المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكِفاية في التَّفسيرِ بِالمأْثورِ والدِّراية   تأليف الفقير إلى رحمة ربه د. عبدالله خضر - الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية - جـ ٣

[عبد الله خضر حمد]

فهرس الكتاب

الكِفاية

في التَّفسيرِ بِالمأْثورِ والدِّراية

تأليف الفقير إلى رحمة ربه

د. عبدالله خضر حمد

الجزء الثالث

سورة البقرة الآية (91 - 170)

الطبعة الأولى

1438 هـ - 2017 م

ص: 1

حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم

الرقم الدولي (ISBN): 9953 - 72 - 715 - 5

الطبعة الأولى

1438 هـ - 2017 م

الناشر: دار القلم

بيروت - لبنان

ص: 2

القرآن

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة: 91]

التفسير:

وإذا قال بعض المسلمين لليهود: صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن، قالوا: نحن نصدِّق بما أنزل الله على أنبيائنا، ويجحدون ما أنزل الله بعد ذلك، وهو الحق مصدقًا لما معهم. فلو كانوا يؤمنون بكتبهم حقًا لآمنوا بالقرآن الذي صدَّقها. قل لهم -يا محمد-: إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم، فلماذا قتلتم أنبياء الله مِن قبل؟

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 91]، " أي وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليهود المدينة وما حولها"(1).

قال ابن عثيمين: " وأبهم القائل ليكون شاملاً لكل من قال لهم هذا القول: إما الرسول صلى الله عليه وسلم وإما غيره"(2).

قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 91]، "أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه"(3).

قال الثعلبي: " يعني القرآن"(4).

قال المراغي: " آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله"(5).

قال ابن عثيمين: أي صدِّقوا به مع قبوله، والإذعان له، لأن الإيمان شرعاً: التصديق مع القبول، والإذعان؛ وليس كل من صدق يكون مؤمناً حتى يكون قابلاً مذعناً؛ والدليل على ذلك أن أبا طالب كان مصدقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن مؤمناً؛ لأنه لم يقبل، ولم يذعن" (6).

قوله تعالى: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91]، "أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة"(7).

قال الثعلبي: " يعني التوراة"(8).

قال القاسمي: "أي: من التوراة، ولا نقرّ إلا بها"(9).

قال المراغي: " قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بنى إسرائيل كالتوراة وغيرها"(10).

قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91]، "يعني ويجحدون بما وراء التوراة"(11).

قال الثعلبي: " أي بما سواه وبعده"(12).

(1) تفسير المراغي: 1/ 170.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 296 - 297.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 68.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 235.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 170.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 297.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 68.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

(9)

محاسن التأويل: 1/ 351.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 170.

(11)

تفسير الطبري: 2/ 348.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

ص: 4

قال الزجاج: " معناه: ويكفرون بما بعده، أي بما بعد الذي أنزل عليهم"(1).

قال القاسمي: " أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده"(2).

قال المراغي: " أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن"(3).

وتفسير (وراءه)، في هذا الموضع (سوى)، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن:(ما وراء هذا الكلام شيء)، يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام، فكذلك معنى قوله:{ويكفرون بما وراءه} ، أي بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله (4).

قال ابن منظور: " الوراء جميعا يكون خلف وقدّام"(5)، ، وعند ابن دريد: الوراء: الخلف، والوراء: القدّام، وهو من الأضداد" (6)، وقال أبو سعيد الأصمعي: "ووراء خلف ووراء قدّام، قال جلّ ثناؤه:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، وكان وراءهم أي: قدّامهم، وقال الشاعر (7):

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

فقوله ورائيا، أي: قدّامي (8).

وقال الجوهري: " وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام. وهي من الأضداد"(9)، قال الله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم، وتصغيرها وريئه "بالهاء" وهي شاذة. وانتصب "وراءه" على الظرف. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد (10):

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن

لقاؤك إلا من وراء وراء

قلت-الإمام القرطبي-: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: " إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ"(11)، والوراء: ولد الولد أيضا (12).

(1) معاني القرآن: 1/ 174.

(2)

محاسن التأويل: 1/ 351.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 170.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 348.

(5)

اللسان: 6/ 906.

(6)

جمهرة اللغة، 1/ 236، وانظر: مجمل اللغة: 3/ 80، 932.

(7)

البيت لسوار بن المضرب السعدي، انظر: خزانة الأدب: 2/ 461. وقيل انه لفرزدق انشده حين هرب من الحجاج (معجم البلدان: 2/ 448):

ترجو بنو مروان سمعي وطاعتي،

وخلفي تميم والفلاة أماميا؟

(8)

أضداد الأصمعي: 20.

(9)

مختار الصحاح: (ورى).

(10)

[البيت لعتيّ بن مالك العقيلي، انظر: الخزانة/ 6/ 504، الهمع: 1/ 210، ومعاني القران للفراء: 2/ 320، وشذور الذهب، واللسان (وري).

(11)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها:(195)، قال الإمام مسلم: " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

⦗ص: 187⦘

: " يَجْمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ "، قَالَ:" فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُولُ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ " قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: " أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا "، قَالَ:«وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ» وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا".

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 29.

ص: 5

وقال ابن قتيبة: "وراء: تكون بمعنى (خلف)، وبمعنى (قدّام)، ومنها (المواراة) و (التواري)، فكل ما غاب عن عينيك فهو (وراء)، كان قدّامك أو خلفك"(1).

وفي صدد شرحه لكلمة (وراء) في القرآن الكريم في مواضع مختلفة، فسّر الإمام ابن قتيبة الكلمة بحسب السياق الذي وردت فيه، فمثلا: في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، رجح ابن قتيبة أن تكون (وراء) -هنا- بمعنى (أمام)، وفي قراءة ابن عباس: وفي قوله تعالى: {مِنْ وَرَاءِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 10]: أي أمامهم، وكذا في قوله تعالى:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17].

فالكلمة (وراء) في الآيات السابقة جاءت بمعنى (أمام)، وليس بالمعنى المتبادر إلى الذهن، وهو معنى (خلف)، وقد اختلف تفسير الكلمة على وجهين:

أحدهما: أنها مشتقة من التواري، أي: الإستتار، قال الإمام الشوكاني:" قال النحاس: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] فقوله تعالى: "روَمِنْ وَرَاءِهِ} أي: من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى، أي: استتر، فصارت جهنم من وراءئه، لأنها لا ترى" (2).

والثاني: أنها على بابها، فهي-هنا- بمعنى:(خلف)، قال ابن عطية:{مِنْ وَرَاءِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 10] فقوله تعالى: " (وَرَاءِهِمْ) هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعي بها الزمان، وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو: الأمام، والذي يأتي بعده هو: الوراء، وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي .. "(3).

وهكذا فقد لوحظ كيف تردد المفسرين بين المعنيين، غير جازمين بأحد الوجهين، ولعل السبب هو أن مثل هذه الظاهرة يحصل فيها الأشكال، فهي محتاجة إلى مزيد من الدلالئل المحيطة بالنص لترجيح إحدى هذه الدلالات على الأخرى.

يتبيّن لنا مما سبق بأن كلمة (وراء) جاءت في القرآن على عدة معاني من أشهرها ثلاثة:

الأول: (وراء) بمعنى: (أمام) زمانياً ومكانياً:

فمن أمثلتها بمعنى (أمام) زمانياً قول الله جل وعلا: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، وقوله تعالى:{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَاءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]، يعنى هذا بمستقبل أيامه فحياة البرزخ والعذاب المتوعد به أهل النار لم يأتِ بعد، وإنما هو أمام المتوعد به.

وأما (وراء) بمعنى (أمام) مكانياً الآية التي بين يديك يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] فقوله تعالى: {وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} يعني أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فأول معاني (وراء) في القرآن بمعنى: أمام.

الثاني: وتأتي بمعنى (خلف)، وهو الأصل في استخدامها اللغوي:

قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله:{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} نص بأنها تأتي بمعنى (خلف).

(1) تأويل مشكل القرآن: 145. وانظر: الأضداد: 56 - 57.

(2)

تفسير الشوكاني: 4/ 136.

(3)

نقلا عن القرطبي في تفسيره: 11/ 34.

ص: 6

الثالث: ومن أشهر معانيها: (غير) أو (بعد):

قال الله تعالى في النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23]، فقال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم ذكر المحصنات ثم قال:{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي ما بعد ذلك، ومنه قوله تعالى:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].

وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7]، فقوله تعالى (وَرَاءَ ذَلِكَ) أي غير ذلك.

قلت: وهذا مما يُميِّز اللغة العربية عن غيرها من اللغات، والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق.

قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، "مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله"(1).

قال القاسمي: " وفيه ردّ لمقالتهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها"(2).

قال الزجاج: " فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذْ كفروا بما يُصَدِّقُ ما معهم"(3).

وقوله تعالى {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} ، فيه إشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين (4):

أحدهما: ما دل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ} أنه لما ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجبا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال.

والثاني: ما دل عليه قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} ، وتقريره من وجهين:

الأول: أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علما ولا استفاد من أستاذ، والثاني: أن القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، وإلا لم يكن القرآن مصدقا للتوراة بل مكذبا لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91]، " أي قل لهم يا محمد إِذا كان إيمانكم بما في التوراة صحيحا، فلم كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل؟ "(5).

قال الواحدي: " هذا تكذيب من الله تعالى لهم في قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، أي: أيّ كتاب جوّز فيه قتل نبي، وأيّ دين وإيمان جوّز فيه ذلك"(6).

قال ابن الأنباري: أي: " فلم توليتم آباءكم القاتلين ورضيتم ما كانوا عليه، وصوبتم أفعالهم"(7).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 69.

(2)

محاسن التأويل: 1/ 351.

(3)

معاني القرآن: 1/! 74.

(4)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 170.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 69.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 156.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 156، وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 25 - 26.

ص: 7

قال القرطبي: أي" فلم رضيتم بقتل الأنبياء "(1).

قال الزجاج: "أيْ: أيُّ كتاب جُوّز فيه قتل نبي، وأي دين وإيمان جُوز فيه"(2).

قال القاسمي: أي: "فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم، قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] "(3).

قال السدي: " فقال الله وهو يعيرهم: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} "(4).

قال البيضاوي: "وإنما أسنده إليهم، لأنه فعل آبائهم، وأنهم راضون به عازمون عليه"(5)(6).

وقرأ نافع وحده {أَنْبِياءَ اللَّهِ} ، مهموزاً في جميع القرآن (7).

قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91]، " أي إن كنتم معتقدين الإيمان"(8).

قال الطبري: " إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم"(9).

قال القاسمي: " أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم"(10).

قال ابن إسحاق: " إن كنتم صدقتم نبيي، بما جاءكم به عني"(11).

قال القرطبي: "رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ"(12).

ويحتمل قوله تعالى: : {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91]، وجهان من التفسير (13):

أحدهما: ما كنتم مؤمنين.

والثاني: إِنَّ إِيمانكم ليس بإيمان.

وقد اختلف أهل اللغة في ابتداء الخبر على لفظ المستقبل، في قوله تعالى {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، على قولين (14):

أحدهما: إن الخطاب لمن شُوهِدَ من أهل مكةَ ومنْ غاب خطَابٌ واحد، فإذا قَتَل أسْلافُهم الأنبياءَ وهم مُقِيمُون على ذلك المذهب فقد شَرَكُوهم في قَتْلِهمْ.

والثاني: وقيل: لِمَ رَضيتمُ بذلك الفعل، ومنه قول الشاعر (15):

(1) تفسير القرطبي: 2/ 30. وانظر: تفسير الطبري: 2/ 351.

(2)

معاني القرآن: 1/ 175.

(3)

محاسن التأويل: 1/ 352.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (925) ب: 1/ 175.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(6)

وفي معناه حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 621 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها" رواه أبو داود.

(7)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 30. وانظر: تفسير الطبري: 2/ 351.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 354.

(10)

محاسن التأويل: 1/ 352.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (926): 1/ 175.

(12)

تفسير القرطبي: 2/ 30.

(13)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 175.

(14)

لنظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 175، وتفسير الطبري: 2/ 350 - 354.

(15)

في حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1: 25 قال: " في حاشية السيوطي " قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية "، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى:33. وومعانى الفراء: 61، 178 وقبل البيت يقول لامرأته:

رمتنى عن قوس العدو، وباعدت

عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا

ص: 8

إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا

فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك.

قال الزجاج: "وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول، وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى، المضي لقوله {من قبل}، ودليل ذلك قوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ}، فقوله: {فلم تَقتلون}، بمنزلة " فلم قتلتم" (1).

قال ابن عطية: " وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر، ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم ولما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء"(2).

قلت: إن التغبير عن الفعل الماضي بالمستقبل، جائز في كلام العرب، وذلك فيما كان بمنزلة الصفة، كما قال جل ثناؤه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ

} [البقرة: 102]، أي: ما تلت، وكما قال الشاعر (3):

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت عنه وقلت لا يعنيني

فقوله: (ولقد أمر) أي: ولقد مررت، واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله:(فمضيت عنه)، ولم يقل:(فأمضي عنه).

ومنه قول الشاعر (4):

وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى

من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد

يعني بذلك: ما يكون في غد، ومنه قول الحطيئة (5):

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه

أن الوليد أحق بالعذر

(1) معاني القرآن: 1/ 175.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 179.

(3)

البيت لرجل من بني سلول، انظر: سيبويه 1: 416، الخزانة 1: 173، وشرح شواهد المغني: 107 وغيرها كثير. وروايتهم جميعا " ثمت قلت ". وبعده بيت آخر:

غضبان ممتلئا علي إهابه

إني وربك سخطه يرضيني

(4)

البيت لطرمح بن حكيم الطائي، انظر: ديوانه: 146، وحماسة البحتري: 109، واللسان (كون) وقد كان في هذا الموضع " بشكرى "، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على الصواب. وروى اللسان:" واستنجاز ما كان ". وصواب الرواية: " فإني لآتيكم " فإنه قبله:

من كان لا يأتيك إلا لحاجة

يروح بها فيما يروح ويغتدى

فإني لآتيكم. . . .

. . . ........

(5)

ديوانه: 85، ونسب قريش: 138، والاستيعاب: 604، وأنساب الأشراف 5: 32، وسمط اللآلئ:674. قالها الحطيئة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء. استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه

أن الوليد أحق بالعذر

خلعوا عنانك إذ جريت، ولو

تركوا عنانك لم تزل تجري

ورأوا شمائل ماجد أنف

يعطي على الميسور والعسر

فنزعت، مكذوبا عليك، ولم

تردد إلى عوز ولا فقر

قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها من غير قول الحطيئة:

نادى وقد تمت صلاتهم

أأزيدكم؟ ثملا ولا يدري

ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا

مرت صلاتهم على العشر

وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: 196) قال: "قال الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة: "اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من عقلاء الرجال وأشرافهم.

ص: 9

يعني: يشهد، وكما قال الآخر (1):

فما أضحي ولا أمسيت إلا

أراني منكم في كَوَّفان

فقال: أضحي، ثم قال:(ولا أمسيت).

قال السعدي: " رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال:{وَهُوَ الْحَقُّ} فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات، والأوامر والنواهي، وهو من عند ربهم، فالكفر به بعد ذلك كفر بالله، وكفر بالحق الذي أنزله.

ثم قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه، فلم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟

وأيضا، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب، قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته، ثم يأتي هو لبينته وحجته، فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن، كفرا بما في أيديهم ونقضا له.

ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: {قُلْ} لهم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين" (2).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: {آمنوا بما أنزل الله} ؛ لأن ما أنزل الله هو القرآن. وهو كلام؛ والكلام ليس عيناً قائمة بذاتها؛ بل هو صفة في غيره؛ فإذا كان صفة في غيره، وهو نازل من عند الله لزم أن يكون كلام الله عز وجل ..

2 ومنها: علوّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كان القرآن كلامه، وهو نازل من عنده دلَّ على علوّ المتكلم به

3 ومنها: كذب اليهود في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} ؛ لأنهم لو آمنوا به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر

} [الأعراف: 157] إلخ ..

4 ومنها: عتوّ اليهود، وعنادهم؛ لأنهم يقولون: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا ..

5 ومنها: أن من دُعي إلى الحق من هذه الأمة، وقال:"المذهب كذا، وكذا". يعني ولا أرجع عنه ففيه شبه من اليهود. لأن الواجب إذا دعيت إلى الحق أن تقول: "سمعنا وأطعنا"؛ ولا تعارضه بأي قول كان، أو مذهب ..

6 ومنها: وجوب قبول الحق من كل من جاء به.

7 ومنها: إفحام الخصم بإقامة الحجة عليه من فعله؛ ووجه ذلك أن الله أقام على اليهود الحجة على فعلهم؛ لأنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا وهم قد قتلوا أنبياء الله الذين جاءوا بالكتاب إليهم؛ فإن قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} ليس بحق؛ لأنه لو كانوا مؤمنين حقيقة ما قتلوا الأنبياء؛ ولهذا قال تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} .

9.

ومنها: أن القرآن حدثنا عن محاولات اليهود لقتل الأنبياء في مواضع كثيرة (3) بحيث انك لو جمعت الآيات التي تحدثت عن هذه القضية، لاستبان لك: أن قتل الأنبياء، والغدر بهم، كان هدفا يهوديا خالصا،

(1) لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي:187. والكوفان (بتشديد الواو): الاختلاط والشدة والعناء. يقال: إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط.

(2)

تفسير السعدي: 59.

(3)

لقد اقتضت حكمة الله في سنته الجارية على خلقه أن يكون الأنبياء والرسل أئمة للناس في الخير والابتلاء، بل هم أعظم ابتلاء إذ الابتلاء على قدر الإيمان، لذا جرت سنن الله في إخراج الأنبياء والرسل إما تسليطاً من الكفار والأعداء عليهم، وإما هجرة يؤمرون بها من قبل الله، وإما سياحة في الأرض تفكراً في خلق الله، وما جرى للرسل والأنبياء جرى لاتباعهم من حملة الرسالات والدعوات.

ص: 10

يسعى اليهود الى تحقيقه بكل وسيلة، وأقرأ ذلك – إن شئت – في سورة البقرة – آيات:[61، 85، 87، 91] وفي سورة آل عمران آيات: [21، 112، 181، 183] وفى سورة النساء آيات: [155، 157]، وفى المائدة آية [70]، ولا شك بأن قتل الأنبياء من أعظم الجرائم بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتله نبي أو قتل نبيا "(1)، وقد قتل بنو إسرائيل عدة أنبياء لله تعالى كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم.

وفى مقابل هذا الغدر وتلك الخيانة يصف القرآن اليهود بأنهم –في ميدان القتال – أجبن الناس، وأضعف الناس، قلوب خاوية، وهمم هاوية! ! {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} [الحشر: 14]. وهذا في أحسن الأحوال، وإلا {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة 246]. ثم تمتلئ قلوبهم رعبا، وخوفا، وجزعا، وفزعا فيقولون:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} [المائدة: 24](2).

القرآن

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} [البقرة: 92]

التفسير:

ولقد جاءكم نبي الله موسى بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه، كالطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع، وغير ذلك مما ذكره الله في القرآن العظيم، ومع ذلك اتخذتم العجل معبودًا، بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه، وأنتم متجاوزون حدود الله.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92]، أي "وقل لهم لقد جاءكم موسى"(3) بالحجج الباهرات" (4).

قال الثعلبي: أي" بالدلالات اللائحات- والعلامات الواضحات"(5).

قال أبو السعود: " أي وبالله لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرةِ"(6).

(1) أخرجه: ابن حنبل، أحمد، تـ (241 هـ/855 م)، مسند أحمد، طبعة مؤسسة قرطبة، مصر، ج 1 ص 407.وقال الهيثمي، علي بن أبي بكر، تـ (807 هـ/1405 م)، في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، طبعة دار الريان، القاهرة، 1407 هـ، ج 5 ص 236 قال: في الصحيح بعضه ورواه الطبراني وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجاله ثقات.

(2)

الناظر لسيرة الأنبياء والرسل-عليهم الصلاة والسلام- بأن الرسل مقطوع بنصرهم من الله _سبحانه_ وعصمتهم من القتل بخلاف الأنبياء ومن تتبع تعبير القرآن رأى عجباً فإن القرآن إذا قطع بالنصر عبر بلفظ الرسل كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، وإذا جاء ذكر القتل عبر بلفظ النبيين {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، والسبب – وعند الله العلم – أن رسول الأمة الأول لا يقتل أبداً ولا بد من تمكينه ونصره في الدنيا فعلاً. ودليل ذلك قوله _تعالى_ في سورة غافر:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5]، وقوله __جل ذكره__ في سورة إبراهيم _عليه السلام_:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، وقوله في سورة الأنبياء:{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 9].

أما الأنبياء الذين أرسلوا برسالة تجديدية لرسالة رسول الأمة الأول فإنهم قد يقتلون كرسل بني إسرائيل بعد موسى، وهذا ما يحمل عليه قوله _تعالى_:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وإذا كان الأمر كذلك فإن من قدر الله أن تكتمل عوامل النصر والتمكين في دعوة رسول الأمة أكثر من النبي المجدد. والله تعالى أعلم.

(3)

فتح البيان في مقاصد القرآن: 1/ 224.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 69

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 130.

ص: 11

قال الطبري: " ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته "(1).

قال المراغي: " أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته"(2).

قال البيضاوي: " "يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} [الإسراء: 101] " (3).

قال ابن عثيمين: " الخطاب لليهود؛ والدليل على أنه لليهود قوله تعالى: {موسى}؛ لأن موسى نبيهم؛ وهنا خاطبهم باعتبار الجنس لا باعتبار الشخص؛ إذ إن موسى لم يأت هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أتى بني إسرائيل الذين هؤلاء منهم"(4).

وذكروا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92]، وجهان (5):

أحدهما: ما في الألواح من الحلال والحرام. قاله ابن عباس (6).

والثاني: الآيات التسع. قاله مقاتل (7)، وابن عباس في رواية عكرمة عنه (8).

وقوله تعالى {بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92]، "أي بالعلامات الدالة على رسالته"(9)، وهي الآيات التسع: العصا، واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر. أو غيرها مما كثر وقوعه من المعجزات الباهرات حجةً على بني إسرائيل في كفرهم (10).

قال الإمام الطبري: " وإنما سماها الله (بينات) لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك له، وإنما هي جمع (بينة)، مثل (طيبة وطيبات) "(11).

قال الواحدي: "المراد بـ (ثُم) هاهنا: الاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات التي أتى بها موسى عليه السلام"(12).

قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 92]، أي:"ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها"(13).

قال ابن عطية: " أي من بعده، حين غاب عنكم في المناجاة"(14).

واختلف في (الهاء) في قوله {مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 92]، على وجهين (15):

أحدهما: أنها تعود إلى {موسى} ، وفيه وجهان من المعنى:

الأول: من بعد مجيء موسى.

الثاني: من بعد ذهابه، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده. وهذا قول مقاتل (16)، والثعلبي (17).

(1) تفسير الطبري: 2/ 355.

(2)

تفسير المراغي: 1/ 171.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 299.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 115.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 115.

(7)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 123.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (927): ص 1/ 175.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 299.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 421، والبحر المحيط: 1/ 308، إلا أنه عد بدل الأخيرين: السنين، والطوفان.

(11)

تفسير الطبري: 2/ 355.

(12)

تفسير البسيط للواحدي: 3/ 158.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 355.

(14)

البحر المحيط: 1/ 180.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 355، وتفسير البيضاوي: 1/ 94.

(16)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 123.

(17)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

ص: 12

والثاني: أنها تعود إلى {الآيات} ، والمعنى: ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات، كما تقول: جئتني فكرهته، يعني كرهت مجيئك.

قال أبو حيان: " الجمهور على إدغام الذال في التاء في قوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}، وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار"(1).

قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} [البقرة: 92]، أي وأنتم" ضارون لأنفسكم بالمعصية واضعون العبادة في غير موضعها"(2).

قال محمد بن إسحاق: "يعني قوله: {وأنتم ظالمون}، أي المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرة على المعصية"(3).

وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} [البقرة: 92]، وجهان (4):

الأول: أنه حال، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات الله تعالى.

والثاني: أنه اعتراض، بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم.

قال البيضاوي: " ومساق الآية أيضاً لإبطال قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام، لا لتكرير القصة وكذا ما بعدها"(5).

وفي اتصال الآية بما قبلها يقول الراغب: " جعل ذلك أيضا دلالة على دلالة قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) فكأنه قيل: كيف آمنتم به وقد أتاكم موسى بالآيات البينات فما لبثتم أن عبدتم العجل ظلما، وظلمهم الإخلال بآيات الله وبيناته وتلقيها بالكفران والكفر، وفي تخصيص ثم زيادة فائدة، وهي أن ذلك منكم بعد تدبر الآيات والتمكن من معرفتها، والآيات"(6).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: إقامة البرهان على عناد اليهود؛ ووجه ذلك أنه قد جاءهم موسى بالبينات، فاتخذوا العجل إلهاً ..

2.

ومنها: سفاهة اليهود، وغباوتهم، لاتخاذهم العجل إلهاً مع أنهم هم الذين صنعوه ..

3 ومنها: أن اليهود اغتنموا فرصة غياب موسى مما يدل على هيبتهم له؛ لقوله تعالى: {من بعده} يعني من بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه ..

4 ومنها: أن اليهود عبدوا العجل عن ظلم، وليس عن جهل؛ لقوله تعالى:{وأنتم ظالمون} .

القرآن

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} [البقرة: 93]

التفسير:

واذكروا حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا بقَبول ما جاءكم به موسى من التوراة، فنقضتم العهد، فرفعنا جبل الطور فوق رؤوسكم، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بجدٍّ، واسمعوا وأطيعوا، وإلا أسقطنا الجبل عليكم، فقلتم: سمعنا قولك وعصينا أمرك؛ لأن عبادة العجل قد امتزجت بقلوبكم بسبب تماديكم في الكفر. قل لهم -أيها الرسول-: قَبُحَ ما يأمركم به إيمانكم من الكفر والضلال، إن كنتم مصدِّقين بما أنزل الله عليكم.

(1) البحر المحيط: 1/ 168.

(2)

تفسير البغوي: 1/ 95.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (929): ص 1/ 175.

(4)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 261.

ص: 13

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} [البقرة: 93]، " أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أَخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة"(1).

قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 93]، أي:" ورفعنا فوقكم جبل الطور"(2).

قوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 93]، " أي قلنا لهم: خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد" (3).

قال الصابوني: " أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم"(4).

قوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} [البقرة: 93]، "أي استجيبوا وأطيعوا"(5).

قال البيضاوي: أي: " سماع طاعة"(6).

قال الصابون: " أي سماع طاعة وقبول"(7).

قال الثعلبي: " سميت الطاعة سمعا على المجاز، لأنّه سبب الطّاعة والإجابة ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده أي أجابه، وقال الشاعر (8):

دعوتُ اللهَ حتى خِفتُ أن لا

يكونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أقولُ

أي يجب" (9).

قوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، أي:" قالُوا: سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك"(10).

قال الراغب: " أي: فهمنا قولك ولم نأتمر لك"(11).

قال إسماعيل بن أبي خالد: " يقول: قد سمعنا ما تقول وعصيناك"(12).

وذكر أهل المعاني في قوله تعالى: {قالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، وجهين (13):

الأول: أن معناه: قالُوا سَمِعْنا قولك. وَعَصَيْنا أمرك. وهو المشهور.

والثاني: سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب. قاله الحسن (14).

ومعنى {وَاسْمَعُوا} ، أي: أطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعلموا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم:"سمع الله لمن حمده"(15)، أي قبل وأجاب، قال الشاعر (16):

دعوت الله حتى خفت ألا

يكون الله يسمع ما أقول

فقوله (يسمع الله ما أقول)، أي: يقبل ما أقول (17).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 70.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(8)

البيت، لشمير بن الحارث الضبي، في "تاج العروس" 11/ 227 (مادة: سمع)، و"نوادر أبي زيد" ص 124، وبلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 1/ 1034 و"لسان العرب" 4/ 2095.

(9)

تفسير الثعلبي: 1/ 236.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(11)

المفردات: 425.

(12)

أخرجه ابن أبي حاتم (930): ص 1/ 176.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 236. والمعنى الثاني مكتوب على هامش المخطوط، كما قال المحقق.

(14)

ذكره في الواحدي في الوسيط" 1/ 176، وذكره أبو حيان في البحر المحيط: 1/ 308 ولم ينسبه.

(15)

قال الخطابي: "قول (لا يسمع) معناه: لا يجاب، ومن هذا قول المصلي (سمع الله لمن حمده)، يريد استجاب الله دعاء من حمده. (مختصر سنن أبي داود، ومعه معالم السنن: 2/ 160).

(16)

البيت لشُمير بن الحارث، انظر: النوادر: 124، والزاهر: 1/ 154،

(17)

قال الخطابي: وعلى هذا المعنى يتأول قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52]، يريد -والله أعلم- الكفار: أي انك لا تقدر أن تهديهم وتوفقهم لقبول الحق، وقد كانوا يسمعون كلام الله بآذانهم إذا تلي عليهم إلا انهم إذا لم يقبلوه، صاروا كأنهم لم يسمعوه، كما قال الشاعر: أصم عما ساءه سميع". (غريب الحديث: 1/ 342).

ص: 14

وقال الراجز (1):

السمع والطاعة والتسليم

خير وأعفى لبني تميم

قوله: (السمع)، قبول ما يسمع، و (الطاعة) لما يؤمر، فكذلك معنى قوله:(واسمعوا)، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به (2).

واختلف المفسرون في قوله تعالى {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، على وجهين (3):

أحدهما: أنه صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا. وهذا قول الجمهور (4).

قال الرازي: " الأكثرون من المفسرين (5) اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول"(6).

والثاني: إنّهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نسب ذلك عنهم إلى القول أتساعا، ومنه قول الشاعر (7):

ومَنْهَلٍ ذِبَّانُه في غَيْطَلِ

يَقُلْنَ للرائدِ أعْشَبْتَ انْزِلِ

أي أنهم فعلوا فعلا قام مقام القول، فيكون مجازا، ومن ذلك قول الشاعر (8):

امْتَلأَ الحَوْضُ وَقالَ قَطْنِي

مَهْلا رُوَيْدا قَدْ مَلأْتَ بَطْني

وقال امرؤ القيس (9):

نواعِمُ يُتْبعنَ الهوى سُبُلَ الردَى

يقلن لأهل الحِلم ضُلًّا بَتْضلال

قالوا: المعنى: يُضللن ذا الحلم، وليس الغرض حكاية قولهن (10).

قال أبو مسلم: "وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى: {أن يقول له كن فيكون} [البقرة: 177]، وكقوله: {قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] "(11).

والراجح هو القول الأول، لأن القول بالمجاز، هو صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل، وهذا لا يجوز. والله أعلم.

قال الرازي: " إن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم {سمعنا وعصينا} وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد"(12).

(1) قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة 55، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري 6: 167).

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 357.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 31.

(4)

بنحوه عن ابن عباس كما في "البحر المحيط" 1/ 308 واستحسنه أبو حيان قال: لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه اهـ. وحكى الواحدي في "الوسيط" 1/ 176 أن المفسرين اتفقوا على أنهم قالوا (سمعنا) لما أطل الجبل فوقهم، فلمَّا كشف عنهم قالوا (عصينا).

(5)

وبه قال الإمام الطبري: " وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك". (تفسير الطبري: 2/ 257).

(6)

مفاتيح الغيب: 3/ 604.

(7)

البيت لأبي النجم العِجْلي. ينظر: "الحيوان" 3/ 314 و 7/ 259، وذكر الشطر الآخر منه "تهذيب اللغة" 3/ 2448، "اللسان" 5/ 2951، "التاج" 2/ 233، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 236 بلا نسبة. والغيطل: شجر ملتف أو عشب ملتف.

(8)

الرجز بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 57، 34؛ وأمالي المرتضى 2/ 309؛ وتخليص الشواهد ص 111؛ وجواهر الأدب ص 151؛ والخصائص 1/ 23؛ ورصف المباني ص 362؛ وسمط اللآلي ص 475؛ وشرح المفصل 1/ 82، 2/ 131، 3/ 125؛ وكتاب اللامات ص 140؛ ولسان العرب 7/ 382 "قطط"، 13/ 344 "قطن"؛ ومجالس ثعلب ص 189؛ والمقاصد النحوية 1/ 361.

(9)

ديوانه: 126.

(10)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 160.

(11)

مفاتيح الغيب: 3/ 604.

(12)

مفاتيح الغيب: 3/ 604.

ص: 15

قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]، "أي خالط حبُّه قلوبهم، وتغلغل في سويدائها بسبب كفرهم"(1).

قال البيضاوي: أي: " تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته، لفرط شغفهم به، كما يتداخل الصبغ الثوب، والشراب أعماق البدن"(2). واختلف أهل العلم في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]، على وجهين (3):

أحدهما: أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فقوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ} ، أي: حل فيها محل الشرب وقبلوه، يقال: ثوب مشرب أي: مصبوغ (4).

وهذا قول الجمهور: كقتادة (5)، وأبي العالية (6)، والربيع (7)، وذهب إلي الفراء (8)، والزجاج (9)، وابن قتيبة (10)، وأبو عبيدة (11)، والطبري (12)، والواحدي (13)، وابن الجوزي (14)، والزمخشري (15)، واالبيضاوي (16)، والرازي (17)، وابن عطية (18)، والقرطبي (19)، والسمين الحلبي (20)، وغيرههم

والثاني: أن المعنى: أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. قاله علي بن أبي طالب (21)، وسعيد بن جبير (22)، والسدي (23).

قال الحافظ ابن حجر: "وهو (24) من مجاز الحذف (25)، أي: أشربوا في قلوبهم حب العجل، ومن قال إن العجل أحرق ثم ذري في الماء فشربوه (26) فلم يعرف كلام العرب؛ لأنها لا تقول في الماء أشرب فلان في قلبه"(27).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 70.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 357 - 358.

(4)

انظر: الكشاف للزمخشري: 1/ 297، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 70، وقال السمين الحلبي في الدر المصون: 1/ 305. والإشراب: مخالطة المائع بالجامد ثم اتسع فيه حتى قيل في الألوان نحو: أشرب بياضه حمرة، والمعنى: أنهم دَاخَلَهم حب عبادته كما داخل الصبغ الثوب.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (934): ص 1/ 176.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (935): ص 1/ 176.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (936): ص 1/ 176.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 61.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 175.

(10)

انظر: تفسير غريب القرآن: 58.

(11)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 47.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 357 - 358.

(13)

انظر: الوسيط: 1/ 176.

(14)

انظر: زاد المسير: 1/ 115 - 116

(15)

انظر: الكشاف: 1/ 297.

(16)

تفسير البيضاوي: 1/ 94.

(17)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 604.

(18)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 295.

(19)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 32.

(20)

انظر: الدر المصون: 1/ 305 - 306.

(21)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (931): ص 1/ 176.

(22)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (932): ص 1/ 176.

(23)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (933): ص 1/ 176.

(24)

أي قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ} .

(25)

أي: حذف المضاف، انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام: 11، وكتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي: 2/ 105 - 106، وحذف المضاف هنا لدلالة الكلام عليه لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرب العجل على الحقيقة، انظر: تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي: 7.

(26)

نسب هذا القول إلى سعيد بن جبير والسدي وابن جريج، وهو قول ضعيف، وهو من الإسرائيليات الصريحة، انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 283 وجامع البيان للطبري: 2/ 357 - 358 وغيرهما.

(27)

الفتح: 6/ 496.

ص: 16

والراجح-والله أعلم- هو القول الأول، وهو قول الجمهور، وأن قوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ} ، من مجاز الحذف (1)، أي: أشربوا في قلوبهم حب العجل.

فيقال منه: أشرب قلب فلان حب كذا، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير (2):

فصحوت عنها بعد حب داخل

والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء

فالشاعر ترك ذكر (الحب) اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام، إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82]، وكما قال طرفة بن العبد (3):

ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا

ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل

يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر (أسود)، عن ذكر (السم)، لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: سقيت أسود. ويروى:

ألا إنني سقيت أسود سالخا (4)

وقد تقول العرب: " إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم "، فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر (5):

(1) أي: حذف المضاف، انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام: 11، وكتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي: 2/ 105 - 106، وحذف المضاف هنا لدلالة الكلام عليه لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرب العجل على الحقيقة، انظر: تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي: 7.

(2)

ديوانه: 339، وهو هناك " تشربه " بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب " فؤادك "، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال:" تدخله " وقال: " تشربه " تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع " فؤادك ". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن.

(3)

ديوانه: 343 (أشعار الستة الجاهليين)، ونوادر أبي زيد: 83، واللسان (سود). واختلف فيما أراد بقوله:" أسود ". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: " يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود ". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت:

فقل لخيال الحنظلية ينقلب

إليها، فإني واصل حبل من وصل

ألا إنما أبكى ليوم لقيته

بجرثم قاس، كل ما بعده جلل

إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا

به حين يأتي - لا كذاب ولا علل

ألا إنني. . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويروى: " ألا بجلى من الحياة "، وهي أجود. . ورواية الديوان واللسان:(ألا إنني شربت)، والتي هنا أجود. وقوله:" بجل "، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة. (تفسير الطبري: 2/ 359).

(4)

السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام.

(5)

البيت لهرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر. انظر: معاني القرآن للفراء 1: 61 - 62، ، ومجالس ثعلب: 76، واللسان (غزا)، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون:

جاهد يا جميل بغزوة!

وأي جهاد غيرهن أريد؟

ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ.

ص: 17

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وإن جهادا طيئ وقتالها (1)

قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} [البقرة: 93]، " أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل"(2).

قال الرازي: "المراد "بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ .. } [هود: 87]، وكذلك إضافة الإيمان إليهم، والإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي، لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ .. } [العنكبوت: 45] " (3).

قال الواحدي: " فبئس الإيمان إيمانٌ يأمر بالكُفْر، وهذا تكذيب لهم؛ لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، وذلك أنهم قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، فكذّبهم الله عز وجل، وعيَّرهم بعبادة العجل، وذلك أنّ آباءهم ادعوا الإيمان ثم عبدوا العجل"(4).

قال المراغي: أي: " فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان"(5).

قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]، " أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان"(6).

قال الصابوني: " والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل"(7).

قال الرازي: " المراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم"(8).

قال القاسمي: " قدح في صحة دعواهم. فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة. فهو غاية الاستهزاء، وحاصل الكلام: إن كنتم مؤمنين بها عاملين، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها. وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا. فجواب الشرط محذوف، كما ترى، لدلالة ما سبق عليه"(9).

قال الواحدي: وقوله تعالى: {يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} من المجاز وسعة العربية؛ لأن الإيمان لا يأمُر، وهو كقوله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وكما تقول في الكلام: بئسما يأمرك العقل بشتم الناسِ، معناه: إِن كنْتَ عاقلًا لم تشتمهم، كذلك المعنى في الآية: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل" (10).

و(السَّمْعُ): قوّة في الأذن به يدرك الأصوات، وفعله يقال له السَّمْعُ أيضا، وقد سمع سمعا" (11).

ومن جماليات الأسلوب القرآني، استخدام كلمة (السمع) لمعنيين مختلفين؛ وهى نكتة لغوية دلالية تحل كثيرا من الإشكاليات؛ كما في قوله تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]، وقد ذكر الراغب المعنيين، وهما:

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 358 - 359.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(3)

مفايح الغيب: 3/ 605.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 162.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 172.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(8)

مفايح الغيب: 3/ 605.

(9)

محاسن التأويل: 1/ 353.

(10)

التفسير البسيط: 3/ 163.

(11)

المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: 425.

ص: 18

الأول: التعبير بالسمّع عن (الأذن)، ومنه قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، أي على آذانهم فلا يسمعون، وقد يكون المقصود المصدر، كما عُبِّر عن فعل السَّمَاعِ في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]، وقال تعالى:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

والثاني: التعبير بالسمع عن (الفهم)، قال تعالى:{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا} [الأنفال: 31]، وقوله تعالى:{سَمِعْنا وَعَصَيْنا} [النساء: 46]، أي: فهمنا قولك ولم نأتمر لك، وكذلك قوله:{سَمِعْنا وَأَطَعْنا} [البقرة: 285]، أي: فهمنا وامتثلنا (1).

الفوائد: .

1 من فوائد الآية: أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان؛ لقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم

} إلخ ..

2 ومنها: أن بني إسرائيل ما آمنوا إلا عن كره؛ لأنهم لم يؤمنوا إلا حين رفع فوقهم الطور ..

3 ومنها: بيان قدرة الله عز وجل ..

4 ومنها: أن أمر الكون كله بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى قادر على خرق العادات؛ لقوله تعالى: {ورفعنا فوقكم الطور ..

5 ومنها: وجوب تلقي شريعة الله بالقوة دون الكسل والفتور، لقوله تعالى:{خذوا ما آتيناكم بقوة} .

6 ومنها: بيان عتوّ بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: {قالوا سمعنا وعصينا} ؛ وهذا أبلغ ما يكون في العتوّ؛ لأنه كان يمكن أن يكون العصيان عن جهل؛ لكنهم قالوا: {سمعنا وعصينا} ..

7 ومنها: أن السمع نوعان: سمع استجابة، وسمع إدراك؛ مثال الأول:{خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} ؛ ومثال الثاني: {سمعنا وعصينا}

8 ومنها: أن المؤمن حقاً لا يأمره إيمانه بالمعاصي؛ لقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} يعني إن كنتم مؤمنين حقاً ما اتخذتم العجل إلهاً ..

9 ومنها: أن الشر لا يسنده الله تعالى إلى نفسه؛ بل يذكره بصيغة المبني لما لم يُسمَّ فاعله؛ لقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم} ؛ ولهذا نظير من القرآن، كقوله تعالى:{وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [الجن: 10]؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "والشر ليس إليك"(2)؛ فالشر في المفعول. لا في الفعل؛ الخير والشر كل من خلْق الله عز وجل؛ لكن الشر بالنسبة لإيجاد الله له هو خير، وليس بشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما أوجده إلا لحكمة بالغة، وغاية محمودة. وإن كان شراً. لكن الشر في المفعولات. أي المخلوقات؛ وأما نفس الفعل فهو ليس بشر؛ أرأيت الرجل يكوي ابنه بالنار. والنار مؤلمة محرقة. لكنه يريد أن يُشفى. فهذا المفعول الواقع من الفاعل شر مؤلم محرق لكن غايته محمودة. وهو شفاء الولد؛ فيكون خيراً باعتبار غايته ..

10 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد يبتلي العبد، فيملأ قلبه حباً لما يكرهه الله عز وجل؛ لقوله تعالى:{وأشربوا في قلوبهم العجل} .

11 ومنها: أن الإيمان الحقيقي لا يحمل صاحبه إلا على طاعة الله؛ لقوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} .

القرآن

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} [البقرة: 94]

التفسير:

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: 425 - 427. (بتصرف بسيط).

(2)

سبق تخريجه ص 304.

ص: 19

قل -أيها الرسول- لليهود الذين يدَّعون أن الجنة خاصة بهم؛ لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وأنهم أبناؤه وأحباؤه: إن كان الأمر كذلك فادْعُوا على الكاذبين منكم أو من غيركم بالموت، إن كنتم صادقين في دعواكم هذه.

في سبب نزول الآية: قال الله تعالى لليهود: {إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت} ، فلم يفعلوا حيث قالوا:{لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} ، وقالوا:{نحن أبناء الله وأحباؤه} ، فقال الله لهم ذلك" (1). وروي عن قتادة والربيع بن أنس نحو ذلك (2).

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} [البقرة: 94]، أي" قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله" (3) خاصة.

قال الصابوني: " أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة كما زعمتم"(4).

قال السعدي: " يعني الجنة، كما زعمتم، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة"(5).

قال ابن عطية: " أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها"(6).

واختلف في قوله تعالى: {خَالِصَةً} [البقرة: 94]، على قولين (7):

الأول: معناه: صافية. كما يقال: خلص لي فلان، بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. قاله الطبري (8).

والثاني: معناه: خاصة، قاله ابن عباس (9)، واختاره الثعلبي (10)، ومنه قوله تعالى:{خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} [الأنعام: 139]، وقوله:{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وقوله:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، " أي خاصة من دون الناس"(11).

قال الطبري: "وذلك تأويل قريب من المعنى الأول"(12).

قوله تعالى: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة: 94]، أي:" من دون جميع الناس"(13).

قال الصابوني: أي: "لا يشارككم في نعيمها أحد"(14).

واختلف في قوله تعالى: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة: 94]، على قولين (15):

أحدهما: من دون الناس جميعهم، ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]. وهذا قول الجمهور.

والثاني: من دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به، وهذا قول ابن عباس (16).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (935): ص 1/ 177.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 177.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 365.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(5)

تفسير السعدي: 59.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 181.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 365.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 365.

(9)

أخرجه الطبري (1575): ص 2/ 365.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 237.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 237.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 365.

(13)

تفسير الطبري: 2/ 366.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 365.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1576): ص 2/ 366.

ص: 20

قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94]، " أي اطلبوا حصوله"(1).

قال الثعلبي: " أي فأريدوا وحلوه لأن من علم أن الجنة مآبه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني"(2).

قال المراغي: " أي: تشوفوا له واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه وتود المصير إليه"(3).

قال ابن عباس: " أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم"(4).

قال ابن عباس أيضا: "لو تمنى اليهود الموت لماتوا"(5).

وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من رتمنوا} للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ {تمنوا الموت} بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو (6).

قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، "أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم"(7).

قال الثعلبي: أي" في قولكم، محقين في دعواكم"(8).

قال أبو العالية: " {إن كنتم صادقين} بما تقولون إنه كما تقولون"(9).

قال ابن عثيمين: " أي في دعواكم أن الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس؛ لأنها حينئذٍ تكون لكم خيراً من الدنيا؛ فتمنوا الموت لتصلوا إليها؛ وهذا تحدٍّ لهم؛ ولهذا قال الله تعالى هنا: {ولن يتمنوه أبداً}؛ وفي سورة الجمعة قال تعالى: {ولا يتمنونه أبداً} [الجمعة: 7] وذلك؛ لأنهم يعلمون كذب دعواهم أن لهم الدار الآخرة خالصة"(10).

اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه (11):

الأول: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم بأنه إن كانت الدار الآخرة لهم كما يزعمون، فليتمنوا الموت لِيَصِلوا إليها.

وهذا قول قتادة (12)، وأبو العالية (13)، والربيع (14)، رجّحه الطبري (15) وكثير من المفسرين.

(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 307.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 237.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 170.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (937): ص 1/ 177، وفي رواية أخرى أخرده الطبري عنه (1577): ص 2/ 366: " فسلوا الموت". قال الطبري: " ولا يعرف " التمني " بمعنى " المسألة " في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى " الأمنية " - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة، إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله". [تفسير الطبري: 2/ 366].

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (938): ص 1/ 177، وفي رواية (936): ص 1/ 177: " لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه"، وأخرجه الطبري (1566): ص 2/ 362، وبزيادة:" ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا ". وفي رواية أخرى عن ابن عباس أيضا: " لو تمنوه يوم قال ذلك لهم، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات". [أخرجه الطبري (1570: ص 2/ 363].

(6)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 181.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 172.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 237.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (939): ص 1/ 177.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 307.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 365. وانظر: تفسير الرازي: 1/ 175.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1572): ص 2/ 364.

(13)

انظر: تفسير الطبري (1573): ص 2/ 364 - 365.

(14)

انظر: تفسير الطبري (1574): ص 2/ 365.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 364.

ص: 21

والثاني: أن المراد به المباهلة، أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما، فما دعوا لعلمهم بكذبهم. روي ذلك عن ابن عباس (1). ورجّحه ابن كثير.

ورجح هذا ابن كثير؛ وضعف الأول بأنه لو كان المراد: {تمنوا} ، حصول الموت لكانوا يحتجون أيضاً علينا نحن، ويقولون: أنتم أيضاً إن كنتم تقولون: إن الدار الآخرة لكم فتمنوا الموت؛ لأن تحديكم إيانا بذلك ليس بأولى من تحدينا إياكم به؛ لأنكم أنتم أيضاً تقولون: إن الدار الآخرة لكم، وأن اليهود بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في النار؛ فتمنوا الموت أنتم أيضاً (2).

وأجاب شيخنا ابن عثيمين على هذا الإشكال، فقال:" والجواب عن ذلك أنا لم ندع أن الدار الآخرة خالصة لنا من دون الناس؛ بل نؤمن بأن الدار الآخرة لكل من آمن وعمل صالحاً سواء كان من هذه الأمة أم من غيرها؛ وهذا المعنى الذي نحا إليه ابن كثير. رحمه الله. مخالف لظاهر السياق؛ فلا يعوَّل عليه؛ وقد عرفت الانفكاك منه"(3).

والراجح هو القول الأول، لأنه يدلّ عليه ظاهر الآية، وهو الأقرب إلى موافقة اللفظ، وبه قال جماعة من أهل التفسير. والله أعلم.

قال الطبري: " فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" (4)

فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل" (5).

الفوائد:

1 من فوائد الآيات: تكذيب اليهود الذين قالوا: "لنا الآخرة، ولكم الدنيا، لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة"؛ ووجهه: أن الله تعالى قال لهم: {فتمنوا الموت} ، وقد قال تعالى: {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم.

(1) انظر: تفسير الطبري (1571): ص 2/ 364.

(2)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 332. [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 308.

(4)

الحديث: إسناده صحيح. ذكر سنده الإمام الطبري عن: أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو كريب: هو محمد بن العلاء. زكريا بن عدي ابن زريق التيمي الكوفي: ثقة جليل ورع قال ابن سعد: " كان رجلا صالحا صدوقا ". وهو مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري 2/ 1 / 387 - 388، والصغير: 232، وابن سعد 6: 284، وابن أبي حاتم 1/ 2/600، ووقع هنا في المطبوعة " أبو زكريا " وزيادة " أبو " خطأ من ناسخ أو طابع، عبيد الله بن عمرو: هو أبو وهب الجزري الرقي، ثقة معروف أخرج له أصحاب الكتب الستة، وترجمته في التهذيب، وابن سعد 7/ 2 /182، والصغير للبخاري: 203، وابن أبي حاتم 2/ 2 / 328 - 329. عبد الكريم: هو ابن مالك الجزري الحراني، وهو ثقة ثبت صاحب سنة، من شيوخ ابن جريج ومالك والثوري وأضرابهم. ترجمته في التهذيب، والصغير للبخاري: 148، وابن أبي حاتم 3/ 1 /58 - 59.

والحديث رواه أحمد في المسند: 2226، عن أحمد بن عبد الملك الحراني، عن عبيد الله، وهو ابن عمرو، بهذا الإسناد، ولكن لم يذكر لفظه، أحاله على الرواية قبله: 2225، من طريق فرات بن سلمان الحضرمي، عن عبد الكريم، به، بزيادة في أوله. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 228، عن الرواية المطولة، وقال:" في الصحيح طرف من أوله "، ثم قال:" رواه أحمد، أبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ". أقول: ورجال أحمد في الإسناد: 2226 - رجال الصحيح أيضًا. وذكر السيوطي 1: 89 بعضه، ونسبه أيضًا إلى الشيخين، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، وأبي نعيم.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 361 - 362.

ص: 22

2.

ومنها: أنه إذا جاء الموت، فإن المؤمن يحب لقاء الله، لأنه قدّم أعماله الصالحة أمامه، وقد روي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ "(1).

القرآن

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} [البقرة: 95]

التفسير:

ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ لما يعرفونه من صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن كذبهم وافترائهم، وبسبب ما ارتكبوه من الكفر والعصيان، المؤَدِّيَيْن إلى حرمانهم من الجنة ودخول النار. والله تعالى عليم بالظالمين من عباده، وسيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، أي:" لن يتمنوه ما عاشوا"(2).

قال الصابوني: "أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام"(3).

قال الواحدي: " وذلك أنهم كفروا، وعرفوا أنهم كَفَرة، ولا نصيب لهم في الجنة؛ لأنهم تعمدوا كتمانَ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبَه"(4).

قال ابن عثيمين: " وذلك؛ لأنهم يعلمون كذب دعواهم أن لهم الدار الآخرة خالصة"(5).

وفي تركهم إظهار التمني قولان (6):

أحدهما: أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي-صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس (7).

الثاني: أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه-صلى الله عليه وسلم. روي عن الحسن (8) نحوه.

قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، " بما أسلفته أيديهم"(9).

قال الآلوسي: " أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والقرآن، وقتل الأنبياء"(10).

قال الواحدي: " أي: بما قدموه وعملوه، فأضاف ذلك إلى اليد، لأن أكثر جنايات الإنسان تكون بيده، فيضاف إلى اليد كل جناية، وإن لم يكن لليد فيها عمل، فيقال: هذا ما اجترحته يدك"(11).

وقد ذكر أبو حيان في قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، وجهين من التفسير (12):

الأول: كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازاً، والمعنى بما قدّموه، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .

والثاني: وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بكتابة أيديهم.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]، "أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك"(13).

روي عن ابن عباس في قوله {ِالظَّالِمِينَ} ، قال:"الكافرين"(14).

وذكروا في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]، وجهين (15):

أحدهما: أن هذه جملة خبرية، ومعناها: التهديد والوعيد، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد.

والثاني: معناه مجازيهم على ظلمهم، فكنى بالعلم عن الجزاء.

قال ابن عاشور: وقوله تعالى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، "خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته" (16) ومن ذلك قول زهير (17):

فَلا تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ

لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ

يقول: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله؛ وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله.

قال أبو حيان: " وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس"(18).

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد"(19).

الفوائد:

1.

من فوائد الآية: أنَّ الكافر يكره الموت لما يعلم من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: {بما قدمت أيديهم} .

2.

ومنها: إثبات السببية. تؤخذ من الباء في قوله تعالى: {بما قدمت أيديهم} .

3.

منها: إثبات علم الله تعالى للمستقبل؛ لقوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} ؛ فوقع الأمر كما أخبر به ..

4.

ومنها: جواز تخصيص العموم لغرض؛ لقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} فخص علمه بالظالمين تهديداً لهم.

القرآن

(1) صحيح البخاري (6062).

(2)

روح المعاني: 1/ 328.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 164.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 307.

(6)

انظر: النكت والعيون: 1/ 162.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (940): ص 1/ 177.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (941): ص 1/ 178.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 367.

(10)

روح المعاني: 1/ 328.

(11)

التفسير البسيط: 3/ 164.

(12)

انظر: البحر المحيط: 1/ 268.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 70.

(14)

أخرجه ابن أبي حاتم (943): ص 1/ 178.

(15)

انظر: البحر المحيط: 1/ 268.

(16)

تفسير ابن عاشور: 1/ 616.

(17)

ديوانه: 18، وشرح القصائد:266.

يقول الشاعر: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله؛ وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله

(18)

البحر المحيط: 1/ 268.

(19)

المحرر الوجيز: 1/ 181.

ص: 23

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96]

التفسير:

ولتعلمَنَّ -أيها الرسول- أن اليهود أشد الناس رغبة في طول الحياة أيًّا كانت هذه الحياة من الذلَّة والمهانة، بل تزيد رغبتهم في طول الحياة على رغبات المشركين. يتمنى اليهودي أن يعيش ألف سنة، ولا يُبْعده هذا العمر الطويل إن حصل من عذاب الله. والله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها بما يستحقون من العذاب.

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة: 96]، "أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم"(1).

قال ابن عباس: " وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم"(2).

وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، قيل: المعنى وأحرص، فحذف (من الذين أشركوا) لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، ألا ترى قول شاعرهم (3):

تمتع من الدنيا فإنك فان

من النشوات والنساء الحسان

وإنما قال: {عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] بالتنكير، لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي {على الحياة} (4).

وذكروا في (الواو) في قوله تعالى: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُوا} [البقرة: 96]، ثلاثة أقول (5):

أحدها: أنها (واو) عطف، والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك: هو أسخى الناس ومن حاتم، وهذا قول الفراء والأصم.

فإن قيل: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلنا: بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقيا باعظم التوبيخ، فإن قيل: ولم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلنا: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك.

القول الثاني: أنها (واو) استئناف، وقد تم الكلام عند قوله:"على حياة"(و) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164].

القول الثالث: أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله:{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} وهو قول أبي مسلم.

قال الرازي: " والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم، إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا. والله أعلم (6).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 71.

(2)

أخرجه الطبري (1590): ص 2/ 371.

(3)

البيت لامريء القيس، انظر: ديوانه: 87.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 609.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 609.

(6)

مفاتيح الغيب: 3/ 609.

ص: 24

قوله تعالى: {أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} البقرة: 96]، " أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة"(1).

قال قتادة: " قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر"(2). وروي عن أبي نجيح مثله (3).

وقال ابن زيد: " يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة"(4).

وقال ابن عباس: " هو قول أحدهم إذا عطس: " زه هزار سال "، يقول: عشرة آلاف سنة"(5).

واختلف في الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية، وذكروا فيه وجهين (6):

الأول: أنهم مشركوا العرب، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر (7). وهذا قول ابن عباس (8).

والثاني: أنهم المجوس، قاله أبو العلية (9)، والربيع (10).

وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه: (عش ألف سنة)، وقيل أنهم كانوا يقولون لملكهم:"عش ألف نيروز وألف مهرجان"(11).

والصواب القول الأول، لأن الله جل ثناؤه قد وصف اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب، فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت (12).

وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة: 96]، " أي وما طول العمر - مهما عمر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله"(13).

قال البغوي: " أي طول عمره لا ينقذه"(14).

قال ابن زيد: " لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب"(15).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 71.

(2)

أخرجه الطبري (1593): ص 2/ 372.

(3)

أخرجه الطبري (1594): ص 2/ 372.

(4)

أخرجه الطبري (1595): ص 2/ 372.

(5)

أخرجه الطبري (1596): ص 2/ 372.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 370 - 371. وتفسير القرطبي: 2/ 34.

(7)

إن الإيمان بالبعث واجب لا يقبل الله إيمان عبد إلا به وهو جزء من أحداث يوم القيامة الركن السادس من أركان الإيمان، المسمى باليوم الآخر، والمسمى بيوم القيامة، والمسمى بيوم البعث. وقد تعددت وتنوعت أسمائه وأوصافه لتنوع الأحداث التي تكون فيه فهو اليوم الآخر لأن ما قبله سابق وهو الأخير.

وهو يوم القيامة لأن الناس جميعاً يقومون من قبورهم لرب العالمين ويقومون في محشرهم لمجيء الرب سبحانه لفصل القضاء، وهو يوم البعث لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم ويخرجون إلى محشرهم. [انظر: الحياة الآخرة، د. غالب عواجي، (1/ 133].

(8)

أخرجه الطبري (1590): ص 2/ 371.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1587): ص 2/ 371.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1588): ص 2/ 371.

(11)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 609. وقد ذكر الإمام الطبري خبرا مجهول الإسناد: "عن ابن عباس في قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}، قال: هو قول أحدهم إذا عطس: " زه هزار سال "، يقول: عشرة آلاف سنة (انظر: تفسيره (1596): 2/ 373). و (زه): عش باللغة الفارسية.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 370 - 371.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(14)

تفسير البغوي: 1/ 123.

(15)

أخرجه الطبري (1604): ص 2/ 367.

ص: 26

وقوله تعالى {بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96]، يعني: بمبعده ومُنَحِّيه (1)، روي عن ابن عباس (2)، أبي العالية (3)، والربيع (4)، نحو ذلك.

ومن ذلك قول الحطيئة (5):

وقالوا: تزحزح ما بنا فضل حاجة

إليك، وما منا لوَهْيِك راقع

يعني بقوله: (تزحزح)، تباعد، يقال منه: زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا، وهو عنك متزحزح، أي متباعد.

ويكون لازما ومتعديا، فمن قول الشاعر في المتعدي (6):

يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت

وغافر الذنب زحزحني عن النار

وقال آخر في اللازم (7):

خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح

وما بال ضوء الصبح لا يتوضح

وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل زَحْزَحَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْعِينَ خَرِيفًا "(8).

وقد اختلف النحاة في (هُوَ) على وجوه (9):

أحدها: أن (هو) عائد إلى {أحدهم} ، والتقدير: ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. (أن يعمر) فاعل بمزحزح.

الثاني: وقالت جماعة: (هو) ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، (أن يعمر) بدل من التعمير على هذا القول.

الثالث: وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: (هو) عماد (10).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 375، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 288، وجامع البيان للطبري: 2/ 376، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 163، وقال اليزيدي في غريب القرآن وتفسيره: 77، وأبو عبيدة في مجاز القرآن: 1/ 48: بمبعده، وانظر: تهذيب اللغة للأزهري: 3/ 415، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 7، لسان العرب لابن منظور: 3/ 1816، جامع البيان للطبري: 2/ 375، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 299، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 35، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 209، الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 311، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 71، روح المعاني للألوسي: 1/ 331، وتفسير غريب القرآ لابن قتيبة: 58، في النكت والعيون: 1/ 162، وغيرها.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1600): ص 2/ 358.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1601): ص 2/ 376.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1602): ص 2/ 376.

(5)

البيت ليس للحطيئة، وإنما هو لقيس بن الحدادية، من قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه 13:6. يقول قبل البيت، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك.

وما راعنى إلا المنادى: ألا اظعنوا

وإلا الرواغى غدوة والقعاقع

فجئت كأني مستضيف وسائل

لأخبرها كل الذي أنا صانع

فقالت: تزحزح! ما بنا كبر حاجة

إليك، ولا منا لفقرك راقع

فما زلت تحت الستر حتى كأنني

من الحر ذو طمرين في البحر كارع

(6)

البيت لذي الرمة، انظر: ملحقات ديوانه: 667. وفي رواية: يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا

وغافر الذنب زحزحني عن النار. (انظر: تفسير القرطبي: 2/ 34).

(7)

ديوان بشار 2: 104 وشرح المختار: 12 ومنها بيتان في كل من ديوان المعاني 1: 350 ونهاية الأرب 1: 136 وحلبة الكميت: 305 وثلاثة في هر الآداب: 746 وتشبيهات ابن أبي عون: 207. ورسالة الطيف، الورقة: 152 ب (110).

(8)

رواه النسائي (2212) وصححه الألباني، والترمذي في فضائل الجهاد (1547)، وابن ماجه في الصيام (1708)، وأحمد (7930).

وفي رواية اخرى: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا "، رواه البخاري في الجهاد والسير باب فضل الصوم في سبيل الله (2840)، ومسلم في الصيام (1153)، والترمذي في الجهاد (1548) والنسائي في الصيام (2219)، وابن ماجه في الصيام (1707)، وأحمد (10826)، والدارمي في الجهاد (2292) وأخرجه ابن حبان (3417) بسند صحيح، والطيالسي (2186). وعند النسائي:"بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ مِنْ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ عَامًا"، رواه النسائي في الصيام (2215).

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 34 - 35.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 374.

ص: 27

قال القرطبي: "وهو قول فيه بُعدٌ، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين، مثل قوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32]، وقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ونحو ذلك"(1).

الرابع: وقيل: (ما) عاملة حجازية، و (هو) اسمها، والخبر في {بِمُزَحْزِحِهِ} .

الخامس: وقالت طائفة: (هو) ضمير الأمر والشأن (2)، وضعّفه القرطبي:" لأن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر"(3).

وأظهر تلك الأقوال، هو القول الأول، أي: أن الضمير (هو) عائد إلى {أحدهم} ، والله أعلم.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]، "أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها"(4).

قال ابن كثير: " أي: خبير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله"(5).

قال السعدي: " تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم"(6).

قال أبو حيان: "وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد، وأتى عنا بصفة بصير، وإن كان الله تعالى متنزهاً عن الجارحة، إعلاماً بأن علمه، بجميع الأعمال، علم إحاطة وإدراك للخفيات

وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه تعالى محيطاً بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل" (7).

قال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال الشاعر (8):

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

قال الخطابي: (البصير) العالم، و (البصير) المبصر، وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين (9).

وقرأ الجمهور {يعملون} ، بالياء، على نسق الكلام السابق، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب {تعلمون} ، بالتاء، على سبيل الالتفات والخروج من العيبة إلى الخطاب (10).

الفوائد:

1.

من فوائد الآية أن اليهود أحرص الناس على حياة ..

2.

ومنها: إبطال قولهم: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة"، ثم يخرجون منها، ويكونون في الجنة؛ لأن من كان كذلك لا يكره الموت.

3.

ومنها: أن الناس يتفاوتون في الحرص على الحياة؛ لقوله تعالى: {أحرص} ؛ و {أحرص} اسم تفضيل.

4.

ومنها: أن المشركين من أحرص الناس على الحياة، وأنهم يكرهون الموت؛ لقوله تعالى:{ومن الذين أشركوا} مما يدل على أنهم في القمة في كراهة الموت ما عدا اليهود ..

(1) تفسير القرطبي: 2/ 35.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 182.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 35.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 335.

(6)

تفسير السعدي: 59.

(7)

البحر المحيط: 1/ 271.

(8)

البيت لعلقمة الفحل، انظر: ديوانه: 131.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 35. وانظر: مقاييس اللغة: 3/ 407.

(10)

انظر: البحر المحيط: 1/ 271.

ص: 28

5.

ومنها: أن طول العمر لا يفيد المرء شيئاً إذا كان في معصية الله؛ لقوله تعالى: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} .

6.

ومنها: غَوْرُ فهم السلف حين كرهوا أن يُدْعَى للإنسان بالبقاء؛ فإن الإمام أحمد كره أن يقول للإنسان: "أطال الله بقاءك"؛ لأن طول البقاء قد ينفع، وقد يضر؛ إذاً الطريق السليم أن تقول:"أطال الله بقاءك على طاعة الله"، أو نحو ذلك ..

7.

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى محيط بأعمال هؤلاء كغيرهم؛ لقوله تعالى: {والله بصير بما يعملون} ؛ والبصر هنا بمعنى العلم؛ ويمكن أن يكون بمعنى الرؤية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(1)؛ فأثبت لله بصراً؛ لكن تفسيره بالعلم أعم.

القرآن

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} [البقرة: 97]

التفسير:

قل-أيها الرسول- لليهود حين قالوا: إن جبريل هو عدونا من الملائكة: من كان عدوًا لجبريل فإنه نزَّل القرآن على قلبك بإذن الله تعالى مصدِّقًا لما سبقه من كتب الله، وهاديًا إلى الحق، ومبشرًا للمصدِّقين به بكل خير في الدنيا والآخرة.

قد أجمع أهل العلم بالتفسير على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم (2)، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك على أقوال (3):

أحدها: أن سبب قيلهم ذلك، كا من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته. قاله ابن عباس (4)، وشهر بن حوشب الأشعري (5)، والقاسم بن أبي بزة (6).

قال ابن عباس: " أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك من عند

ربه عز وجل بالرسالة بالوحي فمن صاحبك؟ قال: "جبريل" قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة اتبعناك، فأنزل الله تعالى:{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك} إلى قوله: {فإن الله عدو للكافرين} " (7).

(1) أخرجه مسلم ص 709، كتاب الإيمان، باب 79: في قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام"

، حديث رقم 442 [293]179.

(2)

قال الإمام الرازي: " من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود: إن جبريل عدوهم قالوا: لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحدا من سلفهم لم يقل بذلك، واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديدا وهم الذين قالوا؛ {اجعل لنا إلاها كما لهم ءالهة} (الأعراف: 138) ". (انظر: تفسيره: 2/ 179).

