1298، 1309، ويبدو أن شراء هذه المدرسة لابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون كان في أواخر القرن السابع الهجري، أو أوائل القرن الثامن الهجري، كما يتضح من تاريخ ولايته الثلاث، ولم يوضح المؤلف كيف تسنى للأشراف الذين سماهم، بيع هذه المدرسة للقاضي عبد الباسط الذي أعاد بناءها بعد مائة وثلاثين سنة من تشييدها وإيقافها فقد اكتفى المؤلف بقوله استولى عليها أولاد الشريف راجح بن أبي نمي، ولعل انتهاء حكم سلاطين المماليك البحرية، وقد كان السلطان قلاوون وأولاده منهم في سنة 783 للهجرة الموافقة لسنة 1381 للميلاد، واستيلاء سلاطين المماليك الجراكسة على الحكم في مصر.

أقول لعل ذلك من الأسباب التي أدَّت إلى الاستيلاء على المدرسة وبيعها مرة أخرى

(2)

.

‌تهدم المدرسة الباسطية:

وقد ذكر الغازي عن هدم وقع بالمدرسة الباسطية وما آلت إليها فقال:

وفي إحدى عشر جمادي الثانية من سنة ست وثلاثين ومائة وألف تطبقت المدرسة الباسطية - تطبقت أي تهدمت - سقوفها على بعضها لتفجر بارود كان بها.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 441/ 442.

(2)

انظر ما يتعلق بتولي السلطان الناصر بن قلاوون السلطنة في مصر وانتهاء حكم المماليك البحرية - كتاب الممايك للدكتور السيد الباز العريني ص 267/ 269.

ص: 165

وينقل الغازي ما آلت إليه فيقول:

وهي الآن في حوزة الشريفة سعدية بنت سعد بن زيد تأخذ كراها، وكانت موقوفة على التدريس

الخ

(1)

.

‌مدرسة دار السلسلة:

يقول الغازي: وفي الجانب الغربي من الحرم الشريف ثلاث مدارس، مدرسة الأمير فخر الدين نائب عدن على باب العمرة، وتعرف بدار السلسلة، أوقفها على علماء الحنفية سنة خمسمائة وتسع وسبعين.

وقد أورد الغازي تفصيلًا عن دار السلسلة نذكره فيما يلي:

وفي سنة 579 وصل إلى مكة صاحب عدن الأمير عثمان بن علي الزنجبيلي، خرج منها فارًا أمام سيف الإسلام المتوجه إلى اليمن، وبالرغم من أنه تعرَّض لأخذ كثير من الأموال والأثقال التي كانت معه من قبل سيف الإسلام، إلا أنه وصل إلى مكة، وكان قد ابتنى بها دارًا، بعد أن قدَّم نفيس ذخائره، وناجي ماله، وجملة رقيقه وخدمه، وكان حاله لا يوصف كثرةً واتساعا، وكان موصوفًا بسوء السيرة مع التجار، وكانت المنافع التجارية كلها راجعة إليه، والذخائر الهندية المجلوبة كلها واصلة إليه.

وأوقف مدرسته التي عند باب العمرة للحنفية، وتعرف الآن بدار السلسلة وأوقف الرباط المقابل لها، ويعرف برباط الهنود.

يقول الغازي: والمدرسة هي الآن بأيدي بعض الأشراف من أولاد أمراء مكة

(2)

.

أقول؛ ذكر الغازي في الخبر الأول عن مدرسة السلسلة أن الذي بناها هو الأمير فخر الدين نائب عدن، وذكر في الخبر الثاني أنه الأمير عثمان بن علي الزنجبيلي، وتاريخ بناء المدرسة في الخبرين واحد وهو عام 579 هجرية، فربما كان فخر الدين لقبًا لعثمان المذكور؟.

‌مدرسة طاب الزمان:

ومدرسة طاب الزمان عتيقة المستنصر العباسي - وهو الموضع المعروف بدار زبيدة - أوقفتها طاب الزمان في شعبان سنة خمسمائة وثمانين على عشرة من الفقهاء الشافعية.

‌مدرسة الداودية:

ومدرسة الملك المنصور عمر بن علي صاحب اليمن بين هاتين المدرستين - بين دار السلسلة وطاب الزمان - وكانت عمارتها في سنة ستمائة وإحدى وأربعين، وتعرف الآن بالداودية أوقفها الملك المنصور على الفقهاء الشافعية والمحدثين.

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 167/ 169.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 314/ 315.

ص: 166

أقول: أدركت الداودية عام 1352 للهجرة وما بعدها، وهي تدعى بهذا الاسم، وكان الشيخ/ حسين نظيف أحد أدباء مكة يسكن بها.

‌مدرسة العينية:

يقول الغازي: ومنها بالجانب الجنوبي مدرسة الملك المجاهد صاحب اليمن أوقفها على الفقهاء الشافعية، وتعرف الآن بالعينية، يسكنها قضاة مكة، وتاريخ وقفيتها في شهر ذي القعدة سنة سبعمائة وتسع وثلاثين.

‌مدرسة الملك غياث الدين صاحب بنقالة:

ويواصل الغازي حديثه عن المدارس فيقول:

ومنها بالجانب اليماني مدرسة الملك المنصور غياث الدين صاحب بنقالة وهي موقوفة على الفقهاء من المذاهب الأربعة، وجعل الواقف المنازل بعلوها، وهي إحدى عشرة خلوة محلًا لسكنى جماعة من الفقراء أوقفت سنة ثمانمائة وأربع عشرة، انتهت عبارة تحصيل المرام.

ونقل الغازي عن الفاسي في شفاء الغرام تفصيلا أكثر عن مدرسة الملك غياث الدين فقال: بالجانب اليماني مدرسة الملك المنصور غياث الدين أبي المظفر أعظم شاه، ابن السلطان السيد الشهيد اسكندر شاه، ابن السلطان شمس الدين صاحب بنجالة، وهي للفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، وكان المتولي لشراء عرصتها وعمارتها ووقفها من يديه لذلك وغيرها من مصالحها التي تذكر، وفوض إليه النظر خادمه المكين، وثقته الأمين ياقوت السلطان الغياثي، وكان الشراء لعرصتها، والنخيل وسقيه الموقوفتان عليها الآتي ذكرهما اثنى عشر ألف مثقال، في أول شهر رمضان من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة.

ثم أعيد عقد البيع على ذلك في شهر شوال من السنة المذكورة لموجب اقتضاه الحال.

وفي شهر رمضان المذكور ابتدئ في هدم ما كان في موضعها من الأبنية، وفيه أيضًا ابتدئ في بنائها، وفرغ من ذلك في آخر صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة.

وقرروا فقهاء فيها أربعة من المدرسين، وهم قضاة مكة الأربعة يومئذ، وستون نفرًا من المتفقهين، عشرين من الشافعية وعشرين من الحنفية وعشرة من المالكية وعشرة من الحنابلة.

وجعل الواقف المنازل التي بعلوها، وهي إحدى عشرة خلوة محلًا لسكنى جماعة من الفقراء خلاف واحد منها، فإنه جعلها خاصة للمدرسة المذكورة.

وكان ابتداء التدريس بها في ضحوة يوم السبت سابع جمادي الآخرة سنة أربع عشرة وثمانمائة، على الحالة التي قدرت عين الوقف، في تعيين أوقات التدريس بها في أيام الأسبوع، فكان تدريس الشافعي ضحوة يوم السبت.

ص: 167

وكان تدريس الحنفي في ضحوة يوم الأحد، وضحوة يوم الأربعاء، وضحوة يوم الخميس.

وكان تدريس المالكي فيما بين الظهر والعصر أيام السبت والأحد والاثنين، وباشرت ذلك من حين ابتدائه.

وكان تدريس الحنبلي فيما بين الظهر والعصر من يومي الأربعاء والخميس.

وأوقف الواقف على المدرسين والفقهاء، والسكان بالمدرسة المذكورة، وعلى مصالحها ما اشتراه، وذلك حديقتان وسقية ماء، فأما الحديقتان فتعرف أحدهما بسلمة، والأخرى بالحل، وهما بالضيعة المعروفة بالركابي بوادي مُرٍّ من أعمال مكة المشرفة، وأما سقية الماء فهي أربع وجبات من قرار عين الضيعة المذكورة، وجبتان منها تعرفان بحسين بن منصور ليله ونهارُه، والوجبتان الأخيرتان تعرفان بحسين بن يحيى ليلُه ونهارُه، وجعل الواقف المذكور الريع المتحصل من ذلك في كل سنة يقسم خمسة أقسام، قسم للمدرسين الأربعة بالسوية بينهم، وثلاثة أقسام للطلبة بالسوية بينهم، وقسم منه يقسم ثلاثة أقسام، قسم منه يصرف في مصالح المدرسة المذكورة من الزيت والماء، وغير ذلك، والقسمان الآخران من هذا القسم يصرفان للسكن بالمدرسة المذكورة بالسوية بينهم.

وفي النصف الآخر من ذي الحجة من السنة المذكورة، وقف الواقف المذكور على المدرسة المذكورة دارًا تقابلها تعرف بدار أم هانئ اشتراه الواقف بخمسمائة مثقال، وعمَّرها في السنة المذكورة، وأوقفها على مصالح المدرسة المذكورة.

وسافر الواقف من مكة بعد حجِّه في هذه السنة لإعلام مخدومه السلطان غياث الدين بذلك، فلم يُقدَّر اجتماعهما، لأن ياقوت مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس عشرة وثمانمائة بجزيرة هرموت، ومات السلطان غياث الدين في أوائل سنة خمسة عشرة تغمده الله برحمته.

‌نهاية مدرسة غياث الدين:

ويواصل الغازي كلامه عن المدرسة المذكورة نقلًا عن كتاب بلوغ القرى فيقول:

وفي يوم الأربعاء عاشر شهر المحرم سنة أربع وتسعين وثمانمائة شرع في هدم المدرسة البنجالية السيد الشريف جمال الدين محمد بن بركات، وكأنه استأجرها أو صرفت له بمرسوم شرعي، والله أعلم.

ويقول صاحب كتاب بلوغ القرى:

وعمرت قاعة بِصُفَّةٍ، وتحت ذلك حاصل ببابٍ له من المسجد، وبابٌ بباب المسجد المعروف بأم هانئ، وفوق القاعة مقعد يخرجه على باب الحرم

انتهى

(1)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 443/ 449.

ص: 168

أقول: لا شك أن السلطان غياث الدين الذي أنفق الأموال الطائلة على شراء البيوت وتشييد مدرسته العظيمة بملحقاتها، وبما أنفقه من الأموال كذلك في شراء النخيل ووجبات الماء لتصرف غلتها على المدرسة ومدرسيها وطلابها، لا شك أن الرجل بعمله العظيم هذا يبتغي وجه الله تعالى، وهو مجازيه على عمله الطيب، فإنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولكن السؤال الذي يستوقف القارئ هو، كيف يضيع هذا العمل الطيب هباءًا بعد زمن طويل أو قصير .. ؟ فقد تم إنشاء المدرسة وأوقف عليها ما أوقف، ورتَّب لها المدرسين من قضاة مكة المكرمة على المذاهب الأربعة في سنة ثمانمائة وأربعة عشر، وبعد ذلك بثمانين عامًا تهدم المدرسة ويعمر بدلها قاعة ومقعد ودكان بعد أن تصير ملكيتها إلى الشريف جمال الدين محمد بن بركات؟. الذي يقول عنه صاحب كتاب أم القرى أنه استأجرها أو صرفت له بمرسوم.

ولم يتحدث صاحب الكتاب عن الوقف الذي أوقفه السلطان وهو الحديقتان وسقيا الماء فلابد أن تكون قد امتدت لها الأيدي كما امتدت إلى المدرسة ذاتها وملحقاتها، ونستطيع أن نتصور أن وفاة السلطان غياث الدين ووفاة خادمه الذي قام بالعمل كله، وبُعْدُ سلطنة بنقالة عن مكة المكرمة، وعدم تفقد العمل الجليل الذي خلَّفه السلطان غياث الدين، قد انتهى به إلى ما ذكرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

‌مدارس أخرى:

وذكر الغازي مدارس أخرى فقال:

ومنها مدرسة أبي علي بن أبي زكريا قرب المدرسة المجاهدية، وتاريخ وقفها سنة خمس وثلاثين وستمائة.

ومنها مدرسة الأرسوقي بقرب باب العمرة، وهو العفيف عبد الله بن محمد الأرسوقي.

ومنها مدرسة ابن الحداد الهدوي بقرب هذه المدرسة، وتعرف الآن بمدرسة الأشراف الأدارسة لاستيلائهم عليها، وتاريخ وقفها شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة وهي على المالكية.

ومنها مدرسة النهاوندي بقرب الموضع الذي يقال له الدريبة، ولها نحو مائتي سنة فيما أحسب والله أعلم، ذكره الفاسي في شفاء الغرام

(1)

.

‌مدرسة قايتباي:

كلَّف السلطان قايتباي وكيله وتاجره الخواجة شمس الدين محمد بن عمر الشهير بالزمن وشاد العمائر سنقر الجمالي أن يحصل له موضعًا يشرف على الحرم يبني به مدرسة يدرس فيه علماء المذاهب الأربعة، ورباطًا يسكنه الفقراء، ويعمر له ربوعًا ومسقفات يحصل منها

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 449.

ص: 169

ريع يقسم منه على المدرسين والفقراء، وأن تقرأ له رَبْعَةٌ في كل يوم يحضرها القضاة الأربعة والمتصوفون ويقرر لهم وظائف، ويعمل مكتب للأيتام وغير ذلك من جهات الخير.

فاستبدل له رباط السدرة، ورباط المراغي، وكانا متصلين، وكان إلى جانب رباط المراغي دارًا للشريفة شمسية من شرايف بني حسنٍ، اشتراها منها وهدم ذلك جميعه، وجعل فيه اثنتين وسبعين خلوة ومجمعًا كبيرًا مشرفًا على المسجد الحرام، وعلى المسعى الشريف، ومكتبًا ومأذنة، وسير المجمع المذكور مدرسة بناها بالرخام الملون والسقف المذهب وقرر فيها أربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وأربعين طالبًا، وأرسل خزانة كتب أوقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل لها خازنًا عيَّن له مبلغًا

(1)

.

وفي سنة 884 للهجرة كان الفراغ من بناء هذه المدرسة والرباط والبيتين، أحدهما من ناحية باب السلام، والثاني من ناحية باب الحريريين على يد الأمير سنقر الجمالي يرحمه الله.

‌نهاية وقف قايتباي:

وقد ذكر الشيخ الغازي: النهاية التي آلت إليها أوقاف السلطان قايتباي وننقلها هنا بنصها يقول الغازي:

وقد استولت عليه - على الوقف - أيدي النظار والمستفيدين، وقد ضاع غالبًا إلا القليل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وجعل الواقف في ذلك المجمع للقضاة الأربعة حضورًا بعد العصر مع جماعة من الفقهاء يقرأون ثلاثين جزءًا من القرآن العظيم.

أما في زماننا هذا فالتدريس المشار إليه قد بطل والربعة لا يحضرها سوى (الجاوا) نوابًا عن المسحقين، وهذه المعينات أغلبها أكِلَ بل جميعه، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وجعل فقيهًا يعلم أربعين صبيًا من الأيتام، وجعل لأهل الخلاوي ما يكفيهم من القمح، وجعل مثل ذلك للمدرسين، وهذا أيضًا شيء دَرَسْ، وجعل للمدرسين والمؤذنين وقرَّاء الحديث والأجزاء مبلغًا من الذهب يصرف لهم كل سنة، وهذا أيضًا درس، وان قصدوا أصحاب هذه الوظائف بشيء في بعض السنين فعلى حدِّ قول المتمثل من الشاة إذنها، والحكم لله تعالى العلي القدير.

ومن عدة ربوع ودور تَغُلَّ كل عام نحو ألف ذهب، ووقف عليهم بمصر قرى وضياع كثيرة وحبوبًا كثيرة تحمل إلى مكة كل عام.

وصارت المدرسة سكنًا لأمير الحج أيام الموسم، وسكنًا لغيرهم من الأمراء في وسط السنة، وعمل من الخيرات العظيمة ما لم يعمل ذلك سلطان قبله وهو باقٍ إلى الآن، إلا أن الأكَلَة من الدول استولت على هذه الأوقاف تستغلها النظار كل عام وتأخذها الدولة، وهذه الأوقاف قد آلت إلى الخراب ما لم تتدارك، والدوام لله تعالى.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 456/ 458.

ص: 170

وذكر صاحب الرحلة الحجازية - محمد لبيب البتنوني - الذي حج إلى مكة سنة 1327 هـ مع الخديوي عباس باشا حلمي مصير مدرسة قايتباي فقال:

مدرسة قايتباي التي على يسار الداخل من باب السلام فإنها بعد أن كانت مدرسة تدرس فيها علوم الدين، ولها أوقاف بمصر تصرف غلتها عليها، ضعفت أوقافها شيئًا فشيئا فنقلوها إلى دار ضيافة كان ينزل بها أمراء الحج المصري، ثم صار يسكنها بعض أشراف ذوي غالب وهي في أيديهم إلى الآن

(1)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 458/ 461.

ص: 171

‌مدارس السلطان سليمان العثماني

ذكر القطبي أن السلطان سليمان استبدل الأماكن التي بجانب الحرم من الجهة الشمالية وبنى بها أربع مدارس أوقفها على من ولي الإفتاء من الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة وتاريخ وقفها سنة تسعمائة وسبعين.

وقد فصَّل الشيخ عبد الله الغازي أمر بناء هذه المدارس وكيفية شراء السلطان سليمان لها فالأماكن المملوكة اشتريت، والأماكن الموقوفة استبدلت بغيرها مما فيه فائدة للوقف الأصلي وتم بناء المدارس الأربعة، وعينت المرتبات للمدرسين والطلاب، فعين لكل مدرس خمسين عثمانيًا لكل يوم، وعين للمعيد أربعة عثمانية في كل يوم، يجهزها في كل عام ناظر الأوقاف السليمانية بالشام مع الركب الشامي إلى مكة المشرفة فيوزع على المدرسين والطلبة وظائفهم.

وقد تم إكمال عمارة المدارس الأربعة في عهد السلطان سليم ابن السلطان سليمان، وبوشر التدريس فيها من قبل العلماء الأجلاء.

ويقدم صاحب كتاب الأعلام وصفًا شائقًا للدراسة لهذه المدارس يقول فيه:

فأنعم السلطان بالمدرسة المالكية السليمانية وهي رأس المدارس الأربعة على سيدنا ومولانا شيخ مشايخ الإسلام قاضي القضاة وناظر المسجد الحرام مولانا السيد القاضي حسين الحسيني بخمسين عثمانيًا، ثم رقَّاه إلى أن صارت مدرسته بمائة عثمانيًا، وأنعم بالمدرسة الحنفية السليمانية على مؤلف هذا الكتاب - صاحب كتاب الأعلام محمد بن أحمد القطبي - بخمسين عثمانيًا في أواسط جمادي الأولى سنة خمس وسبعين وتسعمائة، يقول القطبي:

فأقرأت فيه قطعة من الكشاف والهداية، وقطعة من تفسير مولانا أبو السعود العماري وأقرأت فيها درسًا في الطب، ودرسًا في الحديث وأصوله، وأنني أدرس الآن فيها تكميل شرح الهداية الذي كمله الآن العلامة الفهامة فريد دهره ووحيد عصره صاحب التصانيف الفائقة التي سارت بها الركبان، وتداولتها العلماء فالطلبة، في سائر البلاد، مولانا شمس الملة والدين أحمد المعروف بقاضي زاده أفندي.

ص: 172

ويكمل صاحب الأعلام حديثه عن هذه المدارس فيقول:

وأنعمت السلطنة الشريفة بالمدرسة السلطانية السليمانية الشافعية لإقراء مذهب الشافعي بمكة المشرفة على بعض علماء الشافعية بخمسين عثمانيًا، وأما المدرسة الرابعة العثمانية فقد جعلها المرحوم الواقف لإحياء مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فلم يوجد بمكة يومئذ من يكون ثابتًا في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فعدل عنه إلى علم الحديث الشريف، وجعلت تلك المدرسة - دارًا للحديث - بخمسين عثمانيًا، يقرأ فيها الصحاح الستة. انتهى

(1)

.

أقول: وأود أن نذكر أن ما أورده الغازي من أخبار هذه المدارس وما ذكره صاحب الأعلام الذي كان مدرسًا بالمدرسة الحنفية وهي إحدى المدارس الأربع التي بناها السلطان سليمان يعطي لنا صورة عن بعض أوجه النشاط العلمي في مكة المكرمة في أواخر القرن العاشر الهجري.

وقد لفت نظري ما ذكره صاحب الأعلام عن أنه كان يلقي درسًا في الطب على طلبته في المدرسة الحنفية، ولا بد أن يكون لهذا الدرس مثيل في المدارس الأخرى، وبالرغم من أن الطابع الديني يغلب على هذه المدارس وهي أصلًا إنما انشئت لتعليم الطلاب المذاهب الأربعة إلا أن النشاط العلمي في المدرسة كان متنوعًا فيما يبدو، وقد خصصت المدرسة الرابعة لدراسة علم الحديث لأن المذهب الحنبلي لم يكن منتشرًا في مكة في ذلك الزمان، وبالنسبة للمرتبات التي ذكرها القطبي يقول الشيخ/ حسين عبد الله باسلامة:

أن هذه النقود العثمانية ربما كانت أجزاء من العملة الفضية.

‌نهاية المدارس الأربعة:

يقول الشيخ/ حسين باسلامة في كتابه "تاريخ عمارة المسجد الحرام" المؤلَّف في سنة 1354 هـ وأما المدارس المذكورة فهي باقية على حكمها بناءًا، وشكلًا إلى هذا العصر.

وأما حالتها الحاضرة فصارت إحداها مركزًا لرئاسة القضاء، والثانية مركزًا للقضاء الشرعي والثالثة دارًا للكتب الموقوفة لعموم القراء، والرابعة بجناحيها تصرَّف فيها بالبيع أحمد باشا عامل محمد علي باشا خديوي مصر منذ مائة سنة من صدور هذا المؤلف وأصبحت ممتلكة

(2)

.

ونستطيع أن نتصور أن السلطان سليمان الذي أنشأ المدارس الأربعة والتي كملت في عهد نجله السلطان سليم، أن المصروفات التي كانت تنفق على هذه المدارس ومدرسيها وطلابها، كانت تصل سنويًا مع أمير الحج الشامي انقطعت فتوقفت الدراسة بها، أما المدرسة التي تصرف فيها بالبيع أحمد باشا عامل محمد علي باشا خديوي مصر، فلعل ذلك تم

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 449/ 456.

(2)

تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 81.

ص: 173

حينما وصل محمد علي باشا خديوي مصر إلى الحجاز سنة 1228 واستولى على الحجاز بأمر من الدولة العثمانية

(1)

، وبقي أحمد باشا واليًا على مكة من قبله، فتصرف في إحدى المدارس بالبيع كما يقول الشيخ/ باسلامة، ويقول السيد أحمد زيني دحلان عن أحمد باشا هذا:

أنه تولى منصب ولاية الحجاز سنة 1235 بعد وفاة أخيه خليل بك، وطالت مدته بالحجاز حتى صار يقال له أحمد باشا الحجاز، فقد تولى سنة خمس وثلاثين وعزل سنة أربع وأربعين، وأعيد سنة ثمان وأربعين، ومكث إلى سنة ست وخمسين، وهو ابن أخت محمد علي باشا

(2)

، ولعل طول بقاء أحمد باشا في الولاية مكَّن له الاستيلاء على المدرسة الرابعة والتصرف فيها بالبيع.

* * * *

(1)

أمراء البلد الحرام 327.

(2)

أمراء البلد الحرام 339/ 340.

ص: 174

‌مدرسة محمد باشا بسويقة

نقل الغازي بالارج المسكي ما يلي:

ومن المدارس مدرسة الوزير محمد باشا بجانب رباطه ولها معلوم معين من غلال وقفه بمكة المشرفة، وكانت في أصل الوقفية بيماراستان، ثم قلبت مدرسة.

أقول: البيرامستان هو المستشفى باصطلاح العصر الحديث.

‌وقف السلطان سليمان خان:

نقل الغازي عن كتاب منائح الكرم ما يلي:

ومما حدث في زمن الشريف حسن أن محمد باشا وزير مولانا السلطان سليمان خان أمر أن يبنى له موضع بالقرب من الحرم يكون محلًا للفقراء وصونًا للحرم الشريف، وأن يبنى له مساطب تصلح للمرضى، فتكون دار الشفاء له، وأن يبنى خارج ذلك دكاكين وبيوت تؤجر وتصرف غلالها في مصلحة هذا المحل، وأمر ببناء حمَّام في وسط هذا البلد يكون عظيم الشأن فبني جميع ذلك، وعُمِّرتْ له أوقاف كثيرة بمكة ووردت صدقاته سنة 974 أو سنة 984 انتهى.

‌الباقي من المدارس:

جاء في تحصيل المرام تعليقًا على المدارس التي بجوار الحرم ما يلي:

لم يبق من المدارس إلا مدرسة محمد باشا بباب الزيادة، والداودية، وكذلك رباط وراء المدارس السلطانية يسكنها الفقراء وما عداها توالت عليها الأيدي. انتهى.

‌الأوقاف تتغير عبر الأزمان:

ذكر الغازي نقلًا عن شفاء الغرام في الفصل الخاص بالرباطات:

رباط السدرة بالجانب الشرقي من المسجد الحرام على يسار الداخل من باب السلام،

ص: 175

وكان موقوفًا في سنة 400، وموضعه دار القوارير التي بنيت في زمن الرشيد على ما ذكر الأرزقي ودار القوارير موضعها مدرسة قايتباي. انتهى

(1)

.

أقول يفهم من هذا النص أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تولَّى الخلافة ما بين عامي 170 إلى 191 بنى في الجانب الشرقي من المسجد الحرام دارًا سميت دار القوارير، ثم تحولت هذه الدار بعد أكثر من مائة عام لتكون رباطًا سمي رباط السدرة، وبعد نحو خمسمائة عام تحولت لتكون مدرسة السلطان قايتباي في سنة ثمانمائة وأربع وسبعين، وقد تحولت هذه المدرسة في الأزمان الأخيرة لتكون منزلًا يسكنه أمراء الحج المصري، كما جاء تفصيله في الحديث عن مدرسة قايتباي قبل.

وقد بنى السلطان قايتباي إلى جانب مدرسته هذه رباطًا، وكان مكانه رباطًا بناه قاضي القضاة أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم المراغي، ولم يذكر الغازي تاريخ بناء الرباط المذكور ولكنه قديم حتمًا، وقد ذكر أن السلطان قايتباي استبدل الأماكن التي بني محلها المدرسة والرباط أي أنه اتفق مع نظار الوقف على شرائها واستبدال ما هو خير منها للوقف كما هو معلوم في مثل هذه الأحوال.