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام" (انظر تفسيره: 1/ 621.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 377 - 378. وتفسير القرطبي: 2/ 36.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1605): 2/ 377 - 378.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1606): 2/ 378 - 379.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1607): 2/ 380.

(7)

أسباب النزول للواحدي: 28، والخبر أخرجه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/ 73 - ح: 115) والطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 45 - ح: 12429) والنسائي (تفسير ابن كثير: 1/ 130) من طريق ابن شهاب به. وإسناده حسن بشواهده وهي:

ما أخرجه الطبري في تفسيره (1605): 2/ 377 - 378، والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/ 74) وعبد بن حميد (المصدر السابق) وأبو داود الطيالسي (منحة المعبود: 2/ 11 - ح: 1923) وابن أبي حاتم (952): ص 1/ 179، وأبو نعيم (فتح القدير: 1/ 117) والبيهقي (دلائل النبوة: 6/ 266) كلهم من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه وسنده حسن.

ص: 29

والثاني: وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قاله الشعبي (1)، وقتادة (2)، والسدي (3).

الثالث: وقال أبو ليلى: " قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية: {من كان عدوا لجبريل} "(4). وروي عن عطاء نحو ذلك (5).

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]، " أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل"(6).

قال المراغي: " أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل"(7).

واختلف في سبب عداوة اليهود لجبريل-عليه السلام على أقوال:

الأول: أن سبب عداوة اليهود لجبريل أنه أُمِر باستمرار النبوة فنقلها لغيرهم. قاله مقاتل (8).

والثاني: أن سبب عداوتهم له، لكونه يطلع على أسرارهم. قاله قتادة (9).

الثالث: لأنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام (10).

والرابع: إن عداوتهم لكونه ينزل بالعذاب (11).

الخامس: كونه حال دون قتل بخت نصر، الذي خرب مسجدهم وسفك دماءهم، وسبى ذراريهم (12) ..

والأقرب أن يكون سبب عداوتهم له، أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام، لأن قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ

} [البقرة: 97] مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة. قاله الرازي (13).

وأما (جِبْرِيلَ)، و (مِيكَالَ) فإن للعرب فيهما لغات (14):

أحدها: أهل الحجاز يقولون (جبريل)، و (ميكال)، بغير همز، بكسر الجيم والراء من (جبريل) وبالتخفيف، وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.

قال كعب بن مالك (15):

ويوم بدر لقيناهم لنا مدد

فيه لدى النصر ميكال وجبريل

وقال آخر (16):

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد

وبجبرئيل وكذبوا ميكالا

والثاني: أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون: (جَبرئيل وميكائيل) على مثال (جبرعيل وميكاعيل)، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة، وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية (17):

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد

وبجَبرَئيل وكذبوا ميكالا

والثالث: وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن: (جبريل) بفتح الجيم، وترك الهمز، وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها، لأن " فعليل " في كلام العرب غير موجود، وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال:" سمويل "، وأنشد في ذلك (18):

بحيث لو وزنت لخم بأجمعها

ما وازنت ريشة من ريش سمويلا

والرابع: وأما بنو أسد فإنها تقول (جِبرين) بالنون.

والخامس: وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في (جبريل)"ألفا " فتقول: (جبراييل وميكاييل).

والسادس: وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ: (جَبْرَئِلّ) بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام، فأما " جبر " و " ميك "، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى:" عبد "، والآخر بمعنى:" عبيد وأما " إيل " فهو الله (19).

قال الثعلبي: " فأجود اللغات (جَبْرَئِيل) بفتح الجيم، والهمز، لأن الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الصور " جَبْرَئِيل عن يمينه وميكائيل عن يساره (20)، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث" (21).

واختلف في معنى (جبريل)، على قولين:

الأول: أن معناه: عبد الله، فـ (جبر) عبد، و (إيل) الله: وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس (22)، وعبدالله بن الحارث (23)، وعكرمة (24)، وعلي بن حسين (25)، ومجاهد (26)، والضحاك (27)، وجماعة من أهل العلم.

والثاني: أن معناه: خادم ربه. قاله عبدالعزيز بن عمير (28).

(1) انظر: تفسير الطبري (1608): ص 2/ 381 - 382، و (1614): ص 2/ 385.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1610)، و_1611)، و (1612): ص 2/ 382 - 383.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1613): ص 2/ 383 - 384.

(4)

أخرجه الطبري (1615): ص 2/ 386.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1616): ص 2/ 386.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 71،

(7)

تفسير المراغي: 1/ 175.

(8)

انظر: أسباب النزول للوا حدي-تحقيق: أيمن شعبان-: 33 رقم: 45، ومعالم التنزيل للبغوي: 1/ 124، ومفاتيح الغيب للرازي: 3/ 211.

(9)

أخرجه ابن جرير في جامع البيان: 2/ 383 رقم: 1610 عن قتادة في قصة عمر مع اليهود وفيها فقالوا: "من صاحبكم. فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يُطْلع محمداً على سرنا" وانظر: معالم التنزيل للبغوي: 1/ 124، ومفاتيح الغيب للرازي: 3/ 210 - 211، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 319.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 611.

(11)

انظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 298.

(12)

انظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 298.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 611.

(14)

انظر: السبعة في القراءات: 166، وتفسير الطبري: 2/ 389 - 390.

(15)

البيت في قصيدة وردت في السيرة: 1/ 147، وفي القرطبي: 2/ 38، والبحر المحيط: 1/ 318، وفي اللسان مادة (مكا) ونسبه لحسان بن ثابت.

(16)

البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل. انظر: ديوانه: 450، تفسير القرطبي: 2/ 38، وتفسير البحر المحيط: 1/ 318.

(17)

ديوانه: 450، ونقائض جرير والأخطل: 87، من قصيدته الدامغة في هجاء الأخطل، والضمير إلى تغلب، رهط الأخطل، وقبله:

قبح الإله وجوه تغلب، كلما

شَبَح الحجيج وكبروا إهلالا

(18)

الأغاني 14: 92، 16: 22، واللسان (سمل)، من أبيات أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل، حين قال لبيد في رجزه: مهلا، أبيت اللعن، لا تأكل معه، وزعم أنه أبرص الخبيثة، وذكر من فعله قبيحا كريها، فرحل الربيع عن النعمان، وكان له نديما، وأرسل إليه أبياته:

لئن رحلت جمالي لا إلى سعة

ما مثلها سعة عرضا ولا طولا

بحيث لو وزنت لخم بأجمعها

لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا

ترعى الروائم أحرار البقول بها

لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا

فاثبت بأرضك بعدي، واخل متكئا

مع النطاسي طورا وابن توفيلا

ولخم: هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة.

(19)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 389 - 390.

(20)

أخرجه ابن حبان (2211)، وأحمد (1/ 199) والبزار (2574 - الكشف)

والطبراني في " المعجم الكبير "(1/ 131 / 1) والنسائي في " الخصائص " رقم:

25)).

(21)

تفسير الثعلبي: 1/ 179.

(22)

انظر: تفسير الطبري (1620): ص 2/ 390.

(23)

انظر: تفسير الطبري (1623): ص 2/ 390.

(24)

انظر: تفسير الطبري (1624): ص 2/ 390.

(25)

انظر: تفسير الطبري (1625): ص 2/ 390.

(26)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 182.

(27)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 182.

(28)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (968): ص 1/ 183.

ص: 30

واعترض أبو علي الفارسي على القول الأول، ووصفه بأنه غير مستقيم، وذلك لوجهين (1):

أحدهما: أنه لا يعرف من أسماء الله (أيل).

والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا.

والراجح هو القول الأول، وأما وكلام السوسي فإنما يتأتى لو كان:«جبر» و «إيل» عربيتين، ولكنهما عبرانيتان، والاضافة في اللغة العبرانية لا توجب كسر الاسم باعتباره مضافا إليه. والله أعلم.

قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 97]، "أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى"(2).

قال السعدي: أي" فإن جبريل هو الذي نزل بالقرآن من عند الله، على قلبك، وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك، والله هو الذي أمره، وأرسله بذلك، فهو رسول محض"(3).

قال المراغي: أي" فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك، أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة"(4).

قال ابن عباس: فأنزل الله إكذابا لهم: قل يا محمد: من كان عدوا لجبريل فإنه يقول: فإن جبريل نزله يقول: نزل القرآن من عندي" (5).

وقد اختلف في (الهاء) في قوله تعالى {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} [البقرة: 97]، على أقوال (6):

أحدها: أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية: على القرآن وإن لم يجر له ذكر، لأنه كالمعلوم، أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله، وهذا كقوله: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ

} [فاطر: 45] يعني على الأرض، وهذا قول ابن عباس (7) وأبو العالية (8)، والحسن (9) والربيع بن أنس (10). وهو قول أكثر أهل العلم.

قال صاحب "الكشاف": إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته" (11).

والثاني: أن المعنى: فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه.

قال ابن عطية: " وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف"(12).

وقال الرازي: "يرى أكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال: نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه (13).

قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف استقام قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:

أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.

(1) الحجة: 2/ 167 - 168، ونقله الرازي في مفاتيح الغيب: 3/ 612.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(3)

تفسير السعدي: 60.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 175 - 176.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (953): ص 1/ 180.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 612.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (955): ص 1/ 180.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (954): ص 1/! 80.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 180.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 180.

(11)

الكشاف: 1/ 169.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 183.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 612.

ص: 31

والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد أذيته وأسأت إليه" (1).

وقد تعددت عبارات المفسرين في معنى قوله تعالى {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، على وجوه:

أحدها: بعلم الله. قاله الرازي، واحتج على ذلك بوجوه (2):

أولها: أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.

وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.

وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة.

والثاني: أن معناه: بأمر الله. قاله ابن عباس (3). واختاره في المنتخب (4)، وأبو حيان (5).

والثالث: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة. قاله ابن عطية (6).

والرابع: بإرادته وعلمه. قاله ابن كثير (7).

والخامس: باختياره. قاله الماوردي (8).

والسادس: بتيسيره وتسهيله. قاله الزمخشري (9).

والأقرب هو قول ابن عباس، والمعنى: بأمر الله، ومنه:{لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]، {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقد صرح بذلك في:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. والله أعلم.

وقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97]، " أي: مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية" (10).

قال السعدي: أي: " مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض"(11).

قال المراغي: " أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم"(12).

قال أبو العالية: " يعني من التوراة والإنجيل"(13). وروي عن قتادة، والربيع نحوه (14).

وقال ابن عباس: " يقول: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات نحو موسى وعيسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من المرسلين مصدقا يقول: فأنت تلوا عليهم يا محمد وتخبرهم غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا ولم تبعث رسولا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه وصدقه يقول اللهم في ذلك لهم عبرة، وبيان. وعليهم حجة لو كانوا يعقلون"(15).

قال ابن عاشور: و"تصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر

(1) الكشاف: 1/ 170.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 612.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (956): ص 1/ 180.

(4)

انظر: البحر المحيط: 1/ 275.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 275.

(6)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 184.

(7)

تفسير ابن كثير: 2/ 36.

(8)

نقلا عن البحر المحيط: 1/ 275، ولم أجده في النكت والعيون.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 169 - 170.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(11)

تفسير السعدي: 60.

(12)

تفسير المراغي: 1/! 76.

(13)

أخرجه ابن أبي حاتم (958): ص 1/ 181.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/! 81.

(15)

أخرجه ابن أبي حاتم (957): ص 1/ 180 - 181.

ص: 33

الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل، والمراد بـ {ِمَا بَيْنَ يَدَيْه}: ما سبقه، وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمراً إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلاً" (1).

وقوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة 97]، " أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم"(2).

قال المراغي: " أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، وبشرى لمن آمن به"(3).

قال السعدي: أي" وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات، والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي، لمن آمن به"(4).

قال الآلوسي: "وخص المؤمنين- بالذكر لأنه على غيرهم عمى"(5).

قال قتادة: " جعل الله هذا القرآن: هدى وبشرى للمؤمنين، لأن المؤمن إذا سمع القرآن وحفظه ووعاه انتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي، وعد وكان على يقين من ذلك"(6).

فالهدى: "دليل وبرهان، والبشرى فإنها البشارة"(7)، والمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين (8):

الأول: بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى.

والثاني: بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى.

وقال الرازي: "فإن قيل: ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل؟ الجواب من وجهين:

الأول: أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

والثاني: أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به" (9).

وبذلك فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله، وأنه منزل على قلب الرسول، وأنه مصدق لما سبقه من الكتب، وأنه هاد أبلغ هدى، وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل وكرم المقر وكرم الفئة ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيراً عاجلاً وواعد لهم بعاقبة الخير، وهذه خصال الرجل الكريم محتده وبيته وقومه، السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم (10):

إنَّ المساحةَ والمروءةَ والنَّدى

في قبة ضُربت على ابن الحَشْرج (11)

الفوائد:

(1) تفسير ابن عاشور: 1/ 622.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(4)

تفسير السعدي: 60.

(5)

روح المعاني: 1/ 333.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (959): ص 1/ 181، والطبري (1633): ص 2/ 393.

(7)

تفسير الطبري: 2/ 393.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 612.

(9)

مفاتيح الغيب: 3/ 612.

(10)

البيت لزياد الأعجم قاله في مدح ابن الحشرج: انظر: الأغاني (15): (386).

(11)

انظر: تفسير ابن عاشور: 1/ 622 - 623.

ص: 34

1 من فوائد الآية: أن من الناس من يكون عدواً لملائكة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {قل من كان عدواً لجبريل} : ووجه ذلك: أن مثل هذا لكلام لو لم يكن له أصل لكان لغواً من القول؛ والقرآن منزه عن هذا اللغو ..

2 ومنها: فضيلة جبريل. عليه الصلاة والسلام. لأن الله تعالى دافع عنه ..

3 ومنها: ذكر الوصف الذي يستحق أن يكون به ولياً لجبريل؛ لقوله تعالى: {فإنه نزله على قلبك} يعني: ومن كان هذه وظيفته فإنه يستحق أن يكون ولياً ..

4.

ومنها: إثبات علوّ الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {فإنه نزله} ؛ وإنما نزل به من عند الله؛ والنّزول لا يكون إلا من أعلى ..

5 ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وعى القرآن وعياً كاملاً لا يتطرق إليه الشك؛ لقوله تعالى: {نزله على قلبك} ؛ لأن ما نفذ إلى القلب حلّ في القلب؛ وإذا حلّ في القلب فهو في حرز مكين ..

6 ومنها: أن هذا القرآن إنما نزل بإذن الله؛ لقوله تعالى: {نزله على قلبك بإذن الله} ؛ والإذن هنا كوني؛ وقد ذكر العلماء أن إذن الله تعالى نوعان: .

كوني: وهو المتعلق بالخلق، والتكوين، ولا بد من وقوع ما أذِن الله تعالى فيه بهذا المعنى؛ مثاله قوله تعالى:{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة: 102] وقوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} [التغابن: 11] ..

والثاني شرعي: وهو ما يتعلق بالشرع، والعبادة؛ مثاله قوله تعالى:{قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59]؛ وقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]؛ والفرق بينهما أن المأذون به شرعاً قد يقع، وقد لا يقع؛ وأما المأذون به قدراً فواقع لا محالة؛ ومن جهة أخرى: أن المأذون به شرعاً محبوب إلى الله عز وجل؛ والمأذون به قدراً قد يكون محبوباً، وقد يكون غير محبوب ..

7.

ومن فوائد الآية: أن القرآن بشرى للمؤمنين؛ وعلامة ذلك أنك تنتفع به؛ فإذا وجدت نفسك منتفعاً به حريصاً عليه تالياً له حق تلاوته فهذا دليل على الإيمان، فتناله البشرى؛ وكلما رأى الإنسان من نفسه كراهة القرآن، أو كراهة العمل به، أو التثاقل في تطبيقه فليعلم أنه إنما فاقد للإيمان بالكلية، أو أن إيمانه ناقص.

7.

وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه (1).

القرآن

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 98]

التفسير:

من عادى الله وملائكته، ورسله من الملائكة أو البشر، وبخاصة المَلَكان جبريلُ وميكالُ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم، وميكال وليُّهم، فأعلمهم الله أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر، وعادى الله أيضًا، فإن الله عدو للجاحدين ما أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

في سبب نزول الآية أقوال (2):

(1) انظر: روح المعاني: 1/ 333.

(2)

انظر: أسباب النول للواحدي: 29 - 30، والعجاب: 1/ 297 وما بعدها.

ص: 35

أحدها: أخرج الطبري "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا، فقال له عمر: {كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}، قال: فنزلت على لسان عمر"(1).

والثاني: وأخرج الطبري أيضا عن عبيد الله، عن رجل من قريش قال:"سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنزل الله: {من كان عدوا لله وملائكته} الآية"(2).

والثالث: وقال مقاتل: "قالت اليهود: إن جبريل عدونا أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل الله هذه الآية"(3).

والرابع: ال ابن عباس: إن حبرا من أحبار اليهود من فدك يقال له: عبد الله بن صوريا حاج النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أشياء فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتي من السماء؟ قال: جبريل: ولم يبعث الله نبيا إلا وهو وليه قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل مكانه لآمنا بك، إن جبريل نزل بالعذاب والقتال والشدة، فإنه عادانا مرارا كثيرة، وكان أشد ذلك علينا أن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يدي رجل يقال له بختنصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلب بختنصر ليقتله، فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا ليست له قوة، فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبريل، وقال لصاحبنا: إن كان ربكم الذي أذن في هلاككم فلا تسلط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي شيء تقتله؟ فصدقه صاحبنا ورجع إلينا، وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدوا فأنزل الله هذه الآية" (4).

قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98]، " أي معادياً له مستكبراً عن عبادته"(5).

قال البيضاوي: " أراد بعداوة الله مخالفته عناداً، أو معاداة المقربين من عباده، وصدر الكلام بذكره تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] "(6).

قال أبو السعود: " أريد بعداوته تعالى، مخالفةُ أمرِه عِناداً، والخروجُ عن طاعته مكابرة، أوعداوة خواصِّه ومقرَّبيه"(7).

قال المراغي: " عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله"(8).

قوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ} [البقرة: 98]، أي ومن كان" عدواً لملائكته"(9).

قال المراغي: " بكراهة العمل بما يعهد به إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس"(10).

قال ابن عثيمين: " و (الملائكة) جمع (ملَك)؛ وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، وسخرهم لعبادته يسبحون الليل، والنهار لا يفترون؛ ومنهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أسماءهم في افتتاح صلاة الليل (11) "(12).

قوله تعالى: {وَرُسُلِهِ} [البقرة: 98]، أي ومن كان عدوا لرسل الله تعالى.

قال الواحدي: " يعني: محمدًا وعيسى، كفرت بهما اليهود"(13).

قال المراغي: " بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها، أو بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى"(14).

قال ابن كثير: " - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] "(15).

و(رسل): "جمع رسول؛ وهم الذين أوحى الله تعالى إليهم بشرع، وأمرهم بتبليغه؛ أولهم نوح، وآخرهم محمد. صلى الله عليهم وسلم أجمعين"(16).

قوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، أي و" عادى على الوجه الأخص «جبريل وميكائيل» "(17).

قال المراغي: " بادّعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد"(18).

قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، "أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عند الله، فالله عدوّ له"(19).

قال الزمخشري: " والمعنى من عاداهم، عاداه اللَّه وعاقبه أشدّ العقاب"(20).

قال ابن عثيمين: " هذا جواب الشرط: من كان عدواً لله فالله عدو له؛ ومن كان عدواً للملائكة فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لرسله فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لجبريل فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لميكائيل فإن الله عدو له"(21).

قال الواحدي: ومعنى الآية: من كان عدوًا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له، لأن عدوّ الواحد عدو الجميع، وعدو محمدٍ عدوُّ الله. ومثله قوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 136]؛ لأن الكافر بالواحد كافر بالكل .. ولم يقل: فهم أعداء له؛ لأنه تولى تلك العداوة بنفسه، وكفى رسله وملائكته أمر من عاداهم. وإنما لم يقل: فإن الله عدو لهم أوله بالكناية؛ ليدل مع أنه عدو لهم على أنهم كافرون بهذه العداوة" (22).

(1) تفسير الطبري (1635): ص 2/ 395، وابن أبي حاتم (961): ص 1/ 182، وأخرجه نحوه ابن أبي حاتم (960): ص 1/ 181، عن عامر، وأخرج الواحدي بما معنهاه مطولا عن الشعبي عن عمر بن خطاب، انظر: أسباب النزول للواحدي: 29 - 30.

(2)

تفسير الطبري (1634): ص 2/ 394 - 395.

(3)

أسباب النزول للواحدي: 31.

(4)

أسباب النزول للواحدي: 31.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 314.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 96.

(7)

تفسير أبو السعود: 1/ 134.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 314.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(11)

راجع صحيح مسلم ص 800، كتاب صلاة المسافرين، باب: 26: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه، حديث رقم 1811 [200]770.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 315 - 316.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 178.

(14)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(15)

تفسير ابن كثير: 1/ 342.

(16)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 315.

(17)

صفوة التفاسير: 1/ 71.

(18)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(19)

تفسير المراغي: 1/ 176.

(20)

الكشاف: 1/ 170.

(21)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 315.

(22)

التفسير البسيط: 3/ 179 ظن وانظر: زاد المسير: 1/ 119، وتفسير ابن كثير: 1/ 141.

ص: 36

قال الشوكاني: " والعداوة من العبد هي صدور المعاصي منه لله والبغض لأوليائه والعداوة من الله للعبد هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة له"(1).

قال ابن كثير: " وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: "من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب" (2)، وفي الحديث الآخر: "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" (3)، وفي الحديث الصحيح: "وَمَن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُه" (4) "(5).

وقد أتى باسم {الله} ظاهراً، ولم يأت: بأنه عدوّ، لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى، أو عائد على أقرب مذكور، وهو ميكال، فأظهر الاسم لزوال اللبس، أو للتعظيم والتفخيم، لأن العرب إذا فخمت شيئاً كررته بالاسم الذي تقدم له، وذلك كقوله تعالى:{لَيَنصُرَنَّهُ اللَّه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60](6)، ومنه قول الشاعر (7):

لا أرى الموت يسبق الموت شيئا

نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا

إذ كرر الشاعر (الموت) في جملة واحدة. فـ (الموت) الأول مفعول لـ (أرى)، و (يسبق الموت) مفعول ثانٍ، وكان ينبغي أن يقول: يسبقه شيءٌ؛ لأن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرير ذكره في جملة واحدة، كان الاختيار أن يُذكر ضميرُهُ، ولكن التكرير قد يراد به التعظيم والتفخيم.

ومنه قول جرير (8):

ليتَ الغرابَ غداة ينعَبُ دائبا

كان الغرابُ مقطَّع الأوداج

وقال الزمخشري: " "فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف" (9).

قلت: وهذا عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فالأنبياء أشرف.

وقد خص الله {جبريل وميكائيل} ، بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما للأسباب الآتية (10):

(1) فتح القدير: 1/ 117.

(2)

هكذا ساق ابن كثير رحمه الله الحديث والظاهر أنه كتبه من حفظه، وهو حديث قدسي، كما هو ظاهر، وهو في البخاري: 11/ 292 - 293 فتح، ولفظه:"إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آنته بالحرب" فالمؤلف سها حين أثبت كلمة (بارزني)، بدل (آذنته). ومعنى الحديث ثابت من حديث عائشة، رواه أحمد في المسند: 6/ 256، ومن حديث معاذ، رواه ابن ماجة (3989).

(3)

لم أجده بهذا اللفظ، وقد رواه أبو نعيم في الحلية: 1/ 11، موقوفا على ابن عباس:"وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة".

(4)

مسند الإمام أحمد (8477): ص 2/ 358.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 343.

(6)

انظر: البحر المحيط: 1/ 276.

(7)

وهو لعدي بن زيد، في "ديوانه" 65. وورد منسوبًا له في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي: 1/ 36، "أمالي ابن الشجري" 1/ 379، 2/ 6، "الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي: 8/ 30، "الخزانة" 1/ 378، 379، 6/ 90، 11/ 366. وقيل: البيت لسوادة بن عدي، وورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" 1/ 62، والنكت في تفسير "كتاب سيبويه" للشنتمري: 1/ 198، "شرح شواهد المغني" 2/ 876، الاقتضاب" 368، وقال في "لسان العرب": (لعدي أو سوادة بن عدي). 8/ 4488 (نغص). وصحح البغداديُّ في "خزانة الأدب" 1/ 381 أن البيت لعدي بن زيد. وورد غير منسوب في "الخصائص" 3/ 53، "إيضاح الوقف والابتداء" 1/ 320، 2/ 694، "شرح أبيات الكتاب" للنحاس: 67، " القطع والائتناف" له: 218، "ضرورة الشعر" للسيرافي 190، "العمدة" لابن رشيق: 686، "البيان" للأنباري: 1/ 63، 122، 144، 379، 2/ 44، 107، "مغني اللبيب"650.

(8)

ديوانه 89، وأمالي ابن الشجرى 1: 243، وغيرهما. ورواية ديوانه " ينعت بالنوى " وهو الجيد، فإن قبله: إن الغراب، بما كرهت، لمولع

بنوى الأحبة دائم التشحاج

والأوداج جمع ودج: وهو عرق من عروق تكتنف الحلقوم.

(9)

الكشاف: 1/! 70.

(10)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 36، والتفسير البسيط: 3/ 178.

ص: 37

الأول: قالوا أفردهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، كقوله:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وكقوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، بعد قوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النجم: 31].

قال الرازي: " لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة"(1).

والثاني: وقيل: خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.

قال الرازي: "أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على اسميهما، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل، وإذا ثبت هذا فنقول: يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل"(2)، ثم علل ذلك لوجوه (3):

أحدها: أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا فوجب أن يكون مستقبحا شرعا لقوله عليه السلام:" مَا رَأَىهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ"(4).

وثانيها: أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.

وثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل: {مطاع ثم أمين} ذكره يوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه.

الفوائد:

1.

من فوائد الآية: أن من عادى الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: {من كان عدواً لله} ، ثم قال تعالى:{فإن الله عدوّ للكافرين} .

2.

ومنها: أن من كان عدواً للملائكة، أو للرسل فإنه عدو لله؛ لأن الملائكة رسل الله، كما قال تعالى:{جاعل الملائكة رسلاً} [فاطر: 1]؛ والرسل البشريون أيضاً رسل لله؛ فمن عادى ملائكة الله من جبريل أو غيره، أو عادى الرسل من محمد أو غيره فقد عادى الله عز وجل ..

فإن قيل: فهل من عادى المؤمنين يكون معادياً لله؟

فالجواب: هذا محل توقف في دلالة الآية عليه؛ اللهم إلا إذا عادى المؤمنين لكونهم تمسكوا بشريعة الرسل؛ فهذا يظهر أن الله يكون عدواً لهم، لأن من عاداهم إنما فعل ذلك بسبب أنهم تمسكوا بما جاءت به الرسل؛ فكان حقيقة معاداتهم أنهم عادوا رسل الله، كما قال أهل العلم في قوله تعالى:{إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3] أي مبغضك، ومبغض ما جئت به من السنة هو الأبتر؛ وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى في الحديث القدسي قال:"من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"(5).

3.

ومن فوائد الآيتين: أن كل كافر فاللَّه عدوّ له؛ لقوله تعالى: {فإن الله عدوّ للكافرين}

4.

ومنها: إثبات صفة العداوة من الله. أي أن الله يعادي؛ وهي صفة فعلية كالرضا، والغضب، والسخط، والكراهة؛ و "المعاداة" ضدها الموالاة الثابتة للمؤمنين، كما قال الله تعالى:{الله وليّ الذين آمنوا} [البقرة: 257].

(1) تفسير الرازي: 3/ 181

(2)

تفسير الرازي: 3/ 181.

(3)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 181 - 182.

(4)

رواه احمد (1/ 379)(3600)، والطبراني: 9/ 112)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 117): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله موثوقون، قال الألباني في (السلسلة الضعيفة والموضوعة) (532): والأصح وقفه على ابن مسعود وقال: في (533): لا أصل له مرفوعا وإنما ورد موقوفا على ابن مسعود رضي الله عته. وقال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند) إسناده حسن

(5)

أخرجه البخاري ص 545، كتاب الرقاق، باب 38: التواضع، حديث رقم 6502.

ص: 39

القرآن

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} [البقرة: 99]

التفسير:

ولقد أنزلنا إليك-أيها الرسول- آيات بينات واضحات تدل على أنّك رسول من الله صدقا وحقا، وما ينكر تلك الآيات إلا الخارجون عن دين الله.

في سبب تزول الآية: روي عن ابن عباس قال: "قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! فأنزل الله عز وجل:{وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} ! (1).

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [البقرة: 99]، " أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك"(2).

قال الصابوني: " أي والله لقد أنزلنا إِليك يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك"(3).

قال ابن عباس: " يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون"(4).

قال الواحدي: " و {البينات} : جمع بينة

والبينة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة؛ لأنها من إبانة أحد شيئين عن الآخر، فيزول الالتباس بها. واستقصاء الكلام في هذا عند قوله:{عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] " (5).

قال الطبري: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي" (6).

وفي تسمية القرآن بـ {الآيات} ، وجوه (7):

أحدها: أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات.

وثانيها: أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب.

وثالثها: أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة، فإن قيل: الدليل لا يكون إلا بينا فما معنى وصف الآيات بكونها بينة، وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال، وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل، فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علما وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه.

(1) أخرجه الطبري (1637): ص 2/ 398، وابن أبي حاتم (970): ص 1/ 183، والأثر ذكره ابن هشام 2/ 196. وتفسير ابن كثير: 1/ 344.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 397.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(4)

أخرجه الطبري (1636): ص 2/ 397.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 180.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 397 - 398.

(7)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 182 - 183.

ص: 40

قلنا-الإمام الرازي-: التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه؛ فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب، وهذا هو الآية البينة (1).

قوله تعالى: : {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]، " أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر"(2).

قال الواحدي: " أي: الخارجون عن أديانهم، واليهود خرجت بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السلام"(3).

قال مجاهد: " {الفاسقون}، العاصون"(4).

وعن زيد ابن أسلم: في قوله: {الفاسقون} ، قال: الكاذبون" (5).

قال السعدي: " تحصل بها الهداية لمن استهدى، وإقامة الحجة على من عاند، وهي في الوضوح والدلالة على الحق، قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله، وخرج عن طاعة الله، واستكبر غاية التكبر"(6).

قال ابن عاشور: "المعنى: ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك بهيئه للكفر بمثل هذه الآيات، فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه، والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد، والتوصيف وقع باسم الفاعل المعروف باللام (7).

وفي قوله تعالى {إِلا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]، وجهان (8):

أحدهما: أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى.

الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع.

قال أبو حيان: "المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال، وقال الحسن: "إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره " (9). انتهى، وناسب قوله: {بينات} لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقع فيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين .. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حدّ له .. فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية"(10) وفى قوله سبحانه: {وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ} تهديد لليهود، ووعيد لهم، على كفرهم وفسقهم فإنه لا يكفر بهذه الآيات التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم إلا الفاسق الخارج عن طاعة الله، فاليهود هم الكافرون الفاسقون، كفروا بمحمد-صلى الله عليه وسلم، وفسقوا عن دينهم الذي كانوا عليه، أي خرجوا عن دينهم، حين أنكروا ما فيه من أمر محمد-صلى الله عليه وسلم ورسالته (11).

(1) انظر: تفسير الرازي: 3/ 182 - 183.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 180.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (971): ص 1/ 183.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (972): ص 1/ 183.

(6)

تفسير السعدي: 60.

(7)

انظر: تفسير ابن عاشور: 1/ 624.

(8)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 183.

(9)

وانظر قول الحسن في: الكشاف: 1/ 171.

(10)

البحر المحيط: 1/ 289.

(11)

انظر: التفسير القرآني للقرآن: 1/ 113.

ص: 41

و (الفسق): "العصيان والترك لأمر الله عز وجل، والخروج عن طريق الحق"(1).

قال أبو العباس: (الفسق) في اللغة: الخروج (2).

وقال الليث: " (الفسق) الترك لأمر الله، ومثله (الفسوق) "(3).

قال أبو عبيدة: وأصل (الفسق) في اللغة: الجور، الميل عن الطاعة، يقال:(فسق) إذا جار" (4)، ومنه قول الشاعر (5):

يهوِين في نَجد وغورًا غائرا

فواسِقًا عَنْ قَصْدِهِ جَوَائِرا

قال الفراء (الفسق): "الخروج عن الطاعة، والعرب تقول: فسقت الرطبة من قشرها، لخروجها منه، وكأن الفأرة إنما سميت (فويسقة) لخروجها من جحرها على الناس، ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي خرج عَن طاعة ربه"(6).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن القرآن وحي من الله عز وجل ..

2 ومنها: عظمة القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى أضافه إليه، وجعله آية ..

3.

ومنها: ثبوت علوّ الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} ؛ والنّزول لا يكون إلا من أعلى؛ وعلوّ الله سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية اللازمة له التي لم يزل، ولا يزال متصفاً بها؛ وأما استواؤه على العرش فإنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته ..

4 ومنها: وصف القرآن بأنه آيات بينات، ولا ينافي هذا قوله تعالى:{منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7]؛ لأن هذا التشابه يكون متشابهاً على بعض الناس دون بعض؛ ولأنه يُحمل على المحكم، فيكون الجميع محكماً، كما قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم

} [آل عمران: 7] الآية ..

فالحاصل: أن القرآن. ولله الحمد. آيات بينات؛ ولكنه يحتاج إلى قلب ينفتح لهذا القرآن حتى يتبين؛ أما قلب يكره القرآن، ثم يأتي بما يُشتَبه فيه ليضرب القرآن بعضه ببعض فهذا لا يتبين له أبداً؛ إنما يتبين الهدى من القرآن لمن أراد الهدى؛ وأما من لم يرده فلا؛ ولهذا قال تعالى:{وما يكفر بها إلا الفاسقون} ..

5.

ومن فوائد الآية: أنه لا يكفر بالقرآن إلا الفاسق ..

6.

ومنها: أن من كفر به فهو فاسق ..

7 ومنها: إطلاق الفاسق على الكافر؛ وعلى هذا يكون الفسق على نوعين: .

فسق أكبر مخرج عن الملة، كما في قوله تعالى:{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 19، 20] الآية؛ ووجه الدلالة أنه تعالى جعل الفسق هنا مقابلاً للإيمان ..

والثاني: فسق أصغر لا يخرج من الإيمان؛ ولكنه ينافي العدالة، كقوله تعالى:{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7]: فعطف {الفسوق} على {الكفر} ؛ والعطف يقتضي المغايرة ..

مسألة: -

(1) لسان العرب: (فسق): ص 10/ 308.

(2)

تهذيب اللغة، (فسق): 3/ 2778، ولسان العرب:(فسق): ص 10/ 308.

(3)

تهذيب اللغة، (فسق): 3/ 2788.

(4)

مجاز القرآن" 1/ 406، "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788.

(5)

البيت لرؤبة كما في "مجاز القرآن: 1/ 406، وفيه (قصدها) بدل (قصده) ومثله عند "الطبري" 15/ 261، وبمثل رواية الواحدي ورد في "الزاهر" 1/ 218، "تهذيب اللغة" (فسق) 3/ 2788، "اللسان" 6/ 3414، "القرطبي" 1/ 210. يصف الشاعر إبلا منعدلة عن قصد نجد.

(6)

معاني القرآن: 1/ 147، وانظر: التهذيب، (فسق): 3/ 2778.

ص: 42

تنقسم آيات الله تعالى إلى قسمين: كونية، وشرعية؛ فالكونية مخلوقاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والإنسان، وغير ذلك؛ قال الله تعالى:{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37]، وقال تعالى:{ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} [الروم: 22]؛ وأما الشرعية فهي ما أنزله الله تعالى على رسله من الشرائع، كقوله تعالى:{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى:{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم .. } [سبأ: 43] الآية، وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

القرآن

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100]

التفسير:

ما أقبح حال بني إسرائيل في نقضهم للعهود! ! فكلما عاهدوا عهدًا طرح ذلك العهد فريق منهم، ونقضوه، فتراهم يُبْرِمون العهد اليوم وينقضونه غدًا، بل أكثرهم لا يصدِّقون بما جاء به نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

اختلف في سبب نزول الآية على أقوال:

أحدها: قال المفسرون: "إن اليهود عاهدوا فيما بينهم، لئن خرج محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنُنّ به، وليكونُنّ معه على مشركي العرب، فلما بُعِثَ نقضوا العهد وكفروا به "(1).

والثاني: وقال عطاء: "هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، فنقضوها كفعل قريظة والنضير، عاهدوا ألا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشًا يوم الخندق"(2).

والثالث: أنها: "نزلت في مالك بن الصيف، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا ميثاق"(3).

قال الواحدي: "واتصال هذه الآية بما قبلها: من حيث إنهم كفروا بنقض العهد كما كفروا بالآيات"(4).

قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} [البقرة: 100]، أي "وكلّما أعطوا عهداً"(5).

قال أبو حيان: " والمراد بهذا الاستفهام: الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترث بأمرهم، وأن لا يصعب ذلك، فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كفروا بما أنزل عليه، لأن ما كان ديدناً للشخص وخلقاً، لا ينبغي أن يحتفل بأمره"(6).

قال العلّامة ابن عثيمين: "قوله تعالى: {أوَ كلما}: الهمزة هنا للاستفهام؛ والواو للعطف؛ ومثل هذه الصيغة متكررة في القرآن كثيراً؛ وقد سبق الكلام عليها؛ أما {كلما} فإنها أداة شرط تفيد التكرار، أي كثرة وقوع شرطها، وجوابها؛ وكلما حصل الشرط حصل الجواب؛ فإذا قلت: "كلما جاء زيد فأكرمه" اقتضى تكرار إكرامه بتكرر مجيئه قلّ، أو كثر"(7).

وقرأ أبو السمال العدوي وغيره: {أوْ كلما} بسكون الواو، وقرأ الحسن وأبو رجاء:{أو كلما عوهدوا} ، على البناء للمفعول، وهي قراءة تخالف رسم المصحف، وقرئ:{عهدوا} ، فيكون (عهدا) مصدرا (8).

واختلف أهل العربية في حكم (الواو) التي في {أَوَكُلَّمَا} [البقرة: 100]، على ثلاثة أوجه (9):

(1) التفسير البسيط: 3/ 181، وانظر: تفسير الثعلبي" 1/ 1052، "الوسيط" 1/ 181، "زاد المسير" 1/ 120، القرطبي 2/ 35.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 181، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1053، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 105، الرازي في "تفسيره" 3/ 201، القرطبي في "تفسيره" 2/ 40 وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 278

(3)

البحر المحيط: 1/ 278.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 181.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 773.

(6)

البحر المحيط: 1/ 278.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 169.

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 185، والكشاف: 1/ 171، والبحر المحيط: 1/ 278، والقراءة في القراءات الشاذة:8.

(9)

انظر: البحر المحيط: 1/ 278، وتفسير الطبري: 2/ 399 - 400.

ص: 43

احدها: أنها زائدة، قاله الأخفش (1).

والثاني: أنها (أو) الساكنة (الواو)، حركت بالفتح، وهي بمعنى (بل). قاله الكسائي (2).

قال أبو حيان: " وكلا القولين ضعيف"(3).

والثالث: أنها (واو) العطف، اختاره أبو حيان (4).

والراجح هو القول الأخير، بأنها حرف عطف، وقدّمت الهمزة لأن لها الصدارة في الكلام. والله أعلم.

وعلى هذا المذهب خرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على {الفاسقين} ، وقدّره: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة" (5).

وعلى هذا النحو خرجه المهدوي وغيره على أن {أو} للخروج من كلام إلى غيره، بمنزلة (أم) المنقطعة، فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهداً، كقول الرجل للرجل، لأعاقبنك، فيقول له: أو يحسن الله رأيك، أي بل يحسن رأيك أي بل يحسن رأيك، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين، إذ يكون أو عندهم بمنزلة (بل)، وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر (6):

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله (7):

من بين ملجم مهره أو سافع

وقوله (8):

صدور رماح أشرعت أو سلاسل

يريد: وشافع وسلاسل (9).

قال الإمام الطبري: و"غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، وهذا يدل على فساد قول من زعم أن (الواو) و (الفاء) من قوله: (أو كلما) و (أفكلما) زائدتان لا معنى لهما"(10).

قلتُ: إن وقوع الزيادة في القرآن، مختلف فيه بين أهل العلم، وكثير من أهل اللغة، والنحو، والبلاغة يقولون بوقوع الزيادة، ومرادهم بذلك أن الحروف زيدت لضرب من التأكيد، كما قال ابن يعيش في المفصل، وابن قتيبة في (تأويل مشكل القرآن)(11).

ولو تتبعنا آراء علماء العربية والتفسير والنحو، لنتعرف على مقصدهم من معاني حروف الزيادة في الكتاب العزيز، لوجدناهم مختلفين بين مثبت لها وناف، فمنهم من أنكر أن يكون في كتاب الله حرف زائد، حيث أنكر من ذهب هذا المذهب كالرازي، وابن القيم أن يكون في كلام الله حشو، أو لغو، أو زيادة، وإن كان المثبتون لها هم أكثر أهل العلم حيث يسمونها أسماء أخر قال الزركشي في البرهان: "كثيرون ينكرون إطلاق

(1) انظر: معاني القرآن له: 1/ 326.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 39، والبحر المحيط: 1/ 278.

(3)

البحر المحيط: 1/ 278.

(4)

انظر: البحر المحيط: 1/ 278.

(5)

الكشاف: 1/ 171.

(6)

البين نسب لذي الرمة، وهو في محلق ديوانه: 3/ 1857، والخصائص: 2/ 458، والحتسب: 1/ 99، ومعاني القرآن للفراء: 1/ 72، والصحاح (أو) جون نسبة، وانظر: خزانة الأدب: 11/ 65، وما بعدها.

(7)

عجزب بيت، لحميد بن ثور، وصدره: قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم، انظر: ديوانه: 111. وسافع: آخذ بناصية مهره ليلجمه.

(8)

عجز بيت لجعفر بن علبة الحارثي، وصدره فقالوا لنا ثنتان لابد منهما، وهو في الأغاني: 13/ 49، وشرح ديوان الحماسة: 1/ 45، والصاهل والصاحج:547.

(9)

انظر: البحر المحيط: 1/ 278.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 399 - 400.

(11)

الأشباه والنظائر، السيوطي:247.

ص: 44

هذه العبارة في كتاب الله، ويسمونه التأكيد ومنهم من يسميه بالصلة، ومنهم من يسميه المقحم، قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب، فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى" (1).

والراجح في هذه المسألة: إثبات الزيادة بمعانيها التي وردت لها، وإنه لا يوجد حرف زائد في القرآن، أي دخوله كخروجه، وقد أورد العلماء معاني هذه الحروف على أنها:

- تفيد توكيد العموم: أي توكيد المعنى العام للجملة.

- التنصيص على العموم.

- التوكيد لدفع توهم إرادة الجمع كما في لا.

- توكيد إثبات.

- توكيد نفي.

إلى غير ذلك من المعاني التي سأعرض لها عند تفسير الآيات التي تتضمن حروفاً زائدة وبيان دلالتها من خلال السياق، وإن كل مَنْ يدعى أنه لا زيادة في القرآن بالمعنى الذي ذكرت، إنما يذهب إلى إنزال القرآن منزلة أقل من مستوى كلام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وتحداهم وقهرهم وأعجزهم عن أن يأتوا بمثله، فكل زيادة وردت في الكتاب العزيز كان لها معنى ومدلول وسر بلاغي لم يفقهه إلا من تملك ناصية اللغة العربية، وأتقنها شعراً ونثراً وبلاغة، وهؤلاء هم أجلاء أهل العلم والفقه، من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة.

ومن ردّ الزيادة بهذه المعاني التي ذكرت بعضها، وبدعوى أنها إساءة إلى كتاب الله تعالى، فقد قام بلي أعناق النصوص والآيات، وتجشم الصعاب متكلفاً ما لا طائل وراءه، وليس يشين كتاب الله إذا نهج على منوال كلام العرب، وسلك مسلكهم في الخطاب، أن تكون فيه هذه الزيادة الرائعة الحبيبة إلى النفس المتأولة تأويلاً سليماً.

و(العهد)، هو الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه (2).

قوله تعالى: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100]، أي:" نقضه جماعة منهم"(3).

قال أبو حيان: أي" طرحه، أو نقضه، أو ترك العمل به، أو اعتزله، أو رماه. أقوال خمسة، وهي متقاربة المعنى"(4).

قال البيضاوي: " وإنما قال فريق لأن بعضهم لم ينقض"(5).

ونسبة (النبذ) إلى (العهد)، من المجاز، لأن العهد معنى، والنبذ حقيقة، إنما هو في المتجسدات:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ} [القصص: 40][الذاريات: 40]، {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]، فنبذ خاتمه، فنبذ الناس خواتيمهم، {لَنُبِذَ بِالْعَرَأَىءِ} [القلم: 49] (6).

و(النبذ) أصله - في كلام العرب - الطرح، ولذلك قيل للملقوط:(المنبوذ)، لأنه مطروح مرمي به (7)، وقال الزمخشري:" و (النبذ): الرمي بالذمام ورفضه"(8).

(1) البرهان: 3/ 70.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 400.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(4)

البحر المحيط: 1/ 278.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 97.

(6)

انظر: البحر المحيط: 1/ 278.

(7)

انظر: لسان العرب (نبذ): ص 3/ 511.

(8)

انظر: تفسير الكشاف: 1/ 171.

ص: 45

ومنه سمي النبيذ (نبيذا)، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله (مفعول) صرف إلى (فعيل)، أعني أن (النبيذ) أصله (منبوذ) ثم صرف إلى (فعيل) فقيل:(نبيذ)، كما قيل:(كف خضيب، ولحية دهين) - يعني: مخضوبة ومدهونة، يقال منه:(نبذته أنبذه نبذا)، كما قال أبو الأسود الدؤلي (1):

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

وقال آخر (2):

إن الذين أمرتهم أن يعدلوا

نبذوا كتابك واستحلوا المحرما

وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى:{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92]. وأنشد الفراء (3):

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي

بظهر فلا يعيا علي جوابها

و(الفريق) الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنزلة (الجيش) و (الرهط) الذي لا واحد له من لفظه (4).

قال الرازي: "إنما قال: {نبذه فريق} ، لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون فقال:{بل أكثرهم لا يؤمنون} .

قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]، "أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصادق لذلك ينقضون العهود والمواثيق"(5).

قال البيضاوي: " رد لما يتوهم من أن الفريق هم الأقلون، أو أن من لم ينبذ جهاراً فهم مؤمنون به خفاء"(6).

وفي قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] قولان (7):

الأول: أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبدا لحسدهم وبغيهم.

والثاني: لا يؤمنون: أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن اليهود لا يوثق منهم بعهد؛ لأنهم كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ..

2 ومنها: أن نبذ فريق من الأمة يعتبر نبذاً من الأمة كلها. ما لم يتبرؤوا منه؛ فإن تبرؤوا منه فإنهم لا يلحقهم عاره؛ لكن إذا سكتوا فإن نبذ الفريق نبذ للأمة كلهم؛ وجه ذلك أن الله وبخ هؤلاء على نبذ فريق منهم مع أنهم لم يباشروه ..

(1) ديوانه: 21 (في نفائس المخطوطات: 2)، وسيأتي في 20: 49 - 50 (بولاق)، ومجاز القرآن: 48، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان، وكان كتب إليه في أمر يهمه، فشغل عنه؛ وقبل البيت:

وخبرني من كنت أرسلت أنما

أخذت كتابي معرضا بشمالكا

(2)

البيت من شواهد القرطبي: 2/ 40، ولم اتعرف على قائله.

(3)

البيت للفرزدق، يخاطب تميم بن زيد القينى وكان على السند، انظر: النقائض: 381، طبع أوربا.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 401 - 402.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 97.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 616.

ص: 46

3 ومنها: أن من أهل الكتاب من لم ينبذ كتاب الله وراء ظهره؛ بل آمن به كالنجاشي من النصارى، وعبد الله بن سلام من اليهود ..

4 ومن فوائد الآية: أن من نبذ العهد من هذه الأمة فقد ارتكب محظورين:

أحدهما: النفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف؛ وإذا اؤتمن خان"(1)، وفي الحديث الآخر: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها

" (2)، وذكر منها: "إذا عاهد غدر"

والثاني: مشابهة اليهود (3).

القرآن

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]

التفسير:

ولما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن الموافق لما معهم من التوراة طرح فريق منهم كتاب الله، وجعلوه وراء ظهورهم، شأنهم شأن الجهال الذين لا يعلمون حقيقته.

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 101]، أي وحين جاءهم: رسول مرسل من عند الله. وهو محمد صلى الله عليه وسلم" (4).

قال المراغي: " أي إنه حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم"(5).

قال السدي: ": لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم"(6).

قال الزجاج: " يعني به النبي صلى الله عليه وسلم لأن الذي جاءَ به مصَدّق التوْرَاةَ والِإنجيلَ"(7).

قال البيضاوي: " كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام"(8).

قال السعدي: " أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق"(9).

واختلف في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} [البقرة: 101]، على ثلاثة أقوال (10):

أحدها: أن الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أنه عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.

والثالث: أو معناه: الرسالة، فيكون مصدراً، كما فسروا بذلك قوله (11):

لقد كذب الواشون ما بحت عنده

بليلي ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة.

قال الراغب: " فالكل صحيح ومراد"(12).

(1) أخرجه البخاري ص 5، كتاب الإيمان، باب 24: علامات المنافق، حديث رقم 33؛ وأخرجه مسلم ص 690، كتاب الإيمان، باب 25: خصال المنافق، حديث رقم 211 [107]59.

(2)

أخرجه البخاري ص 193، كتاب المظالم، باب 17: إذا خاصم فجر، حديث رقم 2459؛ وأخرجه مسلم ص 690، كتاب الإيمان، باب 25: خصال المنافق، حديث رقم 210 [106]58.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 170.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 323.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 179.

(6)

أخرجه الطبري (1643): ص 2/ 403.

(7)

معاني القرآن: 1/ 182.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 97.

(9)

تفسير السعدي: 60.

(10)

انظر: البحر المحيط: 335.

(11)

البيت لكثير عزة، انظر ديوانه:278. برواية: برسيل، بدل برسول.

(12)

تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 272.

ص: 47

قال أبو حيان: " والظاهر الأول، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم"(1).

قال الآلوسي: "وقوله {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل"(2).

قوله تعالى: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101]، " شاهد للتوراة، والإنجيل بالصدق"(3).

قال السعدي: " الموافق لما معهم"(4).

قال المراغي: " بكتاب مصدّق للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة"(5).

قال الصابوني: " أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام"(6).

قال ابن عثيمين: " أي للذي معهم من التوراة إن كانوا من اليهود، ومن الإنجيل إن كانوا من النصارى؛ والحديث في هذه الآيات كلها عن اليهود"(7).

قال الطبري: " يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه"(8).

قال الآلوسي: " من حيث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم «ما» على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل"(9).

وإن تصديق القرآن لما معهم من وجهين (10):

الأول: أنه وقع مطابقاً لما أخبرت التوراة، والإنجيل به.

والثاني: أنه قد شهد لهما بالصدق؛ فالقرآن يدل دلالة واضحة على أن الله أنزل التوراة، وأنزل الإنجيل.

وهذه شهادة لهما بأنهما صدق؛ وكذلك التوراة، والإنجيل قد ذُكر فيهما من أوصاف القرآن، ومن أوصاف محمد-صلى الله عليه وسلم حتى صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ فإذا وقع الأمر كما ذُكر فيهما صار ذلك تصديقاً لهما.

وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة (11).

قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101]، "أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكلية"(12).

قال ابن كثير: "أي: اطَّرَحَ طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم"(13).

(1) البحر المحيط: 1/ 316.

(2)

روح المعاني: 1/ 335.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 147.

(4)

تفسير السعدي: 60.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 179.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 323.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 403.

(9)

روح المعاني: 1/ 335.

(10)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 147.

(11)

انظر: روح المعاني: 1/ 335.

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(13)

تفسير ابن كثير: 1/ 345.

ص: 48

قال السدي: ": لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت"(1).

قال الشعبي: "هو بين أيديهم يقرؤونها، ولكن نبذوا العمل به"(2).

وقال سفيان بن عُيينة: "أدرجوه في الحرير والديباج، وحلَّوه بالذهب والفضة، ولم يُحِلّوا حلاله ولم يحرّموا حرامه، فذلك النبذ"(3).

قال الطبري: " يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه"(4).

قال المراغي: " وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره"(5).

قال ابن عثيمين: " وأضيف [الكتاب] إلى الله، لأنه المتكلم به؛ فالقرآن الذي نقرؤه الآن هو كلام ربنا. تبارك وتعالى. تكلم به حقيقة بلفظه، ومعناه، وسمعه منه جبريل، ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى وعاه، وأداه إلى الصحابة؛ والصحابة أدوه إلى التابعين، وهكذا حتى بقي إلى يومنا هذا. ولله الحمد؛ وسمي القرآن كتاباً، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ؛ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة؛ وفي الصحف التي بأيدي البشر"(6).

قال الواحدي: " وعنى بالـ {فريق} في هذه الآية: علماء اليهود الذين تواطؤوا على كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم"(7).

قال الآلوسي: " وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام كما توهمه بعضهم من اللحاق- لأن- النبذ- عند مجيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم"(8).

وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101]، قولان (9):

الأول: وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. قاله الطبري (10).

والدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم عند قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

والثاني: أن المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه، بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه.

واختلف في قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101]، على قولين (11):

أحدهما: القرآن. وهو قول الجمهور.

والثاني: التوراة. قاله الطبري (12)، والقرطبي (13)، وآخرون، وأجازه الزجاج (14)، لأن الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم نبذوا التوراة.

(1) أخرجه الطبري (1644): ص 2/ 404.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 242، وتفسير البغوي: 1/ 126، وفي بعض نسخ الثعلبي في "تفسيره" يقرؤونه، وفي بعضها: يقرؤونها، والتفسير البسيط: 3/ 182.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 242، وتفسير البغوي: 1/ 126، والتفسير البسيط: 3/ 182.

(4)

تفسير الطبري: 2/ 403.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 179.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 323.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 183.

(8)

روح المعاني: 1/ 335.

(9)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 616.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 403.

(11)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 182.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 403.

(13)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 41.

(14)

انظر: معاني القرآن: 1/ 182.

ص: 49

قال الراغب: وكلاهم"صحيح، لأن المنكر لأحدهما في حكم النكر للآخر"(1).

والأظهر هو القول الأول، " أي لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول"(2).

وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101]، على أوجه:

أحدها: أنه "تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره "(3).

والثاني: أنه: " تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم"(4).

والثالث: أنه " مثل لإِعراضهم عنه رأساً، بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه"(5).

والرابع: أنه: مثل من يستخف بالشيء ولا يعمل به، تقول العرب: أجعل هذا خلف ظهرك، ودبر اذنك، وتحت قدمك: أي أتركه واعرض عنه قال الله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود: 92]، ومنه قول الفرزدق (6):

تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي

بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها

أي لا تتركنها لا يُعْبَأ بها (7).

الخامس: أن معناه: " رموه بشدة وراء الظهر؛ وهو عبارة عن الانصراف التام عنه؛ لأنهم لو نبذوه أمامهم، أو عن اليمين، أو عن الشمال لكان من الجائز أن يكونوا يأخذون به؛ لكن من ألقاه وراء ظهره كان ذلك أبلغ في التولي، والإعراض عنه، وعدم الرجوع إليه؛ لأن الشيء إذا خُلِّف وراء الظهر فإنه لا يرجع إليه"(8).

قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، أي:" كأنهم في نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم لا يعلمون أنه حق"(9).

قال الصابوني: "أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً"(10).

قال قتادة: ": أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا"(11).

قال البيضاوي: " يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عناداً"(12).

قال الزجاج: " أعْلَمَ أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم. وأعْلَمَ أنَّهم نَبذوا كتاب اللَّه"(13).

قال المراغي: أي" أهملوها إهمالا تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله"(14).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 273.

(2)

فتح القدير: 1/ 119.

(3)

تفسير ابن عاشور: 1/ 626.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 41.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 97.

(6)

البيت في اللسان (ظهر)، وتخالفه رواية الديوان: 95، وانظر: الكامل: 430، وذيل الأماني: 78، وأضداد ابن الأنباري: 256، وتفسير الثعلبي: 1/ 242. ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 497.

(7)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 242، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 497.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 323.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 324.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(11)

أخرجه الطبري (1645): ص 2/ 404.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 97.

(13)

معاني القرآن: 1/ 182.

(14)

تفسير المراغي: 1/ 179.

ص: 50

قال الشوكاني: " تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئا مع كونهم يعلمون علما يقينا من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي ولكنهم لما لم يعملوا بالعلم بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم كانوا بمنزلة من لا يعلم"(1).

قال الراغب: " وقد دل تعالى بالأيتين أن جل اليهود ثلاث فرق، فريق جاهر وأنبذ العهد، وفريق لم يجاهروا بذلك، لكنهم لم يؤمنوا به، وهم أكثرهم، وفريق أخر طرحوا حكم الكتاب عناداً، فصاروا في حكم الجهلة، وهذه القسمة عجيبة الشأن، فإن دافعي الحق ثلاثة أقسام، جاهل غير عالم بجهله، وهو الشرير الذي لا مداواة له، وإياه عنى بقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، وجاهل عالم بجهله، وهو الشاك وإياه عنى بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ومعاند غير جاهل، وإياه عنى بقوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ووصف هذا الفريق بأن حكمهم حكم الجاهلين الذين هم فوق الموصوفين بأنهم لا يؤمنون، وكل من دافع الحق لا ينفك من الأقسام الثالثة التي ذكرناهم والله أعلم"(2).

الفوائد:

1.

من فوائد الآية: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ لقوله تعالى: {من عند الله} .

2.

ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرت به الكتب السابقة؛ لقوله تعالى: {مصدق لما معهم} .

3.

ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تقرر ما سبق من رسالات الرسل، لقوله تعالى:{مصدق لما معهم} .

4.

ومنها: أنه مع هذا البيان والوضوح، فإن فريقاً من الذين أوتوا الكتاب نبذوا هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

5.

ومنها: أن نبذ من عنده كتاب وعلم أقبح ممن ليس عنده ذلك؛ ولهذا نص على قوله تعالى: {فريق من الذين أوتوا الكتاب} ؛ لإظهار شدة القبح من هؤلاء في نبذهم؛ لأن النبذ مع العلم أقبح من النبذ مع الجهل.

6.

ومنها: أن القرآن كلام الله، لأن الله تعالى أضافه إليه في قوله تعالى:{كتاب الله} .

7.

ومنها: توكيد قبح ما صنع هؤلاء المكذبون؛ لقوله تعالى: {كأنهم لا يعلمون} ؛ لأنهم في الواقع يعلمون؛ ولكن فعلهم كأنه فعل من لم يعلم؛ وكفر من علم أشد من كفر من لم يعلم ..

8.

ومنها: أن هذا النبذ الذي كان منهم لا يرجى بعده قبول؛ لقوله تعالى: {وراء ظهورهم} ؛ لأن النبذ لو كان أمامهم ربما يتلقونه بعد؛ كذلك لو كان عن اليمين، والشمال، لكن إذا كان وراء الظهر فمعناه استبعاد القبول منهم ..

9.

ومنها: شدة كراهية اليهود للقرآن، واستهانتهم به، حيث نبذوه وراء ظهورهم ..

القرآن

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102]

التفسير:

واتبع اليهود ما تُحَدِّث الشياطينُ به السحرةَ على عهد ملك سليمان بن داود. وما كفر سليمان وما تَعَلَّم السِّحر، ولكنَّ الشياطين هم الذين كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر؛ إفسادًا لدينهم. وكذلك اتبع اليهود السِّحر الذي أُنزل على الملَكَين هاروت وماروت، بأرض "بابل" في "العراق"؛ امتحانًا وابتلاء من الله لعباده، وما يعلِّم

(1) فتح القدير: 1/ 119.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 273.

ص: 51

الملكان من أحد حتى ينصحاه ويحذِّراه من تعلم السحر، ويقولا له: لا تكفر بتعلم السِّحر وطاعة الشياطين. فيتعلم الناس من الملكين ما يُحْدِثون به الكراهية بين الزوجين حتى يتفرقا. ولا يستطيع السحرة أن يضروا به أحدًا إلا بإذن الله وقضائه. وما يتعلم السحرة إلا شرًا يضرهم ولا ينفعهم، وقد نقلته الشياطين إلى اليهود، فشاع فيهم حتى فضَّلوه على كتاب الله. ولقد علم اليهود أن من اختار السِّحر وترك الحق ما له في الآخرة من نصيب في الخير. ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم عِلْمٌ يثمر العمل بما وُعِظوا به.

في سبب نزول الآية أقوال (1):

أحدها: أخرج الواحدي عن ابن عباس: "إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق فإذا جرب من أحدهم الصدق كذب معها سبعين كذبة فيشربها قلوب الناس، فاطلع على ذلك سليمان، فأخذها فدفنها تحت الكرسي؛ فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان المنيع الذي لا كنز له مثله؟ قالوا: نعم قال: تحت الكرسي فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر. فتناسخته الأمم فأنزل الله عذر سليمان {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} "(2). وروي عن السدي (3)، وسعيد بن جبير (4)، وقتادة (5)، ومجاهد (6)، نحو ذلك.

والثاني: أخرج ابن أبي حاتم "عن ابن عباس، قال: قال: آصف كاتب سليمان، أخرجته الشياطين فكتبوا من كل سطرين سحرا وكفرا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبوه حتى أنزل على محمد: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} "(7). وروي عن الكلبي (8)، نحو ذلك.

الثالث: أخرج الواحدي "عن خصيف قال: كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال: لأي داء أنت؟ فتقول لكذا وكذا؛ فلما نبتت شجرة الخرنوبة قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لمسجدك أخربه قال: تخربينه؟ قالت: نعم، قال: بئس الشجرة أنت، فلم يلبث أن توفي، فجعل الناس يقولون في مرضاهم: لو كان لنا مثل سليمان، فأخذت الشياطين فكتبوا كتابا وجعلوه في مصلى سليمان وقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر رقى فأنزل الله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} إلى قوله: {فلا تكفر} "(9).

والرابع: أخرج الطبري عن ابن إسحاق: "عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر: " من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا ". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم "، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا!

(1) انظر: أسباب النزول للواحدي: 31 - 33، والعجاب: 1/ 305 - 314.

(2)

أسباب النزول: 31 - 32، وانظر تخريجه وطرقه في تفسير ابن كثير: 1/ 134 - 136، وانظر نحوه في تفسير الطبري (1662): ص 2/ 415، وتفسير ابن أبي حاتم (984): ص 1/ 185 - 186، وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب التفسير: 2/ 265، وسكت عنه، وقال الذهبي في (التلخيص):"صحيح"، وقال الزهراني في تخريجه لابن أبي حاتم:"إسناده صحيح لكن حصين هو ابن عبد الرحمن ثقة تغير حفظه، وساء آخر حياته".

(3)

انظر: تفسير الطبري (1646): ص 2/ 405 - 406، وانب أبي حاتم (987): ص 1/ 186.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1659): ص 2/ 413 - 414.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1663)، و (1664): ص 2/ 415 - 416.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1665): ص 2/ 416.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم (982): ص 1/ 185.

(8)

أسباب النزول للواحدي: 32.

(9)

أسباب النزول للواحدي: 33، إسناده ضعيف لإعضاله (انقطاع أكثر من اثنين متتاليين) ولضعف خصيف (تقريب التهذيب: 1/ 224 - رقم: 126) ولضعف رواية عتاب بن بشير عن خصيف خاصة (تهذيب التهذيب: 7/ 91).

ص: 52

فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} " (1)، وروي عن ابن عباس (2)، وشهر بن حوشب (3)، نحو ذلك.

الخامس: وأخرج الطبري " عن الربيع: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جل وعز: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان - وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم"(4). وروي عن أبي العالية مثل لك (5).

السادس: قال أبو مجلز: "أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} "(6).

قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]، "أي واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدثهم بها الشياطين"(7).

قال الزمخشري: أي: " نبذوا كتاب اللَّه واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين"(8).

أخرج ابن أبي حاتم " عن الحسن: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} قال: ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة"(9).

وقال ابن عباس: " اتبعوا الشهوات التي كانت الشياطين تتلو، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله"(10).

قوله تعالى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، أي"في عهد مُلك سليمان"(11).

قال الزمخشري: أي: " على عهد ملك سليمان وفي زمانه"(12).

وقد اختلف أهل التفسير في الذين عنوا بقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 1 - 2]، على وجوه (13):

(1) أخرجه الطبري (1650): ص 2/ 407 - 408، و (1667): ص 2/ 417.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1660): ص 2/ 414.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1666): 2/ 416 - 417.

(4)

تفسير الطبري (1647): ص 2/ 406 - 407.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (985): ص 1/ 186.

(6)

أخرجه الطبري (1661): ص 2/ 414 - 415.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(8)

الكشاف: 1/ 172. [بتصرف بسيط].

(9)

تفسير ابن أبي حاتم (983): ص 1/ 185.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (984): ص 1/ 186.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 136، وانظر: صفوة التفاسير: 1/ 73.

(12)

الكشاف: 1/ 172. [بتصرف بسيط].

(13)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 186.

ص: 53

أحدها: أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، "لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان"(1). قاله ابن عباس (2)، والسدي (3)، والربيع (4)، وابن زيد (5).

والثاني: أنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام، لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر. قاله ابن جريج (6)، وابن إسحاق (7).

والثالث: أنه يتناول الكل. واختاره الطبري (8)، والرازي (9)، واحتجوا بأنه "لا دليل على التخصيص"(10)، أي "لا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله:{واتبعوا} بعضا منهم دون بعض" (11).

قوله تعالى: {تَتْلُو} [البقرة: 102]، لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي (12) وهو استعمال شائع، وقد اختلف في تفسيره على وجوه (13):

أحدها: الثاني: أن معناه: ما تتبعه وترويه وتعمل به، ومنه قوله تعالى:{هُنَالِكَ تتلو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30]، "يعني بذلك تتبع"(14)، وهذا مذهب ابن عباس (15)، وأبي رزين (16).

والثاني: أن المراد منه التلاوة والإخبار، ومنه: فلان يتلو القرآن، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت (17):

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله

ويتلو كتاب الله في كل مشهد

والمعنى: أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم. روي ذلك عن مجاهد (18)، وقتادة (19)، وابن جريج (20)، وابن عباس (21).

الثالث: أن معناه: ما تكذب على ملك سليمان، يقال: تلا عليه إذا كذب وتلا عنه، إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران. قاله أبو مسلم (22).

(1) تفسير الطبري: 2/ 405.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 185.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1646): ص 2/ 405 - 406، وابن أبي حاتم (987): ص 1/ 186، وقد ذكر الأثر ابن كثير، انظر تفسيره: 1/ 249.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1647): ص 2/ 406 - 407.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1648): ص 2/ 407.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1649): ص 2/ 407.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1650): ص 2/ 407 - 408.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 409.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 617.

(10)

مفاتيح الغيب: 3/ 617.

(11)

تفسير الطبري: 2/ 409.

(12)

والمعنى: ما تلت، انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 326، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 42، البيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري: 1/ 113، الدر المصون للسمين: 1/ 318.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 409 - 410، ومفاتيح الغيب: 3/ 617.

(14)

تفسير الطبري: 2/ 411.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1655): ص: 2/ 410

(16)

انظر: تفسير الطبري (1656): ص: 2/ 410

(17)

ديوانه: 88، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة. ورواية الديوان:" في كل مسجد "، ورواية الطبري أمثل.

(18)

انظر: تفسير الطبري (1651): ص 2/ 409 - 410.

(19)

انظر: تفسير الطبري (1652): ص 2/ 410.

(20)

انظر: تفسير الطبري (1653): ص 2/ 410.

(21)

انظر: تفسير الطبري (1654): ص 2/ 410.

(22)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 617.

ص: 54

قال الإمام الطبري: ": والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين .. ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى (التلاوة) كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر، وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته"(1).

واختلفوا في إعراب {ما} ـ في قوله تعالى: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]، على وجهين (2):

أحدهما: أنها موصولة. وهذا قول الجمهور، وهو الصحيح.

والثاني: أنها نافية.

قال السمين الحلبي: " وهذا غلط فاحش لا يقتضيه الكلام البتة"(3).

وقال ابن العربي: " ولا وجه لقول من قال إنه نفي لا في نظم الكلام ولا في صحة المعنى ولا يتعلق من كونه مفعولاً سياق الكلام بمحال عقلاً ولا يمتنع شرعا"(4).

واختلف في قوله تعالى: {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} [البقرة: 102]، على ثلاثة أوجه (5):

أحدها: أن معناه: على عهد ملك سليمان. قاله الطبري (6)، وغيره، وهو المشهور.

والثاني: وقيل المعنى: في ملك سليمان، أي: في قصصه وصفاته وأخباره. روي نحوه عن سلمة بن إسحاق (7).

والثالث: على شرعه ونبوته وحاله.

قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102]، " أي وما كان سليمان ساحراً ولا كفر بتعلمه السحر"(8).

قال المراغي: " أي وما سحر، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك"(9).

قال سلمة بن إسحاق: " أي ما علم بالسحر، والسحر كفر لمن عمل به"(10).

وروي عن قتادة: "في قول الله: {وما كفر سليمان}، قال: ما كان عن مشورته ولا أمره"(11).

قال أبو السعود: " تنزيهٌ لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيبٌ لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به والتعرُّضُ لكونه كُفراً للمبالغة في إظهار نزاهتِه عليه لسلام وكذِبِ باهِتيهِ بذلك"(12).

قال الزمخشري: " تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به"(13).

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]، " أي ولكنّ الشياطين هم الذين علموا الناس السحر حتى فشا أمره بين الناس"(14).

(1) تفسير الطبري: 2/ 411.

(2)

انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 252، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 326، وتفسير القرطبي: 2/ 42.

(3)

الدر المصون: 1/ 326.

(4)

أحكام القرآن: 1/ 28.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 185.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 411.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (988): ص 1/ 186.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(9)

تفسير المراغي: 1/ 180.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (991): ص 1/ 187.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (990): ص 1/ 187.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 137.

(13)

الكشاف: 1/ 172.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

ص: 55

قال المراغي: " أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا"(1).

قال الزمخشري: أي: "ولكن الشياطين هم الذين كَفَرُوا باستعمال السحر وتدوينه، يقصدون به إغواء الناس وإضلالهم"(2).

قال قتادة: " ولكنه شيء افتعلته الشياطين، وذكر لنا أن الشياطين ابتدعت كتبا، وكتبت سحرا وأمرا عظيما في الناس وعلموهم إياه"(3).

وقال الحسن: " اتباع السحر كفر، وليس من دين سليمان السحر. يقول: ولكن الشياطين كفروا بتركهم دين سليمان، واتباعهم ما تلت الشياطين على ملكه"(4).

قال ابن عباس: " {يعلمون الناس السحر}، يعني: الصحف التي دفنوها"(5).

وذكروا في قوله تعالى: {وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]، وجهين (6):

أحدهما: أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.

والثاني: أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.

وفي قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]، وجهان من التفسير (7):

أحدهما: أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه.

والثاني: أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102]، على وجهين (8):

أحدهما: قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد نون (لكنَّ)، ونصب (الشياطينَ).

والثاني: وقرأ الباقون بتخفيف نون (لكن) وإسكانها ثم كسرها تخلصاً من التقاء الساكنين؛ و (الشياطينُ) برفع النون.

فعلى القراءة الأولى تكون الواو حرف عطف، و (لكنّ) حرف استدراك يعمل عمل "إنّ" ينصب الاسم، ويرفع الخبر، و (الشياطينَ) اسمها، وجملة:(كفروا) خبرها؛ وعلى قراءة التخفيف تكون الواو للعطف، و (لكن) حرف استدراك مبني على السكون حُرِّك بالكسر لالتقاء الساكنين، و (الشياطين) مبتدأ، وجملة:(كفروا) خبر المبتدأ (9).

قال الرازي: " والمعنى واحد، وكذلك في الأنفال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17]، والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن، وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن، والوجه فيه أن "لكن" بالتخفيف يكون عطفا فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام، والمشددة لا تكون عطفا لأنها تعمل عمل (إن) "(10).

و{الشَّيَاطِينَ} جمع شيطان؛ وجاءت بالجمع؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، ويعلم بعضهم بعضاً (11).

(1) تفسير المراغي: 1/ 180.

(2)

الكشاف: 1/! 72. [بتصرف بسيط].

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (992): ص 1/ 187.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (993): ص 1/ 187.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (995): ص 1/ 187.

(6)

انظر: النكت والعيون: 1/ 164.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 164 - 165.

(8)

انظر: السبعة في القراءات: 168.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 171

(10)

تفسير الرازي: 3/ 198.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 171 - 172.

ص: 56

و (السِّحر) في اللغة: يطلق على كل شيء خفي سببه ولطف ودق؛ ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السِّحر؛ ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري:

جعلت علامات المودة بيننا

مصائد لحظ هن أخفى من السِّحر

فأعرف منها الوصل في لين طرفها

وأعرف منها الهجر في النظر الشزر (1)

قال الراغب: "تطلق مادة ـ س ح ر ـ عند علماء اللغة على معان جمّة، تبعاً لورود استعمالها في الوضع الذي وقع فيه التخاطب ومنها: التمويه بالحيل والخداع والخفاء والاستمالة واللطافة (2)، فهو عبارة عما لطف أمره وخفي سببه (3)، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من البيان لسحراً" (4)، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وشبَّهه بالسِّحر لأن السِّحر صرف الشيء عن حقيقته (5).

وسُمِّي السَّحور سَحوراً لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْر الرئة وهي محل الغذاء، وسُمِّيت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه؛ كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سَحْرُه أي رئته من الخوف (6)، وقالت عائشة رضي الله عنها:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري"(7)، وقوله تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، أي أخفوا عنهم عملهم.

و(السِّحر) في الاصطلاح لا يمكن تعريفه بحد جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها؛ ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً.

قال بعضهم: السِّحر عزائمُ ورُقَى وعُقَد يؤثِّر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرِّق بين المرء وزوجته ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه (8).

وقال ابن قدامة: "هو عُقَد ورُقَى يُتَكَلَّمُ به أو يكتبه الساحر أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له"(9).

وقال البيضاوي: "المراد بالسِّحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس؛ فإن التناسب شرط في التضام والتعاون (10).

وقال ابن حجر الهيتمي: "وشرعاً يختص بكل أمر يخفى سببه وعمل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع"(11).

وقال ابن عرفة رحمه الله في حدوده: "أمر خارق للعادة مسبَّب عن سَبَب معتاد كونه عنه، قال شارحه: معناه أن الخارق للعادة مسبب عن سبب معتاد كون ذلك المسبب عن ذلك السبب فأخرج به الكرامة والمعجزة"(12).

واختلف في (السّحر)، هل هو حقيقة أم هو تخييل لا حقيقة له:

والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما دلّ عليه قوله تعالى {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، لأن وصف سحرهم بالعظيم يدل على أنه غير خيال، وقوله تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبَّر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن (13)، فلولا أن السِّحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه (14).

قال ابن قيم: "وقد دل قول الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وحديث عائشة (15) رضي الله عنها على تأثير السحر وأنَّ له حقيقة"(16).

ومن السّحر ما هو تخييل، كما في قوله تعالى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وقوله {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السِّحر خيال لا حقيقة له.

قال النووي: "والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة"(17).

قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، "أي: وكما اتبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكين وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس" (18).

قال السعدي: أي " وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر"(19).

وقرأ الزهري {هاروت وماروت} ، بالرفع على: هما هاروت وماروت. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من: الهرت والمرت - وهو الكسر كما زعم بعضهم - لانصرفا (20).

واختلف في العطف في قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، على وجهين (21):

أحدهما: عطف على {السحر} ، أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين.

والثاني: أنه عطف على {ما تتلو} ، أى واتبعوا ما أنزل.

واختلف أهل العلم في تفسير (ما) التي في قوله: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، على وحهين:

(1) لسان العرب 4/ 348 وما بعدها، معجم المقاييس:507.

(2)

الأصفهاني: غريب القرآن، ص 226، وانظر الجوهري (5/ 678).

(3)

ابن كثير: (1/ 147).

(4)

صحيح البخاري مع فتح الباري، (10/ 237)، ومسلم برقم 1437.

(5)

فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/ 202.

(6)

انظر تفصيل الخبر في البداية والنهاية 3/ 308 ط الأولى دار أبي حيان.

(7)

رواه البخاري برقم 1300 ومسلم برقم 4473.

(8)

تيسير العزيز الحميد/382.

(9)

المغني لابن قدامة المقدسي: 8/ 150.

(10)

أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1/ 79 وهو ناقل لهذا التعريف من الفخر الرازي في تفسيره المسمى: مفاتيح الغيب.

(11)

الزواجر عن اقتراف الكبائر: 2/ 163.

(12)

شرح حدود ابن عرفة: 492 محمد بن قاسم الرصاع ـ الناشر دار الكتب العلمية.

(13)

انظر تفسير القرطبي، (20/ 257)، وابن كثير (4|573)، والقاسمي (10/ 302).

(14)

المغني، ابن قدامة:(8/ 150).

(15)

عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيَّلُ إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم ـ أو ذات ليلة ـ وهو عندي، لكنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته، قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثير الناس فيه شراً، فأمر بها فدفنت". وفي رواية مسلم: قال: "فقلت: يا رسول الله ألا أحرقته". [صحيح البخاري، كتاب الطب (10/ 221)، ومسلم (2189)].

(16)

ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد: 2/ 227.

(17)

فتح الباري، ابن حجر العسقلاني:(10/ 222).

(18)

صفوة التفاسير: 1/ 73.

(19)

تفسير السعدي: 61.

(20)

انظر: الكشاف: 1/ 173.

(21)

انظر: الكشاف: 1/ 172.

ص: 57

أحدهما: أنها تفيد النفي، وهي بمعنى (لم) معطوفا على قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، أي: ولم ينزل على الملكين. قاله ابن عباس (1).

وانتصر له القرطبي، إذ قال:"قوله-تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى المَلَكَين}: (مَا) نفي، والواو: للعطف على قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيمَان) وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: {وَلَكنَّ الشَّيَاطينَ كَفَرُوا} هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى ما سواه"(2).

والدافع لأصحاب هذا القول في نفي نزول السحر على الملكين أنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقوله {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، ومع كون العقل لا يدفع وقوع المعصية من الملائكة، لكن وقوع ذلك الجائز عقلاً لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح (3).

كما أن نفي كون المنزل سحراً يأتي أيضاً على قول من جعلها معطوفة على السحر كما هو الظاهر لأنها معطوفة، والعطف يقتضي التغاير (4).

والثاني: أنها موصوله بمعنى (الذي)، وتقديره الذي أنزل على الملكين.

ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال (5):

الأول: أنه عطف على (السحر) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضا.

وثانيها: أنه عطف على قوله: {ما تتلوا الشياطين} أي واتبعوا الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين. وهذا قول ابن عباس في رواية أبي طلحة عنه (6)، وأبي العالية (7)، وروي عن خالد بن أبي عمران، والربيع بن أنس نحو ذلك (8).

فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما.

وثالثها: أن موضعه جر عطفا على (ملك سليمان) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين. وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله (9).

وأنكر أبو مسلم في الملكين أن يكون السحر نازلا عليهما واحتج عليه بوجوه (10):

الوجه الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك.

الوجه الثاني: أن قوله: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل.

الوجه الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى.

الوجه الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (997): ص 1/ 188.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 50.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 50، ومفاتيح الغيب: 3/ 629.

(4)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 328.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 629.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (996): ص 1/ 188.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (998): ص 1/ 188.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 188.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 629.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 629.

ص: 58

موسى عليه السلام: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله} [يونس: 81] ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجا آخر يخالف قول أكثر المفسرين، فقال: كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير، وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما:{إنما نحن فتنة فلا تكفر} توكيدا لبعثهم على القبول والتمسك، وكانت طائفة تتمسك وأخرى تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فهذا تقرير مذهب أبي مسلم (1).

والجمهور على أن (ما) في قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، هي موصولة (2)، وذلك لأن "الحديث وما جاءَ في قِصَّةِ الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به (3). والله أعلم.

وفي {المَلَكَيْنِ} [البقرة: 102]، قراءتان (4):

إحداهما: {الملِكَيْنِ} ، بكسر اللام، وهي قراءة ابن عباس والضحاك (5) وابن أبزى (6) والحسن وابن جبير والزهري وأبي الأسود (7).

ومن ثم اختلفوا في تعيينهما على قولين:

الأول: أنهما داود وسليمان. قاله ابن أبزى (8).

والثاني: هما علجان من أهل بابل. قاله ابن عباس (9)، والضحاك (10)، وأبو أسود الدؤلي (11).

والذين كسروا (اللام) احتجوا بوجوه (12):

أحدها: أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر.

وثانيها: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: {ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون} {الأنعام: 8} .

وثالثها: لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلا وتلبيسا على الناس وهو غير جائز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنسانا، بل ملكا من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى:{ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} [الأنعام: 9].

وقد خَطَأ الطبري هذه القراءة مستدلاً على ذلك بقوله: " فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها، من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها"(13).

(1) انظر: تفسير الرازي: 3/ 199.

(2)

انظر: جامع البيان للطبري: 2/ 424 - 426 والذي انتصر لذلك وأطال القول فيه، بحر العلوم للسمرقندي: 1/ 143، الكشاف للزمخشري: 1/ 301، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 328، الدر المصون للسمين: 1/ 320، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 326، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 73، تفسير النسفي: 1/ 65، التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/ 639، وغيرها. وعلى قول الجمهور يكون المُنَزَل السحر فتنة للناس وامتحاناً، ولله-عز وجل-أن يمتحن عباده بما شاء.

(3)

معاني القرآن: 1/ 184.

(4)

انظر: وتفسير الثعلبي: 1/ 183.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1002): ص 1/ 189.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1000): ص 1/ 188.

(7)

انظر: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جني: 1/ 100، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 129، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 122، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 329، وتفسير القرطبي: 2/ 52 وغيرها.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1000): ص 1/ 188.

(9)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 186.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1002): ص 1/ 189.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 186.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 630.

(13)

تفسير الطبري: 2/ 435 - 436.

ص: 60

والقراءة الثانية: {المَلَكَيْنِ} ، بفتح اللام من (الملائكة)(1)، وهي قراءة الجمهور (2).

قال الزجاج" و {المَلَكَيْنِ} أثْبتُ في الرواية والتفسير جميعاً"(3).

وقال ابن الجوزي: " "وقراءة الجمهور أصح" (4).

قال الحافظ ابن حجر: " وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر (5) في مسند أحمد (6)، وأطنب الطبري (7) في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلاً خلافاً لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه (8)، ومحصلها: أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختباراً لهما، وأمرهما

(1) وهذا قول ابن عطية، وعلي، انظر: تفسير ابن أبي حاتم (999)، و (1001): ص 1/ 188.

(2)

انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 64، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 55، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 329.

(3)

معاني القرآن: 1/ 183، انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 64، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 55، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 329، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 122، وقال:(وقراءة الجمهور أصح).

(4)

زاد المسير: 1/ 122.

(5)

هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي، صحابي مشهور، عالم فقيه، عابد زاهد، من أهل بيعة الرضوان، هاجر مع أبيه، أول غزواته الخندق ورد قبلها لصغره، أحد المكثرين من الرواية، توفي عام: 73 هـ. انظر: الطبقات لابن سعد: 4/ 142، أسد الغابة لابن الأثير: 3/ 227، سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 213، الإصابة لابن حجر: 2/ 338.

(6)

المسند-تحقيق الأرناؤوط وآخرين-: 110/ 317 - 318 رقم: 6178 وسيأتي الكلام على هذا الحديث وما يشبهه بعد في هامش: 1 ص: 394 - 396.

(7)

انظر: جامع البيان للطبري: 2/ 427 - 435.

(8)

بلغت طرق قصة هاروت وماروت نيفاً وعشرين طريقاً كما ذكر ذلك الألوسي في روح المعاني: 1/ 341، وذكر جلها الحافظ ابن حجر في العجاب-تحقيق: الأنيس-: 314 - 343 عند حديثه عن سبب نزول هذه الآية. وقد اختلف العلماء في ثبوتها، فمن من أثبتها الحافظ هنا وفي القول المسدد في الذب عن المسند: 89 - 90 إذ قال: "وله طرق كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد يكون الواقف عليه أن يقطع بوقوع هذه القصة لكثرة الطرق الواردة فيها وقوة مخارج أكثرها، والله أعلم". كما أخرج حديثها ابن حبان في صحيحه: 14/ 63 - 64 رقم: 6186، والحاكم في مستدركه: 4/ 607 - 608 مصححاً له ووافقه الذهبي في التلخيص. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 314: "ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن جبير، وهو ثقة". وصححه أيضاً ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: 2/ 172، وأفرد السيوطي في قصتهما جزءاً كما ذكر ذلك في الإتقان: 2/ 180، ويظهر أن الألوسي في روح المعاني: 1/ 343 نقل عنه اعتراضه على من أنكر القصة بأن "الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على علي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود-رضي الله عنهم-بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها". وعلي القارئ في شرح الشفا: 2/ 320 - 321 إذ قال بعد إيراده لبعض الطرق: "ولا يخفى أن الحديث كما تراه مرفوعاً وموقوفاً له أصل ثابت في الجملة لتعدد طرقه واختلاف سنده

وموقوفاً على علي وابن عباس كما مر، وعن ابن عمر وابن مسعود بأسانيد صحيحة وقد قيل: لهذه القصة طرق تفيد العلم لصحتها". وقد ضعف هذه الروايات القاضي عياض في الشفا-مع الشرح لعلي القاري-: 2/ 318 - 322 إذ قال: "فمما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم (أي: الملائكة) قصة هاروت وماروت وما ذكر فيها أهل الأخبار ونقلة المفسرين، وما روي عن علي وابن عباس في خبرهما وابتلائهما فاعلم-أكرمك الله-أن هذه الأخبار لم يرد منها شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو شيء يؤخذ بقياس والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم كما قصه الله تعالى أول الآيات من افترائهم بذلك على سليمان وتكفيرهم إياه وقد انطوت القصة على شُنَع عظيمة وها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله". ثم شرع في ذكر ما يزيف القصة ويبطلها من وجوه. ووافقه ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 32 - 34 فقال: (إن قوماً نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى-إلى أن قال-فصح أنها خرافة موضوعة) وابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 30 إذ قال: "وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده ولكنه جائز كله في العقل لو صح النقل". وابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 318، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 52 إذ قال: "قلنا: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله، ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ففي الخبر "أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر" وهذا معنى قول الله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلاً قد كانا قبل خلق آدم". وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 329، وابن كثير في البداية والنهاية: 1/ 37 - 38 إذ قال: "وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت

فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل

"، وجعل في تفسيره: 1/ 175 رواية سالم عن ابن عمر عن كعب عند عبد الرازق في التفسير: 1/ 53 - 54 أصح وأثبت من رواية نافع عن ابن عمر في المسند وغيره لأن سالماً أثبت في أبيه من مولاه نافع قال: "فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم". وقال في تفسيره أيضاً: 1/ 178: "وقد رويت قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال"، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 124، والرازي في مفاتيح الغيب: 3/ 237 إذ قال: "واعلم بأن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة" ثم أخذ يعدد وجوه بطلانها، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: 1/ 138. ومن المعاصرين الألوسي في روح المعاني: 1/ 341 والعلامة أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث الطبري: 2/ 433 رقم: 1688 وفي تخريجه لأحاديث المسند: 9/ 29 - 33 رقم: 6178، وقال في: 9/ 32 معقباً على كلام ابن حجر السابق في القول المسدد "أما هذا الذي جزم به الحافظ بصحة وقوع هذه القصة صحة قريبة من القطع لكثرة طرقها وقوة مخارج أكثرها فلا، فإنها كلها طرق معلولة أو واهية بالإضافة إلى مخالفتها الواضحة للعقل لا من جهة عصمة الملائكة القطعية فقط بل من ناحية أن الكوكب الذي نراه صغيراً في عين الناظر قد يكون حجمه أضعاف جسم الكرة الأرضية بالآلاف المؤلفة من الأضعاف فأنى يكون جسم المرأة الصغير إلى هذه الأجرام الفلكية الهائلة". وعزا في نفس الموضع القول بوضع بني إسرائيل لها وأنها حكاية خرافية لأستاذه رشيد رضا. وكذا قال أبو شهبة في كتابه: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: 162 - 163، وضعف شعيب الأرناؤوط في تخريجه أحاديث ابن حبان: 14/ 164 رقم: 6186 حديث ابن عمر المرفوع، وقال عنه هو وزميلاه في تخريج أحاديث المسند: 10/ 318 رقم: 6186 "إسناده ضعيف ومتنه باطل". والأظهر-والله أعلم-في هذه المسألة ثبوت الحادثة لكثرة طرقها وقوة مخارج أكثرها ولا ينبغي رد الأسانيد الثابتة بمثل تلك الاعتراضات، بل الواجب جمع تلك الروايات وأخذ التفاصيل الصحيحة ورد الضعيفة، قال ابن حجر في العجاب-تحقيق الأنيس-: 1/ 332 - 343 عند ذكره سبب نزول هذه الآية: "طعن في هذه القصة من أصلها بعض أهل العلم

وليس العجب من المتكلم والفقيه إنما العجب ممن ينتسب إلى الحديث كيف يطلق على خبر ورد بهذه الأسانيد القوية مع كثرة طرقها وتباين أسانيدها أنه باطل أو نحو ذلك من العبارة مع دعواهم تقوية أحاديث غريبة أو واردة من أوجه لكنها واهية، واحتجاجهم بها والعمل بمقتضاها-إلى أن قال-وأقول: إن في طرق هذه القصة القوي والضعيف ولا سبيل إلى رد الجميع فإنه ينادي على من أطلقه بقلة الاطلاع والإقدام على رد مالا يعلمه، لكن الأولى أن يُنظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص فيؤخذ بما اجتمعت عليه، ويؤخذ من المختلف بما قوي، ويطرح ما ضعف، أو ما اضطرب فإن الاضطراب إذا بعد به الجمع بين المختلف ولم يترجح شيء منه التحق بالضعيف المردود والله المستعان". أما ما قيل من عصمة الملائكة لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويفعلون ما يؤمرون فهو صدق لا خلاف فيه لكنه خبر عن حالهم وهو ما يجوز أن تتغير لاحقاً فيتم الإخبار عنها بذلك أيضاً بعد، وكله حق وصدق لا خلاف فيه. أو يكون من العام الذي دخله التخصيص ولا وجه لمنع ذلك، أو أن هذين الملكان قد خرجا عن صفة الملائكة لإلقاء نعت البشرية من الشهوة النفسية عليهما ابتلاء لهم في القضية، والعلم لله تعالى. انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 30، فتح القدير للشوكاني: 1/ 182 - 183، شرح الشفا لعلي القاري: 2/ 321. وأما تحول المرأة إلى كوكب الزهرة فقد أخرج ابن أبي حاتم: 1/ 305 رقم: 1012 عن ابن عباس القصة وفيها: (وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب"، قال ابن كثير في تفسيره: 1/ 276 - 277 بعد إيراداه لها: "وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري

ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم). أما بقية الوجوه التي ذكرها من ضَعَّف هذه القصة مطلقاً سواء أكانت وجوهاً عقلية أم إسنادية فلا تقوم في وجه الأسانيد القوية التي وردت بها القصة، والله أعلم.

ص: 61

أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك، وهما قد عرفا ذلك، فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم" (1).

وفي {الملائكة} [البقرة: 102]، قولان:

أحدهما: أن سحرة اليهود زعموا، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل. روي ذلك عن عطية (2).

والثاني: أن هاروت وماروت مَلَكان، أَهْبَطَهُما الله عز وجل إلى الأرض. قاله ابن عباس (3)، وابن مسعود (4)، وعلي (5)، وكعب (6)، والسدي (7)، والربيع (8)، وابن عمر (9)، ومجاهد (10).

(1) الفتح: 10/ 235.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (999): ص 1/ 188.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1681): ص 2/ 427 - 428.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1682): 2/ 428.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1683): 2/ 429.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1684): 2/ 429.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1686): ص 2/ 431.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1687): ص 2/ 431 - 432.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1688): ص 2/ 432.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1689): ص 2/ 434.

ص: 62

أخرج الطبري عن ابن عباس قال: "إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها " بيذخت " فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل"(1).

وقوله تعالى: {بِبَابِلَ} [البقرة: 102]، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض، وقد اختلف أهل العلم فيها على وجوه (2):

احدها: أنها: بابل دُنْبَاوَنْد (3). قاله السدي (4).

والثاني: أنها: أنها الكوفة وسوادها، وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها، وهذا قول ابن مسعود (5).

والثالث: أنها بابل العراق. قالته عائشة-رشي الله عنها- (6). واختاره الثعلبي (7)، وابن كثير (8).

والرابع: أنها بالمغرب. قال ابن عطية: "وهذا ضعيف"(9).

والخامس: أنها جبل نهاوند (10).

والسادس: أنها من نصيبين إلى رأس العين. قاله قتادة (11).

وقد رجح ابن كثير أنها بابل العراق، واستدل لذلك، بما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال:"إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة"(12)(13).

واختلف في سبب تسميتها بـ (بابل) على أقوال (14):

أحدها: أنها سميت بذلك، لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ (15).

(1) تفسير الطبري (1681): ص 2/ 427 - 428.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 436، والمحرر الوجيز: 1/ 186 - 187، وتفسير القرطبي: 2/ 53.

(3)

يقع جبل دماوند ضمن سلسلة جبال البرز بالقرب من بحر خزر وعلى مسافة 70 كيلو متر من مدينة طهران ويقع ضمن محافظة مازندران الايرانية. هو جبل ذو نشاط بركاني ولكنه اليوم غير فعال، يمكن روية الجبل في الايام الغير مغبرة من محافظة طهران.

يسمى كذلك في الكتب القديمة بجبل دنباوند اي بمعني الحرارة.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1686): ص 2/ 431، و (1690): ص 2/ 436.

(5)

انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 187، والنكت والعيون: 1/ 168.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1691): ص 2/ 436.

(7)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 245، ومعجم ما استعجم: 1/ 202، ومعجم البلدان: 1/ 309.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 362، ومعجم ما استعجم: 1/ 202، ومعجم البلدان: 1/ 309.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 187.

(10)

وهو قرب مدينة نهاوند الإيرانية التي تقع في منطقة جبلية إلى الجنوب من جبال زاغروس، أسسها داريوس الأول، وكانت المدينة عاصمة لإمبراطورية كسرى الأول، معظم سكانها من الكرد.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 187.

(12)

تفسير ابن أبي حاتم (1003): ص 1/ 189.

(13)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 362، وتفسير الثعلبي: 1/ 245، ومعجم ما استعجم: 1/ 202، ومعجم البلدان: 1/ 309.

(14)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 53.

(15)

انظر: تفسير البغوي: 1/ 129.

ص: 63

والثاني: سميت به، لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد (1).

والبلبلة: التفريق (2)، قال معناه الخليل.

قال أبو عمر بن عبدالبر: "من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض"(3).

قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} ، أي:"وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك"(4).

قال الصابوني: " أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس فقد نجا، ومن تعلمه ليلحق ضرره بالناس فقد هلك وضل"(5).

قال البيضاوي: " ما يعلمان أحداً حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به"(6).

قال ابن عثيمين: أي نحن" اختبار للناس؛ ليتبين من يريد السحر ممن لا يريده، فلا تكفر بتعلم السحر"(7).

قال الزمخشري: " والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من اللَّه للناس. من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا"(8)، كما قال أبو فراس (9):

عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لكِنْ لِتَوَقِّيهِ

وَمَنْ لَمْيَعْرِفِ الشّرَّ. منَ الناسِ يقعْ فيهِ

أى عرفته لأجل التحفظ منه.

قال الحسن: " نعم أنزل الملكين بالسحر ليعلموا الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلمان أحدا حتى يقولا {إنما نحن فتنة فلا تكفر}. وهما يفعلان لا يعلمان أحدا حتى يقولا: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} "(10). وروي عن قتادة (11) مثله.

وقال السعدي: " أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.

فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين، والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه" (12).

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 245، وزاد المسير: 1/ 125، وتفسير القرطبي: 2/ 53.

(2)

انظر: تهذيب اللغة: 15/ 343، والقاموس: 968 - 969.

(3)

القصد والأمم: 25، وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 53.

(4)

تفسير الطبري: 2/ 440.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 73 - 74.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 98.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 329.

(8)

الكشاف: 1/ 172.

(9)

ديوان أبي فراس الحمداني، دار الكتاب العربي، ط 2، 1994 م: ص 352.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1011): ص 1/ 192.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1012): ص 1/ 192.

(12)

تفسير السعدي: 61.

ص: 64

وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر (1)، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها (2)، وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً (3)، قال النووي (4):"عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإِجماع"(5).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِن أَحَدٍ} [البقرة: 102]، على وجهين:

أحدهما: {يُعَلِّمَانِ} بالتشديد من التعليم.

والثاني: {يعْلمان} ، وفي الشاذ بسكون العين من الإِعلام (6)، وهي قراءة طلحة بن مصرف، بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يُعْلِمَانِهم به وينهيانهم عنه.

والوجه الأول أشهر (7).

واختلفوا في تعليم الملكين السحر، فذكر أهل التفسير فيه وجهين (8):

أحدهما: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران الناس باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يُسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حُرِّم عليهم، وطاعة الله فيما أُمروا به، ونهوا عَنْهُ. وفي ذلك حكمة، لأن سائلًا لو سأل: ما الزنا؟ وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر حرام (9).

ويؤكد هذا الوجه: ما روى أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال: عَلَّم بمعنى أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك عن الإعلام، كما يقال: تعلّمْ بمعنى أعلَمْ؛ لأن من تعلم شيئا فقد عَلِمَه، فيوضع التَّعَلُّم موضع العلم (10).

قال قيس بن زهَير (11):

تَعَلَّمْ أنّ خيرَ الناس حيًّا

على جَفْر الهَباءةِ لا يَريم

أي: اعلم (12).

(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 28، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 43، فتح القدير للشوكاني: 1/ 178، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 53، أضواء البيان للشنقيطي: 4/ 442، وغيرها.

(2)

انظر: فتح الباري: 10/ 232 - 233.

(3)

هذا الإيضاح والتفصيل في حكم السحر وتعلمه هو غاية التحقيق في المسألة، وبه يزول الإشكال وتجتمع الأدلة، فالسحر الذي من قبل الشياطين كفر لأنه لا يتأتى بدون الشرك وعبادة الشياطين والكواكب، وعلى هذا النوع يحمل كلام من أطلق من أهل العلم كفر السحر والساحر ومعلمه ومتعلمه إذ أنهم لا يرون سحراً في الاصطلاح غيره، أما النوع الآخر فليس بسحر في الاصطلاح عندهم وإن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً. أما سحر الأدوية والتدخين والاستعانة بخواص الأشياء والأخذ بالعيون وخداعها حتى ترى الشيء على خلاف ما هو عليه: فليس بكفر، ولكنه حرام حرمة شديدة لمضرة بعضه واعتماد بعضه على الكذب على الناس وخداعهم، ويعزر من يفعله تعزيراً بليغاً، وعلى هذا النوع يحمل كلام من رأى من أهل العلم أن أنواعاً من السحر ليست بكفر، والله أعلم. انظر: الفروق للقرافي: 4/ 135 - 141، والمغني لابن قدامة: 12/ 304، والإنصاف للمرداوي: 10/ 349 - 350، وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله: 383 - 384، وأضواء البيان للشنقيطي: 4/ 456، ونواقض الإيمان القولية والعملية لـ د. العبد اللطيف: 503 وما بعدها.

(4)

انظر: شرح النووي على مسلم: 14/ 252 - 253 عند الكلام على حديث عائشة رقم: 2189، وسحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 35/ 171، مختصر الفتاوى المصرية: 151، حاشية ابن عابدين: 4/ 240، نواقض الإيمان القولية والعملية لـ د. العبد اللطيف: 503، السحر بين الحقيقة والخيال لـ د. الحمد:146.

(6)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 330، الدر المصون للسمين: 1/ 322.

(7)

انظر: الدر المصون للسمين: 1/ 322، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 330، والفتح: 5/ 336.

(8)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 199 - 201.

(9)

انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 3/ 2554 مادة (علم)، ومنه نقل الثعلبي 1/ 250، والواحدي في البسيط: 3/ 199.

(10)

نقله عن ابن الأعرابي والأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2554، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 48، وينظر:"البحر المحيط" 1/ 330، والواحدي في التفسير البسيط: 3/ 199.

(11)

البيت لقيس بن زهير في "مقاييس اللغة" 4/ 110، و"لسان العرب" 5/ 3083 مادة (علم).

(12)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 199.

ص: 65

قال ابن الأعرابي: ومن هذا قول الله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} قال معناه: إن السّاحر يأتي الملكين فيقول: أخبرني عمّا نهى الله عنه حتى أنتهي، فيقولان: نهى عن الزنى، فيستوصفُهما الزِنى، فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن اللواط، ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن السحر، فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا، فحفظه، وينصرف فيخالف، فيكفر، فهذا معنى {يُعَلِّمَانِ} ، ولا يكون تَعليم السحْر إذا كان إعلامًا كفرًا، ولا تعلّمه إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه كفرًا، كما أن من عرَّف الزنى لم يأثم بأنه عرَّفه، إنما يأثم بالعمل (1).

وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب"(2).

ونصر هذا القول الطبري (3)، وقواه الزجاج (4)، قال ابن كثير: "وهذا الذي سلكه [يعني: ابن جرير] غريب جدًّا، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم (5).

الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناسَ بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنةَ في الكفر والإيمان أن يقبل القائل تعلُّم السحر، فيكفر بتعلّمه، ويؤمن بترك التعلّم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن الله بنهر طالُوت في قوله:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249].

ويدل على صحة هذا: قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أي: محنة من الله نُخبرك أنَّ عملَ السحر كفر بالله، وننهاك عنه، فإن أطعتنا في ترك العمل بالسحر نجوتَ، وإن عصيتنا في ذلك هلكتَ (6).

وروي عن ابن عباس أنه قال: "أما السحر فمما علّمت الشياطين، وأما الفرق بين المرء وزوجه فمما علّم الملكان"(7).

وقال الجمهور: "بل التعليم على عرفه"(8). والله أعلم.

قال الواحدي: " وجه تعليم الملكين، أنه يجوز أن يلهمهما الله ويعلّمهما من الأذكار والأسماء ما يعلمان أنها إذا استعلمت على جهة الدعاء أو على جهة الرقية أفادت التفريق بين المرء وزوجه، إذ لا يحسن بحالهما وما هما فيه من عقوبة الذنب السابق أن يشتغلا بارتكاب كبيرة مستأنفة"(9).

وقد ذكر ابن حجر إجازة بعض العلماء تعلم (السحر) لأحد أمرين (10):

(1) نقل هذا بطوله الأزهري في "تهذيب اللغة" 3/ 2555 مادة (علم)، ومنه أخذ الثعلبي في "تفسيره" 1/ 250،

(2)

عزاه له أبو حيان في البحر المحيط: 1/ 330، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 53 - 54.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 420 - 424.

(4)

انظر: معاني القرآن: 1/ 183 - 184.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 352.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 250، ومعاني القرآن" للزجاج 1/ 183، "تفسير الطبري: 2/ 425، "تفسير السمعاني" 1/ 575، ومفاتيح الغيب: 3/ 283.

(7)

رواه بمعناه ابن أبي حاتم في تفسيره (996)، و (997): ص 1/ 188، ورواه الطبري بسنده عن مجاهد (1677): ص 2/ 423، وروى نحوه (1674): ص 2/ 421، وكذا ذكره الثعلبي في "تفسيره: 1/ 250 وعزاه في الدر: 1/ 194 لعبد بن حميد.

(8)

نقل الإجماع ابن عطية، انظر: المحرر الوجيز: 1/ 187.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 201.

(10)

نقله ابن حجر، انظر: الفتح: 10/ 226. ولم أهتد إلى القائل بذلك، لكن ممن أجاز تعلم السحر بإطلاق الرازي في مفاتيح الغيب: 3/ 630، بل وصل به الأمر إلى القول بوجوب ذلك، وقد تولى مناقشته والرد عليه ابن كثير في تفسيره: 1/ 366 - 367، وانظر: أضواء البيان للشنقيطي: 4/ 462 - 464. وأجاز أبو حيان في البحر المحيط: 1/ 328 تعلم ما كان منه على صفة التخييل والدك والشعبذة إذا لم يقصد العمل به بل قصد معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم، وجعله من المكروه إذا قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس. والصحيح-والله أعلم-أن ما كان من السحر فيه استعانة بالشياطين فلا يجوز تعلمه؛ لأن ذلك يستلزم وقوع المتعلم في أنواع كثيرة من الكفريات كسب الله-عز وجل-أو كتابه أو أحد من رسله أو ملائكته، وكادعاء علم الغيب، وكاعتقاد انفراد الكواكب أو بعضها بالربوبية، أو السجود للشياطين أو الذبح والنذر لها

إلخ وينبغي أن لا يكون خلافاً في حرمة تعلم ذلك. أما ما كان فيه تعلم سفك دم وتفريق بين الزوجين وخداع للخلق وكذب عليهم فلا شك في حرمته، وما قيل من حله لمن أراد تعلمه لكي لا ينطلي عليه خداع السحرة وحيلهم فلا؛ لأن الله-عز وجل-قال:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102] وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع، فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه؟ وكيف يدعى فيه النفع؟ بالإضافة إلى أن تعلمه قد يكون ذريعة إلى العمل به والذريعة المفضية إلى الحرام يجب سدها. وأما ما كان فيه لهو ولعب وإظهار خفة الصنعة مع تصريحه بأن الأمر معتمد على مهارته وذكائه وليونة جسده مثلاً، لا أن يزعم أنه يستعين بشيطان أو يستعمل أدوية وأبخرة ونحو ذلك فالأمر متردد بين الجواز والكراهة حسب إغراقه لنفسه في ذلك من عدمه، والأولى تركه، ولكن لا ينبغي أن يسمى هذا النوع سحراً في غير اللغة. وأما إن كان يستعمل أدوية وأبخرة ونحو ذلك، فالأظهر الحرمة؛ لأن ذلك في الغالب ذريعة إلى التمادي في ذلك والكذب على الناس وخداعهم والاستعانة بالمردة والشياطين وتعليق قلوب الخلق بغير الله-عز وجل، والله أعلم. انظر: الفروق للقرافي: 4/ 140، أضواء البيان للشنقيطي: 4/ 463 - 464، السحر بين الحقيقة والخيال د. الحمد: 152 - 153، وغيرها.

ص: 66

أحدهما: تعلمه لتمييز ما فيه كفر عن غيره، فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعاً (1)، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان (2)؛ لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.

والثاني: تعلم السحر لإِزالته عمن وقع فيه، فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلاً وإلا جاز للمعنى المذكور (3)

والله أعلم (4).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102]، "أي: ابتلاء واختبار لكم" (5).

وقد ذكروا في قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، وجهين من التفسير (6):

أحدهما: إنما نحن ابتلاء من الله، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به.

والثاني: أن هذا السحر بلاء ابتلينا به، وإنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا. قاله قتادة (7).

مفتونان فلا تكن مثلنا.

ومعنى (الفتنة) في كلام العرب: الابتلاء والامتحان (8)، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب: إنا أذبتهما بالنار؛ ليتميز الرديء من الجيد، وتعرف جودتهما من الرداءة، ومن هذا قوله عز وجل:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]، أي: يحرقون بالنار، ومن هذا قيل للحجارة السود التي كأنها أحرقت بالنار: الفتين (9)، ثم جعل كل امتحان فِتْنَة، وقد جعل الله امتحانه عبيده المؤمنين باللأواء ليبلو صبرَهم فيثيبهم، أو جزعهم على ما ابتلاهم به فيجزيهم، جزاؤهم فتنة فقال:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} إلى قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] قيل في تفسيره: وهم لا يُبلَون في أنفسهم وأموالهم، وكذلك قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3]، أي: اختبرنا (10).

(1) لكنها لا تستلزم تعلم ممارسته إذ يمكن معرفة حقيقة السحر وأنواعه بدون تعلم ممارسته، وامتلاك القدرة على ذلك، كالاجتهاد يمكن لكل أحد معرفة حده وشروطه دون أن يكون قادراً على ممارسته، وكاللغات يمكن لكل أحد التعرف على خصائصها والفروق بينها دون أن يكون قادراً على نطقها، انظر: السحر بين الحقيقة والخيال للحمد: 153 - 154.

(2)

قال د. الحمد في كتابه السحر بين الحقيقة والخيال: 154: "المثال الذي قاس عليه ابن حجر: الجواز مختلف عن المقاس تماماً لأن عبادة الأوثان بأي صفة كانت-دعاء أو ذبحاً أو خوفاً أو رجاء أو غيرها-علمها لذاته ليس محذوراً بل هو مشروع، وإنما المحذور فيها صرفها لغير مستحقها الله-تبارك وتعالى-أما السحر فهو ممنوع تعلماً وتطبيقاً، ومر ذكر رأي الجمهور في منع تعلم السحر مطلقاً فالحال مختلفة وحكمها كذلك".

(3)

الصحيح أن تعلم السحر لحل السحر وإزالته عمن وقع فيه لا يجوز لما سبق بيانه في حكم تعلم السحر. وحل السحر عن المسحور يختلف حكمه من حالة إلى أخرى، فإن كان بسحر فإما أن يكون كفراً إن كان ذلك باستخدام الشياطين وتقديم القرابين لها، وإما أن يكون معصية وفسقاً إن كان بالرقى والعقد والنفث وسائر الأمور غير المشروعية. وأما إن كان بدواء حسي مباح عرف عن طريق الوحي أو التجربة نفعها كاستخراج السحر من المكان الذي وضع فيه وإبطاله وكسدر وعسل وحبة سوداء ونحو ذلك، أو كان بدواء معنوي كقراءة القرآن والأدعية المأثورة أو المباحة فأمر جائز بل مشروع لأنه من باب الدواء والمعالجة وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله تعالى. انظر: زاد المعاد لابن القيم: 4/ 124 - 127، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن ابن حسن: 241 - 243، القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين: 2/ 69 - 76، السحر بين الحقيقة والخيال د. الحمد: 187 - 196.

(4)

الفتح: 10/ 226.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 205.

(6)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 98.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1012): ص 1/ 192.

(8)

اتظر: مقاييس اللغة: 4/ 472، مادة:(فتن).

(9)

انظر: تهذيب اللغة: 3/ 2738، مادة:(فتن).

(10)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 203 - 204، وتهذيب اللغة: 3/ 2738، مادة:(فتن).

ص: 67

و (الفتنة) تستعمل في معانٍ كثيرة، ترجع كلها إلى الأصل الذي ذكرنا وهو الابتلاء والامتحان، والفتنة مصدر؛ لذلك لم يُثَنَّ (1).

ويقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه، والأول: لغة أهل الحجاز، والثاني: لغة أهل نجد، وقال أعشى همْدان (2):

لئن فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمس أفْتَنَتْ

سعيدًا فأمسى قد قَلَى كلَّ مُسلم

وكان الأصمعي ينكر أفتَنَه، وذُكر له هذا البيت فلم يعبأ به (3). وأكثر أهل اللغة أجازوا اللغتين (4)، ومعنى فتنته فلانة: أي: اختبرته، كأنه اختبر بها لجمالها (5).

واختلف في قوله تعالى: {فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، على وجوه (6):

أحدها: فلا تكفر: بتعلم السحر.

والثاني: فلا تكفر باستعماله.

والثالث: وحكى المهدوي أن قولهما: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.

قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، "أي يتعلمون منهما من علم السحر ما يكون سبباً في التفريق بين الزوجين"(7).

قال الزمخشري: " أى فيتعلم الناس من الملكين علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد، ونحو ذلك مما يحدث اللَّه عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه، لا أنّ السحر له في نفسه"(8).

قال قتادة: " وتفريقهم أن يمسكوا كل واحد منهما عن صاحبه ويبغضوا كل واحد منهما إلى صاحبه"(9).

قال الشوكاني: "في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سبباً لذلك دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد"(10).

و(المرء) معناه: رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه:(المرأة)، يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثته على صورته، وكذلك: المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها (11).

وفي {المرء} [البقرة: 102]، أربع قراءات (12):

إحداها: قرأ الحسن: {المرّ} بفتح الميم وتشديد الرّاء جعله عوضا عن الهمزة.

والثانية: وقرأ الزهري: {المُرء} ، بضم الميم والهمزة.

والثالث: وحكى يعقوب عن جدّه: بكسر الميم والهمزة.

والرابعة: وقرأ الباقون: بفتح الميم والهمزة.

(1) انظر: الوسيط: 1/ 185.

(2)

وقيل: لابن قيس الرقيات، كما في "اللسان" 6/ 3345، (مادة: فتن) وذكر أنه قيل في سعيد بن جبير، وقال الأصمعي: هذا سمعناه من مخنث، وليس بثبت، لأنه كان ينكر أفتن. وينظر:"تهذيب اللغة" 3/ 2739، مادة:(فتن).

(3)

انظر: تهذيب اللغة" 3/ 2739، مادة:(فتن)، واللسان: 13/ 317. مادة: (فتن).

(4)

انظر: تهذيب اللغة" 3/ 2739، مادة:(فتن)، واللسان: 13/ 317. مادة: (فتن).

(5)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 204.

(6)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 187.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

(8)

الكشاف: 1/ 173.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1015): ص 1/ 193.

(10)

(3) تفسير فتح القدير: (1/ 120).

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 446.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 249.

ص: 68

وأما (الزوج)، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بمنزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [سورة الأحزاب: 37]، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: هي زوجته، كما قال الفرزدق (1):

وإن الذي يمشي يحرش زوجتي

كماش إلى أسد الشرى يستبيلها

والزوج في الآية: امرأة الرجل (2).

قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، " أي وما هم بما استعملوه من السحر يضرون أحداً إِلا إِذا شاء الله"(3).

قال ابن حجر: "أي: نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإِذن إباحة الإِضرار بالسحر (4) "(5).

قال الثعلبي: " أي بعلمه وقضائه ومشيئته وتكوينه، والساحر يسحر ولا يكون شيء"(6).

قال السعدي: " وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله، كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: {فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة، فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين"(7).

وقرأ الجمهور {بضارين به} ، وقرأ الأعمش {بضاري به من أحد} ، فقيل: حذفت النون تخفيفا، وقيل: حذفت للإضافة إلى أَحَدٍ وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور (8).

واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] على وجهين:

أحدهما: أنه يعني: "لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه". قاله الحسن (9).

والثاني: أن معناه: "من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله". قاله الحسن كذلك (10).

وذكروا في قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، ثلاثة أوجه:

احدها: أن معناه: "إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد". قاله ابن إسحاق (11)، أي: أن الله-عز وجل-تركه يفعل، ولو شاء لم يمكنه من ذلك ولم يسلطه على أحد من خلقه (12).

(1) ديوانه: 605، والأغاني 9: 326، و 19: 8 (ساسى)، في قصته مع النوار، ويقول هذا الشعر لبني أم النسير (طبقات فحول الشعراء: 281، والأغاني)، وكانت خرجت مع رجل يقال له زهير بن ثعلبة ومع بني أم النسير، فقال هذا الشعر، وبعد البيت:

ومن دون أبوال الأسود بسالة

وصولة أيد يمنع الضيم طولها

ورواية الديوان وغيره: وإن امرءا يسعى يخبب زوجتي. وقوله: " يخبب "، أي يفسدها على. ويحرش: يحرض ويغرى بيني وبينها. و " يستبيلها ": أي يطلب أن تبول في يده.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 188.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

(4)

أي: أن الإذن في الآية مرادف للإِرادة الكونية القدرية المعبر عنها بالخلق والإيجاد، والمتعلقة بالمشيئة لا الإرادة الشرعية المعبر عنها بالأمر والمتعلقة بالمحبة، فالله-عز وجل-أراد السحر كوناً وقدراً لأنه لا يكون في ملكه إلا ما شاء وأراد، ولم يرده شرعاً لأنه-سبحانه-لا يرضى الكفر والفسوق ولا يأمر بهما-سبحانه-بل ينهى عنهما. وعلى ذلك جاءت أقوال المفسرين، انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 186، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 31، جامع البيان للطبري: 2/ 449 - 450، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 55، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 180، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 239.

(5)

الفتح: 5/ 226.

(6)

تفسير الثعلبي: 1/ 250.

(7)

تفسير السعدي: 61.

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 188.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1017): ص 1/ 193.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1018): ص 1/ 193.

(11)

اخرجه ابن أبي حاتم (1019): ص 1/ 193.

(12)

، انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1026): ص 1/ 312 رقم: 1026، وتفسير كثير: 1/ 364.

ص: 69

والثاني: أن معناه: "إلا بقضاء الله". قاله سفيان (1).

والثالث: المعنى: "ما يُضلّون إلا من كان في علمي وقضائي وقدرتي أن أُضِلّه". روي ذلك عن ابن عباس (2).

وقال المفسرون: "الإذن هاهُنا تأويله: إرادة التكوين، أي: لا يضرّون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه ذلك الضرر"(3).

ولـ لإذن " في كلام العرب أوجه (4):

احدها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} ، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة.

والثاني: ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.

والثالث: ومنها العلم بالشيء، يقال منه:" قد أذنت بهذا الأمر " إذا علمت به " آذن به إذنا "، ومنه قول الحطيئة (5):

ألا يا هند إن جددت وصلا

وإلا فأذنيني بانصرام

يعنى فأعلميني، ومنه قوله جل ثناؤه:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [سورة البقرة: 279](6).

قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، "أي والحال أنهم بتعلم السحر يحصلون على الضرر لا على النفع"(7).

قال الطبري: أي" يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا (8).

قال الواحدي: " المعنى: إنه يضرهم في الآخرة، وإن تعجّلوا به في الدنيا نفعًا"(9).

قال الزمخشري: " لأنهم يقصدون به الشر. وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرّ إلى الغواية"(10).

قال ابن عثيمين: أي ويتعلم الناس منهم "ما مضرته محضة لا نفع فيها"(11).

وقرأ عبيد بن عمير: {مَا يُضِرُّهُمْ} من أضرّ يضرّ (12).

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]، " أي ولقد علم اليهود الذين نبذوا كتاب الله واستبدلوا به السحر، أنهم ليس لهم حظ من رحمة الله ولا من الجنة لأنهم آثروا السحر على كتاب الله"(13).

(1) انظر: تفسير الطبري (1704): ص 2/ 450.

(2)

نقله عنه الواحدي في التفسير البسيط: 3/ 208. وليس في شيء من التفاسير المسندة.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 208، وانظر:"معاني القرآن" للزجاج 1/ 186، "تفسير القرطبي" 2/ 49.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 449.

(5)

البيت من شواهد الطبري: 2/ 449، ولم اجده في الديوان.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 449.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 450

(9)

التفسير البسيط: 3/ 209.

(10)

الكشاف: 1/ 173.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 329.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 251.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

ص: 70

قال الزمخشري: " ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أى استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب اللَّه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ من نصيب"(1).

قال ابن عثيمين: " أي علم هؤلاء المتعلمون للسحر أن من ابتغاه بتعلمه ليس له نصيب في الآخرة؛ وعلموا ذلك من قول الملكين: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} "(2).

قال السعدي: " فلم يكن فعلهم إياه جهلا ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة"(3).

قال قتادة: " وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة"(4).

وروي عن قتادة أيضا: "قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه}، أي استحبه"(5).

وعن ابن أبي نجيح قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} ، اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه" (6).

واختلف أهل التفسير في قوله: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]، على وجوه (7):

احدها: الخلاق، في هذا الموضع: النصيب. قاله ابن عباس (8)، ومجاهد (9)، والسدي (10) وسفيان (11).

الثاني: الخلاق: الحجة. قاله قتادة (12).

الثالث: أنه: الدين. قاله الحسن (13).

الرابع: أن (الخلاق) ههنا القوام. قاله ابن عباس (14).

الخامس: ليس له في الآخرة جهة عند الله. قاله قتادة (15).

والراجح أن (الخلاق) هنا، النصيب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم"(16)، يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت (17):

يَدْعُون بالويل فيها لا خَلاق لهم

إلا سرابيلُ من قِطْر وأغلال

يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال (18).

قال الواحدي: " والخلاق: النصيب الوافر من الخير، قال المفسرون في هذه الآية، الخلاقُ: النصيبُ من الجنة"(19).

(1) الكشاف: 1/ 173.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 330.

(3)

تفسير السعدي: 61.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1029): ص 1/ 195.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1024): ص 1/ 195.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1025): ص 1/ 195.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 452 - 454.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1026): ص 1/ 195.

(9)

انظر: تفسير الطبري: (1709): ص 2/ 452.

(10)

انظر: تفسير الطبري: (1710): ص 2/ 453.

(11)

انظر: تفسير الطبري: (1711): ص 2/ 453.

(12)

انظر: تفسير الطبري: (1712): ص 2/ 453.

(13)

انظر: تفسير الطبري: (1713): ص 2/ 453.

(14)

انظر: تفسير الطبري: (1714): ص 2/ 453.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1027): ص 1/ 195.

(16)

رواه أحمد في المسند 5: 45 (حلبي)، من حديث أبي بكرة، بلفظ:" إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 302، ثم قال:" رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات ". وذكره أيضًا بعده، من حديث أنس، وقال:" رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال ". (كذا بالأصل). وذكره السيوطي في الجامع الصغير: 1838، ونسبه للنسائي وابن حبان من حديث أنس، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة. ونقل شارحه المناوي أن الحافظ العراقي قال:" إسناده جيد ". وحديث أنس رواه أيضًا أبو نعيم في الحلية 6: 262. ورواه قبل ذلك 3: 13، من حديث الحسن مرسلا. ثم أشار إلى حديث أنس.

(17)

ديوانه: 47 بيت مفرد: . وقوله " فيها "، أظنه يعني النار. والقطر: النحاس الذائب.

(18)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 453 - 454.

(19)

التفسير السيط: 3/ 209.

ص: 71

قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102]، أ"ي ولبئس هذا الشيء الذي باعوا به أنفسهم"(1).

قال السدي: " يعني: اليهود، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم"(2).

قال الثعلبي: " باعوا به حظّ أَنْفُسَهُمْ حين اختاروا السّحر والكفر على الدين والحق"(3).

قال ابن عثيمين: " أي باعوا به أنفسهم؛ لأنهم في الحقيقة لما اشتروا السحر، الثمن الذي بذلوه في هذا السحر: أنفسهم؛ لأنهم في الحقيقة خسروا أنفسهم؛ صارت الدنيا الآن ليس لهم فيها ربح إطلاقاً؛ والآخرة ليس لهم فيها ربح أيضاً؛ فخسروا الدنيا، والآخرة"(4).

وفي قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنفُسَهُم} [البقرة: 102]، تأويلان (5):

أحدهما: يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله.

والثاني: من إضافتهم السحر إلى سليمان، وتحريضهم على الكذب.

وقوله {شَرَوْا} أي: باعوا (6)، والشراء والبيع واحد، لكنه غلب من جهة معطي الثمن كما غلب البيع من جهة صاحب السلعة (7).

قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، أي" لو كان لهم علم أو فهم وإِدراك"(8).

قال ابن عثيمين: أي: " لو كانوا من ذوي العلم المنتفعين بعلمهم ما تعلموا السحر"(9).

قال القرطبي: "فأخبر أنهم لا يعلمون"(10).

قال الزمخشري: " معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه"(11).

واختلف في تحديد المعنيين في قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، على قولين (12):

الأول: قال قطرب والأخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون (13).

والثاني: قال علي بن سليمان: "الأجود عندي أن يكون "ولقد علموا" للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال: "علموا" كما يقال: الزيدان قاموا"(14).

وإن قيل: كيف نفى العلم عنهم، ولقد أثبت العلم لهم في قوله:{وَلَقَدْ عَلِمُوا} ؟ ، أجيب عنه من وجهين:

(1) صفوة التفاسير: 1/ 74.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1030): ص 1/ 195، وتفسير الطبري (1716): ص 2/ 455.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 251.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 330.

(5)

انظر: النكت والعيون: 1/ 169.

(6)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 48، معاني القرآن للفراء: 1/ 56، جامع البيان للطبري: 2/ 455، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 1/ 60، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 56، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 125، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 132.

(7)

مراده أن كلاً مِنْ باع وشرى يطلق على البيع والشراء بمعنى إعطاء السلعة وأخذ ثمنها، وأخذ السلعة وإعطاء ثمنها، أي: أنهما من الأضداد وبذلك قال أئمة اللغة، انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 56، الأضداد لابن الأنباري: 72 - 73، لسان العرب لابن منظور: 1/ 401 و: 4/ 2252، الصحاح للجوهري: 3/ 1189 و: 6/ 2391، وغيرها.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 330.

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 56.

(11)

الكشاف: 1/ 173.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 56.

(13)

انظر: معاني القرآن 1/ 239، وذكر كلاهما الرازي في تفسيره: 3/ 633.

(14)

تفسير القرطبي: 2/ 56.

ص: 72

أحدهما: لأنهم لم يعملوا بما علموا، وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال، وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما: لو علمت لأقصرت، كما قال كعب بن زهير المزني، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده (1):

إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه! !

ألم تعلما أني من الزاد مرمل

فأخبر أنه قال لهما: " لو تعلمانه "، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ " (2).

قال الزجاج: " لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ليس يوفون العلم حقه، لأنَّ العالِمَ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم"(3).

وهذا تأويل وإن كان له وَجْه، إلا إنه "خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: {ولقد علموا} وقوله: {لو كانوا يعلمون}، وإنما هو استخراج، وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن أولى"(4).

والثاني: لأنهم علموا أن الآخرة يخسرها من آثر السحر، ثم دخلوا فيه وآثروه طمعًا في عوض يصير إليهم من الدنيا، فقال الله عز وجل:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن الذي قصدوه وآثروه لا يتم لهم من جهته ما يؤمِّلُون؛ لأن الدنيا تنقطع عنهم بالموت، ثم يقدمون على الآخرة التي لا حظ لهم فيها (5).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين؛ لقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} ؛ ويدل على هذا أن أحدهم. وهو لبيد بن الأعصم. سحر النبي صلى الله عليه وسلم (6).

2.

ومنها: أن السحر من أعمال الشياطين؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين] ..

3 ومنها: أن الشياطين كانوا يأتون السحر على عهد سليمان مع قوة سلطانه عليهم؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} ..

4 ومنها: أن سليمان لا يقر ذلك؛ لقوله تعالى: {وما كفر سليمان} ؛ إذ لو أقرهم على ذلك. وحاشاه. لكان مُقراً لهم على كفرهم ..

5 ومنها: أن تعلم السحر، وتعليمه كفر؛ وظاهر الآية أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى:{ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} ، وقوله تعالى:{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} ؛ وهذا فيما إذا كان السحر عن طريق الشياطين؛ أما إذا كان عن طريق الأدوية، والأعشاب، ونحوها ففيه خلاف بين العلماء ..

واختلف العلماء. رحمهم الله. هل تقبل توبته، أو لا؟ والراجح أنها تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل؛ أما قتله فيرجع فيه إلى القواعد الشرعية، وما يقتضيه اجتهاد الحاكم ..

6 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد ييسر أسباب المعصية فتنةً للناس. أي ابتلاءً.، وامتحاناً؛ لقوله تعالى:{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة} ؛ فإياك إياك إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تفعلها؛ واذكر قصة بني إسرائيل حين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت. أعني صيد البحر.؛ فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت؛ فقال لهم الله تعالى: {كونوا قردة خاسئين}

(1) ديوانه: 51، وأمالي الشريف المرتضى 1: 424، وكأنه كان ينقل كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 456 - 457.

(3)

معاني القرآن: 9/ 216.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 456 - 457.

(5)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 213.

(6)

راجع البخاري ص 492، كتاب الطب، باب 50: السحر، حديث رقم 5766؛ وصحيح مسلم ص 1066 – 1067، كتاب السلام، باب 17: السحر، حديث رقم 5703 [43]2189.

ص: 73

[البقرة: 65]؛ واذكر قصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين ابتلاهم الله عز وجل وهم محرِمون بالصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ فلم يُقدم أحد منهم عليه حتى يتبين لك حكمة الله. تبارك وتعالى. في تيسير أسباب المعصية؛ ليبلوَ الصابر من غيره ..

7 ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان أن ينصح للناس. وإن أوجب ذلك إعراضهم عنه.؛ لقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما فتنة فلا تكفر} ؛ فإذا كانت عندك سلعة رديئة، وأراد أحد شراءها يجب عليك أن تُحذِّره ..

8 ومنها: أنّ من عِظم السحر أن يكون أثره التفريق بين المرء، وزوجه؛ لقوله تعالى:{فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} ؛ لأنه من أعظم الأمور المحبوبة إلى الشياطين، كما ثبت في الحديث الصحيح أن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول:"نِعْم أنت"(1)؛ وفيه سحر مقابل لهذا: وهو الربط بين المرء، وزوجه؛ حتى إنه. والعياذ بالله. يُبتلى بالهيام؛ فلا يستطيع أن يعيش. ولا لحظة. إلا وزوجته أمامه؛ وبعضهم يقضي عليه هذا الأمر. نسأل الله العافية

9 ومن فوائد الآية: أن الأسباب. وإن عظمت. لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله} .

10 ومنها: أن قدرة الله عز وجل فوق الأسباب؛ وأنه مهما وجدت الأسباب. والله لم يأذن. فإن ذلك لا يؤثر؛ وهذا لا يوجب لنا أن لا نفعل الأسباب؛ لأن الأصل أن الأسباب مؤثرة بإذن الله ..

11 ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي اللجوء إلى الله دائماً؛ لقوله تعالى: {إلا بإذن الله} ؛ فإذا علمت أن كل شيء بإذن الله فإذاً تلجأ إليه سبحانه وتعالى في جلب المنافع، ودفع المضار ..

12.

ومنها: أنّ تعلم السحر ضرر محض، ولا خير فيه؛ لقوله تعالى:{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} ؛ فأثبت ضرره، ونفى نفعه ..

13 ومنها: أن كفر الساحر كفر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} يعني: من نصيب؛ وليس هناك أحد ليس له نصيب في الآخرة إلا الكفار؛ فالمؤمن مهما عذب فإن له نصيباً من الآخرة ..

14 ومنها: أن هؤلاء اليهود تعلموا السحر عن علم؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} ..

15 ومنها: إثبات الجزاء، وأنه من جنس العمل؛ فإن الكافر لما لم يجعل لله نصيباً في دنياه لم يجعل الله له نصيباً من الآخرة ..

16 ومنها: ذم هؤلاء اليهود بما اختاروه لأنفسهم؛ لقوله تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسه} .

17 ومنها: أن صاحب العلم الذي يَنتفِع بعلمه هو الذي يحذر مثل هذه الأمور؛ لقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يعني: لو كانوا ذوي علم نافع ما اشتروا هذا العلم الذي يضرهم، ولا ينفعهم؛ والذي علموا: أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.

القرآن

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} [البقرة: 103]

التفسير:

ولو أن اليهود آمنوا وخافوا الله لأيقنوا أن ثواب الله خير لهم من السِّحر ومما اكتسبوه به، لو كانوا يعلمون ما يحصل بالإيمان والتقوى من الثواب والجزاء علما حقيقيا لآمنوا.

(1) أخرجه مسلم ص 1168، كتاب صفات المنافقين، باب 16: تحريش الشيطان

، حديث رقم 7106 [67]2813.

ص: 74

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة: 103]، "أي ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه"(1).

قال ابن كثير: " أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم"(2).

قال الزمخشري: أي: ولو أنهم آمنوا" برسول الله والقرآن، وواتقوا الله، فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين"(3).

قال ابن عثيمين: ولو أنهم آمنوا " بقلوبهم، واتقوا بجوارحهم؛ فالإيمان بالقلب؛ والتقوى بالجوارح؛ هذا إذا جمع بينهما؛ وإن لم يجمع بينهما صار الإيمان شاملاً للتقوى، والتقوى شاملة للإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "التقوى هاهنا" (4)، وأشار إلى قلبه؛ والإيمان عند أهل السنة والجماعة: "التصديق مع القبول، والإذعان"؛ وإلا فليس بإيمان؛ و"التقوى" أصلها: وَقْوَى؛ وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في معناها؛ وإلا فبعضهم قال:"التقوى" أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله؛ وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ وبعضهم قال في تعريف (التقوى) " (5).

قال ابن كثير: " وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف"(6).

قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103]، :" أي لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر"(7).

قال الزجاج: أي: " أن ثواب اللَّه خير لهم من كَسْبِهم بالكُفْر والسحْرِ"(8).

قال أبو السعود: أي" لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم"(9).

قال المراغي: أي: " لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية"(10).

قال ابن كثير: أي" لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] "(11).

وقرئ: "لمثوبة، كمشورة ومشورة"(12).

قال الزمخشري: " فإن قلت: فهلا قيل لمثوبة اللَّه خير؟ قلت: لأنّ المعنى: لشيء من الثواب خير لهم"(13).

قال البيضاوي: " وإنما سمي الجزاء ثواباً ومثوبة، لأن المحسن يثوب إليه"(14).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 74.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 364.

(3)

الكشاف: 1/ 174، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 80. [بتصرف بسيط].

(4)

أخرجه مسلم ص 1127، كتاب البر والصلة، باب 10: تحريم ظلم المسلم وخذله

، حديث رقم 6541 [32]2564.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 335.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 365.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 74.

(8)

معاني القرآن: 1/ 187، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 215.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 369.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 183.

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 364.

(12)

تفسير الكشاف: 1/ 174.

(13)

الككشاف: 1/ 174.

(14)

تفسير البيضاوي: 1/ 98.

ص: 75

و (المثوبة) في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة، و (الثوابُ) في الأصل معناه: ما رجع إليك من عائدة، وحقيقته: الجزاء العائد على صاحبه مُكَافأةً لما فعل، ومنه: التَثْويب في الأذان، إنما هو ترجيع الصَوْت، ولا يقال لصوتٍ مرةً واحدةً: تثويب، ويقال: ثوّب الداعي: إذا كرر دعاه كما قال (1):

إذا الداعي المُثَوّبُ قال: يالا

والثوب مشتقّ من هذا، لأنه ثاب لباسًا بعد أن كان قُطنا أو غزلا (2).

ومنه: ثواب الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له (3).