وقد استبدل السلطان سليمان العثماني رباط الخليفة الناصر العباسي الذي أوقفه سنة خمسمائة وتسع وسبعين على الصوفية، وبنى في موضعه المدارس السلطانية سنة 970 للهجرة التي سبق الحديث عنها قبل

(2)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 462/ 464.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 465/ 466.

ص: 176

‌الأربطة في مكة

الأربطة مفردها "رباط" وهي الأماكن التي تبنى ويخصص سكنها للفقراء والمحتاجين من الرجال والنساء وقد عرفت مدن الحجاز كثيرًا من الأربطة التي شيَّدها وأوقفها أهل الخير لهذه الأغراض، ولا تزال لهذه الأربطة بقايا في كل من مكة والمدينة وجدة، وقد عقد الشيخ الغازي فصلا خاصًا عن الأربطة في مكة.

وقد وجدت فيما أورده عنها بعض الغرائب الخاصة في شروط الوقف فمن ذلك:

‌رباط الطبري:

رباط الحافظ أبو عبد الله بن منده ملاصق لزيادة دار الندوة ويعرف في وقته برباط الطبري وقد أوقفه بانيه على القادمين من أصفهان أربعين يومًا، وعلى سائر الناس عشرة أشهر وعشرين يومًا.

أقول: الأربعون يومًا التي خصصت لأهل أصفهان لا بدَّ وأن تكون في أيام الحج حين قدومهم حاجين إلى مكة المكرمة

(1)

.

‌رباط رامشت:

عند باب الحزورة، ورامشت هو الشيخ/ أبو القاسم واسمه إبراهيم بن الحسن الفارسي وقفه على جميع الصوفية الرجال دون النساء أصحاب المرقعة من سائر العراق وتاريخه سنة تسع وعشرين وخمسمائة

(2)

.

أقول: كانت بدعة التصوف في ذلك الزمان منتشرة في العالم الإسلامي، وكان بعضهم يلبس ملابس خاصة يعرفون بها، وكل هذه البدع بعيدة عن صفاء العقيدة وتوحيد العبادة لله تعالى.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 446.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 467.

ص: 177

‌رباط الشيخ/ غياث الدين:

وموقعه قبالة باب الصفا، أمر بإنشائه السلطان شاه شجاع صاحب بلاد فارس ويقال له رباط الشيخ غياث الدين الأبرقوهي لتوليه لأمره وعمارته، وتاريخ وقفيته سنة سبعمائة وإحدى وسبعين، وهو وقف على الأعاجم من بلاد فارس المجردين دون الهنود

(1)

.

‌الرباط العباسي:

وهو بالمسعى عند العلم الأخضر، وكان مطهرة أنشأها الملك المنصور لاجين المنصوري، وقد حوله إلى رباط الملك الناصر قلاوون الألفي

(2)

.

‌مصير الأربطة:

نقل الغازي عن الشيخ الصباغ بعد أن أورد أسماء الأربطة الكثيرة في مكة ما يلي:

قلت لم يعرف الآن شيء مما ذكر، وقد توالت عليه الأيدي، والموجود الآن شيء قليل منها

الخ

(3)

.

‌رباط البصري:

نقل الغازي عن الطبري في إتحاف فضلاء الزمن ما يلي:

وفي سنة ألف ومائة واحدى وثلاثين بنى الشيخ/ سالم بن عبد الله البصري رباطًا وجعل له ثلاث طبقات، في كل طبقة عشرة خلاوي ومحل زائد لشيخ الرباط، وأوقفه على آل باعلوي وأرسل إلى - الكرزار - أني قد بنيت رباطًا وأريد منكم المعونة فأجروا لنا في بندر جدة لكل خلوة قرش، وقرش للزيت، وأربع قروش للسقا، تأخذ كل سنة من بندر جدة

(4)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 468.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 469.

(3)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 470.

(4)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 474.

ص: 178

‌ذكر من دخل مكة والمدينة من النصارى والإفرنج

ذكر الغازي ما ذكره الأزرقي عن سيل الجحاف الذي دهم الناس بمكة صباح يوم التروية من سنة ثمانين للهجرة قبل الفجر، وما أحدثه هذا السيل من الفزع فقد امتلأ الوادي بالماء وهدم البيوت الشارعة على المسجد الحرام مما اضطر الناس للاتجاه إلى الجبال خشية على أنفسهم، وكان هذا السيل في خلافة عبد الملك بن مروان، فلما علم بأمره بعث إلى عامله مالًا كثيرًا لإصلاح البيوت التي تخربت، ولعمل ضفاير لها وللمسجد الحرام، وبعث مهندسًا نصرانيًا للقيام بهذا العمل كما هو موضح في صفحة 479 من المجلد الثاني من إفادة الأنام.

وعلى ذكر دخول هذا المهندس النصراني إلى مكة ذكر الشيخ الغازي مقالة لأحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء في مصر، في ذِكْرِ من زار مكة والمدينة من نصارى الإفرنج وهذا نصها:

قد تمكَّن طائفة من الإفرنج من دخول الحجاز - ومن زيارة البقاع المقدسة والأماكن المطهرة، ولكنهم لم يكتبوا عنها "بالمرة" وإن كانوا كتبوا فمن باب الاستطراد، ومن هذه الفئة:

أولًا: الثلاثة النصاري الذين رآهم "نيبور" في مكة، فقد روى أن ملاحًا إنجليزيًا توجه إليها في سنة 1175 للهجرة قاصدًا أوربا عن طريق القسطنطينية، وأن رجلا آخر أتى اليمن عن طريق مكة وركب البحر سرًا إلى الهند، وأن تاجرًا فرنسيًا ذهب إلى مكة لمعالجة أمير الحج بعد أن أعطاه الأمان على نفسه، وعلى دينه ولكنهم اضطروه في أثناء الطريق إلى الدخول في دين الإسلام.

ثانيًا: توماس - اكيت - وهو عسكري اسكتلندي - أسره المصريون في محاربة الإنجليز مع محمد علي الكبير بمدينة الإسكندرية سنة 1841 ميلادية، ثم أسلم وانتهى أمره أن صار واليا على المدينة المنورة، ثم قتل في محاربة الوهابين.

ص: 179

ثالثًا: إنجليزي في الجيش الذي حارب محمد علي بالإسكندرية أيضًا فقد أسره المصريون ودخل الإسلام باسم عثمان، وتمكن بدهائه من الاستحواذ على كل أموال سبيه المسلم وكان يجتهد في التوفيق بين التوراة والإنجيل والقرآن.

رابعًا: الكابتن جورج فواسترساربر، ذهب إلى المدينة في سنة 1239 رسولًا إلى إبراهيم باشا القائد المصري، وامتاز على من عداه من الأوربين الدين دخلوا الحجاز بأنه بقي محافظًا على زيه الأفرنجي، ولكنه لم يقترب من أسوار المدينة.

أرسلته شركة الهند الشرقية ليهنئ إبراهيم باشا على انتصاراته، ويعرض عليه مساعدة المراكب الإنجليزية، ثم عاد من ينبع وهو أول أوربي اجتاز شبه جزيرة العرب من الشرق إلى الغرب.

سابعًا: الطلياني الذي لقي في سفره من الأهوال ما لا يوصف، وفي آخر الأمر ادعى الإسلام، وتردد كثيرًا بين مكة والمدينة وجمع له المسلمون إعانة تاجر بها فأصبح من ذوي اليسار ومشاهير التجار.

ثامنًا: دوتي الانجليزي، فقد كتب رحلته في الحجاز وما لاقاه من المشاق ولم - يرزأ - أحدًا فرمي بل سيق إلى الطائف والى جدة في خطب طويل.

تاسعًا: في سنة 1200 للهجرة تمكن الدكتور المورسي الفرنسي من الحج، وقد كان مقيمًا في الجزائر، وهو من الأوربيين الذين تمكنوا كل التمكن من زيارة الكعبة المعظمة، وهو قد أسلم إسلامًا خالصًا لم يعتوره أدنى ريب.

عاشرًا: اولاننس شارل هوبر، فقد اقترب كثيرًا من مكة، عند عودته من - حائل - سنة 1205 وشاهد الحرم وجباله عن بعد، ثم تمكن بفضل مساعي خادمه من النجاة إلى جدة، وهو مدفون بها، وقبره موجودٌ إلى الآن في جبانتها، وقد صوَّره كور تلمون بالفوتوغرافية وطبعه في رحلته قال:

وهناك طائفة من الإفرنج المستقلين المتظاهرين بالإسلام، وقد كتبوا كثيرًا أو قليلًا عن الحرمين الشريفين، ودوَّنوا ما شاهدوه في موسم الحج، وما وصلوا إليه من المعلومات الصادقة أو البعيدة عن الحق وإليك بيانهم بحسب ترتيبهم التاريخي دون الشرح والتفصيل:

فأولهم حامل رايتهم الإيطالي - بارتيما - فهو فاتح هذا الباب لكل من أتى بعده من الأفراد وكانت زيارته للحرمين في سنة 908 للهجرة في أيام السلطان قانصوه الغوري، وتسمى باسم يونس.

الثاني: الفرنسي تنسان لابان في سنة 968 للهجرة.

الثالث: برهان الألماني - ويلد - في سنة 1016 للهجرة.

الرابع: الانجليزي جوزيف تبس في سنة

(1)

.

(1)

التاريخ غير واضح.

ص: 180

الخامس: الأسباني باديابيش في سنة 1223 للهجرة، باسم علي بك العباسي، وتحصل على شهادة على أنه من الأشراف من سلالة العباسيين.

السادس: الألماني (أول ريخ جاسبار شتيرن) في سنة 1224 للهجرة.

السابع: السويسري (جون لويس بوركهارت) في سنة 1230 للهجرة وتسمى باسم الشيخ حاج إبراهيم وذكر الريحاني أيضًا في تاريخ نجد دخول هؤلاء الثلاثة أي (باديا، أرريخ، بوركهارت) فقال: أن ثلاثة من العلماء المستشرقين المستعربين دخلوا مكة يوم كان الوهابيون مستولين عليها، أول هؤلاء رجل أسباني اسمه رولد موباديا، انتحل نسبًا ودينًا عربيًا وجاء من قادش عن طريق الجزائر إلى الحجاز وهو علي بك العباسي الأمير المكرم والعالم المحترم رسول بونابرت إلى البلاد العربية، أجل قد جاء حاجًا مستكشفًا فنُظِرَ في جدة تحفُّه الخدم والحشم وصار إلى مكة المكرمة محرمًا مثل من جاءوها من أهل نجد، فدخلها في 23 يناير 1807 ميلادية الموافق أربعة عشر ذو القعدة 1221 للهجرة.

وقد شاهد جموع الوهابيين، وحج معهم واعتمر، وكان في ظاهره قحًا عربيًا ومسلمًا حقًا، لا تعيبه كلمة يقولها ولا تخونه فعلة أو إشارة فما شكَّ أحد في دينه أو نسبه.

‌علي العباسي يصف الشريف غالب:

وقد وصف العباسي الشريف غالب أمير مكة في ذلك الزمن فقال:

أنه في العقد الرابع من العمر وأنه على جهله ذو حصافة ودهاء، رآه لأول مرة في مجلسه وهو يدخن النار جيلة التي كانت محجوبة خوفًا من الوهابيين، ولم يرَ السائح الأوربي غير الأريج الذي كان يتصل من خُرْقٍ في الحائط بالنارجيلة (لعله يقصد اللي أو الأنبوب المتصل بالنارجيلة) ورآه في الغرفة المجاورة للمجلس، والعباسي هذا كان عالمًا يحمل في حقائبه أدوات الرصد والمساحة فاستخدمها في مكة وجوارها دون أن يعترضه أحد من الناس، بل كان محترمًا من الجميع، وقد حاز فوق ذلك شرفًا لم يحزه سواه من المستشرقين ولا يحوزه إلا الأفراد القلائل من المسلمين، ألا وهو شرف كناسة الكعبة، ولكنه على ما يظهر لم يفلح حتى النهاية في تنكره، فعندما قصد إلى المدينبة زائرًا صدُّه عنها الوهابيون، فعاد إلى ينبع، ومنها إلى مصر فباريس، حيث اجتمع بنابليون، وعين في حاشية أخيه يوسف بونابرت، وقد عاد علي بك إلى الشرق في سنة 1818 ميلادية، فسافر من دمشق ليقوم برحلة ثانية إلى البلاد العربية ولكنه وهو لا يزال في أول الطريق أصيب بالدسنتاريا فمات بالمزاريب.

ومن هؤلاء العالم الألماني الريخ زتش الذي قضى عشرين سنة يدرس ويتأهب لرحلته في الشرق، فجاء سورية سنة 1805، وأقام في الشرق الأدنى بضع سنين ثم سافر إلى الحجاز في زي درويش اسمه الحاج موسى، فدخل مكة حاجًا سنة 1810 وارتحل منها إلى اليمن، فزار صنعاء، ونزل إلى عدن، وقد كان في نية - رتش - أن يجتاز شبه الجزيرة العربية إلى الخليج

ص: 181

ليسوح في الشرق الأوسط "فعارض" عدن ووجهته الجبال، ولكن عند مروره "بتعز" اعترضه بعض الناس وقد أرابهم أمره فقتلوه.

الثالث: من المستشرقين الذين ساحوا في الحجاز السويسري الشهير (بركهرت) المسمى بالحاج عبد الله، صديق محمد علي، جاء إلى الحجاز عندما كان محمد علي هناك، فنزل في جدد في 15 تموز 1814، وسار منها إلى الطائف ثم رحل إلى مكة المكرمة في 15 رمضان 1230 الموافق 4 أغسطس 1814 بعد استئذان صديقه العظيم، وهو يومئذ سيد الحرمين فحجَّ مع من حجوا في ذلك العام، وأقام في مكة ثلاثة أشهر، ثم سافر إلى المدينة فأدَّى الزيارة في أبريل سنة 1815 يوم كان محمد علي باشا هناك ولكنه مرض في المدينة، فعاد إلى القاهرة في ربيع ذلك العام، وتوفي فيها وكان بركهرت في قيافته وفي اسلامه محترمًا موقرًا، وقد قال يصف نعمة - الحج - بها، "وما شعرت في مكان آخر بمثل الطمأنينة التي كنت أشعر بها وأنا في مكة" انتهى.

قال الشيخ/ أحمد زكي باشا:

الثامن: الطلياني (جوفاني فيناتي) في سنة 1230 للهجرة باسم الحاج محمد.

التاسع: ليون ردش في سنة 1257 باسم الحاج عمر.

العاشر: الفرنسي (دكوبريه) في سنة 1257 باسم الحاج عبد الحميد.

الحادي عشر: الفنلندي (جورج أغسطوس دالين) في سنة 1261 باسم ولي الدين.

الثاني عشر: الانجليزي سير ريتشارتن في سنة 1269 باسم الحاج عبد الله.

الثالث عشر: الألماني هريش ديهرماترذ في سنة 1276 باسم سيد عبد الرحمن.

الرابع عشر: الانجليزي هرمن بيكبل في سنة 1278 باسم الحاج عبد الواحد.

الخامس عشر: الانجليزي جون دركين في سنة 1294 باسم الحاج محمد أمين.

السادس عشر: الهولندي (ك سنوك هورخرونيه) في سنة 1303 باسم عبد الغفار.

يقول أحمد زكي باشا وهو صديقي ومن كبار المستشرقين ولا يزال موجودًا إلى الآن.

أقول: وقد ألف سنوك هذا كتابًا عن رحلته إلى مكة وقامت مشكورة بنشره وترجمته جامعة أم القرى بمكة المكرمة وعنوان الكتاب "مكة المكرمة في نهاية القرن الثالث عشر الهجري".

وهو من أهم الكتب التي تصور الحياة في مكة في زمنه.

السابع عشر: الفرنسي خرفي كورتلمون في سنة 1311 باسم عبد الله.

يقول عنه أحمد زكي باشا وقد تعرف بي عند رجوعه إلى القاهرة

(1)

كثيرًا ولا يزال على قيد الحياة.

الثامن عشر: السويسري الدكتور هيس في سنة 1338 ولا يزال باقٍ إلى الآن ينفع بعلمه الواسع خصوصًا فيما يتعلق ببلاد العرب وأهلها، وهو من الأصدقاء ومن كبار المستشرقين

(1)

الكلمة غير واضحة.

ص: 182

وهو أكبر من رحل إلى الحجاز من الإفرنج. انتهى ما ذكره أحمد زكي باشا

(1)

.

وفي المجلد الأول من مجلة المنار ص 783 في سنة 1805 ميلادية تمكن الفرنسي - روش - وكان مترجمًا لدى الأمير عبد القادر الجزائري من الدخول إلى مكة بصفته وبزي عربي، وعرض على أمير مكة الشريف محمد بن عون أنه وافد من قبل الأمير ليحصل على التصديق من علماء العرب على فتوى أفتى بها علماء مصر والقيروان.

وسافر من مكة للطائف، ولدى عودته بمكة للحج دَلَّ عليه بعض الحجاج الجزائريين فكشفوا خبره وقبضوا عليه وساقوه إلى السجن والناس حوله تحاول الفتك به.

فسلمه شريف مكة كتاب أمان وبعض نفقة يستعين بها على سفره وأشخصه إلى جدة.

وفي سنة 1814 أو 1815 احتال السائح السويسري بوكهارت حتى دخل مكة والمديبة ورجع مزودًا ببعض المعلومات عن حالة البلاد الجغرافية، وعن أهلها وتظاهر في آخر أمره بالإسلام وعليه مات، وقبره بمصر وعليه اسمه هكذا - عبد الله بوكهارت المشهور عند العامة باسم الشيخ بركات - انتهى.

وفي الرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني تحدث عن الإفرنج الذين رحلوا إلى الحجاز فقال عن بوركهارت أنه سويسري لوزاني المولد وفد إلى مصر ودخل الأزهر بعد أن ادعى الإسلام، وسمى نفسه إبراهيم المهدي، وتعلم في الأزهر العربية، ثم سافر إلى بلاد العرب وأقام بها نحو سبع سنين، وكتب عنها كتابه، الذي هو أحسن ما كتبه الفرنجة خصوصًا في صفة بلاد العرب وقبائلها ومات في مصر على زيه الإسلامي

(2)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 480/ 490.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 494/ 495.

ص: 183

‌أصناف العملة بمكة وأسعارها

صرف القرش بأربعين ديوانًا، والأحمر بقرشين، والمشخص بأربعة قروش، والريال بقرشين وثمن.

كانت هذه الأسعار في سنة 1140 كما نقل الغازي عن خلاصة الكلام

(1)

.

أورد الشيخ عبد الله الغازى في الفصل الخاص بأحوال المعيشة وغلائها في مكة المكرمة قصيدة للشيخ زين العابدين بن أحمد الشماع هذا نصُّها:

الحمد لله مبيد الدهور

عالم ما يخفى بطي الصدور

مسيِّر الأفلاك في أفقها

ومجريَ الفلك بماء البحور

فقد جرى في مكَّةٍ محنةٌ

قد عمَّت الدنيا وفي كل دور

جرى غلاءٌ ما سمعنا به

ولا مضى في سابقات العصور

قد أذهب الأرواح حتى لقد

ضاقت على الموتى فسيح القبور

وقد غدى من عظم أهواله

كل فتىً منا عديم الشعور

أقام في أم القرى ماكثا

ثلاثة أعوام وأدنى شهور

وبعد ما حلَّ بنا وانقضى

وارتحل الهم ووافى السرور

قامت حروب نارها تلتظي

ينفر منها الطبع كل النفور

وقتلة ما قد جرى مثلها

في سُوْحِ بيت الله بادي الظهور

من رمم القتلى وأشباهها

قد شبع الوحش وبعض الطيور

وها هي الآن وقد بدت

تشعل نارا ما لها من فتور

وأنما كلما لنا مثل ما

رواه خير الرسل وافي النذور

ونسأل الرحمن سبحانه

يفرِّجُ الكرب ويمحو الشرور

وعامنا قد صح تاريخه

ألا إلى الله تصير الأمور

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 565.

ص: 184

يقول الشيخ/ الغازي في هذا الصدد ما يلي:

وفي عاشر جمادي الآخرة سنة 1118 أخذ الأشراف قافلة كبيرة من جدة ولم يفزع لها أحد من جانب الشريف، وإنما الشريف عزم على الركوب عليهم، وَرْفعِهِمْ عن الطريق فأرسل يستصرخ عربًا وأرسل - لايوز بك - يطلبه بعض مدافع فامتنع أن يعطيه وقال:

أنا لا أستغني عنها، فأمر بفتح بيت سليمان باشا لأنه بلغه أن في الدهليز أربعة مدافع مدفونة وكان الأمر كذلك، فأخرجها، وأخرج أيضًا من البيت بَطَّةً ملآنة بارود، واشتد الكرب، وعزَّ كل شيء من الأقوات وغيرها من حطب وفحم وملح لانقطاع الطريق، وقد أرَّخ هذه السنة الأديب الشيخ/ زين العابدين بن أحمد الشماع بالقصيدة التي أوردناها آنفا

(1)

.

أقول: كانت إمارة مكة محل تنازع شديد بين الأشراف فقد وليها الشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى بدلًا من الشريف سعيد بن سعد بعد أن حصل على أمر من السلطنة العثمانية له بها ودخل مكة في السادس من شعبان سنة 1117 ولكن الشريف سعيد جمع جموعًا من العربان قاصدًا مهاجمة مكة، وخرج الشريف عبد الكريم لملاقاته - بالمليساء - قرب الطائف، واقتتل الفريقان وانهزم الشريف سعيد في هذه المعركة، وانسحب إلى ليِّةَ من ضواحي الطائف.

وكانت الأحوال مضطربة بسبب الاقتتال بين الأشراف على الإمارة، وتداولها بينهم وقد انعكس ذلك على الحالة العامة، ففي موسم حج عام 1111، حصلت مشاجرة بين المحمل الشامي والمحمل المصري تبودل فيها إطلاق الرصاص بين الفريقين في يوم عرفة.

ومن المؤكد أن هذه الأحوال قد أثَّرتْ على حالة الأمن لانقطاع الطريق وشُحِّ الغذاء، وهو الأمر الذي صوره الشيخ زين العابدين في قصيدته التي أوردناها آنفا

(2)

.

* * * *

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 581/ 584.

(2)

انظر تفصيل ذلك في كتاب خلاصة الكلام ص 198 وما بعدها.

ص: 185

‌قطع الطريق على الحجاج

ذكر ابن فهد في حوادث سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ما نصه:

وفيها نهبت بنو سليم حاج مصر والشام، وكانوا عَالَمًا كثيرًا وأخذ جميع ما كان معهم من الأموال، وكان مالًا لا حدَّ له، لأنَّ كثيرًا من الناس من أهل الثغور والشام هربوا خوفًا من الروم بأموالهم وأهليهم وقصدوا مكة ليسيروا منها إلى العراق فأخذوا وقتل أمير الركب وهلك من الناس ما لا يحصى، وتمزقوا في البراري، ولم يسلم إلا القليل، ورَدَّ على الحاج بعض ما أخذ منهم في السنة التي بعدها

(1)

.

‌العرب يضعون الحنظل في المياه للحجاج:

وقال ابن فهد أيضًا في حوادث سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وفيها أصاب حاج العراق رياح وأهوال، وطرحت العرب من خفاجة الحنظل في المياه فهلكوا عطشًا ثم أخذوهم ونهبوهم

(2)

.

‌أمير مكة محمد بن أبي هاشم ينهب أموال الحجاج:

وفي درر الفرائد، وفي سنة ست وثمانين وأربعمائة حج الناس من الشام، فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين، أرسل إليهم أمير مكة محمد بن أبي هاشم عسكرًا فلحقوهم بالقرب من مكة، فنهبوا كثيرًا من أموالهم وجمالهم، فعادوا مستغيثين به وأخبروه، وسألوه أن يعيد إليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بُعْدَ ديارهم فلم يغثهم بما فيه كبير جدوى، وأعاد بعض ما أخذوا منهم، فلما ايسوا منه عادوا من مكة على أقبح صفة، فلما بعدوا عن مكة، ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات، فضايقوهم على مال أخذوه من الحاج بعد أن قتل منهم

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 604/ 605.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 605.

ص: 186

جماعة وافرة، وهلك كثير بالضعف والانقطاع وعاد السالم منهم على أقبح صورة، وفي حالة عجيبة

(1)

.

‌نهب الحجاج بالحرم الشريف:

وفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة نهب أصحاب هاشم بن فليتة أمير مكة، نهبوا الحجاج بالحرم الشريف وهم يطوفون، وذلك لفتنة كانت هناك بين أمير الحج وبين هاشم أمير مكة، كذا في تحصيل المرام

(2)

.

أقول: وقعت الفتنة بين هاشم بن فليتة أمير مكة وبين أمير الحج العراقي فنهب أعوان أمير مكة الحجاج العراقين وهم يطوفون بالكعبة المعظمة.

وقد دامت ولاية هاشم بن فليتة بمكة إلى سنة 549، وقيل إلى سنة 559

(3)

.

‌أعراب بني زغب يقاتلون حجاج العراق وينهبونهم:

وفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة كان قيماز الأرجواني أميرًا للحاج العراقي، فلما وصل الحاج العراقي إلى مكة طمع أمير مكة فيهم واستزرى بقيماز - لعله يقصد أنه ازدراه واستضعفه - فطمع العرب ووقفوا في الطريق وبعثوا يطلبون رسومهم فقال قيماز للركب "المصلحة أن يعطوا ونكتفي شرهم" فامتنع الركب من ذلك فقال لهم: فإذا لم تفعلوا فلا تزوروا هذه السنة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغاثوا عليه فقالوا نمضي إلى سنقر فنشكوه، فسار بهم إلى أن وصلوا إلى مضيق بين مكة والمدينة، فخرج عليهم العرب من بني زغب بعد عصر يوم السبت الرابع عشر من المحرم من سنة خمس وأربعين وخمسمائة فقاتلوهم وتكاثر العرب وظهر عجز قيماز عنهم، فطلب لنفسه أمانًا، واستولوا على الحجاج فأخذوا من الثياب والأموال والحجاج ما لا يحصى وأخذوا من الدنانير ألوفًا كثيرة، فتحدث جماعة من التجار أنه أخذ من هذه عشرة آلاف، ومن هذا عشرون ألفًا، ومن هذا ثلاثون ألفًا، وأخذ من خاتون أخت مسعود ما قيمته مائة ألف دينار، وتقطَّع الناس وهربوا على أقدامهم يمشون في البرية، فماتوا من الجوع والعطش والعري، وقيل أن النساء طيَّنَّ أجسادهن لستر العورة، وما وصل قيماز إلى المدينة إلا في نفر قليل وتحملوا منها إلى البلاد، وأقام بعضهم مع العرب حتى توصل إلى البلاد.

كذا في أتحاف الورى في أخبار أم القرى

(4)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 607/ 608.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 608.

(3)

خلاصة الكلام ص 33.

(4)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 608/ 610.

ص: 187

‌القتال بين أمير الحج وصاحب مكة:

وفي سنة خمسمائة وست وخمسين حج الناس فحصلت فتنة وقتال بين صاحب مكة وأمير الحج فرحل الحجاج، ولم يقدر بعضهم على طواف الإفاضة.

قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف جَدَّتُه أمُّ أبيه، فأتت في العام المقابل وطافت وأحرمت بحجة أخرى وأهدت. انتهى.

ذكره أبو الفداء كذا في تحصيل المرام

(1)

.

‌عساكر مصر يخرجون أهل مكة من بيوتهم وينهبون القوافل:

وفي سنة تسعمائة واثنين وثلاثين ورد من مصر سليمان الريس متوجهًا إلى اليمن ومعه نحو أربعة آلاف عسكري جهزهم الوزير الأعظم إبراهيم باشا صاحب مصر لأخذ اليمن مددًا لمن سبق من الباشوات فوصلوا جدة في شهر رمضان من السنة المذكورة، وصار العسكر يتعرضون العرب بالنهب فانقطعت الميرة عن مكة بسبب ذلك، وحصل بها غلاء لذلك، ثم وصلت طائفة من العسكر إلى مكة وأخرجوا الناس من بيوتهم وسكنوها، وكثر أذاهم، فسلطت عليهم العربان وقتلتهم في طريق جدة، وأينما وجدوهم، إلى أن قتلوا تاجرين عظيمين من تجار مكة ظنًا بهم أنهم من العسكر فأمر الشريف حسن العربان بعدم القتل، لكن بعدما ألحَّ فيهم القتل، وامتلأ طريق جدة من رممهم، فبعث الشيخ الشيخ محمد بن عراق جماعته فدفنوا ما في الطريق من جثث القتلى، ولما كثر العسكر المذكور بمكة نصبوا بيارقهم بالمسجد الشريف من باب السلام إلى باب علي، فشكى الناس ذلك إلى الشيخ محمد بن عراق، فجلس الشيخ في المسجد ودعى الأمير خير الدين وبعض رؤساء العسكر ونهرهم وأمرهم بالخروج من بيوت الناس فأكبَّوا على رجليه يقبلونها وقالوا: قصدنا الحج ونتوجه فقال لهم: اذهبوا إلى منى، فإن بها بيوتًا خالية فاسكنوها، فامتثلوا أمره، وخرجوا إلى منى، وقتلوا بعض المسئولين منهم امتثالًا لأمر الشيخ محمد

(2)

.

‌القتال بين أمير الحج المصري وبين أهل ينبع:

في سنة سبعين ومائة وألف، كان أمير الحج المصري محمود درويش بك ابن دفتردار مصر سابقا، وحصل بينه وبين أهل ينبع قتال عظيم وقتل منهم كثيرًا، ونهب السوق وشال الحج وتوجه حين الوقعة، وكانت شديدة الحر ومات بها خلق كثير، وأيضًا مات من البهائم شيء عظيم.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 610/ 611.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 626/ 628.

ص: 188

وفي عودته من المدينة توجه الحج الشامي عن طريق الشرقية حتى طلع على - مُكُرَهْ - وحصل له مشاق كثيرة من الحرِّ وموت الخلائق والبهائم، ثم نهب الحج الشامي باجمعه حتى أنهم أخذوا المحمل عن آخره، واجتمعت عليه العربان من كل محل ومكان

(1)

.

‌قبيلة حرب تقطع الطريق وتقاتل أمراء الحج:

نقل الغازي عن تاج تواريخ البشر القصة التي أوردها السيد جعفر البرزنجي عن قبيلة حرب ومشايخها الذين كانوا يقطعون طريق الحجاج وينهبونهم ويقاتلون أمراء الحج نلخصها فيما يلي:

في حج سنة 1175 جمع شيخ مشايخ قبيلة حرب، عيد الظاهري الجموع الكثيرة من العربان حتى قيل أنه اجتمع معه نحو سبعين قبيلة من البادية كانوا يقطعون الطرق وينهبون الحجاج ويعيثون في الأرض فسادا وقد قام عيد الظاهري هذا بمتابعة الحج الشامي بمن معه من القبائل إلى أن وصلوا إلى تبوك فحصرهم فيها، وبقي الحجاج محاصرين بها مدة ستة عشر يوما وأرسل أمير الحاج الشامي يستنجد بأمير الشام ليرسل إليه فرقة من جنود الدولة العلية، ولكن والي الشام لم يسعف أمير الحج، ولم يستجب لطلب النجدة، وكانت الشام نفسها أحوالها غير مستقرة وعلم أمير الحاج الشامي أن طلبه لم يجب فقرَّر مغادرة تبوك بمن معه من الحجاج وغادرها في منتصف الليل وأحسَّت قبائل حرب بتحرك ركب الحاج الشامي فساروا خلفهم، فلما أحس أمير الحج أن الأعراب يحفُّون بالركب أمر بالتوقف لقتالهم ونشبت الحرب بين الطرفين، وقتل خلق كثير من الجانبين.

وحدث أن اعثرت فرس أمير الحاج فوقع إلى الأرض فظنَّ من حوله من الحجاج أنه قتل فشاع أمر مقتله بين الحجاج، فدب فيهم الجزع وانهزموا، وقتل غالبهم ونهب جميع متاعهم، وهتكت أستار المخدرات، وأسرت النساء والبنات أو تمزقوا كل ممزق.

يقول الراوي: وبلغ عيد الشقي العنيد ما أمَّله، واستحوذ هو وجنوده على جميع أموال الحجاج، وخيلهم ورجلهم، ورجع بالغنائم وتفرَّق من بقي من الحجاج في كل طريق.

أما أمير الحاج الشامي الذي ظن به القتل فقد لجأ إلى قرية قريبة واعتصم بها.

‌السلطان العثماني يهتم بالأمر:

وصلت أخبار هذه المقتلة التي وقعت من قبائل حرب على الحجاج إلى الاستانة، وصادف هذا تولي السلطان مصطفى الثالث بعد وفاة والده السلطان أحمد الثاني في عام 1171 فغضب السلطان واهتم بالأمر أعظم اهتمام، واستشار وزراءه فوقع الاختيار على الوزير عبد الله باشا الحسبه جي، نسبة إلى قرية من قرى ديار بكر، فأسند إليه السلطان ولاية الشام وإمارة

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 641/ 642.

ص: 189

الحج، ووصل الوالي الجديد وباشر مهام ولايته، ولما وصل إلى المدينة المنورة في طريقه إلى مكة أرسل إليه عيد الظاهري شيخ قبيلة حرب ابن عمه برسالة يقول فيها:

أنه مقيم على الطاعة للدولة العثمانية ويطلب من الوالي صرف العوائد المقررة له ولقبيلته، ومقدار هذه العوائد ألف قرش باسمه وخمسة آلاف باسم قبائل حرب، وأجاب الوالي على رسالة عيد هذا بأنه مسرور لإقامته على هذه الطاعة ووعده بصرف العوائد المقررة بعد عودته من الحج كما جرت العادة بذلك.

ولكن عيدًا لم يقبل من الباشا هذا التسويف وترددت الرسل بينه وبين الوالي دون جدوى، وتحرك الوالي من المدينة المنورة يقصد مكة بمن معه من حجاج الشام ولكن عيدًا ومع من معه من الأعراب كمنوا لهم في وادي الصفراء، وأرسل إليهم عيدًا رسوله يقول:

لا نسمح بمروركم حتى تصرفوا العوائد، ولم يستجب الباشا لطلبه، فقام عيد ومن معه بإطلاق الرصاص على العساكر والحجاج، وكان أمير الحاج مستعدًا لملاقاته فنشبت العركة بين الطرفين، ولم تمض ساعة ونصف الساعة إلا وكان قد قتل من قبائل حرب سبعين قتيلًا بينهم شيخهم عيد.

وأسر منهم عددٌ آخر، وتفرق جمع الأعراب، وواصل الباشا سفره إلى مكة الكرمة فبلغها في أمان، ولقي الباشا في مكة أميرها سعيد بن سعد بن زيد الذي أشار على الباشا بأن يسلك في عودته إلى المدينة المنورة طريق الفرع.

ولم تستسلم قبائل حرب للهزيمة التي نزلت بها فولوا عليهم ابن شيخهم القتيل في العركة.

وجمعوا القبائل من كل حدب وصوب، وقطعوا الدروب على سالف عاداتهم ورصدوا عودة الحج الشامي، فطمَّوا الآبار التي في الطريق، وغوَّروا المياه واستطاع أمير الحج الشامي الوصول بالركب إلى المدينة المنورة من الطريق الذي سلكه بأمان.

وبعد أن بقي بها ثلاثة أيام خرج لملاقاة قبائل حرب بعساكره فسار إليهم حيث كانوا بالخيف ونشبت بينهم معركة عظيمة استمرت ثلاثة أيام.

واستعملت فيها المدافع وهزمت قبائل حرب هزيمة منكرة قتل فيها شيخهم ابن عيد وأربعة عشر من مشايخ القبائل المشاركة في القتال وعاد الباشا إلى الشام مكللًا بالنصر بعد أن عين شيخًا لقبائل حرب ممن يدينون بالطاعة والولاء للدولة العثمانية وكانت هذه الوقعة في عام 1176.

يقول الشيخ الغازي: وقد أفرد لها تاريخًا الفاضل السيد جعفر البرزنجي لخصت منه القصة سماه "البعث الفرجي".

ونقل الغازي ذلك عن تاج تاريخ البشر للحضراوي

(1)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 642/ 650.

ص: 190

‌الدولة العثمانية تمنع بيع الرقيق في الحجاز

في سنة ألف ومائتين واثنين وسبعين صدر الأمر من الدولة العثمانية إلى كامل باشا والي جدة يمنع بيع الرقيق في جدة ومكة، وأبلغ والي جدة ومكة بهذا الأمر، وكان هذا الأمر تنفيذًا لاتفاق بين الدولة العثمانية وبعض الدول الغربية

(1)

.

جمع قائم مقام الوالي بمكة دلالي الرقيق وأبلغهم الأمر الصادر بمنع الرقيق من الدولة العثمانية.

اضطرب الناس في مكة لذلك واجتمع جماعة من طلبة العلم عند رئيس العلماء الشيخ جمال، محتجين بأن هذا المنع يخالف الشرع الذي أجاز بيع الرقيق واتفق رأي المجتمعين أن يذهبوا إلى قاضي الشرع بمكة ويخبروه باعتراضهم ليقوم القاضي بإبلاغ الوالي كامل باشا بذلك، ليتولى هو مراجعة الدولة في الأمر.

وفي مسيرة المعترضين إلى القاضي تجمَّعت معهم جموع من العامة والغوغاء حتى وصلوا إلى بيت القاضي ففزع لرؤية الجموع الغفيرة فدخل هاربًا منهم إلى بيت الحريم.

ازداد هيمان الناس واضطرابهم، ورأى عساكر الضابطية في دار الحكومة تجمع الناس وهيجانهم، وكان بعضهم يحمل السلاح وينادي بالجهاد فقام العسكر من جانبهم بمواجهة هذه الجموع، وتطوَّر الأمر إلى إطلاق الرصاص من الجانبين وثارت بسبب ذلك فتنة عظيمة في أسواق مكة وطرقاتها، وتبادل العسكر وبعض الناس إطلاق الرصاص في المسجد الحرام، وقتل بعض الناس من جرَّاء هذه الفتنة العمياء.

‌شريف مكة يتدخل لإطفاء الفتنة:

فزع الناس إلى الشريف منصور بن الشريف يحيى بن سرور في داره وأخبروه بواقع الحال، فأمر مناديًا ينادي في مكة يأمر الناس بالكف عن القتال والهدوء، وأمر العساكر

(1)

انظر ما كتبه السباعي في تاريخ مكة ص 532/ 534.

ص: 191

بالرجوع إلى القلعة والبقاء فيها، وقام الشريف عبد الله بن ناصر بإدخال بعض العساكر في دار الشريف محمد بن عون، وتم إطفاء الفتنة

(1)

.

أقول: أن الرقيق الذي أباح الشرع بيعه هو الرقيق الذي يسلبه المسلمون في حرب جهادية، أما الرقيق الذي كان منتشرًا التداول فيه بالبيع والشراء، فلم تكن تنطبق عليه هذه الشروط، لأنَّ هؤلاء الأرقاء كان يسرقون من ديارهم وأهليهم ويؤخذون ليباعوا في البلاد الأخرى، وكان الواجب على القاضي الاستماع إلى الناس بدلًا من الهرب منهم.

وكان الواجب على العلماء إرشاد الناس إلى حقيقة الوجه الشرعي في الأمر ومعالجة المسألة بالهدوء والحكمة، فقد كان بيع الرقيق وشراءه منتشرًا منذ عشرات السنين، والناس تدفع فيه الأموال الكثيرة وهم يظنون أنه بيع شرعي لا شبهة فيه وكان يجب التمهيد لذلك بإظهار حقيقة حكم الشرع في هذا الأمر، وتحبيب الناس القادرين على عتق الرقيق الذي يملكونه.

وإلى جانب ذلك ترصد الدولة مبلغًا من المال لتعويض الناس أثمان رقيقهم وتتولى هي عتق الرقيق، كما فعلت الحكومة السعودية في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، في حوالي سنة 1383 هـ وبذلك وضعت نهاية لبيع الرقيق وشرائه وخلصت البلاد من هذه العادة السيئة واللا إنسانية.

(1)

نفس المصدر ص 650/ 653.

ص: 192

‌ثورة القبورى بمكة

في شهر شوال من عام ألف وثلاثمائة وست وعشرين حدثت بمكة فتنة كادت أن تفضي إلى محنة عظيمة وخلاصة أسبابها أن الدولة العثمانية كلفت أحمد القبوري - وهو الذي كان يتولى حفر القبور للموق ودفنهم - بتعمير الجدار المحيط بالمقابر منعًا لرواد القهاوي المحيطة بمقبرة المعلاة من استعمال هذه القبور لقضاء حاجاتهم، كما أُمر القبوري باعمار القبور المتهدمة، وأن يصرف على بناء الجدار وعمارة القبور المتهدمة مما يستوفيه من الناس الذين يدفنون موتاهم.

وعمد أحمد القبوري إلى زيادة ما يتقاضاه على عمله زيادة كبيرة وشاع بين الناس أن الحكومة فرضت للقبوري خمسة ريالات مجيدية على كل قبر يأخذ منها لنفسه ريالًا واحدًا ويستعمل الريالات الأربعة لبناء الجدار وتعمير القبور.

وجاءت جنازة أحد الفقراء من التكارنة، فلما طالبهم القبوري بالمبلغ، امتنعوا وتضاربوا وقصدوا إلى دار الحكومة بالحميدية، واغتنم السفهاء من الناس هذه الفرصة فانضموا إلى القوم وساروا من المقبرة إلى دار الحكومة وهم يصيحون باطل، باطل، أن تفرض الحكومة ضريبة على دفن الموتى مقدارها خمسة ريالات، وسارت جموع الناس محتجين إلى دار الوالي، وحينما سمع الوالي بالأمر نفى أن يكون قد أصدر أمرًا بذلك، ولكن الغوغاء أشاعوا الفتنة والاضطراب، وهجموا بالسلاح على دار الحكومة وعلى بعض المواقع العسكرية، وجرى إطلاق الرصاص فيما بين الصفا وباب الوداع بالمسجد الحرام، وقتل في هذه الموقعة بعض الأهلين وبعض العساكر، ولم تخمد الفتنة إلا بعد أن تدخل بعض الأشراف ووكيل الإمارة لإخمادها، وشارك في ذلك بعض أعيان مكة.

وقامت الحكومة بالقبض على أحمد القبوري، وعشرين من أعوانه، واتهم محمد علي بن عبد الواحد الذي كان كاتبا للشريف عون أولًا، ثم كاتبًا للشريف علي في مدة إمارته، اتهم

ص: 193

بأن له يدًا في تدبير هذه الفتنة، فقبض عليه، ونفي هو والقبوري وأعوانه إلى الاستانة وسجنوا هناك مدة، وقد توفي محمد علي عبد الواحد في الاستانة، ثم رحل القبوري وجماعته إلى بيروت لمحاكمتهم بها، ثم أطلق سراحهم وعادوا إلى مكة بعد سنة من ترحيلهم عنها

(1)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 653/ 656.

ص: 194

‌الضرائب على الحجاج

كان أمراء مكة قد فرضوا لأنفسهم ضرائب نقدية يتقاضونها من الحجاج القادمين إلى مكة للحج أو للعمرة، وكانت هذه الضرائب تستوفى بميناء عيذاب من الحجاج القادمين عن طريق البحر، ومن لم يُؤَدِّ هذه الضريبة منهم تستوفى منه في مدينة جدة حين وصوله إليها، وكان مقدار الضريبة سبعة دنانير مصرية على كل إنسان وتمَّ ابطال هذه الضرائب في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي ولذلك قصة ذكرها مؤرخو مكة قالوا:

أن الشيخ علوان الأسدي الحلبي حضر إلى جدة للحج، فلما وصل إلى جدة طولب بالضريبة فامتنع وأراد الرجوع من حيث أتى، ويبدو أن الرجل كان اسمه معروفًا، فخشي وكيل الأمير مكثر بن عيسى صاحب مكة من العاقبة، واستمهل الشيخ علوان، حتى يبلغ الأمير بأمره، وحينما أبلغ مكز بذلك، أمر بإعفاء الشيخ ومن معه جميعًا من الضريبة، ولما وصل الشيخ علوان إلى مكة اجتمع به الأمير مكثر وقال له:

أننا مضطرون لفرض هذه الضرائب لأن واردات مكة لا تفي بالمصاريف اللازمة لها فكتب الشيخ علوان إلى السلطان صلاح الدين بالأمر، فأمر السلطان صلاح الدين بإبطال الضرائب لقاء أن يرسل إلى مكة في كل عام ألفين من الدنانير وألفي أردب قمح، وقيل مقابل ثمانية آلاف أردب من القمح، وقيل إن الذي فرض هذه الضريبة لأمير مكة على حجاج المغرب الخلفاء العبيديون الذين تولوا الخلافة بمصر

(1)

.

وربما كانت هذه الضريبة من الدنانير على الحجاج، فقد ورد أنه كانت هناك ضرائب أخرى تؤخذ بمكة من الحب والتمر والغنم والسمن، ورفعت هذه الضرائب في زمن السلطان حسن بن قلاوون صاحب مصر، يقول الفاسي في شفاء الغرام:

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 661/ 662.

ص: 195

وفي سنة ستين وسبعمائة رسم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسن بن قلاوون بإسقاط المكوس من مكة، ورتَّب لصاحب مكة ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال بمصر وألف أردب حبَّ، وقرر ذلك في ديوان السلطان المذكور وأمضى ذلك الولاة بالديار المصرية إلى تاريخه، وكتب بذلك في أساطين المسجد الحرام جهة باب الصفا وغيره، فطابت نفس أمير مكة المشرفة وعمل به هو ومن بعده من أمراء مكة. انتهى

(1)

.

‌بيان المكوس المقررة:

وأورد الغازي نقلًا عن كتاب المنتقى بيان المكوس التي كانت تؤخذ على البضائع الواردة إلى مكة المكرمة على الصورة التالية: مُدُّ حَبِّ جُدِّي، وهو مُدَّانِ مكيين من كل جمل حب يصل من جدة، ومُدُّ مكي وربع مكي من كل جمل حب يصل من جهة الطائف وبجيلة، وثمانية دنانير مسعودية على كل جمل من التمر واللبان الذي يصل إلى مكة، وثلاث دنانير مسعودية على كل شاة تصل إليها، وسدس ثمن ما يباع بمكة من السمن والعسل والخضر، وذلك بأن يحصي ثمنها مسعودية فإذا عرف أخذ على كل خمسة دنانير دينار مسعودي من ثمن سلة التمر إذا بيعت بالسوق من الذي باعها.

قالوا: أن الذي نبه الملك الأشرف إلى ما يعانيه أهل مكة من هذه المكوس هو الأمير بلبغا المعروف بالخاسكي مدير المملكة الشريفة في دولة الملك الأشرف حيث نبهه إلى ذلك بعض أهل الخير.

ويقول البتنوني في الرحلة الحجازية:

أن بعض أمراء مكة عمدوا إلى الأساطين المنقوش عليها إبطال هذه المكوس فكسوها بعجينة من الجبس حتى لا يقرأها الناس

(2)

.

‌الملك الأشرف يضاعف النقود لأمير مكة:

وفي درر الفرائد ما يلي:

وفي سنة سبعمائة وتسع وستين اتفق الحال مع الشريف عجلان صاحب مكة أن يرتب له من بيت المال في كل سنة مائة وستون ألف درهم - نقره - تحمل إليه من مصر، وألف أردب قمح، ويترك الجَبَا من مكة في كل ما يؤكل ويجلب إليها من الحبوب والخضروات والثمار والغنم والخشب والسمن والعسل، وأشهد على نفسه بذلك وكتب ثلاث محاضر يجعل واحد بمكة وواحد بالمدينة، وواحد بقلعة الجبل بالقاهرة، وقيد ذلك في ديوان الأشرف شعبان وأمضى الولاة بعد ذلك إلى أن انقطع. انتهى

(3)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 661/ 662

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 663/ 665.

(3)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 666/ 667.

ص: 196

‌الشريف حسن بن عجلان والقاضي شهاب الدين المحلي:

وفي أتحاف الورى أنه في سنة ثمانمائة وأربع حصل للسيد حسن بن عجلان خمسة وستون ألف مثقال وأزيَدْ فيما قيل عن القاضي شهاب الدين أحمد بن القاضي برهان الدين المحلي، وجماعة من تجار الكارم، لأن المركب الذي كانوا فيه - انصلح - بمقربة من مكة فأعطوه هذا المقدار عن الربع الذي يأخذه ولاة البلد فيما ينصلح في بلادهم من الجلاب.

واشتد غضب القاضي برهان بن المحلي بسبب ذلك على السيد حسن وسعى في إرسال شخص من خواص السلطان بمصر يطالبه بذلك فوصل إليه في آخر رجب، وبلغ رسالته، فاعتذر بتفرق ذلك من يده، ووعده بالخلاص وماطل

(1)

.

وفي الأعلام:

أن السلطان أبو الفتح سيف الدين قطز الظاهري، قرر لصاحب مكة الشريف حسن بن عجلان ألف دينار ذهبي تحمل له من خزينة مصر في كل عام، مقابل ترك المكس على الخضرة والفواكه والحبوب وغيرها بمكة، وأمر أن يكتب عهده واعترافه بذلك على سواري المسجد الحرام من ناحية باب السلام ومن ناحية باب الصفا، والسواري المكتوبة بهذا العهد موجودة في المسجد الحرام إلى الآن. انتهى

(2)

.

‌السلطان قايتباي يبطل المكوس بمكة:

وفي الأعلام ما يلي:

وفي أول ولاية السلطان قايتباي أرسل إلى مكة مراسيم تتضمن بإبطال جميع المكوسات والمظالم، وأن ينقر ذلك على اسطوانة من أساطين الحرم الشريف في باب السلام.

‌مراكب الهند تتحول من عدن إلى جدة:

كانت مراكب الهند التي تحمل البضائع إلى جدة تصل أولًا إلى ميناء عدن وتفرغ بضاعتها فيه، ثم تنقل هذه البضائع في الجلاب - المراكب الشراعية - إلى جدة.

وفي سنة ثمان وعشرين وثمانمائة بلغ صاحب مصر وصول مراكب من الهند إلى بندر جدة، فأحبَّ أخذ مكوسها فبعث بعض مسالمة القبط سعد الدين بن المرة فقدم مكة، وصادف وصول أربعة عشر مركبًا موسوقة بضائع من الهند فأخذ منها العشر وهذا أول ما أخذ العشر لصاحب مصر بجدة.

وسبب تحول مراكب الهند من عدن إلى جدة كثرة الظلم عليهم في عدن فتركوه وصاروا يفدون إلى بندر جدة، فاستمر بندر جدة يعمر ويتلاشى أمر عدن إلى أن ضعف بسبب ذلك صاحب اليمن وقلَّ مدخوله، وضعف متحصله.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 667/ 668.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 668/ 669.

ص: 197

‌حصيلة الضرائب بجدة تنقل إلى مصر:

وكان المتحصل في هذه السنة من عشور بندر جدة ما ينوف على سبعين ألف دينار ذهب حملت إلى خزينة مصر

(1)

.

‌السلطان الأشرف برسباي أول من فرض المكوس بجدة:

ونقل السنجاري عن ابن فهد أن السلطان الأشرف برسباي هو أول من فرض العشور بجدة في سنة 884، وأورد الخبر عن وصول المراكب الهندية وعددها أربعة عشر مركبًا موسوقة بالبضائع من الهند، وكان قائد المراكب الهندية إبراهيم الناخودة، وأرسل السلطان مع سعد الدين بن إبراهيم الذي تولى استلام الغشور الأمير رأس نوبه أونبغا وشاد الديوان شاهين العثماني.

يقول ابن فهد:

وصار قطر جدة وظيفة سلطانية يخلع على متولِّيها ويتوجه إليها في كل سنة أوان ورود المراكب إليها متولٍّ جديد، يأخذ ما على التجار من العشور، ويحضر بها إلى القاهرة، وبلغ ما حمل إلى الخزانة من ذلك سبعين ألف دينار ذهب.

وقد علَّق القطب الحنفي على ما ذكره ابن فهد فقال:

وزادت هذه المظلمة في زماننا حتى صاروا يأخذون من الوارد ما يزيد على العشر بكثير.

وعلَّق السنجاري على ذلك فقال:

وفي زماننا هذا زادت زيادات كثيرة وصار صاحب جدة يأخذ ما يريد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، انتهى ما في تاريخ السنجاري

(2)

.

أقول: ذكر ابن اياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور شيئًا عن المكوس التي فرضها السلطان برسباي على جدة، فذكر أنها كان في سنة 828 وليس في سنة 884 كما ذكر ابن فهد لأن برسباي تسلم السلطنة سنة 825

(3)

.

‌تعليق ابن فهد على فرض المكوس:

قال ابن فهد بعد ذكر هذه الواقعة:

فجاء للناس ما لا عهد له - به - قبله، فإن العادة لم تزل من قديم الدهر، في الجاهلية والإسلام أن الملوك تحمل الأموال الجزيلة إلى مكة لتصرف في أشرافها ومجاوريها فانعكست الحقائق وصار المال يحمل من مكة ويلزم أشرافها بجمله.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 670.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 670/ 671.

(3)

بدائع الزهور ج 2 ص 96/ 103.

ص: 198

‌سلاطين المماليك يأمرون التجار بحمل البضائع إلى مصر:

ويواصل ابن فهد تعليقه فيقول:

ومع ذلك منع التجار أن يسيروا في الأرض، ويبتغوا من فضل الله، وكلفوا أن يأتوا إلى القاهرة حتى يؤخذ منهم المكوس على أموالهم، فإنه في هذه السنة في أيام الموسم منع التجار أن يتوجَّهوا من مكة إلى بلاد الشام بما ابتاعوه من أصناف تجارات الهند، وألزموا أن يسيروا مع الركب إلى مصر، حتى يؤخذ منهم مكوس ما معهم، فتوجهوا مع الحاج فلما نزل الحاج (بركة الحاج) خارج القاهرة - خرج مباشروا الخاص وأعوانهم واستقفوا تفتيش محاير القادمين من الحجاج والتجار وأحمالهم وأخرجوا سائر ما معهم من الهدية، وأخذوا المكوس، حتى أخذوا من المرأة الفقيرة مكس النطع الصغير عشرة دراهم مكوس. انتهى

(1)

.