وقال الراغب: " الثؤوب: رجوع الشيء إلى حالة شبيهة بالحالة الأولى، يقال: ثاب الحوض إذا امتلاء بعد فراغه عقيب امتلائه، والثوب لتصوره بصورة القطن لاجتماع أجزائه بعد تفرقها بالغزل، والثيب من النساء لعودها إلى الأيمة، والتثويب في الصوت ترديده، والثواب والمثوبة في الخير تحصيل نفع يثوب إليه بإحسانه"(4). وفي قوله تعالى: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 103]، أضاف الله الثواب إلى نفسه، وجعلها من عنده لأمرين (5):

أحدهما: أنها تكون أعظم مما يتصوره العبد؛ لأن العطاء من العظيم عظيم؛ فالعطية على حسب المعطي؛ عطية البخيل قليلة؛ وعطية الكريم كثيرة.

والثاني: اطمئنان العبد على حصولها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.

قوله تعالى: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103]، لو كانوا يعلمون "أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم، من السحر ومما اكتسبوا به"(6).

قال الزجاج: " أي لو كانوا يَعْمَلُونَ بِعِلمِهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل"(7).

قال الراغب: أي: " ولو علموا لظهر لهم ذلك"(8).

قال الزمخشري: أي" أنّ ثواب اللَّه خير مما هم فيه وقد علموا، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم"(9).

قال أبو السعود: " أي أن ثواب الله خير. وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم"(10).

قال البيضاوي: وقد علموا، لكنه جَهَّلَهُم لترك التدبر، أو العمل بالعلم" (11).

قال النسفي: " جَهَّلَهُم، لما تركوا العمل بالعلم"(12).

قال المراغي: " أي: إنهم ليسوا على شاء من العلم الصحيح، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد"(13).

(1) البيت نسب لزهير بن مسعود الضبي، ينظر:"لسان العرب" 8/ 4976 (مادة: يا) غير منسوب. "المعجم المفصل" 6/ 81. ونسب إلى الفرزدق في "لسان العرب" 7/ 4105 (لوم).

(2)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 214، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 206، "تهذيب اللغة" 1/ 463 (مادة- ثاب)، "المفردات" للراغب الأصبهانى 89، "مقاييس اللغة" 1/ 393، وقال: الثاء والواو والباء قياس صحيح من أصل واحد وهو العود والرجوع.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 458.

(4)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 281.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 176.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 457 - 458.

(7)

معاني القرآن: 1/ 187.

(8)

تفسير الراغب الأصفهاني: 3/ 215.

(9)

الكشاف: 1/ 174.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 369.

(11)

تفسير البيضاوي: 1/ 98.

(12)

تفسير النسفي: 1/ 80.

(13)

تفسير المراغي: 1/ 183.

ص: 76

قال الزمخشري: " ويجوز أن يكون قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} تمنيا لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة اللَّه إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل وليتهم آمنوا: ، ثم ابتدئ لمثوبة من عند اللَّه خير"(1).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: سعة حلم الله، حيث يعرض عليهم الإيمان، والتقوى؛ لقوله تعالى:{ولو أنهم آمنوا واتقوا} يعني فيما مضى، وفيما يستقبل؛ وهذه من سنته سبحانه وتعالى أن يعرض التوبة على المذنبين؛ انظر إلى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، يُحَرِّقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} .

2 -

ومنها: أن الإيمان يُنال به ثواب الله؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103].

3 -

ومنها: أن ثواب الله خير لمن آمن واتقى من الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} ، أي خير من كل شيء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها"(2).

4 -

ويؤخذ منها: ومن قوله تعالى عن الناصحين لمن تمنوا أن يكون لهم مثل ما لقارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]، أنّ التقوى هي العمل الصالح ..

5 -

ومنها: أن فعل هؤلاء اليهود، واختيارهم لما فيه الكفر من تعلم السحر فعلُ الجاهل؛ لقوله تعالى:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104]

التفسير:

يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: راعنا، أي: راعنا سمعك، فافهم عنا وأفهمنا؛ لأن اليهود كانوا يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم يلوون ألسنتهم بها، يقصدون سبَّه ونسبته إلى الرعونة، وقولوا- أيها المؤمنون- بدلا منها: انظرنا، أي انظر إلينا وتعهَّدْنا، وهي تؤدي المعنى المطلوب نفسه واسمعوا ما يتلى عليكم من كتاب ربكم وافهموه. وللجاحدين عذاب موجع.

سبب النزول:

قال ابن عباس في رواية عطاء: "وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك وكان {راعنا} في كلام اليهود سبا قبيحا فقالوا: إنا كنا نسب محمدا سرا فالآن أعلنوا السب لمحمد لأنه من كلامهم، فكانوا يأتون نبي الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد {راعنا} ويضحكون ففطن بها رجل من الأنصار وهو سعد بن عبادة وكان عارفا بلغة اليهود وقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} الآية" " (3).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 14]، " أي: يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله" (4).

(1) الكشاف: 1/ 174.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 330، حديث رقم 23183؛ وأخرجه البخاري ص 232، كتاب الجهاد والسير، باب 73: فضل رباط يوم في سبيل الله، حديث رقم 2892.

(3)

أسباب النول للواحدي: 33 - 34، وأخرجه ابن جرير (1733): ص 2/ 461، ونحوه ابن أبي حاتم:(1039): ص 1/ 197، قواه الحافظ ابن حجر في "العجاب": 1/ 343 وما بعدها، ويشهد له: ما أخرجه الطبري (1729): ص 2/ 460، عن قتادة بمعناه. وهو مرسل صحيح الإسناد.

(4)

تفسير المراغي: 11/ 43، وانظر: صفوة التفاسير: 2/ 487.

ص: 77

قال الصابوني: " هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه"(1).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(2).

كما أن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(3)(4).

قوله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، أي:" لا تقولوا عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم راعنا"(5).

قال المراغي: " نهى سبحانه الصحابة عن كلمة كانت تدور على ألسنتهم، حين خطابهم النبي صلى الله عليه وسلم وهى كلمة (راعِنا) ومعناها راعنا سمعك: أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ونراجعك القول لنفهمه عنك"(6).

قال الحسن: " الراعن من القول: السخري منه، نهاهم الله عز وجل أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام"(7).

وقال أبو صخر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فقالوا: أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله أن يقال ذلك له"(8).

والراعن: الأحمق، والأرعن: مبالغة فيه (9).

قال ابن عطية: " {راعنا}، من المراعاة بمعنى فاعلنا، أي أرعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على هذا التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: هي لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّا بلسانه وطعنا كما كان يقول: {اسمع غير مسمع} [النساء: 46]، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة"(10).

قال ابن عطية: "ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحا وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا"(11).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 75.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 338.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 184.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم (1041): ص 1/ 197.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم (1042): ص 1/ 197.

(9)

انظر: الصحاح للجوهري: 5/ 2124 - 2125، القاموس المحيط للفيروز آبادي: 1082، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 242، روح المعاني للألوسي: 1/ 349.

(10)

المحرر الوجيز: 1/ 189.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 189.

ص: 78

قال الراغب: " الراعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه: رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم قيل: رعيت النجوم إذا راقبتها"(1).

وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، على وجهين (2):

أحدهما: أي: لا تقولوا خلافا. قاله عطاء (3)، ومجاهد (4).

قال الراغب: وأسترذل هذا الوجه، لأنه لو كان كما قال لكان في القراءة {رعناً} ، بالتنوين" (5).

والثاني: يعني ارعنا سمعك، أي اسمع منا ونسمع منك، وهذا قول ابن عباس (6)، ومجاهد (7)، والضحاك (8).

واختلف أهل التفسير في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا {رَاعِنَا} [البقرة: 104]، على وجوه (9):

أحدها: أنها كلمة كانت اليهود تقولها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب؛ كما قالوا سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا ليّاً بألسنتهم، فَنُهِيَ المسلمون عن قولها، وهذا قول ابن عباس (10) وقتادة (11)، وعطية (12)، وابن زيد (13).

والثاني: أنها كلمة، كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام عنها. وهذا قول عطاء (14)، وأبي العالية (15)، وابن جريج (16).

والثالث: أن القائل لها، كان رجلاً من اليهود دون غيره، يقال له رفاعة بن زيد، فَنُهِيَ المسلمون عن ذلك، وهذا قول السدي (17).

والرابع: وقيل: إنما نهوا عن قولهم: " راعنا " لكونه مفاعلة متضمنة لمعنى المساواة بين المخاطب والمخاطب، فأمروا بتوقيره، كما قال {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ، وكقوله:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، وذلك عن ابن عباس- رضي الله عنه (18).

قال ابن حجر: "إنما نهوا عن ذلك؛ لأنها كلمة تقتضي المساواة (19)، وقد فسرها مجاهد: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك (20) "(21).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 281.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 459 - 460.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1720): ص 2/ 459.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1721)، و (1722)، و (1723)، و (1724): ص 2/ 459.

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 282.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1725): ص 2/ 460.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1726): ص 2/ 460.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1727): ص 2/ 460.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 460 - 461.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1731): ص 2/ 461.

(11)

انظر: تفسير الطبري (1728): ص 2/ 460.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1729): ص 2/ 460.

(13)

انظر: تفسير الطبري (1732): ص 2/ 461.

(14)

انظر: تفسير الطبري (1733)، و (1734)، و (1735): ص 2/ 461 - 462.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1736): ص 2/ 462.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1737): ص 2/ 462.

(17)

انظر: تفسير الطبري (1738): ص 2/ 462 - 463.

(18)

انظر: تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 282.

(19)

كلام الحافظ-رحمه الله تعالى-في تفسير هذه الآية يقرب كثيراً من كلام السمين في الدر المصون: 1/ 331 - 332، وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 312، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338.

(20)

تفسير الطبري (1726): ص 2/ 460.

(21)

الفتح: 8/ 13

ص: 79

والراجح في هذه المسألة أن يقال: بأن الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها، فكان من ذلك قولهم:(راعنا) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك (1)، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل:" عاطنا، وحادثنا، وجالسنا "، بمعنى: افعل بنا ونفعل بك (2)، فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا: راعنا، لما كان قول القائل: راعنا، محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض: رعاك الله: بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة، بمعنى: فرغته لسماع كلامه، كما قال الأعشى ميمون بن قيس (3):

يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا

أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا

يعني بقوله (يرعى)، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 14]، على وجوه:

الأول: {رّاعنِا} ، بغير تنوين على أنه فعل أمر من المراعاة، وهي قراءة الجمهور (4).

والثاني: {لا تَقُولُوا رَاعُونَا} ، قرأ بها أبي بن كعب وزر بن حبيش والأعمش، وهي بلفظ الجمع وكذا في مصحف ابن مسعود (5)، وفيه أيضاً (أرعونا)(6).

قال ابن عطية: " وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا من الرعونة"(7).

والثالث: وقرئ: {لا تقولوا راعنا} بالتنوين، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن وأبي حيوة وابن أبي ليلى وابن محيصن والأعمش، بمعنى: لا تقولوا قولا راعناً، من: الرعونة، وهي الحمق والجهل (8).

قال ابن عطية: " وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين"(9).

قال الطبري: " وهذه قراءة [أي بالتنوين] لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين"(10).

قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، أي ولكن قولوا "انتظرنا وارتقبنا"(11).

قال أبو صخر: " أمرهم الله أن يقولوا: {انظرنا}، ليعزروا رسوله ويوقروه"(12).

قال ابن عثيمين: " يعني إذا أردتم من الرسول أن ينتظركم فلا تقولوا: {راعنا}؛ ولكن قولوا: {انظرنا}: فعل طلب؛ و"النظر" هنا بمعنى الانتظار، كما في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} [البقرة: 210]، أي ما ينتظر هؤلاء"(13).

قال ابن عطية: أي: "انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى {راعِنا}، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود"(14).

قال الطبري: أي: "وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا"(15).

يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة، بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة (16):

وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ

للخِمس، طال بها حَوْزي وتَنْساسي

ومنه قول الله عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، يعني به: انتظرونا (17).

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، على وجهين:

أحدهما: أن معناه: "اسمع منا". أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء (18).

والثاني: "أفهمنا يا محمد، بيّن لنا".قاله مجاهد (19).

وقرأ الأعمش وغيره {أنظرنا} ، بقطع الألف وكسر الظاء، وقرئ {أنظرونا} ، بمعنى: أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك (20)، كما قال الله جل ثناؤه:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79]، أي أخرني (21).

قال الطبري: "ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض

(1) ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له:{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا} [النساء: 46]. [انظر: تفسير الطبري: 2/ 465].

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 464 - 465

(3)

ديوانه: 86، وهي في هوذة بن علي كما سلف. يقول قبله:

يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم

بحر المواهب للوراد والشرعا

وابتدع: أحدث ما شاء.

(4)

نظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 188، المحرر الوجيز: 1/ 189، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338، الدر المصون للسمين: 1/ 331 وغيرها.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 189، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338، الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 332، وتفسير القرطبي: 2/ 60.

(6)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338، الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 332، وتفسير القرطبي: 2/ 60.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 189.

(8)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338، والمحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 313، وزاد المسير لابن الجوزي: 1/ 126، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 60، معاني القرآن للزجاج: 1/ 188، الدر المصون للسمين: 1/ 332، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 338، وغيرها.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 189.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 466.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(12)

أخرجه ابن أبي حاتم (1045): ص 1/ 198.

(13)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 338.

(14)

المحرر الوجيز: 1/ 189.

(15)

تفسير الطبري: 2/ 467.

(16)

(") ديوانه: 53، واللسان (نظر)(حوز)(نس)(عشا). من قصيدة يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس. والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون): وهو ما تتعشاه الإبل. والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقا رويدا. والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقا شديدا لورود الماء. ويروى " إيتاء صادرة ". والإيتاء مصدر آنيت الشيء: إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: 96 - 98): انتظرت خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. وقد شكاه الزبرقان إلى عمر لهذه القصيدة، ولقوله فيها: دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي

(انظر: تفسير الطبري: 2/ 468).

(17)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 467 - 468.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1043): ص 1/ 197.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1044): ص 1/ 198.

(20)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 189.

(21)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 468.

ص: 80

الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب - إذْ كان ذلك كذلك - من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله:{انظرنا} ، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا" (1).

والقراءة الصحيحة، هي:{وقولوا انظرنا} ، بوصل (الألف) بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت، والله أعلم (2).

قوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} [البقرة: 1 - 4]، " أي اسمعوا سماع استجابة، وقبول"(3).

قال الحسن: " أمرهم أن يسمعوا قوله، ويقبلوا عنه فأبوا ذلك وعصوا ربهم"(4).

قال الواحدي: " أي: أطيعوا، أو اتركوا هذه الكلمة، فسمّى الطاعة سمعًا؛ لأن الطاعة تحت السمع"(5).

قال النسفي: " وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا"(6).

قال ابن عثيمين: "يعني: اسمعوا ما تؤمرون به فافعلوه، وما تنهون عنه فاتركوه"(7).

قال القاسمي: " أي قولوا ما أمرتكم به، وامتثلوا جميع أوامري، ولا تكونوا كاليهود، حيث قالوا سمعنا وعصينا"(8).

قال البيضاوي: أي: " وأحسنوا الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود، أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه"(9).

قال الزمخشري: أي: " وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعانة وطلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا، أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه، تأكيدا عليهم ترك تلك الكلمة"(10).

قال ابن عطية: " ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة"(11).

قاقا قال الرازي: " فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة:

أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.

وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا.

وثالثها: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول" (12).

(1) تفسير الطبري: 2/ 468.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 468 - 469.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 339.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1047): ص 1/ 198.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 218.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 80.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 339.

(8)

محاسن التأويل: 1/ 369.

(9)

تفسير البيضاوي: 1/ 98 - 99.

(10)

الكشاف: 1/ 174 - 175.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 190.

(12)

تفسير الرازي: 3/ 205.

ص: 81

قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]، "أي ولليهود الذين نالوا من الرسول وسبّوه، عذاب أليم موجع"(1).

قال البيضاوي: " يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه السلام وسبوه"(2).

قال قتادة: " {عذاب أليم}، أي موجع"(3).

قال ابن عطية: " وأعلمَ أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما، وهو المؤلم"(4).

قال المراغي: " الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم"(5).

قال القاسمي: " أي اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عَذابٌ أَلِيمٌ لما اجترءوا عليه من العظيمة، وهو تذييل لما سبق، فيه وعيد شديد لهم، ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة النساء:{مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46]، ومن ليّهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون «السام عليكم» (6)

والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نزد عليهم ب «وعليكم» ، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا" (7).

يقول الإمام القرطبي: في هذه الآية دليلان (8):

أحدهما: تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة.

والثاني: التمسك بسد الذرائع (9) وحمايتها، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 76.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 99.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1048): ص 1/ 198.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 190، وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 60.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 184 - 185.

(6)

صحيح البخاري (5678): ص 5/ 2242.

(7)

محاسن التأويل: 1/ 369 - 370.

(8)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 57 - 60

(9)

يقول ابن القيم: وإذا تأملت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات.

فنهى الله عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله تعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة.

وأمسك صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.

ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور، ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق.

ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها، حتى كأنه ينظر إليها.

ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن فاعله.

ونهى عن تعليه القبور وتشريفها وأمر بتسويتها.

ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هاتين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس، ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر.

ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة.

وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم.

وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، لكون ذلك ذريعة ظاهرة إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم.

ومنع من تجاوز أربع زوجات، لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور، وعدم العدل بينهن.

ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما في ذلك ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله.

ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم (راعنا) مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة، لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم.

ومن ذلك أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين، وتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة.

ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا، ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن.

ص: 83

أما الكتاب: فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ، لأنه ذريعة للسب، وقوله تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] الآية، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا، أي ظاهرة، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وكان السد ذريعة للاصطياد، فمسخهم الله قردة وخنازير، وذكر الله لنا ذلك معنى التحذير عن ذلك، وقوله تعالى لآدم وحواء:{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] وقد تقدم.

وأما السنة: فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير [فذكرتا ذلك] لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله"(1). قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"(2) وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"(3).

(1) صحيح البخاري: كتاب الصلاة/ باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء: (417). فتح الباري: 1/ 624.

(2)

رواه مالك في الموطأ (1/ 172) 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، 24 - باب جامع الصلاة، حديث (85) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. وعبد الرزاق في المصنف (1/ 406، باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في الطبقات (2/ 241). وابن أبي شيبة (3/ 345) من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم؛ فهو معضل عند هؤلاء، لكنه قد جاء موصولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (2/ 246). وأبونعيم في الحلية (7/ 317). والحميدي (2/ 445)، حديث (1024). كلهم من طريق سفيان بن عيينة.

قال: حدثنا حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وهذا إسناد حسن.

حمزة بن المغيرة قال الحميدي في شأنه: وكان من سراة الموالي، ولعله من قول سفيان. وقال أبوالنضر: كان رجل الكوفة. وقال ابن معين: ليس به بأس.

وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال (1/ 334).

ورواه أبونعيم في الحلية (6/ 283) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي حدثني أبي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

ورواه البزار كما في كشف الأستار (1/ 220) من طريق عمر بن صهبان - وهو ضعيف - عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وذكر ابن عبد البر في التمهيد (5/ 42) أن البزار رواه من طريق عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثم صحح الحديث من طريق أبي سعيد روي بإسناد إلى البزار، وساق إسناد البزار إلا أنه قال: عمر بن محمد بدل عمر بن صهبان فينظر. وعلى كل حال فالحديث صحيح، انظر: الزرقاني (1/ 385).

(3)

هذا الحديث يرويه الإمام مالك في " الموطأ " رقم: (593)، طبعة مؤسسة زايد آل نهيان، ورقم (414)، طبعة دار إحياء التراث تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، في أوائل باب " جامع الصلاة "، عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ".

وعطاء بن يسار ليس من الصحابة، بل من التابعين، فحديثه مرسل، ولكن ورد الحديث مسندا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، هكذا من دون كلمة (يعبد).

ورواه الإمام أحمد في " المسند "(12/ 314) طبعة مؤسسة الرسالة، وقال المحققون: إسناده قوي. وصححه الشيخ الألباني في كتاب " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد "(ص/24) وإن كان قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري "(2/ 441) عن حديث أبي هريرة: " بإسناد فيه نظر ".

يدل هذا الحديث على حرمة بناء المساجد على القبور، وحرمة قصد الصلاة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحرمة كل الأفعال التي كان يفعلها الكفار عند أوثانهم من ذبح ونذر واتخاذ سرج ونحو ذلك.

يقول ابن عبد البر رحمه الله: " الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة، أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن، صنما كان أو غير صنم؛ وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم: كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه، ويسجد نحوه ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم من امتثال طرقهم " انتهى. "التمهيد "(5/ 45).

ويقول أيضا: " وليس فيه حكم أكثر من التحذير أن يُصلَّى إلى قبره، وأن يتخذ مسجدا، وفي ذلك أمر بأن لا يعبد إلا الله وحده، وإذا صنع من ذلك في قبره، فسائر آثاره أحرى بذلك، وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان، وذلك والله أعلم مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك " انتهى. الاستذكار " (2/ 360).

وقد نقل هذا الكلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وأكده، ثم قال: " وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى: قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده.

وقال صاحب " التنبيه " من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله متوجها إليه فحرام.

قال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا الداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين، فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. ولهذا المعنى قالت عائشة:" ولولا ذلك لأبرز قبره"" انتهى." فتح الباري " لابن رجب (2/ 442 - 443).

وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله أن هذا الحديث كان دليل الإمام مالك رحمه الله على كراهة أن يقول المسلم: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. خشية أن يكون هذا الكلام من اتخاذ القبر وثنا يعبد.

يقول القاضي عياض رحمه الله: " الأَوْلى عندي أن منعَه وكراهة مالك له – قول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد بعدى، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) " انتهى." الشفا "(2/ 84).

وفي " البيان والتحصيل " لابن رشد (18/ 444 - 445): " سئل مالك رحمه الله تعالى عن الغريب يأتي قبر النبي كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، وذكر حديث: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد "،

قال ابن رشد: فيُكره أن يُكثر المرور به، والسلام عليه، والإتيان كل يوم إليه لئلا يُجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا "" انتهى.

وسئل القاضي عياض عن أناس من أهل المدينة يقفون على القبر في اليوم مرة أو أكثر، ويسلمون ويدعون ساعة، فقال:" لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولَها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك " انتهى." الشفا بتعريف حقوق المصطفى "(2/ 676).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور، ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين إذا لم يكن لها مستحق معين، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائناً من كان الميت، فإن ذلك من أكبر أسباب عبادة الأوثان " انتهى. مجموعة الرسائل والمسائل: (1/ 54).

ويقول أبو الوليد الباجي رحمه الله: " دعاؤه صلى الله عليه وسلم أن لا يجعل قبره وثنا يعبد تواضعا والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرارا بالعبادة، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وقد روى أشهب عن مالك أنه لذلك كره أن يدفن في المسجد، وهذا وجه يحتمل أنه إذا دفن في المسجد كان ذريعة إلى أن يتخذ مسجدا، فربما صار مما يعبد " انتهى. " المنتقى شرح الموطأ "(1/ 306). والله تعالى أعلم.

ص: 84

وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في

ص: 85

الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (1) الحديث، فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة.

وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس"(2).

وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ: "يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أَمَّهُ"(3)، فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(4).

قلت-الإمام القرطبي-: فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الآجال. لأن ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة، قالوا: وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فاعلمه (5).

الفوائد:

1 -

أنه إذا ذكر باب ممنوع مسدود أمام الناس، فإن الحكمة تقتضي أن يذكر لهم ما يستغنون به عنه من الأشياء المباحة، لهذا قال:{وَقُولُوا انْظُرْنَا} فهو لم ينههم ويجعلهم عائمين لا يدرون ما يقولون، بل أرشدهم إلى القولة المباحة النافعة، وهي:{انظرنا} .

2 -

تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام.

(1) رواه مسلم (2996).

(2)

أخرجه الترمذي (ك 34 / صفة القيامة / ب 19 / ح 2451)، قال حدثنا أبو بكر بن أبي النضر قال: حدثنا أبو النضر قال: حدثنا أبو عقيل الثقفي عبد الله بن عقيل قال: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثني ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "

الحديث " وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ".

وأخرجه ابن ماحة (ك 37 / الزهد / ب 24 / ح 4215) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به.

وأخرجه الحاكم (ك 47 / الرقاق / ب 3302 / ح 7969) من طريق عبد الله بن الحسين قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة به بنحوه وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأخرجه القضاعي في مسنده (2/ 74، 75، 76 /ح 909، 910، 911، 912) من طرق عن أبي النضر به لكن في طريق أبي الحسن الهمداني (لما به بأس).

وأخرجه البيهقي في السنن (5/ 335 / كتاب البيوع) من طريق أبي طاهر الفقيه قال أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان قال حدثنا أبو الأزهر به.

وأخرجه المزي في تهذيب الكمال (16/ 320) بسنده من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به بلفظ (لما به بأس).

وعزاه الألباني أيضا في غاية المرام (ص 105) لعبد بن حميد في المنتخب من المسند وابن عساكر في التاريخ من طريق أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد به، ولست أدري هل هو عند هذين بنفس لفظ حديث الترجمة أم بنحوه أم بمعناه.

(3)

رواه البخاري- كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه- حديث: 5636، ومسلم- كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها- حديث:155.

(4)

رواه كل من: ابي داود في سننه 3462/وابن عدي في كامل الضعفاء 7/ 71/وابو نعيم في حلية الاولياء 5/ 237، وللبهيقي في السنن الكبرى 5/ 316، وابن القطان في الوهم والايهام 5/ 771، وابن القطان في الوهم والايهام 5/ 294، والمنذري في الترغيب والترهيب 2/ 288، وابن تيمية في مجموع الفتاوى 29/ 30، وبيان الدليل لابن تيمية: 109، والقواعد النورانية لابن تيمية 175، المحررمحمد ابن عبد الهادي 315، والذهبي في ميزان الاعتدال 4/ 547، وفي الدراية لابن حجر العسقلاني 2/ 151، وفي بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني 245، والاجوبة المرضية للسخاوي 1/ 213، والجامع الصغير للسيوطي 514، ونيل الاوطار للشوكاني 5/ 318، والسيل الجرار للشوكاني 3/ 88، وفتح الغفار للرباعي 1207/ 3، حاشية بلوغ المرام لابن باز 504، صحيح الترغيب للالباني 1389، السلسلة الصحيحة للالباني 11، وغاية المرام للالباني 160، صحيح الجامع للالباني 423، صحيح ابي داود 3462، بلوغ المرام لابن عثيمين 4/ 36، ومسند احمد بتحقيق احمد شاكر 7/ 88، واخر مسند احمد لاحمد شاكر 7/ 267، والطرسوس في مسند عمر، وابن ابي الدنيا في العقوبات، وتهذيب الاثار للطبراني، وفي التلخيص، والدولابي في الكنى، أهـ وكلهم عن ابن عمر رضي الله عنه. الا طريق واحد عن جابر.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 57 - 60.

ص: 86

3 -

النهي عن مشابهة المشركين، عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"(1).

4 -

قال ابن كثير: "ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها"(2).

5 -

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم عن حديث "ومن تشبه بقوم فهو منهم"(3) قال: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم"(4).

6 -

تحريم الخطاب بالكلمات المحتملة للحق والباطل بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم.

7 -

تجني اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه، وجرأتهم على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمعاني السيئة القبيحة.

8 -

وجوب الاحتراز من التعابير التي قد توهم معاني سيئة، والحرص على الأدب في الألفاظ فذلك أسلم وأكمل.

9 -

سد الذرائع الموصلة إلى أمر محظور شرعاً.

10 -

وجوب السمع والطاعة لأوامر الله، لقوله تعالى:{واسمعوا} .

11 -

ثبوت الجزاء على العمل لقوله {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

القرآن

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105]

التفسير:

ما يحب الكفار من أهل الكتاب والمشركين أن يُنزَّل عليكم أدنى خير من ربكم قرآنًا أو علمًا، أو نصرًا أو بشارة. والله يختص برحمته مَن يشاء مِن عباده بالنبوة والرسالة. والله ذو العطاء الكثير الواسع.

في سبب نزول الآية قولان:

الأول: قال الواحدي: " قال المفسرون: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم هذه الآية"(5).

والثاني: قال الرغب: " سبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يظهرون مودة المسلمين، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفي ما أدعوه وكان المسلمون يوالونهم ويركنون إليهم، فأكذبهم الله تعالي في ذلك [ونفى ما ادعوه] ونهاهم تعريضاً عن موادتهم، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} "(6).

قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]، "أي ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيء من الخير، بغضاً فيكم وحسداً لكم"(7).

(1) مسند الإمام أحمد (2/ 92).

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 374.

(3)

رواه أحمد: 2/ 50، وألو داود: اللباس/ باب"في لبس الشهرة": 11/ 74، صححه الألباني في الإرواء برقم (1269) وفي صحيح الجامع برقم (2828).

(4)

اقتضاء الصراط المستقيم: 1/ 237.

(5)

أسباب النزول: 34.

(6)

تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 282.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

ص: 87

قال الطبري: أي: ": ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم، فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين"(1).

و(الود)"خالص المحبة"(2).

قال الراغب: " الود: محبة الشر مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانا إذا أحببته، وددت الشيء إذا تمنيته"(3).

قال القرطبي: " (الخير) هنا يشمل خير الدنيا، والآخرة، القليل والكثير؛ لو حصل للكافرين من أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، ومن المشركين أن يمنعوا القطر عن المسلمين لفعلوا؛ لأنهم ما يودون أن ينزل علينا أيّ خير؛ ولو تمكنوا أن يمنعوا العلم النافع عنا لفعلوا؛ وهذا ليس خاصاً بأهل الكتاب والمشركين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عام؛ ولهذا جاء بصيغة المضارع: {ما يود}؛ وهو دال على الاستمرار"(4).

وقال الفخر الرازي: " (الخير) الوحي وكذلك الرحمة، يدل عليه قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء"(5).

قال ابن عاشور: "والخير النعمة والفضل، قال النابغة (6):

فلست على خير أتاك بحاسد

وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر، وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} " (7).

ومعنى (الاختصاص): "الانفراد بالشيء، ومنه: الخَصَاص للفُرَجِ (8)، لأنه انفرد كل منهما واحد عن الآخر من غير جمع بينها، ثم يقال لسوء الحال: الخصاصة، لأنها خللٌ في الحال وصدع"(9).

ويُقْرأ {أن يُنْزَل عليكم} ، بالتخفيف والتثقيل جميعاً، ويجوز في العربية أن يَنْزِلَ عليكم، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه الثالث، إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين (10).

و(التنزيل): هو إنزاله شيئاً فشيئاً؛ وأما (الإنزال): فهو إنزاله جملة واحدة؛ هذا هو الأصل؛ فهم لا يودون هذا، ولا هذا: لا أن ينزل علينا الخير جملة واحدة؛ ولا أن ينزل شيئاً فشيئاً (11).

(1) تفسير الطبري: 2/ 470.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 178.

(3)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 282.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 178.

(5)

تفسير الرازي: 3/ 205.

(6)

ديوان النابغة، قصيدة رقم 6. وعجز البيت:

وكنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة

فلست على خير أتاك بحاسد

إذ عابوا قوله وقالوا: كيف يحسده على ما قد جاد به له؟ انظر: الموشح للمرزباني: 1/ 45.

(7)

تفسير ابن عاشور: 1/ 653.

(8)

أي: فُرَج بين الأثافي والأصابع، ينظر:"اللسان" 2/ 1173، وقال في "تهذيب اللغة" 1/ 233 - 234: وأصل ذلك من الخَصَاص، وكل خَلَلٍ أو خَرْق يكون في مُنْخل أو باب أو سحاب أو بُرقُع فهو خصَاص.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 219، وانظر: هذيب اللغة" 2/ 1299، "المفردات" 155، "اللسان" 3/ 1476.

(10)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 189.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 178.

ص: 88

قال الآلوسي: " وفي إقامة لفظ (الله)، مقام ضمير {ربكم}، تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية"(1).

قال الراغب: " إن قيل: فلم قال: " ولا المشركين " وذلك يقتضي أن المشركين ضربان، كافر، وغير كافر كما أن أهل الكتاب ضربان؟ قيل: إن " من " في قوله (ومن أهل الكتاب) للتبيين {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، فإذا كان كذلك، فالذين كفروا هم أهل الكتاب، فجاز أن يقال: (ولا المشركين) عطفاً على لفظ أهل الكتاب، وجاز أن يقال (ولا المشركين) عطفاً على الذين، ولو قرئ به لجاز"(2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]، أي والله "يختص بالنبوة والوحي والفضل والإِحسان، من شاء من عباده"(3).

قال الزجاج: " أي يختص بنُبوته من يشاءُ من أخبر عز وجل أنه مختار"(4).

قال الطبري: أي: " والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له"(5).

واختلف في معنى (الرحمة)، في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]، على أقوال (6):

أحدها: أن الرحمة: الإسلام. قاله مجاهد (7)، والحسن (8)، ومقاتل (9).

والثاني: أن الرحمة في هذه الآية عامة، لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا. قاله ابن عطية (10).

والثالث: أن الرحمة هنا: النبوة. قاله علي بن أبي طالب (11)، ومحمد بن علي بن الحسين (12)، وابن عباس (13)، ومجاهد (14)، والزجاج (15)، وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك (16).

واختار الطبري قول مجاهد، فقال: الرحمة هنا: "نبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له، و " اختصاصه " إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه، وكل ذلك رحمة من الله له"(17).

الرابع: وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فهو نبي الرحمة (18).

(1) روح المعاني: 1/ 350.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 283.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(4)

معاني القرآن: 1/ 189.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 471.

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 61 وتفسير البحر المحيط: 1/ 510.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1051): ص 1/ 199، ولفظه:"القرآن والإسلام".

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1052): ص 1/ 199.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 127.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 190.

(11)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 61 وتفسير البحر المحيط: 1/ 510.

(12)

انظر: زاد المسير: 1/ 127.

(13)

انظر: تفسير البحر المحيط: 1/ 510.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1050): ص 1/ 199.

(15)

انظر: معاني القرآن: 1/ 189.

(16)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 199.

(17)

تفسير الطبري: 2/ 470.

(18)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 61 وتفسير البحر المحيط: 1/ 510.

ص: 89

والصواب: أن الرحمة هنا عامة بجميع أنواعها، والأقوال الأخرى هي ضمن الرحمة العامة التي في لفظ الآية، "فرحمته تعالى يشمل رحمة الدين، والدنيا؛ ومن ذلك رحمة الله بإنزال هذا الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو من رحمة الله عليه، وعلينا، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] "(1).

قال ابن عثيمين: "وقوله تعالى: {مَنْ يَشَاءُ} هذا مقرون بالحكمة؛ يعني اختصاصه بالرحمة لمن يشاء مبني على حكمته سبحانه وتعالى؛ فمن اقتضت حكمته ألا يختصه بالرحمة لم يرحمه"(2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، أي "والله واسع الفضل والإِحسان"(3).

قال ابن عثيمين: " أي ذو العطاء الزائد عما تتعلق به الضرورة؛ و {الْعَظِيمِ} أي الواسع الكثير الكبير؛ فالعِظم هنا يعود إلى الكمية، وإلى الكيفية"(4).

قال الطبري: " خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه"(5).

قال الراغب: " بيّن أنه وإن اختص برحمته بعض الناس، فليس ذلك لضيق فضله، بل فضله عظيم، ورحمته [تسع كل شيء وإنما يسع رحمته] ضربان، أحدهما يصل إليه كل من شاء الوصول إليه من العباد

بتمكين الله إياه وضرب يخص تعالى به بعض عباده لا يعرفه في ذلك" (6).

قال الآلوسي: " تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عاما وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم"(7).

الفوائد

1 من فوائد الآية: بيان عداوة غير المسلمين للمسلمين؛ لأنه تعالى ذكر صنفين ينتظمان جميع الأصناف: أهل الكتاب. وهم اليهود، والنصارى.؛ والمشركين. وهم كل أصحاب الأوثان.؛ فكل هؤلاء أعداء للمسلمين؛ لأنهم لا يودون الخير للمسلمين.

2 ومنها: أنه يجب علينا أن نحذر من كل تصرف يصدر عن اليهود، والنصارى، والمشركين، ونتخذهم أعداءً، وأن نعلم أنهم بجميع تصرفاتهم يحاولون أن يمنعوا الخير عن المسلمين.

3 ومنها: أن هؤلاء الكفار يودون أن يمنعوا عن المسلمين التقدم.

4 ومنها: أنه يحرم على المسلمين أن يُوَلُّوا هؤلاء الكفار أيّ قيادة؛ لأنهم ما داموا لا يودون لنا الخير فلن يقودونا لأيّ خير مهما كان الأمر؛ ولهذا يحرم أن يجعل لهم سلطة على المسلمين لا في تخطيط، ولا في نظام، ولا في أي شيء؛ بل يجب أن يكونوا تحت إمرة المسلمين، وتحت تدبيرهم ما أمكن؛ وإذا استعنا بهم فإنما نستعين بهم لإدراك مصالحنا وهم تحت سلطتنا؛ لأنهم لو استطاعوا أن يمنعوا القطر وينبوع الأرض عن المسلمين لفعلوا؛ إذاً فيجب علينا الحذر من مخططاتهم، وأن نكون دائماً على سوء ظن بهم؛ لأن إحسان

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 179.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 179.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 179.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 471.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 283.

(7)

روح المعاني: 1/ 350.

ص: 90

الظن بهم في غير محله؛ وإنما يحمل عليه الذل، وضعف الشخصية، والخور، والجبن؛ ولهذا قال تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمِْ} [البقرة: 105]؛ وهي شاملة لخير الدنيا، والآخرة؛ فاليهود حسدوا المسلمين لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونزل عليهم هذا الكتاب.

قال الطبري: "في هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون"(1).

5 ومن فوائد الآية: أن خير الله لا يجلبه ودّ وادّ، ولا يرده كراهة كاره؛ لقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} ؛ فلا يمكن لهؤلاء اليهود، والنصارى، والمشركين أن يمنعوا فضل الله علينا؛ وعلى هذا جاء الحديث الصحيح:"واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك؛ ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك (2) " ..

6.

ومنها: أن الإنسان الذي لا يود الخير للمسلمين فيه شبه باليهود، والنصارى؛ لأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

7 ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: {من يشاء} ؛ ومشيئته تعالى عامة في كل شيء سواء كان من أفعاله، أو من أفعال عباده؛ لقوله تعالى:{ولو شاء الله ما فعلوه} [الأنعام: 137]، وقوله تعالى:{وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29]؛ وأما ما يتعلق بأفعاله تعالى فالأمثلة عليه كثيرة، كقوله تعالى:{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13]، وقوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 16]، وقوله تعالى:{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وغير ذلك من الآية.

8 ومن فوائد الآية: إثبات الرحمة لله؛ لقوله تعالى: {برحمته} .

9 ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: {يختص} ؛ لأن التخصيص يدل على الإرادة.

10 ومنها: إثبات الفضل لله؛ لقوله تعالى: {ذو الفضل} .

11 ومنها: إثبات أن فضله ليس كفضل غيره؛ ففضل غيره محدود؛ وأما فضل الله ففضل عظيم لا حدود له؛ فإن الله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم؛ ومن فضله تبارك وتعالى أنه خص هذه الأمة بخصائص عظيمة كثيرة ما جعلها لأحد سواها؛ منها ما جاء في حديث جابر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ؛ وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي؛ وأعطيت الشفاعة؛ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(3).

وتجدر الإشارة بأن هذه الآية لا يعارض قوله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا

(1) تفسير الطبري: 2/ 470.

(2)

أخرجه أحمد 1/ 293، حديث رقم 2669؛ وأخرجه الترمذي ص 1904 – 1905، كتاب صفة القيامة، باب 59: حديث حنظلة، حديث رقم 2516، وفي سنده قيس بن الحجاج، قال الحافظ في التقريب: صدوق، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح 2/ 308 – 309، حديث رقم 2043.

(3)

أخرجه البخاري ص 29، كتاب التيمم، باب 1، حديث رقم 335، وأخرجه مسلم ص 759، كتاب المساجد مواضع الصلاة، باب 1: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 1162 [2]520.

ص: 91

يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]؛ لأن هذه الآية في صنف معين من النصارى: وهم الذين منهم القسيسون، والرهبان الذين من صفاتهم أنهم لا يستكبرون؛ فإذا وجد هذا الصنف في عهد الرسول، أو بعده انطبقت عليه الآية؛ لكن اختلفت حال النصارى منذ زمن بعيد؛ نسأل الله أن يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، حتى يعرفوا حقيقة عداوة النصارى، وغيرهم من أهل الكفر، فيعدوا لهم العدة (1).

القرآن

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]

التفسير:

ما نبدِّل من آية أو نُزِلها من القلوب والأذهان نأت بأنفع لكم منها، أو نأت بمثلها في التكليف والثواب، ولكلٍ حكمة. ألم تعلم -أيها النبي- أنت وأمتك أن الله قادر لا يعجزه شيء؟

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: قال الواحدي: " قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه؟ يأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل الله: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل: 101]، الآية: وأنزل أيضا: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها} الآية"(2).

واورده الزمخشري (3) فلخصه، فذكر أنهم طعنوا في النسخ وكذلك القرطبي، وزاد أنهم أنكروا شأن القبلة (4).

والثاني: قال الثعلبي: " روي أبو أمامة سهل بن حنيف في مجلس سعيد ابن المسيب: إنّ رجلا كانت معه سور فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها، فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول الله ما جئت إلّا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّها نسخت البارحة""(5).

والثالث: وقال قتادة: " كانت الآية تنسخ الآية، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية من السورة ثم ترفع فينسيها الله تعالى نبيه، فقال الله تعالى يقص على نبيه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} "(6). وروي عن مجاهد (7)، والحسن (8) نحو ذلك.

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 181.

(2)

أسباب النزول: 34.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 176.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 61.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 254، وانظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 34، والدر المنثور: 1/ 105، والعجاب: 1/ 349 - 350، والخبر إسناده صحيح، الليث هو ابن سعد وعقيل هو ابن خالد الأيلي ويونس هو ابن يزيد وابن شهاب هو الزهري وهو مرسل صحابي وقد عزاه السيوطي إلى أبي داود في "ناسخه" وابن المنذر وابن الأنباري في "المصاحف" وأبي در الهروي في "فضائل القرآن" كما في "الدر""1/ 256" ولم يذكر أبا عبيد، ثم عزاه إلى أبي داود في ناسخه والبيهقي في "الدلائل"، قال:"من وجه آخر عن أبي أمامة".

وقد روى الطبراني عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكن يقرأان بها. فقاما ذات ليلة يصليان. فلم يقدرا منهما على حرف. فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مما نسخ" فكان الزهري يقرؤها "ما نُنسخ من آية أو ننسها" بضم النون الخفيفة.

وأورد هذا "ابن كثير""1/ 149 - 150" ثم قال: فيه "سليمان بن أرقم: ضعيف".

(6)

العجاب: 1/ 349، وأخرجه الطبري (1751): ص 2/ 474، ولفظه:" كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع".

وعزاه السيوطي أيضًا إلى أبي داود في "الناسخ والمنسوخ""انظر الدر""1/ 255" وفيه تتمة:

"يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها نهي".

(7)

تفسير الطبري (1753): ص 2/ 474.

(8)

تفسير الطبري (1754): ص 2/ 474.

ص: 92

قال ابن حجر: "ولعل قتادة أخذ ما قال من هذا الخبر [أي: الخبر الذي ذكره الثعلبي في القول السابق]، وليس في الخبر تعيين الآية الناسخة صريحا، بل ما يومئ إلى ذلك، والعلم عند الله تعالى"(1).

قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، " أي ما نبدّل من حكم آية فنغيره بآخر"(2).

قال الطبري: أي: "ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ"(3).

وقوله: " {مِنْ آيَةٍ}، فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم، فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل"(4).

قال الزجاج: " فأما النسخ في اللغة، فإبطال شيء وإقامة آخر مقامه، العرب تقول نسخت الشمسُ الظل، والمعنى أذهبت الظل وحلَّت محلَّه"(5).

وتجدر الإشارة بأن النسخ في اللغة يطلق على معنيين اثنين (6):

أحدهما: النقل، أي: نقل الشيء من مكان إلى آخر مع بقاء الأول، ومنه نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه.

والثاني: الرفع والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة إلى ضربين:

الأول: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى النسخ في الآية.

والثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52].

أما في الاصطلاح فقد مر بمرحلتين:

الأولى: في اصطلاح السلف:

ويوضحه ابن القيم بقوله: "ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة-وهو اصطلاح المتأخرين-، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارج عنه

" (7).

الثانية: في اصطلاح الأصوليين:

وقد عرفه الرازي، بقوله:"طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتاً بطريق لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه على وجه لولاه كان ثابتاً"(8).

وعرفه الآمدي، بأنه:"عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق"(9).

(1) العجاب: 1/ 350.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 471 - 472.

(4)

مفاتيح الغيب: 3/ 641.

(5)

معاني القرآن: 1/ 189.

(6)

انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/ 424 - 425، لسان العرب لابن منظور: 6/ 4407، القاموس المحيط للفيروزآبادي: 238، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 133 - 134، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 315، الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 238، تفسير القرطبي: 1/ 62.

(7)

إعلام الموقعين: 1/ 35، وانظر: الموافقات للشاطبي: 3/ 108 - 117، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/ 272 و: 14/ 101.

(8)

المحصول: ج: 1/ق: 3/ 428.

(9)

الإحكام في أصول الأحكام: 3/ 155.

ص: 93

وقد منع وقوع النسخ في القرآن أبو مسلم الأصفهاني (1)، وتبعه في ذلك: عبد المتعال محمد الجبري (2)، وعبد الكريم الخطيب (3)، والشيخ محمد الغزالي (4)، وعبد الرحمن الوكيل (5)، وفي ردود أهل العلم على أبي مسلم قديماً وحديثاً ما يكفي لدحض شبهات كل مدع عدم وقوع النسخ في القرآن الكريم. والله الموفق (6).

واختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، على وجوه (7):

أحدها: أنه قبضها، وهو قول السدي (8).

والثاني: أنه تبديلها، وهو قول ابن عباس (9).

والثالث: أنه إثبات خطها وتبديل حكمها، وهو قول ابن مسعود (10)، ومجاهد (11).

والرابع: ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب، وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب (12).

والقول الثاني هو الأشبه بالصواب، أي: ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره، وبه قال جمع من أهل التفسير، والله تعالى أعلم.

قال الواحدي: " وكثير من المفسرين حمل النسخ المذكور في الآية على معنى: نسخ الكتاب من الكتاب. فقد حكي عن عدة منهم أنهم قالوا: يريد بالنسخ ما نسخه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم من اللوح المحفوظ فأنزله عليه، وهذا ظاهر الإحالة؛ لأنه ليس كل آية نسخت للنبي صلى الله عليه وسلم من اللوح المحفوظ، فأنزلت عليه يؤتيه الله ويأتيه بخير منها، ولو كان كذلك لتسلسل الوحي حتى لا يتناهى"(13).

قوله تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]، أي "أو نتركها"(14).

قال الطبري: أي " أو لم يبدله ولم يغير"(15).

قال الصابوني: "أي نمحها من قلبك"(16).

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، على أقوال:

أحدها: أنه من النسيان، ضد التذكر. روي عن ابن عباس (17)، وسعد بن مالك (18)، ومحمد بن كعب، وقتادة، وعكرمة، نحو هذا المعنى (19).

(1) انظر في الرد عليه: مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 229 - 230، والمحصول له أيضاً: جـ: 1/ق: 3/ 460، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 3/ 165 - 179، إرشاد الفحول للشوكاني: 185، مناهل العرفان للزرقاني: 2/ 103، النسخ في القرآن لمصطفى زيد: 1/ 267.

(2)

وذلك في كتابيه: النسخ في الشريعة الإسلامية كما أفهمه، ولا نسخ في القرآن لماذا؟ . وقد تصدى للرد عليه: محمد حمزة في كتابه: الإحكام والنسخ: 100 - 112، ود. محمد محمود فرغلي في كتابه: النسخ بين الإثبات والنفي: 112 - 114.

(3)

في كتابيه: النسخ في الشريعة الإسلامية كما أفهمه، ولا نسخ في القرآن لماذا؟ . وقد تصدى للرد عليه: محمد حمزة في كتابه: الإحكام والنسخ: 100 - 112، ود. محمد محمود فرغلي في كتابه: النسخ بين الإثبات والنفي: 112 - 114.

(4)

في كتابه: نظرات في القرآن: 227 - 26 ..

(5)

في: تعليقه على الروض الأنف للسهيلي: 3/ 12 - 13

(6)

انظر ما كتبه د. سليمان اللاحم في تعليقه على الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/ 400 - 404، وما كتبه د. محمد المديفر في دراسته لكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد: 72 - 76. وانظر: مقدمة تفسيرنا، إذ تنوالنا فيها موضوح النسخ مفصلا.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 473 - 474. وتفسير الرازي: 3/ 210.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1746): ص 2/ 473.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1747): ص 2/ 473.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1748): ص 2/ 473.

(11)

انظر: تفسير الطبري (1749): ص 2/ 473.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 640.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 234، وانظر: الناسخ والمنسوخ لابي عبيد: ص 7، وتفسير الطبري: 1/ 477 - 478، ابن أبي حاتم في تفسيره: 1/ 200 - 201، وتفسير القرطبي: 1/ 54 - 56.

(14)

تفسير الطبري: 2/ 478.

(15)

تفسير الطبري: 2/ 478.

(16)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(17)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1058): ص 1/ 200.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1059)، و (1060): ص 1/ 200.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 200.

ص: 94

الثاني: أن معناه: نثبت خطها، ونبدل حكمها. قاله مجاهد (1)، وروي عن أصحاب ابن مسعود نحو ذلك (2).

الثالث: أن المعنى: نؤخرها. قاله عمر بن خطاب (3)، وروي عن أبي العالية وعطاء مثل ذلك (4).

الرابع: أو نتركها نرفعها من عندكم. قاله عبيد بن عمير (5)، وروي عن الربيع بن أنس والسدي نحو ذلك (6).

الخامس: أو نتركها لا نبدلها. قاله ابن عباس (7)، وروي عن السدي نحوه (8).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، على ثلاث قراءات (9):

القراءة الأولى: بفتح النون الأولى في (نَنسخ)؛ وضمها في (نُنسها) بدون همز، وهي قراءة أهل المدينة والكوفة.

وقراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها، فيها احتمالان (10):

الإحتمال الأول: أنها من (النسيان)، وحينئذ يكون المراد به في بعض القراءات ضد الذكر وفي بعضها الترك.

الوجه الأول: أن يكون {نُنْسِهَا} بمعنى (النسيان)، ضد الذكر، والمعنى: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها، وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله:{ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها} ، فذلك تأويل: النسيان، وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل (11).

وكذلك كان سعيد بن المسيب يقرؤها، فأنكر عليه سعد بن أبي وقاص، أخرجه النسائي (12)، وصححه الحاكم (13).

وقد روي عن قتادة في قوله: " {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} قال: كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء"(14).

وروي عن الحسن أنه قال في قوله: " {أَوْ نُنْسِهَا}، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه، فلم يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه"(15).

وروي عن ابن عباس، قال:"كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله، عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "(16).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1062): ص 1/ 200.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 200.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1063): ص 1/ 200.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 201.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1064): ص 1/ 200.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 201.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1065): ص 1/ 201.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1066): ص 1/ 201.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 181.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 473 - 476، والمحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 320 - 321، الدر المصون للسمين: 1/ 337، شرح الهداية للمهدوي: 1/ 178، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 259.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 474.

(12)

في السنن الكبرى: 6/ 289 رقم: 10996.

(13)

في المستدرك: 2/ 242 وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 1/ 55، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ: 12 رقم: 15، وسعيد بن منصور في سننه: 2/ 597 رقم: 208، وقال محققه: 2/ 599: (سنده ضعيف لجهالة القاسم بن عبد الله بن ربيعة)، وابن أبي داود في المصاحف: 107، والطبري في تفسيره (1755)، و (1757): 2/ 474 - 475.

(14)

تفسير ابن كثير: 1/ 377. قاله عبد الرزاق، عن قتادة.

(15)

أخرجه الطبري (1745): ص 2/ 472، وذكره ابن كثير في تفسيره.

(16)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1058): ص 1/ 200، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 377.

ص: 95

واسيتدل أصحاب هذا الوجه بقوله تعالى: " {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، فقد أعلم اللَّه أنه يشاء أن يُنْسى"(1).

وقد ضعف الزجاج أن تحمل الآية على (النسيان) الذي هو ضد الذكر، فقال: " وهذا القول عندي ليس بجائز، لأن اللَّه عز وجل: قد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم

في قوله {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إنَّه لا يشاء، أن يذهب بالذي أوحَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم" (2).

ثم ذكر أن في قوله تعالى: {فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ} قولان يُبْطلان أن يكون {ننسها} ، في الآية بمعنى (النسيان) (3):

أحدهما: أن قوله: {فلا تنسى} ، أي لست تترك إلا ما شاءَ اللَّه أن تترك.

والثاني: ويجوز أن يكون {إلا ما شاءَ الله} ، مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.

في حين قال أبو عليّ وغيره: "ذلك جائز، وقد وقع، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه"(4).

وقال ابن عطية: " والصحيح في هذا، أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزاً، وأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه، قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة، وأما بعد أن يحفظ، فجائز عليه ما يجوز على البشر، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث، حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: "أفي القوم أبي؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال: "فلم لم تذكرني؟ " قال: خشيت أنها رفعت". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم ترفع ولكني نسيتها"(5)(6).

قال ابن عثيمين: "والمراد به هنا رفع الآية؛ وليس مجرد النسيان؛ لأن مجرد النسيان لا يقتضي النسخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآية؛ وهي باقية"(7).

الوجه الثاني: أن يكون {نُنْسِهَا} بمعنى: (الترك)، من قول الله جل ثناؤه:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، يعني به: تركوا الله في عبادته فتركهم في العذاب، ومنه قوله تعالى:{قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126].

واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم (8)، وحسّنه الفراء (9)، ونصره أبو علي الفارسي (10).

واعترض الزجاج على هذا التفسير فقال: " وقيل في {أو ننْسِهَا} قول آخر، وهو خطأ أيضاً، قالوا: أو نَتْرُكُهَا، وهذا يقال فيه نسيت إذا تركت، ولا يقال أنسيت أي تركت"(11).

واعترض ايضا الواحدي، فقال: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس كل آية تُركت ولم تنسخ يؤتى بخير منها" (12).

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 189.

(2)

معاني القرآن: 1/ 189 - 190.

(3)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 190.

(4)

البحرالمحيط: 1/ 296.

(5)

أخرجه البخاري، في القراءة خلف الإمام (193)، والنسائي في الكبرى (8183)، وهو عند أحمد (15365) من حديث عبدالرحمن بن أبى-رضي الله عنه قال الهيتمي في مجمع الزوائد (2/ 69): "رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

وأخرجه أحمد (12904)، وابن خزيمة (1647)، من حديث عبدالرحمن بن أبزى، عن أبي-رضيا لله عنهما. وأخرجه أبو داود ص 1290، كتاب الصلاة، باب 158: الفتح على الإمام في الصلاة، حديث رقم 907، أ، قال الألباني في صحيح أبي داود، حسن، 1/ 254.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 194، ونقله أبو حيان في البحر: 1/ 296.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 182 - 183.

(8)

انظر: الناسخ والمنسوخ: 11، وتفسير القرطبي: 2/ 68.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 64 - 65.

(10)

انظر: الحجة لأبي علي: 2/ 192 - 252.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 189 - 190.

(12)

التفسير البسيط: 3/ 234.

ص: 96

وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه، لأنه بمعنى نجعلك تتركها (1).

وحكى الأزهري: {نُنْسها} ، أي نأمرُ بتركه (2)، وبه قال الزجاج (3).

يقال: أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه، ونسيتُه تركته، قال الشاعر (4):

إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها

لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها

أي ولا آمر بتركها (5).

قال القرطبي: "وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أو ننسها}، قال: "نتركها لا نبدلها" (6)، فلا يصح، ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط، والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أو ننسها}: نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه"(7).

والفرق بين (الترَك) و (النسخ)، "أن (النسخ) يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية فتُبطِل الثانيةُ العملَ بالأولى، ومعنى (الترك) أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذَلك بغير آية تَأْتِي ناسخة للتي قبلهَا، نحو {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]، ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المِحْنَة"(8).

والاحتمال الثاني: أن أصل {ننسها} ، الهمزة من (النسيء) وهو التأخير، إلا أنه أبدل من الهمزة (ألفاً)، وعلى هذا الاحتمال تتحد القراءتان.

والقراءة الثانية: بفتح النون الأولى في {نَنسخ} ؛ وفتحها في {نَنسأها} مع الهمز بعد السين وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو، "بمعنى نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء، إذا أخرته، وهو من قولهم: " بعته بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد (9):

لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى

لكالطِّوَل المُرْخى وثِنْياه باليد

يعني بقوله: (أنسأ)، أخر.

ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة، وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله ونسأ في أجله، أي أخر وزاد، وقال عليه الصلاة والسلام:"من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه"(10).

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل" (11).

وتفسير الآية على هذه القراءة: " ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها .. وقد قرأ بعضهم ذلك: {ما

(1) انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 188، والكلام بتمامه من: المحرر الوجيز: 1/ 193، وانظر: البحر المحيط: 1/ 296.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 68.

(3)

انظر: معاني القرآن: 1/ 190.

(4)

البيت لابن الاعرابي/ انظر: لسان العرب ومصباح المنير: مادة (عقب).

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 68.

(6)

أخرجه الطبري (1759): ص 2/ 476.

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 68.

(8)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 190.

(9)

ديوانه: 318 (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته المشهورة. وروايتهم: " ما أخطأ الفتى ". والطول: حبل يطول للدابة لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه " طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى!

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 637، وتفسير الثعلبي: 1/ 190.

(11)

تفسير الطبري: 2/ 476 - 477.

ص: 97

ننسخ من آية أو تُنسها}، وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ:{أو نُنسها} ، إلا أن معنى (أو تُنسها)، أنت يا محمد" (1).

قال الشيخ ابن عثيمين: "وأما {ننسأها} فهو من (النسأ)؛ وهو التأخير؛ ومعناه: تأخير الحكم، أو تأخير الإنزال؛ أي أن الله يؤخر إنزالها، فتكون الآية لم تنزل بعد؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أبدلها بغيرها"(2).

وقراءة الهمز على اختلاف وجوهها معناها التأخير، ويكون معنى الآية على هذا فيه أربعة أقوال (3):

أحدها: نؤخر نسخها ونزولها، وهو قول عطاء (4).

والثاني: نمحها لفظاً وحكماً، وهو قول ابن زيد (5).

والثالث: نؤخر حكمها ونبقي تلاوتها، أو نؤخر تلاوتها ونبقي حكمها.

والرابع: نمضها فلا ننسخها، وهو ضعيف لقوله:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} لأن ما أمضي وأُقِرَّ لا يقال فيه نأت بخير منه.

والقراءة الثالثة: بضم النون الأولى في (نُنسخ) وكسر السين؛ وضم النون في (نُنسها) بدون همز وهي قراءة ابن عامر وفيها وجهان (6):

أحدهما: أن يكون: نسخ وأنسخ، بمعنى واحد.

والثاني: أنسخته: جعتله ذا نسخ، كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلا: أقبروا فلانا، أي اجعلوه ذا قبر، قال تعالى:{ثم أماته فأقبره} [عبس: 21].

قال الطبري: فيكون المعنى: "ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من: أنسختك فأنا أنسخك، وذلك خطأ من القراءة عندنا (7)، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسها) أو (تَنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة"(8)(9).

وأولى القراءات من قرأ: {أو نُنْسها} بمعنى: نتركها، "لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله:{ما ننسخ من آية} ، قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت،

(1) تفسير الطبري: 2/ 478.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 182 - 183.

(3)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 295، الدر المصون للسمين: 1/ 337، شرح الهداية للمهدوي: 1/ 178، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 258.

(4)

انظر: البحر المحيط: 1/ 295، وأخرج الطبري بمعناه:(1763): ص 2/ 477.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 295، وأخرج الطبري بمعناه:(1762): ص 2/ 476.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 637.

(7)

القول للإمام الطبري.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 478.

(9)

وقد ذكروا في قوله تعالى: {نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، عشر قراءات شاذة، وهي: 1 - كقراءة ابن كثير وأبي عمرو إلا أنه بغير همز، ذكره أبو عبيد البكري في اللآلئ عن سعد بن أبي وقاص، قال ابن عطية وأبو حيان:(وأراه وَهِم). 2 - (تَنْسَاها) بفتح التاء بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز وهي قراءة سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر. 3 - كذلك إلا أنه بالهمز. 4 - كذلك إلا أنه بضم التاء وهي قراءة أبي حيوة. 5 - كذلك إلا أنه بغير همز وهي قراءة سعيد بن المسيب. 6 - (نُنْسئها) بضم نون المضارعة وسكون النون وكسر السين مع الهمز. 7 - (نُنَسَّها) بضم نون المضارعة وفتح النون وكسر السين مشددة، وبها قرأ الضحاك وأبو رجاء. 8 - (نُنْسِك) بضم نون المضارعة وسكون النون وكسر السين وكاف بعدها للخطاب، وهي قراءة أبيّ وابن مسعود. 9 - كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية وتشديد السين مكسورة، تروى عن الضحاك وأبي رجاء. 10 - كذلك إلا أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف (نُنَسكها)، وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه. انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 319 - 320، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 343، المحتسب لابن جني: 1/ 103، الدر المصون للسمين: 1/ 335 - 337.

ص: 98

فهو يشتمل على معنى " الإنساء " الذي هو بمعنى الترك، ومعنى " النَّساء " الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك" (1).

وقد حمل الرازي (النسيان) على معنى (الترك)، فقال:" الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى: {فنسى ولم نجد له عزما} [طه: 155] أي فترك وقال: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هاذا} [الأعراف: 51] أي نتركهم كما تركوا، والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز، لأن المنسي يكون متروكا، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقراء ننسها وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله: ما ننسك من آية أو ننسخها، وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها"(2).

وأنكر الطبري من قرأ: {أو نَنْسها} ، إذا عني به النسيان، فقال:"وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز، وأما قوله: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله، فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله"(3).

قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، "أي نأت بخير لكم منها"(4).

قال الواحدي: " أي: أصلح لمن تعبّد بها، وأنفع لهم، وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم، لا أن آيةً خيرٌ من آية؛ لأن كلام الله عز وجل واحد، وكله خيرٌ"(5).

قال أبو حيّان: الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل، والخيرية ظاهرة، لأن المأتي به، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب" (6).

قال القرطبي: " لفظة "بخير" هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية"(7).

قال الزجاج: " فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام، ودليل ذلك قوله: [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]، فهذا هو خير لنا كما قال اللَّه عز وجل، وأمَّا قوله {أَوْ مِثْلِهَا} أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ، والناس إليه أسرع، نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللَّه النبي صلى الله عليه وسلم بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا - وإِن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام"(8).

(1) تفسير الطبري: 2/ 478 - 479.

(2)

مفاتيح الغيب: 3/ 637.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 480.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 333.

(6)

البحر المحيط: 1/ 296.

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 61 - 69. (بتصرف بسيط).

(8)

معاني القرآن: 1/ 190 - 191.

ص: 99

وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، على وجوه (1):

أحدها: في المنفعة والرفق والرفعة. قاله ابن عباس (2).

والثاني: أن معنى خير منها، أي أخف منها، بالترخيص فيها، وهذا معنى قول قتادة (3).

قال الماوردي: "فيكون تأويل الآية، ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكماً منها، إما بالتخفيف في العاجل، كالذي كان من نسخ قيام الليل تخفيفاً، وإما بالنفع بكثرة الثواب في الآجل، كالذي كان من نسخ صيام أيام معدودات بشهر رمضان"(4).

الثالث: أن معناه: الأصلح لكم. اختاره الرازي (5).

الرابع: وقيل: أن لفظة" {خير}، في الآية مصدر، و {من} لابتداء الغاية"(6).

ضعّفه ابن عطية فقال: " ويقلق هذا القول لقوله تعالى أَوْ مِثْلِها إلا أن يعطف المثل على الضمير في مِنْها دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض"(7).

والراجح أن: " لفظة {خير} في الآية صفة تفضيل، والمعنى: بأنفع لكم أيها الناس في عاجل، إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل، إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية"(8). والله أعلم.

قال أبو حيان: " وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها، أي أنفع منها لكم، أو مثلها. ثم قال: أو ننساها، أي نؤخرها، فلا ننسخها ولا نبدلها. وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس، إذ هي محيلة لنظم القرآن"(9).

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، " أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله عليم حكيم قدير، لا يصدر منه إِلا كل خير وإِحسان للعباد"(10).

قال محمد بن إسحاق: " أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك"(11).

قال الزمخشري: " فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير"(12).

قال النسفي: " أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله"(13).

قال الواحدي: " أي: من النسخ والتبديل وغيرهما"(14).

قال البيضاوي: " فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ، أو بما هو خير منه"(15).

قال البغوي: أي" من النسخ والتبديل، لفظه استفهام، ومعناه تقرير، أي: إنك تعلم"(16).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 482 - 483.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 326 رقم 1074، ونص كلام ابن عباس:(خير لكم في المنفعة وأرفق بكم)، وهو عند ابن جرير في جامع البيان: 2/ 481 رقم: 1771.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1070): ص 1/ 202.

(4)

النكت والعيون: 1/ 171.

(5)

مفاتيح الغيب: 3/ 641. قال الرازي: "وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه، فإن قيل: لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس منه فزال السؤال".

(6)

المحرر الوجيز: 1/! 94.

(7)

المحرر الوجيز: 1/! 94.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 194.

(9)

البحر المحيط: 1/ 296.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1071): ص 1/ 202.

(12)

الكشاف: 1/ 176.

(13)

تفسيرالنسفي: 1/ 117.

(14)

التفسير البسيط: 3/ 234.

(15)

تفسير البيضاوي: 1/ 99.

(16)

تفسير البغوي: 1/ 135.

ص: 100

وقال القاسمي: " فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير"(1).

قال الطبري: " ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير"(2).

قال أبو السعود: " والمرادُ بهذا التقرير الاستشهادُ بعلمه بما ذكر على قدرتِهِ تعالَى على النسخ وعلى الإيتان بما هو خيرٌ من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورةِ تحت قدرته سبحانه فمِنْ علم شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياء علمُ قدرته على ذلك قطعاً"(3).

قال الراغب: " أي لا تحسبن أن تغييري الحكم حالاً فحالاً وإن لم آت بالثاني في الابتداء هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شي لا يظن ذلك، وإنما يعتبر ذلك لا يرجع إلى مصلحة العباد، وبدأ الأليق بهم في الوقت المتقدم الحكم المتقدم وفى الوقت المتأخر الحكم المتأخر"(4).

قال ابن عثيمين: "يقرر الله المخاطَب، يعني أنك قد علمت قدرة الله على كل شيء؛ ومنها القدرة على النسخ"(5).

ويحتمل الإستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} [البقرة: 106]، وجهين:

أحدهما: أن ظاهره الإستفهام المحظ، يفيد الأنكار. قاله ابن عطية (6).

والثاني: أن هذا الإستفهام معناه التقرير (7).

والراجح أن الإستفهام -هنا- معناه التقرير، ولا يحتاج إلى معادل ألبتة، "والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً، خصوصاً إذا دخل على النفي: {أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]؟ {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18]؟ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]؟ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الإنشراح: 1]؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل، لأنه إنما يراد به التقرير، والمعنى: قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء، فله التصرف في تكاليف عباده، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل"(8).

وفي إفراد المخاطب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} [البقرة: 106]، وجوها:

أحدها: أن الحكمة في ذلك، "أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك، والمنبه به، والمقرر على شيء ثابت عنده، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء، فلن يعجزه شيء، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه"(9). قاله أبو حيان.

والثاني: "إنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم، ومبدأ علمهم"(10). قاله الآلوسي.

والثالث: أن الإفراد كان أفاد المبالغة مع الاختصار (11). قاله الآلوسي.

واختلف في المخاطب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، على وجوه:

(1) محاسن التأويل: 1/ 371.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 484.

(3)

تفسير أبي السعود: 1/ 143.

(4)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 286.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 182.

(6)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 194، وانظر: روح المعاني: 1/ 354.

(7)

انظر: البحر المحيط: 1/ 296.

(8)

البحر المحيط: 1/ 296 - 297.

(9)

البحر المحيط: 1/ 297.

(10)

روح المعاني: 1/ 353.

(11)

انظر: روح المعاني: 1/ 353. [بتصرف بسيط].

ص: 101

أحدها: أن "الخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون"(1)، لأن قال بعد ذلك في الآية التالية: " {وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} .

والثاني: أن الخطاب للسامع، أي لكل واقف عليه. قاله أبو حيان (2).

والثالث: أن الخطاب لمنكري النسخ، "والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا"(3).

قال المراغي: و"الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شاء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته"(4).

قال الآلوسي: " والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير، لتربية المهابة، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم"(5).

قال ابن عطية: " ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ، وقوله تعالى {عَلى كُلِّ شَيْءٍ}، لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام العرب الموجود"(6).

قال ابن كثير: " يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى .. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم - لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، ً وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا"(7).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: ثبوت النسخ، وأنه جائز عقلاً، وواقع شرعاً؛ وهذا ما اتفقت عليه الأمة إلا أبا مسلم الأصفهاني؛ فإنه زعم أن النسخ مستحيل؛ وأجاب عما ثبت نسخه بأن هذا من باب التخصيص؛ وليس من باب النسخ؛ وذلك لأن الأحكام النازلة ليس لها أمد تنتهي إليه؛ بل أمدها إلى يوم القيامة؛ فإذا نُسِخت فمعناه أننا خصصنا الزمن الذي بعد النسخ. أي أخرجناه من الحكم.؛ فمثلاً: وجوب مصابرة الإنسان لعشرة حين نزل كان واجباً إلى يوم القيامة شاملاً لجميع الأزمان؛ فلما نُسخ أخرج بعض الزمن الذي شمله الحكم، فصار هذا تخصيصاً؛ وعلى هذا فيكون الخلاف بين أبي مسلم وعامة الأمة خلافاً لفظياً؛ لأنهم متفقون على جواز هذا

(1) روح المعاني: 1/ 353.

(2)

البحر المحيط: 1/ 296.

(3)

روح المعاني: 1/ 353.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 188.

(5)

روح المعاني: 1/ 353.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 194.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 378.

ص: 102

الأمر؛ إلا أنه يسميه تخصيصاً؛ وغيره يسمونه نسخاً؛ والصواب تسميته نسخاً؛ لأنه صريح القرآن: {ما ننسخ من آية أو ننسها} ؛ ولأنه هو الذي جاء عن السلف.

2 ومن فوائد الآية: أن الناسخ خير من المنسوخ؛ لقوله تعالى: {نأت بخير منها} ؛ أو مماثل له عملاً. وإن كان خيراً منه مآلاً.؛ لقوله تعالى: {أو مثلها} .

3 ومنها: أن أحكام الله سبحانه وتعالى تختلف في الخيرية من زمان إلى زمان؛ بمعنى أنه قد يكون الحكم خيراً للعباد في وقت؛ ويكون غيره خيراً لهم في وقت آخر ..

4 ومنها: عظمة الله عز وجل لقوله تعالى: {ما ننسخ} : فإن الضمير هنا للتعظيم؛ وهو سبحانه وتعالى أهل العظمة ..

5.

ومنها: إثبات تمام قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} ؛ ومن ذلك أنه قادر على أن ينسخ ما يشاء ..

6 ومنها: أن قدرة الله عامة شاملة؛ لقوله تعالى: (أن الله على كل شيء قدير).

7 ومنها: أن القادر على تغيير الأمور الحسية قادر على تغيير الأمور المعنوية؛ فالأمور القدرية الكونية الله قادر عليها؛ فإذا كان قادراً عليها فكذلك الأمور الشرعية المعنوية؛ وهذا هو الحكمة في قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} بعد ذكر النسخ ..

8 ومنها: أن الشريعة تابعة للمصالح؛ لأن النسخ لا يكون إلا لمصلحة؛ فإن الله لا يبدل حكماً بحكم إلا لمصلحة ..

قد يقول قائل: ما الفائدة إذاً من النسخ إذا كانت مثلها والله تعالى حكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة؟

فالجواب: أن الفائدة اختبار المكلف بالامتثال؛ لأنه إذا امتثل الأمر أولاً وآخراً، دل على كمال عبوديته؛ وإذا لم يمتثل دل على أنه يعبد هواه، ولا يعبد مولاه؛ مثال ذلك: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ هذا بالنسبة للمكلف ليس فيه فرق أن يتجه يميناً، أو شمالاً؛ إنما الحكمة من ذلك اختبار المرء بامتثاله أن يتجه حيثما وجه؛ أما المتجَه إليه، وكونه أولى بالاتجاه إليه فلا ريب أن الاتجاه إلى الكعبة أولى من الاتجاه إلى بيت المقدس؛ ولهذا ضل من ضل، وارتد من ارتد بسبب تحويل القبلة: قال الله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} [البقرة: 143]؛ فالإنسان يبتلى بمثل هذا النسخ؛ إن كان مؤمناً عابداً لله قال: سمعت وأطعت؛ وإن كان سوى ذلك عاند، وخالف: يقول: لماذا هذا التغيير! فيتبين بذلك العابد حقاً، ومن ليس بعابد.

9 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى وعد بأنه لا يمكن أن ينسخ شيئاً إلا أبدله بخير منه، أو مثله؛ ووعده صدق ..

10 ومنها: ذكر ما يطمئن به العبد حين يخشى أن يقلق فكره؛ لقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها} .

القرآن

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 107]

التفسير:

أما علمتَ -أيها النبي- أنت وأمتك أن الله تعالى هو المالك المتصرف في السموات والأرض؟ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويأمر عباده وينهاهم كيفما شاء، وعليهم الطاعة والقَبول. وليعلم من عصى أن ليس لأحد من دون الله من وليٍّ يتولاهم، ولا نصير يمنعهم من عذاب الله.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 107]، ألم تعلم يا محمد، " أن الله وحده الذي له ملك السموات"(1).

(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 351.

ص: 103

قال الصابوني: " أي ألم تعلم أن الله هو المالك المتصرف في شئون الخلق يحكم بما شاء ويأمر بما شاء؟ "(1).

قال القرطبي: أي "بالإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الأمر والإرادة .. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته"(2).

قال الواحدي: أي" أنه يملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ"(3).

قال الشوكاني: "أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد، والاختراع، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأشخاص"(4).

قال ابن عثيمين: " أي أن الله وحده الذي له ملك السموات، والأرض: ملك الأعيان، والأوصاف، والتدبير؛ فأعيان السموات، والأرض، وأوصافها ملك لله؛ و"التدبير" يعني أنه تعالى يملك التدبير فيها كما يشاء: لا معارض له، ولا ممانع"(5).

قال المراغي: فالله تعالى "له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقرر ما شاء منها بحسب ما يرى من الفائدة"(6).

قال أبو السعود: " ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه لا مُعارِضَ لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه فَمْن هذا شأنُه كيف يخرُج عن قدرته شئ من الأشياء"(7).

قال الآلوسي: " فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، فلذا ترك العطف وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر"(8).

وخص ّ {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} بالملك، لكونهما من أعظم المخلوقات الظاهرة، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه (9).

قال الزجاج: " ومعنى (الملك) في اللغة: تمام القدرة واستحكامها .. ومعنى الآية: إِن اللَّه يَمْلك السَّمَاوَات والأرض ومن فيهن فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغيره"(10).

وفي تكرار قوله: {ألم تعلم} ، وترك العطف، على الأول، وجهان:

احدهما: أنه "تقريرٌ مستقل للاستشهاد على قدرتِهِ تعالَى على جميع الأشياء"(11).

قال الراغب: "إنه لا جعل حكم الثاني كالعلة للأول، أخرجه مخرج الأول، فكأنه قيل: هو على كل شي قدير، لأن له ملك السماوات والأرض"(12).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 76.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 69.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 235.

(4)

تفسير فتح القدير: 1/ 127.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 351.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 189

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 143. ونقله بتمامه الآلوسي في روح المعاني: 1/ 353.

(8)

روح المعاني: 1/ 353.

(9)

انظر: روح المعاني: 1/ 353.

(10)

معاني القرآن: 1/ 191.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 143.

(12)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 289.

ص: 104

والثاني: وقيل: " وإنما لم يعطَفْ أن مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعاراً باستقلال العلم بكلَ منهما وكفايتِه في الوقوف على ما هو المقصودُ "(1).

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107]، " أي: ما لكم وليٌّ يرعى شئونكم أو ناصر ينصركم غير الله تعالى فهو نعم الناصر والمعين" (2).

قال الواحدي: " تحذير العباد من عذابه، إذ لا مانع منه"(3).

قال البيضاوي: " وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم، والفرق بين الولي والنصير. أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه"(4).

قال المراغي: " أي ناصركم ومعينكم هو الله وحده فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذى"(5).

قال الشوكاني: "وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره، ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول، والامتثال، والتعظيم، والإجلال"(6).

قال البغوي: " {مِنْ وَلِيٍّ}: قريب وصديق، وقيل: من وال وهو القيم بالأمور، {وَلا نَصِيرٍ}، أي: ناصر يمنعكم من العذاب"(7).

قال الراغب: " الولي: يقال تارة لمن له موالاة نسبية أو خلف، وتارة لمن له ولاية سلطانية، وإنما ذكر (الولي والنصير)، وهما متقاربان بالعنف، لأنه قد ينفك الولي من النصرة بأن يكون ضعيفاً، والنصير من الولاية بأن يكون عن المنصور أجنبياً"(8).

قال الآلوسي: "والولي: المالك، والنصير: المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون- بل يكون أجنبيا"(9).

بما تعلق به من العلم على تعلُّق إرادتِه تعالى بما ذُكر من الإتيان بما هو خيرٌ من المنسوخ أو بمثله فإن مجرَّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصولَه البتة وإنما الذي يستدعيه كونُه تعالى مع ذلك ولياً ونصيراً لهم فمن علم أنه تعالى وليُّه ونصيرُه على الاستقلال يعلم قطعاً أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوِّضُ أمرَه إليه تعالى ولا يخطُر بباله ريبةٌ في أمر النسخ وغيرِه أصلاً " (10).

قال أبو حيان: "انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة (11)، وناسب الجمع هنا، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصاً في العموم، فناسب كون المنفي عنه يكون عاماً أيضاً، كان المعنى: وما لكل فرد منكم فرد فرد {مِن وَلِيّ وَلا نَصِير} ،

ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير، وهو إيجاب من حيث المعنى، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفياً للولي والناصر، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء، ولا مغالب له تعالى فيما يريد" (12).

(1) تفسير أبي السعود: 1/ 143، والكلام بتمامه في روح المعاني: 1/ 353.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 235.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 100.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 189.

(6)

تفسير فتح القدير: 1/ 127.

(7)

تفسير البغوي: 1/ 135.

(8)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 288.

(9)

روح المعاني: 1/ 353، وانظر: تفسير أبي السعود: 1/ 144.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 144، ونقله بتمامه الآلوسي في روح المعاني: 1/ 353.

(11)

ضمير الإفراد في: {أَلَمْ تَعْلَمْ} ، إلى ضمير الجماعة في:{وَمَا لَكُمْ} .

(12)

تفسير البحر المحيط: 1/ 515.

ص: 105

وإن قيل: أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟ قيل: عن هذا ثلاثة أجوبة (1):

أحدها: أن قوله: {ألم تعلم} ، بمعنى: أعلمت.

والثاني: أنه خارج مخرج التقرير، لا مخرج الاستفهام. كما قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ: اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم أَنتَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} [المائدة: 116]، خرج مخرج التقرير لا مخرج الاستفهام.

والثالث: أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، ألا تراه قال بعد ذلك {وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ، فإن "جمع الضمير في {لَكُمْ}، دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته"(2).

والأقرب: أن الكلام قد أخرج الكلام مخرج التقرير" لكونه أبلغ في حكم الخطابة"(3)، وذلك كقول جرير (4):

أَلَسْتم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي: أنتم كذلك.

كما أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم (5):

إلى السراج المنير أحمد، لا

يَعْدِلني رغبة ولا رهب

عنه إلى غيره ولو رفع النـ

اس إليّ العيونُ وارتقبوا

وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو

عنفني القائلون أو ثَلَبُوا

لج بتفضيلك اللسان، ولو

أكثر فيك الضِّجاج واللجَب

أنت المصفي المحض المهذب في النـ سبة، إن نص قومَك النسب

فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته.

وكما قال جميل بن معمر (6):

ألا إن جيراني العشية رائح

دعتهم دواع من هوى ومنادح

فقال: " ألا إن جيراني العشية " فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال:" رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى (7):

خليلي فيما عشتما، هل رأيتما

قتيلا بكى من حب قاتله قبلي

وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها.

فكذلك قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 172.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 195.

(3)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 289.

(4)

ديوانه: 85، وانظر: المجموع شرح المهذب: 10/ 298، والمعجم المفصل: 2/ 133، وانظر 2/ 363.

(5)

الهاشميات: 34، والحيوان للجاحظ 5: 170 - 171.

(6)

لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه. والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها

ركبت، ولم تعجز على المنادح وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه، والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض.

(7)

الأمالي 2: 74، والأغاني 1: 117، 7: 140، وهي قصيدة من جيد شعر جميل.

ص: 106

قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك (1).

قال الراغب: " وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ألم تعلم}، وإن كان الخطاب له ولغيره، لذكره العلم ولا أحد من البشر أعلم بذلك منه- عليه السلام، أو قد وقف من أسرار ملكوت السموات والأرض على ما لم يوقف عليه غيره"(2).

وقوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 107]، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت (3):

يا نفس مالك دون الله من واقي

وما على حدثان الدهر من باقي

يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره (4).

قال الراغب: " وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّه} ِإذا تصور خطاباً للكفار اقتضى وعيدا أي لأولي وناصر يحميكم عنه نحو قوله تعالي.

{إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} إدا تصور خطابة للمؤمنين اقتضى تسكيناً لهم أي لا تعتدوا بمن يواليكم وينصركم سواه، كقوله:{ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} ، وإذا اعتبر بهما فالمعنيان فيهما موجودان أي لا تعتقدوا أن لكم ولياً وناصراً إذا لم يكن الله وليكم تنبيها أنه تعالي هو الذي لا يمكن تصور ولي وناصر مع تصور ارتفاعه عز وجل" (5).

وقراءة الجماعة (وَلَا نَصِيرٍ) بالخفض عطفا على (ولي) ويجوز (وَلَا نصيرُ) بالرفع عطفا على الموضع، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير (6).

قال أبو حيان: "وتضمنت هاتان الجملتان (7) التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف، وهما: القدرة والاستيلاء، لأن الشخص قد يكون قادراً، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل، فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية، كمل بذلك التصرف مع الإرادة، وبدأ بالتقرير على وصف القدرة، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان"(8).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: تقرير عموم ملك الله؛ لقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} ؛ ولا يرد على هذا إضافة الملك للإنسان، كما في قوله تعالى:{أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3]؛ فإن هذه الإضافة ليست على سبيل الإطلاق؛ لأن ملك الإنسان للأشياء ملك محدود، وناقص، وقاصر؛ محدود من حين استيلائه عليه إلى أن يخرج عن ملكه ببيع، أو هبة، أو موت، أو غير ذلك؛ كذلك هو ناقص: فهو لا يملك التصرف فيه كما يشاء؛ بل تصرفه مقيد بما يباح له شرعاً؛ ولهذا لو أراد أن يحرق ملكه لم يملك ذلك؛ كذلك أيضاً ملك الإنسان قاصر؛ فهو لا يملك إلا ما تحت يده؛ فلا يشمل ملك الآخرين ..

2 ومن فوائد الآية: اختصاص ملك السموات، والأرض بالله؛ وهذا مأخوذ من تقديم الخبر، حيث إن تقديم الخبر يدل على الحصر؛ لقوله تعالى:{له ملك السموات والأرض} ..

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 484 - 487.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 289.

(3)

ديوانه: 43. ومثله قول ابن أحمر:

إن نحن إلا أناس أهل سائمة

وما لهم دونها حرث ولا غُرر

يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 489.

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 288 - 289.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 69.

(7)

أي: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وَ (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).

(8)

تفسير البحر المحيط: 1/ 515.

ص: 107

3 ومنها: أن من ملك الله أنه ينسخ ما يشاء، ويثبت؛ فكأن قوله تعالى:{ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} تعليل لقوله تعالى: {ما ننسخ من آية} ؛ فالمالك للسموات والأرض يتصرف فيهما كما شاء ..

4 ومنها: أنه لا أحد يدفع عن أحد أراد الله به سوءاً؛ لقوله تعالى: {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} .

5 ومنها: أنه يجب على المرء أن يلجأ إلى ربه في طلب الولاية، والنصر ..

فإذا قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [الأنفال: 62]، ويقول تعالى:{إلا تنصروه فقد نصره الله} [التوبة: 40]؛ فأثبت نصراً لغير الله ..

فالجواب: أن إثبات النصر لغير الله إثبات للسبب فقط؛ وليس نصراً مستقلاً؛ والنصر المستقل من عند الله؛ أما انتصار بعضنا ببعض فإنه من باب الأخذ بالأسباب؛ وليس على وجه الاستقلال ..

6 ومن فوائد الآية: أن ما يريده الإنسان فهو إما جلب منفعة يحتاج إلى ولي يجلبها له؛ وإما دفع مضرة يحتاج إلى نصير يدفعها عنه ..

القرآن

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108]

التفسير:

بل أتريدون- أيها الناس- أن تطلبوا من رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أشياء بقصد العناد والمكابرة، كما طُلِبَ مثل ذلك من موسى. علموا أن من يختر الكفر ويترك الإيمان فقد خرج عن صراط الله المستقيم إلى الجهل والضَّلال.

اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، على أقوال (1):

أحدها: قال ابن عباس: "قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، الآية (2).

والثاني: أخرج الطبري وابن أبي حاتم، عن السدي:" {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة"(3). وروي عن قتادة (4) مثل ذلك.

والثالث: قال مجاهد: " سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال: " نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله:{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} ، أن يريهم الله جهرة" (5). وذكر الواحدي عن ابن عباس (6) نحو ذلك.

والرابع: قال ابن حجر: "وحكى ابن ظفر أنه قيل: إنها نزلت في من قال من المسلمين لما رأوا شجرة يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط. فقال: هذا كقول قوم موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة} [الأعراف: 168]، قال ابن ظفر: لأن التبرك بالشجر واتخاذها عيدا يستدرج من يجيء بعدهم إلى عبادتها"(7).

(1) انظر: أسباب النزول للواحدي: 34 - 35، وتفسير الطبري: 2/ 489 - 491.

(2)

أخرجه الطبري (1777): ص 2/ 489 - 490، وابن أبي حاتم (1074): ص 1/ 202، وانظر: سيرة ابن هشام 2: 197.

(3)

تفسير الطبري (1778): ص 2/ 490، وابن أبي حاتم (1077): ص 1/ 203.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1779): ص 2/ 490، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 203.

(5)

أخرجه الطبري (1781)، وانظر:(1780)، و (1782): ص 2/ 490 - 491، وابن أبي حاتم (1075): ص 1/ 203.

(6)

انظر: أسباب النزول: 34. وفيه: " قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أمية ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا، ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية".

(7)

العجاب في بيان الأسباب: 1/ 353.

قلت: ومثل هذا لا يصلح أن يستند إليه في سبب النزول؟

إذ لم أجد ذكرا عن هذا السبب في: تفسير مقاتل والطبري وابن أبي حاتم والسمرقندي والماوردي والزمخشري وابن عطية وابن الجوزي، والقرطبي والخازن وابن كثير والسيوطي ورشيد رضا وسعيد حوى.

وقد ذكره الرازي "3/ 254" وأبو حيان "1/ 346" مثل ما هنا وذكره الآلوسي "1/ 355" بزيادة منها أن ذلك في غزوة خيبر، ولم ينسبوه إلى قائل معين، والثلاثة بعد ابن ظفر.

وهذا الحديث يرويه ابن إسحاق -كما في "السيرة" لابن هشام "ق 2/ 442" وأحمد بن حنبل 5"/ 218"، والترمذي في "السنن" "كتاب الفتن "3/ 321 - 322" وقال: حسن صحيح -والنسائي في "الكبرى"- كتاب التفسير كما في "تحفة الأشراف""11/ 112""15516" أربعتهم عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي عن أبي واقد الليثي "أنهم خرجوا عن مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها "ذات أنواط" قال: "فمررنا بسدرة خضراء عظيمة. قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا إلها ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلتم والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} إنها لسنن، لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة". واللفظ لأحمد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية [138 من الأعراف]: ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا ولم يذكر في هذا الحديث -كما هو واضح- نزول آية.

ص: 108

والخامس: قال أبو العالية: "قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]. قال: وقال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن "(1). وقال: " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك "(2)، فأنزل الله:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} " (3).

قال ابن حجر: " وأولى بأن يكون سببا لنزول هذه الآية وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم (4) بسند قوي عن أبي العالية"(5)، ثم ذكر الخبر.

قال الإمام ابن كثير: "نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" (6)، ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة (7)، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (8)، وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على

(1) صحيح مسلم (233): ص 1/ 209، والترمي (214): ص 1/ 419.

(2)

صحيح مسلم (131): ص 1/ 118، وسنن الدارمي (2786): ص 2/ 414، والمعجم الكبير (12760): 12/ 1162.

(3)

أخرجه الطبري (1783): ص 2/ 491، وابن أبي حاتم (1076): ص 1/ 203، وهذا حديث مرسل، من مراسيل أبي العالية. وقد نقله ابن كثير 1: 279، عن الطبري. ونقله السيوطي 1: 107، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم. وأبو العالية الرياحي: ثقة من كبار التابعين، كما قلنا في:184. ونزيد هنا أنه مترجم في التهذيب والكبير 2/ 1/298، والصغير: 109، وابن سعد 7/ 1 /81 - 85، والإصابة 2: 221. ولكن الاحتجاج بحديثه - كغيره من التابعين فمن بعدهم - هو في الإسناد المتصل، أما المرسل والمنقطع، فلا حجة فيهما.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1076): ص 1/ 203، وأخرجه الطبري (1783): ص 2/ 491. وهو حديث مرسل كما سبق.

(5)

العجاب في بيان الأسباب: 1/ 352.

(6)

(") صحيح البخاري برقم (7289) وصحيح مسلم برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري في صحيحه برقم (5308، 5259) ومسلم في صحيحه برقم (1492) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(8)

صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).

ص: 109

أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" (1)، وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم قال:"ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع (2).

وأخرج الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: عن البراء بن عازب، قال:"إن كان ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب، وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي عشرة مسألة، كلها في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه"(3) "

فيمكن القول بأن الأسئلة المنهية عنها هي أسئلة التعنت والاعتراض (4)، كما قال تعالى:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]، فهذه ونحوها، هي المنهي عنها، وأما سؤال الاسترشاد والتعلم، فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ويقررهم عليه، كما في قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]، ونحو ذلك، ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة، قد تصل بصاحبها إلى الكفر، قال:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108](5).

قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، "أي بل أتريدون يا معشر المؤمنين أن تسألوا نبيكم كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل"(6).

واختلف في الخطاب في الآية الكريمة، على أقوال (7):

أحدها: إنه لليهود، وذلك حينما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات يأتي بها.

اختاره الرازي (8).

(1) صحيح مسلم برقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم في صحيحه برقم (12).

(3)

ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 454) من طريق عبد الله بن عمر بن أبان، عن محمد بن فضيل به مطولاً.

(4)

يقول الإمام الرازي: " اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلبا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا، وإن كان ذلك طلبا لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام، فهذا أيضا لا يكون كفرا؛ فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ولم يكن ذلك كفرا، فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة، وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال". (انظر: تفسيره: 3/ 214).

(5)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 62.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(7)

هذا اختيار الشيخ ابن عثيمين، انظر: تفسيره: 1/ 185.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 644. واحتج بأن: " هذه السورة من أول قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] إلى قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]، حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأن الآية مدنية ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله فإذا سأله كا متبدلا كفرا بالإيمان".

ص: 110

الثاني: إنه للمشركين؛ لقوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} [الإسراء: 90].

والثالث: إنه للمسلمين. وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم، واستدلوا عليه بوجوه (1):

الأول: أنه قال في آخر الآية: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين.

الثاني: أن قوله: {أم تريدون} يقتضي معطوفا عليه وهو قوله: {لا تقولوا راعنا} [البقرة: 104] فكأنه قال: وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟

الثالث: أن المسلمين كانوا يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه.

الرابع: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

قال الشيخ ابن عثيمين: " والآية صالحة للأقوال كلها؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول للجميع؛ لكن تخصيصها باليهود يبعده قوله تعالى: {كما سئل موسى من قبل}؛ فمعنى الآية: أتريدون أن توردوا الأسئلة على رسولكم كما كان بنو إسرائيل تورد الأسئلة على رسولها؛ ولا شك أن الاستفهام هنا يراد به الإنكار على من يكثرون السؤال على النبي صلى الله عليه وسلم"(2).

واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108]، وذكروا وجوها (3):

الأول: أنها (متصلة) عديلة (الألف) بمعنى الاستفهام، وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟ . وهذا قول بعض البصريين.

قال الحافظ ابن كثير: "هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] "(4).

قال الواحدي: " فإن قيل: كيف يُرَدّ {أم تريدون} عليه، والأول خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني خطاب للجماعة؟ قيل: الله تعالى رجع في الخطاب من التوحيد إلى الجمع، وما خوطب به عليه السلام فقد خوطب به أُمّته، فيكتفى به من أُمّته، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فوحَّد ثم جَمَعَ، كذلك فيما نحن فيه، ويكون المعنى على هذا: أيُّهما عندكم العلم بأن الله قدير، وأن له ملك السماوات والأرض، أم إرادة سؤال الرسول الآيات؟ والله تعالى علم أيهما عندهم"(5).

والثاني: أنها (منقطعة) بمعنى استفهام منقطع من الكلام، "كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب" (6).

وليس قوله: {أم تريدون} على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم، ومنه قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8]، "أي: بل يقولون" (7)، ومن ذلك قول الأخطل (8):

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 3/ 643 - 644.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 353.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 492 - 494.

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 381.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 237.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 195.

(7)

تفسير الراي: 3/ 643.

(8)

ديوانه: 41، ونقائض جرير والخطل:70. وواسط: قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة، وهي من منازل بني تغلب، وهي غير واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة. الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بتباشير الصباح، فهي سواد مختلط ببياض وحمرة.

ص: 111

كذبَتْك عينُك أم رأيت بواسط

غَلَس الظلام من الرَّباب خيالا

وعلى هذا القول جمع من أهل العلم، منهم ابن كثير (1)، وصاحب الكشاف، إذ يقول:" (أم) هذه هي المنقطعة التي بمعنى (بل) أي (بل تريدون) وفي هذا توبيخ وتقريع والكاف في قوله {كما سئل} في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي سؤالا مثل ما سئل موسى من قبل"(2).

والثالث: وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: {أم تريدون} استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه:{الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 1 - 3]، فجاءت " أم " وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه، وقال قائل هذه المقالة: " (أم) في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين:

إحداهما: أن تُفَرِّق معنى (أي).

والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ (الألف) أو بـ (هل)

وإن شئت قلت في قوله: {أم تريدون} ، قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله:{ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} " (3).

والرابع: وقيل: (أم) هنا منقطعة بمعنى (بل) و (همزة الاستفهام)؛ أي: (بل أتريدون)؛ والإضراب هنا ليس للإبطال؛ لأن الأول ليس بباطل؛ بل هو باق؛ فالإضراب هنا إضراب انتقال؛ و "الإرادة" هنا بمعنى المشيئة؛ وإن شئت فقل: بمعنى المحبة (4).

وقال مكي وغيره: "وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى (بل) إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده"(5).

قال ابن عطية: "وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره"(6).

والصواب أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وذلك لما جاءت به الآثار التي ذكرها الإمام الطبري، إذ يقول:"وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ " أم "، وإن كانت " أم " أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام، ونظيره قوله جل ثناؤه: {الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 1 - 3] وقد تكون (أم) بمعنى (بل)، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه (أي)، فيقولون: "هل لك قِبَلَنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ "، وقال الشاعر (7):

فوالله ما أدري أسلمى تغولت

أم النوم أم كل إلي حبيب

يعني: بل كل إلي حبيبا (8).

(1) انظر: تفسيره: 1/ 381. إ يقول: " وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي: بل تريدون".

(2)

تفسير الكشاف: 1/ 128.

(3)

معاني القرآن للفراء: 1/ 71.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 353.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 195.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 195.

(7)

(") لم أتعرف على قائله، ذكره الطبري في تفسيره: 2/ 493، وفي معاني القرآن للفراء 1: 72، واللسان (أمم)، والصاحبي:98. وفي المطبوعة هنا: " تقولت. . أم القول، وهو خطأ محض. وقوله:" تغولت "، أي تصورت في صورة امرأة أحسها وأراها. من تغول الغول: وهي أن تتلون وتتخيل في صور شتى. يعنى أنها بعيدة لا شك في بعدها، ولكنه يخال أنه يراها أمامه ماثلة قائمة. وقال الأخطل:

وتعرضت لك بالأباطح بعد ما

قطعت بأبرق خلة ووصالا

وتغولت لتروعنا جنية

والغانيات يرينك الأهوالا

ثم يقول: " أم النوم " أي: أم هو حلم. بل كلاهما حبيب إلى، يعني أي ذلك كان، فهو حبيب إلى.

(8)

انطر: تفسير الطبري: 2/ 493 - 494، ومعاني القرآن للفراء: 1/ 71.

ص: 112

وانشد ابن الأنباري على هذا (1):

تروحُ من الحيِّ أم تَبْتَكرْ

وماذا يضُرُّك لو تَنْتَظِرْ

فقال: يجوز أن تكون أم في هذا البيت مردودة على الألفِ المُضْمَرة مع تروح وكافية منها، كقوله (2):

فوالله ما أدري وإنْ كنتُ داريًا

بسبعٍ رمينَ الجمرَ أم بثمانِ

ويجوز أن يكون هي حرف الاستفهام متوسطًا (3).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {كَمَا سُئِلَ} [البقرة: 198]، على وجوه (4):

أحدها: قرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره {سيل} ، بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء.

والثاني: وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء، مع ضم السين.

والثالث: وقرأ الجماعة: {سُئِلَ} .

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} [البقرة: 108]، أي: ومن "يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان"(5).

واختلف في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} [البقرة: 108]، على وجوه (6):

أحدهما: أن معناه: ومن يستبدل الكفر، وهو الجحود بالله وبآياته، بالإيمان وهو التصديق بالله وبآياته والإقرار به (7).

والثاني: ومن يتبدل الشدة بالرخاء. قاله أبو العالية (8).

وضعّفه ابن عطية قائلا: " وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به"(9).

والرأي الأول هو الصواب، أما القول الثاني فهو مفهوم بعيد من ظاهر الخطاب. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]، " أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي"(10).

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: " {فقد ضل سواء السبيل}، قال: عن عدل السبيل"(11).

قال الطبري: أي: فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه" (12).

قال ابن عطية: " أي: "أخطأ الطريق" (13).

وأصل (الضلال) عن الشيء، "الذهاب عند والحيد، ثم يستعمل في الشيء الهالك، والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة:(ضُل بن ضُل)، و (قُل بن قُل)(14)، ومعنى الضلال في الآية: الذَهابُ عن الاستقامة (15)، قال الأخطل (16):

(1) البيت لامرئ القيس، ينظر:"ديوانه" ص 68، "لسان العرب" 5/ 2777، (مادة: عبد)، "المعجم المفصل" 3/ 31.

(2)

البيت لعمر بن أبي ربيعة، ينظر:"ديوانه" ص 266، "المعجم المفصل" 8/ 186.

(3)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 237 - 238.

(4)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 195.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 494 - 495. وتفسير ابن كثير: 1/ 382.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 494.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1784): ص 2/ 495.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 159.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(11)

تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 204.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 498.

(13)

المحرر الوجيز: 1/ 195.

(14)

تفسير الطبري: 2/ 495 - 496.

(15)

انظر: الوسيط: 1/ 191.

(16)

ديوان الأخطل: 250، ونقائض جرير والأخطل: 83، و"تفسير القرطبي: 14/ 91، والماوردي: 3/ 293، ووضح البرهان للغزنوي: 2/ 175. والبحر المحيط: 5/ 513 - 514، والتفسير البسيط: 3/ 240.

ص: 113

كنتُ القَذَى في موجِ أكدرَ مُزبدٍ

قذَفَ الأتيُّ به فضلَّ ضلالا

أي: ذهب يمينًا وشمالًا (1).

قال ابن عاشور: "و (السواء): الوسط من كل شيء (2)، قال بلعاء بن قيس (3):

غَشَّيْتُه وهو في جَأَوَاءَ باسلة

عَضْبَاً أصاب سواءَ الرأس فانفلقا

ووسط الطريق: هو الطريق الجادة الواضحة، لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية" (4).

و{السبيلُ} في اللغة: الطريقُ، والمراد به طريق الاستقامة" (5)، و"هذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6 - 7] " (6).

قال ابن عطية: " و {السَّبِيلِ}، عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها"(7).

واختلف في قوله تعالى: {(سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]، على وجهين:(8):

أحدهما: أن (السواء) أي: القصد والمنهج، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عز وجل (9).

والثاني: أن (السواء) من كل شيء: الوسط، قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ومنه قوله:{سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]، أي:"وسطه، لاستواء مقادير نواحيه إليه، ومنه قوله {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، يعني: أعلمهم، حتى يستوي علمك وعلمهم"(10).

وقال عيسى بن عمر: "كتبت حتى انقطع سوائي، [يعني وسطي](11)، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم، على ما ذكر ابن إسحاق وغيره (12):

يا ويح أصحاب النبي ورهطه

بعد المغيب في سواء الملحد

وقال أبو عبيد: هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو عندي وهم منه" (13).

(1) انظر: التفسير البسيط: 3/ 240.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 195.

(3)

شرح ديوان الحماسة: 1/ 13. غَشيته أَي فنعت رَأسه بِالسَّيْفِ والجأواء الكتيبة المخضرة من كَثْرَة السِّلَاح والبسالة من البسل وَهُوَ الْحَرَام كَأَنَّهَا لتمنعها يمْتَنع لقاؤها والعضب السَّيْف الْقَاطِع والسواء الْوسط مَعْنَاهُ رب فَارس صفته هَكَذَا أَنا ضَربته وَهُوَ فِي جَيش تَامّ السِّلَاح كريه اللِّقَاء بِسيف قَاطع أصَاب وسط رَأسه فشقه.

(4)

تفسير ابن عاشور: 1/ 667 - 668.

(5)

روائع البيان: 2/ 34.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 498.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 196.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 495 - 496. وتفسير القرطبي: 2/ 70.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 70.

(10)

التفسير البسيط: 2/ 108.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 496، وتفسير القرطبي: 2/ 70، وروائع البيان: 2/ 34.

(12)

ديوانه: 98. وعنى بقوله: (ورهطه) المهاجرين رضي الله عنهم، والمغيب مصدر غيبه في الأرض: واراه، و (الملحد) بضم الميم وفتح الحاء بينهما لام ساكنة: هو اللحد، والقبر.

(13)

المحرر الوجيز: 1/ 196، وانظر: تفسير الطبري: 2/ 496، وتفسير القرطبي: 2/ 70، وروائع البيان: 2/ 34.

ص: 114

قلت: وكلا القولين صحيحان، لأن الذي يخرج عن سواء السبيل، "فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29] "(1).

وقد قراء: " {فَقَدْ ضَلَّ}، بالإدغام وبالإظهار في السبعة"(2).

يقول أبو حيّان: " ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى، كنى عنها بالسبيل، وجعل من حاد عنها: كالضال عن الطريق، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان، وأخرج ذلك في صورة شرطية، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك، وتبعيداً منه، فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله، وخاطبهم بذلك، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية. وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع، لأنه ضلال عن المنهج القويم، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً، وعجزها تكفيراً وضلالاً، وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة"(3).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: إنكار كثرة الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستفهام: {أم تريدون} يقصد به الإنكار؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من ذلك: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"(4)؛ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته"(5)؛ فهذا نهي، وإنكار على الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل؛ والمطلوب من المسلم في زمن الوحي أن يسكت حتى ينزل ما أراد الله عز وجل من أمر أو نهي ..

2 ومن فوائد الآية: تأكيد ذم هذا النوع من الأسئلة؛ لقوله تعالى: {رسولكم} ؛ فكأنه أراد أنه لما كان رسولكم، فالذي ينبغي منكم عدم إعناته بالأسئلة ..

3 ومنها: أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من مصالحنا، ومنافعنا؛ لقوله تعالى:{رسولكم} .

4 ومنها: أن كثرة الأسئلة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها مشابهة لليهود؛ لقوله تعالى: {كما سئل موسى من قبل} .

5 ومنها: أنه لا ينبغي إلقاء السؤال إلا لمصلحة: إما رجل وقعت له مسألة يسأل عن حكمها؛ أو طالب علم يتعلم ليستنتج المسائل من أصولها؛ أما الأسئلة لمجرد استظهار ما عند الإنسان فقط؛ أو أقبح من ذلك من يستظهر ما عند الإنسان ليضرب آراء العلماء بعضها ببعض، وما أشبه ذلك؛ أو لأجل إعنات المسؤول، وإحراجه؛ فكل هذا من الأشياء المذمومة التي لا تنبغي ..

6 ومن فوائد الآية: ذم بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى صلى الله عليه وسلم، حيث إن الله سبحانه وتعالى ذكرهم في هذه الآية على سبيل الذم ..

7 ومنها: أن اليهود كانوا سألوا موسى عن أشياء فكانت العاقبة فيها وخيمة: فقد سألوا عن أشياء بينت لهم؛ لكنهم لم يعملوا بها؛ فكانت نتيجة السؤال الخيبة ..

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 382. وانظر: روائع البيان: 2/ 34.

(2)

البحر المحيط: 1/ 517.

(3)

تفسير البحر المحيط: 1/ 517.

(4)

أخرجه مسلم ص 901، كتاب الحج، باب 73: فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم 3257 [412]1337.

(5)

أخرجه البخاري ص 607، كتاب الاعتصام، باب 3: ما يكره من كثرة السؤال، حديث رقم 7289، وأخرجه مسلم ص 1092 – 1093، كتاب الفضائلن باب 37: توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله

، حديث رقم 6116 [132]2358.

ص: 115

8 ومنها: إثبات رسالة موسى صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {كما سئل موسى من قبل} يعني: وهو رسول ..

9 ومنها: ذم من استبدل الكفر بالإيمان؛ لقوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل؛ وهذا يشمل من بقي على كفره بعد عرض الإيمان عليه، ومن ارتد بعد إيمانه؛ فإنه في الحقيقة تبديل؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة؛ فإذا كفر فقد تبدل الكفر بالإيمان ..

10 ومنها: أن من اختار الكفر على الإيمان فهو ضال ..

11 ومنها: عكس هذه المسألة: أن من يتبدل الإيمان بالكفر فقد هُدي إلى سواء السبيل ..

12 ومنها: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة في عمله، وأنه مجبر عليه؛ لقوله تعالى:{ومن يتبدل الكفر بالإيمان} ..

13 ومنها: أنه يجب على السائل أن يعمل بما أجيب به؛ لأنه إذا علم ولم يعمل فقد تبدل الكفر بالإيمان من بعد ما تبين له أنكر؛ فالواجب على المرء إذا سأل من يثق به أن يعمل بقوله؛ ولهذا قال العلماء: ومن سأل مفتياً ملتزماً بقوله حرم عليه أن يسأل غيره؛ لأنه حين سأله كان يعتقد أن الذي يقوله هو الشرع؛ فإذا كان يعتقد هذا فلا يسأل غيره؛ نعم، إذا سأل إنساناً يثق به بناءً على أن فتواه هو الشرع، وأفتاه، ولكنه سمع في مجلس عالم آخر حكماً نقيض الذي أُفتي به مدعَّماً بالأدلة، فحينئذ له أن ينتقل؛ بل يجب عليه؛ أو سأل عالماً مقتنعاً بقوله للضرورة. لأنه ليس عنده في البلد أعلم منه. على نية أنه إذا وجد أعلم منه سأله؛ فهذا أيضاً يجوز أن يسأل غيره إذا وجد أعلم منه.

القرآن

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]

التفسير:

تمنى كثير من أهل الكتاب أن يرجعوكم بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم من قبلُ تعبدون الأصنام؛ بسبب الحقد الذي امتلأت به نفوسهم من بعد ما تبيَّن لهم صدق نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فتجاوزوا عمَّا كان منهم من إساءة وخطأ، واصفحوا عن جهلهم، حتى يأتي الله بحكمه فيهم بقتالهم وقد جاء ووقع، وسيعاقبهم لسوء أفعالهم. إن الله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

اختلف فيمن أنزلت الآية على أقوال (1):

احدها: أنها أنزلت في عامة اليهود والمشركين. قاله الطبري (2).

الثاني: أخرج الواحدي وابن أبي حاتم، عن عبدالله بن كعب بن مالك:"أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى نبيه بالصبر على ذلك والعفو عنهم وفيهم أنزلت: {ود كثير من أهل الكتاب} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا} "(3). وروي نحوه عن الزهري (4) وقتادة (5).

(1) انظر: أسباب النزول للواحدي: 35 - 36، والعجاب: وتفسير الطبري: 2/ 498 - 500.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 498 - 499.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1083): ص 1/ 204 - 205، واخرجه أبو داود في سننه كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة: 154/ 3 (3000).

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1082): ص 1/ 204، وتفسير الطبري (1786)، و (1787): ص 2/ 499.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1786): ص 2/ 499.

ص: 116

واستبعد الطبري هذا الرأي، لأن صيغة خطاب الآية للجمع، والواحد لا يقال له "كثير"، بمعنى الكثرة في العدد (1).

وعلى رواية عبدالله بن كعب، فالجمع في قوله:{يَرُدُّونَكُم} لكعب ومن تابعه ويستقيم الكلام (2). والله أعلم.

الثالث: وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس: " كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم} الآية"(3).

الرابع: وقال الواحدي "قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة بدر ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم"(4).

قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 109]، " أي تمنى كثير من اليهود والنصارى"(5).

قال الطبري: أي: "أن كثيراً من أهل الكتاب يودون بكل قلوبهم"(6).

قوله تعالى: {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109]، " أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم"(7).

قال الطبري: أي: "أن يردوكم كفاراً؛ أي يرجعوكم كفاراً"(8).

قال المراغي: أي: " أن يصرفوكم عن توحيد الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجعوكم كفارا كما كنتم"(9).

قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، " أي حسداً منهم لكم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة"(10).

قال الثعلبي: " أي من تلقاء أنفسهم لم يأمر الله عز وجل بذلك"(11).

قال الطبري: "وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه (12).

قال ابن الأنباري: "ويكون تأويل {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} في حكمهم وتدينهم ومذهبهم، أي: هذا الحسد مذهب لهم، لم يؤمروا به كما تقول: هذا عند الشافعي حلال، أي: في حكمه ومذهبه"(13).

وذكر الرازي في قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وجهين (14):

أحدهما: أنه متعلق بـ (ود)، على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق؟

الثاني: أنه متعلق بـ (حسد)، أي حسد عظيم منبعث من عند أنفسهم.

و"في الآية تنبيه أن كثيراً من أهل الكتاب، يتمنون ارتدادكم بعد إيمانكم حسداً، وقوله: {من عند أنفسهم} أي من عند هواهم كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، وعبر عن الهوى بالنفس وهي الأمارة بالسوء، وبين أنهم فعلوا ذلك بعد وضوح الحق لهم، ولكنهم بحسدهم وهوائهم لا يتحرونه، ولا يحبون أن يتحراه غيرهم"(15).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 499 - 500.

(2)

انظر: العجاب في بيابن الأسباب: 1/ 356.

(3)

أخرجه الطبري (1788): ص 2/ 499، وابن أبي حاتم (1081): ص 1/ 204.

(4)

أسباب النول للواحدي: 35.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 76، وتفسير المراغي: 1/ 190.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 501.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 501.

(9)

تفسير المراغي: 1/ 190.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 258.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 500 - 501، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 241.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 241.

(14)

مفاتيح الغيب: 3/ 652.

(15)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 291.

ص: 117

قال الراغب: " (الحسد): كراهية نعمة على مستحق لها، وعدت من عظائم الذنوب، إذ هو معاندة الله في إرادته، وهو شر من البخل، فإن الحسد بخل على الغير بنعمة من لا تنفد العطايا نعمه"(1).

وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي: أصل الحسد في كلام العرب: القشر، ومنه أخذ الحسد؛ لأنه يَقْشر القلب، قال والحَسدلُ (2): القرادة، لأنه يقشر الجلد فيمص الدم. ذكره الأزهري (3).

قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 9]، " أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة، أن دينكم هو الحق"(4).

قال المراغي: "أي من بعد أن ظهر لهم بساطع الأدلة أن محمدا على الحق بما جاء به من الآيات التي تنطبق على ما يحفظونه من بشارات كتبهم بنبي يأتي آخر الزمان"(5).

قال قتادة: " من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام دين الله"(6). وروي نخوه عن أبي العالية (7)، والربيع (8)، والسدي (9)، وابن زيد (10).

وقال ابن عباس: " من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة"(11).

قال الطبري: أي: "من بعد ما تبين الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون "(12).

قوله تعالى: {فَاعْفُوا} [البقرة: 9]، " أي:" فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ"(13).

قال الثعلبي: أي: " فاتركوا"(14).

قال الصابوني: " أي اتركوهم"(15).

قال المراغي: " أي: فعاملوهم بأحاسن الأخلاق من العفو عن مذنبهم بترك عقابه"(16).

قال ابن عثيمين: " الخطاب للمؤمنين عامة؛ ويدخل فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ و "العفو" بمعنى ترك المؤاخذة على الذنب؛ كأنه من عفا الأثر: إذا زال لتقادمه"(17).

قوله تعالى: {وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109]، أي:" واصفحوا عما كان منهم من جهل"(18).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 291.

(2)

زيدت فيه اللّام كما يقال للعبد: عبدل. [تفسير الثعلبي: 1/ 258].

(3)

انظر: تهذيب اللغة" 1/ 813، "اللسان" 2/ 868 (حسد)، والتفسير البسيط: 3/ 241 - 242.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 191.

(6)

أخرجه الطبري (1790): ص 2/ 502.

(7)

أخرجه الطبري (1791): ص 2/ 502.

(8)

أخرجه الطبري (1792): ص 2/ 502.

(9)

أخرجه الطبري (1793): ص 2/ 502.

(10)

أخرجه الطبري (1794): ص 2/ 502.

(11)

أخرجه الطبري (1795): ص 2/ 502.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 501 - 502.

(13)

تفسير الطبري: 2/ 503.

(14)

تفسير الثعلبي: 1/ 258.

(15)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(16)

تفسير المراغي: 1/ 191.

(17)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 358.

(18)

تفسير الطبري: 2/ 503.

ص: 118

قال الثعلبي: أي" وتجاوزوا"(1).

قال الصابوني: أي: " وأعرضوا عنهم فلا تؤخذوهم"(2).

قال المراغي: أي "واصفحوا عن مذنبهم، بترك لومه وتعنيفه"(3).

و(العفو): ترك المؤاخذة بالذنب، كما قال:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً} [التوبة: 66](4).

و(الصفح): إزالة أثره من النفس، أي: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب، ومنه قوله تعالى:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} [الزخرف: 5](5)، ومن ذلك قول كُثَيِّر يصفُ امرأة أعرضت عنه (6):

صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلةً

فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ ملَّتِ

وقال الآلوسي: " (العفو)، ترك عقوبة المذنب، و (الصفح)، ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين"(7).

والفرق بين (العفو، و (الصفح)، أن" (العفو) ترك المؤاخذة على الذنب؛ و (الصفح) الإعراض عنه؛ مأخوذ من صفحة العنق؛ وهو أن الإنسان يلتفت، ولا كأن شيئاً صار. يوليه صفحة عنقه.؛ فـ "الصفح" معناه الإعراض عن هذا بالكلية وكأنه لم يكن؛ فعلى هذا يكون بينهما فرق؛ فـ (الصفح) أكمل إذا اقترن بـ (العفْو) "(8).

قال ابن عباس: " {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي: عن مساوئ كلامهم، وغلّ قلبهم"(9).

قال أهل العلم: " وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح، إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه"(10).

قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، أي:" حتى يأتى نصر الله لكم بمعونته وتأييده"(11).

قال ابن عثيمين: " أي بأمر سوى ذلك؛ وهو الأمر بالقتال"(12).

قال الصابوني: " أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم"(13).

قال الآلوسي: " المراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة. أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة"(14).

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 258.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 191.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 71، وتفسير المراغي: 1/ 190.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 71، وتفسير المراغي: 1/ 190.

(6)

ديوانه: 98، ولسان العرب: 4/ 2457، (مادة: صفح)، والمعجم المفصل: 1/ 553.

(7)

روح المعاني: 1/ 356.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 358.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 242.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 191.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 191.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 358.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(14)

روح المعاني: 1/ 356.

ص: 119

قال الراغب: " ثم أمر بالتجافى عنهم إلى أن يأتي الله بأمره تسكيناً لهم ووعداً بتغييره لقدرته على كل شك"(1).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] على وجوه (2):

أحدها: أن معناه: حتى يأتي الله بعذابه: القتل والسّبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النظير. قاله ابن عبّاس (3).

والثاني: أنه أمره بقتالهم في قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قاله قتادة (4)، وهو قول الجمهور (5).

الثالث: وقال ابن كيسان: "بعلمه وحكمه فيهم، حكم بعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية"(6).

الرابع: وقيل: أراد به القيامة فيجازيهم بأعمالهم.

الخامس: وقيل: آجال بني آدم.

السادس: وقيل: قوة الرسالة وكثرة الأمة.

قال أبو حيان: " والجمهور على أنه الأمر بالقتال"(7).

واختلف في نسخ الآية على قولين (8):

أحدهما أنها منسوخة، ومن ثم اختلفوا في الناسخ على قولين:

القول الأول: أنها نسخت بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا (9). وهذا قول ابن عباس (10)، وقتادة (11)، والربيع (12)، والسدي (13).

والقول الثاني وقيل: الناسخ لها: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5](14).

والثاني: وقال البعض بأنها غير منسوخة، "واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقًا، وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج إلى حكم آخر"(15). قاله ابن الجوزي.

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 291.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 258، والبحر المحيط: 1/ 301.

(3)

عزاه لابن عباس، الثعلبي في تفسيره: 1/ 258، وانظر: الكفاية: 1/ 67، والوسيط: 1/ 191 والمحرر الوجيز: 1/ 448، وتفسير القرطبي: 2/ 65، والبحر المحيط: 1/ 301.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 258.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 301.

(6)

تفسير الثعلبي: 1/ 258.

(7)

البحر المحيط: 1/ 301.

(8)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيد: 1/ 50، والناسخ والمنسوخ للنحاس: 274، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي:312.

(9)

اظر: تفسير الطبري: 2/ 503 - 504، وتفسير القرطبي: 2/ 71.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1796): ص 2/ 503.

(11)

انظر: تفسير الطبري (1797): ص 2/ 503.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1798): ص 2/ 504.

(13)

انظر: تفسير الطبري (1800): ص 2/ 504.

(14)

تفسير القرطبي: 2/ 71 - 73.

(15)

نواسخ القرآن، ابن الجوزي:46.

ص: 120

ونقل أبو حيان، عن "قوم بأنه ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر للتوقيف على مدته {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} غيّا العفو والصفح بهذه الغاية، وهذه الموادعة على أن تأتي أمر الله بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية، وغير ذلك مما أتي من أحكام الشرع فيهم، وترك العفو والصفح"(1).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]، " أي لا يعتريه عجز في كل شيء فعله"(2).

قال الطبري: أي" لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له الخلق والأمر"(3).

قال الصابوني: " أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان"(4).

قال الرازي: "فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره"(5).

قال أبو حيان: " فيه إشعار بالانتقام من الكفار، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟ "(6).

قال الآلوسي: " تذييل مؤكد لما فهم من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره"(7).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: بيان شدة عداوة اليهود، والنصارى للأمة الإسلامية؛ وجه ذلك أن كثيراً منهم يودون أن يردوا المسلمين كفاراً حسداً من عند أنفسهم ..

2 ومنها: أن الكفر بعد الإسلام يسمى ردة؛ لقوله تعالى: {لو يردونكم} ؛ ولهذا الذي يكفر بعد الإسلام لا يسمى باسم الدين الذي ارتد إليه؛ فلو ارتد عن الإسلام إلى اليهودية، أو النصرانية لم يعط حكم اليهود، والنصارى ..

3 ومنها: أن الحسد من صفات اليهود، والنصارى ..

4 ومنها: تحريم الحسد؛ لأن مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"(8)؛ واعلم أن الواجب على المرء إذا رأى أن الله أنعم على غيره نعمة أن يسأل الله من فضله، ولا يكره ما أنعم الله به على الآخرين، أو يتمنى زواله؛ لقوله تعالى:{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} [النساء: 32]؛ والحاسد لا يزداد بحسده إلا ناراً تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهاً لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود؛ ثم إن الحاسد أو الحسود. مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلاً فيها؛ لأنه لابد أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة؛ حتى لو فرضنا أنه تميز بأموال كثيرة، وجاء إنسان تاجر، وكسب مكسباً كبيراً في سلعة معينة تجد هذا الحاسد يحسده على هذا المكسب بينما عنده ملايين كثيرة؛ وكذلك أيضاً

(1) البحر المحيط: 1/ 301.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 358.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 504.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(5)

مفاتيح الغيب: 3/ 652.

(6)

البحر المحيط: 1/ 301.

(7)

روح المعاني: 1/ 357.

(8)

أخرجه أحمد 2/ 50، حديث رقم 5114، وأخرجه أبو داود ص 1518، كتاب اللباس، باب 4: في لبس الشهرة، حديث رقم 4031، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنفن كتاب السير، باب 79: ما قالوا فيما ذكر من الرماح واتخاذها، حديث رقم 33006، قال الحافظ في الفتح 10/ 271: أخرجه أبو داود بسند حسن؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/ 504، وقال في الإرواء: صحيح 5/ 109، حديث رقم 1269.

ص: 121

بالنسبة للعلم: بعض الحاسدين إذا برز أحد في مسألة من مسائل العلم تجده. وإن كان أعلم منه. يحسده على ما برز به؛ وهذا يستلزم أن يحتقر نعمة الله عليه؛ فالحسد أمره عظيم، وعاقبته وخيمة؛ والناس في خير، والحسود في شر: يتتبع نعم الله على العباد؛ وكلما رأى نعمة صارت جمرة في قلبه؛ ولو لم يكن من خُلُق الحسد إلا أنه من صفات اليهود لكان كافياً في النفور منه ..

5 ومن فوائد الآية: علم اليهود، والنصارى أن الإسلام منقبة عظيمة لمتبعه؛ لقوله تعالى:{حسداً} ؛ لأن الإنسان لا يحسد إلا على شيء يكون خيراً، ومنقبة؛ ويدل لذلك قوله تعالى:{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة: 105] ..

6 ومنها: وجوب الحذر من اليهود، والنصارى؛ ما دام كثير منهم يودون لنا هذا فإنه يجب علينا أن نحذر منهم ..

7 ومنها: بيان خبث طوية هؤلاء الذين يودون لنا الكفر؛ لقوله تعالى: {من عند أنفسهم} ؛ ليس من كتاب، ولا من إساءة المسلمين إليهم؛ ولكنه من عند أنفسهم: أنفس خبيثة تود الكفر للمسلمين حسداً ..

8 ومنها: أن هؤلاء الذين يودون الكفر للمسلمين قد تبين لهم الحق؛ فلو كانوا جاهلين بأن المسلمين على حق، وقالوا:"لا نريد أن نكون على دين مشكوك فيه" لكان لهم بعض العذر؛ ولكنهم قد تبين لهم الحق، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن دينه حق، وأن المؤمنين على حق؛ ومع ذلك فهم يودون هذه المودة، ويسعون بكل سبيل أن يصلوا إلى غايتهم؛ فمن أحب شيئاً سعى في تحصيله؛ فكثير من هؤلاء اليهود والنصارى يسعون بكل ما يستطيعون من قوة مادية، أو أخلاقية، أو غيرهما ليردوا المسلمين بعد الإيمان كفاراً ..

9 ومن فوائد الآية: مراعاة الأحوال، وتطور الشريعة، حيث قال تعالى:{فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} ..

10 ومنها: أن الذم إنما يقع على من تبين له الحق؛ وأما الجاهل فهو معذور بجهله إذا لم يقصر في طلب العلم ..

11.

ومنها: جواز مهادنة الكفار إذا لم يكن للمسلمين قوة ..

12 ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل، حيث أمر بالعفو، والصفح إلى أن يأتي الله بأمره؛ لأن الأمر بالقتال قبل وجود أسبابه، وتوفر شروطه من القوة المادية والبشرية، ينافي الحكمة ..

13 ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد فعلاً يليق بجلاله وعظمته، وما تقتضيه حكمته؛ لقوله تعالى:{حتى يأتي الله بأمره} ..

14 ومنها: ثبوت القدرة لله عز وجل، وأنها شاملة لكل شيء؛ لقوله تعالى:{إن الله على كل شيء قدير} .

15 ومنها: الرد على المعتزلة القدرية؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله؛ وإذا كان مستقلاً بعمله لزم من ذلك أن الله لا يقدر على تغييره؛ لأنه إن قدر على تغييره صار العبد غير مستقل ..

16 ومنها: بشارة المؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى سيغير حالهم المقتضية للعفو والصفح، إلى قوة يستطيعون بها جهاد العدو ..

17 ومنها: اتباع الحكمة في الدعوة إلى الله بالصبر، والمصابرة حتى يتحقق النصر، وأنْ تعامَل كل حال بما يناسبها.

القرآن

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} [البقرة: 110]

التفسير:

ص: 122

واشتغلوا -أيها المؤمنون- بأداء الصلاة على وجهها الصحيح، وإعطاء الزكاة المفروضة. واعلموا أنَّ كل خير تقدمونه لأنفسكم تجدون ثوابه عند الله في الآخرة. إنه تعالى بصير بكل أعمالكم، وسيجازيكم عليها.

قال أبو حيان: " لما أمر بالعفو والصفح، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق"(1).

قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 110]، "أي ائتوا بها مستقيمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها"(2).

قال الثعلبي: " أي: "وحافظوا على الصلوات الخمس بمواقيتها [وأركانها] وركوعها وسجودها" (3).

قال ابن عطية: " معناه: أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها"(4).

وأخرج ابن أبي حاتم "عن الحسن في قوله: {وأقيموا الصلاة}، قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالزكاة"(5). وروي عن عطاء بن أبي رباح وقتادة نحو ذلك (6).

وقال الزهري: "إقامتها أن تصلي الصلوات الخمس لوقتها"(7).

و(إقامة الصلاة): "أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها - على ما فُرِضَتْ عليه، كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها"(8)، وكما قال الشاعر (9):

أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ

ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا

قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، "يعني: وأدّوا زكاة أموالكم المفروضة" (10).

قال الطبري: " وإيتاءُ الزكاة، هو أداء الصدقة المفروضة"(11).

قال ابن عثميمين: " أي أعطوا الزكاة"(12).

واختلف في أصل (الزَّكاة) على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها مأخوذة من: زكا الشيء، إذا نما وزاد، قال الراغب: أصل الزكاة: النمو الحاصل عن بركة الله تعالى (13).

قال ابن عطية: "وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه، من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي"(14).

الثاني: أن (الزَّكاةَ) مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال (15).

(1) البحر المحيط: 1/ 301.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 156.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 188.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 136.

(5)

تفسير ابن أبي حاتم (461): ص 1/ 99.

(6)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: ص 1/ 99.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم (462): ص 1/ 99.

(8)

تفسير الطبري: 1/ 241.

(9)

البيت ذكره الطبري ولم أتعرف على قائله. انظر: تفسير الطبري: 1/ 241.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 188.

(11)

تفسير الطبري: 1/ 572.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 156.

(13)

المفردات في غريب القرآن ص: 213 والمعجم الوسيط ص: 398.

(14)

المحرر الوجيز: 1/ 136.

(15)

انظر: تهذيب اللغة (زكا) 2/ 1542، واللسان:(زكا) 3/ 1849، والمصباح ج 1 ص: 272 والمختار من صحاح اللغة ص 218 والمطلع على أبواب المقنع ص: 222 والروض المربع ج 1 ص: 107 والمجموع شرح المهذب ج 5 ص: 291، والمحرر الوجيز: 1/ 136.

ص: 123

قال ابن عطية: فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس (1) " (2).

واختار الطبري هذا الوجه، قائلا:" وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان (3)، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [سورة الكهف: 74]، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى، وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها"(4).

وقال ابن الأثير: وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح فالزكاة طهرة للأموال وزكاة الفطر طهرة للأبدان (5).

وقال ابن عثيمين: " وسميت زكاة؛ لأنها تزكي الإنسان، كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]؛ فهي تزكي الإنسان في أخلاقه، وعقيدته، وتطهره من الرذائل؛ لأنها تخرجه من حظيرة البخلاء إلى حظيرة الأجواد، والكرماء؛ وتكفِّر سيئاته"(6).

قلت: وكل ذلك صحيح في معنى التسمية، فهي تزكي وتنمي المعطي والمعطى والمال الذي أخرجت منه.

والثالث: وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا، بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا.

قال الواحدي: "والعرب تقول للفرد: خسا، وللزوجين اثنين: زكا، قيل لهما: زكا، لأن الاثنين أكثر من الواحد"(7)، ثم استشهد بقول الشاعر (8):

إِذا نَحْنُ في تِعْدَادِ خَصْلِكَ لَمْ نَقُلْ

خَسَا وَزَكا أَعْيَيْن مِنَّا المُعَدِّدَا

ومنه قول الشاعر (9):

كَانُوا خَسًا أو زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ

لَمْ يُخْلَقُوا، وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلجُ

وقال آخر (10):

(1) رواه مسلم (1072)، ولفظه:""إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس".

وإنما كانت الزكاة أوساخ الناس؛ لأن الناس يتطهرون بإخراجها، كما قال الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وليس لها علاقة بمستحقي الزكاة، بل هي مال طيب حلال بالنسبة لهم، لكن إخراجها تطييب وتطهير لما يمكن أن يشوب صاحبها أو عمله أو ماله من سوء، فلذلك منع منها النبي صلى الله عليه وسلم آل محمد، لكن ليس هذا فيه إزراء بالناس، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يمنع آل النبي صلى الله عليه وسلم من أخذها صيانة لهم عن أن يقبلوا ما تطهر به الناس، وهذه مرتبة عليا، لكن هذا لا يعني أن من يأخذ الزكاة بحق فهو ناقص، فقد جعل الله من مصارف الزكاة الجهاد في سبيل الله، وهو من أفضل الأعمال، ومن مصارفها الغارم للإصلاح بين الناس ولو كان غنيًّا، وهو من خير الأعمال، قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ، والمقصود أنه ليس صحيحًا أن إعطاء الزكاة لمن يستحقها تنقص له، ومن فهم بهذا المعنى فإنه لم يفهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 136.

(3)

السهمان جمع سهم، كالسهام: وهو النصيب والحظ.

(4)

تفسير الطبري: 1/ 574.

(5)

النهاية في غريب الحديث ج 2 ص: 307.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 189.

(7)

التفسير البسيط: 1/ 445 - 446.

(8)

البيت في "الزاهر" 2/ 187، وفي شعر الكميت جمع دواد سلوم 1/ 162، وفيه: (إذا نحن في تكرار وصفك

).

(9)

اللسان (خسا)، وفيه:" الفراء: العرب تقول للزوج زكا، وللفرد خسا. . . قال، وأنشدتني الدبيرية. . . " وأنشد البيت. وتعتلج: تصطرع ويمارس بعضها بعضا.

(10)

الرجل من بني سعد، ثم أحد بني الحارث في عمرو بن كعب بن سعد، وهذا الرجز في خبر للأغلب العجلي، (طبقات فحول الشعراء: 572 / ومعجم الشعراء: 490 / والأغاني 18: 164) ورواية الطبقات والأغاني: " كما شرار الرعى ". والرعى (بكسر فسكون): الكلأ نفسه، والمرعى أيضًا. والسفا: شوط البهمي والسنبل وكل شيء له شوك. يقول: أنت في قومك كالسفا في البهمي، هو شرها وأخبثها. والبيت الأول زيادة ليست في المراجع المذكورة.

ص: 124

فَلا خَسًا عَدِيدُهُ وَلا زَكا

كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا

والسفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء، ويعني بقوله:(ولا زكا)، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم (1).

قال الواحدي: "والأظهر أن أصلها من الزيادة"(2)، ثم استشهد بقول النابغة (3):

وَمَا أَخَّرْتَ مِنْ دُنْيَاكَ نَقْصٌ

وَإِن قَدَّمْتَ عَادَ لَكَ الزَّكاءُ

أراد بالزكاء: الزيادة (4).

والزكاة شرعًا: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص (5)، تعبداً لله عز وجل.

وأما مستحقوا الزكاة: "فقد بينهم الله في سورة براءة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] "(6).

قال ابن كثير: " يَحُثُّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] "(7).

وتعددت أقوال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 110]، على وجهين (8):

أحدهما: إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ، عموم.

والثاني: وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن.

قال ابن عطية: "والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وأما {الزكاة}، فمجملة لا غير"(9).

وقال الرازي: "والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات، وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه"(10).

قال الطبري: "وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {راعنا}، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله"(11).

(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 573.

(2)

التفسير البسيط: 2/ 445.

(3)

ورد البيت في "الزاهر" 2/ 187، "شمس العلوم" 2/ 223.

(4)

أنظر: التفسير البسيط: 2/ 445.

(5)

الإقناع في فقه الإمام ابن حنبل ج 1 ص: 242.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 189.

(7)

تفسير ابن كثير: 2/ 383 - 384.

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 197.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 197.

(10)

مفاتيح الغيب: 4/ 5.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 505 - 506

ص: 125

قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} [البقرة: 110]، " أي وما تتقربوا إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً، تجدوا ثوابه عند الله"(1).

قال المراغي: " أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم"(2).

قال الطبري: " يعني: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به"(3).

قال سعيد بن جبير: " {ما تقدموا}، يعني: ما عملوا من الأعمال من الخير في الدنيا"(4).