‌منادي السلطان في عرفات:

ونقل الغازي عن درر الفرائد ما يلي:

ومن الغرائب إظهار النداء في يوم عرفة بالموقف الأعظم لجميع الناس عامة، من اشترى بضاعة للبحر وسافر بها إلى غير القاهرة حلَّ دمه وماله للسلطان.

فسافر التجار القادمين من الأقطار مع المركب المصري، ليؤخذ منهم مكوس بضائعهم بها ثم إذا سافروا من القاهرة إلى بلادهم يؤخذ منهم المكوس بالشام أيضًا، وغيرها فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. انتهى، وكان ذلك في سنة ثلاثين وثمانمائة كما ذكر ابن فهد

(2)

.

‌السلطان يخصص لشريف مكة ثلث مكوس المراكب الهندية:

وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول سنة ثمانمائة واثنين وثلاثين وصلت المراسم من الأشرف صاحب مصر بالإنعام على مولانا الشريف بركات بن حسن، ثلث ما يتحصل من عشور المراكب الهندية، وأن الثلثان - الثلثين - يحملان إلى الخزانة فحصل للشريف بذلك غاية السرور

(3)

.

‌مضاعفة المكوس على بضائع اليمن:

وفي سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة كتب السلطان صاحب مصر بأن يؤخذ من التجار الشاميين والمصريين إذا وردوا جدة ببضائع اليمن عشران - عشرين - أي تضاعف المكوس عليهم وأن من قدم إلى جدة من التجار اليمنيين ببضاعة، تؤخذ بضاعته بأجمعها للسلطان من غير ثمن

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 672/ 674.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 674.

(3)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 675.

ص: 199

يدفع له عنها وسبب ذلك أن تجار الهند في هذه السنين صاروا عندما يعبرون من باب المندب، يجوزون عن بندر عدن حتى يرسوا بساحل جدة، فاقفرت عدن من التجار، وضعف حال ملوك اليمن لقلة متحصله، وصارت جدة هي بندر التجار، ويحصل لسلطان مصر من عشور التجار الواردين من الهند عشر بضائعهم، ويؤخذ من العشور رسوم تقررت للناظر، والشاد، وشهود القبان والصيرفي ونحو ذلك من الأعوان وغيرهم.

وصار يحمل من قبل سلطان مصر مرجان ونحاس، وغير ذلك مما يحمل من الأصناف إلى بلاد الهند فيطرح على التجار، ويتشبه به في ذلك غير واحد من أهل الدولة، فضاق التجار بذلك ذرعًا، ونزل جماعة منهم في السنة الماضية إلى عدن فتنكر السلطان بمصر عليهم لما فاته من أخذ عشورهم، وجعل عقوبتهم أن من اشترى بضاعة من عدن، وجاء بها إلى جدة أن كان من الشاميين أو المصريين أن يضاعف عليه العشر بعشرين، وإن كان من أهل اليمن تؤخذ بضاعته بأسرها.

‌الشريف بركات يتدخل لإبطال المرسوم:

ويواصل الشيخ الغازي حديثه نقلًا عن إتحاف الورى فيقول:

فمن لطف الله تعالى بعباده أنه لم يعمل بشيء من هذا الحادث لكن قرئت هذه المراسم تجاه الحجر الأسود، فراجع السيد بركات أمير مكة السلطان صاحب مصر في ذلك، حتى عفى من التجار، وأبطل مارسم به، كذا في أتحاف الورى

(1)

.

‌السلطان يمنح الشريف بركات نصف العشور:

وفي سنة ثمانمائة وأربعين وصل قاصد من مصر للسيد بركات ومعه كتاب من صاحب مصر، مذكور فيه أنه أنعم عليه بنصف عشور جدة من المراكب الهندية.

‌السلطان ينقص حصة أمير مكة:

وفي سنة ثمانمائة وثلاث وأربعين وصلت مراسم تتضمن أن جميع الجلاب الواصلة من البحر إلى جدة من سائر البلاد ليس لصاحب مكة من عشرها إلا الربع وثلاثة الأرباع تحمل إلى مصر.

‌تركات المتوفين للسلطان:

وأن جميع ما مات بمكة من غير أهلها ليس لصاحب مكة من تركته شيء، وكله لصاحب مصر وأن صاحب مكة ليس له إلا تركة من مات من أهل مكة.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 675/ 677.

ص: 200

‌السلطان يعفي الشريف بركات من تقبيل خف المحمل:

وأن السلطان قد أعفى السيد بركات من تقبيل خُفِّ المحمل الذي يأتي بالمحمل، فشكر ذلك من فضل السلطان.

‌العشور يؤخذ صنفًا لا مالًا:

وأن لا يؤخذ من التجار الواردين غير العشر فقط، يؤخذ صنفًا لا مالًا من كل عشر وأن يبطل ما كان يأخذه غير العشر من الرسوم - كذا في تاريخ السنجاري -

(1)

.

‌التجار المصريون يزاحمون تجار مكة:

وذكر ابن فهد ما أورده السنجاري وزاد عليه أن السلطان أمر بمنع الباعة من المصريين الذين سكنوا مكة، وجلسوا بالحوانيت في المسعى وحكروا المعاش، وتلقوا الجلب من ذلك وأن يخرجوا من مكة، فشكر ذلك أيضًا وشكر السلطان أو الناس ذلك، لعل صحة الجملة - وشكر الناس للسلطان ذلك - لأن هؤلاء البياعين كثر ضررهم، وتقووا بحماية المماليك لهم فغلت الأسعار، وأحدثوا بمكة أحداثًا لم يعهد لها وعجز الحكام عن منعهم لتقوية المماليك المجردين لهم بما يأخذوا منهم من المال. انتهى

(2)

.

‌السلطان يصدر مراسيم تتعلق بالرسوم والتركات:

وفي أتحاف الورى:

وفي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة، ثاني عشر ذي القعدة، وصل إلى مكة المشرفة نائب جدة قُرْأغا عتيق أروادار الكبير جاني بك، ومعه مراسم للشريف محمد بن بركات، وقاضي القضاة برهان الدين الشافعي كمال الدين، وباش الترك قايتباي فدخلوا جميعًا إلى المسجد الحرام وجلسوا بالحطيم، فقرئ مرسوم الشريف ثم القاضي برهان الدين، ثم أخيه، ثم باش الترك، وتاريخ المراسيم رابع عشر شوال من السنة، ومضمونهم واحد هو:

أن الواصل إلى مكة من المرجان وغيره من بضائع الهند لا يترك شيء منه يذهب به إلى اليمن، حتى لا تبقى المراكب الهندية تدخل اليمن.

والواصل من اليمن من بضائع الهند يكون بين السلطان وبين الشريف نصفين، ولم تجر بذلك عادة قبل ذلك، بل كان ذلك مما يختص بالشريف ومن مات بجدة ومكة ولم يكن له وارث يكون من أشرفي إلى ألف للشريف، وما فوق ذلك للسلطان، ومن مات وله وارث غائب لم يختم على مال الميت القاضي على العادة بل ذلك إلى نائب جدة قُرْأغا، والفلفل الواصل إلى جدة من الهند يؤخذ منه للسلطان بسعر العام الماضي والذي قبله، ولا يعارض نائب جدة في شيء مما يريده، والمتوجه عليه فإنه من المقربين انتهى

(3)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 679/ 680.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 679/ 680.

(3)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 680/ 681.

ص: 201

‌العطارون والبزارون يعتصمون بمكة:

وفي سنة ست وثلاثين وألف ثامن عشر عاشوراء، عزَّل من السوق جميع العطارة والبزارة، ودخلوا على ضريح السيد نعمة الله القادري، نزيل شعب عامر، وسبب ذلك أن كل شريف من الأشراف استخرج رجلًا منهم على قواعدهم أنه رِجَّالُه وأنه إليه في قواعدهم أن كل ما أراد شيئًا أخذه منه، وان امتنع تصرَّف فيه بكل ما يختار، وما أحد يعارضه، ولا صاحب، حتى أن شريفا يقال له عبد المعين بن حسن، نادى على ابن عبد الله شلبي وطلب منه بعض شيء من المعاملة فامتنع، فسلَّ سيفه عليه وتهدَّده، فخاف على نفسه، وألقى بنفسه من طاقة في بيت الشريف فانكسرت رجله.

وفي ظهر ذلك اليوم نادى منادي الشريف، في حال العطارة والبزارة بأنهم رعية الله، ورعية السلطان أحمد، ورعية ملك مكة، يبسطون دكاكينهم، ليس لأحد من الأشراف يتعرضهم فبسطوا، ثم أرسل شريف من ذوي عبد الله، يقال له زين العابدين لرجل من العطارة، وناداه وأظهر وصلا من الشريف يتضمن بأنه رجَّالُه، فقال العطار أنا رعية السلطان ورعية الشريف فضربه على فمه وفوق رأسه، حتى أدمى وجهه وحبسه، ولا فُكَّ حتى أخذ منه شيئا.

فاجتمعت العطارة والبزارة، ومضوا إلى شيخ الجماعة فاستنظرهم ثلاثة أيام، فلم يجدوا عنده جوابًا شافيًا فعرفوا بطلان المناداة الأولى، وهذه سالفة بين الأشراف لا يمكن قطعها.

وفي هذه المدة فقد من السوق كل شيء، وطلعت الأسعار، وزاد العيار، ولا في السوق إلا الفول والزيت الحار فقلت:

كل شيء عز نائله

فهو مفقود ومجهول

بسوقنا حيث الغلاء به

ليس إلا الزيت والفول

كذا في إتحاف فضلاء الزمن

(1)

.

‌شاعر يصف خطباء العصر في مكة:

شكى المنبر المكي جَوْرَ أئمة

عليه بأنواع المواعظ يلعبوا

وقال آلهي أنت أدرى بحالهم

يقولون ما لا يفعلون ويكذبوا

وقال آخر:

لقد كانت الخطبة فيما مضى

لمن له في العلم أوفى نصيب

حتى اضمحلت بأناس اتوا

من فارط الجهل بشيء عجيب

فصار من قلة عقل الفتى

وجهله أن قيل هذا خطيب

هذا الشعر قيل في إمام خطب في مكة سنة سبع وثلاثين ومائة وألف نقلًا عن إتحاف فضلاء الزمن

(2)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 637/ 639.

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 639/ 641.

ص: 202

‌السماط

قال العلامة جعفر اللبني رحمه الله في شرح رسالة ابن زيدون: السماط من الطعام ما يُمَدُّ عليه، والعامة تضم السين وهو في عرف أهل مكة ومن قرب منهم، طعام يجمع أنواع المأكولات الموجودات يومئذ في البلد من حلو وحامض، ومن فواكه ويجلب إليه ما يمكن جلبه من أقرب المحلات ويُصفُّ على أشكال مخصوصة، لهم فيها اصطلاحات يصنع في الولائم العظام، ويعرف أوضاعه أساتذة لهم مهارة فيه، وهي عادة قديمة في مكة وإذا قَصَرَ عن بعض الأطعمة سمي طرافة أو نصف سماط. انتهى

(1)

.

‌إقامة الصلاة في المسجد الحرام بأئمة أربعة:

نقل السنجاري عن التقي الفاسي:

أن الصلاة في المسجد الحرام كانت تقام بأئمة أربعة على المذاهب الأربعة، ويقول التقي الفاسي عن ذلك:

وأما حدوث صلاة هذه الأئمة الأربعة على هذه الصيغة لا أعلم في أي وقت كان، ثم نقل ما يدل على أن الحنفي والمالكي كانا موجودين مع الشافعي سنة أربعمائة وسبع وتسعين، وأن الحنبلي لم يكن موجودًا، وأنما كان أمام الزيدية.

ثم قال: ووجدت ما يدل على أن الحنبلي كان موجودًا في عشر الأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى

(2)

.

‌محمل الحج وتاريخ المحامل:

ذكرنا في الجزء الثالث من أعلام الحجاز شيئًا من المحامل التي كانت تصل بحجاج الأقطار الإسلامية إلى مكة، وقد أورد الشيخ الغازي معلومات أخرى رأيت إضافتها إلى ما سبق ذكره

(3)

.

(1)

هامش المجلد الثاني إفادة الأنام صفحة (9).

(2)

إفادة الأنام مجلد 2 ص 15/ 16.

(3)

راجع أعلام الحجاز ج 3 ص 30/ 32.

ص: 203

‌جاء في كتاب الكنز المدفون للسيوطي:

أن أول من أحدث المحامل في طريق مكة شرفها الله الحجاج بن يوسف الثقفي، وذكر صاحب درر الفرائد: المحامل أربعة، العراقي، والمصري، والشامي، واليمني، وحج في بعض السنين الحلبيون بمحمل، وحج آخرون بمحامل في سنين مختلفة.

‌المحمل العراقي:

كان الحمل العراقى أعظم المحامل في وقته، لأن الخلافة الإسلامية كانت في مدينة بغداد عاصمة العراق، وان معوَّل أقاليم الإسلام على ما يصدر منها، ويرد إليها

الخ.

ثم قال:

ولقد اعتنى أبو سعيد بن خدابنده بأمر حاج العراق عناية تامة، وغشى المحمل بالحرير ورصَّعه بالذهب واللؤلؤ والياقوت، وأنواع الجواهر الأخرى التي بلغت قيمة الحلية فيه (250.000 دينار) من الذهب المصري أو (125.000 جنيه) وجعل للمحمل خزًا يسبل عليه إذا وضع، ولما تقفص ظل الخلافة عن طريق العراق، وآل الأمر إلى الملوك المتغلبين من الأمراء والأعيان.

ضعف شأن المحمل العراقي فكان العربان يستهترون بركبه، وكثيرا ما اعتدوا عليه.

وفي سنة 631 رجع الحج العراقي إذْ طَمَّ عرب الاجاورة الآبار، واختلف الحجاج مع العربان حتى ضاق الوقت، وفي السنوات 633: 636، وسنة 639 لم يحج العراقيود لدخول التتر بغداد، ثم صار المحمل العراقي يجيئ مرة وينقطع أخرى إلى القرن التاسع الهجري

(1)

.

‌السلطان سليم أول من رتب إرسال الغلال إلى مكة والمدينة:

نقل الغازي عن إبراهيم رفعت باشا في مرآة الحرمين، أن السلطان سليم هو أول من رتَّب صدقة الحب لأهل الحرمين ففي سنة 924 وصل من السويس إلى جدة سفائن تحمل سبعة آلاف أردب من القمح جهزها خاير بك نائب السلطنة بمصر منها ألفين أردب لأهل المدينة، والخمسة الباقية لأهل مكة، وأخذ سلاطين آل عثمان يزيدون هذه الصدقات كلما تولى سلطان جديد، حتى وصلت إلى أثنى عشر ألف أردب لمكة، وثمانية آلاف لأهل المدينة

(2)

.

‌أول من أرسل صرة النقود إلى مكة المقتدر العباسي:

وفي مرآة الحرمين، أن أول من أرسل صرة النقود إلى الحرمين المقتدر بالله العباسي سنة 320 هجرية، ثم تبعه الأمراء والخلفاء كل يزيد منهم على سلفه ما يليق بكرم نفسه، وأول

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 28/ 30.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 42/ 53.

ص: 204

من جهز صَرَّ النقود إلى مكة من سلاطين آل عثمان السلطان محمد خان بن السلطان يلدرم خان، وكانت ترسل من بلاد الروم قبل تولي آل عثمان أمر الحرمين، واقتفى أثره ولده السلطان مراد خان فكان يرسل أضعاف ما أرسله أبوه، فالسلطان بايزيد خان ضاعف الصدقة.

ولما آل الأمر إلى السلطان سليم خان أرسل الصدقات أضعاف ما كان يرسله أبوه

(1)

.

وقال ابن فهد في حوادث سنة ست وثلاثمائة ما يلي:

وفي أيام المقتدر بالله وهي من سنة خمس وتسعين ومائتين إلى أواخر سنة عشرين وثلاثمائة في وزارة حامد بن العباس، رتَّب علي بن عيسى بن الجراح لأن يحمل إلى الحرمين الشريفين وإلى المجاورين بهما، والى أرباب الوظائف بمكة والمدينة في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار وخمسة آلاف دينار وأربعمائة وستة وعشرين دينارًا.

هكذا قال الإمام السروجي في باب زكاة المال من كتاب الغاية في شرح الهداية

(2)

.

‌السلطان نور الدين الشهيد أول من أرسل الطواشية إلى المدينة:

نقل الغازي عن أتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن ما يلي:

وفي سنة خمسمائة وسبع وخمسين حسَّنوا للسلطان نور الدين الشهيد أن يرسل بعض خدم طواشيته إلى المدينة المنورة، ليكونوا سدنة لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرمه المحترم فاستحسن ذلك إلا أنه قال:

كيف نعمل شيئًا ما سبقنا عليه أحد من الخليفة - الخلفاء - قبلنا، فلم يزالوا به حتى وافقهم على ذلك، فجعل اثنا عشر طواشيًا لا غير، وشرط أن يكونوا حُفَّاظًا للقرآن، ولربع العبادات لذلك

(3)

، وأن يكونوا أحباشًا فإن لم يكونوا فأروامًا، فإن عُدِمُوا فتكارنة، وإن لم يوجد فهنود، واستمر الأمر مستقيما مدة، ثم ما زال فقْدَ شيء بعد شيء، حتى صار الآن من الهنود، وصاروا عامية ليسوا بأهل علم، وكانوا اثنا عشر فعادوا فوق الأربعين، فسبحان من يغير ولا يتغير، وأنكروا علماء المدينة ذلك وألَّفوا في ذلك تأليفًا ولكن يد الخلافة لا تطاولها يد. انتهى

(4)

.

‌المهدي العباسي يأمر بنفي المغنيين من مكة:

وفي سنة تسع وخمسين ومائة أوفي التي بعدها أمر المهدي بنفي كل من بمكة من المغنين ومنع فِتْيَتَها من الغناء، وأخرج كل من فيها من المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 61/ 62.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 86/ 87.

(3)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 96/ 97.

(4)

الجملة غير واضحة لعل المراد أن يكونوا على علم بالعبادات وأركانها.

ص: 205

الرجال بالنساء، ومنع مِنْ لعب الشطرنج، وغيره من الأمور التي تجرُّ إلى اللهو والطرب، وطهَّرها من كثير من المباحات الملهية عن الصلوات، والمُشْغلة عن اغتنام القرب وألزم حجبة الكعبة إجلالها وتوقيرها، وتنزيهها، وتطييبها للزائرين وتجميرها وفتح بابها بالسكينة والخشوع، وزجر النساء عن الخروج إلى المسجد متعطرات

(1)

.

‌المهدي أول من أقام البريد بين مكة والمدينة:

وفي صفر سنة ست وستين ومائة أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة، فخصصت لذلك بغال وأبل، ولم يكن هناك بريد من قبل

(2)

.

‌المستضيء بالله العباسي يأمر بعمارة الأميال الخضر بالمسعى:

وفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة أمر أمير المؤمنين المستضيئ بالله بعمارة الأميال الخضر بالمسعى المعظم

(3)

.

‌المظفر كوكبري ينشئ الأعلام الثلاثة بعرفة:

وفي سنة خمس وستمائة في شهر شعبان، أنشئت الأعلام الثلاثة التي هي بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة، أمر بإنشائها المظفر كوكبري بن علي بكتكين صاحب اربل

(4)

.

‌إغلاق أبواب المسجد الحرام باستثناء أربعة أبواب:

في سنة ثلاثين وثمانمائة وصل مرسوم صحبة الحاج يتضمن منع الباعة من بسط البضائع أيام الموسم في المسجد الحرام ومن ضرب الخيام في المسجد على مساطب وأمامها، وأن يترك المنبر الذي يُخْطَبُ عليه يوم الجمعة في مكانه مسامتًا لمقام إبراهيم، ومقام الشافعي، وأن لا يُجرَّ إلى جانب الكعبة لأن عند جَرِّه على عجلات يزعج الكعبة إذا أسند إليها، وأن يخطب الخطيب عليه هناك، وأن تُسَدَّ أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب هي باب السلام وباب العمرة وباب إبراهيم وباب الصفا، وأن تُسَدًا لأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد فامتثل جميع ذلك، ولم يعرف قَطُّ أن أبواب المسجد غُلِّقتْ إلا في هذه الحادثة، وصعب عليهم بُعْدُ الأبواب فروجع السلطان في ذلك فأمر بفتح باب الزيادة، وباب الجنائز، وقد نظم الشاعر شهاب الدين أحمد بن سعد بن أحمد الحنفي قصيدة يخاطب فيها

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 114/ 115.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 115.

(3)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 116.

(4)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 116.

ص: 206

أهل مصر في غلق أبواب المسجد، ومنبر الخطيب، وعزل القاضي، يقول فيها:

يا أهل مصر يا كرام الورى

ما بالكم جئتم بأمر عجيب

أغلقتم الأبواب عن طائف

وعن مُصَلِّ داخلٍ من قريب

ومنبر الخطبة أضحى إذًا

من فرقة البيت حزينا كئيب

ومنصب الشرع الشريف الذي

شيبتموه قبل وقت المشيب

فبالذي شرَّفكم دائما

بخدمة البيت وقبر الحبيب

مُنُّوا على سكان أم القرى

بَعوْد قاضيهم وقُرْب الخطيب

وفَتَحوا الأبواب التي غُلِّقَتْ

حتى يرى ما كان ضَنْكًا رحيب

فضلا فقد أصبح جيرانها

في حيرة عظمى وأمر عصيب

ثم جاء في الموسم مرسوم صحبة الركب المصري أن تفتح الأبواب كلها ويعزل البوابون القدماء، وكانوا قضاة وفقهاء، ويولَّى على أبواب الحرم بوابون يتفرَّغون لهذه الحرفة، ويحرصون على نظافة الأبواب وما حولها، ويمنعون دخول ما يَضُرَّ المصلين ويلازمون الأبواب ليلًا ونهارًا، ورُتِّبَتْ لهم الرواتب على هذه الخدمة

(1)

.

‌أول قاض يرد إلى مكة من الروم:

كان قضاة مكة يعينون من علماء مكة، وفي سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة عيَّنت الحكومة العثمانية قاضيًا من الروم وأرسلته إلى مكة، وهو أول قاض يرد من الروم

(2)

.

‌ترك القمائم أمام البيوت جزاؤها الضرب على الأقدام:

وفي صبح يوم الأحد خامس عشر ذي القعدة ظننا سنة خمس عشرة وتسعماثة، شق الأمير - خير بك المعمار - المسعى وغيره، ونادى بشيل القمائم من أمام البيوت، ثم مرَّ على بيت الزمزمي، فرأى أمام بيتهم بعض شيء من ذلك، فسأل عن أصحابه فحضر إليه ثابت بن حسن الزمزمي فوشحه بعصا، ثم أمرٍ به فوضع في الأرض فضربه تحت رجليه، ثم مرَّ على رباط السيد حسن عجلان، فرأى شيئًا تحت جانبه مما يلي زقاق الحمام، فنادى شيخ الرباط، فحضر إليه شيخه وهو أحمد الفقيه بن عبد المعطي بن حسَّان فوضع الآخر وضربه تحت رجليه، ثم مرَّ على أوقاف الجمالي ناظر الخاص، فرأى شيئًا من ذلك، فسأل عن المتكلم على ذلك، فقيل محمد زمان، فحضر فضربه على رجليه ضربًا كثيرا، وطيف به البلاد، فلما رأى الناس منه ذلك بادروا بشيل ما تحت بيوتهم، نقلًا عن بلوغ القرى

(3)

.

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 125/ 129.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 147.

(3)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 152/ 153.

ص: 207

‌الشريف سرور يبني بيتًا في عرفة:

وفي سنة ألف ومائتين أرسل الشريف سرور ستين من المعلمين غير أتباعهم إلى عرفة ليبنوا له بيتًا، ولم يسبق لغيره بناء بيت في عرفة، نقلًا عن خلاصة الكلام

(1)

.

‌دار الإمارة بسوق الليل:

وفي الرحلة الحجازية للبتنوني: أن دار الإمارة في سوق الليل قد بناها والي مصر محمد علي باشا سنة 1228 لتكون دار الحكومة الحجازية، ولما ترك ولايتها جعلت مقرًا لإمارة مكة إلى الآن

(2)

.

أقول: أدركت دار الإمارة في الخمسينات من القرن الماضي، وهي مقر لدائرة الأمير فيصل بن عبد العزيز - الملك فيما بعد - الذي كان نائبًا لوالده الملك عبد العزيز في الحجاز، وهي مكونة من عدة بيوت متلاصقة وتقع في محلة الغزة، وقد هدمت فيما بعد.

‌عمارة قلعة أجياد:

كنت ذكرت في الجزء الثالث من أعلام الحجاز أن الوالي عثمان نوري باشا عمَّر قلعة أجياد، وقد وجدت في إفادة الأنام تفصيلا عن بناء هذه القلعة وما حدث لها من تعمير أورده فيما يلي:

في سنة ألف ومائة وستة وتسعين شرع مولانا الشريف سرور في عمارة القلعة التي في أجياد بعد أن اشترى ما حولها من البيوت، وأنفق في عمارتها مالًا كثيرا، ثم نقض بعد سنتين كثيرًا من بنائها وأعاده على أحسن إتقان.

وِقد جَنَّدَ الشريف غالب جميع العمال والمعلمين الذين في مكة وجدة والطائف واشترى بيوتًا كثيرة وخاصة في شعب عامر وهدمها ليستعمل أحجارها، وتم هدم هذه البيوت بالتفجير، فهدمت في أيام قلائل وتحولت إلى أكوام، فانطلق المنادي في شوارع البلاد على جميع الحاضر والباد، حتى العبيد والعساكر، والأكابر، والصغار وأرباب الحرف، وكلفهم الحضور ونقل هذا الدمار، ومن لم يكن له استطاعة بالمشاركة الشخصية فعليه إرسال أتباعه، وعيَّن للعاملين أجرة للعمل، وقد بلغت الأجرة اليومية ألفي قرش، نقلًا عن خلاصة الكلام، وكتاب أشراف مكة وأمراؤها

(3)

.

‌الشريف غالب يبني الأبراج التي بأطراف مكة وقلعة لعلع:

وفي سنة ألف ومائتين وخمسة عشرة بنى الشريف غالب بن مساعد الأبراج التي بأطراف مكة، والقلعة التي على جبل لعلع المطل على العبادي، ذكر ذلك السيد دحلان في خلاصة الكلام.

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 212.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 215.

(3)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 213/ 214.

ص: 208

وفي السابع والعشرين من رجب سنة ألف ومائتين وواحد وعشرين أمر مولانا الشريف غالب أن يبنى له حصن على رأس الجبل المسمى بجبل الهندي، وتم بناؤه في عاشر رمضان، فحصَّنه بالرجال والذخائر.

أقول: ويبدو أن هذه القلعة تعرضت للخراب فقام بتعميرها وتوسيعها وأحكم عمارتها وأتقنها والي الحجاز عثمان نوري باشا في سنة ألف وثلاثمائة كما جاء في سالنامة الرحلات

(1)

.

‌السلطان عبد الحميد يبني قشلة جرول:

وفي سنة 1318 بنى قشلة جرول السلطان عبد الحميد واحتفل بافتتاحها في الخامس عشر من ذي الحجة من العام المذكور، وكان السلطان عبد الحميد أمر ببنائها من ماله الخاص لتكون نزلًا لفقراء الحجاج، وقد حضر حفلة الافتتاح إبراهيم رفعت باشا مؤلف كتاب مرآة الحرمين، ووصف المبنى وصفًا جيدًا، ثم علق على ذلك فقال:

وأعجب لهذا السراي التي بها ناظر، وخدم، وطباخون، يأخذون مرتبهم من ثلاث سنين خلت، في حين أنه لا توجد حجرة من حجراتها مفروشة ولا يوجد بها فقير واحد، وقد بلغني أن جلالة السلطان أنفق على إقامتها تسعين ألف جنيه مجيدي. انتهى

(2)

.

‌الثلج يحمل إلى المهدي من العراق إلى مكة:

حجَّ الخليفة العباسي الثالث أبو عبد الله ولد المنصور الملقب بالمهدي، وحمل له الأمير محمد بن سليمان الثلج حتى وافى به مكة، وهذا شيء لم يتم لأحد قبلة، وقسَّم المهدي في الحرمين الشريفين أموالًا عظيمة، وهي ثلاثون ألف درهم، وصل معه بها من العراق، وثلاثمائة ألف دينار وصلت إليه من مصر، ومائتا ألف دينار وصلت إليه من اليمن، ومائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، فرَّق جميع ذلك على أهل الحرمين، ذكره ابن فهد

(3)

.

أقول: ذكرت في الجزء الثالث من أعلام الحجاز أن الثلج حمل إلى الرشيد بمكة نقلًا عن تاريخ مكة للسباعي، وأود أن أذكر هنا أن المهدي العباسي هو والد الرشيد فإذا صح أنه نقل إليه الثلج بمكة، فيكون أول من نقل إليه الثلج من العراق إلى مكة.

‌جميلة بنت ناصر وأعمالها في الحج:

وفي سنة ثلاثمائة وست وستين حجت جميلة بنت ناصر الدولة التي يضرب بها المثل في أفعال البِر.

كان معها أربعمائة محمل على لون واحد، ولم يعلم هي في أي محمل، ولما رأت البيت الحرام نزت عليه عشرة آلاف دينار، وكست المجاورين بالحرمين وأنفقت أموالًا عظيمة -

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 214/ 215.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 221/ 124.

(3)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 280/ 281.

ص: 209

والذي أنفقته في حجها ألف ألف وخمسمائة ألف دينار من ضرب أبيها وزوجها وزوجت كل علوي وعلوية بالحرمين، وسقت أهل عرفة كلهم السويق، والسكر والثلج حملته معها، وحملت معها البقول مزروعة في مراكن الخشب وأعدت للفقراء خمسمائة بعير تحملهم عليها في الطريق.

ولم توقد في الحرم مدة إقامتها إلا بشمع العنبر.

وأعتقت بمكة ثلاثمائة عبد ومائتي جارية، وأغنت جميع الفقراء المجاورين.

كذا في تاريخ السنجاري، وتحصيل المرام، وفي الأتحاف.

وكان معها عشرة آلاف جمل وألف عجل

(1)

.

‌الأمير عثمان الزنجبيلي يحمل الحجاج بين عرفة والمزدلفة:

وفي سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وصل مكة صاحب عدن الأمير عثمان الزنجبيلي، وفي الثامن من ذي الحجة بكَّر الناس بالصعود إلى منى، وغدوا فيها إلى عرفة وتركوا المبيت بها لخوف الأعراب المغيرين على الحجاج في طريقهم إلى عرفات، واجتهد الأمير عثمان الزنجبيلي في حفظ الحاج اجتهادًا بل جهادًا يرجى لديه المغفرة لجميع خطاياه.

وذلك أن تقدم جميع أصحابه شاكين السلاح إلى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات فضرب قبته في المضيق بين الجبلين، بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد بفرسه إلى رأس الجبل الذي على يسار المار إلى عرفات فأمرَّ جميع الحاج، واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله، كلها إلى يوم الجمعة كله، فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده إلا الله عز وجل

(2)

.

‌السلطان غياث الدين ملك بنقالة يرسل أموالًا لبناء مدرسةٍ ورباط بالمدينة:

في ذكر ما أرسله السلطان غياث الدين ملك بنقالة إلى مكة ذكر الغازي عن صدقته للمدينة المنورة ما يلي:

وكان السلطان غياث الدين أرسل مع ياقوت الغياثي خادمًا يسمى حاجر إقبال أرسله بصدقة أخرى عنده لأهل المدينة المنورة، وجهَّز مالًا ليبني له بها مدرسة ورباطًا، وهدية إلى أمير المدينة يومئذ جماز الحسيني، فانكسرت السفينة التي فيها هذه الأموال وغيرها بقرب جدة فأخذ الشريف حسن بن عجلان ربع ما خرج من البحر على عادتهم إذا انكسرت سفينة عندهم، وأخذ ما يتعلق بالسيد جماز الحسيني لأنه عصى، وظهرت منه شنايع بالمدينة المنورة، من أخذ مفتاح خزانة النبي صلى الله عليه وسلم من قاضي المدينة جبرًا بعد أن أهانه، وهو القاضي زين الدين أبو بكر بن حسين المراغي، وضرب شيخ الخدام، وأخذ من خزانة النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر خوشخانة وصندوقين كبيرين، وصندوقًا صغيرًا كلها ممهورة فيها ذهب لملوك العراق، وخمسة آلاف كفن، وصادر الخُدَّام، وأخذ

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 312/ 313.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 315/ 316.

ص: 210

قناديل الذهب من الحجرة، فمنعه الله، ونهب العربان ما جمعه ومات.

فأرسل الشريف حسن بن عجلان إلى المدينة الشريفة عسكرًا وصلوا إليها وولى عليها عجلان بن نمير الحسيني، وكل ذلك سنة أحد عشر وثمانمائة. انتهى

(1)

.

‌وزير السلطان مراد يمزج الماء بالسكر والعسل ويسقي الحجيج:

وفي سنة خمسين وثمانمائة حج وزير من وزراء السلطان مراد الثاني وجاء بصدقات جليلة وخيرات وافرة لأهل الحرمين الشريفين، ورمى في بركة قُبَّة العباس بالحرم الشريف ثلاثمائة وستين رأس سكر وعدة قناطير من العسل وسقى الناس، وملأ القرب، وخرج بها الساقون إلى المسعى يسقون الناس، وصرف على الحجاج وأهل الحرمين أموالًا جزيلة. كذا في الأعلام

(2)

.

‌أول مكوس فرضت على جدة:

وفي سنة ثمانمائة وثمان وعشرين عين سلطان مصر سعد الدين بن إبراهيم بن المرة القطبي لأخذ مكوس جدة وهو أول مكس أخذ من جدة، واستمر من يومئذ عمال إلى الآن ببندر جدة.

أقول: كان السلطان بمصر هو الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الظاهري

(3)

.

‌الجودرية اسم حارة بالقاهرة:

ذكر ابن إياس في بدائع الزهور أن السلطان برسباي أمر بكبس حارة الجودرية، وكان مختفيًا بها أحد المتصوفة الذين يطلبهم السلطان، فكبست الحارة وأخليت وبقيت خالية مدة طويلة

(4)

.

‌وفاة الشيخ عبد الله غازي:

توفي الشيخ عبد الله الغازي سنة ألف وثلاثمائة وسبعة وخمسين، تغمده الله برحماته الواسعة

(5)

.

ونختم الحديث عن كتاب إفادة الأنام راجين لمؤلفه الشيخ عبد الله غازي الرحمة والغفران، متمنيًا أن تهتم جامعاتنا العزيزة بنشر مؤلفه الموسوعي الكبير وتحقيقه قريبًا بإذن الله.

(1)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 333/ 335.

(2)

إفادة الأنام مجلد 3 ص 336/ 337.

(3)

بدائع الزهور ج 2 ص 26.

(4)

بدانع الزهور ص 105.

(5)

سيرة وتراجم ص 202.

ص: 211

السَّيد محمُود أحمَد

ص: 213

السَّيد محمُود أحمَد

ص: 214

‌السَّيد محمُود أحمَد

أسمر اللون واسع العينين أقنى الأنف متوسط القامة، أقرب إلى النحافة منه إلى الامتلاء، تزين وجهه لحية سوداء تشمل الشارب والعارضين، يرتدي العباءة ويسدل على رأسه شالًا أبيض بدون عقال، وهو الزي الذي يتميز به رجال الدين والقضاة.

ولد السيد محمود أحمد سنة 1308 هـ بالهند وقدم مع والده إلى المدينة وهو في الثامنة من العمر، وتعلم بالمدرسة الإعدادية بالمدينة في العهد العثماني، وتخرج منها سنة 1325 هـ، وتابع دراسته في المسجد النبوي الشريف في حلقات الدروس على العلماء الذين كانت تملأ حلقاتهم رحاب المسجد الشريف.

‌وظائفه:

عمل كاتبًا بالمحكمة الشرعية بالمدينة المنورة في العهد العثماني، وفي العهد الهاشمي رُقِّي بأمر ملكي إلى وظيفة رئيس الكتاب فيها.

ثم عين قاضيا بمدينة جدة عام 1349 هـ ولكن صحته توعكت فاستقال من وظيفة القضاء وعاد إلى المدينة المنورة بعد عامين قضاهما في جدة.

وبعد عوته إلى المدينة عين كاتبًا للعدل بالمدينة المنورة، وفي عام 1364 عين عضوًا في رئاسة القضاة بأمر ملكي.

ثم عين عضوًا في المجلس الإداري وترأس مجلس الأوقاف بالمدينة المنورة، كما ترأس المجلس البلدي بها

(1)

.

‌التجارة والتطوير:

المدينة المنورة كما هو معروف بلد زراعي، تقوم حياة سكانه على الزراعة، وعلى استقبال

(1)

مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة ص 13/ 14.

ص: 215

الوافدين إليه لزيارة المسجد النبوي الشريف، والسلام على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

وكانت الزراعة في المدينة المنورة تعتمد على الوسائل القديمة في ري المزروعات حيث تستخدم الحيوانات في سحب المياه من الأبار لري الزرع، وشاهد الشاب السيد محمود ذلك، ولكنه كان إلى جانب عمله في المحاكم الشرعية وفي دوائر القضاة متفتح الذهن راغبًا في إدخال التطوير المفيد، وكان قد تعلم اللغة الإنجليزية وكاتب بعض المصانع في انجلترا بحكم عمله التجاري الذي بدأه فقام باستيراد طلبات سحب المياه المزودة بمكائن رستن، وجرى تركيب أولى المكائن في المدينة المنورة فأحدث هذا العمل ثورة في طرق الري التي كانت مستخدمة، واتجه القادرون من أصحاب البساتين والزراع إلى استخدام هذه الآلات في ري مزارعهم، فكانت نقلة عظيمة في الري، استخدمت فيها الآلة بدلا من الحيوان.

وكان السيد محمود أحمد هو رائد هذا العمل العظيم في المدينة المنورة.

ولم يكتف محموذ أحمد بهذا، ولكنه وقد رأى ما تفعله الآلة استورد أول آلة لطحن الحبوب، بعد أن كانت المطاحن تدار كذلك بالحيوانات فحلَّت الآلة محلها، وكان هذا تطورًا آخر أدخله محمود أحمد على حياة المدينة المنورة.

والصيف في المدينة المنورة شديد الحرارة تصل الحرارة فيه إلى أعلى الدرجات فتتجاوز الأربعين درجة في الظهر والأصيل، وهي في أشد الحاجة إلى الوسائل التي تخفف هذه الحرارة على الناس، واستورد السيد محمود أحمد أول مصنع للثلج في المدينة المنورة، فكان بحق رائدًا من الرواد أدخل الآلات في حياة الناس فاستغنوا بها عن استعمال الحيوانات، وأدخل الرفاهية الضرورية بإيجاد الثلج ميسورا في المدينة المنورة يقبل الناس على شرائه واستعماله لمقاومة الحرارة الشديدة في الصيف.

قد يقول البعض، ولكنه بإدخاله هذه الآلات في المدينة المنورة ربح ربحًا عظيمًا وجوابي على ذلك، أن الربح حلال طيب، وان هذا لا يطعن في ريادته في هذا المجال.

وقد يتمحك المتمحكون وما أكثرهم فيقولون أنه احتكر استيراد هذه الآلات وتحكم في أسعارها.

وجوابي على هذا أن المصانع التي تنتج الآلات سواء لتوليد الكهرباء أو لرفع المياه أو لإدارة المطاحن، أو لصنع الثلوج تعد بالمئات أن لم تكن بالآلاف فلماذا لم يتقدم غيره للبحث عن هذه المصانع ويستورد منها كما استورد محمود أحمد ويثري كما أثرى؟

وهنا يظهر الفارق بين العامل المُجِد، وغيره من الناس.

وبعد هذه المقدمة التي رأيتها ضرورية بين يدي البحث أصل إلى السبب الأعظم الذي دفعني للكتابة عن محمود أحمد ووضعه بين أعلام الرجال الذين أكتب عنهم وأترجم لهم في هذا الكتاب وما سبقه من أجزاء.

ص: 216

لمحمود أحمد مكرمة صنعها وأخفاها عن الناس ويأبى الله تعالى إلا أن يظهرها فالعمل الطيب كالعطر الزكي الرائحة لابد أن ينِمُّ عن نفسه، فتظهر آثاره ويشتمُّه الناس عطرًا شذيا.

في عام 1369 كان السيد محمود أحمد يتولى رئاسة مجلس الأوقاف في المدينة ورأى أن المكائن الكهربائية التي تضيء المسجد النبوي الشريف في حاجة إلى تقوية فاستأذن الملك عبد العزيز يرحمه الله أن يسمح له باستيراد مكينة كهرباء لتقوية الإضاءة، وبعد حصوله على الإذن الملكي استورد على حسابه مكينة كهربائية بقوة مائتي كيلووات، مع كافة مستلزماتها من تمديدات وكوابل، واستورد معها مائتي مروحة هوائية ومصابيح الفلوراسنت، وتم تركيب هذه المكنة، كما ثم تركيب المراوح والمصابيح الفلوراسنت لتقوية الإضاءة بالمسجد النبوي الشريف.

وقد أخبرني من أثق بروايته أن السيد محمود أحمد كتم هذا العمل عن الناس فلم يعلن عنه في الصحف، ولم ينشر خبره بين الناس، وإنما بقي مكتومًا في دائرة ضيقة بين السيد محمود وموظفي الأوقاف الذين تسلموا المكينة الكهربائية والمراوح والمصابيح عمل هذا ابتغاء مرضات الله تعالى، ورغبة فيما عنده، وتعبيرًا عن حبه العظيم للرسول صلوات الله وسلامه عليه وتعلقًا بمسجده الشريف، وقد رأيت بهذه المناسبة أن نستكمل الحديث عن إضاءة المسجد النبوي الشريف بالكهرباء فأقول:

‌إضاءة المسجد النبوي بالكهرباء:

في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ذكرت عن إنارة المسجد النبوي الشريف بالكهرباء ما يلي:

كانت الإضاءة في المسجد النبوي تعتمد على قناديل الزيت التي لا تزال بقاياها معلقة في العوارض الحديدية بين أعمدة المسجد، كما كانت الشموع توقد في المسجد للإضاءة إلى جانب القناديل.

وأول من أضاء المسجد النبوي الشريف بالكهرباء هو السلطان عبد المجيد الثاني العثماني الذي بعث مكينة كهربائية لإضاءة المسجد، وكان بدء الإنارة فيه بالكهرباء يوم 25 شعبان 1326 للهجرة، وهو يوم الاحتفال بافتتاح سكة حديد الحجاز بالمدينة المنورة

(1)

.

ويقول السيد حبيب محمود أحمد رئيس مجلس الأوقاف الأعلى بالمدينة المنورة عن هذه المكينة أنها كانت من مصنع رستن الإنجليزية وأنها كانت تدار بغاز الفحم، وقد وردت هذه المكينة مع كافة اللوازم للإضاءة، وأنه ثم بناء محطة توليد الكهرباء شمال المسجد الشريف في المنطقة المعروفة بدار الضيافة، وبعد إكمال التمديدات والتجهيزات أضيء المسجد النبوي

(1)

أعلام الحجاز 2 ص 205.

ص: 217

الشريف بالتيار الكهربائي لأول مرة، ثم ألحق السلطان ذلك بمحرك آخر من مصنع تانجي الإنجليزي، وكان المحركان يتناوبان على العمل

(1)

.

وذكرنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز:

أن الحاج الشاوي الجزائري - ويسميه السيد حبيب أحمد - ابشاري الجزائري، أهدى للمسجد النبوي الشريف مكينة جديدة لإضاءته بعد أن ظلت المكائن المرسلة من السلطان العثمانية تعمل أكثر من ربع قرن وتم وصول المكينة المهداة من الحاج ابشاري أو الشاوي سنة 1353 للهجرة

(2)

.

وكذلك أهدى الوزير المصري الأسبق أحمد حمزة مكينة كهربائية رائعة للمسجد النبوي الشريف بعد وصول المكينة التي أهداها الحاج الجزائري، فيكون مجموع المكائن الكهربائية إلى ذلك الوقت أربع مكائن كهربائية

(3)

.

وفي عام 1369 هـ أهدى السيد محمود أحمد المكينة الكهربائية التي قدمنا الحديث عنها، وفي عام 1374 هـ قامت الدولة بإنشاء محطة خاصة لإضاءة المسجد النبوي الشريف ضمن مشروع التوسعة الأولى للمسجد النبوي الشريف، والتي كانت نواة لتأسيس شركة كهرباء المدينة المنورة

(4)

.

وبهذا الإيضاح التفصيلي نكون قد استكملنا إيراد ما يتعلق بإضاءة المسجد النبوي الشريف بدءًا من سنة 1326 هـ إلى إنشاء المحطة الكهربائية الخاصة به من قبل الحكومة السعودية سنة 1374 هـ، ثم تأسيس شركة كهرباء المدينة المنورة.

‌وفاة السيد محمود أحمد:

مرض السيد محمود أحمد مرضًا طويلًا، وقاوم كل المحاولات التي بذلت معه للعلاج في خارج المدينة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في 24 ربيع الثاني سنة 1392 هـ، ودفن بها كما كان يتمنى رحمه الله رحمة واسعة، أنه سميع مجيب.

(1)

من رسالة خاصه من السيد حبيب محمود أحمد إلى المؤلف.

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 205.

(3)

رسالة خاصة من السيد حبيب محمود أحمد إلى المؤلف.

(4)

رسالة خاصة من السيد حبيب محمود أحمد للمؤلف.

ص: 218

محمَّد حُسَين زِيدان

ص: 219

محمد حسين زيدان

ص: 220

‌محمَّد حُسَين زِيدان

أصفر اللون، متوسط القامة، واسع العينين، حليق اللحية والعارضين، كان نحيف البدن في شبابه فلما علمت به السن صار أقرب إلى الامتلاء، وفي السنوات الأخيرة من عمره عشي بصره فكان يرى الأشباح ولكنه لا يميز التفاصيل، ولكن مرض عينه لم يقعده عن الحركة والعمل، فكان يملي ما يريد أن يكتب، ويزور من يحب زيارته وكان يرافقه غالبًا صديق عمره السيد يسن طه، مدَّ الله في حياته.

ولد بالمدينة المنورة سنة 1325 للهجرة، وتلقى تعليمه في الكُتَّاب مثل أبناء جيله في ذلك الزمن، والتحق بالمدرسة الراقية الهاشمية وتخرج منها سنة 1343 هـ كما درس على المشايخ في حلقات المسجد النبوي الشريف، وعمل بالتدريس في المدرسة السعودية بالمدينة مدرسًا للمواد الدينية والتاريخ سنة 1346 هـ، ثم قام بتدريس العقيدة السلفية في دار الأيتام بالمدينة المنورة، ثم عين مديرًا مساعدًا لها واستمر عمله بالتدريس إلى سنة 1358 هـ.

وانتقل الزيدان من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة سكرتيرًا لشيخ مشايخ الجاوه الشيخ/ حامد عبد المنان في النصف الثاني من الخمسينات ولعل ذلك كان سنة 1358 هجرية

(1)

.

ثم انتقل إلى العمل الحكومي عام 1358 هـ، فعين سكرتيرًا للمجلس المالي بوزارة المالية، فرئيسًا للقسم الحسابي، ثم رئيسًا للمحاسبة.

ثم عين مديرًا عامًا مساعدًا لمديرية الحج بمكة، وانتقل بعدها مديرًا لمالية مكة، ثم مديرًا عامًا لشئون الرياض، ثم مفتشًا عامًا للحج.

وترك العمل الحكومي في سنة 1374 ليتفرغ للعمل الصحفي فشغل منصب مدير تحرير جريدة البلاد، ثم رئيسا لتحريرها، كما ترأس بعدها تحرير جريدة الندوة وكان خلال رئاسته لتحرير الصحيفتين وبعدها كاتبًا بارزًا في الصحف، وفي صحف المنطقة الغربية خاصة.

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 5.

ص: 221

كان الزيدان يرحمه الله صاحب ثقافة موسوعية، وكان فصيح اللسان قوي الجنان خطيبًا مفوهًا، إذا اعتلى المنبر ارتجل فأسمع وأبدع، وحينما بثت الإذاعة ثم التلفزة برامجها كان هو أحد فرسان الكلمة، بل كان من أحب المتحدثين إلى السامعين والمشاهدين، وإني لأذكر برنامجه الناجح في سير الصحابة الذي كان يبثه التلفاز في شهور رمضان لسنوات مضت، ثم توقف مع أنه كان من أنجح البرامج التلفزيونية وأحبها إلى الناس.

وقد جمع الزيدان يرحمه الله أحاديثه في هذا البىنامج وأضاف إليها ما يماثلها ونشرها في كتاب سماه "سيرة بطل" وحينما تأسست رابطة العالم الإسلامي عمل الزيدان مساعدًا لأمين عام الرابطة.

وحينما أنشئت دارة الملك عبد العزيز بالرياض عين عضوًا في مجلس إدارة الدارة، وكان لمكانته الثقافية أكبر الأثر في اختياره لهذا المنصب.

ثم عين رئيسًا لتحرير مجلة الدارة، وهي مجلة تعني بالآثار التاريخية للمملكة سياسية وثقافية وعمرانية، وكان الزيدان يرحمه الله يمثل مجلة الدارة في الندوات العلمية والمؤتمرات

(1)

أصدر الزيدان ثمانية عشر كتابًا نورد أسماءها فيما يلي:

‌مؤلفات الزيدان:

- سيرة بطل.

- أشياخ ومقالات.

- تمر وجمر.

- محاضرات في الثقافة.

- بنو هلال.

- عبد العزيز والكيان الكبير.

- المنهج المثالي لكتابة التاريخ.

- صور.

- كلمة ونصف.

- خواطر مجنحة.

- قضايا ومقالات في الشرق الأوسط.

- العرب بين الإرهاص والمعجزة.

- رحلات الأوربيين إلى نجد وشبه الجزيرة العربية.

- ذكريات.

- فواتح مجلة الدارة.

- مع الأيام.

(1)

استقيت هذه المعلومات من رسالة ابنه الأستاذ حسين محمد زيدان بتاريخ 7/ 2/ 1414 هـ.

ص: 222

- المقالات.

مخلاة الكاتب كشكول القارئ، وقد صدر منه الجزء الأول والثاني، وهناك خمسة أجزاء معدة للطبع كما ذكر لي نجله الكريم الأستاذ/ حسين زيدان.

‌ذكرياتي عن الزيدان:

عرفت الأستاذ/ محمد حسين زيدان أول ما عرفته كاتبًا في الصحف يتميز بأسلوب فريد، فقد كان أحد كتاب جريدة المدينة المنورة حين صدورها في 25 محرم سنة 1356 هـ بل كان أحد أفراد هيئة التحرير، كما ذكر الأستاذ عثمان حافظ

(1)

.

كما أنه كان يرسل مقالاته إلى جريدة صوت الحجاز في مكة المكرمة.

وعرفته كذلك من رسائله التي كان يبعث بها إلى الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يتلقى الرسائل من الناس على مختلف طبقاتهم، حينما كنت أعمل سكرتيرًا خاصًا له منذ نهاية ب عام 1355 هـ في مكة.

وحينما وصل الزيدان إلى مكة سنة 1358 هـ للعمل في مكتب الشيخ حامد عبدالمنان شيخ مشايخ الجاوه إذ ذلك كان يسكن في بيت الشيخ حامد عبدالمنان في سوق الليل، وكان منزل الشيخ محمد سرور يرحمه الله على بعد خطوات من منزل الشيخ عبد المنان.

وكان الزيدان يتردد على مكتب الشيخ/ محمد سرور، وكنت أرى الزيدان كثيرًا في تلك الأيام.

كان قد ترك المدينة المنورة، وله فيها ذكريات وصداقات، ذكريات عزيزة وصداقات حميمة، وكان يشعر بشيء من الوحشة أول مقدمه إلى مكة، وكان يتحدث عن المدينة والعواطف تتدفق في كلماته، والشوق يتجلى في ذكرياته، فكان يخرج معنا في الأصائل والأماسي إلى ظاهر مكة في المسفلة وجرول، وكنا مجموعة من الأدباء الشباب اتفقت مشاربهم، وتشابهت آمالهم، يتحدثون عما قرأوا ويزجون أوقات فراغهم في هذه المجالس التي تضمهم في المساء وصدر الليل.

وحينما حل الصيف كان الزيدان أحد أفراد هذه المجموعة التي تجتمع أصيل كل يوم في الطائف في قروة في سفح جبل السكارى، وفي الفضاء الفسيح الممتد أمام الثكنة العسكرية هناك.

وحينما دعوته أول مرة إلى بيتي في الطائف، ورأى الجبل شامخًا وهو يجلس في الروشان قال لي أن هذا المنظر يذكرني بالمدينة وجبالها ..

ما أكثر ما كانت المدينة في قلب الزيدان وفي روحه يرحمه الله، وكتابه ذكريات العهود الثلاثة من أمتع ما كتب عن المدينبة وسأتحدث عنه حينما نتحدث عن مؤلفاته يرحمه الله.

(1)

تطور الصحافة في المملكلة العربية السعودية ج 1 ص 162.

ص: 223

كان يزورني ذات صباح في مكتب الشيخ محمد سرور الصبان بالقشاشية، وكان له مكتب بها، وكان هذا المكتب في مواجهة مدرسة الفلاح في مكة المكرمة.