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية، في قوله {تَجِدُوهُ عِندَ الله} ، قال:" تجدوا ثوابه عند الله"(5). وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك (6).

وقال أبو حيان: " لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما .. وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة، والأظهر العموم"(7).

و(الخير) هو العمل الذي يرضاه الله، وإنما قال:(تجدوه)، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما قال الشاعر (8):

وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ، لا تَلُمْهَا

رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا

وإنما أراد: وسبح أهل المدينة (9).

وقوله تعالى: {عِندَ اللَّهِ} [البقرة: 110]، أي "تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله، والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة، وإنما هي مجاز بمعنى القبل، كما تقول لك: عندي يد، أي في قبلي، أو بمعنى في علم الله نحو: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}، أي في علمه وقضائه، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} "(10).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110]، "أي إن الله رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين"(11).

قال ابن عطية: " خبر في اللفظ، معناه الوعد والوعيد"(12).

قال ابن كثير: يعني: "أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله"(13).

قال المراغي: أي: " فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها.

ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب" (14).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 76. [بتصرف بسيط].

(2)

تفسير المراغي: 1/ 192.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 505

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1091): ص 1/ 206.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1092): ص 1/ 206.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 206.

(7)

البحر المحيط: 1/ 301.

(8)

البيت لعمر بن لجأ. وهو في تفسير الطبري: 2/ 505.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 505

(10)

البحر المحيط: 1/ 301.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 76. [بتصرف بسيط].

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 197.

(13)

تفسير ابن كثير: 2/ 384.

(14)

تفسير المراغي: 1/ 192.

ص: 126

قال الإمام الطبري: "وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}، وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به"(1).

وقال الرازي: " فالله تعالى لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير، وتحذير من خلافه الذي هو الشر، وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه، فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة، وجب أن يوصف بذلك، وعلى هذا الوجه قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77](2).

وقال أبو حيان: " وكنى بقوله: {بصير} عن علم المشاهد، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه، ومن كان مبصراً لفعلك، لم يخف عليه، هل هو خير أو شر، وأتى بلفظ {بصير} دون (مبصر)، إما لأنه من بصر، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان، أو لأنه فعل للمبالغة بمعنى مفعل، الذي هو للتكثير"(3).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: "رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو يقترى هذه الآية: {سميع بصير} يقول: بكل شيء بصير"(4).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: جوب إقامة الصلاة؛ والصلاة تشمل الفريضة والنافلة؛ ومن إقامة الفرائض كثرة النوافل؛ لأنه جاء في الحديث (5) أن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة؛ ما من إنسان إلا وفي فريضته نقص؛ لكن هذه النوافل تكملها، وترقعها.

2 -

ومنها: وجوب إيتاء الزكاة. يعني لمستحقيها.

3 -

ومنها: أن الصلاة أوكد من الزكاة؛ ولهذا يقدمها الله عليها في الذكر.

4 -

ومنها: أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة من أسباب النصر؛ لأن الله ذكرها بعد قوله:{فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} [البقرة: 109]؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 40، 41].

5 -

ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتشاغل بالأهم فالأهم مع الدعوة إلى الله عز وجل.

6 -

ومنها: أن كل خير يقدمه العبد لربه عز وجل فإنه سيجد ثوابه عنده.

7 -

ومنها: أن الثواب عام لجميع الأعمال صغيرها، وكبيرها؛ لقوله تعالى:{من خير} ؛ فإنها نكرة في سياق الشرط؛ فتفيد العموم؛ فأيّ خير قدمته قليلاً كان، أو كثيراً ستجد ثوابه؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"(6).

(1) تفسير الطبري: 2/ 506.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 5.

(3)

البحر المحيط: 1/ 301.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (1093): ص 1/ 207.

(5)

كما في سنن أبي داود في الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه"، من حديث أنس بن حكيم حديث رقم (864). والترمذي باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة حديث رقم (413)، والنسائي في الصلاة. باب المحاسبة على الصلاة.

(6)

أخرجه البخاري، 111، كتاب الزكاة، باب 10:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"، حديث رقم 1417، وأخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 20: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة

، حديث رقم 2348 [67]1016.

ص: 127

8 -

ومنها: الترغيب في فعل الخير، حيث إن الإنسان يجد ثوابه عند ربه مدخراً له. وهو أحوج ما يكون إليه.

9 -

ومنها: أن الإنسان إذا قدم خيراً فإنما يقدمه لنفسه؛ لقوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} ؛ ولهذا ليس له من ماله إلا ما أنفق لله؛ وما أخره فلوارثه ..

10 -

ومنها: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل ..

11 -

ومنها: التحذير من المخالفة؛ لقوله تعالى: {إن الله بما تعملون بصير} .

القرآن

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]

التفسير:

ادَّعى كلٌّ من اليهود والنصارى أن الجنة خاصة بطائفته لا يدخلها غيرهم، تلك أوهامهم الفاسدة. قل لهم -أيها الرسول-: أحضروا دليلكم على صحة ما تدَّعون إن كنتم صادقين في دعواكم.

في سبب نزول هذه الآية:

قال السدي: "نزلت في الذين قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} أي: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا"(1). وروي عن أبي العالية (2) ومجاهد (3) والربيع (4) نحو ذلك.

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]، " أي قال اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقال النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً"(5).

قال الواحدي: " المعنى: أن اليهود قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، والنصارى قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولكنهم أُجملوا، وضم النصارى إلى اليهود في قوله:{وَقَالُوا} ؛ لأن الفريقين يُقِرَّانِ بالتوراة، كما قال حسان (6):

أمَنْ يهجُو رسولَ اللهِ منكمْ

ويمدحُه وينصرُه سواءُ

تقديره: ومن يمدحه وينصره، إلا أنه لما كان اللفظ واحدًا جُمع مع الأول، يعنى إلى أصل الفعل، وصار كأنه إخبار عن جملة واحدة، وإنما حقيقته عن بعضين مختلفين" (7).

قال الزمخشري: " فلفّ بين القولين، ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله، وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه. ونحوه {وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] "(8).

قال السمين الحلبي: " وقدمت اليهود على النصارى لفظا، لتقدمهم زمانا"(9).

(1) العجاب: 1/ 357، وتفسير ابن أبي حاتم (1094): ص 1/ 207.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1094): ص 1/ 207.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 207.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 207.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(6)

يوانه: 8، وانظر: السيرة النبوية: 4/ 46، وتذكرة النحاة: 70، والخزانة: 9/ 232، وإعراب القرآن للنحاس: 2/ 353، والبحر المحيط: 1/ 640.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 244.

(8)

الكشاف: 1/ 177.

(9)

الدر المصون: 2/ 70.

ص: 128

قال ابن كثير: "يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من، دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة، فقال تعالى {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} (1).

قال الطبري: "وعلى الرغم من اختلاف مقالة الفريقين فلقد جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر، وكما هو معلوم بأن اليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك، ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، فجُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا (2).

وفي أصل (اليهود) من حيث اللغة، قولان (3):

أحدهما: أن يكون جمع (هائد)، و (الهائد): التائب الراجع إلى الحق (4).

قال ابن جريج: "إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] "(5).

قال الزمخشري: " إن قلت: كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه، كقراءة الحسن: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالوا الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] "(6).

والثاني: وقيل هو مصدر، يوصف به الواحد والجمع، كفطر وعدل ورضا.

وقال الفراء: إن أصله" (يهوديًّا)، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية، وهي فِي قراءة أَبِي وعبد اللَّه: {إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيّا} "(7).

وأما (النصارى) جمع، واحدهم (نصران)، كما واحد السكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان، وكذلك جمع كل نعت كان واحده على " فعلان " فإن جمعه على " فعالى "، إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد " النصارى "" نصراني ". وقد حكى عنهم سماعا " نصران " بطرح الياء، ومنه قول الشاعر (8):

تراه إذا زار العشي مُحَنِّفًا

ويضحي لديه وهو نصران شامس

وسمع منهم في الأنثى: نصرانة، قال الشاعر (9):

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 384 - 385.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 506.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 507 - 508، والمحرر الوجيز: 1/ 197.

(4)

انظر: تهذيب اللغة: 4/ 3689.

(5)

أخرجه الطبري (1094): ص 2/ 143.

(6)

الكشاف: 1/ 177.

(7)

معاني القرآن: 1/ 73، وعنه النحاس في "إعراب القرآن" 1/ 207، وانظر: مثله في: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 151، "تفسير الطبري" 1/ 491 - 492، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 194، والكشاف: 1/ 177.

(8)

(" لم أعرف قائله. والبيت في الأضداد لابن الأنباري: 155، ورواه: " تراه ويضحى وهو. . " ونقله أبو حيان في البحر المحيط 1: 238 عن الطبري، وفيهما " إذا دار العشى " وأخطأ القرطبي (تفسيره 1: 369) فقال: و " أنشد سيبويه " وذكر البيت، ولم ينشده سيبويه. وروى صدره. (تراه إذا دار العشا متحنفا)

والبيت في صفة الحرباء. و " محنفا ": قد تحنف، أو صار إلى الحنيفية. ويعني أنه مستقبل القبلة. وقوله:" لديه "، أي لدى العشى، ويريد قبل أن يستوى العشى أو لدى الضحى، ويكون قد ذكره في بيت قبله. وقوله:" شامس "، يريد مستقبل الشمس، قبل المشرق. يقول يستقبل الشمس كأنه نصراني، وهو كقول ذي الرمة في صفة الحرباء أيضًا: إذا حول الظل العشى رأيته

حنيفا، وفي قرن الضحى ينتصر

(9)

البيت لأبي الأخزر الحماني، سيبويه 2: 29، 104، واللسان (حنف)، يصف ناقتين، طأطأتا رؤوسهما من الإعياء، فشبه رأس الناقة في طأطأتها، برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وخفضه وانحنى. قال حميد بن ثور، يصف نوقا:

فلما لوين على معصم

وكف خضيب وأسوارها

فضول أزمتها أسجدت

سجود النصاري لأحبارها

ص: 129

فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا

كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

يقال: أسجد، إذا مال، وقد سمع في جمعهم: أنصار، بمعنى النصارى، قال الشاعر (1):

لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا

شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا

كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا

واختلف في سبب تسميتهم بـ (النصارى) على وجوه (2):

أحدها: أنهم سموا (نصارى) لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم.

والثاني: وقيل إنهم سموا (نصارى)، من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها (ناصرة) قاله ابن عباس (3)، وقتادة (4)، وابن جريج (5).

الثالث: وقيل: أنهم سموا بذلك، لقوله تعالى:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [سورة الصف: 14](6).

قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]، " أي: تلك خيالاتهم وأحلامهم" (7).

قال أبو العالية: " أماني تمنوها على الله بغير حق"(8). وروي عن قتادة (9)، والربيع (10) نحو لك.

قال الواحدي: " أي: التي تمنّوْها على الله باطلًا"(11).

قال ابن الجوزي: " أي ذاك شئ يتمنونه وظن يظنونه"(12).

قال أبو السعود: " الجملةُ معترِضةٌ، مبنية لبطلان ما قالوا، و {تلك} إشارةٌ إليه"(13).

و(الأماني) جمع أمنية؛ وهي ما يتمناه الإنسان بدون سبب يصل به إليه، "والعرب تسمى كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما وإسلام الوجه لله هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء يقربونه إليه زلفى، ويقال فلان ليس على شاء من كذا: أي ليس على شاء منه يعتدّ به ويؤبه به"(14).

قال الزمخشري: " فإن قلت: لم قيل {تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ}، وقولهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} أمنية واحدة؟ قلت: أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم: أى تلك الأمانى الباطلة أمانيهم"(15).

والمشار إليه بـ {تلك} [البقرة: 110]، فيه ثلاثة احتمالات (16):

(1) لم أعرف صاحب الرجز، والأبيات، في معاني القرآن للفراء 1: 44 أمالي ابن الشجرى 1: 79، 371. أنشده شاهدا على حذف واو العطف: أي " وكنت لهم من النصارى جارا "، ثم أنشده في الموضع الآخر شاهدا على حذف الفاء العاطفة أي " فكنت لهم. . ". (تفسير الطبري: 2/ 144).

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 244 - 245.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1096): ص 2/ 143 - 145.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1097): ص 2/ 143 - 145.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1095): ص 2/ 144.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 145.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1095): ص 1/ 207.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1802): ص 2/ 508.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1803): ص 2/ 508.

(11)

التفسير البسيط: 3/ 245.

(12)

زاد المسير: 1/ 133.

(13)

تفسير أبي السعود: 1/ 147.

(14)

تفسير المراغي: 1/ 195.

(15)

الكشاف: 1/ 177 - 178.

(16)

انظر: الدر المصون: 2/ 71، والكشاف: 177 - 178.

ص: 130

أحدها: أنه المقالة المفهومة من: {قالوا لن يدخل} ، أي: تلك المقالة أمانيهم.

قال السمين الحلبي: "، فإن قيل: فكيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟ فالجواب أن تلك كناية عن المقالة، والمقالة في الأصل مصدر، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد والمثنى والمجموع، فالمراد بـ «تلك» الجمع من حيث المعنى"(1).

والثاني: أن يشار بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم.

قال السمين الحلبي: "وهذا ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء قد كملت وانفصلت واستقلت بالنزول، فيبعد أن يشار إليها"(2).

والثالث: أن يكون على حذف مضاف، أي: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه.

قال السمين الحلبي: " وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون {تلك} مبتدأ، و {أمانيهم}، خبر، فقلب هذا الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ فلا يتقدم الخبر"(3).

قوله تعالى: " {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، "أي قل لهم يا محمد أئتوني بالحجة الساطعة على ما تزعمون" (4).

قال الزمخشري: أي: " هلّموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة"(5).

قال الطبري: أي: "يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: {هاتوا برهانكم}، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم"(6).

قال ابن عطية: " أمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان"(7).

قال أبو العالية: " أي حجتكم"(8).وروي عن مجاهد، والسدي، والربيع نحو ذلك (9).

وقال قتادة: " بيّنتكم على ذلك، إن كنتم صادقين"(10).

قال السعدي: " فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم، وهذا مجرد أماني غير مقبولة، إلا بحجة وبرهان"(11).

و(البرهان): الحجة (12)، أي: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين (13).

وأصل (هَاتُوا)، هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفي المؤنث: هاتي، مثل رامي (14).

قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، أي:" إِن كنتم صادقين في دعواكم"(15).

(1) الدر المصون: 2/ 72.

(2)

الدر المصون: 2/ 71.

(3)

الدر المصون: 2/ 72.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(5)

الكشاف: 1/ 178، وانظر: تفسير أبي السعود: 1/ 147.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 510.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 198.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1096): ص 1/ 207.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 207.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1097): ص 1/ 207.

(11)

تفسير السعدي: 62.

(12)

انظر: تهذيب اللغة: 1/ 322، واللسان: 1/ 271.

(13)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 75.

(14)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 75.

(15)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

ص: 131

قال أبو العالية: " {إن كنتم صادقين}، بما تقولون إنه كما تقولون"(1). وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك (2).

قال الطبري: أي: " إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين"(3).

قال ابن عثيمين: " فهو تحدٍّ، كقوله تعالى: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم} [البقرة: 94، 95]؛ فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، أو نصارى فليأتوا بالبرهان؛ ولن يأتوا به؛ إذاً يكونون كاذبين"(4).

قال الزمخشري: " وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وأنّ كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت"(5).

قال السعدي: " وهكذا كل من ادعى دعوى، لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه، وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان، علم كذبهم بتلك الدعوى"(6).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: بيان ما كان عليه اليهود، والنصارى من الإعجاب بما هم عليه من الدين ..

2 ومنها: تعصب اليهود، والنصارى؛ وتحجيرهم لفضل الله ..

3 ومنها: أن ما ادعوه كذب؛ لقوله تعالى: {تلك أمانيهم} ؛ فعلى قول هؤلاء اليهود يكون النصارى، والمسلمون لن يدخلوا الجنة؛ وقد سبق أن قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ثم تخلفوننا فيها؛ وعلى قول النصارى لا يدخل اليهود، ولا المسلمون الجنة؛ أما اليهود فصحيح: فإنهم كفروا بعيسى، وبمحمد؛ ومن كفر بهما فإنه لن يدخل الجنة؛ وأما بالنسبة للمسلمين فغير صحيح؛ بل المسلمون هم أهل الجنة؛ وأما اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أهل النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"(7)؛ فالحاصل أن هذا القول. وهو قولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. كذب من الطرفين؛ ولهذا قال تعالى: {تلك أمانيهم} ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني (8) " ..

4 ومن فوائد الآية: أن من اغتر بالأماني، وطمع في المنازل العالية بدون عمل لها ففيه شَبه من اليهود، والنصارى ..

5 ومنها: عدل الله عز وجل في مخاطبة عباده، حيث قال تعالى:{قل هاتوا برهانكم} ؛ لأن هذا من باب مراعاة الخصم، وأنه إن كان لكم بينة فهاتوها؛ وهذا لا شك من أبلغ ما يكون من العدل؛ وإلا فالحكم لله العلي الكبير ..

6 ومنها: أن هؤلاء لا برهان لهم على ما ادعَوه بدليل أنهم لم يأتوا به ..

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1098): ص 1/ 207.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 207.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 510.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 367.

(5)

الكشاف: 1/ 178.

(6)

تفسير السعدي: 62 - 63.

(7)

أخرجه مسلم ص 753، كتاب الإيمان، باب 70: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس

، حديث رقم (386) 240 153.

(8)

أخرجه أحمد 4/ 124، حديث رقم 17253، وأخرجه الترمذي ص 1899، كتاب صفة القيامة، باب 25: حديث الكيس من دان نفسه

، حديث رقم 2459؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2735، كتاب الزهد، باب 31: ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم 4260، وأخرجه الحاكم في مستدركه 1/ 57 4/ 251؛ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد؛ وقال الذهبي في ذيل المستدرك (1/ 57): أبو بكر واه، وقال في ذيل المستدرك 4/ 251:"صحيح" هـ؛ وقال الألباني: "ضعيف"(ضعيف ابن ماجة ص 349، حديث رقم 930)، فمدار الحديث على أبي بكر بن أبي مريم، قال الحافظ في التقريب:"ضعيف" تحرير التقريب 4/ 158.

ص: 132

7 ومنها: أنهم كاذبون؛ لقوله تعالى: {إن كنتم صادقين} ؛ ولو كان لهم أدنى حيلة بما يبرر قولهم، ويصدِّقه لأتوا بها.

القرآن

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]

التفسير:

ليس الأمر كما زعموا أنَّ الجنة تختص بطائفة دون غيرها، وإنما يدخل الجنَّة مَن أخلص لله وحده لا شريك له، وهو متبع للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كل أقواله وأعماله. فمن فعل ذلك فله ثواب عمله عند ربه في الآخرة، وهو دخول الجنة، وهم لا يخافون فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.

في سبب نزول الآية، ذكر الحافظ ابن حجر، رواية السدي (1)، التي ذكرناها في سبب نزول الآية السابقة (2)، وعلى قول الحافظ، فلا بد أنهما نزلتا معًا، فتأمل (3).

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، "أي بلى يدخل الجنة من استسلم وخضع وأخلص نفسه لله"(4).

قال السدي: " أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية"(5).

قال البغوي: " أي ليس الأمر كما قالوا، بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أخلص دينه لله"(6).

قال المراغي: " أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى، إذ رحمة الله لا تختصّ بشعب دون شعب"(7).

قال أبو السعود: " أي [من] أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئاً"(8).

عن أبي العالية: " {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، يقول: من أخلص لله"(9). وروي عن الربيع (10) نحو ذلك.

وعن سعيد بن جبير: " {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، قال: من أسلم أخلص وجهه، قال: دينه"(11).

ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل (12):

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له (13).

(1) العجاب: 1/ 357، وتفسير ابن أبي حاتم (1094): ص 1/ 207، وقد روي عن أبي العالية ومجاهد، والربيع، نحو رواية السدي. انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1904): ص 1/ 207.

(2)

وهي [الآية: 111]: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

(3)

انظر: العجاب: 1/ 357.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(5)

أخرجه الطبري (1809): ص 2/ 510.

(6)

تفسير البغوي: 1/ 137.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 195.

(8)

تفسير أبي السعود: 1/ 147.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1099): ص 1/ 208.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1810): ص 2/ 510، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 208.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1100): ص 1/ 208.

(12)

سيرة ابن هشام 1: 246 وغيره. وتفسير الطبري: 2/ 511.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 2/.511

ص: 133

وأصل (الإسلام): الاستسلام والخضوع، لأنه من: استسلمت لأمره، وهو الخضوع لأمره، وإنما سمي المسلم، مسلما، بخضوع جوارحه لطاعة ربه (1).

و(إسلام الوجه): هو التذلل لطاعته والإذعان لأمره (2).

قال النسفي: " يعني: جعله سالماً لله خالصاً له"(3).

وقال ابن كثير: أي "من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية [آل عمران: 20] "(4).

قال البغوي: " وخص (الوجه)، لأنه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه"(5).

وقال الطبري: "وقد خص الله جل ثناؤه بالخبر (الوجه) .. لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى " وجهه " وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى (6):

أَؤُوِّل الحكم على وَجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر

يعني بقوله: " على وجهه ": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة (7):

فطاوعت همي وانجلى وجه بازل

من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها

يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين، وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، إبانة عن عين الشيء ونفسه، فكذلك معنى قوله جل ثناؤه:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه، فاكتفى بذكر (الوجه) من ذكر جسده، لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر (الوجه) " (8).

وقد ذكر أبو حيان في سبب تخصيص الوجه في قوله تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، وجوها (9):

أحدها: أن الوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة، خص بالذكر، لأنه أشرف الأعضاء، أو لأنه فيه أكثر الحواس، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه:{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُا} .

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 510، وتفسير البغوي: 1/ 137.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 510

(3)

تفسير النسفي: 3/ 179.

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 385.

(5)

تفسير البغوي: 1/ 137.

(6)

ديوانه: 106 من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني 15: 50 - 56). وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت:

علقم، لا تسفه، ولا تجعلن

عرضك للوارد والصادر

قد قلت قولا فقضى بينكم

واعترف المنفور للنافر

(7)

ديوانه: 560 يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت:

فقالت: عبيد الله من آل معمر

إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها

وقوله: " طاوعت همي "، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: " بازل من الأمر " يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله " بازل من الأمر " صفة لما أضمره من قوله " خطة "، وأتى بها على التذكير، كما أتوا بها على التذكير في قولهم:" ناقة بازل ". والخلاج: الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد، إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 511 - 512.

(9)

اظر: البحر المحيط: 1/ 352.

ص: 134

الثاني: ويحتمل أن يراد به الجهة، والمعنى: أخلص طريقته في الدين لله، وقال مقاتل: أخلص دينه. وقال ابن عباس: أخلص عمله لله. وقيل: قصده. وقيل: فوّض أمره إلى الله تعالى. وقيل: خضع وتواضع (1).

قال أبو حيان: "وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضاً"(2).

قوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112]، أي" أسلم، والحال أنه محسن"(3).

قال ابن عثيمين: " أي متبع لشريعة الله ظاهراً، وباطناً"(4).

قال الصابوني: " أي وهو مؤمن مصدّقٌ متبعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم "(5).

قال أبو السعود: أي: " والحال أنه محسن في جميع أعماله التي من جملتها، الإسلام المذكور، وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحسنه الذاتي"(6).

قال الحافظ ابن كثير: "أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن للعمل المتقبل شرطين:

أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده.

والآخر: أن يكون صوابًا موافقا للشريعة " (7).

قال أبو حيان: وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل (8)؛ وجعل معنى قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ} : "من أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، وهو محسن في عمله"(9)، فصارت الحال هنا مبينة، إذ من لا يشرك قسمان: محسن في عمله، وغير محسن، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة، ولذلك فسر قوله:{فَلَهُا أَجْرُهُ} "الذي يستوجبه"(10)، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(11). وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص، وفسر بالإيمان، وفسر بالقيام بالأوامر، والانتهاء عن المناهي" (12).

قوله تعالى: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة: 112]، "أي فله ثواب عمله"(13) عند ربه.

قال ابن عثيمين: "أي ثوابه؛ وشبَّهه بالأجر؛ لأن الله التزم به للعامل"(14).

قال أبو حيان: " أي فأجره مستقر له عند ربه"(15).

قال أبو السعود: أجره" الذي وعده له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل هو فيه دخولا أوليا واياما كان فتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل واستحالة نيله بدونه"(16).

وفي قوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة: 112]: فإنه أضاف العندية إليه لفائدتين (17):

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 177، وزاد المسير: 1/ 133، والبحر المحيط: 1/ 352.

(2)

البحر المحيط: 1/ 352.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 369.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 369.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 147.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 385.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 178.

(9)

الكشاف: 1/ 178.

(10)

الكشاف: 1/ 178.

(11)

أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9)، وأحمد (9501)، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه.

(12)

البحر المحيط: 1/ 352.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 369.

(15)

البحر المحيط: 1/ 352.

(16)

تفسير أبي السعود: 1/ 147.

(17)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 370.

ص: 135

الفائدة الأولى: أنه عظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم؛ ولهذا جاء في حديث أبي بكر الذي علمه الرسولُ صلى الله عليه وسلم إياه أنه قال: "فاغفر لي مغفرة من عندك (1) "

والفائدة الثانية: أن هذا محفوظ غاية الحفظ، ولن يضيع؛ لأنك لا يمكن أن تجد أحداً أحفظ من الله؛ إذاً فلن يضيع هذا العمل؛ لأنه في أمان غاية الأمان، وأضافه إلى وصف الربوبية ليبين كمال عناية الله بالعامل، وإثابته عليه؛ فالربوبية هنا من الربوبية الخاصة.

قلت: إن المراد ليس (العندية المكانية)، فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا

الحفظ كالودائع، بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم، والله تعالى أعلم.

وقال أبو السعود: " والعندية للتشريف، ووضع اسم الرب مضافا إلى ضمير {من أسلم}، موضع ضمير الجلالة، لإظهار مزيد اللطف به وتقرير مضمون الجملة، أي فله أجره عتد مالكه ومدبر أموره ومبلغه إلى كماله"(2).

قوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، أي:"ولا خوف عليهم في الآخرة ولا يعتريهم حزنٌ أو كدر، بل هم في نعيم مقيم"(3).

عن سعيد بن جبير في قوله: " {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، يعني في الآخرة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، يعني لا يحزنون للموت"(4).

قال أبو السعود: " {ولا خوف عليهم} في الدارين من لحوق مكروه، {ولا هم يحزنون} من فوات مطلوب أي لايعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لايخافون ولايحزنون"(5).

قال المراغي: " أي إن الذين أسلموا وجوههم لله وأحسنوا العمل لا تساور نفوسهم مخاوف ولا أحزان"(6).

واختلف في قوله تعالى: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] على قولين (7):

أحدهما: أنه أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا.

والثاني: وقيل: في الآخرة في حال الثواب.

والقول الثاني هو الأصح، لأن قوله:{وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} عام في النفي، وكذلك:{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصا في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن، إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة، فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر، ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا عن الخوف والحزن، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما لأنهم لو جوزوا كونه منقطعا لاعتراهم الحزن العظيم.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ} [البقرة: 112]، على وجهين (8):

أحدها: قراءة ابن محيصن: {فلا خوف} ، برفع الفاء من غير تنوين، باختلاف عنه.

والثاني: قراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم: {فلا خوف} ، بالفتح من غير تنوين.

(1) أخرجه البخاري ص 66، كتاب الأذان، باب 149: الدعاء قبل السلام، حديث رقم 834، وأخرجه مسلم ص 1148، كتاب الذكر والدعوات، باب 14: الدعوات والتعوذ، حديث رقم 6869 [48]2705.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 147 - 148.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1101): ص 1/ 208.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 148.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 195.

(7)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 99.

(8)

انظر: البحر المحيط: 1/ 352.

ص: 136

قال المراغي: " والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفى وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل، وقد جرت سنة القرآن إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124]، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] "(1).

قال الفخر الرازي: " فإن قال قائل: إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، وفي سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع "الصابئين" في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك؟ والجواب: لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم"(2).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن أهل الجنة هم الذين جمعوا بين وصفين؛ الأول: الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: {من أسلم وجهه لله} ؛ والثاني: اتباع شرعه؛ لقوله تعالى: {وهو محسن} ..

2 ومنها: أن إخلاص النية وحده لا يكفي في تبرير التعبد لله؛ لقوله تعالى: {وهو محسن} ؛ وعلى هذا فمن قال: إنه يحب الله، ويخلص له وهو منحرف في عبادته فإنه لا يدخل في هذه الآية لاختلال شرط الإحسان ..

ويتفرع على هذه الفائدة أن أهل البدع لا ثواب لهم على بدعهم. ولو مع حسن النية.؛ لعدم الإحسان الذي هو المتابعة؛ والأجر مشروط بأمرين: الأول: إسلام الوجه لله؛ والثاني: الإحسان ..

3 ومن فوائد الآية: الدلالة على الشرطين الأساسيين في العبادة؛ وهما الإخلاص؛ والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ..

4 ومنها: ثبوت الأجر في الآخرة، وأن العمل لن يضيع؛ لقوله تعالى:{فله أجره عند ربه}

5 ومنها: أن الجزاء من جنس العمل ..

6 ومنها: عظم الثواب؛ لإضافته إلى الله في قوله تعالى: {عند ربه} .

7 ومنها: انتفاء الخوف، والحزن لمن تعبد لله سبحانه وتعالى بهذين الوصفين؛ وهما الإخلاص والمتابعة؛ ولهذا قال تعالى:{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82].

8 ومنها: حسن عاقبة المؤمنين بانتفاء الخوف، والحزن عنهم؛ وغير المؤمنين تُملأ قلوبهم رعباً، وحزناً؛ قال تعالى:{وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166]، وقال تعالى:{كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167]، وقال تعالى:{وأنذرهم يوم الحسرة} [مريم: 39] إلى غير ذلك من الآية الدالة على تحسر هؤلاء الذين لم يهتدوا إلى صراط الحميد ..

9 ومن فوائد الآية: الحث على الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العبادة، واتباع الشرع فيها؛ لأن الله إنما أخبرنا بهذا الثواب لمن أخلص، واتبع الشريعة من أجل أن نقوم بذلك؛ وليس لمجرد الخبر؛ وهكذا يقال في كل ما أخبر الله به من ثواب على طاعة، أو عقاب على معصية؛ فإنه إنما يراد به الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية.

القرآن

(1) تفسير المراغي: 1/ 195.

(2)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 99.

ص: 137

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} [البقرة: 113]

التفسير:

وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين الصحيح، وكذلك قالت النصارى في اليهود وهم يقرؤون التوراة والإنجيل، وفيهما وجوب الإيمان بالأنبياء جميعًا. كذلك قال الذين لا يعلمون من مشركي العرب وغيرهم مثل قولهم، أي قالوا لكل ذي دين: لست على شيء، فالله يفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه مِن أمر الدين، ويجازي كلا بعمله.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: روي عن ابن عباس قال: " لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، إلى قوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} "(1).

والثاني: أخرج الطبري عن الربيع قوله: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم"(2). وروي عن أبي العالية (3)، وقتادة (4)، نحو ذلك.

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍْ [البقرة: 113]، "أي كفر اليهود بعيسى وقالوا ليس النصارى على دين صحيح معتدٍّ به فدينهم باطل"(5).

قال ابن عثيمين: " يعني على شيء من الدين، وإنما قالت اليهود ذلك؛ لأنهم يكفرون بعيسى، ولا يرون شريعته دينا، وإنها دعوى باطلة على كل تقدير؛ لأن النصارى بلا شك على دين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ً"(6).

قال قتادة: " بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا"(7).

قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]، "أي وقال النصارى في اليهود مثل ذلك وكفروا بموسى"(8).

قال الشيخ ابن عثيمين: "لأنهم يرون أن الدين الحق ما كانوا عليه، واليهود قد كفروا به، وأما دعوى النصارى في اليهود فحق؛ لأن دينهم نسخ بما جاء به عيسى؛ إذ إنهم يجب عليهم أن يؤمنوا بعيسى؛ فإذا كذبوه لم يكونوا على شيء من الدين؛ بل هم كفار"(9).

قال ابن عطية: " معناه: ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر، وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته،

(1) تفسير الطبري (1811): 2/ 513 - 514، وابن أبي حاتم (1103): ص 1/ 208، وسنده (حسن)، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 36، والعجاب: 1/ 357 - 358، والأثر في سيرة ابن هشام 2/ 197 - 198.

(2)

تفسير الطبري: 1812: 2/ 514، وانظر: العجاب: 1/ 358.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1105): ص 1/ 209.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 209.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 372.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1104): ص 1/ 209.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 76.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 372.

ص: 138

وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا" (1).

قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]، " أي والحال أن اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإِنجيل فقد كفروا عن علمٍ"(2).

قال ابن عباس: " أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به أن تكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه"(3).

قال الزمخشري: " أى قالوا ذلك، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب اللَّه وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدّق للثاني شاهد بصحته، وكذلك كتب اللَّه جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا"(4).

قال المراغي: " أي قالوا ذلك وكتاب كل من الفريقين ينطق بغير ما يعتقدون، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتى بعد موسى، لكنهم خالفوها ولم يؤمنوا به، والإنجيل يقول: إنه (المسيح) جاء متمما لناموس موسى لا ناقضا له، وهم قد نقضوه"(5).

قال أبو السعود: " أي قالوا ما قالوا والحال أن كل فريق منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حق كل منهم أن يعترف بحقية دين صاحبه حسبما ينطق به كتابه فإن كتب الله تعالى متصادقة"(6).

قال الزجاج: " يعني به أن الفريقين يَتْلُوَان التوراة، وقد وقع يينهم هذا الاختلاف وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في القرآن، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر، فتفهموا هذا المكان فإن فيه حجةً عظيمة وعِظَةً في القرآن"(7).

قال ابن عطية: " وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ}، تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب، وكان وقافا عند كتاب الله"(8).

قال أبو حيان: " أي وهم عالمون بما في كتبهم، تالون له. وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وصحة نبوّتهما. وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضاً. وفي هذا تنبيه لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم في أن من كان عالماً بالقرآن، يكون واقفاً عنده، عاملاً بما فيه، قائلاً بما تضمنه، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى"(9).

وقال الثعلبي: " وكلا الفريقين يقرءون الكتاب أي لتبين في كتابكم سر الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على أنهم على الباطل"(10).

قال الإمام الطبري: "إن إنكار كل فريق منهم، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه

(1) المحرر الوجيز: 1/ 198.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1106): ص 1/ 209.

(4)

الكشاف: 1/ 179.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 197.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 148.

(7)

معاني القرآن: 1/ 195.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 198.

(9)

البحر المحيط: 1/ 304.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 260.

ص: 139

وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها (1).

واختلف في (الكتاب) الذي يتلونه على قولين (2):

أحدهما: أنه: التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس. اختاره الزمخشري (3)، وهو المشهور.

والثاني: وقيل: التوراة، لأن النصارى تمتثلها، فالألف واللام للعهد.

قال ابن عثيمين: " والمراد بـ (الْكِتَابَ) الجنس، فيشمل التوراة، والإنجيل (4).

قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]، " أي كذلك قال مشركو العرب مثل قول أهل الكتاب قالوا: ليس محمد على شيء" (5).

قال السدي: " فهم العرب، قالوا: ليس محمد على شيء"(6).

قال المراغي: " أي مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين: لستم على شاء والحق وراء هذه المزاعم، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حقّ المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا فى أصوله، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا فيه وتفرّقوا طرائق قددا"(7).

قال الزجاج: " يعني به: الذين ليسوا بأصحاب كتاب، نحو مشركي العرب والمجوس، المعنى أن هؤلاء أيضاً قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا"(8).

قال الزمخشري: " أى مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج قالَ الجهلة الَّذِينَ لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم"(9).

وقال الثعلبي: " {قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يعني آباءهم الّذين مضوا، {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} يعني مشركي العرب"(10).

واختلف في تفسير قوله تعالى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113]، على وجوه (11):

أحدها: أنه عنى بذلك مشركي العرب، لأنهم لا كتاب لهم. وهذا قول السدي (12)، ومقاتل (13)، وهو قول الجمهور (14).

والثاني: أن المراد: اليهود، وكأنه أعيد قولهم، أي:"قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم". قاله الربيع (15)، وعن قتادة (16) وأبي العالية (17)، مثله.

(1) تفسير الطبري: 2/ 515.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 198.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 179.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 372.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1107): ص 1/ 209، تفسير الطبري (1819): ص 2/ 517.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 197.

(8)

معاني القرآن: 1/ 195.

(9)

الكشاف: 1/ 179.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 260، وقوله:" يعني مشركي العرب". نقله عن مقاتل.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 515 - 516، والمحرر الوجيز: 1/ 199، ومفاتيح الغيب: 4/ 10، وتفسير القرطبي: 2/ 76.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1819): ص 2/ 517، وابن أبي حاتم (1107): ص 1/ 209.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 260.

(14)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 199، والبحر المحيط: 1/ 305.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1816): ص 2/ 517.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1817): ص 2/ 517.

(17)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1109): ص 1/ 209.

ص: 140

قال ابن عطية: " وهذا ضعيف"(1).

والثالث: أنهم: "أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل". قاله عطاء (2).

والرابع: وقيل أنهم: مشركو قريش (3).

والقول الأول هو الظاهر، والأشبه بالصواب، "لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله:{كذالك قال الذين لا يعلمون} يجب أن يكون غيرهم" (4).

وقال الإمام الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض

وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى، ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل، ولا من جهة النقل المستفيض" (5).

قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113]، أي فالله "يحكم بين اليهود والنصارى، ويفصل بينهم بقضائه العادل فيما اختلفوا فيه من أمر الدين"(6).

قال الطبري: " فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا"(7).

قال ابن عطية: " بأن يثيب من كان على شيء، أي شيء حق، ويعاقب من كان على غير شيء"(8).

قال الزمخشري: " بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه"(9).

قال المراغي: " فهو العليم بما عليه كل فريق من حقّ أو باطل، فيحقّ الحق ويجعل أهله في النعيم ويبطل الباطل، ويلقى أهله فى سواء الجحيم"(10).

قال الزجاج: " يريهم من يدخل الجنة عِياناً، ويدخل النار عيانا، وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللَّه عز وجل فيما أظهر من حجج المسلمين، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن"(11).

و{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، هو اليوم الذي يبعث فيه الناس؛ وسمي بذلك لأمور ثلاثة (12):

أحدها: لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين. قاله الطبري (13)، وابن عطية (14).

والثاني: ولأنه يقوم فيه الأشهاد.

والثالث: ولأنه يقام فيه العدل.

(1) المحرر الوجيز: 1/ 199.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1818): ص 2/ 517، وابن أبي حاتم (1108): ص 1/ 209.

(3)

انظر: البحر المحيط: 1/ 305.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 10، وانظر: البحر المحيط: 1/ 305.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 517.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(7)

تفسير الطبري: 2/ 518.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 199.

(9)

الكشاف: 1/ 179.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 197 - 198.

(11)

معاني القرآن: 1/! 95.

(12)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 276.

(13)

تفسير الطبري: 2/ 518.

(14)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 199.

ص: 141

واختلف في قوله تعالى: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 113]، على أربعة أوجه (1):

أحدها: أن "حكم اللَّه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار. قاله الحسن (2).

وثانيها؛ حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب، فيقسم لكل فريق مايليق به من العقاب.

وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا، وهو قول الزجاج (3).

ورابعها: يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه.

قال أبو حيان: " وكلها أقوال متقاربة"(4).

الفوائد:

1 من فوائد الآية: أن الأمم الكافرة يكفِّر بعضها بعضاً؛ فهم أعداء بعضهم لبعض من جهة؛ وأولياء بعضهم لبعض من جهة أخرى: بالنسبة لنا هم بعضهم لبعض وليّ؛ وبالنسبة لما بينهم بعضهم لبعض عدو؛ فالإسلام عدو مشترك لليهودية، والنصرانية، وسائر الكفار؛ فيجب أن يتولى بعضنا بعضاً ..

2 ومنها: شدة قبح قول من خالف الحق وهو يعلمه؛ لقوله تعالى: {وهم يتلون الكتاب} ؛ فهذه الجملة تفيد زيادة القبح فيما قالوه، حيث قالوا ذلك وهم يتلون الكتاب، ويعرفون الحق؛ فالنصارى تتلو التوراة، وتعرف أن اليهود تدين بالتوراة. وهم على دين صحيح قبل بعثة عيسى.؛ واليهود أيضاً يتلون الإنجيل، ويعرفون أن عيسى حق؛ لكنهم كفروا استكباراً؛ ولا ريب أن الذي ينكر الحق مع العلم به أعظم قبحاً من الذي ينكر الحق مع الجهل به؛ لأن هذا معاند مكابر بخلاف الجاهل، فالجاهل ينكر الحق للجهل به؛ ثم إذا تبين له الحق اتبعه إذا كان المانع له من اتباعه الجهل؛ لكن العالم لا عذر له.

3 ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة} ؛ والإيمان بيوم القيامة أحد أركان الإيمان الستة؛ ولأهميته يقرنه الله سبحانه وتعالى كثيراً بالإيمان به عز وجل.

4 ومنها: إثبات الحكم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {فالله يحكم بينهم} ؛ وحكم الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي، وكوني، وجزائي؛ فالشرعي: مثل قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10]؛ والكوني: مثل قوله تعالى عن أخي يوسف: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80]؛ والجزائي: مثل هذه الآية: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة} ؛ والحكم الجزائي هو ثمرة الحكم الشرعي؛ لأنه مبني عليه: إن خيراً فخير؛ وإن شراً فشر؛ هذا الحكم يوم القيامة بين الناس إما بالعدل؛ أو بالفضل؛ ولا يمكن أن يكون بالظلم؛ لقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]، وقوله تعالى:{ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49]، وقوله تعالى في الحديث القدسي:"يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً"(5)؛ هذا بالنسبة لحقوق الله؛ أما بالنسبة لحقوق الخلق فيما بينهم فيقضى بينهم بالعدل.

فإذا قال قائل: إذا كان الله تعالى يجزي المؤمنين بالفضل، فما الجواب عن قوله تعالى:{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} [يونس: 4]؟

فالجواب: أن هذا هو الذي أوجبه الله على نفسه؛ والفضل زيادة؛ والمقام مقام تحذير.

5 ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اختلفوا في الحق، والباطل، سوف يكون القضاء بينهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل؛ فيجزي صاحب الحق بعمله، ويجزي صاحب الباطل بعمله؛ لقوله تعالى:{فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} ، وقوله تعالى:{فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء: 141]؛ ولهذا لا يوجد حكم يبين للخصم أن الحق له دون خصمه إلا في هذا؛

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 10، وتفسير أبي السعود: 1/ 148.

(2)

انظر: الكشاف: 1/ 179، ومفاتيح الغيب: 4/ 10.

(3)

انظر: معاني القرآن: 1/ 195.

(4)

البحر المحيط: 1/ 305.

(5)

أخرجه مسلم ص 1129، كتاب البر والصلة، باب 15: تحريم الظلم، حديث رقم 6572 [55]2577.

ص: 142

فالقاضي مثلاً لا يقول لأحد الخصمين: "لن يكون لخصمك سبيل عليك" حتى يتبين، ويأتي كلٌّ بحجته؛ لكن هنا بيّن الله أن الكافرين ليس لهم سبيل على المؤمنين؛ لأن الحجة واضحة للجميع.

القرآن

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114]

التفسير:

لا أحد أظلم من الذين منعوا ذِكْرَ الله في المساجد من إقام الصلاة، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، وجدُّوا في تخريبها بالهدم أو الإغلاق، أو بمنع المؤمنين منها. أولئك الظالمون ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا على خوف ووجل من العقوبة، لهم بذلك صَغار وفضيحة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد.

اختلفوا في سبب نزول الآية على أقوال:

أحدها: أنها: "نزلت في طيطوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف". وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي (1).

والثاني: أنها نزلت في" بختنصر وأصحابه، غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم"(2). قاله قتادة (3)، والسدي (4).

الثالث: وأخرج ابن أبي حاتم " عن مجاهد: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه"(5).ونحوه في رواية محمد بن سعيد عن ابن عباس (6).

الرابع: وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أن قريشا منعوا النبي- صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} "(7). وروي عن ابن زيد (8) مثله.

والراجح، أن الله تعالى عنى بقوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]، النصارى. "وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده"(9). والله أعلم.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]، أي:"وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها"(10).

قال الصابوني: " استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة كما فعل كفار قريش"(11).

(1) انظر: أسباب النزول للواحدي: 36، وتفسير الثعلبي: 1/ 260.

(2)

أسباب النول للواحدي: 36.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1823)، و (1824): ص 2/ 520 - 521.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1825): ص 2/ 521.

(5)

تفسير ابن أبي حاتم (1112): ص 1/ 210، وتفسير الطبري (1821)، و (1822): ص 2/ 520.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1111): ص 1/ 210، وتفسير الطبري (1820): ص 2/ 521.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (110): ص 1/ 210، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 36.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1826): ص 2/ 521.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 521 - 522.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 519.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

ص: 143

و (المساجد): جمع مَسجِد، إن أُريد به المكان المخصوص المُعَدّ للصلوات الخمس، وإن أُريد به موضع سجود الجبهة، فإنه بالفتح لا غير (مَسجَد)(1).

و(المسجد) لغة: الموضع الذي يسجد فيه، ثم اتّسع المعنى إلى البيت المُتّخذ لاجتماع المسلمين لأداء الصلاة فيه، قال الزركشي رحمه الله:"ولَمّا كان السجود أشرف أفعال الصلاة، لقرب العبد من ربه، اشتق اسم المكان منه فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع، ثم إن العُرف خصص المسجد بالمكان المهيّأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المُصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يُعطى حكمه"(2).

و(المسجد) في الاصطلاح الشرعي: المكان الذي أُعِدّ للصلاة فيه على الدّوام (3)، وأصل المسجد شرعًا: كل موضع من الأرض يُسجد لله فيه (4)؛ لحديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "

وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمّتي أدركته الصلاة، فليصلِّ" (5)، وهذا من خصائص نبيّنا صلى الله عليه وسلم وأمّته، وكانت الأنبياء قبله إنما أُبيحت لهم الصلاة في مواضع مخصصة: كالبِيَع والكنائس (6).

وقد ثبت في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "

وأينما أدركتك الصلاة فصلِّ، فهو مسجد" (7).

قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما استثناه الشرع من الصلاة: في المقابر، وغيرها من المواضع التي فيها النجاسة: كالمزبلة، والمجزرة، وكذا ما نُهِيَ عنه لمعنى آخر: فمن ذلك أعطان الإبل،

ومنه قارعة الطريق، والحمام، وغيرها؛ لحديث ورد فيها" (8).

أما (الجامع): فهو نعت للمسجد، سمّي بذلك؛ لأنه يجمع أهله؛ ولأنه علامة للاجتماع، فيقال: المسجد الجامع، ويجوز:(مسجد الجامع) بالإضافة، بمعنى: مسجد اليوم الجامع (9)، ويقال للمسجد الذي تُصلَّى فيه الجمعة، وإن كان صغيرًا؛ لأنه يجمع الناس في وقت معلوم.

وفي الآية الكريمة أضاف الله تعالى المساجد إلى نفسه إضافة تشريف، وفضل، وكقوله عز وجل:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، مع أن جميع البقاع وما فيها ملك لله عز وجل، فهو خالق كل شيء ومالكه، ولكن المساجد لها ميزة وشرف؛ لأنها تختص بكثير من العبادات، والطاعات، والقربات، فليست المساجد لأحد سوى الله، كما أن العبادة التي كلف الله بها عباده لا يجوز أن تصرف لأحد سواه (10)، ومن هذه الإضافة ما أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله إضافة

(1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدّال، فصل الميم، 3/ 204 - 205، وسبل السلام، للصنعاني، 2/ 179.

(2)

إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 27 - 28، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض 2/ 207، ومفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، ص 397، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 10/ 12، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 11/ 3635.

(3)

معجم لغة الفقهاء، للأستاذ الدكتور/ محمد رواس، ص 397.

(4)

انظر: إعلام الساجد بأحكام المساجد، للزركشي، ص 27.

(5)

متفق عليه: البخاري، كتاب التيمم، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 335، ومسلم، كتاب المساجد، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 521.

(6)

انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 117.

(7)

متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، بابٌ:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} برقم 425، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 520.

(8)

شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 5.

(9)

انظر: لسان العرب، لابن منظور، فصل الجيم، باب العين، 8/ 55.

(10)

انظر: فصول ومسائل تتعلق بالمساجد، للدكتور العلامة، عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ص 5، والأثر التربوي للمسجد، للدكتور العلامة صالح بن غانم السدلان، ص 4، والمشروع والممنوع في المسجد، للشيخ محمد بن علي العرفج، ص 6.

ص: 144

تشريف بقوله صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده"(1).

وفي قوله تعالى: {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]، وجهان من التفسير (2):

أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، فتكون " أن " حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض، وتعلق الفعل بها.

والثاني: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فتكون " أن " حينئذ في موضع نصب، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه.

وأصل السعي في اللغة: "الإسراع في المشي، قال الله عز وجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20]. ثم يسمّى المشيُ سعيًا، كقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، يعنى المشي، وقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، أي: امشوا، وقال {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، أي: مشيًا. ثم يسمى العمل سعيًا، لأنه لا ينفك من السعي في غالب الأمر، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وقال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [الحج: 51] أي: جدّوا في ذلك، وقال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]، أي: عملكم مختلف"(3).

قال الواحدي: "وأراد بالسعي في هذه الآية: العمل"(4).

وقوله {وَسَعَى} [البقرة: 114]، أي: اجتهد وبذل وسعه (فِي خَرَابِهَا) الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها، وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام، لكل من اتصف بهذه الصفة، فيدخل في ذلك أصحاب الفيل، وقريش، حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية، والنصارى حين أخربوا بيت المقدس، وغيرهم من أنواع الظلمة، الساعين في خرابها، محادة لله، ومشاقة، فجازاهم الله، بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا، إلا خائفين ذليلين، فلما أخافوا عباد الله، أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله، لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا، حتى أذن الله له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، وأصحاب الفيل، قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى، سلط الله عليهم المؤمنين، فأجلوهم عنه، وهكذا كل من اتصف بوصفهم، فلا بد أن يناله قسطه، وهذا من الآيات العظيمة، أخبر بها الباري قبل وقوعها، فوقعت كما أخبر، وقد واستدل العلماء بالآية الكريمة، على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد" (5).

وقد أجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء، أعني مجرد بيان أن من فعل كذا فإن الله يفعل به كذا بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد وسعى في خرابها، ثم أن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية (6).

وفي الذي {مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]، أربعة أقاويل (7):

أحدها: أنه بُخْتَ نصر وأصحابه من المجوس الذين خربوا بيت المقدس، وهذا قول قتادة (8).

والثاني: أنهم النصارى الذين أعانوا (بُخْتَ نَصّر) على خرابه، وهذا قول السدي (9)، واختاره الطبري (10).

(1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، برقم 2699.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 519.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 251، وانظر: المفردات للراغب الأصفهاني: 238 - 239.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 251.

(5)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 63.

(6)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 10.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 174، ومفاتيح الغيب: 4/ 11.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1823)، و (1824): ص 2/ 520 - 521، وابن أبي حاتم (1113): ص 1/ 210.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1825): ص 2/ 521.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 521 - 522، ونقله عنه ابن كثير في تفسيره: 1/ 388.

ص: 145

والثالث: أنهم مشركو قريش، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام عام الحديبية، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (1)، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس (2).

والرابع: أنه عَامٌّ في كل مشرك، منع من كل مسجد.

الخامس: وقال أبو مسلم: "المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية، واستشهد بقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم * عند المسجد الحرام} [الفتح: 25] وبقوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34] وحمل قوله: {إلا خائفين} بما يعلى الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المنافقين: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (61) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61] "(3).

السادس: وقال الرازي: " لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة ولعلهم سعوا أيضا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضا في تخريب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة، فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه"(4).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة: 114]، "أي ما ينبغي لأولئك أن يدخلوها إِلا وهم في خشية وخضوع، فضلاً عن التجرؤ على تخريبها أو تعطليها"(5).

قال المراغي: " أي أولئك المانعون ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع، فكيف بهم دخلوها مفسدين ومخرّبين، فما كانت عبادة الله إلا نافعة للبشر، وما كان تركها إلا ضارّا لهم"(6).

قال أبو السعود: " أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن الاجتراء على تخريبها أوتعطيلها أوما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من جهة المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص ما استولوا عليه منهم وقد أنجز الوعد ولله الحمد"(7).

قال النسفي: " أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها"(8).

وقال الواحدي: " أعلم الله عز وجل أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم، حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا، وهذا كقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. الآية"(9).

وقيل: "معناه النهى عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] "(10).

(1) انظر: تفسير الطبري (1826): ص 2/ 521.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (110): ص 1/ 210، وأسباب النزول للواحدي:36.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 11.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 11. واحتج: " لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود والنصارى، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام، وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف ".

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 198.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 149.

(8)

تفسير النسفي: 1/ 82. [بتصرف بسيط].

(9)

التفسير البسيط: 3/ 254.

(10)

الكشاف: 1/ 180.

ص: 146

قال ابن كثير: " أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم - من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: "ألا لا يَحُجَّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" (1)، وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية [التوبة: 28] "(2).

قال الزمخشري: " وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوّزه أبو حنيفة رحمه الله، ولم يجوّزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره"(3).

قال الطبري: "خبر من الله تعالى عمن"منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها، ما داموا على مناصبة الحرب، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها" (4).

وفي تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَاّ خَآئِفِينَ} [البقرة: 114]، قولان (5):

أحدهما: خائفين بأداء الجزية، وهذا قول السدي (6).

والثاني: خائفين من الرعب، إن قُدر عليهم عوقبوا، وهذا قول قتادة (7).

قال ابن كثير: " والصحيح، أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة"(8). ثم ذكر الحديث (9).

وذكر الشيخ ابن عثيمين: في قوله تعالى {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة: 114]، ثلاثة معان:

الأول: ما كان ينبغي لهؤلاء أن يدخلوها إلا خائفين فضلاً عن أن يمنعوا عباد الله؛ لأنهم كافرون بالله عز وجل؛ فليس لهم حق أن يدخلوا المساجد إلا خائفين.

الثاني: أن هذا خبر بمعنى النهي؛ يعني: لا تدعوهم يدخلوها - إذا ظهرتم عليهم - إلا خائفين.

الثالث: أنها بشارة من الله عز وجل أن هؤلاء الذين منعوا المساجد - ومنهم المشركون الذين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام - ستكون الدولة عليهم، ولا يدخلونها إلا وهم ترجف قلوبهم (10).

قوله تعالى: {لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة: 114]، "أي لأولئك المذكورين هوانّ وذلة في الدنيا"(11).

قال أبو السعود: " أي خزي فظيع لا يوصف بالقتل والسبي والإذلال بضرب الجزية عليهم"(12).

قال ابن عثيمين: " أي ذل، وعار"(13).

قال السعدي: " أي: فضيحة"(14).

(1) صحيح البخاري (4380): ص 4/ 1710، والترمذي (3091): ص 5/ 257، والنسائي (2957): ص 5/ 234.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 389.

(3)

الكشاف: 1/ 180.

(4)

تفسير الطبري: 2/ 523.

(5)

انظر: النكت والعيون: 1/ 174.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1829): ص 2/ 523 - 524.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1827)، و (1828): ص 2/ 523.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 390.

(9)

جاء في مسند الإمام أحمد (4/ 181): " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة". قال ابن كثير:"حديث حسن".

(10)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 1.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 78.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 149.

(13)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 6.

(14)

تفسير السعدي: 63.

ص: 147

قال المراغي: " وقد تحقق ما أوعد به الله فحلّ بالرومانيين الخزي في الدنيا فتقسمت دولتهم، وتشتت ملكهم، ولحقهم الذلّ والهوان على يد غيرهم من الأمم القوية الفاتحة"(1).

وفي قوله تعالى: {لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة: 114]، ثلاثة أوجه (2):

أحدهما: أنه قتل الحربي وجزية الذمي. قاله قتادة (3).

والثاني: أنه فتح مدائنهم عمورية، وقسطنطينية، ورومية، وهذا قول ابن عباس (4)، وروي عن السدي (5) وعكرمة (6)، ووائل بن داود (7)، نحو ذلك.

والثالث: وقيل: ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد.

قلت: إن كل ذلك محتمل، لكون الخزي يجري مجرى القوبة والهوان والإذلال. والله أعلم.

قوله تعالى: {وَلَهُمْ في الأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]، أي: ولهم في الآخرة "عذاب النار"(8).

قال ابن عثيمين: "أي عقوبة عظيمة"(9).

قال البغوي: أي: "النار"(10).

قال الماوردي: " هو أشد من كل عذاب، لأنهم أظلم من كل ظالم"(11)

قال الطبري: " وأما (العذاب العظيم)، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا"(12).

قال القاسمي: وذلك" لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه، من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله، والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله"(13).

قال السعدي: " وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]، بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها، فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وللمساجد أحكام كثيرة، يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة"(14).

وفي كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال: تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط، فقيل لهم: كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا، وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال: جرى ذكر مشركي العرب في قوله: {كذالك قال الذين * قبلهم مثل قولهم} [البقرة: 113]، وقيل: جرى ذكر جميع الكفار وذمهم، فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين (15).

(1) تفسير المراغي: 1/ 198.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 174 - 175، والكشاف: 1/ 180، ومفاتيح الغيب: 3/ 12.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1831): ص 2/ 525، وتفسير ابن أبي حاتم (1119): ص 1/ 211.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1/ 175.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1832): ص 2/ 525، وابن أبي حاتم (1118): ص 1/ 211.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 211.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 211.

(8)

محاسن التأويل: 1/ 379.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 6.

(10)

تفسير البغوي: 1/ 139، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 83.

(11)

النكت والعيون: 1/ 175.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 525.

(13)

محاسن التأويل: 1/ 379.

(14)

تفسير السعدي: 63.

(15)

انظر: تفسير الرازي: 3/ 11.

ص: 148

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن المعاصي تختلف قبحاً؛ لقوله تعالى: {ومن أظلم} ؛ و {أظلم} اسم تفضيل؛ واسم التفضيل يقتضي مفضَّلاً، ومفضَّلاً عليه؛ وكما أن المعاصي تختلف، فكذلك الطاعات تختلف: بعضها أفضل من بعض؛ وإذا كانت الأعمال تختلف فالعامل نتيجة لها يختلف؛ فبعض الناس أقوى إيماناً من بعض؛ وبهذا نعرف أن القول الصحيح قول أهل السنة، والجماعة في أن الإيمان يزيد، وينقص، والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً لا في الكسب القلبي، ولا في الكسب البدني: فإن الناس يتفاوتون في اليقين؛ ويتفاوتون في الأعمال الظاهرة من قول أو فعل.

يتفاوتون في اليقين: فإن الإنسان نفسه تتفاوت أحواله بين حين وآخر؛ في بعض الأحيان يصفو ذهنه وقلبه حتى كأنما يشاهد الآخرة رأي عين؛ وفي بعض الأحيان تستولي عليه الغفلة، فيَقِلُّ يقينه؛ ولهذا قال الله تعالى لإبراهيم:{أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]؛ وتفاوت الناس في العلم، واليقين أمر معلوم: فلو أتى رجل، وقال:«قدم فلان» - والرجل ثقة عندي - صار عندي علم بقدومه؛ فإذا جاء آخر، وقال:«قدم فلان» ازداد علمي؛ فإذا جاء الثالث ازداد علمي أكثر؛ فإذا رأيتُه ازداد علمي؛ فالأمور العلمية تتفاوت في إدراك القلوب لها.

أيضاً يتفاوت الناس في الأقوال: فالذي يسبِّح الله عشر مرات أزيد إيماناً ممن يسبِّحه خمس مرات؛ وهذه زيادة كمية الإيمان؛ كذلك يتفاوت الناس في الأعمال من حيث جنس العمل: فالمتعبد بالفريضة أزيد إيماناً من المتعبد بالنافلة؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» ؛ فبهذا يكون القول الصواب بلا ريب قول أهل السنة، والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص (1).

2 -

ومن فوائد الآية: جواز منع دخول المساجد لمصلحة؛ لقوله تعالى: {أن يذكر فيها اسمه} ؛ ومنع مساجد الله له أسباب؛ فتارة تمنع المساجد من أن تمتهن فرشها، أو أرضها، أو كتبها، أو مصاحفها؛ فتغلَّق الأبواب حماية لها؛ وتارة تغلق أبوابها خوفاً من الفتنة، كما لو اجتمع فيها قوم لإثارة الفتن، والتشويش على العامة؛ فتغلق منعاً لهؤلاء من الاجتماع؛ وتارة تغلق لترميمها، وإصلاحها؛ وتارة تغلق خوفاً من سرقة ما فيها؛ ففي كل هذه الصور إغلاقها مباح، أو مطلوب.

3 -

ومنها: تحريم منع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله سواء كان ذكر الله: صلاة، أو قراءة للقرآن، أو تعليماً للعلم، أو غير ذلك.

وأخذ بعض العلماء من هذه الآية: تحريم التحجر؛ وهو أن يضع شيئاً في الصف، فيمنع غيره من الصلاة فيه، ويخرج من المسجد؛ قالوا: لأن هذا منع المكان الذي تحجره بالمسجد أن يذكر فيه اسم الله؛ لأن هذا المكان أحق الناس به أسبق الناس إليه؛ وهذا قد منع من هو أحق بالمكان منه أن يذكر فيه اسم الله؛ وهذا مأخذ قوي؛ ولا شك أن التحجر حرام: أن الإنسان يضع شيئاً، ويذهب، ويبيع، ويشتري، ويذهب إلى بيته يستمتع بأولاده، وأهله؛ وأما إذا كان الإنسان في نفس المسجد فلا حرج أن يضع ما يحجز به المكان بشرط ألا يتخطى الرقاب عند الوصول إليه، أو تصل إليه الصفوف؛ فيبقى في مكانه؛ لأنه حينئذ يكون قد شغل مكانين.

4 -

ومن فوائد الآية: شرف المساجد؛ لإضافتها إلى الله؛ لقوله تعالى: {مساجد الله} ؛ والمضاف إلى الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون أوصافاً؛ أو أعياناً؛ أو ما يتعلق بأعيان مخلوقة؛ فإذا كان المضاف إلى الله وصفاً فهو من صفاته غير مخلوق، مثل كلام الله، وعلم الله؛ وإذا كان المضاف إلى الله عيناً قائمة بنفسها فهو مخلوق وليس من صفاته، مثل مساجد الله، وناقة الله، وبيت الله؛ فهذه أعيان قائمة بنفسها إضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه على وجه التشريف؛ ولا شيء من المخلوقات يضاف إلى الله عز وجل إلا لسبب خاص به؛ ولولا هذا السبب ما خص بالإضافة؛ وإذا كان المضاف إلى الله ما يتعلق بأعيان مخلوقة فهو أيضاً

(1) أخرجه البخاري ص 545 – 546، كتاب الرقاق، باب 38 ك التواضع، حديث رقم 6502.

ص: 149

مخلوق؛ وهذا مثل قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]؛ فإن الروح هنا مخلوقة؛ لأنها تتعلق بعين مخلوقة.

5 -

ومن فوائد الآية: أن المصلَّيات التي تكون في البيوت، أو الدوائر الحكومية لا يثبت لها هذا الحكم؛ لأنها مصلَّيات خاصة؛ فلا يثبت لها شيء من أحكام المساجد.

6 -

ومنها: أنه لا يجوز أن يوضع في المساجد ما يكون سبباً للشرك؛ لأن {مساجد الله} معناها موضع السجود له؛ فإذا وضع فيها ما يكون سبباً للشرك فقد خرجت عن موضوعها، مثل أن نقبر فيها الموتى؛ فهذا محرم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك.

7 -

ومنها: وجوب تطهير المساجد؛ وهذا مأخوذ من إضافتها إلى الله تلك الإضافة القاضية بتشريفها، وتعظيمها؛ ولهذا قال تعالى:{وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركَّع السجود} .

8 -

ومنها: أن الناس فيها سواء؛ لأن الله تعالى أضافها إلى نفسه: {مساجد الله} ؛ والناس عباد الله - بالنسبة إلى الله في المسجد سواء -؛ فكل من أتى إلى هذه المساجد لعبادة الله فإنه لا فرق بينه وبين الآخرين.

وهنا نقول: إن للعالِم الحق أن يتخذ مكاناً يجعله لإلقاء الدرس، وتعليم الناس؛ لكنه إذا أقيمت الصلاة لا يمنع الناس - هو، وغيره سواء -.

9 -

ومنها: أن ذكر الله لا بد أن يكون باسمه، فتقول: لا إله إلا الله؛ سبحان الله؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون؛ سبحان ربي العظيم؛ فالذكر باللسان لا يكون إلا باسم الله؛ أما ذكر القلب فيكون ذكراً لله، وذكراً لأسمائه؛ فقد يتأمل الإنسان في قلبه أسماء الله، ويتدبر فيها، ويكون ذكراً للاسم؛ وقد يتأمل في أفعال الله عز وجل، ومخلوقاته، وأحكامه الشرعية.

10 -

ومن فوائد الآية: تحريم تخريب المساجد؛ لقوله تعالى: {وسعى في خرابها} ؛ ويشمل الخراب الحسي، والمعنوي؛ لأنه قد يتسلط بعض الناس - والعياذ بالله - على هدم المساجد حسًّا بالمعاول، والقنابل؛ وقد يخربها معنًى، بحيث ينشر فيها البدع والخرافات المنافية لوظيفة المساجد.

11 -

ومنها: البشارة للمؤمنين بأن العاقبة لهم، وأن هؤلاء الذين منعوهم لن يدخلوها إلا وهم خائفون؛ وهذا على أحد الاحتمالات التي ذكرناها.

12 -

ومنها: أن عقوبة من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، الخزي والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.

13 -

ومنها: أن الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة؛ عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه؛ ولا شك أن الإنسان إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتص لك منه؛ أما إذا كان في حق الله فإن الله تعالى لا يجمع عليه بين عقوبتين؛ لقوله تعالى:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30].

14 -

ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} .

15 -

ومنها: أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا، كما أن نعيم الآخرة أكمل من نعيم الدنيا؛ ولكن الله سبحانه وتعالى يُري عباده نموذجاً من هذا، ومن هذا؛ لأنه لا يستقيم فهم الوعيد، ولا فهم الوعد، إلا بمشاهدة نموذج من ذلك؛ لو كان الله توعد بالنار، ونحن لا ندري ما هي النار، فلا نخاف إلا خوفاً إجمالياً عاماً؛ وكذلك لو وعد بالنعيم والجنة، ولا نعرف نموذجاً من هذا النعيم، لم يكن الوعد به حافزاً للعمل.

القرآن

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115]

التفسير:

ولله جهتا شروق الشمس وغروبها وما بينهما، فهو مالك الأرض كلها. فأي جهة توجهتم إليها في الصلاة بأمر الله لكم فإنكم مبتغون وجهه، لم تخرجوا عن ملكه وطاعته. إن الله واسع الرحمة بعباده، عليم بأفعالهم، لا يغيب عنه منها شيء.

اختلفوا في سبب نزول الآية على أقوال:

أحدها: أخرج الواحدي عن جابر بن عبد الله قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا وقال بعضنا: القبلة هاهنا قبل الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسكت فأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} "(1).