وكان الحاج محمد على زينل مؤسس الفلاح يرحمه الله قد وصل إلى مكة لزيارة المدرسة في ذلك الصباح، وكنت أرغب في السلام عليه، فاصطحبت الزيدان يرحمه الله وذهبنا إلى مدرسة الفلاح، كان الحاج محمد علي زينل يرحمه الله قد سبقنا إلى الوصول إلى المدرسة، وكان وصحبه يجلسون في صالة الاستقبال، وكلمات الترحيب تلقى أمامه من الطلبة والمدرسين، وكان السيد محمد علوي مالكي يرحمه الله أستاذًا بمدرسة الفلاح كما كان من قبل تلميذًا بها، ووقف السيد علوي أمام مؤسس الفلاح وقفة التلميذ أمام الأستاذ، فقد كان الجميع يقرون له بالفضل، ويعدُّونه الأب الروحي لهم.

وقف السيد علوي مالكي أمام مؤسس الفلاح يلقي كلمة كلها الثناء والإعزاز والحب والتقدير.

وانتفض الزيدان يرحمه الله وكان إلى جانبي واندفع يرتجل خطابًا يتساءل فيه ويوجه الخطاب إلى مؤسس الفلاح وكأنه يقول له: من أنت الذي يقف هذا العالم الجليل بين يديك ليرتِّل لك آيات الثناء.

ورد الحاج محمد علي زينل بأدبه الجم وتواضعه الكبير على الزيدان يؤيده ويقول:

نعم من أنا حتى يقوم السيد علوي مالكي العالم الفاضل الجليل ليثني عليَّ وماذا أكون إلى جانب علمه وفضله، ودينه وتقواه

؟

هكذا كان الزيدان إذا انفعل لا يملك زمام نفسه

؟ وهكذا كانت ملكته الخطابية وقدرته على الارتجال تفسحان له مكانًا للخطابة والكلام

؟

لم يكن الزيدان قد عرف مقدار الحب العظيم الذي كان يحظى به مؤسس الفلاح في مكة وجدة اللتين حظيتا بمدارسه العظيمة فيهما.

كان الزيدان مدنيًا - مدني المولد والنشأة والهوى - ولم يكن الحاج محمد علي زينل معروفًا في المدينة بمقدار عرفان الناس له في مكة وجدة، ولهذا فقد كان استغراب الزيدان أن يقف السيد محمد علوي مالكي "وكانت شهرته بالعلم والفضل تعم الحجاز كله" كان استغرابه عظيمًا أن يقف هذا العالم الجليل وقفة التلميذ أمام مؤسس الفلاح وعلى أي حال فإن الزيدان يرحمه الله أخذ من هذه الوقفة الدليل على عظمة مؤسس الفلاح، واستحقاقه لما لقي ويلقى من حفاوة وتقدير.

‌محاضرات جمعية الإسعاف بمكة:

وعلى ذكر ملكة الزيدان الخطابية، فقد كانت تعقد في جمعية الإسعاف بمكة المكرمة محاضرات أسبوعيبة يدعى إليها العلماء والأدباء والمؤرخون ليحاضروا فيها، وكان يجتمع لسماع هذه المحاضرات جمع غفير وقد أصدرت جمعية الإسعاف - التي تحولت فيما بعد إلى

ص: 224

جمعية الهلال الأحمر - أصدرت كتابًا ضم بعض المحاضرات التي ألقيت في الجمعية، وكان من أبرز محاضريها السيد محمد شطا يرحمه الله، وكان يتحدث في محاضراته عن قصص الأنبياء، كما كان من أبرز المحاضرين الدكتور الفلسطيني حسني الطاهر، وكان يعمل في مستشفى أجياد في مكة المكرمة، ومن المحاضرين الذين تحدثوا في الجمعية السيد صالح شطا، والشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي وكانت محاضراته بعنوان "ما نحن أحوج إليه" وقد ألقى بها الأديب الجهير حمزة شحاتة محاضرته الطويلة الرجولة عماد الخلق الفاضل والتي استمر في إلقائها حوالي الخمس ساعات وقد طبعت في كتاب خاص أصدرته شركة تهامة سنة 1401 هـ، وكان لي شرف إلقاء محاضرة فيها عن شعر الغزل والشعراء الغزلون قديما في الحجاز، وقد بحثت عن هذه المحاضرة بين أوراقي فلم أجدها، فلم أكن احتفظ بما أكتب وأنظم إلا في السنوات الأخيرة.

وقد ألقى الزيدان في جمعية الإسعاف محاضرة بعنوان رعاية الشباب، وكان يرتجل الكلام ولا يستعين بأوراق مكتوبة، كما يفعل الكثيرون من الخطباء، وهي مقدرةٌ يعد الزيدان فيها واحدًا من أفراد قلائل كانوا قادرين على الارتجال في ذلك الزمان.

‌ذكريات الزيدان:

كتاب الزيدان ذكريات العهود الثلاثة من أمتع ما كتبه الزيدان، فقد امتد به العمر ليشهد العهد العثماني والعهد الهاشمي ثم العهد السعودي في الحجاز، وقد اختزنت ذاكرته القوية أحداثًا كثيرة في هذه العهود مما رأى وسمع، وأضاف إلى ذلك رحلات عديدة، وقراءات موسوعية كثيرة.

فسرد هذه الذكريات في مقالات نشرها في جريدة المدينة، وربما في غيرها من الصحف، ثم طبعها في كتاب، وقد رأيت أن أشرك القراء في بعض هذه الذكريات الغنية بالمعلومات التاريخية والطرائف، وإن كنت أفضل أن يقرأها القراء بقلم الزيدان يرحمه الله.

والآن إلى بعض هذه الذكريات.

‌المخزن:

يقول الأستاذ/ محمد حسين زيدان أن من الآثار التي تركها حكم محمد علي باشا رأس الأسرة الخديوية الحاكمة في مصر، من الآثار التي تركها في المدينة - المقاس المعروف بالمخزن - أي تقسيم الأرض إلى مخازن، والمخزن هو ستة أمتار في سبعة أمتار ومجموعه اثنان وأربعون مترًا، وهذا المقاس يساوي واحد في المائة من مساحة الفدان

(1)

.

أقول: أن الأراضي تباع في جميع أنحاء المملكة بالمتر بينما أن البيع بالمخزن هو السائد في المدينة المنورة، ولعل بقاء هذا الاصطلاح في المدينة يرجع إلى طبيعة أرضها الزراعية فإن حكم محمد علي باشا لم يقتصر على المدينة وحدها وإنما عمَّ الحجاز كله.

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 30.

ص: 225

‌الوظائف في عهد محمد علي باشا:

السباهية: يعني الخيالة.

القلعجية: يعني حماة القلعة.

النوباتشية: حماة الأبواب.

البيرقدارية: أصحاب البيرق - العلم والبنديرة أو الرايه.

باب عرب: وهو الذي ينتهي إليه أمر القبائل العربية إذا ما اختلفوا يحكمونه

(1)

.

‌باب المجيدي:

كان المحل الذي يسمى باب المجيدي في الوقت الحاضر هو وادي مشعط

(2)

.

‌مدحت باشا أبو الدستور:

كان مدحت باشا يلقب في دولة الخلافة العثمانية بأبي الدستور، فقد أصدر الدستور العثماني في أواخر سنة 1293 هـ الموافقة لسنة 1876 ميلادية حينما تولى منصب الصدارة العظمى في الاستانة، ولكن السلطان عبد الحميد عزله من منصبه وانتهى به الأمر إلى أن نفي إلى مدينة الطائف بالحجاز، وبقي فيها بضع سنوات، ثم قتل غدرًا بأمر السلطان

(3)

.

يقول الأستاذ/ محمد حسين زيدان: أن جثمان مدحت باشا دفن في الطائف أمام باب الريع، وأن مصطفى كمال أرسل وفدًا إلى الملك عبد العزيز يرحمه الله لنبش القبر واستلام جثمانه والعودة به إلى تركيا، وأن مكان القبر لم يعرفه إلا محمد خوجه وكمال خوجه، فقد دلَّا الوفد التركي على مكانه، فنبشوا القبر وحملوا الرفات وعادوا بها إلى تركيا

(4)

.

محمد خوجة وكمال خوجة كانا من أصل تركستاني وكان لهما محل كبير للخياطة في محلة أجياد، وقد توفيا إلى رحمة الله تعالى، ومن أبنائهم الأن الأطباء ورجال الأعمال، والسفير السعودي حاليًا في موسكو الأستاذ/ عبد العزيز خوجه هو ابن أخيهما محيي الدين، وكانا يصيِّفان بالطائف كل عام، ولابد أنهما علما بموضع قبر مدحت باشا فدلا عليه.

‌عبد الحميد بدوي باشا:

كان عبد الحميد بدوي باشا القاضي المصري في محكمة العدل الدولية في لاهاي من أعظم رجال القانون في العالم، حتى اختير لهذا المنصب الرفيع بعد أن تدرج في الوظائف القضائية الكبرى في مصر، وكان أبوه محمد بدوي من محبي المدينة المنورة والمترددين عليها، وقد تلقى

(1)

ذكريات العهود الثلاثة.

(2)

نفس المصدر ص 26.

(3)

انظر تفصيل ذلك في الأعلام ج 7 ص 195.

(4)

ذكريات وعهود ص 31.

ص: 226

عبد الحميد بدوي وهو طفل تعليمه التحضيري في المدينة المنورة، يقول الأستاذ/ محمد حسين زيدان عنه، قال الدكتور طه حسين وهو يقدمه حين اختياره عضوًا في مجمع اللغة العربية في مصر:

لقد حَفَّتْه بركة المدينة حيث أول ما فكَّ الحرف فيها

(1)

.

‌الداودية:

نسبة إلى داود باشا الوالي التركي الذي ثار على السلطان العثماني وأسس ملكًا في العراق، وصك عملة في أحد وجهيها - يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض - وقد انتصر السلطان على داود باشا وأسر ورحِّل إلى المدينة المنورة، فبستان الداودية خارج باب الشامي، كان باسمه، ويقول الأستاذ الزيدان: ولا أدري هل الداودية في مكة مثل الداودية بالمدينة أم هو داود آخر

(2)

.

أقول: الداودية في مكة - أو مدرسة الداودية بناها الملك المنصور عمر بن علي صاحب اليمن - بين مدرستي دار السلسلة وطاب الزمان - وكانت عمارتها في سنة ستمائة وإحدى وأربعين، وتعرف الآن بالداودية أوقفها الملك المنصور على الفقهاء الشافعية والمحدثين

(3)

.

‌الخديوي عباس يبتعث طلابًا من الحجاز إلى مصر:

ذكر الأستاذ/ محمد حسين زيدان أن الخديوي عباس حينما حضر إلى الحج سنة 1328 هـ ابتعث من مكة عبد الرؤوف الصبان للدراسة في مصر، كما ابتعث من المدينة حسن ناصر بن دياب ناصر، وقال الزيدان تعليقًا على ذلك: كان يقلد السلطان عبد الحميد، يريد أن يجمع حوله رجالًا من هنا وهناك

(4)

.

‌أوائل المبتعثين من الحجاز:

أما أوائل المبتعثين من الحجاز فققد كانوا في أواسط العشرينات في عهد الدولة العثمانية، أولهم جميل أحمد شقيق أحمد الفيض آبادي مؤسس مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة، وحسين طه وأحمد أبو بكر حمد الله، ومحمد المغيربي وعبد القادر عبد الجواد

(5)

.

‌طلب فصل المدينة عن مكة في العهد العثماني:

يقول الأستاذ/ محمد حسين زيدان ما ملخصه:

كانت المدينة المنورة تابعة لشريف مكة في العهد العثماني، فلما وصل قطار السكة الحديدية

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 33.

(2)

ذكريات العهود الثلاثة ص 33.

(3)

انظر ترجمة الشيخ عبد الله الغازي في القسم الخاص بالمدارس في هذا الكتاب.

(4)

ذكريات العهود الثلاثة ص 38.

(5)

نفس المصدر ص 38 وانظر ترجمة محمد المغيربي في الجزء الثالث من أعلام الحجاز ص.

ص: 227

بين الشام والمدينة، أراد الاتحاديون أن يفصلوا المدينة عن سلطة شريف مكة ويلحقونها بالشام، فانتدبوا في رضا الركابي، وهو من نوابغ الضباط السوريين، وكان لم ينضم إلى القوميين العرب، وإنما بقي ولاؤه خالصًا للعثمانيين.

انتدب الاتحاديون علي رضا الركابي فجاء إلى المدينة وسعى لتحقيق طلب الانفصال، يقول زيدان: فالقدامى من الأسر لم يلَّبوا طلبه، والمحدثون منهم كانوا له، ولم يشذ عن الأسر القومية إلا الشيخ أبو الحسن السمان.

استطاع الركابي أخذ تواقيع أهل المدينة الذين أشرنا إليهم على مضبطة يطلبون فيها فصل المدينة عن مكة وضم المدينة إلى الشام، وكانت الأسباب التي استندوا إليها هي سرعة الاتصال، القطار والتلغراف.

وكان وصول التلغراف إلى المدينة سنة 1318 هـ، وكان في خفارة علي ناصر.

يقول زيدان: وتم فصل المدينة، والواقع أن ذلك قد يسَّرَ كثيرًا من الأعمال بينما شريف مكة الحسين بن علي يرحمه الله قد غضب، فعاتب السمان لأنه ابن لصديقه، كان مُرَّا في عتابه، وقاسيًا في شكيمته، ولكن لا حول ولا قوة له، فمضى الأمر

(1)

.

‌إحسان الله البواب الجاسوس:

عرفت وعرف معي أهل جدة إحسان الله الهندي الذي كان يعمل نائبًا للقنصل الإنجليزي بجدة في أواخر العهد الهاشمي وأوائل العهد السعودي، وكان رجلا عظيم النفوذ لدى الإنجليز، أو هكذا كان يتصوره الناس وخصوصًا أولئك الذين ترتبط مصالحهم بحجاج الهند، وكانت الهند مستعمرة انجليزية، وكنت اسمع الناس يتحدثون عن إحسان الله هذا ويصفونه بأنه كان بوابًا في المسجد النبوي الشريف لسنوات طويلة بالمدينة المنورة، وقد أيَّد الأستاذ حسين زيدان هذه الرواية وذكر عنها ما خلاصته:

أنه رجل من مسلمي الهند بقي مدة ثمانية عشر عامًا في المدينة المنورة بوابًا على باب النساء أحد أبواب المسجد النبوي، وتربطه صلات قرابة بكل من: عبد الحق النقشبندي، وعبد الحميد عنبر من جهة النساء، وكانت هذه القرابة هي الساترة لأحواله، ولم يعرف عنه أهل المدينة إلا أنه البواب على باب المسجد - وبواب المسجد هو الذي توضع لديه أحذية الداخلين إلى المسجد لحفظها في أدراج خاصة خارج المسجد - إلى جانب مراقبة ما يجب منع دخوله إلى المسجد.

يقول الزيدان ما معناه:

وكم كان استغراب أهل المدينة الذين رحَّلهم فخري باشا إلى الشام ومنهم زين صافي، وزين مدني، وأسعد طرابزوني وإبراهيم شاكر وغيرهم، كم كان استغرابهم عظيما حينما

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 41/ 42.

ص: 228

احتل فيصل بن الحسين دمشق بعد أن نزح عنها جمال باشا وحين دالت دولة الأتراك، وجاء المرشال اللنبي إلى دمشق ليوطد الأمر لفيصل رأى هؤلاء المدنيون إحسان الله البواب على باب النساء، ضابطًا كبيرًا يدخل مع اللنبي

الخ

(1)

.

أقول:

ظل إحسان الله يقوم بوظيفة نائب القنصل الإنجليزي في جدة سنوات طويلة، ثم نقله الإنجليز منها إلى عدن، ورُحِّل ورحلت معه عائلته إلى هناك، ويبدو أن نقله إلى عدن إنما تم بعدما عرف عن صلته بالمخابرات البريطانية وشاع ذلك كثيرا، وربما لأسباب أخرى والله أعلم.

‌الشيخ مخلوف والبشير الإبراهيمي:

يقول الأستاذ/ محمد حسين زيدان، اجتمع في حج أحد الأعوام في مخيام الشيخ محمد سرور الصبان وزير المالية الأسبق الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية في ذلك الزمان والشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري، وكانوا ضيوفًا عليه في عرفات، وأخذ المستفتون من الحجاج يتوافدون يسألون مفتي الديار المصرية عما يرغبون الاستفسار عنه من شئون الحج، فكان الشيخ مخلوف يسأل السائل عن مذهبه ويجيب عليه بحسب مقتضى مذهبه وطلب البشير الإبراهيمي من الشيخ محمد سرور إغلاق الصيوان بحيث لا يدخل أحد، ثم وجه خطابه للشيخ مخلوف قائلا:

لماذا تسأل عن المذهب

؟ فأنت تعرف القاعدة، العامي لا مذهب له، المذهب للمفتي، إن رأى مخرجا يَسَّرَ عليه، وان رأى مسرفًا عسَّر عليه، كلمة حق ينتصر به الحق ولا يهزم المذهب

(2)

.

‌الإمام يعين بفرمان:

كانت الإمامة في المسجد النبوي الشريف تتم بصدور فرمان من السلطان العثماني بإسناد الإمامة إليه، وكانت الإمامة دائمًا لمن يتبعون الإمام أبي حنيفة النعمان لأن السلطان العثماني والخديوي المصري يتبعان الإمام أبي حنيفة، فإذا صدر الفرمان بأن يكون - الأفندي - فلان إمامًا، فأبناؤه يرثون الإمامة، ولا يسألون أن يقوموا بالوظيفة فالواحد منهم ولو لم يفك الحرف - إمام بالوراثة، حتى إذا وصل إليه الترتيب لأداء الصلاة يتخذ قارئا ينوب عنه في أداء المهمة، فهي مراتب افتخار يمتازون بها ويحرصون عليها.

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 42/ 43.

(2)

ذكريات العهود الثلاثة ص 44.

ص: 229

فالصلاة الجامعة يؤديها الإمام الحنفي، وبعده يأتي الإمام الشافعي يصلي بالذين لم يدركوا الجماعة الأولى، وهو أيضًا صاحب رتبةٍ منح الإمامة بالفرمان، وإن تخلف بعض المصلين يأتي إمام على مذهب مالك يصلي في محراب المواجهة، ولم يكن بالمدينة إمام على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وذلك لأسباب سياسية في ذلك الزمان

(1)

.

أقول:

أوردنا في الجزء الثاني من أعلام الحجاز نبذة عن الأئمة في المسجد الحرام والمقامات الأربعة وفيها الكثير من المعلومات في هذا الباب

(2)

.

‌الريال المجيدي:

السلطان عبد المجيد العثماني هو الذي صك الريال المجيدي، وكان التعامل قبله بالريال الفرنسي الذي جلبته الحملة الفرنسية على مصر والشام، وليس هو ريالًا فرنسيًا، ولكنه ريال نمساوي عليه صورة الإمبراطورة ماري تريزا إمبراطورة النمسا.

ثم طبع السلطان عبد المجيد الريال المجيدي، والسلطان رشاد الريال الرشيدي.

‌أصناف العملة الذهبية:

الجنيهات الإنجليزي والعثماني، والمسكوفي نسبة إلى موسكو، والفرنسي واسمه المنتو وقد أطلق المغاربة اسم لويز على الجنيه الفرنسي يعني لويس.

وحينما وصلت الريالات الفرنسية إلى سوريا ولبنان أطلق عليها السوريون واللبنانيون كلمة مصريات ومصاري لأن هذه العملة من بقايا حملة إبراهيم باشا على الدولة العثمانية

(3)

.

هذا ما رأيت أن أشرك القراء في قراءته من ذكريات الأستاذ/ محمد حسين زيدان يرحمه الله في كتابه الممتع ذكريات العهود الثلاثة، وكما ذكرت قبل فإني أفضل أن يقرأ القارئ الزيدان بقلمه وبأسلوبه الخاص الذي تفرد به وعرف عنه.

‌وفاة الزيدان:

مرض الزيدان وتردد على المستشفيات، وكان في أيامه الأخيرة قد غشيته كآبة رانت على نفسه، وتوفي صباح السبت التاسع والعشرين من شهر شوال سنة 1412 هـ، تغمده الله برحماته الواسعة، إنه كريم رحيم.

(1)

ذكريات العهود الثلاثة ص 46.

(2)

أعلام الحجاز ج 2 ص 36/ 49.

(3)

ذكريات العهود الثلاثة ص 56.

ص: 230

محمَّد سَعِيد العَامُودِي

ص: 231

محمد سعيد العامودي

ص: 232

‌محمَّد سَعِيد العَامُودِي

طويل القامة، أسمر اللون، أقرب إلى النحافة منه إلى الامتلاء، أقنى الأنف، ساجي النظرات، حليق اللحية والشارب، تلمح في وجهه سيماء الحياء المشوب بالوقار والاتزان.

ولد بمكة المكرمة سنة 1323 هـ، وتعلم بمدرسة الفلاح وتخرج منها، وعمل مع أبيه وكان تاجرًا يشتغل بتجارة الأقمشة، وله حانوت في السويقة، وهي السوق الخاصة بتجار الأقمشة والعطور، وقد أدخلت سويقة في المسجد الحرام في توسعته الأولى، وكان موضعها مجاورًا للمسعى ولها مدخل من المسعى، ومدخلها الآخر من الشبيكة.

وانتقل محمد سعيد العامودي من العمل مع والده إلى الوظائف الحكومية فعمل في وظائف كتابية وإدارية مختلفة منها رئاسة ديوان التحرير بمصلحة البريد والبرق العامة بمكة المكرمة، وحينما صدرت جريدة صوت الحجاز اختير للإشراف على رئاسة التحرير لفترة قصيرة، ولكنَّ عمله الحكومي في إدارة البرق والبريد لم يسمح له بالاستمرار في العمل فيها.

واختير عضوًا بمجلس الشورى فظل به لمدة ثلاث سنوات، وقام بإدارة ورئاسة تحرير مجلة الحج منذ عام 1369 هـ إلى نهاية عام 1391 هـ.

كما عمل في رئاسة تحرير مجلة رابطة العالم الإسلامي من عام 1385 هـ إلى نهاية عام 1398 هـ، وإلى جانب هذه الأعمال كانت له مشاركات في أعمال أدبية واجتماعية متنوعة.

فقد اختير من قبل وزارة المعارف مرتين لعضوية المجلس الأعلى للعلوم والأداب، وكان من الأعضاء المؤسسين في لجنة مشروع القرش، ولجنة النشر والتأليف، ولجنة نشر مخطوطات التواريخ الحجازية، قبل أن تتوقف هذه اللجان عن العمل.

كما شارك في الدورة الثقافية التاسعة ضمن وفد وزارة المعارف للجامعة العربية التي عقدت في سنة 1374 هـ.

ص: 233

وقام برحلات عديدة أثناء عمله الوظيفي والصحفي إلى القاهرة وتونس وإيران والجزائر

(1)

.

‌مؤلفاته:

من تاريخنا: دراسات، نشر عام 1374 هـ وأعيد طبعه بإضافة فصول جديدة عام 1387 وطبع الطبعة الثالثة سنة 1401.

قام مع الأستاذ/ أحمد علي بتحقيق كتاب المختصر من نشر النور والزهر وظهرت طبعته الأولى سنة 1398 وأعيد طبعه سنة 1406 هـ.

رباعياته: ديوان شعر نشر سنة 1401 هـ.

رامز وقصص أخرى نشر سنة 1403 هـ.

من حديث الكتب ثلاثة أجزاء نشر سنة 1403 هـ.

من أوراقي: مقالات أدبية نشر سنة 1404 هـ.

‌بقية الرواد:

يعتبر الأستاذ/ محمد سعيد العامودي يرحمه الله البقية الباقية من جيل الأدباء الرواد في الحجاز، وكثيرًا ما قرأت في الصحف أسماءًا نُعِتَ أصحابها بأنهم من الرواد أو من الرعيل الأول للأدباء وهم مع احترامي لهم ومحبتي ليسوا كذلك.

وقد رأيت وأنا أتحدث عن الأستاذ/ محمد سعيد العامودي أن أتحدث عن جيل الرواد هذا وأن أذكر أسماءهم بالتحديد لإيضاح الأمر من الناحية التاريخية على الأقل.

كان ظهور كتاب أدب الحجاز في سنة 1344 هـ وكتاب المعرض وكتاب خواطر مصرحة سنة 1345 كان ظهور هذه الكتب الثلاث هو البشير بظهور جيل الرواد في الأدب في الحجاز.

هذه الكتب الثلاث قام بإصدارها ونشرها معالي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله، أما الكتاب الأول فقد قدم فيه قصائد لتسعه من الشعراء، وأما الكتاب الثاني فكان سؤاله موجهًا إلى الأدباء، هل الأوْلى الالتزام في الكتابة باللغة العربية الفصحى أو الكتابة باللغة العامية، وكانت قد انتشرت الدعوة إلى الكتابة باللغة العامية بدعوى أن الناس أقدر على فهمها، وقد أجاب على هذا السؤال ثلاثة عشر كاتبًا وكانت إجاباتهم كلها الإصرار والالتزام بالكتابة باللغة الفصحى التي هي لغة القرآن، وقد شارك في كتاب المعرض ثلاثة عشر كاتبًا.

(1)

جريدة عكاظ العدد 38979 شعبان 1411 هـ، كتاب رباعياتي.

ص: 234

وأنقل هنا عن كتابي ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز الذي طبع طبعته الأولى في سنة 1401 هـ ما ذكرته عن الأدباء الذين اشتركوا في الكتابين "فإذا استثنينا الأسماء المكررة التي شارك بعض أصحابها في كتاب أدب الحجاز خلص لنا ثلاثة عشر أديبًا بعضهم يجمع بين الشعر والنثر والبعض الآخر ينفرد بالكتابة دون الشعر وهؤلاء هم الطلائع الأولى التي كانت بشيرًا بميلاد الأدب الحجازي الحديث وهم الذين أطلق عليهم فيما بعد اسم الرعيل الأول، بعضهم فرض اسمه على الحياة الأدبية إلى أن أسلم الروح كالأستاذ/ محمد حسن عواد يرحمه الله، وبعضهم لا يزال يعمل في صمت ودأب كالأستاذ/ محمد سعيد العامودي - أمد الله في عمره - وبعضهم استمر في العطاء طويلًا ثم توقف، وأغلبهم فارق الحياة الدنيا وأصبح في ذمة التاريخ".

هذا ما كتبته في ملامح الحياة الاجتماعية قبل ثلاثة عشر عامًا، وإذا كان لابد من ذكر الأسماء فإن الثلاثة عشر أديبًا الذين ظهرت أسماؤهم في الكتابين هم:

‌الأساتذة:

عبد الوهاب آشي: كاتب وشاعر كان أحد ثلاثة تولوا الإشراف على جريدة صوت الحجاز حين ظهورها، والراجح أن بعض قصائده جمعت في ديوان صغير.

محمد صبحي: وصل إلى مكة صغيرًا وتلقى تعليمه بها وربما يكون قد عاد إلى سوريا بعد ذلك.

محمد حسن عواد: كاتب وشاعر ومؤلف، وقد ترجمنا له في الجزء الأول من أعلام الحجاز

(1)

محمد عمر عرب: من أوائل من كتب الشعر المنثور، وقد أجاد فيه كثيرًا ولم تصدر له مؤلفات، وقد عمل في ديوان النيابة العامة سنوات طويلة.

محمد صلاح خليدي: شاعر توفي في الخامسة والعشرين من العمر في مسقط رأسه في الهند.

عبد القادر عثمان: كاتب كان يعمل في مكتب الحاج محمد علي زينل رضا مؤسس الفلاح، وبعد عودته من الهند عمل في جدة.

عبد الوهاب النشار: كاتب شاعر، عمل في التدريس بمدرسة الفلاح بجدة، وتولى إدارتها وأخرج أجيالًا من المتعلمين، ثم عمل في التجارة وتفرغ لها.

محمد جميل حسن: كاتب ومدرس، وقد ترجمنا له في أعلام الحجاز

(2)

.

حامد كعكي: كاتب، وكان يعمل في قسم التحريرات بوزارة المالية بمكة المكرمة.

عثمان قاضي: كاتب من مدينة الطائف، كان مديرًا لإدارة البرق والبريد بها وتوفي شابًا.

(1)

أعلام الحجاز ج 1 ص 179/ 218.

(2)

أعلام الحجاز ج 1 ص 169/ 175.

ص: 235

محمد البياري: كاتب شاعري الأسلوب عمل في ديوان النيابة العامة، وليس له مؤلفات.

محمد علي رضا: كاتب عمل في الوظائف الحكومية، وآخرها كان في مديرية الأوقاف بمكة، وليس له مؤلفات.

عبد الله فدا: كاتب، كان يعمل في تجارة الكتب وله حانوت لبيع الكتب في باب السلام بمكة المكرمة، وليس له مؤلفات.

محمد سرور الصبان: كاتب وشاعر مقل وإليه يرجع الفضل في التعريف بالأدب الحجازي وكانت له في مطلع شبابه مكتبة في مكة المكرمة، قامت بنشر كتاب أدب الحجاز والمعرض، وكتاب خواطر مصرحة لمحمد حسن عواد، وقد كان موظفًا بالبلدية ثم عمل في وزارة المالية وأسس شركة الطبع والنشر التي كانت تصدر جريدة صوت الحجاز وقد تولى وزارة المالية في عهد الملك سعود، وطبع على نفقته كثيرًا من الكتب القيمة الهامة، وقد ترجمنا له في الجزء الأول من أعلام الحجاز

(1)

.

السيد هاشم السباك: كاتب، وموظف وقد اشتغل بالمحاماة وليس له مؤلفات.

أحمد إبراهيم الغزاوي: شاعر وكاتب، وقد عينه الملك عبد العزيز آل سعود يرحمه الله شاعرًا له وسماه - حسَّانًا - عمل في المحاكم الشرعية وفي عضوية مجلس الشورى بمكة المكرمة إلى أن صار وكيلًا لرئيس المجلس، وكان ينشر قطعًا نثرية بعنوان "من شذرات الذهب" في مجلة المنهل، على مدى ثلاثة وعشرين عامًا أصدرتها مجلة المنهل في كتاب خاص بعد وفاته ولم يُجمع شعره الكثير حتى الآن.

السيد بكر حمدي: كاتب، كان يعمل في المحاكم الشرعية وفي رئاسة القضاة وليس له مؤلف.

هؤلاء هم الرواد الذين ظهرت آثارهم في كتابب أدب الحجاز والمعرض، ومنهم صاحب المقالة والمقالتين أو القصيدة والقصيدتين، ومنهم من ألَّف الكتب، وأثرى الحياة الفكرية والأدبية إلى أن توفاه الله تعالى، ومنهم من عمل بالأدب ثم شغلته الحياة عنه، فهم بشر ينطبق عليهم ما ينطبق على البشر، فإذا استعرضنا هذه الأسماء تبين لنا أن الأستاذ محمد سعيد العامودي يرحمه الله هو أحد هؤلاء الرواد الكبار الذي واصل المسيرة كاتبًا وباحثًا ومؤلفًا طيلة حياته مع التواضع الجم وحسن الخلق يرحمه الله.

وهناك الجيل الثاني والثالث الذين أتوا بعدهم والذين ساروا على دربهم، وقد صدرت المؤلفات تضم آثارهم وتشرح أفكارهم.

(1)

أعلام الحجاز الجزء الأول ص 241/ 252.

ص: 236

ولست في حاجة لأن أذكر للقارئ أسماء الأدباء الذين استمر عطاؤهم إلى أن فارقوا الحياة الدنيا، والأدباء الذين أخذتهم مشاغل الحياة اليومية عن الكتابة والأدب فإن ذلك كله معروف لمن يتابع الحياة الأدبية في هذه البلاد.

هناك الجيل الثاني الذي ظهر بعد جيل الرواد، ومن أبرز أسمائه: أحمد قنديل ومحمد حسين كتبي، ومحمد حسن فقي وحمزة شحاتة وعزيز ضياء، ومحمد عمر توفيق، وضياء الدين رجب، ومحمد حسين زيدان، وعبد القدوس الأنصاري، وطاهر زمخشري واعتذر عن استقصاء الأسماء فليس هذا مجاله، وإنما القصد هو تصحيح مفهوم شاع بين الناس وإعطائه الملامح الحقيقية إنصافًا للجيل الأول من الرواد، والذين نتحدث اليوم عن آخر فارس منهم، ولمن أراد المزيد من هذا البحث أن يرجع إلى الموسوعات الأدبية التي تؤرخ للأدباء السعوديين مثل أدب الحجاز، ووحي الصحراء - الموسوعة الأدبية لعبد السلام الساسي وغيرهم، وأن يرجع كذلك إلى الصحف والمجلات التي صدرت في تلك الأزمان.

نعود بعد هذا الاستطراد إلى الأستاذ/ محمد سعيد العامودي يرحمه الله فهو البقية الباقية من جيل الرواد الأوائل بحق، والذي استمر في العطاء إلى آخر أيام حياته، وقد امتد به العمر حتى تجاوز الثمانين من العمر يرحمه الله.

يمتاز الأستاذ/ محمد سعيد العامودي بالإخلاص والتفاني في عمله الأدبي لا ابتغاء مصلحة أو شهرة فقد كان أبعد ما يكون عنهما.

حدثني الأستاذ/ علي مختار وكيل وزارة الحج أن الأستاذ/ محمد سعيد العامودي كان يقوم بإصدار مجلة الحج، وكان هو الذي يتولى كل شيء في المجلة من رئاسة التحرير إلى جمع المقالات وترتيب الأعداد والإشراف على الطبع والتوزيع وكان كلما يتقاضاه من وزارة الحج ثلاثمائة ريال لمجلة شهرية من الألف إلى الياء، استمر محمد سعيد العامودي يقوم بأعبائها ثلاثة وعشرين عام فأي إنكار للذات؟ وأي ترفع عن طلب الدنياب وأسبابها؟

مجلة الحج مجلة تصدرها الدولة، وكان بوصفه رئيسًا لتحريرها يستطيع أن يستخلص لها ميزانية شهرية إن لم تصل إلى عشرات الألوف فإنها حتمًا تصل إلى الألوف.

ولكن محمد سعيد العامودي لم يكن يمارس إصدار المجلة لغرض مادي، وإنما كان يمارس عمله إرضاءًا لمطامحه الفكرية والأدبية، فقد كان يعيش وأسرته على المرتب الذي يتقاضاه من عمله الحكومي في إدارة البرق والبريد العامة، وفي مجلس الشورى، وكانت مجلة الحج بالنسبة له واجبًا أدبيًا يؤديه في رضا واغتباط.

ومع مجلة الحج تولي رئاسة تحرير مجلة رابطة العالم الإسلامي، واستمر في مجلة الرابطة إلى نهاية عام 1398 بعد أن علت به السن، وأقعدته الشيخوخة، هناك ميزة أخرى لمحمد سعيد العامودي هي البعد عن المهاترات كان الرجل كريمًا ينأى بنفسه عن الضجيج فلم يعرف عنه أنه شارك بقلمه في معركة من المعارك الأدبية التي كان بعض أدباء الجيل

ص: 237

يخوضونها، ولم يكن مع هذا الترفع محتجبًا عن دنيا الفكر، فلقد كان يقرأ الكتب ويختار منها ما يكتب عنه، وأمامي كتابه من حديث الكتب، وقد صدر في ثلاثة أجزاء تتحدث عن تسعة وستين كتابًا من أهم الكتب التي صدرت في العالم العربي أو ترجمت عن لغات عالمية أخرى، فلم يكن الرجل يعيش في صومعته، وإنما كان يعيش في دنيا الفكر، يقرأ، ويكتب عما يقرأ ولكنه يؤثر أن يكتب المعجب والمفيد.

ولا نستطيع الإسهاب في مؤلفات محمد سعيد العامودي، ولكني أتحدث عن بعض هذه الكتب في محاولة لإكمال الصورة أو تقريبها أمام القراء.

‌المختصر من كتاب نشر النور والزهر:

كتاب نشر النور والزهر ألفه القاضي والعالم المكي الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير وهو يضم تراجم - أفاضل مكة - كما وصفه مؤلفه من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر الهجري وكان الكتاب مخطوطًا، وقد ذكر الأستاذ/ العامودي في التعريف به ما يغني عن تكرار ذلك هنا.

هذا الكتاب توفَّر الأستاذ/ محمد سعيد العامودي ومعه الأستاذ/ أحمد علي على اختصاره وترتيبه والتعليق عليه ونشره.

أنه يتحدث عن علماء البلد الحرام وأدبائه على مدى خمسمائة عام، فهو من أهم الكتب من الناحية التاريخية، ولعله من أوفى ما كتب في تراجم علماء مكة وأدبائها بعد كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، للفاسي المتوفي سنة 832 هجرية، والذي ترجم فيه لنحو ثمانمائة عالم من علماء مكة وعالماتها والذي قام بنشره معالي الشيخ محمد سرور الصبان في سنة 1379 هجرية.

وإذا كان الفاسي قد توفي في الثلث الأول من القرن التاسع الهجري، فإن كتاب الشيخ/ عبد الله مرداد الذي يترجم لأفاضل مكة علماء وأدباء من القرن العاشر الهجري يعتبر امتدادًا لهذه التراجم لعلماء وأدباء البلد الحرام عبر التاريخ.

يضم كتاب نشر النور والزهر تراجم لستمائة عالم وأديب، كما يضم تراجم لبعض النساء اللاتي بلغن درجة من العلم سمحت لهنَّ بإلقاء الدروس وتعليم التلاميذ من الرجال والنساء، ولعل هذا الأمر يكشف لنا جانبًا مجهولًا عن النشاط العلمي للمرأة في البلد الحرام في القرون الماضية، ويبين لنا كيف أن أنوثة المرأة لم تقف حائلًا بينها وبين أن تطلب العلم حتى تنال منه ما يؤهلها لأن تجلس مجلس المعلم للناس.

كما يوضح للمتأمل أن الحياة العلمية في مكة المكرمة كانت تتسم بالنشاط العلمي عبر هذه القرون التي غابت أخبارها عنا، فلم يكن تصورنا عنها واضحًا، ولا صحيحًا، والمرء عدو ما يجهل.

وقد استعان الشيخ المرداد بمن سبقه من المؤرخين في التراجم التي أوردها وأشار إلى ذلك، فبين المصادر التي استقى منها المعلومات التي أوردها عن المترجم لهم، وناقش في بعض

ص: 238

الأحيان ما وجده في هذه المصادر من أخبار غير صحيحة أو تحامل من بعض المؤلفين وهو جهد مشكور للمؤلف.

يقول الأستاذ/ محمد سعيد العامودي والأستاذ/ أحمد علي في تعريفهما بالكتاب:

أننا على يقين من أن قارئه سوف يشعر بارتياح عظيم، حين يتبين له من خلال كل سطوره.

أن حركة التعليم الديني في أم القرى لم تتوقف أو تضعف في أي عهد من العهود، برغم كل الظروف والأحداث والفتن، وإنما ظلت مستمرة مضيئة منذ القرن الهجري الأول إلى اليوم، وهذا من فضل الله - ولا شك ورعايته للبلد الحرام

(1)

.

ونكتفي بهذه الكلمة الموجزة عن هذا الكتاب الذي أود من القارئ أن يقرأه ليطلع على تاريخ الحركة العلمية الدينية في البلد الحرام عبر خمسمائة عام ممثلة في تراجم موجزة عن رجال العلم والأدب في هذه البلاد.

‌من حديث الكتب:

ذكرنا في التعريف بالأستاذ/ العامودي يرحمه الله كتابه أو على الأصح كتبه الثلاث التي سماها - من حديث الكتب - والتي تحدث فيها عن تسعة وستين كتابًا في مختلف العلوم والفنون، وأود أن أذكر هنا كلمة موجزة للتعريف بهذا الكتاب القيم ذي الأجزاء الثلاث.

كان محمد سعيد العامودى يقرأ الكثير من الكتب ولكنه لا يتحدث إلا عما يعجبه منها وكان هذا الحديث تلخيصًا موجزًا للكتاب يخرج منه القارئ بفكرة موجزة عن محتوياته فإما أن يدفعه هذا التلخيص إلى البحث عن الكتاب وقراءته إن كان من هواة القراءة، وإما أن يخرج منها بفكرة عن أهم ما ورد فيه.

وتلخيص الكتب فن لا يقدر عليه إلا كاتب استطاع الإحاطة بمحتويات الموضوع الذي يقوم بعرضه على القارئ، فيقدم له في سطور ما بسطه المؤلف في صفحات، وليس هذا بالأمر الهين ولا اليسير، وأستطيع أن أقول أن الأستاذ/ محمد سعيد العامودي يرحمه الله قد وفِّق في حديثه عن الكتب توفيقًا عظيمًا، أولًا باختياره للكتب التي يتحدث عنها، وثانيًا بعرضها عرضًا جيدًا في أسلوب جميل، وفي لغة سهلة لا غموض فيها، ولا يتسع المقام للإفاضة في الحديث عن هذه الكتب فمن الخير للقارئ أن يقرأها بنفسه ليخرج منها بالفائدة التي توخاها المؤلف وهو يتحدث عنها ويوجزها.

‌مؤلفاته الأخرى:

وليس حديث الكتب هو كلما كتبه الأستاذ العامودي فقد نظم الشعر، وكتب القصة، كما كتب المقالة، وقد أثبتنا في صدر هذه الترجمة أسماء مؤلفاته المطبوعة وتواريخ نشرها، وقد

(1)

المختصر من نشر النور والزهر ص 10.

ص: 239

أخبرنِي ابنه الأستاذ / عمر محمد سعيد العامودي المحامي والكاتب المعروف أن والده ترك أوراقًا كثيرة مما لم ينشر من إنتاجه، وأرجو أن يتم جمعها وترتيبها ونشرها، ومن أجدر بهذه المهمة من أبنائه .. ؟ وفقهم الله.

أريد أن أقول ان محمد سعيد العامودي كان أديبًا مارس الفنون الأدبية كلها من شعر ونثر وكتب القصة إلى جانب المقالة، وإذا كان قد آثر

التفرغ للبحث فكان نصيب النشر في أدبه هو النصيب الأكبر فذلك راجع إلى أنه وجد فيه المجال الأكبر للتعبير والأجدى في الإفادة والتنوير.

‌وفاة العامودي:

توفي الأستاذ محمد سعيد العامودي يوم السبت الثاني من شعبان سنة 1411 هـ بعد مرضٍ طويل وعن عمر يناهز الثامنة والثمانين عامًا، وقد كان رائدًا من رواد الأدب والفكر مجاهدًا بقلمه داعيًا إلى الله على بصيرة، وخلَّف وراءه من الآثار المطبوعة والمكتوبة ما ينبئ عن حياة حافلة بالفكر والعمل.

وأرجو أن يوفق الله تعالى أبناءه الكرام الأستاذ عمر، والأستاذ أحمد لإخراج ما ترك من آثار مخطوطة ونشرها لينتفع بها القراء والأدباء.

رحم الله محمد سعيد العامودي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته ودار مغفرته ورضوانه.

* * *

ص: 240

محمَّد صالِح عَبْد الرَّحمن قزاز

ص: 241

محمد صالح عبد الرحمن قزاز

ص: 242

‌محمَّد صالِح عَبْد الرَّحمن قزاز

طويل القامة، حنطي اللون، متوسط الجسم مشرق الوجه بابتسامة دائمة، تنم نظراته عن ذكاء وقاد تكسو وجهه لحية خفيفة لمع فيها بياض المشيب لما علت به السن.

ولد بمكة المكرمة سنة 1301 للهجرة، وتعلم القراءة والكتابة فيها، وحفظ القرآن الكريم كاملًا، وكان جهوري الصوت يحسن القراءة والترتيل، وتولى إمامة الناس في صلاة التراويح كما كان يفعل أمثاله من حفظة القرآن الصغار.

انتقلت أسرته إلى الطائف في أواخر العهد الهاشمي فقد أسندت إليهم إعاشة الجند في الطائف، وعين الشاب محمد صالح القزاز أمينًا للصندوق في مالية الطائف، وحينما نقل مدير المالية الشيخ عبد الله قاضي إلى جيزان في العهد السعودي، تولى صالح قزاز مديرية المالية في الطائف.

ثم عين مديرًا لمالية مكة المكرمة، ثم اختير ناظرًا عامًا للجمارك يوم كانت واردات الدولة تعتمد على الجمارك قبل ظهور الزيت وتسويقه، وحينما شكلت أول مديرية لشئون الحج عين الشيخ محمد سرور الصبان رئيسًا لها فاختار صديقه الشيخ محمد صالح القزاز ليكون مديرًا عامًا مساعدًا له سنة 1365، ثم أصبح مديرًا لها سنة 1368.

وحينما قررت الدولة تشكيل مديرية لشئون الزراعة اختير مديرًا لها إلى جانب عمله كمدير لإدارة الحج.

وحينما قرر جلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله جلب الماء إلى جدة اختار الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية إذ ذاك الشيخ صالح قزاز للمفاوضة لشراء وجبات الماء من ملاك عيون وادي فاطمة لإسالتها إلى مدينة جدة، واشترك معه رجال آخرون واشتريت منهم وجبات في ثماني عيون فصَّلها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه موسوعة مدينة جدة

(1)

وكان شراء

(1)

انظر قصة الماء في مدينة جدة عبر التاريخ في كتاب موسوعة مدينة جدة ص 141/ 173.

ص: 243

هذه الوجبات هو الذي مكَّن الدولة من إيصال الماء إلى مدينة جدة في قنوات تمتد من وادي فاطمة إلى مدينة جدة مما كان سببًا في تطور المدينة واتساعها فالماء إكسير الحياة، وصدق الله تعالى حيث يقول:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} .

وحينما وفق الله تعالى جلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله للعمارة الأولى للمسجد النبوي الشريف وأسند أمر هذه العمارة العظيمة إلى المعلم محمد بن لادن يرحمه الله طلب من معالي الشيخ عبد الله السليمان ترشيح شخص لإدارة المشروع حيث أن ابن لادن سيتفرغ للقيام بالأعمال الهندسية والإنشاء، فاختير الشيخ صالح قزاز لإدارة المشروع، ومنه انتقل إلى إدارة مشروع العمارة السعودية الأولى للمسجد الحرام، وأسند أمر إصلاح قبة الصخرة بالقدس إلى المعلم محمد بن لادن، فتولى الشيخ صالح قزاز إدارة المشروع كذلك، وهكذا جمع الله لهذا الرجل الإشراف على تعمير أعظم مساجد الإسلام في مكة والمدينة وبيت المقدس.

وحينما تأسست رابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة 1382 واختير معالى الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله أمينًا عامًا لها، اختار صديقه الشيخ صالح قزاز أمينًا عامًا بالوكالة يقوم بأعمال الأمين العام للرابطة في حضور الأمين أوغيابه.

وحينما توفي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله سنة 1393 اختير الشيخ صالح قزاز أمينًا عامًا للرابطة، وكان قد رشح لها أحد الوزراء ولكن المجلس التأسيسي للرابطة وهو مكوَّن من علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم الاسلامي اختار وبإجماع الأراء الشيخ صالح قزاز ليكون الأمين العام للرابطة وطلبوا من جلالة الملك فيصل يرحمه الله الموافقة على اختيارهم فتم لهم ما أرادوا، وتجدد اختيار الشيخ صالح قزاز للأمانة العامة للرابطة لفترة ثانية، وكان راغبًا في التخلي عن أعمال الرابطة بعد أن قضى فيها أعوامًا كثيرة وبدأت السنُّ تعمل عملها في صحته. وأتمَّ الفترة الثانية وقدم استقالته إلى المجلس التأسيسي للرابطة، حاول أعضاء المجلس أثناءه عن الاستقالة فزاره وفد منهم بمنزله لهذه الغاية فقال لهم:

الرابطة أمانة عظيمة ولا أستطيع القيام بواجبها فأرجو إعفائي، وأمام إصراره قُبلت الاستقالة وتم تعيين فضيلة الشيخ محمد الحركان يرحمه الله أمينًا عامًا للرابطة حيث بقي فيها إلى أن توفاه الله.

‌رجل المهمات العظيمة:

كان الشيخ صالح قزاز رجل المهمات العظيمة بحق، وذلك لما يتمتع به من إخلاص في العمل، ونزاهة في الضمير، والرغبة في تحقيق الخير أينما حلَّ وَرَحل.

ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الشيخ صالح قزاز يرحمه الله لم يكن يتقاضى من المعلم محمد بن لادن أجرًا حينما كان يقوم بإدارة الأعمال العظيمة في توسعة المسجد النبوي الشريف الأولى ثم في توسعة المسجد الحرام، ثم في إصلاح مسجد قبة الصخرة في بيت المقدس ولذلك قصة نوردها فيما يلي:

ص: 244

‌الرغبة في الهجرة إلى المدينة:

يقول صديقنا الأستاذ حسن قزاز الكاتب ورجل الأعمال وتربطه صلة القرابة بالشيخ صالح قزاز يقول: في بداية عام 1371 كنا بعوائلنا "يقصد عوائل آل قزاز" جميعًا في زيارة المسجد النبوي الشريف، وفي ضحى أحد الأيام اصطحبني الشيخ صالح إلى المسجد وصلَّينا في الروضة المطهرة الشريفة، ثم وقفنا مسلِّمين على الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

التفت الشيخ صالح إليَّ قائلا: أتمنى لو أحصل على راتب تقاعد مقداره ألف ريال شهريًا أعيش به في هذا المكان الطاهر بجوار المسجد النبوي الشريف، وأقضي بقية عمري في هذه الرحاب الطاهرة.

يقول حسن قزاز: قلت له ياعم صالح إنك لا تزال في عنفوان رجولتك وأمامك الحياة طويلة ودواعي الطموح كثيرة.

قال الشيخ صالح أن شعورًا خفيًا يدفعني لهذه الأمنية وأرجو أن يحققها الله.

يقول حسن قزاز وعُدْنا من المدينة إلى الطائف.

ومضت سنوات وأقام الشيخ صالح قزاز وأخوه الشيخ أحمد قزاز في منزلهما بالطائف حفلًا لتكريم معالي الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية رحمه الله، وفي هذا الحفل أعلن الشيخ عبد الله السليمان أن جلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله أمره بعمارة المسجد النبوي الشريف بعدما ذكرت الصحف المصرية أن تصدعًا حدث في بعض الأعمدة، ودعى مصطفى النحاس باشا المسلمين إلى التبرع لعمارة المسجد، وتقدم البعض بتبرعاتهم، ولكن الملك عبد العزيز يرحمه الله أبى أن يقبل تبرعًا من أي جهة كانت وأعلن قائلًا: نحن أولى بتعمير المسجد الشريف، وطلب أن تعاد للناس تبرعاتهم وأصدر أمره إلى وزير ماليته الشيخ عبد الله السليمان لتنفيذ العمارة المطلوبة.

وقال الشيخ عبد الله السليمان، لقد كلفت المعلم محمد بن لادن بالقيام بالعمارة المطلوبة التي تشمل إزالة التصدعات وتوسعة المسجد وهي التوسعة الأولى التي تمت في العهد السعودي

(1)

.

وفي هذا الاجتماع طلب الشيخ محمد بن لادن اختيار رجل كفء ليقوم بعبئ الأعمال الإدارية لهذا المشروع العظيم لأنه سيتفرغ للأعمال الهندسية وأعمال البناء.

وفي هذا الاجتماع تم اختيار الشيخ صالح قزاز ليكون هو الرجل الإداري الذي يطلبه المعلم محمد بن لادن.

وتحققت أمنية الشيخ صالح قزاز وانتقل إلى المدينة المنورة لا ليكون مهاجرًا في رحاب

(1)

انظر كلما يتعلق بهذه التوسعة في الجزء الثاني من أعلام الحجاز ص 43 - 53.

ص: 245

المسجد النبوي الشريف، وإنما ليكون مشرفًا على عمارة المسجد النبوي الشريف وتوسعته، وإبرازه في أجمل الحلل.

ولكن هل اكتفى صالح قزاز بأن حقق الله له أمنية غالية تمناها وأجاب الله دعوة دعاها وهو في الروضة المطهرة، وفي رحاب المسجد النبوي الشريف

؟

صالح قزاز بهذا، وإنما قرَّر بينه وبين نفسه أن يقوم بهذا العمل دون أن يتقاضى أجرًا من المعلم بن لادن، أراد أن يكون عمله في إدارة هذا العمل العظيم قربي إلى الله تعالى، خالصًا لوجهه؟

كتب خطابًا سريًا إلى جلالة الملك فيصل وكان نائبًا لجلالة والده في الحجاز يرحمهما الله تعالى، كتب إليه قراره بأن لا يتقاضى من المعلم بن لادن أي أجرٍ على قيامه بهذا العمل، وطلب من سموه تدبير راتب شهرى له يعيش وأسرته عليه.

واستجاب يرحمه الله فأصدر أمرًا إلى وزارة الخارجية وكان وزيرها، بتعيين صالح قزاز وزيرًا مفوضًا في وزارة الخارجية، ومن راتب هذه الوظيفة الاسمية كان صالح قزاز يعيش وينفق على أسرته حتى وفاته

(1)

.

‌في رابطة العالم الإسلامي:

وحينما اختار الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله الشيخ صالح قزاز ليكون وكيلًا له في رابطة العالم الإسلامي سنة 1381، ثم اختير أمينًا عامًا لها بعد وفاة الشيخ محمد سرور لم يتقاض صالح قزاز راتبًا من الرابطة طيلة عشرين عامًا بل كان يتحمل النفقات التي يتقاضاها عمله، ويجنب صندوق الرابطة أن يتحملها، يقول الشيخ محمد صفوت السقا الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي ما يلي:

وشهادة لله أزكيها ويعرفها كل من كان له شرف العمل معه - مع صالح قزاز - في الرابطة أنه لم يقبض ريالًا واحدًا كراتب أو تعويض أو حتى كمساهمة في النفقات التي يتطلبها العمل في الرابطة، فكانت السيارة من ماله وسائقها وحتى أجور السفر، وكانت كل الولائم التي نقيمها على مدار العام في داره من جيبه من مرتبه الذي يتقاضاه من تقاعده

الخ.