والثاني: وأخرج الطبري عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال، " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنزل الله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} "(2).

الثالث: وأخرج الطبري والواحدي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} "(3).

قال الواحدي: "ومذهب ابن عمر أن الآية نازلة في التطوع بالنافلة"(4).

أخرج الطبري عن ابن عمر أنه قال: " إنما نزلت هذه الآية: {أينما تولوا فثم وجه الله} أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة "(5).

الرابع: قال ابن عباس في رواية عطاء: "إن النجاشي لما توفي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن النجاشي توفي، فصل عليه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضروا وصفهم ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "إن الله أمرني أن أصلي على النجاشي وقد توفي فصلوا عليه" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عليه، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم:

(1) أسباب النزول: 37. أخرجه ابن مردويه (لباب النقول: 27) وإسناده منقطع (العجاب لابن حجر: ورقة 40 أ) ويشهد له: الرواية الآتية.

(2)

تفسير الطبري (1841): ص 2/ 531.

(3)

تفسير الطبري (1842): ص 2/ 532، وأسباب النزول للواحدي: 36 - 37، والحديث أخرجه الترمذي (2/ 176 - ح: 345) وابن ماجه (1/ 326 - ح: 1020) والدارقطني (1/ 272 - ح: 5) والطيالسي (منحة المعبود: 1/ 85 - ح: 368)(العجاب: ورقة 40 أ) وعبد بن حميد (فتح القدير: 1/ 132) والطبراني (المعجم الأوسط: 1/ 284 - ح: 463) كلهم من طريق أشعث به. وإسناده ضعيف جدا فأشعث متروك (تقريب التهذيب: 1/ 79 - رقم 598)(وعاصم ضعيف (المصدر السابق: 1/ 384 - رقم: 15) ويشهد للروايتين السابقتين:

1 -

ما أخرجه الدارقطني (1/ 271 - ح: 3) وابن مردويه (تفسير ابن كثير: 1/ 159) من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر به وضعفه الدارقطني وكذلك شمس الحق العظيم أبادي في "التعليق المغني على الدارقطني".

2 -

ما أخرجه الدارقطني (1/ 281 - ح: 4) والحاكم (المستدرك: 1/ 207) من طريق محمد بن سالم عن عطاء عن جابر نحوه. وضعفه الحافظ الذهبي في "التلخيص"(حاشية المستدرك: 1/ 207) والحافط ابن كثير في "تفسيره"(1/ 159). قلت: وأنا لا أرى أن هذه الطرق يجبر بعضها بعضا لضعفها، ولورود ما يعارضها مما هو أصح، كما في رواية علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما وسيأتي تخريجها. [انظر: حاشية أسباب النزول للواحدي: 37].

(4)

أسباب النزول: 37.

(5)

تفسير الطبري (1840): ص 2/ 530، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 37.

ص: 150

كيف نصلي على رجل مات، وهو يصلي على غير قبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس حتى مات وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى:{فأينما تولوا فثم وجه الله} " (1).

وأخرج الطبري عن قتادة: " إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [سورة آل عمران: 199]، قال: قتادة، فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} "(2).

قال الواحدي: " ومذهب قتادة أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (3)، فهذا قول ابن عباس عند عطاء الخراساني، وقال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله}، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله تعالى إلى البيت العتيق"(4).

الخامس: أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [سورة البقرة: 144] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها "؟ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ لله المشرق والمغرب} "(5).

السادس: : وقال مجاهد: " لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر: 60]، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115] "(6).

قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، " أي لله مكان شروق الشمس ومكان غروبها والمراد جميع الأرض"(7).

قال الطبري: "أي: "لله ملكهما وتدبيرهما" (8).

قال الزمخشري: " أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها للَّه هو مالكها ومتوليها"(9).

قال أبو السعود: " أي له كل الأرض التي هي عبارة عن ناحيتي المشرق والمغرب لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان"(10).

قال ابن عثيمين: " يعني أن الله سبحانه وتعالى مختص بملك المشرق، والمغرب؛ وأما من سواه فملكه محدود .. ويحتمل أن المراد له كل شيء؛ لأن ذكر المشرق والمغرب يعني الإحاطة والشمول"(11).

(1) أسباب النول للواحدي: 37 - 38.

(2)

تفسير الطبري (1844): ص 2/ 532 - 533.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1836)، و (1837): ص 2/ 529.

(4)

أسباب النول للواحدي: 37 - 38.

(5)

تفسير الطبري (2160): ص 2/ 138 - 139، وابن أبي حاتم (1329): ص 1/ 248، وأسباب النزول للواحدي: 39، وإسناده صحيح، انظر: لباب النقول: 27، وهذا أصح الأسانيد عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: التفسير والمفسرون: 1/ 77.

(6)

أخرجه الطبري (1847): ص 2/ 534.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 79.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 526.

(9)

الكشاف: 1/ 180.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 150.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 12، قال الشيخ:" وقد وردت المشرق، والمغرب في القرآن على ثلاثة أوجه: (مفردة، ومثناة، وجمع)؛ فجاءت مفردة هنا فقال تعالى: {ولله المشرق والمغرب}؛ وجاءت مثناة في قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمن: 17]، وجمعاً في قوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} [المعارج: 40]؛ والجمع بين هذه الأوجه الثلاثة أن نقول: أما (المشرق) فلا ينافي (المشارق)، ولا (المشرقين)؛ لأنه مفرد محلى بـ (أل)؛ فهو للجنس الشامل للواحد، والمتعدد؛ وأما {رب المشرقين ورب المغربين}، و {رب المشارق والمغارب} فالجمع بينهما أن يقال: إن جمع {المشارق}، و {المغارب} باعتبار الشارق، والغارب؛ لأن الشارق، والغارب كثير: الشمس، والقمر، والنجوم؛ كله له مشرق، ومغرب؛ فمن يحصي النجوم! أو باعتبار مشرق كل يوم، ومغربه؛ لأن كل يوم للشمس مشرق، ومغرب؛ وللقمر مشرق، ومغرب؛ وثنَّى باعتبار مشرق الشتاء، ومشرق الصيف؛ فمشرق الشتاء تكون الشمس في أقصى الجنوب؛ ومشرق الصيف في أقصى الشمال؛ وبينهما مسافات عظيمة لا يعلمها إلا الله؛ وسورة «الرحمن» أكثر ما فيها بصيغة التثنية؛ فلذلك كان من المناسب اللفظي أن يذكر المشرق، والمغرب بصيغة التثنية؛ أما عند العظمة فذكرت بالجمع: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين} [المعارج: 40، 41] ".

ص: 151

و {المشرق} : "هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال: لموضع طلوعها منه: (مطلع)، بكسر اللام"(1).

قال الراغب: " المشرق والمغرب، تارة يقالان بلفظ الواحد إما إشارة إلى ناحية الأرض، وإما إلى المطلع والمغيب، وتارة بلفظ التثنية إشارة إلى مشرقي ومغربي الشتاء والصيف، وتارة بلفظ الجمع اعتباراً باختلاف المغارب والمطالع كل يوم، وشرقت الشمس طلعت، وأشرقت: أضاءت وذلك إذا كثير شروقها، وشرقت اللحم: ألقيته على الشمس المشرق، والشرف الصلب لأنه يقام فيه صلاة [العيد] عند شروقها، وشرق الثوب بالصبغ تشبيها بلون الشرقة، والغروب للشمس تصور منه بعد ذهابها عن العمارة، فيقال لدى تباعد غروب، ومنه الغروب لكونه مبعدا في الذهاب، وغارب السنام لبعده عن المنال، وغرب السيف أبعد جزء من صحيفته، ثم تصور منه حدته، فقيل لسان غرب وسمي الدلو غرباً لتصور بعدها في البئر، ثم سمي الماء به كتسميتهم إياها بالذنوب لكونه فيها، والغرب للذهب لكونه غريباً فيما بين الجواهر، والغرب لبعده عن المثمرات من الأشجار"(2).

وقد خصهما (المشرق والمغرب) بالذكر، لكونهما محل الآيات العظيمة، فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها، كان مالكا لكل الجهات.

قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]، " أي إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم"(3).

قال أبو السعود: " أي ففي أي مكان فعلتم تولية وجوهكم شطر القبلة، فهناك جهته"(4).

قال الزمخشري: " ففي أى مكان فعلتم التولية، [فثمّ] جهته التي أمر بها ورضيها، والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أى بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص إسكانها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان"(5).

قال الراغب: أي" وحيث ما توجهتم، فهو موجود يمكنكم الوصول إليه"(6).

وقد اختلف فيه المفسرون من السلف، والخلف، في قوله تعالى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، على أقوال (7):

أحدها: أن المراد به: وجه الله الحقيقي. وإنه من آيات الصفات. وهذا قول ابن خزيمة (8)، والسعدي (9)، وابن عثيمين (10).

(1) تفسير الطبري: 2/ 526.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 2898 - 299.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 79.

(4)

تفسير أبي السعود: 1/! 50.

(5)

الكشاف: 1/ 180.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 299.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 536. وتفسير ابن عثيمين: 2/ 4.

(8)

انظر: مجموع الفتاوى: 6/ 16.

(9)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 64.

(10)

انظر: "شرح العقيدة الواسطية" 1/ 289 (ط. ابن الجوزي).

وقد بيَّن الشيخ ابن عثيمين في "شرح الواسطية" 1/ 290: أن الأول صحيح موافق لظاهر الآية، وأن الثاني لا يخالف الأول في الواقع، فإذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أوكان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضًا وجه الله حقًا، وحينئذٍ يكون المعنيان لا يتنافيان. اهـ. هذا وقد نبه شيخ الإسلام على أمرٍ مهم فقال في "الفتاوى" 6/ 17: والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه، الذي ينكره منكرو آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة قولهم {فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ} على: فَثَّمَّ قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجهًا باعتبار أن الوجه والجهة واحد، أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها. [انظر: حاشية التفسير البسيط: 3/ 260].

ص: 153

قال الشيخ السعدي: وقوله تعالى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، "فيه إثبات الوجه لله تعالى، على الوجه اللائق به تعالى، وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه"(1).

واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهه"(2)، وبقوله "لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلًا عليه، فإذا انصرف صرف وجهه عنه"(3).

والثاني: معناه: الجهة، أي: قبلة الله. قاله مجاهد (4)، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية (5).

والعرب تجعل القصد الذي يتوجه إليه وجهًا (6)، كقول الشاعر (7):

أستغفر الله ذنبًا لستُ مُحْصِيه

ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ

معناه. إليه القصد، وعلى هذا القول معنى قوله:{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: جهة الله التي تعبّدكم بالتوجه إليها، والإضافة تكون للتخصيص نحو: بيت الله، وناقة الله (8).

الثالث: وقيل: فثم تدركون بالتوجه إليه، رضا الله الذي له الوجه الكريم (9).

والراجح عندي: أن المراد به الوجه الحقيقي لله عز وجل؛ لأن ذلك هو الأصل؛ وليس هناك ما يمنعه؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي (10)؛ والمصلُّون حسب مكانهم يتجهون؛ فأهل اليمن يتجهون إلى الشمال؛ وأهل الشام إلى الجنوب؛ وأهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى الشرق؛ وكل يتجه جهة؛ لكن الاتجاه الذي يجمعهم الكعبة؛ وكل يتجه إلى وجه الله؛ وعلى هذا يكون معنى الآية: أنكم مهما توجهتم في صلاتكم فإنكم تتجهون إلى الله سواء إلى المشرق، أو إلى المغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب (11).

وقرأ الحسن: " {فأينما تولوا}، بفتح التاء، من التولي، يريد: فأينما توجهوا القبلة"(12).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، "أي: فالله تعالى واسع الفضل والصفات عظيمها، عليم بسرائركم ونياتكم" (13).

قال السعدي: "فمن سعته وعلمه، وسع لكم الأمر، وقبل منكم المأمور، فله الحمد والشكر"(14).

قال المراغي: " أي إنه تعالى لا يحصر ولا يتحدد، فيصح ان يتوجه إليه فى كل مكان، وهو عليم بالمتوجه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيد"(15).

قال الصابوني: " أي يسع الخلق بالجود والإِفضال، عليم بتدبير شئونهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم"(16).

قال الزمخشري: " {واسِعٌ} الرحمة، يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم، {عَلِيمٌ} بمصالحهم"(17).

قال ابن عطية: " و {واسِعٌ} ، معناه: متسع الرحمة عليهم أين يضعها

{عَلِيمٌ} بالنيات التي هي ملاك العمل، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها" (18).

قال الراغب: " ونبه بقوله: بـ {واسع}، على إحاطته بالأشياء، وبـ {العليم}، أنه لا يخفى عليه خافية"(19).

قال القاسمي: " بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق، المتسبب عنه سعة علمه. وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نظير قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرحمن: 33]، وكقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] وقوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7]، وقوله: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر: 7]، أي عمّ كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوّه عليه"(20).

قال ابن عثيمين: " (الواسع) يعني واسع الإحاطة، وواسع الصفات؛ فهو واسع في علمه، وفي قدرته، وسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته؛ و (عليم) أي ذو علم؛ وعلمه محيط بكل شيء"(21).

و(الواسع) في صفة الله تعالى على ثلاثة أوجه (22):

أحدها: أنه واسع بإفضاله على خلقه، واحتماله مسائل عباده، وأنه لا يُكرِثه إلحاحُهم، من قول العرب: فلان يسع ما يسأل، قال أبو زبيد (23):

أُعطيهم الجَهْدَ مني بَلْهَ ما أسِعُ

وهذا معنى قول الفراء (24) وأبي عبيدة (25).

(1) تفسير السعدي: 1/ 64.

(2)

رواه البخاري (406) كتاب الصلاة، باب: حك البزاق باليد ومسلم (547) كتاب المساجد، باب: النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.

(3)

المستدرك على الصحيحين (339): 1/ 504.

(4)

تفسير الطبري (1845)، و (1846): ص 2/ 533، و (1848)، و (1849): ص 2/ 536.

(5)

انظر: الفتاوى: 6/ 16، 3/ 193 و 2/ 428، بل قال في: 3/ 193: من عدها في آيات الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريده؟ أي: أي جهة .. ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: تستقبلوا وتتوجهوا والله أعلم. اهـ. وقال في 6/ 16: ولكن من الناس من يسلِّم أن المراد بذلك وجه الله: أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث

ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر، ليس هذا موضعه.

(6)

انظر: اللسان: (وجه).

(7)

هذا البيت من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. ينظر: "الكتاب" 1/ 37، و"الخزانة" 3/ 111، و"أدب الكاتب" 419، و"الفراء" 1/ 233، القرطبي 2/ 75 و"مجموع الفتاوى" 2/ 428 والرازي في "تفسيره" 4/ 22، "البحر المحيط" 1/ 361، "لسان العرب" 6/ 3274 (ماده: غفر). "المعجم المفصل" 6/ 279.

والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع؛ فلذا قال: لستُ محصيه، وأراد: من ذنبٍ. والوجه: القصد والمراد.

(8)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 260.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 536.

(10)

أخرجه البخاري ص 35، كتاب الصلاة، باب 33: حك البزاق باليد من المسجد، حديث رقم 406، وأخرجه مسلم ص 763، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 13: النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها

، حديث رقم 1223 [50]547.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 4.

(12)

الكشاف: 1/ 180.

(13)

تفسير السعدي: 1/ 64.

(14)

تفسير السعدي: 1/ 64.

(15)

تفسير المراغي: 1/ 199.

(16)

صفوة التفاسير: 1/ 79.

(17)

الكشاف: 1/! 80.

(18)

المحرر الوجيز: 1/ 201.

(19)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 299.

(20)

محاسن التأويل: 1/ 380.

(21)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 5.

(22)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 26 - -261، والبحر المحيط: 1/ 361.

(23)

وصدره: حمّال أثقالِ أهلِ الودِّ آونةً

انظر: شعره: 109، واللسان (وسع)، وتمامه في التاج (وسع)، وانظر مجاز القرآن: 1/ 51، والزاهر في مه=عاني كلمات الناس: 1/ 259. ومعناه: فدع ما أسع.

(24)

ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1136 وعنه البغوي 1/ 140.

(25)

في "مجاز القرآن" 1/ 51.

ص: 154

الثاني: أنه يُوَسِّع على عباده في دينهم، ولا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه، فهو واسعُ الرَّحمة، واسع الشريعةِ بالترخيص لهم في التوجهٍ إلى أي جهة أدَّى إليها اجتهادهم عند خفاء الأدلة (1).

الثالث: أنه يسع علمَ كلِّ شيء، ويسع علمُه كلَّ شيء، كقوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: علمه (4)، وقال:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98].

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: انفراد الله بالملك؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب} .

2 -

ومنها: عموم ملك الله؛ لأن المشرق والمغرب يحتويان كل شيء.

3 -

ومنها: إحاطة الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} .

4 -

ومنها: عموم ملك الله تعالى للمشرق، والمغرب خلقاً وتقديراً؛ وله أن يوجه عباده إلى ما شاء منهما من مشرق ومغرب؛ فله ملك المشرق والمغرب توجيهاً؛ وقد سبق أن قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها

} [البقرة: 106] إلى آيات نسخ القبلة كله تمهيد لتحويل القبلة؛ فكأن الله تعالى يقول: لله المشرق والمغرب فإذا شاء جعل اتجاه القبلة إلى المشرق؛ وإذا شاء جعله إلى المغرب؛ فأينما تولوا فثم وجه الله.

5 -

ومنها: إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {فثم وجه الله} .

6 -

ومنها: أن الله تعالى له مكان لقوله تعالى: {فثم} ؛ لأن «ثم» إشارة إلى المكان؛ ولكن مكانه في العلو؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء» (2).

7 -

ومنها: إبطال بدعتين ضالتين؛ إحداهما بدعة الحلولية القائلين بأن الله تعالى في كل مكان بذاته؛ فإن قول هؤلاء باطل يبطله السمع، والعقل، والفطرة أيضاً؛ الثانية: قول النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم، ولا خارجه؛ ولا فوق العالم، ولا تحته؛ ولا يمين العالم، ولا شمال العالم، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم؛ وهذا القول قال بعض أهل العلم: لو قيل لنا: صفوا لنا العدم ما وجدنا وصفاً أدق من هذا.

8 -

ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: {واسع} ، و {عليم} .

9 -

ومنها: إثبات سعة الله، وعلمه؛ ونستفيد صفة ثالثة من جمع السعة والعلم؛ للإشارة إلى أن علم الله واسع بمعنى أنه لا يفوته شيء من كل معلوم لا في الأرض، ولا في السماء.

القرآن

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]

التفسير:

وقالت اليهود والنصارى والمشركون: اتخذ الله لنفسه ولدًا، تنزَّه الله -سبحانه- عن هذا القول الباطل، بل كل مَن في السموات والأرض ملكه وعبيده، وهم جميعًا خاضعون له، مسخَّرون تحت تدبيره.

وفي سبب نزول الآية أربعة أقوال (3):

أحدها: أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيرا ابن الله. قاله ابن عباس (4).

والثاني: أنها نزلت في نصارى نجران، حيث قالوا: عيسى ابن الله. قاله مقاتل (5)، ويمان (6). واقتصر الطبري على قوله:"هم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله"(7).

(1) انظر: الوسيط" 1/ 194.

(2)

أخرجه مسلم ص 761، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 7: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، حديث رقم 1199 [33]537.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 135، وأسباب النزول: 39، وانظر: العجاب: 1/ 366، وتفسير الثعلبي: 1/ 264.

(4)

انظر: زاد المسير: 1/ 135.

(5)

انظر: تفسير مقاتل: 1/ 133، زاد المسير: 1/ 135، وتفسير الثعلبي: 1/ 264، والعجاب: 1/ 366.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(7)

تفسير الطبري: 2/ 537، وانظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 366.

ص: 155

والثالث: أنها في النصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت عيسى ابن الله، والمشركين قالوا الملائكة بنات الله. ذكره إبراهيم بن السري (1)، والزجاج (2).

والرابع: أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب. ذكره الثعلبي (3)، وتبعه ابن ظفر، والكواشي (4) وغيرهما (5).

قال الواحدي: " نزلت في اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله"(6).

وقال الحافظ ابن حجر: "واتفقوا (7) على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولداً من يهود خيبر ونصارى نجران، ومن قال من مشركي العرب: الملائكة بنات الله (8)، فرد الله تعالى عليهم"(9).

قال الحافظ ابن كثير: "إن الآية الكريمة- والتي تليها- اشتملت، على الرد على النصارى، وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم"(10).

قلت: والآية يصح أن تكون نزلت رداً على جميع هذه الطوائف، والأقوال المحكية في الآية لا تخرج عن ذلك. والله أعلم.

قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]، " أي: قالت النصارى، واليهود، والمشركون، اتخذ الله ولداً" (11).

قال القاسمي: " يريد الذين قالوا المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله. فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم: إنّ لله ولدا"(12).

قال المراغي: " ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو من بعضها، فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع"(13).

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 135، والعجاب: 1/ 366.

(2)

انظر: معاني القرآن: 1/ 198.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(4)

هو الإمام أحمد بن يوسف الموصلي ترجمه السيوطي في "بغية الوعاة""1/ 401" ونقل عن الذهبي قوله فيه: برع في العربية والقراءات والتفسير. وكان عديم النظير زهدًا وصلاحًا وتبتلًا وصدقًا. وله "التفسير الصغير" و"الكبير"، جود فيه الأعراب وحرر أنواع الوقوف وأرسل منه نسخة إلى مكة والمدينة والقدس.

قال السيوطي: وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في "تفسيره"، واعتمدت عليه أنا في تكملته مع "الوجيز" و"تفسير البيضاوى" و"ابن كثير".

مات الكواشي بالموصل في جمادى الآخرة سنة "680".

(5)

انظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 366.

(6)

أسباب النزول: 39، وانظر: العجاب: 1/ 366، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 198.

(7)

مراد الحافظ بالاتفاق: أن أقوال المفسرين في الآية لا تخرج عما ذكره، لا أن كل مفسر قال ذلك، فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول: 39 ذلك دون حكاية الاتفاق، واقتصر الطبري في جامع البيان: 2/ 537 على ذكر النصارى، وظاهر صنيع ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 338، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 85، ترجيح ذلك، وإن حكوا أقوالاً ثلاثة. ورجح الرازي في مفاتيح الغيب: 4/ 25 حكايته عن اليهود وإن ذكر الأقوال الثلاثة، وحكى أبو حيان في البحر المحيط: 1/ 362 أربعة أقوال، الثلاثة التي ذكرها الحافظ، والرابع أنها نزلت في النصارى والمشركين، وهذا الأخير قاله الزجاج في معاني القرآن: 1/ 198

(8)

انظر: مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 25، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 300، بدائع الفوائد لابن القيم: 4/ 152 - 155، بدائع التفسير من تفسير ابن القيم-جمع: يسري السيد-: 1/ 334 - 338.

(9)

الفتح: 8/ 18.

(10)

رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به، وفيه:"ولم يكن لي كفوا أحد".

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 16.

(12)

محاسن التأويل: 1/ 380

(13)

تفسير المراغي: 1/ 199.

ص: 157

قال السعدي: أي: "اليهود والنصارى والمشركون، وكل من قال ذلك: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}، فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله، وأساءوا كل الإساءة، وظلموا أنفسهم، وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم، قد حلم عليهم، وعافاهم، ورزقهم مع تنقصهم إياه"(1).

و{وَقَالُوا} [البقرة: 116]، هي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر (2){قَالُوا} (3)، بحذف (الواو)، يريد الذين قالوا المسيح ابن اللَّه وعزير ابن اللَّه والملائكة بنات اللَّه.

قوله تعالى {سُبْحَانَهُ} [البقرة: 116]، "أي تقدس وتنزّه عما زعموا تنزهاً بليغاً"(4).

قال الثعلبي: " نزّه وعظم نفسه"(5).

قال ابن كثير: أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا" (6).

قال الزمخشري: " تنزيه له عن ذلك وتبعيد"(7).

قال أبو السعود: " تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا"(8).

قال السعدي: "أي: "تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه" (9).

قال ابن عثيمين: أي تنزيهاً له أن يكون له ولد؛ لأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ وهو سبحانه وتعالى مالك لجميع المخلوقات" (10).

قال المراغي: " تنزيها له تعالى أن يكون له ولد، إذ هذا الولد إما من العالم العلوي وهو السماء أو من العالم السفلى وهو الأرض، وليس شاء منهما بمجانس له عز اسمه إلى أن السبب المقتضى للولد هو الاحتياج إلى المعونة في الحياة والقيام مقامه بعد الموت والله منزه عن ذلك"(11).

قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [البقرة: 116]، "أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له"(12).

قال الصابوني: " أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة"(13).

قال النسفي: " أي: هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزيز والولادة تنافي الملك"(14).

قال السعدي: " أي: جميعهم ملكه وعبيده، يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك"(15).

قال الرازي: " أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع"(16).

(1) تفسير السعدي: 1/ 64.

(2)

هو: أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي، تابعي، أحد القراء السبعة، قاضي دمشق ومقرؤها، توفي عام: 118 هـ، انظر: معرفة القراء للذهبي: 1/ 67، سير أعلام النبلاء له: 5/ 293، غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 423.

(3)

انظر: السبعة لابن مجاهد: 169، النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 2/ 220، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 260، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 338، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 362، الدر المصون للسمين: 1/ 351، الغاية في القراءات العشر لابن مهران:106.

(4)

محاسن التأويل: 1/ 380، وانظر: صفوة التفاسير: 1/ 80.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(6)

رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به، وفيه:"ولم يكن لي كفوا أحد".

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 180، وتفسير النسفي: 1/ 83.

(8)

تفسير أبي السعود: 1/ 150.

(9)

تفسير السعدي: 1/ 64.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 16.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 199.

(12)

تفسير المراغي: 1/ 200.

(13)

محاسن التأويل: 1/ 380، وانظر: صفوة التفاسير: 1/ 80.

(14)

تفسير النسفي: 1/ 83.

(15)

تفسير السعدي: 1/ 64.

(16)

مفاتيح الغيب: 4/ 23.

ص: 158

قال أبو السعود: " ي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزيز والمسيح والملائكة"(1).

قال ابن كثير: " أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومُقَدِّرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد!

فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد! " (2).

وقد روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد. فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا"(3).

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الله الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد"(4).

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم"(5)(6).

قال الرازي: "اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين

ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه (7):

الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولدا.

والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديما أزليا أو محدثا، فإن كان أزليا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجردا من غير دليل وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له فلا يكون ولدا له.

والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه، وممتازا عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركبا ومحدثا وذلك محال، فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة.

الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا.

قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، " أي: كل له خاشع ذليل" (8).

(1) تفسير أبي السعود: 1/ 151.

(2)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 396.

(3)

صحيح البخاري برقم (4482).

(4)

رواه البخاري في صحيحه برقم (4974) من طريق شعيب عن أبي الزناد به، وفيه:"ولم يكن لي كفوا أحد".

(5)

(") صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(6)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 396.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 23.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 16.

ص: 159

قال الصابوني: "أي الكل منقادون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته"(1).

قال الزجاج: أي" كل ما خلق اللَّه في {السَّمَاوَات والأرض}، فيه أثَرُ الصنْعَة، فهو قانت للَّهِ، والدليل على أنه مخلوق"(2).

قال المراغي: أي: الجميع "قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته"(3).

قال أبو السعود: " أي: مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته"(4).

قال القاسمي: أي: " منقادون، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره"(5).

قال ابن عثيمين: " وهذا من الاستدلال بالعقل على كذب دعوى هؤلاء أن له سبحانه وتعالى ولداً (6).

وقال الفراء: " يريد مطيعون، وهذه خاصة لأهل الطاعة ليست بعامة"(7).

واعترض عليه الزجاج، فقال:" والكلام يدل على خلاف ما قال، لأن قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} كل إحاطة"(8).

و(القنوت) في كلام العرب على ثلاثة أوجه من المعاني (9):

أحدهما: أنه من: القيام. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الصّلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» (10). يريد: طول القيام (11).

والثاني: أنه من: الطاعة. ودليله قول عكرمة في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، "القانت: المطيع" (12).

والثالث: أنه: الكف عن الكلام والإمساك عنه (13).

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، على أربعة أقوال (14):

أحدها: أي مطيعون، وهذا قول ابن عباس (15)، وقتادة (16)، والسدي (17)، ومجاهد (18).

قال الثعلبي: " دليله: قوله تعالى {وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ} [الأحزاب: 35] "(19).

والثاني: أي مقرون له بالعبودية، وهو قول عكرمة (20).

والثالث: أي قائمون، يعني يوم القيامة، وهذا قول الربيع (21).

والرابع: أي: قائمون بالشهادة. حكاه الثعلبي عن ابن كيسان (22).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 80.

(2)

معاني القرآن: 1/ 198.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 200.

(4)

تفسير أبي السعود: 1/ 151.

(5)

محاسن التأويل: 1/ 380.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 16.

(7)

معاني القرآن: 1/ 74.

(8)

معاني القرآن: 1/ 198.

(9)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 263 - 264.

(10)

صحيح مسلم (756): ص 1/ 520، ومسند الإمام أحمد (1821): ص 3/ 302، والترمذي (387): ص 2/ 229، والنسائي (2526): ص 5/ 58، وابن ماجة (1421): ص 1/ 456.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 198، والتفسير البسيط: 3/ 263 - 264.

(12)

أخرجه أبو عبيد في: "غريب الحديث" 1/ 438، ورواه الطبري (1856): ص 2/ 538. بنحوه.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 539.

(14)

انظر: النكت والعيون: 1/ 178، وتفسير الثعلبي: 1/ 264.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1855): ص 2/ 538.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1850): ص 2/ 538.

(17)

انظر: تفسير الطبري (1853): ص 2/ 538.

(18)

انظر: تفسير الطبري (1851)، و (1852): ص 2/ 538.

(19)

تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(20)

انظر: تفسير الطبري (1856): ص 2/ 538.

(21)

انظر: تفسير الطبري (1857): ص 2/ 539.

(22)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

ص: 160

والخامس: أي: مصلّون، قاله ابن عباس (1)، ودليله قوله:{أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مثل المجاهد في سبيل الله مثل القانت الصائم» (2)، أيّ المصلّي (3).

والسادس: وقيل: داعون. ودليله قوله تعالى: {قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} [البقرة: 238](4).

والسابع: مخلصون. قاله سعيد (5).

والراجح هو القول الأول، وهو القول عن مجاهد - وهو اختيار الإمام الطبري (6) - يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقَدري، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15]، وقد وَرَد حديث فيه بيان معنى القنوت في القرآن، فروي عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة"(7). والله أعلم.

وقد ذكر الشيخ السعدي: بأن القنوت نوعان (8):

أحدهما: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم، تحت تدبير الخالق، كما في هذه الآية.

والثاني: قنوت خاص: وهو قنوت العبادة، وذلك كما في قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية، على قولين (9):

القول الأول: أن حكمه خاص، ثمّ سلكوا في تخصيصه طريقين:

الأول: أنه راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وهو قول مقاتل (10)، ويمان (11).

فأراد: "أنهم كلهم عباد الله طائعون، نظيره: قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] "(12).

والثاني: أنه راجع إلى أهل طاعته دون النّاس أجمعين. وهذا قول ابن عبّاس (13) والفراء (14).

وقد رد الطبري في تفسيره القول بالخصوص، بأنه لا يجوز ادعاء خصوص في آية ظاهرها العموم، إلا بحجة (15).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1131): ص 1/ 214.

(2)

مسند أحمد: 2/ 438، ومجمع الزوائد: 5/ 275.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1134): ص 1/ 214.

(6)

قال الإمام الطبري: "إن معنى القنوت في الآية هو: "الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله:(بل له ما في السموات والأرض)، ملكا وخلقا، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله:(كل له قانتون)، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينا في كتابنا:" كتاب البيان عن أصول الأحكام "، وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية، عقيب قوله:(وقالوا اتخذ الله ولدا)، فدل ذلك على صحة ما قلنا". [تفسير الطبري: 2/ 539 - 540].

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (3492): ص 2/ 648، والمسند (3/ 75).

(8)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 64.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264 - 265.

(10)

انظر: تفسير مقاتل: 1/ 133، وذكره الثعلبي: 1/ 264.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(12)

التفسير البسيط: 3/ 265.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 3/ 264، والتفسير البسيط: 3/ 264، ورواه الطبري (1855): ص 2/ 538، بنحوه.

(14)

انظر: معاني القرآن: 1/ 74.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 539.

ص: 161

القول الثاني: أنه عام في جميع الخلق، ثمّ سلكوا في الكفّار الجاحدين طريقتين:

أحدهما: إنّ ظلالهم تسجد لله وتطيعه، وهذا قول مجاهد (1)، دليله قوله عز وجل:{يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ} [النحل: 48]، الآية. وقوله:{وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15](2).

والثاني: لأن هذا يوم القيامة، قاله السدي (3)، وتصديقه قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111](4).

وقيل: " طاعة الجميع لله تكونهم في الخلق عند التكوين إذا قال: كن كان كما أراد (5)، فنسب القنوت إليه كما نسبت الخشية إلى الحجارة، والمحبة إلى الجبال، والشكوى إلى الإبل، والسجود إلى الأشجار"(6).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآيتين: بيان عتوّ الإنسان وطغيانه، حيث سبَّ الله سبحانه وتعالى هذه السبَّة العظيمة، فقال: إن الله اتخذ ولداً! ! ! في الحديث الصحيح القدسي: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك؛ وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: إنه لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفْئاً أحدٌ» (7)؛ فهذا من أعظم العدوان؛ وهو يشير كما تقدم في التفسير إلى ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركين؛ وقد أبطل الله هذه الدعوى الكاذبة من ستة أوجه:

الوجه الأول: في قوله تعالى: {سبحانه} ؛ فإن تنزهه عن النقص يقتضي أن يكون منزهاً عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقصد به الإعانة، ودفع الحاجة، أو بقاء العنصر؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ ومنزه أيضاً عن المماثلة؛ ولو كان له ولد لكان مثيلاً له.

الوجه الثاني: في قوله تعالى: {بل له ما في السموات والأرض} ؛ وعموم ملكه يستلزم استغناءه عن الولد.

الوجه الثالث: في قوله تعالى: {بل له ما في السموات والأرض} ، والمملوك لا يكون ولداً للمالك؛ حتى إنه شرعاً إذا ملك الإنسان ولده يعتق عليه؛ فالمملوك لا يمكن أن يكون ولداً للمالك؛ فالله خالق؛ وما سواه مخلوق؛ فكيف يكون المخلوق ولداً للخالق!

الوجه الرابع: في قوله تعالى: {كل له قانتون} ؛ ووجهه أن العباد كلهم خاضعون ذليلون؛ وهذا يقتضي أنهم مربوبون لله عابدون له؛ والعبد لا يكون ولداً لربه.

الوجه الخامس: في قوله تعالى: {بديع السموات والأرض} ؛ ووجهه أنه سبحانه وتعالى مبدع السموات والأرض؛ فالقادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق إنساناً بلا أب، كما قال تعالى:{لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57].

الوجه السادس: في قوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} ؛ ومن كان هذه قدرته فلا يستحيل عليه أن يوجد ولداً بدون أب.

(1) انظر: الطبري (1851)، وانظر:(1852): ص 2/ 538.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(3)

أخرجه الطبري (1853): ص 2/ 538.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(5)

يروى عن مجاهد، انظر تفسيره: 1/ 86، وتفسير ابن أبي حاتم (1130): ص 1/ 213.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 266. نسبت الخشية إلى الحجارة في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، ونسبت المحبة إلى الجبال في قوله صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" متفق عليه.

ونسبت الشكوى إلى الإبل في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما راى جملًا لرجل من الأنصار، حنّ الجمل وذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ذِفراه، فسكت فقال:"من رب هذا الجمل"، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال:"أفلا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه".

ونسب السجود إلى الأشجار في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، وغيرها من الآيات. [انظر: حاشية التفسير البسيط: 3/ 266].

(7)

أخرجه البخاري ص 431، كتاب التفسير، باب 1: حديث رقم 4974.

ص: 162

فبطلت شبهتهم التي يحتجون بها على أن لله ولداً.

2 -

ومن فوائد الآيتين: امتناع أن يكون لله ولد؛ لهذه الوجوه الستة.

3 -

ومنها: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {بل له ما في السموات والأرض} .

4 -

ومنها: أن الله لا شريك له في ملكه؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: {له ما في السموات والأرض} ؛ وتقديم الخبر يفيد الاختصاص.

5 -

ومنها: أن كل من في السموات، والأرض قانت لله؛ والمراد القنوت العام - وهو الخضوع للأمر الكوني -؛ والقنوت يطلق على معنيين؛ معنى عام وخاص؛ «المعنى الخاص» هو قنوت العبادة، والطاعة، كما في قوله تعالى:{أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً} [الزمر: 9]، وكما في قوله تعالى:{وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، وكما في قوله تعالى:{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]؛ و «المعنى العام» هو قنوت الذل العام؛ وهذا شامل لكل من في السموات، والأرض، كما في هذه الآية:{كل له قانتون} ؛ حتى الكفار بهذا المعنى قانتون لله سبحانه وتعالى؛ لا يخرجون عن حكمه الكوني.

القرآن

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]

التفسير:

والله تعالى هو خالق السموات والأرض على غير مثال سبق. وإذا قدَّر أمرًا وأراد كونه فإنما يقول له: "كن" فيكون.

قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [البقرة: 117]، " أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق"(1).

قال أبو العالية: " ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد"(2). وروي عن الربيع نحو ذلك (3).

وقال السدي: " ابتدعها فخلقها، ولم يخلق قبلها شيئا فيمتثل عليه"(4). وروي عن مجاهد نحو ذلك (5) ..

قال ابن كثير: " أي: خالقهما على غير مثال سبق"(6).

قال السعدي: " أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق"(7).

قال الزجاج: " يعني، أنشاهما على غير حِذَاءٍ ولا مِثَال، وكل من أنْشَأ ما لَم يُسْبَق إليه قيل له أبدعت، ولهذا قيل لكل من خالف السُّنَّةَ والإجماعَ مبتدع، لأنه يأتي في دين الإِسلام بما لم يسبقه إِليه الصحابة والتابعون"(8).

قال ابن عطية: " وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا"(9).

قال الطبري: "ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى ثعلبة، في مدح هوذة بن علي الحَنفِي (10):

(1) صفوة التفاسير: 1/ 80،

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1135): ص 1/ 214.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتكم: 1/ 214.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1136): ص 1/ 214.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتكم: 1/ 214.

(6)

انظر: ابن كثير: 1/ 398.

(7)

تفسير السعدي: 64.

(8)

معاني القرآن: 1/ 199.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 201.

(10)

ديوانه: 86، وسيأتي في هذا الجزء 2: 540 وقد سلف تخريج أبيات من هذه القصيدة في 1: 106، 2: 94، وهي في هوذة بن علي كما سلف. يقول قبله: يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم

بحر المواهب للوراد والشرعاوابتدع: أحدث ما شاء.

ص: 163

يُرعى إلى قَوْل سادات الرّجال إذا

أبدَوْا له الحزْمَ أو ما شاءه ابتدَعا

أي: يحدث ما شاء.

ومنه قول رؤبة بن العجاج (1):

فأيها الغاشي القِذَافَ الأتْيَعَا

إن كنت لله التقي الأطوعا

فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا

يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه (2).

وقيل (البديع) بمعنى (المبدع)(3)، واستدل بقول عمرو معد يكرب (4):

أَمِنْ ريحانة الدَّاعي السَّميع

يُؤْرِقُني وأَصْحابي هَجوع

أي: المسمع (5)، قال الزمخشري:"وفيه نظر"(6).

وقرئ {بديع السماوات} ، مجروراً على أنه بدل من الضمير في {له} ، وقرأ المنصور بالنصب على المدح (7).

قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة: 117]، " أي إذا أراد أن يقضي أمراً"(8).

قال الطيبري: أي" وإذا أحكم أمرا وحتمه"(9).

قال البيضاوي: " أي أراد شيئا"(10).

قال المراغي: " أي وإذا أراد إحداث أمر وإيجاده"(11).

قال ابن عطية: " و {قَضى}، معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد"(12).

وأصل (القضاء): إتمام الشيء وإحكامه (13)، والفراغ منه، ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: القاضي بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به، ومنه قيل: تقضي النهار، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أي: فصل الحكم فيه بين عباده، بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [سورة الإسراء: 4]، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب (14):

(1) ديوانه: 87، واللسان (بدع) من رجز طويل يفخر فيه برهطه بني تميم. ورواية الديوان " القذاف الأتبعا "، وليس لها معنى يدرك، ورواية الطبري لها مخرج في العربية. " الغاشي " من قولهم: غشي الشيء: أي قصده وباشره أو نزل به. والقذاف: سرعة السير والإبعاد فيه، أو كأنه أراد الناحية البعيدة، وإن لم أجده في كتب العربية. والأتيع: لم أجده في شيء، ولعله أخذه من قولهم: تتايع القوم في الأرض: إذا تباعدوا فيها على عمى وشدة. يقول: يا أيها الذاهب في المسالك البعيدة عن سنن الطريق - يعني به: من ابتدع من الأمور ما لا عهد للناس به، فسلك في ابتداعه المسالك الغريبة. (تفسير الطبري: 2/ 540).

(2)

تفسير الطبري: 2/ 540.

(3)

أنظر: التفسير البسيط: 2/ 153، والكشاف: 1/ 181، وتفسير البيضاوي: 1/ 102.

(4)

البيت في "الشعر والشعراء" ص 235، و"تفسير الطبري" 1/ 123، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 51، و"تفسير الثعلبي" 1/ 50 أ، و"تفسير ابن عطية" 1/ 165، "الأصمعيات" ص 172، "البحر المحيط" 1/ 59. وريحانة: أخت عمرو، وكان الصمة أبو دريد قد غزا بني زبيد وسباها، وغزاهم عمرو مرارًا ولم يقدر عليها، وقيل: ريحانة امرأة أراد أن يتزوجها فهو يشبب بها.

(5)

أنظر: التفسير البسيط: 2/ 152 - 153.

(6)

الكشاف: 1/ 181.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 182.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 17.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 542.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 102، وانظر: تفسير أبي السعود: 1/ 151.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 200.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 201 - 202.

(13)

تفسير الثعلبي: 1/ 264.

(14)

ديوانه: 19، والمفضليات: 881 وتأويل مشكل القرآن: 342، من قصيدته التي فاقت كل شعر، يرثى أولاده حين ماتوا بالطاعون.

ص: 164

وعليهما مسرودتان، قضاهما

داود أو صَنَعَ السوابغِ تُبَّعُ

ويعني بقوله: قضاهما، أحكمهما.

ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1):

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

بَوائِق في أكمامها لم تَفَتَّقِ

ويروى: بوائج (2).

قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، أي:" فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون"(3).

قال ابن عباس: " فهو خلق الإنسان"(4).

قال الراغب: " تنبيه أنه لا يمتنع عليه شي يريد إيجاده"(5).

قال ابن عثيمين: " أي لا يقول له إلا «كن» مرة واحدة بدون تكرار؛ فيحدث كما أمره الله سبحانه وتعالى على ما أراد الله عز وجل"(6).

قال الطبري: أي" فإنما يقول لذلك الأمر {كن} ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده (7).

قال السعدي: " فلا يستعصى عليه، ولا يمتنع منه"(8).

قال الزمخشري: " أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء"(9).

قال المراغي: " والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشاء كن فيكون"(10).

قال أبو السعود: " أي أحدث فيحدث .. تصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في الباب من طاعة المأمور المطيع للآمر المطاع"(11).

قال البيضاوي: " وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال، بل تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وفيه تقرير لمعنى الإِبداع، وإيماء إلى حجة خامسة وهي: أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة، وفعله تعالى مستغن عن ذلك"(12).

(1) هو جزء بن ضرار، أخو الشماخ بن ضرار. وقد اختلف في نسبتها. نسبت للشماخ، ولغيره، حتى نسبوها إلى الجن (انظر طبقات فحول الشعراء: 111، وحماسة أبي تمام 3: 65، وابن سعد 3: 241، والأغاني 9: 159، ونهج البلاغة 3: 147، والبيان والتبيين 3: 364، وتأويل مشكل القرآن: 343، وغيرها كثير). هذا والصواب أن يقول:" في رثاء عمر بن الخطاب ".

والبوائق جمع بائقة: وهي الداهية المنكرة التي فتحت ثغرة لا تسد. والأكمام جمع كم _ (بضم الكاف وكسرها). وهو غلاف الثمرة قبل أن ينشق عنه. وقوله: " لم تفتق "، أصلها: تتفتق، حذف إحدى التاءين. وتفتق الكم عن زهرته: انشق وانفطر. ورحم الله عمر من إمام جمع أمور الناس حياته، حتى إذا قضى انتشرت أمورهم.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 542 - 543. وبوائج جمع بائجة: وهي الداهية التي تنفتق انفتاقا منكرا فتعم الناس، وتتابع عليهم شرورها من قولهم: باج البرق وانباج وتبوج: إذا لمع وتكشف وعم السحاب، وانتشر ضوؤه.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 200.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1139): ص 1/ 215.

(5)

تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 303. [بتصرف بسيط].

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 17.

(7)

تفسير الطبري: 2/ 542 - 544.

(8)

تفسير السعدي: 64.

(9)

الكشاف: 1/ 181.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 200.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 151.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 103.

ص: 165

فإن قيل: " في أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حالة عدمه أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه، استحال أن يأمر إلا مأموراً، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده، فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ "(1).

قيل: عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة (2):

أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل، أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات.

الثاني: أن الله عز وجل عالم، بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه، قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.

والثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى، عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه، ويكوّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النجم (3):

وقالت للبَطْنِ الْحَقِ الحق

قِدْمًا فآضت كالفَنِيقِ المحنِق

ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي (4):

فأصبحت مثل النسر طارت فراخه

إذا رام تطيارا يقال له: قعِ

ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع، وكما قال الآخر (5):

امتلأ الحوض وقال: قطني

سلا رويدا، قد ملأت بطني

والراجح، أنه "عام في كل ما قضاه الله وبرأه لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان"(6). والله أعلم.

وفي قوله تعالى: {فَيَكُونُ} [البقرة: 117] قراءتان (7):

إحداهما: النصب، جواباً للأمر:{كن} ، أي فبسبب ذلك يكون؛ وتكون الفاء للسببية.

وضعفه أبو علي، فقال:" أجمع الناس على رفع يكون، ورفضوا فيه النصب، إلا ما روي عن ابن عامر وهو من الضعف بحيث رأيت، فالوجه في يكون الرفع"(8).

(1) النكت والعيون: 1/ 179، وانظر: تفسير الطبري: 2/ 544.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 544 - 546، والنكت والعيون: 1/ 179.

(3)

لم أجد الرجز كاملا، والبيتان في اللسان (حنق). يصف ناقة أنضاها السير. والأنساع جمع نسع (بكسر فسكون)، وهو سير يضفر عريضا تشد به الرحال. ولحق البطن يلحق لحوقا: ضمر. أي قالت سيور التصدير لبطن الناقة: كن ضامرا. يعني بذلك ما أضناها من السير. وقدما: أي منذ القدم قال بشامة بن الغدير:

لا تظلمونا، ولا تنسوا قرابتنا

إطوا إلينا، فقدما تعطف الرحم

ويعني أبو النجم: أن الضمور قد طال بها، فإن الأنساع قالت ذلك منذ زمن بعيد. وآض: صار ورجع. والفنيق الجمل الفحل المودع للفحلة، لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، فهو ضخم شديد التركيب. والمحنق: الضامر القليل اللحم. والإحناق: لزوق البطن بالصلب.

(4)

يقال له أيضًا: كعب بن حممة، وهو أحد المعمرين، زعموا عاش أربعمائة سنة غير عشر سنين. وهو أحد حكام العرب، ويقال إنه هو " ذو الحلم " الذي قرعت له العصا، فضرب به المثل. انظر: كتاب المعمرين: 22، وحماسة البحتري: 205 ومعجم الشعراء: 209، وهي أبيات.

(5)

(" أمالي ابن الشجري 1: 313، 2: 140، واللسان (قطط). وفي المطبوعة: " سيلا "، والصواب في اللسا وأمالي ابن الشجري، والرواية المشهورة " مهلا رويدا ". وقطني: حسبي وكفاني وللنحاة كلام كثير في " قطني ". وقوله " سلا ": كأنه من قولهم: انسل السيل: وذلك أول ما يبتدئ حين يسيل، قبل أن يشتد. كأنه يقول: صبا رويدا.

(6)

تفسير الطبري: 1/ 547.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 549.

(8)

الحجة للقراء السبعة: 2/ 206 - 207.

ص: 166

قال ابن عطية: "ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر: «هذا لحن»، لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيهما معنى الشرط"(1).

والثاني: الرفع، فتكون للاستئناف؛ أي: فهو يكون.

ومن رفع ذلك، " فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله:{إذا أردناه أن نقول له كن} ، إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فيكون، كما قال جل ثناؤه:{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5] وكما قال ابن أحمر (2):

يعالج عاقرا أعيت عليه

ليُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوارا

يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا (3).

واختاره الطبري وقرره، لأن (القول) و (الكون) حالهما واحد، "لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود"(4).

واعترض عليه ابن عطية فقال: " وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود"(5).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: عظم قدرة الله عز وجل ببدع السموات، والأرض؛ فإنها مخلوقات عظيمة.

2 -

ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى بأن هذه السموات، والأرض على نظام بديع عجيب؛ قال تعالى:{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3]؛ هذا النظام الواسع الكبير العظيم لا يختل، ولا يتغير على مر السنين، والأعوام؛ فتدل على قدرة باهرة بالغة، وحكمة عظيمة بالغة: كل شيء منظم تنظيماً بديعاً متناسباً، فلا يصطدم شيء بشيء فيفسده؛ ولا يغير شيء شيئاً؛ بل كل سائر حسب ما أمره الله به؛ قال الله تعالى:{وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12]؛ إذاً {بديع السموات والأرض} يستفاد منها القوة، والقدرة، والحكمة.

3 -

ومن فوائد الآيتين: أن السموات عدد؛ لأن الجمع يدل على العدد؛ وقد بيَّن الله في القرآن، وثبتت السنة، وأجمع المسلمون على أن السماء جرم محسوس؛ وليس كما قال أهل الإلحاد: إن الذي فوقنا فضاء لا نهاية له؛ وأما الأرض فلم تأت في القرآن إلا مفردة؛ لكن أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها سبع في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]؛ وصرحت السنة بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين» (6).

4 -

ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عن أمره شيء؛ لقوله تعالى:{إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} .

5 -

ومنها: إثبات القول لله؛ لقوله تعالى: {فإنما يقول له} .

(1) المحرر الوجيز: 1/ 202.

(2)

المعاني الكبير: 846، 1134، وسيبويه 1: 341، من أبيات يذكر صديقا كان له، يقول:

أرانا لا يزال لنا حميم

كداء البطن سِلا أو صُفارا

يعالج عاقرا أعيت عليه

ليلقحها، فينتجها حوارا

ويزعم أنه ناز علينا

بشرته فتاركنا تبارا

جعل هذا الصديق كداء البطن لا يدري من أين يهج ولا كيف يتأتى له. وهو يعالج من الشر ما لا يقدر عليه، فكأنه يطلب الولد من عاقر. جعل ذلك مثلا. والحوار: ولد البقرة. والشرة: حدة الشر، والتبار: الهلاك.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 549.

(4)

تفسير الطبري: 2/ 549.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 202.

(6)

اخرجه البخاري ص 259، كتاب بدء الخلق، باب 2: ما جاء في سبع أرضين، حديث رقم 3198، وأخرجه مسلم ص 958، كتاب المساقاة، باب 30: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، حديث رقم 4132 [137] 1610، واللفظ لمسلم.

ص: 167

6 -

ومنها: أن قول الله بصوت مسموع؛ لقوله تعالى: {فإنما يقول له كن فيكون} ؛ و {له} صريحة في توجيه القول للمقول له؛ ولولا أنه يسمعه لما صار في توجيهه له فائدة؛ ولهذا يسمعه الموجه إليه الأمر، فيمتثل، ويكون.

7 -

ومنها: أن قول الله بحروف؛ لقوله تعالى: {كن} ؛ وهي كلمة بحرفين.

فإن قال قائل: كيف يمكن أن نتصور هذا ونحن نقول: ليس كمثله شيء؛ وأنتم تقولون: إنه بحروف؟ قلنا: نعم؛ الحروف هي الحروف؛ لكن كيفية الكلام، وحقيقة النطق بها - أو القول - لا يماثل نطق المخلوق، وقوله؛ ومن هنا نعرف أننا لا نكون ممثِّلة إذا قلنا: إنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأننا نقول: صوت ليس كأصوات المخلوقين؛ بل هو حسب ما يليق بعظمته، وجلاله.

8 -

ومن فوائد الآية: أن الجماد خاضع لله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن قوله تعالى: {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} يشمل الأمور المتعلقة بالحيوان، والمتعلقة بالجماد؛ فالجماد إذا قال الله تعالى له:{كن} كان.

9 -

ومنها: أنه ليس بين أمر الله بالتكوين، وتكونه تراخٍ؛ بل يكون على الفورية؛ وذلك لقوله تعالى:{فيكون} : بالفاء؛ والفاء تدل على الترتيب، والتعقيب.

القرآن

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} [البقرة: 118]

التفسير:

وقال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم لنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل العناد: هلا يكلمنا الله مباشرة ليخبرنا أنك رسوله، أو تأتينا معجزة من الله تدل على صدقك. ومثل هذا القول قالته الأمم من قبلُ لرسلها عنادًا ومكابرة؛ بسبب تشابه قلوب السابقين واللاحقين في الكفر والضَّلال، قد أوضحنا الآيات للذين يصدِّقون تصديقًا جازمًا؛ لكونهم مؤمنين بالله تعالى، متَّبعين ما شرعه لهم.

اختلف في سبب نزول الآية على أقوال (1):

أحدها: أخرج الطبري وابن ابي حاتم، عن ابن عباس قال:"قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}، الآية كلها"(2).

ورجحه ابن حجر فقال: " والراجح من حيث السند قول ابن عباس رضي الله عنهما"(3).

والثاني: واخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "هم النصارى، والذين من قبلهم: اليهود"(4).

والثالث: وعن قتادة قال: "هم كفار العرب"(5). وروي عن الربيع (6)، والسدي (7) مثل ذلك.

والراجح: أن النصارى هم المعنيون بالآية، لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118]، "أي: قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم (8).

قال ابن عثيمين: " أي ليسوا من ذوي العلم"(9).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 551 - 552، والعجاب: 1/ 367 - 368.

(2)

تفسير الطبري (1862): ص 2/ 551، وتفسير ابن أبي حاتم (1140): ص 1/ 215.

(3)

العجاب: 1/ 368.

(4)

تفسير الطبري (1860)، و (1861): ص 2/ 550 - 551، و (1867)، و (1868): ص 2/ 554.

(5)

أخرجه الطبري (1863): ص 2/ 551.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1864): ص 2/ 551.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1865): ص 2/ 551 - 552.

(8)

تفسير السعدي: 64.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 22.

ص: 168

قال القرطبي: "أي: قالت النصارى"(1).

قال الطبري: أي" وقالت النصارى، الجهال بالله وبعظمته"(2).

واختلف فيمن عني الله بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118]، على ثلاثة أقوال (3):

أحدهما: أنهم النصارى. قاله مجاهد (4).

والثاني: أنهم اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله. وهو قول ابن عباس (5).

والثالث: أنهم مشركو العرب، وهو قول قتادة (6)، والربيع (7)، والسدي (8).

ورجّح الطبري بأنهم النصارى، واستدل بأن" ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا"(9).

قوله تعالى: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [البقرة: 118]، " أي هلاّ يكلمنا الله بتصديق الرسل"(10).

روي عن قتادة في قوله: {لولا يكلمنا الله} ، قال: فهلا يكلمنا الله! " (11).

قال الطبري: " أي: هلا يكلمنا الله! كما قال جرير (12):

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا

بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! (13).

قال القرطبي: أي: "هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به"(14).

قال أبو السعود: " أي هلا يكلمنا بلا واسطة أمرا أو نهيا كما يكلم الملائكة أو هلا يكلمنا نتصيصا على نبوتك"(15).

(1) تفسير القرطبي: 2/ 92.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 556.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 554 - 555.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1860)، و (1861): ص 2/ 550 - 551.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1862): ص 2/ 551.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1863): ص 2/ 551.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1864): ص 2/ 551.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1865): ص 2/ 551 - 552.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 552.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 22.

(11)

أخرجه الطبري (1866): ص 2/ 553.

(12)

ديوان جرير: 338، النقائض: 833، ومجاز القرآن: 52، وأمالي ابن الشجري 1: 279، 334/ 2: 210، والخزانة 1:461. ورواية الديوان والنقائض: " أفضل سعيكم ". والبيت من قصيدة طويلة في مناقضة جرير والفرزدق. وقوله: " عقر النيب ". عقر الناقة أو الفرس: ضرب قوائمها فقطعها، وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، ثم نحروه، وإنما يفعلون به ذلك كيلا يشرد عند النحر. وكان العرب يتكارمون بالمعاقرة. وهي أن يعقر هذا ناقة، فيعقر الآخر، يتباريان في الجود والسخاء، ويلحان في ذلك حتى يغلب أحدهما صاحبه. والنيب جمع ناب: وهي الناقة المسنة، أسموها بذلك لطول نابها. ويشير جرير بذلك إلى ما كان يفخر به الفرزدق من معاقرة أبيه غالب بن صعصعة، سحيم بن وثيل الرياحي بمكان يقال له " صوأر "، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له، وعقر غالب مئة، أو مئتين. وهذا أمر من أمور الجاهلية قال ابن عباس:" لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن أن يكون مما أهل لغير الله به "، وقال علي رضي الله عنه:" يا أيها الناس، لا تحل لكم، فإنها أهل بها لغير الله ". (انظر خبر المعاقرة في النقائض: 625 - 626). وقوله: " بني ضوطرى "، يعني: يا بني الحمقى. هكذا قيل، وأخشى أن لا يكون كذلك، فإن:" ضوطرى " نبز لرجل من بني مجاشع بن دارم - لم يعينوه - فقال جرير للفرزدق: إن ابن شعرة، والقرين، وضوطرى

بئس الفوارس ليلة الحدثان فهذا دليل على أنه شخص بعينه، أرجو أن أحققه في غير هذا المكان. وقد أراد ذمه بأسلافه على كل. والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، فلا يحيد عن قرنه، كان عليه سلاح أو لم يكن. وقوله:" تعدون " أي تحسبون وتجعلون، فعدى الفعل " عد " إلى مفعولين، تضمينا لمعنى " جعل وحسب "، كما قال ذو الرمة:

أشم أغر أزهر هبرزي

يعد القاصدين له عيالا.

(13)

تفسير الطبري: 2/ 553.

(14)

تفسير القرطبي: 2/ 92.

(15)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

ص: 169

قال المراغي: " أي هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا كما يكلم الملائكة، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما كلمك على هذا الوجه مع أنك بشر مثلنا، وما مقصدهم من هذا إلا العناد والاستكبار وبيان أنه ليس بأحسن منهم حالا، فلم اختصّ بهذا الفضل من بيننا؟ "(1).

قوله تعالى: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118]، أي:"أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوتك"(2).

قال الطبري: أي" أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ "(3).

قال المراغي: " أي أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، ومرادهم بذلك ما حكاه الله عنهم بنحو قوله: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90]، الآية، وهذا منهم جحود لأن يكون ما أوتيه من القرآن وغيره من المعجزات آيات كافيات فى إثبات ما ادّعى من النبوة"(4).

قال أبو السعود: " حجة تدل على صدقك بلغوا من العتو والاستكبار إلى حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك ومن العناد والمكابرة إلى حيث لم يعدوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات قاتلهم الله أني يؤفكون"(5).

قال ابن عثيمين: " لأن الرسل أتوا بالآيات التي يؤمن على مثلها البشر؛ وأعظمها القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله، فعجزوا"(6).

قال السعدي: " فهذا دأبهم مع رسلهم، يطلبون آيات التعنت، لا آيات الاسترشاد، ولم يكن قصدهم تبين الحق، فإن الرسل، قد جاءوا من الآيات، بما يؤمن بمثله البشر"(7).

قال القرطبي: "والآية: الدلالة والعلامة (8).

قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118]، "أي مثلَ هذا القول، قال الذين من قبلهم"(9).

قال الطبري: أي: " فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم، قال من قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة، ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الأماني"(10).

قال المراغي: " أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، و {لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} [البقرة: 61]، إلى نحو ذلك، وقالت النصارى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهى واتباع الهوى تعنّتا وعنادا لا للوصول إلى كشف غامص وجلاء حقيقة كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] "(11).

واختلف فيمن عني الله بقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118]، على قولين (12):

(1) تفسير المراغي: 1/ 201.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 92. [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير الطبري: 2/ 556.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 201 - 202.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 22.

(7)

تفسير السعدي: 64.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 91 - 92.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 22.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 556.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 201 - 202.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 554 - 555.

ص: 170

أحدهما: أنهم اليهود، وهو قول مجاهد (1).

والثاني: أنهم اليهود والنصارى، "لأن الذين لا يعلمون هم العرب"(2)، وهو قول قتادة (3)، والسدي (4)، والربيع (5).

قال ابن عاشور: "وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم، بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] "(6).

قوله تعالى: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُم} [البقرة: 118]، "أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد"(7).

قال الطبري: أي" فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها"(8).

قال ابن كثير: أي: "أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52، 53] "(9).

قال أبو السعود: " أي قلوب هؤلاء وأولئك في العمى والعناد وإلا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة"(10).

قال المراغي: " والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدى، وتعلّات لا تفيد، فالحق واحد، ومخالفته هى الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه حين تصدر عن الضالين حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53] "(11).

وفي قوله تعالى: {تَشَابَهتْ قُلُوْبُهُمْ} [البقرة: 118]، وجهان (12):

أحدهما: تشابهت قلوب اليهود لقلوب النصارى، وهذا قول مجاهد (13).

والثاني: تشابهت قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى، وهذا قول قتادة (14)، والربيع (15).

واختلف في تفسير (التشابه) في قوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]، على وجهين (16):

أحدهما: أن المكذبين للرسل من العرب واليهود والنصارى وغيرهم تتشابه أقوالهم وأفعالهم في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان، فكما أن قوم موسى كانوا أبدا في التعنت واقتراح الأباطيل، كقولهم: {لن نصبر على

(1) انظر: تفسير الطبري (1867)، و (1868): ص 2/ 554.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 544.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1879): ص 2/ 544.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1870): ص 2/ 544.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1871): ص 2/ 544 - 545.

(6)

تفسير ابن عاشور: 1/ 689.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 202.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 556.

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 400.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 202.

(12)

انظر: النكت والعيون: 1/ 180.

(13)

انظر: تفسير الطبري (1873): ص 2/ 555.

(14)

انظر: تفسير الطبري (1883): 2/ 555 - 556.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1884): 2/ 556.

(16)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 92. وتفسير الرازي: 4/ 28. وتفسير فتح القدير: 1/ 134.

ص: 171

طعام واحد} [البقرة: 61]، وقولهم:{اجعل لنا إلاها كما لهم ءالهة} [الأعراف: 138]، وقوله:{أتتخذنا هزوا} [البقرة: 67]، وقولهم:{أرنا الله جهرة} ، [النساء: 153]، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبدا في العناد واللجاج وطلب الباطل.

والثاني: أن تشابه قلوبهم هو في اتفاقهم على الكفر، فجعله اشتباها. قاله الفراء (1).

والقولين صحيحين: إذ تشابهت قلوب الأولين، والآخرين في رد الحق، والعناد، والتعنت، والجحود؛ من أول ما بعثت الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، بل وإلى يوم القيامة، فقلوب أهل الكفر، والعناد متشابهة؛ إنما يختلف الأسلوب؛ قد يقترح هؤلاء شيئاً؛ وهؤلاء شيئاً آخر؛ لكن الكلام على جنس الاقتراح، وعدم قبولهم للحق (2).

قال ابن عاشور: "وقوله {تَشَابَهَتْ} ، صيغة من صيغ التشبيه، وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصاباء (3):

تشابه دمعي إذ جرى ومُدامتي

فمِن مثل ما في الكأس عيني تسكُب

وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولداً لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلاهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر " (4).

وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة: {تشّابهت} ، بشد الشين، قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض (5).

قوله تعالى {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ} [البقرة: 118]، "أي قد وضحنا الأدلة وأقمنا البراهين"(6).

قال أبو السعود: " أي نزلناها بينة، بأن جعلناها كذلك في أنفسها كما في قولهم سبحان من صغر البغوض وكبر الفيل لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينة"(7).

قال الطبري: أي" قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود"(8).

قال الحافظ ابن كثير: أي: "قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى"(9).

قال الرازي: " المراد: أن القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة وكلام الذئب، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرة، ومعجزات باهرة"(10).

قال المراغي: " أي إننا لم نتركك بلا آية، بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب"(11).

(1) انظر: معاني القرآن: 1/ 75.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 8.

(3)

البيت ورد في ييتيمة الدهر للثعالبي: 2/ 18. أبو إسحاق الصاباء: هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني البغدادي الكاتب، من الصائبة، توفي سنة (384) هـ. له من المصنفات: أخبار النحاة، أخبار الوزراء، أخبار أهله وولد ابنه، التاجي في أخبار الدولة الديلمية، ديوان الرسائل، ديوان شعره. (كشف الظنون (5) / (7).

(4)

التحرير والتنوير: 1/ 690.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 203.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 80.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 557.

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 400.

(10)

مفاتيح الغيب: 4/ 28.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 202.

ص: 172

قال ابن عثيمين: و {الآيات} جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمدلولها؛ فكل علامة تعين مدلولها تسمى آية؛ فآيات الله هي العلامات الدالة عليه" (1).

قال أبو السعود: " وفي تعريف {الآيات}، وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح مكان الإتيان الذي طلبوه، ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين، وإنما لم يتعرض لرد قولهم {لولا يكلمنا الله}، إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب"(2).

قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، أي "لقومٍ يطلبون الحق واليقين"(3).

قال الرازي: أي: "لمن كان طالبا لليقين"(4).

قال الحافظ ابن كثير: أي: " لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى، وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97] "(5).

قال المراغي: أي" لدى طالبى الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، ولن يكون هذا إلا لمن صفت نفوسهم، وسلموا من العناد والمكابرة اللّذين يمنعان من وصول نور الحق إلى القلوب، وقد كان كبار الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله، لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالبينة"(6).

قال أبو السعود: " أي: يطلبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية"(7).

قال الشوكاني: " أي "يعترفون بالحق وينصفون في القول ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم" (8).

و(الإيقان): "هو العلم الذي لا يخالجه شك"(9).

قال السعدي: " فكل موقن، فقد عرف من آيات الله الباهرة، وبراهينه الظاهرة، ما حصل له به اليقين، واندفع عنه كل شك وريب"(10). قال ابن عطية: " لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك بذكر الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة"(11).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن أهل الباطل يجادلون بالباطل؛ لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار؛ ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر؛ ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 23.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 80.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 28.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 400.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 202.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 152.

(8)

انظر: فتح القدير: 1/ 134.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 23.

(10)

تفسير السعدي: 64.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 203.

ص: 173

اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم؛ لقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يوسف: 96، 97].

2 -

ومنها: وصف من لم يَنقَدْ للحق بالجهل؛ لقوله تعالى: {وقال الذين لا يعلمون} ؛ فكل إنسان يكابر الحق، وينابذه فإنه أجهل الناس.