‌لقد أكرمني الله أن أكون مطوفًا للعلماء:

ويواصل الشيخ محمد صفوت السقا حديثه عن الشيخ صالح قزاز فيقول:

وعندما يقوم باسقبال الوفود والإشراف على راحتهم من مختلف أنحاء العالم يقول: تعلم أنني تركت الطوافة هربًا ولكن الله سبحانه وتعالى أكرمني أن أعمل مطوفًا لعلماء العالم الإسلامي بحكم طبيعة عملي في الرابطة، ويا أخ صفوت مهنة الطوافة تشريف وتكريم لأهل مكة المكرمة، وكم كان يتمنى أن يتفرغ للتدريس في الحرم المدني والمكي

(2)

.

(1)

انظر مقال حسن قزاز بجريدة الندوة العدد 9124 بتاريخ 2 رجب 1409 هـ.

(2)

انظر مقال محمد صفوت السقا في جريدة المدينة المنورة العدد 7949 بتاريخ 2 رجب 1409 هـ.

ص: 246

‌عمل وإنجاز:

كان الشيخ صالح قزاز يهب نفسه للعمل الذي يوكل إليه مدفوعًا بالرغبة في الإنجاز والإصلاح.

اختير مديرًا عامًا لأول مديرية للزراعة حين تأسيسها عام 1368 للهجرة، وجاء هذا الاختيار ليجمع الرجل بين عمله في مديرية الحج العامة، ومديرية الزراعة، يقول معالي الأستاذ عبد الله الدباغ وزير الزراعة الأسبق الذي عمل مساعدًا للشيخ صالح قزاز في مديرية الزراعة في جدة حين تأسيسها ما يلي:

لم أر في حياتي رجلًا كالشيخ محمد صالح قزاز في نشاطه، ودأبه وحرصه على أداء واجبه وأكثر من واجبه في تفان وإخلاص.

لم يكن يعرف للراحة طعمًا، فنهاره كله عمل من حين أن يصبح إلى أن يمسي وحتى يأوي إلى فراشه.

كان يرحمه الله أول الحاضرين إلى مكتبه وآخر من يخرج منه إلى داره، وكانت داره مكتبًا آخر يمتد فيها العمل حتى ساعة متأخرة من الليل، والإجازة الأسبوعية كان يقضي معظمها في زيارات للمناطق الزراعية يتفقد أحوالها، ويبحث مشاكلها، ويحلُّ منها ما كان قادرًا على حله.

وكانت مسئوليته في أعمال الحج تتطلب منه الانتقال يوميًا بين مكة وجدة أكثر من مَرَّةٍ في اليوم الواحد أحيانًا، خصوصًا في موسم الحج حرصًا منه على قضاء مصالح الحجاج، وكنت أرافقه في بعض المرات، وعندما نكون سويًا في المقعد الخلفي للسيارة يطلب مني الانتقال إلى جانب السائق لينال هو قسطًا من الراحة بالاسترخاء بعض الوقت بعد عناء العمل ليلًا.

وكان بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز يرحمه الله ويأمر من معالي الشيخ عبد الله السليمان أول من أدخل مضخات الماء لتوزع على المزارعين في مختلف مناطق المملكة كوسيلة بديلة للطريقة التقليدية لرفع المياه من الآبار.

كما كان أول من فكَّر في إصلاح عدد من عيون المياه التي توقف جريانها في وادي فاطمة وغيره من الوديان، كما أوجد وحدات الخدمة الزراعية المجهزة بآلات التسوية والحراثة لإقامة العقوم وحراثة الأرض للمزارعين في مناطقهم واستورد في عهده الكثير من شتلات أشجار الفاكهة من مصر ولبنان وزعت على المزارعين بدون مقابل.

كل هذا بالرغم من ضآلة الميزانية السنوية لمديرية الزراعة في ذلك الوقت، والتي أذكر أنها لم تتجاوز اثنى عشر مليون ريال.

ويواصل الأستاذ عبد الله الدباغ حديثه فيقول:

أن أكثر ما شدني للشيخ محمد صالح قزاز هو إيمانه العميق، وعزوفه عن رغد العيش وميله إلى التقشف مع ما أنعم الله به عليه من وفرة في الرزق وكرم في العطاء.

ص: 247

كان عندما يضطر إلى البقاء طيلة نهارة في جدة لم يكن له بيت يأوي إليه بعد الغذاء ولا فندق يذهب إليه ليرتاح بعض الوقت لكي يستأنف عمله بعد ذلك، فكان يفترش المكاتب الحديدية في فرع مديرية الزراعة بجدة جاعلًا ذراعه وسادة لرأسه، وذلك حتى لا يغريه الفراش الناعم الوثير بإطالة فترة راحته.

وعندما يكون في البادية لا تختلف معيشته في نومه وطعامه مع معيشة أهل البادية بخشونتها وقسوتها

(1)

.

‌مدارس تحفيظ القرآن الكريم:

كان الشيخ صالح قزاز من أوائل الرجال الذين ساهموا في تأسيس مدارس تحفيظ القرآن الكريم التي بدأت في سنة 1382 في مكة المكرمة، ثم انتشرت في جميع أرجاء المملكة، ولم يكتف الشيخ صالح قزاز بالمساهمة فيها بجهده. ولكنه ساهم كذلك بماله، فأوقف عليها عمارة في محلة الشامية بمكة المكرمة تساهم غلتها في واردات الجماعة، يقول الدكتور حسن محمد باجوده، رئيس قسم الدراسات العليا بجامعة أم القرى، والأمين العام لجماعة تحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة ما يلي:

نستطيع أن نقول أن كل إمام يؤم المسلمين حاليًا في مكة المكرمة، وبخاصة في شهر رمضان في صلاتي التراويح والقيام والجماعة لتحفيظ القرآن الكريم في مساجد مكة وفيها ما يزيد على ستمائة شاب يؤمون المسلمين في ليالي رمضان نقول:

أن للشيخ صالح قزاز بفضل الله تعالى يدًا على هؤلاء.

ونستطيع القول ذاته عن كل الذين حفظوا القرآن الكريم في جماعة تحفيظ القرآن الكريم وفي العديد من جهات المملكة.

ويبدو هذا الأمر على حقيقته عندما نستعرض جهوده رحمه الله في سبيل النهوض بهذه الجماعة سنة 1382 هـ، وكان رئيس هذه الجماعة الشيخ محمد يوسف سيتي الباكستاني الجنسية صاحب هذه الفكرة، وقد تبنى هذه الجماعة عدد من الرجال الأفاضل ومنهم الشيخ محمد صالح القزاز يرحمه الله.

ويواصل الدكتور باجوده حديثه فيقول:

هذا الرجل جعل كل نشاطه بعد نهاية خدمته للأمانة - أمانة رابطة العالم الإسلامي - جعل كل همه أن يخدم القرآن الكريم، فلقد كان في المملكة جماعة مكة، وترتبط بها الجماعات الأخرى في جدة والطائف والرياض، وبلجرشي والليث وغيرها، وكانت المساعدات التي تتدفق على جماعة مكة تنال تلك الجماعات حظها منها.

الشيخ صالح رحمه الله وجه الجماعة وجهة الحفظ للشباب ترتيلًا بقصد أن يأتي الشباب صلاة الجماعة في المحاريب.

(1)

جريدة عكاظ العدد 8256 في 8 رجب 1409 هـ.

ص: 248

وبفضل الله تعالى نهضت الجماعات واستقلَّت ونمت الجماعات.

وكان للشيخ القزاز بعد الله ثم المسؤولين الغيورين على هذا الكيان كبير الفضل فمثلًا وقف للجماعة عمارة في الشامية وحوَّل حسابها للجماعة.

ومما ينبغي أن يذكر أن الشيخ القزاز مع فريق من الجماعة كانوا يصلون العشاء في رمضان، وينطلقون إلى مساجد مكة التي يؤم أبناء الجماعة فيها المساجد من أجل توجيههم ونصحهم وإعطائهم المكافآت.

كان رحمه الله حريصًا على تشجيع الشباب على حفظ القرآن والقراءة في كل المناسبات، فكان يتيح لهم الفرص في المواسم وفي افتتاح الندوات، بل كان يأخذ فريقًا على حساب الرابطة للحج كل ذلك احتفاءًا بِحَملة القرآن، وتشجيعًا للبراعم الصغيرة.

وبفضل الله تعالى ثم بفضل المنزلة التي يتمتع بها في قلوب الناس انهال الخير على جماعة التحفيظ في مكة فدعمته الحكومة، وقام بدوره بدعم الجماعات الأخرى فالمساعدة السنوية مستمرة، والملك خالد رحمه الله أعطى مبلغًا كبيرًا أقامت به عمارة مؤجرة للمالية تنتفع بها الجماعة ومدارسها للبنين والبنات التي تشتمل كل أحياء مكة المكرمة.

ويقول الدكتور باجودة:

في الحرم وحده 45 مدرسة للبنين بين باب السلام وباب العمرة إضافة إلى معهد الأرقم ومقره الحرم أيضًا.

كان رحمه الله حريصًا على تخريج المدرسين المجودين فأقام معهد الأرقم بن أبي الأرقم وبه الآن أربعمائة طالب ولله الفضل والمنة، ومدارس البنات بلغ تعدادها أربعًا وعشرين مدرسة.

والحقيقة أن الشيخ القزاز يرحمه الله كان في السنوات الأخيرة شبه منقطع في منزله ولكنه كان في نفس الوقت يوجه نشاطه كله للجماعة، فكان يدير أمورها من منزله، ويعتبر كل صاحب مسألة أن الشيخ القزاز هو صاحبها لشدة حبه للجماعة والقرآن.

ثم يختم الدكتور باجودة حديثه قائلًا:

مرت سبعة وعشرون سنة على الجماعة، وحفظ بها حوالي ألف وخمسمائة شاب القرآن الكريم، وفي العام الماضي وحده كان عدد الحفاظ مائة وستين شابًا

(1)

.

هذه شهادات الرجال الذين عملوا مع الشيخ صالح قزاز في المجالات المختلفة، شهاداتهم بعد أن فارق الرجل هذه الحياة الدنيا، وصار في رحاب الله تعالى نطقت بها ألسنتهم إبراءًا للذمة، وإظهارًا للفضل الذي كان صاحبه أزهد الناس في ذكره والإشارة إليه.

(1)

جريدة عكاظ العدد 8250 في رجب 1409 هـ.

ص: 249

‌معرفتي بالشيخ صالح قزاز:

عرفت الشيخ صالح قزاز وأخاه الشيخ أحمد يرحمهما الله في النصف الثاني من القرن الماضي. فقد كنت أعمل سكرتيرًا لمعالي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله، وتوجه إلى الطائف في أوائل صيف سنة 1356 للهجرة، ونزل وأنا بمعيته في بيت القزاز بالطائف، وكان الشيخ أحمد وأخوه الشيخ صالح يسكنون في منزل بجوار باب الريع، وكان منزلهما دار ضيافة للقادمين من أعيان المكيين، ولم تكن الفنادق إذ ذاك قد عرفت في الحجاز، وإنما كان الناس ينزلون على بيوت أقربائهم ومعارفهم، وكانت كل الدور معدة لاستقبال الضيوف القادمين إليها والذين يلقون كل ترحيب وإكرام.

رأيت الشيخ صالح وكان في كمال رجولته مشرق الوجه، دائم الترحيب بالناس، وكان جهوري الصوت، يجيد ترتيل القرآن الكريم، فكان الشيخ محمد سرور الصبان يقدمه لإمامة الناس بالصلاة في منزله حينما يفد لزيارته قبل الغروب.

وحينما أسندت إليه مديرية الزراعة في جدة سنة 1366 ازدادت صلتي به وثوقًا. كانت مديرية الزراعة قد بدأت في إدخال رافعات المياه وتوزيعها على المزارعين، وكانت تشجع المزارعين بإعطائهم الآلات بقروض ميسرة تتحمل مديرية الزراعة جزءًا منها، وتقسط باقي القيمة على المزارعين أقساطًا سهلة.

وسافرت إلى أمريكا سنة 1948 للميلاد، واتصلت بإحدى الشركات التي تصنع طلمبات الماء، وتأكدت من جودتها فاستوردت ثلاث رافعات ذات مقاسات مختلفة لتقديمها لمديرية الزراعة لتجربتها توطئة لاستيرادها بكميات تجارية.

وحينما وصلت الرافعات ذهبت لمقابلة الشيخ صالح قزاز يرحمه الله وقلت له إنكم تشترون الرافعات من شركة بكتل وتتحملون جزءًا من القيمة مساعدة للمزارعين، وأنا على استعداد لأن أقدم لكم الرافعات بالأسعار التي تباع على المزارعين، ولا تتحملون الفروق التي كنتم تتحملونها، ولكني أريد أولًا أن تجربوا هذه الآلات فإذا تأكدتم من جودتها عملت على استيرادها، وأمر الشيخ صالح قزاز باستلام المكائن الثلاث التي استوردتها وبعد فترة اتصل بي تليفونيا وقال:

ما هو العدد الذي لديك من الطلمبات اثنين بوصة

؟

قلت: إن ما لديَّ قدمته لك وأنا في انتظار نتائج التجربة.

قال: المكائن جيدة ونحن على استعداد لشرائها فاعمل على توريدها.

واستوردت الدفعة الأولى ثلاثين مكينة وطلمبة وقبل إخراجها من الجمارك اتصل بي يرحمه الله تليفونيًا وقال:

لقد حَوَّلْت عليك مزارعين من الطائف بثلاثين مكينة، ومع كل واحد منهم أمرًا بالتحويل.

ص: 250

وعجبت من معرفة الشيخ صالح قزاز بأمر المكائن الثلاثين وهي ما زالت في الجمارك، ثم علمت أنه علم من إدارة الجمارك بوصولها، وتكررت المسألة، فلا تصل شحنة من هذه المكائن الزراعية إلا والمزارعون حاضرون لاستلامها، وهكذا كان الشيخ صالح قزاز يرحمه الله مثابرًا ودقيقًا في عمله، وبفضل هذه المثابرة وهذا الإخلاص انتشرت المكائن الزراعية في جميع قرى الطائف ووديانه، واستفاد المزارعون منها فائدة عظيمة في تطوير الزراعة واستبدال الحيوان بالآلة في زمن وجيز.

ولا شك أن ما تم في الطائف تم في نفس الوقت في أماكن أخرى من المملكة وتعددت الآلات الزراعية وأصنافها حسب طبيعة المناطق الزراعية ومتطلباتها.

هذه تجربة عملية أتيح لي أن أتعرف منها على إخلاص الرجل في عمله ومتابعته له. وحينما اطلعت على أول تقرير للأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي وجدت فيه مرتب الأمين العام وكان معالي الشيخ محمد سرور الصبان يرحمه الله، ومرتب الأمين العام المساعد وهو الشيخ صالح قزاز قد حسم من بند المصروفات لأن الرجلين كانا يعملان بدون مرتب ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولم أستغرب أن يحدث هذا من الأمين العام فقد كان في بحبوحة من العيش بما أفاء الله عليه، ولكني أكبرت في الشيخ صالح قزاز يرحمه الله خدمته للرابطة بدون مقابل بل تحمله النفقات في سبيل أداء الواجب كما فصل ذلك الشيخ محمد صفوت السقا في الكلمة التي نقلناها قبل، ولم أفاجأ بإصرار الأعضاء المؤسسين في الرابطة بعد ذلك على اختيار الشيخ صالح قزاز أمينًا للرابطة بعد وفاة أمينها العام الشيخ محمد سرور الصبان، ثم محاولتهم التأثير عليه ليبقى في الأمانة بعد أن علت به السن، ولم يعد قادرًا على القيام بأعباء العمل العظيم.

وقد تبين أن رغبة الشيخ صالح قزاز في العمل بدون مرتب كانت رغبة قديمة نفذها منذ أسند إليه الإشراف على عمارة المسجد النبوي الشريف السعودية الأولى عام 1368 للهجرة، وقبل اختياره أمينًا عامًا مساعدًا لرابطة العالم الإسلامي بربع قرن، وقد كشف لنا أمر هذه الحسنة الأستاذ حسن قزاز جزاه الله خير الجزاء في الكلمة التي نقلناها عنه قبل، وقد تجنب الشيخ صالح قزاز الإشارة إليها أو إظهارها للناس رغبة فيما عند الله، ولكن العمل الطيب كالعطر الزكي الرائحة ينم عن نفسه، وقد شاء الله تعالى أن يظهر هذا العمل الطيب للناس بعد وفاة صاحبه ليذكر له بالخير وليترحم عليه كل من اطلع عليه.

اعتكف الشيخ صالح قزاز في داره بعد استقالته من الرابطة، وانقطع برغبته عن الناس ولكنه لم ينقطع عن متابعته لأعمال جماعة تحفيظ القرآن الكريم التي احتضنها منذ عام 1382، والتي أراد الله تعالى لها النمو والانتشار، وتخرج منها الأئمة والمدرسون والحفاظ ولا تزال تعمل وتنمو كما بيَّن ذلك الدكتور باجوده في كلمته التي نقلناها قبل، وأراد الله تعالى أن يتم فضله على الشيخ صالح قزاز فأوقف عمارته الكبيرة بالشامية على جماعة تحفيظ القرآن الكريم في حياته، وأصبح ريع هذه العمارة ملكًا للجماعة يصرف عليها.

ص: 251

ولابد أن نذكر أن الشيخ صالح قزاز وأخوه الشيخ أحمد قزاز حينما انتقلوا من الطائف، وأقاموا في مكة المكرمة اشتروا قطعة أرض كبيرة خارج مكة المكرمة، وبتوالي السنين واتساع العمران ارتفعت قيمة هذه الأرض فباعوا أجزاءًا منها وأنشأ الشيخ صالح قزاز عمارته في الشامية من قيمة هذه الأرض التي أكرمه الله تعالى بها في آخر حياته، فاستعملها في أشرف القربات وأكرمها في خدمة القرآن الكريم.

‌وفاة الشيخ صالح قزاز:

توفي الشيخ صالح قزاز في 30 جمادي الآخرة من عام 1459 للهجرة من عمر يناهز التسعين عامًا، ودفن في مكة المكرمة، تغمده الله بواسع رحماته، وجزاه الله خير الجزاء، أنه سميع مجيب.

ص: 252

(مصادر الكتاب)

اسم الكتاب

المؤلف والمطبعة وتاريخ الطبع

1 -

القرآن الكريم

2 -

صفوة التفاسير

محمد على الصابوني، مطابع دار القرآن الكريم - بيروت الطبعة الثانية سنة 1401 هـ، 1981 م.

3 -

التاريخ القويم لبيت الله الكريم

محمد طاهر الكردي - الطبعة الأولى 1385 هـ.

4 -

إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام

عبد الله محمد الغازي - مخطوط.

5 -

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأرزقي - الطبعة الثالثة دار الثقافة بمكة 1399 هـ - 1979 م.

6 -

أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه

الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي - تحقيق الأستاذ عبد الملك بن عبد الله بن دهيش مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة مكة المكرمة الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م.

7 -

أسد الغابة في معرفة الصحابة

عز الدين بن الأثير أبو الحسن علي بن محمد الجزري - القاهرة 1973 م.

8 -

أعلام الحجاز الجزء الأول

محمد علي مغربي - مطابع دار العلم الطبعة الثانية سنة 1405 هـ - 1985 م.

9 -

أعلام الحجاز الجزء الثاني

محمد علي مغربي - مطابع دار العلم الطبعة الأولى سنة 1404 هـ - 1984 م.

10 -

أمراء البلد الحرام

السيد أحمد بن السيد زيني دحلان الدار المتحدة للنشر والتوزيع بيروت/ لبنان.

ص: 253

11 -

البداية والنهاية

أبو الفداء الحافظ بن كثير مكتبة دار المعارف الطبعة الثانية 1977 م.

12 -

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي إصدار وزارة الثقافة والإرشاد القومي - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.

13 -

العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين

الإمام أبو الطيب التقي الفاسي محمد بن أحمد الحسيني المكي مطبعة السنة المحمدية بمصر 1379 هـ / 1959 م.

14 -

أعلام الحجاز - الجزء الثالث

محمد علي مغربي - مطبعة المدني بالقاهرة - الطبعة الأولى سنة 1410 هـ - 1990 م.

15 -

الأعلام

خير الدين الزركلي - دار العلم للملايين - بيروت الطبعة الخامسة مايو 1980 م.

16 -

السيد أحمد الفيض آبادي

عبد القدوس الأنصاري.

17 -

بين السجن والمنفى

أحمد عبد الغفور عطار الطبعة الأولى بمكة المكرمة سنة 1401 هـ - 1981 م.

18 -

أجنحة بلا ريش

حسين سرحان - إصدار نادي الطائف الأدبي الطبعة الثانية سنة 1397 هـ.

19 -

الصوت والصدى

حسين سرحان.

20 -

الهوى والشباب

أحمد عبد الغفور عطار سنة 1400 هـ - 1985 م.

21 -

تاريخ التمدن الإسلامي

جورجي زيدان - مطبعة الهلال بمصر سنة 1931 م.

22 -

تاريخ مكة

أحمد السباعي. الطبعة الرابعة - إصدار نادي مكة الثقافي سنة 1399 هـ - 1979 م.

23 -

الذهب المسبوك

للمقريزي.

24 -

تاريخ عمارة المسجد الحرام

الشيخ/ حسين عبد الله باسلامة.

25 -

بدائع الزهور في وقائع الدهور

محمد بن أحمد بن إياس الحنفي - إصدار لجنة المستشرقين الألمانية - طبع دار احياء الكتب العربية بمصر سنة 1975 م.

26 -

المماليك

الدكتور السيد الباز العريني - دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت سنة 1979 م.

27 -

ذكريات العهود الثلاثة

محمد حسين زيدان - الطبعة الثانية 1411 هـ / 1990 م.

28 -

مأدبة الله في الأرض

أحمد محمد جمال - منشورات نادي القصيم الأدبي، بريدة الطبعة الأولى سنة 1404 هـ / 1984 م.

ص: 254

29 -

صقر الجزيرة

أحمد عبد الغفور عطار - الطبعة الثالثة سنة 1392 هـ/ 1972 م.

30 -

شعر حسين سرحان

أحمد عبد الله صالح المحسن إصدار النادي الثقافي الأدبي بجدة سنة 1411 هـ - 1991 م.

31 -

مذكرات صالح جمال

مخطوط.

32 -

التقرير السنوي لجمعية البر بمكة المكرمة

سنة 1412 هـ - 1413 هـ.

33 -

نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهور

عبد الله مراد أبو الخير. الطبعة الثانية لعالم المعرفة جدة 1406 هـ - 1986 م. عمر عبد الجبار.

34 -

سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر

الطبعة الثانية جدة 1403 هـ - 1982 م.

35 -

شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي - طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر 1956 م.

36 -

دولة الظاهر بيبرس

الدكتور محمد جمال سرور - دار الفكر العربي سنة 1960.

37 -

ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز

محمد علي مغربي - مطابع دار العلم بجدة الطبعة الأولى سنة 1404 هـ / 1984 م.

38 -

عثمان بن عفان ذو النورين

محمد علي مغربي مطابع دار العلم بجدة الطبعة الأولى سنة 1404 هـ - 1984 م.

39 -

تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية

عثمان حافظ، الطبعة الثانية شركة المدينة للطباعة والنشر جدة سنة 1398 هـ 1978 م.

40 -

رباعياتي

محمد سعيد العامودي.

41 -

موسوعة مدينة جدة

عبد القدوس الأنصاري مطابع الروضة بجدة الطبعة الثانية سنة 1401 هـ 1980 م.

الصحف والمجلات:

42 -

مجلة المنهل، مجلة الأربعاء، جريدة المدينة، جريدة عكاظ، جريدة الندوة، جريدة الشرق الأوسط.

ص: 255

‌كتب صدرت للمؤلف

- البعث: رواية طويلة صدرت الطبعة الأولى منها في عام 1364 هـ وأعيد طبعها مع قصص أخرى سنة 1403 هـ.

- حبات من عنقود: مجموعة من الأحاديث القصيرة صدرت عام 1387 هـ، وأعيد طبعها في سنة 1405 هـ.

- لعنة هذا الزمن: مجموعة مقالات تتعلق بالأحداث العربية والإسلامية صدرت سنة 1387 هـ.

- أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة: تراجم لثلاثين من أعلام الرجال في الحجاز صدرت طبعته الأولى عام 1401 هـ، وصدرت الطبعة الثانية في سنة 1405 هـ.

- ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عثمر للهجرة: تصوير للحياة الاجتماعية في الحجاز خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر للهجرة، صدرت طبعته الأولى سنة 1402 هـ وصدرت الطبعة الثانية في سنة 1405 هـ، وصدرت الطبعة الثالثة في سنة 1405 هـ، وهي خاصة بالمكتبات المدرسية لوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية.

- أبو بكر الصديق خليفة رسول الله: الكتاب الأول في سلسلة أعلام الصحابة صدر في سنة 1403 هـ.

- عمر بن الخطاب أمير المؤمنين: الكتاب الثاني في سلسلة أعلام الصحابة صدر في سنة 1403 هـ.

- الجزء الثاني من أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة: تراجم لعشرة من أعلام العُلماء والمؤرخين والشعراء والأدباء مع دراسة لآثارهم المطبوعة والمخطوطة دراسة وافية، صدر في سنة 1404 هـ.

- الإسلام في شعر شوقي: بحث قُدم إلى المؤتمر الأول للأدباء السعوديين الذي عقد بمكة

ص: 256

المكرمة من غرة ربيع الأول 1394 هـ إلى السابع منه، وهو دراسة لشعر شوقي الإسلامي وخاصة في أماديحه النبوية صدر في عام 1404 هـ.

- عثمان بن عفان ذو النورين: الكتاب الثالث في سلسلة أعلام الصحابة صدر في سنة 1404 هـ.

- علي بن أبي طالب والحسن بن علي: الكتاب الرابع في سلسلة أعلام الصحابة صدر في سنة 1407 هـ.

- تاريخ الدولة الأموية: تاريخ مفصل للأحداث السياسية في الدولة الأموية منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن محمد الحمار آخر الخلفاء الأموين مع تراجم للخلفاء الأموين جميعًا صدر سنة 1409 هـ.

- الجزء الثالث من أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة وبعض القرون الماضية: صدر سنة 1410 هـ.

- لمحات من تاريخ الحجاز قبل الإسلام: صدر سنة 1414 هـ.

تاريخ الحجاز قبل الإسلام تاريخ قديم حاول المؤلف فيه الإلمام بملامح هذا التاريخ فتحدث عن بناء الخليل إبراهيم عليه السلام للكعبة المشرفة وما أمكن الوصول إليه من أخبار مكة قبل الإسلام، وتحدث الكتاب عن يثرب وغزو اليهود إليها ووصول الأوس والخزرج إليها وعن شمال الحجاز النبوات التي ظهرت في الحجر ومدين أبناء إسماعيل عليه السلام وانتقالهم إلى شمال الحجاز ثم عودتهم إلى مكة المكرمة.

* * *

ص: 257