3 -

ومنها: أن المشركين يقرون بأن الله يتكلم بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: {لولا يكلمنا الله فهم خير في هذا ممن يدعون أن كلام الله هو المعنى القائم في نفسه.

4 -

ومنها: أنه ما من رسول إلا وله آية؛ لأن قولهم: {أو تأتينا آية} هذا مدَّعى غيرهم؛ إذ إن من لم يأت بآية لا يلام من لم يصدقه؛ مثلاً إذا جاء رجل يقول: «أنا رسول الله؛ آمنوا بي وإلا قتلتكم، واستحللت نساءكم، وأموالكم» فلا نطيعه؛ ولو أننا أنكرناه لكنا غير ملومين؛ لكن الرسل تأتي بالآيات؛ ما من رسول إلا وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يؤمن على مثلها البشر؛ فالله تعالى لا يرسل الرسل، ويتركهم بدون تأييد.

5 -

ومن فوائد الآية: أن أقوال أهل الباطل تتشابه؛ لقوله تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52، 53]؛ وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة، كما قال تعالى:{وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 32]؛ واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن، والسنة هؤلاء رجعيون؛ هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً.

6 -

ومن فوائد الآية: أن الأقوال تابعة لما في القلوب؛ لقوله تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} ؛ فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» (1).

7 -

ومنها: تشابه قلوب الكفار؛ لقوله تعالى: {تشابهت قلوبهم} .

8 -

ومنها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك، وتخف عليه المصيبة، كما قال تعالى:{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39]؛ فالله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله.

9 -

ومنها: إبطال دعوى قولهم: {أو تأتينا آية} في قوله تعالى: {قد بينا الآيات} .

10 -

ومنها: أنه لا ينتفع بالآيات إلا الموقنون؛ لقوله تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} ؛ وأما غير الموقنين فلا تتبين لهم الآيات لما في قلوبهم من الريب والشك.

11 -

ومنها: أن الموقن قد يتبين له من الآيات ما لم يتبين لغيره؛ ويؤيده قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17].

12 -

ومنها: أن الآيات تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية، وآيات كونية:

فالآيات الشرعية: ما جاءت به الرسل من الوحي.

والقسم الثاني آيات كونية: وهي مخلوقات الله الدالة عليه، وعلى ما تقتضيه أسماؤه، وصفاته، كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، وغيرها: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.

13 -

ومنها: زيادة العلم باليقين؛ لأن من آيات الله هذا الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكلما ازداد يقينك تبين لك من آيات الله ما لم يتبين لغيرك، فيزداد علمك؛ فباليقين يزداد العلم؛ قال تعالى:{ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]؛ فكلما كان الإنسان أقوى يقيناً كان أكثر علماً؛ وكلما ازداد علمه ازداد يقينه؛ فهما متلازمان.

(1) أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 39: فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم 52، وأخرجه مسلم ص 955، كتاب المساقاة، باب 2: أخذ الحلال وترك الحرام، حديث رقم 4094 [107]1599.

ص: 174

القرآن

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} [البقرة: 119]

التفسير:

إنا أرسلناك -أيها الرسول- بالدين الحق المؤيد بالحجج والمعجزات، فبلِّغه للناس مع تبشير المؤمنين بخيري الدنيا والآخرة، وتخويف المعاندين بما ينتظرهم من عذاب الله، ولست -بعد البلاغ- مسئولا عن كفر مَن كفر بك؛ فإنهم يدخلون النار يوم القيامة، ولا يخرجون منها.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: قال محمد بن كعب: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت: {ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم} "(1).

قال الواحدي: " وهذا على قراءة من قرأ: {ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم} جزما"(2).

وروي عن ابن عباس (3)، ومحمد بن كعب القرظي (4)، وداود بن أبي عاصم (5)، مثل ذلك. وهي روايات ضعيفة الإسناد (6).

وقد استبعد الفخر الرازي صحة هذا السبب (7).

الثاني: قال الواحدي: " قال مقاتل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا" فأنزل الله تعالى: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} "(8).

قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119]، أي: إنا"أرسلناك يا محمد بالشريعة النيّرة والدين القويم"(9).

قال الطبري: أي: "إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان، وهو الحق"(10).

واختلفوا في تفسير (الحق) في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119]، على أربعة أوجه:

أحدها: أي" إنا أرسلناك يا محمد بالصدق، من قولهم فلان محق في دعواه إذا كان صادقا، ودليله قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53]، أي صدق. قاله الثعلبي (11).

والثاني: أن"معناه: لن نرسلك عبثا بغير شيء، بل أرسلناك بالحق"(12). قال الثعلبي: "دليله قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]، وهو ضد الباطل"(13).

والثالث: بالقرآن، قاله ابن عباس (14)، ودليله قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5].

والرابع: بالإسلام. قاله ابن كيسان (15)، ودليله قوله عز وجل:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. و (الباء) في قوله تعالى {بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] للمصاحبة، أو الملابسة؛ يعني

(1) أخرجه الطبري (1875): ص 2/ 558. حديث مرسل لاتقوم به حجة. واسناده ضعيف.

(2)

أسباب النزول: 40.

(3)

مما أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي في "تفسيره" عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومعظم رواياته عنه ضعيفة (مقدمة العجاب لابن حجر) وهذه الرواية ضعفها الحافظ ابن حجر العجاب: 1/ 369. ويشهد لها.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1876): ص 2/ 558.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1877): ص 2/ 559.

(6)

انظر: التقريب، ابن حجر (1483): ص 2/ 286، والعجاب: 1/ 468 - 372، والدر المنثور: 1/ 271، وأسباب النزول للواحدي: 39 - 40.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 29، والعجاب: 1/ 369.

(8)

أسباب النزول: 40. ولم اجده في تفسير مقاتل.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 80.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 557.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 265.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 265.

(13)

تفسير الثعلبي: 1/ 265.

(14)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 265.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 265.

ص: 175

أرسلناك متلبساً بالحق؛ أو أن المعنى: حاملاً الحق في هذه الرسالة؛ والآية تحتمل المعنيين؛ أحدهما: أن إرسالك حق؛ والثاني: أن ما أرسلت به حق؛ والمعنيان كلاهما صحيح؛ فتحمل الآية عليهما؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم رسالته حق؛ وعليه فالباء للملابسة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسل به فهو حق؛ وعلى هذا فالباء للمصاحبة، يعني أن رسالتك مصحوبة بالحق؛ لأن ما جئت به حق؛ والحق هو الثابت المستقر؛ وهو ضد الباطل؛ والحق بالنسبة للأخبار الصدق؛ وبالنسبة للأحكام العدل (1).

وأصل (الحق): الصدق الواجب، ثم يسمى كلُّ ثابت موجود غير باطل: حقًا، والحقُّ من أسماء الله تعالى قال الله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71]، والحقُّ: العدل في قوله. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، والحق: الدَّين في قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282](2).

وفي قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} [البقرة: 119]، وجوه (3):

أحدها: أنه متعلق بالإرسال، أي أرسلناك إرسالا بالحق.

وثانيها: أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به.

وثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيرا لمن أطاع الله بالثواب ونذيرا لمن كفر بالعقاب.

قال الرازي: "والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى قال: إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك"(4).

قوله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119]، أي:" بشيراً للمؤمنين بجنات النعيم، ونذيراً للكافرين من عذاب الجحيم"(5).

قال الطبري: أي: "مبشرا من اتبعك فأطاعك، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الآخرة، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا، والذل فيها، والعذاب المهين في الآخرة"(6).

قال السعدي: " {بَشِيرًا}: أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، {نَذِيرًا} لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي"(7).

قال الزمخشري: " لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر"(8).

و(البشير): "من البشارة؛ وهي الإخبار بما يسر؛ وقد تقع فيما يسوء، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] "(9).

و(النذير): "من الإنذار؛ وهو الإعلام بالمكروه؛ أي بما يخاف منه"(10).

قال ابن عثيمين: "والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه مبشر بما يسر، وهو الجنة؛ ومنذر بما يخاف منه، وهو النار .. فجمع الله له بين كونه مبشراً، ومنذراً؛ لأن ما جاء به أمر، ونهي؛ والمناسب للأمر:

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 11.

(2)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 267، وتهذيب اللغة: 1/ 877 - 880، والمفردات: 132، واللسان (حق): ص 2/ 940.

(3)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 29.

(4)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 29.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 80.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 557 - 558.

(7)

تفسير السعدي: 64.

(8)

الكشاف: 1/ 182.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 11.

(10)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 11.

ص: 176

البشارة؛ وللنهي: الإنذار؛ فعليه تكون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة بين البشرى، وبين الإنذار؛ والأمر، والنهي؛ إذاً فالرسول مبشر للمتقين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ ومنذر للكافرين أن لهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب (1).

قوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]، " أي أنت لست مسئولاً عمن لم يؤمن منهم، بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم"(2).

قال البيضاوي: " ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت"(3).

قال الزمخشري: " ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم، كقوله: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [الرعد: 40] "(4).

قال الطبري: أي" فليس عليك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك"(5).

قال السعدي: " أي: لست مسئولا عنهم، إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب"(6).

قال ابن عثيمين: " أي لا يسألك الله عنهم؛ لأنك بلَّغت؛ والحساب على الله"(7).

قال الواحدي: " أي: لست بمسؤولٍ عنهم، وليس عليك من شأنهم عُهدة ولا تبعة، فلا تحزن عليهم، كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] "(8).

و(أصحاب) جمع صاحب؛ وهو الملازم؛ و (الجحيم) من أسماء النار (9)، أي: النار العظيمة؛ وهي لها أسماء كثيرة منها: النار، والسعير، وجهنم، والجحيم؛ كل ذلك لاختلاف أوصافها؛ وإلا فهي واحدة، وأصل (الجحيم): ما اشتد لهبه (10).

قال الإمام الطبري: " فـ (الجحيم)، هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت (11):

إذا شبت جهنم ثم دارت

وأَعْرَض عن قوابسها الجحيم" (12)

قال الثعلبي: " الجحيم: وهو الجحم والجحمة: معظم النار"(13).

قال الواحدي: " والجحيم عند العرب: النار المستحكمة المتلظية، يقال: جَحَمَتِ النارُ تَجْحَمُ، بفتح العين فيهما، جُحومًا فهي جاحم وجحيم، قال الله تعالى في قصة إبراهيم:{فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]، أراد: النار الشديدة التأجج. ويقال لشده القتل في معركة الحرب: جاحم، تشبيهًا بالنار العظيمة، قال (14):

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 11.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 80.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 103.

(4)

الكشاف: 1/ 182.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 559.

(6)

تفسير السعدي: 64.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 27 - 28.

(8)

التفسير البسيط: 3/ 281.

(9)

انظر: لسان العرب لابن منظور: 1/ 553، الصحاح للجوهري: 5/ 1883، تاج العروس للزبيدي: 16/ 94، جامع البيان للطبري: 2/ 562، وللنار أسماء عديدة منها: لظى والحطمة والسعير وجهنم وسقر والهاوية، انظر: التذكرة للقرطبي: 2/ 91، الجنة والنار للأشقر:26.

(10)

وذلك لأن الجحيم من الجحمة وهي شدة تأجج النار، انظر: الزاهر لابن الأنباري: 1/ 121، الوسيط للواحدي: 1/ 200، المفردات للراغب: 88، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 344، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 356، روح المعاني للألوسي: 1/ 371.

(11)

ديوانه: 53، وروايته:" ثم فارت "، وكأنها هي الصواب.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 562.

(13)

تفسير الثعلبي: 1/ 266.

(14)

البيت ذكره في تهذيب اللغة: 1/ 545، عن الليث، ولم ينسبه، وكذا في اللسان: 1/ 553، والتفسير البسيط: 3/ 283.

ص: 177

حتى إذا ذاق منها جاحِمًا بَردَا

والجَحْم والجَحْمَة: توقُّد النار، ومنه قوله (1):

نحن حَبسنا بني جَدِيلةَ في

نارٍ من الحرب جَحْمةِ الضَّرَمِ" (2).

وفي قوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]، قراءتان (3):

إحداهما: {وَلا تُسْأَلُ} ، برفع التاء واللام على الخبر، على أن (لا) نافية، وهي قرأة الجمهور.

واختار أبو عبيد هذه القراءة، فقال: "لأنه لو أراد النهي لكانت الفاء أحسن من الواو (4).

وعلى هذه القراءة، ففي التفسير وجوه (5):

أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عن ذلك، أي: لا نسألك عن كفر من كفر بك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] وكقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمصَيْطِرٍ} الآية [الغاشية: 21، 22] وكقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقوله: {عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} [النور: 54]، وأشباه ذلك من الآيات (6).

والثاني: أنك هاد وليس لك من الأمر شيء، فلا تأسف ولا تغتم لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ونظيره قوله:{فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8].

الثالث: لا تنظر إلى المطيع والعاصي في الوقت، فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه، وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريبا أو كان بعيدا.

القراءة الثانية: {ولا تَسألْ} ، بالجزم وفتح التاء على أن (لا) ناهية، وهي قراءة نافع.

وفي هذه القراءة وجهان (7):

أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان، وعن المعصية إلى الطاعة.

والثاني: وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب.

قال الزمخشري: " وتعضد القراءة الأولى، قراءة عبد اللَّه: {ولن تسئل}، وقراءة أبىّ: {وما تسئل} "(8)، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسؤولا عنهم (9).

والراجح: من قرأ بالرفع، على الخبر {وَلا تُسْأَلُ} ، "لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{إنا أرسلناك} يا محمد {بالحق بشيرا} ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه

(1) ديوان الحماسة: 1/ 46.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 283، وانظر: المفردات: 95، واللسان: 1/ 553.

(3)

انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 209، والسبعة في القراءات:169.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 282، ونقله أبو علي الفارسي في "الحجة" 2/ 217 دون نسبة.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 28 - 29.

(6)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 401.

(7)

انظر: تفسير القطربي: 2/ 93، والتفسير البسيط: 3/ 281.

(8)

الكشاف: 1/ 182، والقراءتان في: الحجة لابن زنجلة: 112، وتفسير الثعلبي: 1/ 266، ومختصر في شواذ القرآن لابن خالوية: 16، والمحرر الوجيز: 1/ 468.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 266، وتفسير القرطبي: 2/ 92 - 93. وقال سعيد الأخفش: (ولا تَسألُ) بفتح التاء وضم اللام، ويكون في موضع الحال عطفا على "بشيرا ونذيرا". والمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسؤول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار. [انظر: تفسير القرطبي: 2/ 92].

ص: 178

، {ونذيرا} من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك" (1).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: الرد على هؤلاء الذين قالوا: {لولا يكلمنا الله

}؛ لقوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق} .

2 -

ومنها: ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {إنا أرسلناك} .

3 -

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول صادق؛ وليس برب؛ لأن الرسول لا يمكن أن يكون له مقام المرسِل.

4 -

ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة لأمر، ونهي، وتبشير، وإنذار؛ لقوله تعالى:{بشيراً ونذيراً} ؛ والحكمة من ذلك ظاهرة؛ وذلك لأن الإنسان قد يهون عليه فعل الأوامر، ويشق عليه ترك المنهيات؛ أو بالعكس؛ فلو كانت الشريعة كلها أوامر ما تبين الابتلاء في كفّ الإنسان نفسه عن المحارم، ولو كانت كلها نواهي ما تبين ابتلاء الإنسان بحمل نفسه على الأوامر؛ فكان الابتلاء بالأمر، والنهي غاية الحكمة؛ فالشيخ الكبير يهون عليه ترك الزنى؛ ولذلك كانت عقوبته على الزنى أشد من عقوبة الشاب؛ المهم أن الابتلاء لا يتم إلا بتنويع التكليف؛ فمثلاً الصلاة تكليف بدني؛ والزكاة بذل للمحبوب؛ والصيام ترك محبوب؛ والحج تكليف بدني، ومالي.

5 -

ومن فوائد الآية: أن وظيفة الرسل الإبلاغ؛ وليسوا مكلفين بعمل الناس؛ لقوله تعالى: {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} .

6 -

وعلى القراءة الثانية نستفيد فائدة ثانية؛ وهي شدة عذاب أصحاب الجحيم - والعياذ بالله -؛ لقوله تعالى: {ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم} .

القرآن

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120]

التفسير:

ولن ترضى عنك -أيها الرسول- اليهود ولا النصارى إلا إذا تركت دينك واتبعتَ دينهم. قل لهم: إن دين الإسلام هو الدين الصحيح. ولئن اتبعت أهواء هؤلاء بعد الذي جاءك من الوحي ما لك عند الله مِن وليٍّ ينفعك، ولا نصير ينصرك. هذا موجه إلى الأمّة عامة وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: قال الواحدي: "قال المفسرون: إنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعون أنهم إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه فأنزل الله تعالى هذه الآية"(2).

الثاني: وقال ابن عباس: "هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، فيئسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية"(3).

والثالث: وقال مقاتل: " كان اليهود من أهل المدينة والنصارى من أهل نجران دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى دينهم وزعموا أنهم على الهدى فنزلت"(4).

(1) تفسير الطبري: 2/ 559 - 560.

(2)

أسباب النزول: 40، والعجاب: 1/ 373.

(3)

أسباب النول للواحدي: 40، والعجاب: 1/ 373، قال السيوطي في "الدر: 1/ 272، وفي اللباب: : 28: " أخرج الثعلبي عن ابن عباس". وذكره.

(4)

العجاب: 1/ 363، [وفي النقل تصرف]، وانظر: تفسير مقاتل: 1/ 138. ولفظه: " وذلك أنهم [أي اليهود من أهل المدينة والنصارا من أهل نجران] دعوا النبي- صلى الله عليه وسلم إلى دينهم وزعموا أنهم على الهدى فأنزل الله- عز وجل قل لهم: إن هدى الله يعني الإسلام هو الهدى ثم حذر نبيه- صلى الله عليه وسلم فقال: ولئن اتبعت أهواءهم يعني أهل الكتاب على دينهم بعد الذي جاءك من العلم وعلم البيان ما لك من الله من ولي يعنى من قريب فينفعك ولا نصير".

ص: 179

والرابع: وقال ابن عطية: " روي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم، وأطلعه على سر خداعهم"(1).

قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، " أي لن ترضى عنك الطائفتان «اليهود والنصارى» حتى تترك الإِسلام لمنير وتتبع دينهم الأعوج"(2).

قال الطبري: أي " وليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق"(3).

قال الزجاج: " أَعلم اللَّه عز وجل أَنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فنهاه اللَّه ووعظه في الركون إِلى شيءٍ مما يدعون إِليه"(4).

قال القرطبي: " فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم"(5).

قال الواحدي: " أخبر أنه لا يرضيهم إلا ما يستحيل وجوده، وما لا سبيل إليه؛ لأن اليهود لا ترضى عنه إلا بالتهود، والنصارى إلا بالتنصر، ويستحيل الجمع بينهما، فإذا استحال إرضاؤهم فهم لا يرضَوْنَ عنه أبدًا"(6).

قال السعدي: " يخبر تعالى رسوله، أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى، إلا باتباعه دينهم، لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه، ويزعمون أنه الهدى"(7).

قال النسفي: "كأنهم قالوا لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام، فذكر الله عز وجل كلامهم"(8).

قال أبو السعود: " بيان لكمال شدة شكيمة هاتين الطائفتين خاصة إثر بيان ما يعمهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت، وإيراد {لا} النافية بين المعطوفين لتأكيد النفي لما مر من أن تصلب اليهود في أمثال هذه العظائم أشد من النصارى، والإشعار بأن رضى كل منهما مباين لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهود ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع ملتهم ولا النصارى ولو تركتم ودينهم حتى تتبع ملتهم، فأوجز النظم ثقة بظهور المراد وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه، فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه السلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون، بل أملوا منه صلى الله عليه وسلم مالا يكاد يدخل تحت الإمكان من اتباعه عليه السلام لملتهم، فكيف يتوهم اتباعهم لملته عليه السلام وهذه حالتهم في أنفسهم ومقالتهم فيما بينهم، وأما أنهم أظهروها للنبي صلى الله عليه وسلم وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغت في طلب رضانا، حتى تتبع ملتنا كما قيل فلا يساعده النظم الكريم، بل فيه ما يدل على خلافه فإن قوله عز وجل"(9).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 204. وليس لما ذكر هنا سند يمكن الاعتماد عليه.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 562.

(4)

معاني القرآن: 1/ 203.

(5)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 284.

(7)

تفسير السعدي: 64.

(8)

تفسير النسفي: 1/ 84.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 152 - 153.

ص: 180

قال أبو حيان: "أي ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات ويوردونه من التعنتات فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون وأوجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم"(1).

و(الملة): "اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله، فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدين ما فعله العباد عن أمره"(2).

وقوله تعالى: {مِلَّتَهُمْ} ، "فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة - مثلا - علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم"(3).

وأخرج الثعلبي عن ابن عباس، في قوله تعالى:{مِلَّتَهُم} ، قال:"دينهم"(4).

قال ابن عطية: " والملة الطريقة، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه"(5).

واختلف في أصل (الملة) في اللغة على أقوال:

أحدها: الدين، قاله ابن عباس (6).

وفي سبب تسمية الدين بالملة قولان (7):

القول الأول: أنه "سُمَيَ الدينُ ملّةً؛ لأنه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المدعوِّ إليه"(8).

القول الثاني: أن "الملّة: (فِعْلةٌ) من مَلَّه يمُلّه، إذا ألقاه في الرماد الحار، جُعِلَتْ اسمًا للدين؛ لما فيه من مشاق تخرج عن قضية"(9).

الثاني: السنّة والطريقة. قاله الزجاج (10).

ومنه (المَلة)، "أي: الموضع الذي يختبز فيه، لأنها تؤَثر في مكانها كما يؤَثِّر في الطريق" (11).

وقد اختلف العلماء في توارث الكفار بعضهم من بعض، كاليهود مع النصارى أو المجوس، على أقوال (12):

القول الأول: أن الكفر بجميع نحله ملة واحدة.

قال القرطبي: " تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: {مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة، وبقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وبقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين" (13) على أن المراد به الإسلام والكفر، بدليل قوله عليه السلام: "لا يرث المسلم الكافر" (14) "(15).

(1) تفسير فتح القدير: 1/ 136.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 93 - 94.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 266.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 204.

(6)

تفسير الثعلبي: 1/ 266.

(7)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 202، والتفسير البسيط: 3/ 285.

(8)

التفسير البسيط: 3/ 285.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 285.

(10)

معاني القرآن: 1/ 202.

(11)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 202.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 93 - 94.

(13)

أخرجه أحمد 2/ 178، وأبو داود 3/ 328، كتاب الفرائض: باب هل يرث المسلم الكافر حديث 2911، وابن ماجة 2/ 912، كتاب الفرائض: باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك حديث 2731، وسعيد بن منصور في سننه رقم 137، وابن الجارود في المنتقى رقم 967، والدارقطني 4/ 75، كتاب الفرائض: حديث 25، وابن عدي في الكامل 5/ 82، واليهقي 6/ 218، كتاب الفرائض: باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، والبغوي في شرح السنة 4/ 479 - بتحقيقنا، والخطيب في تاريخ بغداد 5/ 290، وابن عبد البر في التمهيد 9/ 172، كلهم من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتوارث أهل ملتين شيء" والحديث صححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير 2/ 35، فقال: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإسناد أبي داود والدارقطني إسناد صحيح.

(14)

صحيح البخاري (6383): ص 6/ 2484، وصحيح مسلم (1614): ص 3/ 1233، وسنن الترمذي (2107): ص 4/ 370، وسنن أبي داود (2909): ص 3/ 125، وسنن ابن ماجة (2729): ص 2/ 911.

(15)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

ص: 181

القول الثاني: أن الكفر ملل متعددة، لا يرث أهل كل ملة من أهل الملة الأخرى. وهذا القول رواية عن أحمد، وهو القول الثاني للمالكية، إذ ذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السلام:"لا يتوارث أهل ملتين"(1)(2).

والقول الثاني هو الراجح. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، " أي: ليس الهدى ما أنتم عليه؛ بل إن هدى الله وحده هو الهدى" (3).

قال ابن عباس: "يريد أن الذي أنت عليه هو دين الله الذي رضيه"(4).

قال ابن أبي زمنين: " يعني: الإسلام الذي أنت عليه"(5).

قال الزجاج: " أي الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو الطريق، أي طريق الحق"(6).

قال الصابوني: " أي قل لهم يا محمد إِن الإِسلام هو الدين الحق وما عداه فهو ضلال"(7)

قال القرطبي: "أي: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء"(8) من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة.

قال أبو السعود: " أي قل ردا عليهم إن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى بالحق والذي يحق ويصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إليه ليس بهدى، بل هو هوى"(9).

قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120]، " أي ولئن سايرتهم على آرائهم الزائفة وأهوائهم الفاسدة"(10).

قال النسفي: " أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع"(11).

قال ابن أبي زمنين: " يثبته بذلك؛ وقد علم جل جلاله أنه لا يتبع أهواءهم"(12).

قال أبو السعود: " أي آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم، وهي التي عبر عنها فيما قبل بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها، وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقي للملة، فقد غيروها تغييرا"(13).

(1) سبق تخريجه في القول الأول.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 94.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 30.

(4)

ذكره الواحدي في الوسيط: 1/ 200، والتفسير البسيط: 3/ 286، وهذا لعله من رواية عطاء.

(5)

تفسير ابن زمنين: 1/ 174.

(6)

معاني القرآن: 1/ 202.

(7)

صفوة التفاسير: 2/ 30.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(11)

تفسير النسفي: 1/ 84.

(12)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 175.

(13)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

ص: 182

و (الأهواء) جمع (هوى)، كما تقول: جمل وأجمال، ولما كانت مختلفة جمعت (1)، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم (2).

قال الزجاج: " إِنما جمع ولم يقل (هواهم)، لأن جميع الفرق ممن خالف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضيهم منه إلا أتباع هواهم"(3).

قال الواحدي: " وأراد بهذا: ما يدعونه إليه من المهادنة والإمهال"(4).

وفي هذا الخطاب وجهان (5):

أحدهما: أنه للرسول، لتوجه الخطاب إليه. والمعنى:" لإن صليت نحو قبلتهم بعد الذي جاءك من العلم في التحويل إلى الكعبة"(6).

قال القرطبي: " فيه تأديب لأمته، إذ منزلتهم دون منزلته"(7).

والثاني: أنه للرسول والمراد به أمته، لأن الرسول-صلى الله عليه وسلم معصوم، والمعنى:" فقد علمتم أن محمدًا قد جاءكم بالحق والصدق، فلا تتبعوا أهواء الكافرين، فلا يكونَ لكم من دوني ولي ولا نصير"(8).

قال ابن عطية: " فهذا شرط، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته معه داخلة فيه"(9).

قوله تعالى: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120]، أي:" بعدما ظهر لك الحق بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة"(10).

قال أبو السعود: " أي الوحي أو الدين المعلوم صحته"(11).

قال النسفي: " أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة"(12).

قال الواحدي: أي" دين الله هو الإسلام، وقيل: من العلم أنهم على الضلالة"(13).

قال ابن عثيمين: " يشير إلى الوحي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان القرآن، أو السنة؛ فالذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عِلم"(14).

قال الثعلبي: أي: " بعد الذي جاءك من العلم البيان بأن دين الله هو الإسلام وقبلة إبراهيم عليه السلام هي الكعبة"(15).

وكان أحمد بن حنبل يكفّر من يقول: "القرآن مخلوق، فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآيات من كتاب الله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، والقرآن من علم الله، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر"(16).

(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 204.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 94.

(3)

معاني القرآن: 1/ 202.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 286.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 94، والتفسير البسيط: 3/ 287.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 287.

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

(8)

التفسير البسيط: 3/ 287.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 204.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(12)

تفسير النسفي: 1/ 84.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 286.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 31.

(15)

تفسير الثعلبي: 1/ 266.

(16)

تفسير القرطبي: 2/ 94.

ص: 183

قوله تعالى: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، " أي ليس لك من يحفظك أو يدفع عنك عقابة الأليم"(1).

قال أبو السعود: أي: "ليس لك من جهته العزيزة من ولي يلي أمرك عموما ولا نصير يدفع عقابه"(2).

قال ابن عثيمين: أي: " ما أحد يتولى حفظك سوى الله عز وجل، ولا أحد يتولى نصرك، فيدفع عنك الشر سوى الله عز وجل"(3).

قال ابن عطية: " (الولي): الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة، و {نَصِيرٍ}، بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر"(4).

قال السعدي: " فهذا فيه النهي العظيم، عن اتباع أهواء اليهود والنصارى، والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"(5).

قال الشوكاني: "وعيد شديد لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-إن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم ويحتمل أن يكون تعريضا لأمته وتحذيرا لهم أن يواقعوا شيئا من ذلك أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ويطلبوا رضا أهل البدع وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء التاركين للعمل بالكتاب والسنة المؤثرين لمحض الرأي عليهما فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه لينا لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله والوقوع في حبائله فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة وجهالة بينة ورأي منهار وتقليد على شفا جرف هار فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة وهالك بلا شك ولا شبهة"(6).

قال الرازي: وهذه الآية " فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا، فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد، فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعا ونصيرا لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف، لأن اتباع أهوائهم كفر، وعندنا لا شفاعة في الكفر"(7).

الفوائد:

1 -

بيان عناد اليهود، والنصارى، حيث لا يرضون عن أحد إلا إذا اتبع دينهم.

2 -

ومنها: أن الكفر ملة واحدة؛ لقوله تعالى: {ملتهم} ؛ وهو باعتبار مضادة الإسلام ملة واحدة؛ أما باعتبار أنواعه فإنه ملل: اليهودية ملة؛ والنصرانية ملة؛ والبوذية ملة؛ وهكذا بقية الملل؛ ولكن كل هذه الملل باعتبار مضادة الإسلام تعتبر ملة واحدة؛ لأنه يصدق عليها اسم الكفر؛ فتكون جنساً، والملل أنواعاً.

3 -

ومنها: أن ما عدا هدى الله ضلال؛ قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32]؛ فكل ما لا يوافق هدى الله فإنه ضلال؛ وليس ثمة واسطة بين هدى الله، والضلال.

4 -

ومنها: أن ما عليه اليهود والنصارى ليس ديناً؛ بل هو هوى؛ لقوله تعالى: {أهواءهم} ؛ ولم يقل ملتهم كما في الأول؛ ففي الأول قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} ؛ لأنهم يعتقدون أنهم على ملة، ودين؛ ولكن بيَّن الله تعالى أن هذا ليس بدين، ولا ملة؛ بل هوى؛ وليسوا على هدًى؛ إذ لو

(1) صفوة التفاسير: 1/ 81.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 153. [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 31.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 204.

(5)

تفسير السعدي: 64.

(6)

تفسير الفتح القدير: 1/ 136.

(7)

تفسير الرازي: 4/ 30.

ص: 184

كانوا على هدى لوجب على اليهود أن يؤمنوا بالمسيح عيسى بن مريم؛ ولوجب عليهم جميعاً أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن دينهم هوى، وليس هدًى؛ وهكذا كل إنسان يتبع غير ما جاءت به الرسل -عليهم الصلوات والسلام -، ويتعصب له؛ فإن ملته هوى، وليست هدًى.

5 -

ومن فوائد الآية: أن من اتبع الهوى بعد العلم فهو أشد ضلالة؛ لقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم

} الآية.

6 -

ومنها: أنك إذا اتبعت غير شريعة الله فلا أحد يحفظك من الله؛ ولا أحد ينصرك من دونه، حتى لو كثر الجنود عندك؛ ولو كثرت الشُرَط؛ ولو اشتدت القوة؛ لأن النصر والولاية تكون بالهداية باتباع هدى الله عز وجل، كما قال تعالى:{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] فالأمن إنما يكون بالإيمان، وعدم الظلم.

7 -

ومنها: أنه يجب تعلق القلب بالله خوفاً، ورجاءً؛ لأنك متى علمت أنه ليس لك وليّ، ولا نصير فلا تتعلق إلا بالله؛ فلا تعلق قلبك أيها المسلم إلا بربك.

8 -

ومن الفوائد: أن العقوبات إنما تقع على العبد بعد أن يأتيه العلم، وأما الجاهل فلا عقوبة عليه، وهذا الأصل يشهد له آيات كثيرة متعددة، منها:

- قوله تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا} [البقرة: 286].

- وقوله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].

- وقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

- وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

القرآن

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} [البقرة: 121]

التفسير:

الذين أعطيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يقرؤونه القراءة الصحيحة، ويتبعونه حق الاتباع، ويؤمنون بما جاء فيه من الإيمان برسل الله، ومنهم خاتمهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ولا يبدِّلون ما جاء فيه. هؤلاء هم الذين يؤمنون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، وأما الذين بدَّلوا بعض الكتاب وكتموا بعضه، فهؤلاء كفار بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ومن يكفر به فأولئك هم أشد الناس خسرانًا عند الله.

اختلف في سبب نزول الآية على أقوال (1):

أحدها: قال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: "نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر ابن أبي طالب من أرض الحبشة كانوا أربعين رجلا من الحبشة وأهل الشام"(2).

الثاني: وقال الضحاك (3) وابن زيد (4): "نزلت فيمن آمن من اليهود"(5).

الثالث: وقال قتادة (6) وعكرمة (7): "نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"(8).

(1) انظر: أسباب النزول للواحدي: 40، والعجاب: 1/ 373 - 374.

(2)

أسباب النزول للواحدي: 40.

(3)

انظر: أسباب النزول للواحدي: 40.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1879): ص 2/ 564.

(5)

أسباب النزول للواحدي: 40.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1878): ص 2/ 564، وابن أبي حاتم (1161): ص 1/ 218.

(7)

أسباب النزول للواحدي: 40.

(8)

أسباب النزول للواحدي: 40.

ص: 185

قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]، "أي أعطيناهم الكتاب "(1).

قال صاحب الكشاف: " هم المؤمنون من أهل الكتاب"(2).

قال أبو السعود: " هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه"(3).

قال الطبري: أي" الذين آتيناهم الكتاب، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي"(4).

واختلف في الذين عناهم الله تعالى بقوله {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]، على قولين (5):

أحدهما: أنهم المؤمنون برسول الله-صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، وهذا قول قتادة (6).

والثاني: أنهم علماء اليهود، والكتاب هو التوراة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (7)

والقول الثاني أولى بالصواب، واختاره الإمام الطبري، وذلك، "لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر"(8).

قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121]، "ي يقرءونه قراءة حقة كما أنزل"(9).

قال عبدالله ابن مسعود: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله"(10).

وقال ابن عباس: "يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس: 2] "، يقول: اتَّبَعَها" (11).

قال ابن عطية: أي: " يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي"(12).

قال الزمخشري: أي" لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(13).

قال الطبري: أي: " يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولي

ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنزلته عليهم - بتأويل ولا غيره" (14).

قال أبو السعود: وذلك: " بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر في معانيه، والعمل بما فيه"(15).

قال الآلوسي: " أي يقرؤونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي"(16).

وفي تفسير قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121]، أقوال:

أحدها: يقرؤونه حق قراءة (17).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 35.

(2)

تفسير الكشاف: 1/ 183. [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(4)

تفسير الطبري: 2/ 570.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 564 - 565، وتفسير ابن كثير: 1/ 403.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1878): ص 2/ 564.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1879): ص 2/ 565.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 564 - 565.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(10)

أخرجه الطبري: (1886): ص 2/ 566.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1159): ص 1/ 218، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 403.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 204.

(13)

تفسير الكشاف: 1/ 183.

(14)

تفسير الطبري: 2/ 570.

(15)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(16)

روح المعاني: 1/ 370.

(17)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 569.

ص: 186

والثاني: يتبعونه حق اتباعه، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، وهذا قول ابن عباس (1)، وعكرمة (2)، والسدي (3)، وعبدالله بن مسعود (4)، وعطاء (5)، وأبي رزين (6)، ومجاهد (7)، وقيس بن سعد (8)، والحسن (9)، وإبراهيم النخعي (10)، وهو قول الجمهور.

الثالث: أن المراد: "إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار". قاله عمر بن الخطاب (11).

الرابع: أن المعنى: "يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يَكِلُونَ ما أشكل عليهم إلى عالمه. قاله حسن البصري (12).

والصواب أن المعنى: يتبعونه حق اتباعه، لإجماع الحجة من أهل العلم على أن ذلك تفسيره. والله أعلم.

والتلاوة يراد بها ثلاث أمور (13):

أحدها: التلاوة اللفظية، بأن يقيم الإنسان حروف الكتاب الذي أنزل.

والثاني: التلاوة المعنوية، بأن يقيم معناه، أي معنى الكتاب الذي أنزل، وذلك بأن يفسره بما أراد الله لا بهوى نفسه.

والثالث: التلاوة الحكمية العملية، بأن يؤمن بأخباره، ويقوم بأوامره، ويجتنب نواهيه.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، "أي فأولئك هم المؤمنون حقاً دون المعاندين المحرفين لكلام الله"(14).

قال ابن كثير: "أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد"(15).

قال أبو السعود: أي أولئك يؤمنون "بكتابهم دون المحرفين، فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامع الكفر ببعض منه"(16).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ} ، فيه "إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل"(17).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} [البقرة: 121]، "أي ومن كفر بالقرآن"(18).

قال أبو السعود: أي " بالتحريف والكفر بما يصدقه"(19).

(1) انظر: تفسير الطبري (1880)، و (1883): ص 2/ 566، وابن ابي حاتم (1157)، و (1159): ص 1/ 218.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1881): ص 2/ 566.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1884): ص 2/ 566.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1885)، و (1886)، و (1887): ص 2/ 566 - 567.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1889)، و (1900): ص 2/ 567، 568.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1890)، و (1891): ص 2/ 567.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1892)، و (1894)، و (1895)، و (1896)، و (1897)، و (1898)، و (1899): ص 2/ 567 - 568.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1893): ص 2/ 568.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1901): ص 2/ 569، وابن أبي حاتم (1158): ص 1/ 218.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 218.

(11)

تفسير ابن أبي حاتم (1160): ص 1/ 218.

(12)

تفسير ابن كثير: 1/ 403.

(13)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 35.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(15)

تفسير ابن كثير: 1/ 404.

(16)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(17)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(18)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(19)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

ص: 187

قال الطبري: " والذي يكفر بالكتاب: بأن يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه، ويبدله فيحرف تأويله"(1).

قال الآلوسي: " أي: بالكتاب، بسبب التحريف والكفر بما يصدقه"(2).

قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]، "أي فألئك هم الخاسرون لا غيرهم"(3).

قال الزمخشري: "حيث اشتروا الضلالة بالهدى"(4).

قال أبو السعود: " حيث اشتروا الكفر بالإيمان"(5).

قال الصابوني: أي: "فقد خسر دنياه وآخرته"(6).

قال الطبري: أي " أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه (7).

قال الآلوسي: هم الخاسرون" من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل: بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف"(8).

قال ابن عطية: " والخسران نقصان الحظ"(9).

قال ابن عثيمين: وأصل (الخسران) النقص؛ ولهذا يقال: ربح؛ ويقال في مقابله: خسر؛ فهؤلاء هم الذي حصل عليهم النقص لا غيرهم؛ لأنهم مهما أوتوا من الدنيا فإنها زائلة، وفانية، فلا تنفعهم (10).

وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار"(11).

الفوائد:

1 -

الثناء على من آتاه الله الكتاب فتلاه حق تلاوته.

2 -

أن من لم يقم حروف الكتاب، فإنه لم يؤمن به حق الإيمان، لأنه لم يتله حق تلاوته.

3 -

أن التلاوة تنقسم إلى قسمين:

تلاوة تامة: وهي أن يكون الإنسان تالياً للفظه، ولمعناه عاملاً بأحكامه مصدقاً بأخباره؛ فمن استكبر أو جحد فإنه لم يتله حق تلاوته.

وتلاوة ناقصة: وهي ما دون ذلك.

4 -

أن من لم يقم بالعمل الصالح الذي دل عليه الكتاب؛ فإنه لم يتله حق تلاوته، فيكون ناقص الإيمان.

5 -

الثناء على التالين لكتاب الله حق تلاوته، لقوله تعالى:(أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

6 -

أن الكافر بالكتاب الذي أنزله الله على رسله، خاسر في الدنيا والآخرة، فالكافر بالقرآن مهما أصاب من الدنيا فهو خاسر؛ لقوله تعالى:{ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} ؛ يكون خاسراً، ولو نال من الدنيا من أموال، وبنين، ومراكب فخمة، وقصور مشيدة؛ لأن هذه كلها سوف تذهب، وتزول؛ أو هو يزول عنها، ولا

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 572.

(2)

روح المعاني: 1/ 371.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 15.

(4)

تفسير الكشاف: 1/ 183.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 153.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 572.

(8)

روح المعاني: 1/ 371.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 205.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 15.

(11)

صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 188

تنفعه؛ واذكر قصة قارون، واتل قول الله تعالى:{قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر: 15]؛ فإذاً يصدق عليهم أنهم هم الخاسرون، كما في قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقون: 9]؛ ولما كان الذي يتلهى بذلك عن ذكر الله يظن أنه يربح قال تعالى: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9] يعني: ولو ربحوا في دنياهم.

7 -

قال ابن القيم في الفوائد: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فأجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله"(1).

8 -

ومن فوائد الآية: علوّ مرتبة من يتلون الكتاب حق تلاوته؛ للإشارة إليهم بلفظ البعيد: {أولئك يؤمنون به} .

القرآن

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)} [البقرة: 122]

التفسير:

يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، وأني فَضَّلتكم على عالَمي زمانكم بكثرة أنبيائكم، وما أُنزل عليهم من الكتب.

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 122]، "أي يا أولاد إسرائيل"(2).

قال البغوي: " يا أولاد يعقوب"(3).

والأصل في {بني} ، أن تكون للذكور، لكن إذا كانت لقبيلة، أو لأمة شملت الذكور، والإناث، كقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ} [الأعراف: 26] " (4).

وقوله {إِسْرَائِيلَ} ، يقصد به: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام إذ كان يدعى (إسرائيل)(5).

وذكر أهل التفسير في اشتقاق كلمة (إِسْرَائِيلَ)، وجوها (6):

أحدها: أنه مركب من (إسرا) وهو العبد في اللغة العبرانية، و (إيل) اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله.

والثاني: أن معنى (إسرا) صفوة، و (إيل) الله تعالى، ومعناه صفوة الله.

وفيه وجوه أخرى ذكرها أبو حيان في البحر، وقال بعدها:"وهذه أقاويل ضعاف"(7).

قال الواحدي: "والأصح عند أهل اللغة: أنه أعجمي لا اشتقاق له"(8).

أخرج الطبري عن ابن عباس، " أن إسرائيل كقولك: عبد الله" (9).

وأخرج أيضا بسنده "عن عبد الله بن الحارث، قال: (إيل)، الله بالعبرانية"(10).

واختلفت القراءة في قوله تعالى {إِسْرائِيلَ} [البقرة: 122]، على وجوه (11):

أحدها: {إسراييل} ، بقلب الهمزة ياء. روي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق.

والثاني: {إسرائل} ، بحذف الياء.

(1) الفوائد لابن القيم: 1.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 142.

(3)

تفسير البغوي: 1/ 86.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 142.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 553. وتنفسير القرطبي: 1/ 330، والمحرر الوجيز: 1/ 185.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 553. وتنفسير القرطبي: 1/ 330، والمحرر الوجيز: 1/ 185، وتفسير الثعلبي: 1/ 185، والتعريف والأعلام للسهيلي: 20.

(7)

البحر المحيط: 1/ 144.

(8)

التفسير البسيط: 2/ 462.

(9)

تفسير الطبري (798): ص 1/ 552.

(10)

تفسير الطبري (799): ص 1/ 552.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 133، وتفسير البيضاوي: 1/ 75.

ص: 189

والثالث: {إسرال} ، بحذف الهمزة والياء.

وقال ابن عباس: "حضرت عصابة من اليهود نبي الله- صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ فقالوا: اللهم نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد عليهم"(1).

واختلف في المخاطب في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 122]، على وجهين (2):

أحدهما: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه. قاله مكي (3).

وعلى هذا القول، يستقيم الضمير في {عَلَيْكُمْ} ، ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.

والثاني: أن الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في {عَلَيْكُمْ} ، يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت بين الآباء والأجداد. وهو قول ابن عباس (4)، وجمهور العلماء (5)، ومنه قول الفرزدق (6):

وَبَيْتَانِ: بَيْتُ اللهِ نَحْنُ وُلاتُهُ

وَبَيْتٌ بأعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ

يريد أن آباءه في القديم كانوا يلونهما، لا أنه كان يليه.

وقال آخر (7):

إِذا افْتَخَرَتْ يَوْمًا تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا

فَخَارًا عَلَى مَا أَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ

فَأَنْتُم بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُم

عُرُوشَ الذِينَ اسْتَرْهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ

أراد آباؤكم فعلوا ذلك، لأن المخاطبين بهذا البيت كانوا بعد ذي قار بدهر طويل (8).

قوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 122]، أي:"اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم"(9).

قال البيضاوي: " أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها"(10).

قال ابن عثيمين: " أي اذكروها بقلوبكم، واذكروها بألسنتكم، واذكروها بجوارحكم؛ وذلك؛ لأن الشكر يكون في الأمور الثلاثة: في القلب، واللسان، والجوارح"(11).

وقال السعدي: "وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه"(12).

قال البغوي: "أي: احفظوا نعمي التي أنعمتها على أجدادكم وأسلافكم، والذكر: يكون بالقلب ويكون باللسان وقيل: أراد به الشكر، وذكر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكرا وفي الكفران نسيانا، قال الحسن: "ذكر النعمة شكرها" (13) "(14).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (433): ص 1/ 94.

(2)

أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 133.

(3)

نقلا عن: المحرر الوجيز: 1/ 133.

(4)

تفسير الطبري (800): ص 1/ 555.

(5)

نقل قول الجمهور ابن عطية، أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 133.

(6)

البيت في "ديوان الفرزدق" 2/ 32، "معجم البلدان" 1/ 293، وإيلياء: بيت المقدس.

(7)

البيتان لأبي تمام، وقوله:"ذي قار" يوم من أيام العرب، كان لهم على الفرس، وحاجب: هو ابن زرارة بن عدس، كان أرهن سيفه لكسرى، انظر:"ديوان أبي تمام مع شرحه" 1/ 109، "معجم البلدن" 4/ 294.

(8)

أنظر: التفسير البسيط: 2/ 426 - 427.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 46.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 75،

(11)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 143.

(12)

تفسير السعدي: 50.

(13)

رواه ابن مبارك في الزهد (1434): ص 503، ومن طريقه ابن أبي دنيا في (الشكر):(33)، ومن طريقه البيهقي في الشعبي (4421): ص 4/ 102، و (4107): ص 8/ 365، واللفظ فيها:"أكثروا ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر". وانظر: البغوي: في تفسيره: 1/ 86، وأبو حيان: 4/ 55.

(14)

أنظر: تفسير البغوي: 1/ 86. (بتصرف بسيط).

ص: 190

وقال ابن عطية: " والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان"(1).

وقوله تعالى: {نِعْمَتِيَ} أي: "نعمي، لفظها واحد ومعناها جمع، كقوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] "(2).

وتحركت (الياء) من {نِعْمَتِيَ} ، لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء (3).

قال الفراء: "وأما نصب الياء من {نِعْمَتِيَ}، فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسالُ والسكون، والفتح، فإذا لَقيتها ألفٌ ولام، اختارت العربُ اللغة التي حركت فيها الياء وكرِهوا الأخرى لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي الّتي)، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما"(4).

قال ابن عطية: "وفتحها أحسن، لزيادة حرف في كتاب الله تعالى"(5).

وذكر أهل التفسر في (النعمة) التي أنعمها عليهم، قولين (6):

أحدهما: عموم نِعَمِهِ الَّتي أنعم بها على خلْقِهِ، كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. قاله ابن زيد (7).

والثاني: أنه أراد نِعَمَهُ عَلَى آبائهم، إذ نجَّاهم من آل فرعون، وجعل منهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وفجَّر لهم الحَجَرَ، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، والنعم على الآباء، نعم على الأبناء، لأنهم يَشْرُفون بشرف آبائهم. وهو قول الحسن البصري (8)، وروي عن ابن عباس (9) وأبي العالية (10)، ومجاهد (11)، نحو ذلك.

قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} [البقرة: 122]، " أي وأعطيتكم الفضل والزيادة على غيركم من الشعوب"(12).

قال الزمخشري: أي" على الجم الغفير من الناس"(13).

قال الثعلبي: " يعني عالمي زمانكم"(14).

قال قتادة: " فضلهم على عالم ذلك الزمان"(15). وروي عن مجاهد (16)، وابن زيد (17) مثل ذلك.

(1) المحرر الوجيز: 1/ 133.

(2)

تفسير البغوي: 1/ 86.

(3)

أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 133.

(4)

معاني القرآن: 1/ 29.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 133.

(6)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 111.

(7)

أنظر: تفسير الطبري (804): ص 1/ 5556.

(8)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 111.

(9)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (434): ص 1/ 95، وتفسير الطبري (802): ص 1/ 555.

(10)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (435): ص 1/ 95، وتفسير الطبري (803): ص 1/ 555 - 556.

(11)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (436): ص 1/ 95، وتفسير الطبري (803): ص 1/ 556.

(12)

تفسير المراغي: 1/ 104.

(13)

الكشاف: 1/ 135.

(14)

تفسير الثعلبي: 1/ 190.

(15)

أخرجه الطبري (868): ص 2/ 24.

(16)

أخرجه الطبري (870): ص 2/ 24.

(17)

أخرجه الطبري (872): ص 2/ 24.

ص: 191

قال أبو العالية: " بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما"(1).

وقد تقدم تفسير هذه الآية في صدر السورة آية [47].

قال ابن كثير: "وكررت هنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمَه وأمره وأمته، فحذرهم من كتمام هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين (2).

وقال الخازن: "كررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم"(3).

وقال ابن عاشور: " أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله، فإنه ابتدأ نداءهم أولاً بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها"(4).

قال الإمام الطبري: " وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسل"(5).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكروا نعمة الله عليهم، فيقوموا بشكرها؛ ومن شكرها أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم

2 -

ومنها: إظهار أن هذه النعمة لم تأت بكسبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرث عن آبائهم؛ وإنما هي بنعمة الله عليهم؛ لقوله تعالى:{أنعمت عليكم} .

3 -

ومنها: أن بني إسرائيل أفضل العالم في زمانهم؛ لقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} ؛ لأنهم في ذلك الوقت هم أهل الإيمان، وكانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم ليسوا أفضل العالمين؛ بل منهم القردة، والخنازير؛ وهم أذل عباد الله لقوله تعالى:{ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله} [آل عمران: 112]، وقوله تعالى:{لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [الحشر: 14].

4 -

ومن فوائد الآية: أن الله تعالى إذا فضل أحداً بعلم، أو مال، أو جاه فإن ذلك من النعم العظيمة؛ لقوله تعالى:{وأني فضلتكم على العالمين} : خصها بالذكر لأهميتها.

5 -

ومنها: تفاضل الناس، وأن الناس درجات؛ وهذا أمر معلوم. حتى الرسل يفضل بعضهم بعضاً، كما قال تعالى:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]، وقال تعالى:{ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55].

القرآن

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} [البقرة: 123]

(1) أخرجه الطبري (869): ص 2/ 24.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 404 - 405.

(3)

تفسير الخازن: 1/ 90.

(4)

تفسير ابن عاشور: 1/ 697 - 698.

(5)

تفسير الطبري: 2/ 573.

ص: 192

التفسير:

وخافوا أهوال يوم الحساب إذ لا تغني نفس عن نفس شيئًا، ولا يقبل الله منها فدية تنجيها من العذاب، ولا تنفعها وساطة، ولا أحد ينصرها.

في سبب نزول الآية: قال الزجاج: " كانت إليهود تزعم أن آباءَها الأنبياء تشفع لها عند الله فأيئَسُهم اللَّه من ذلك"(1).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [البقرة: 123]، أي:"اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله"(2)، وهو يوم القيامة.

قال الثعلبي: " أي واحذروا يوما واخشوا يوما"(3).

قال البغوي: أي: " واخشوا عقاب يوم"(4).

قال الصابوني: " أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي"(5).

قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، "أي لا تغني نفس عن نفس شيئاً"(6).

قال الصابوني: أي: " لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق"(7).

قال أبو العالية: "يعني: لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا"(8).

قال الطبري: أي"لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره"(9).

قال الثعلبي: " أي لا تقضي ولا تكفي ولا تغني"(10).

قال ابن أبي زمنين: " أي: لا تغني"(11).

قال الواحدي: " أي لا يقابل مكروهها بشيء يدرؤه عنها. و {لا تجزي}، معناه: لا تقضي ولا يغني، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن نِيَار: "ولا تجزي عن أحد بعدك" (12)، معناه: ولا تقضي"(13).

قال القرطبي: "فمعنى لا تجزي: لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شي فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق"(14).

قال ابن عثيمين: " فليس تفضيل آبائكم على العالمين بمغنٍ عنكم شيئاً؛ لا تقولوا: لنا آباء مفضلون على العالمين، وسَنَسْلَم بهم من النار، أو من عذاب هذا اليوم"(15).

(1) معاني القرآن: 1/ 128، وانظر: العجاب: 1/ 255 - 256.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 172.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 190.

(4)

تفسير البغوي: 1/ 90.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 48.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 38.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 48.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (499): ص 1/ 104.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 32.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 190.

(11)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 175.

(12)

قطعة من حديث في قصة أبي بردة بن نِيَار، حينما ذبح قبل صلاة العيد، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالجذعة المعزى. أخرجه البخاري في عدة مواضع، فأورده (955) كتاب (العيدين) باب (الأكل يوم النحر). و (965) باب (الخطبة بعد العيد)، و (968) باب:(التبكير إلى العيد)، و (983) باب (كلام الإمام والناس في خطبة العيد). و (5545) كتاب (الأضاحي) باب (سنة الأضحية)، و (5556) باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضح بالجذع من المعز)، و (5560) باب (الذبح بعد الصلاة). و (5563) باب (من ذبح قبل صلاة وأعاد). أخرجه مسلم من عدة طرق (1961) كتاب الأضاحي، وأخرجه أبو داود (2800) كتاب:(الأضاحي) باب (ما يجوز من السن في الضحايا)، وأحمد في "مسنده" 4/ 282، 298، 303 كلهم عن البراء.

(13)

التفسير البسيط: 2/ 467 - 468. وذكره أبو عبيد عن الأصمعي. "غريب الحديث" 1/ 43، وانظر:"تهذيب اللغة"(جزى) 1/ 601.

(14)

تفسير القرطبي: 1/ 378.

(15)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 38.

ص: 193

و {نفس} : نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً؛ فلا تجزي، ولا تغني نفس عن نفس أبداً، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني شيئاً عن أبيه، ولا أمه (1)؛ وقد نادى صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين؛ فجعل

(1) قلت إن الكلام في والدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرع عن الكلام في حكم أهل الفترة، والفترة معناها كما قال ابن كثير:"هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم". [تفسير القرآن العظيم 2/ 35، وانظر: جمع الجوامع للسبكي 1/ 63 وروح المعاني للآلوسي 6/ 103].

وقد قسّمهم أهل العلم إلى قسمين: القسم الأول: من بلغته الدعوة، والقسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة، ويشمل القسم الأول نوعين:

أولا: من بلغته الدعوة ووحّد ولم يشرك كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل. (انظر: البداية والنهاية 2/ 230 وفتح الباري 7/ 147].

ثانيا: من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك كعمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجرّ قصبه في النار ". [رواه البخاري (3521) ومسلم (2856)].

وقد جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن والديه في النار، روى مسلم (203) أن رجلاً قال:"يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قضى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار".

وفي شأن أمه قال عليه الصلاة والسلام: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ". [رواه مسلم (976)].

يقول النووي رحمه الله – شارحاً الحديث الأول: " فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ". [شرح صحيح مسلم 3/ 79].

هذا وقد قال بعض أهل العلم منهم القرطبي، والحافظ جلال الدين السيوطي، القاضى أبو بكر ابن العربى أحد أئمة المالكية، والشيخ محمد بخيت، والدكتور محمد فؤاد شاكر، وآخرون، بأنهما ناجيان من النار. [أنظر: التذكرة للقرطبى 13 - 15، والدر المنثور للسيوطي: 2/ 294، ومسالك الحنفا، ضمن الحاوى، 2/ 131، وفتاوى الأزهر فى فتوى الشيخ محمد بخيت فى شأن أهل الفترة التى بتاريخ ربيع الأول 1338 هجرية - 25 نوفمبر 1919 م، ودراسات فى علوم القرآن والسنة لفضيلة الدكتور ص 115 - 119].

وقد ذكر الإمام السيوطي في رسالته السادسة (السبل الجلية فى الآباء العلية) بقوله: "إنى لم أدع أن المسألة إجماعية، بل هى مسألة ذات خلاف، غير أنى اخترت أقوال القائلين بالنجاة، لأنها أنسب بهذا المقام"[السبل الجلية، ضمن مجموعة رسائل الإمام الحافظ جلال الدين السيوطى، فى تحقيق نجاة أبوى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنهم من أهل الجنة فى الآخرة، تحقيق: حسين مخلوف: ص 190].

واحتجوا من وجوه:

أحدها: أن المراد بالأب، عمه أبو طالب والعرب تطلق الأب على العم، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين:

أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة:{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133].

وإسماعيل عمه قطعاً؛ فهو يعقوب بن سحاق بن إبراهيم.

والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة، وهو قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ (إلى أن قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ([الأنعام: 84 - 86].

فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط، وهو عمه على ما وردت به الأخبار، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ (يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ (، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم.

وعلى هذا القول: فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم، لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه، فقالصلى الله عليه وسلم:" ردوه علي " فلما رجع قال له: " إن أبي وأباك في النار".

يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية ، والعطف والدفاع عنه.

وبذلك: إن التحقيق في أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم ، ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم. [من كتاب مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجنكي الشنقيطي: ص 40].

والثاني: احتجوا بأقوال أنكرها عامة أهل العلم، وحكموا بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة أو ضعيفة جداً. [انظر: الحاوي للفتاوى 2/ 202].

قلت: إن المسألة خلافية، وذلك لورود نصوص ظاهرها فيه شي من التعارض، كما أن هذه المسألة ليست من مسائل الاعتقاد ولا العمل، فلم ينشغل بها السلف، لكونها من فضول العلم، أريد أن أشير بأنه لا دليل ينص على أن كلمة (أبي)، تشير إلى والد الرسول (عبدالله) تحديدا، وذلك للاحتمالات المشار إليها، فالمسألة ظنية الدلالة، كما أن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى عريضة ولا يخفى ما فيها، وكلام السيوطي ليس بالقوي، من التكلف. وأختم كلامي بقول الإمام الصنعاني-رحمه الله: "

"إن مسألة إيمان أبوي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مسائل الفضول، لا يخوض فيها من هو بمهمات دينه مشغول". [جموع رسائل الصنعاني: رقم 7].

والله تعالى أعلم.

ص: 194

ينادي كل واحد باسمه، ويقول:"يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك شيئاً .. "(1)، مع أن العادة أن الإنسان يدافع عن حريمه، وعن نسائه؛ لكن في يوم القيامة ليست هناك مدافعة؛ بل قال الله تعالى:{فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]: تزول الأنساب" (2).

وكثير من الآيات القرآنية تؤكد المعنى السابق أي: في يوم القيامة لا يغني أحد عن أحد، كما قال:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقال:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]، وقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، فهذه أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا (3).

وقد ذكر أهل التفسير في تعالى: {لا تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 123]، وجوها (4):

أحدها: معناه: لا تُغنِي، كما يقال: البقرة تَجْزِي عن سبعةٍ أي تُغِني، وهو قول السدي (5)، وسعيد بن جبير (6) وأبي مالك (7)، وقال به جماعة من أهل التفسير (8).

والثاني: معناه لا تقضي، ومنه قولهم: جزى الله فلاناً عني خيراً، أثابه عني وقضاه عني، وهو قول المفضل (9)، وجماعة من أهل التفسير (10).

ويسند هذا القول أن أصل الجزاء في كلام العرب: القضاء والتعويض (11).

والثالث: وقال بعضهم: {لا تَجْزِي} أي: لا تكفي (12).

والرابع: وقيل: لا تُكافِئ (13).

والأقرب من حيث اللغة هو القول الثاني، والمعنى في كل متقارب، والمراد: أنه لا يتحمل أحد عن أحد شيئاً. والله أعلم.

وفي قوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، وجوه من القراءة:

أحدها: {لَا تَجْزِي} ، قرأ بها الجمهور.

والثاني: {لا تُجزئ} ، مضمومة (التّاء) مهموزة (الياء). قرأ بها أبو السماك العدوي، من (أجزأ، يجزي) إذا كفي (14)، ومن ذلك قول الشاعر (15):

(1) أخرجه البخاري ص 221، كتاب الوصايا، باب 11: هل يدخل النساء والولد في الأقارب؟ حديث رقم 2753؛ وأخرجه مسلم ص 716، كتاب الإيمان، باب 89: في قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين

)، حديث رقم 504 [351]206.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 172.

(3)

تفسير الطبري: 2/ 573.

(4)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 116 - 117.

(5)

أنظر: تفسير الطبري (874): ص 2/ 27.

(6)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 104.

(7)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (499): ص 1/ 104.

(8)

منهم: ابن جرير في جامع البيان: 2/ 27، وابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 208، والسمرقندي في بحر العلوم: 1/ 116، ومكي بن أبي طالب في المشكل: 91، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم: 1/ 114، والغرناطي في التسهيل: 1/ 83، والعجيلي في الفتوحات الإلهية: 1/ 50، والسعدي في تيسير الكريم الرحمن:34.

(9)

نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 116 - 117.

(10)

منهم: ابن قتيبة في غريب القرآن: 41، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 76، والزمخشري في الكشاف: 1/ 278 والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 90، والبيضاوي في أنوار التنزيل: 1/ 55، والنسفي في تفسيره: 1/ 47، والخازن في لباب التأويل: 1/ 43، والكوكباني في تيسير المنان تفسير القرآن: 2/ 939، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 121، والقاسمي في محاسن التأويل: 2/ 120، وابن عاشور في التحرير والتنوير: 1/ 484.

(11)

أنظر: تفسير الطبري: 2/ 27، وتهذيب اللغة للأزهري: 1/ 142 - 143، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 456، والصحاح للجوهري: 6/ 2302، ولسان العرب لابن منظور: 1/ 620، وتاج العروس للزبيدي: 19/ 284، والمفردات للراغب:93.

(12)

انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 208، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 90، وغريب القرآن لابن الملقن: 53، وغيرها.

(13)

انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 208، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 90، وغريب القرآن لابن الملقن: 53، وغيرها.

(14)

أنظر: تفسير الثعلبي: 1/ 190.

(15)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 1/ 190، والسمين الحلبي في الدر المصون: 1/ 337.

ص: 195

وأجزأت أمر العالمين ولم يكن

ليجزي إلّا كامل وابن كامل

قال الزمخشري: "ومن قرأ (لا تجزئ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء"(1).

والثالث: وقرأ أبو السرار الغنوي: "لا تجزى نسمة عن نسمة شيئا"(2).

قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123]، "أي لا يقبل منها فداء"(3).

قال ابن أبي زمنين: " أي: فداء"(4).

قال الزمخشري: " أى فدية، لأنها معادلة للمفدى، ومنه الحديث: "لا يقبل منه صرف ولا عدل" (5)، أى: توبة ولا فدية"(6).

قال المراغي: " أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار، إذ هى لا تجد ذلك لتفتدى به"(7).

واختلف في قوله تعالى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] على أوجه (8):

أحدها: أن (العدل): الفدية، " وسميت عدلاً لأن المفدي يعدل بها: أي يساويها" (9)، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وقال:{فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الحديد: 15]. وهذا قول أبي العالية (10)، والسدي (11)، وقتادة (12)، وابن زيد (13).

والثاني: أنه: البدل، والبدل: الفدية، قاله ابن عباس (14).أي "رجل مكان رجل"(15).

والثالث: أنه: وروي عن ابن عباس: "أو حسنة مع الشرك"(16).

والرابع: وروي عن علي، رضي الله عنه، في حديث طويل، قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة. وهذا قول غريب (17).

والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل ما العدل؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"العدل الفدية"(18).

(1) الكشاف: 1/ 135.

(2)

الكشاف: 1/ 135.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 48.

(4)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 175.

(5)

متفق عليه، أنظر: صحيح البخاري (1771): ص 2/ 662، وسنن الترمذي (2127): ص 4/ 382، والنسائي (4689): ص 8/ 40، وأبو داود (4539): ص 4/ 183، وابن ماجة (2635): 2/ 880، ومسند الإمام احمد (962): ص 1/ 119.

(6)

الكشاف: 1/ 136.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 207.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 34 - 35. وتفسير ابن كثير: 1/ 256 - 257.

(9)

البحر المحيط: 1/ 161.

(10)

انظر: تفسير الطبري (881): ص 2/ 34.

(11)

انظر: تفسير الطبري (882): ص 2/ 34.

(12)

انظر: تفسير الطبري (883): ص 2/ 34.

(13)

انظر: تفسير الطبري (885): ص 2/ 34.

(14)

انظر: تفسير الطبري (884): ص 2/ 34.

(15)

البحر المحيط: 1/ 161.

(16)

نقلا عن: البحر المحيط: 1/ 161.

(17)

ينظر: تفسير ابن كثير 1: 256، والسيوطي 1:68.

(18)

ضعيف، ولم أجده عن غير الطبري، نقله عنه ابن كثير 1: 257، والسيوطي 1:68.

ص: 196

قوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، "أي لا يقبل من نفس عن نفس شفاعة"(1).

قال الصابوني: " أي لا تفيدها شفاعة أحد، لأنها كفرت بالله"(2).

قال المراغي: أي: " ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شاء آخر"(3).

قال ابن أبي زمنين: " أي: إن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين"(4).

قال ابن عطية: " وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي بعد أن أخذ العقاب حقه، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء"(5).

و"الشفاعة" هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة (6)، من جلب المنفعة؛ وشفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها (7)، وفيمن دخلها أن يخرج منها (8)، من دفع المضرة؛ فيومَ القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل من نفس عن نفس شفاعة أبداً (9).

قوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]، " أي: لا يدفع عنهم أحد عذاب الله ولا يجيرهم من سطوة عقابه" (10).

قال البغوي: ولا هم" يمنعون من عذاب الله"(11).

قال الطبري: " يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر"(12).

قال المراغي: " أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم، وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها"(13).

وقد ذكروا في قوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]، وجهين (14):

أحدهما: وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم.

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 103.

(2)

صفوة التفسير: 1/ 81.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 207.

(4)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 175.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 205.

(6)

راجع مسلماً ص 715، كتاب الإيمان، باب 85: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة

"، حديث رقم 483 [330] 196؛ وباب 84: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم 482 [329] 195؛ وفيه: يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة

(7)

قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية: فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم، فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين

" (2/ 177 – 178)، وذكر الحافظ ابن حجر أن دليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم، رب سلم" (فتح الباري 11/ 428)؛ مسلم ص 715، كتاب الإيمان، باب 84: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم 482 [329]195.

(8)

راجع البخاري ص 625 – 626، كتاب التوحيد، باب 36: كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، حديث رقم 7510؛ ومسلماً ص 714، كتاب الإيمان، باب 84: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم 479 [326]193.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 103.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 81.

(11)

تفسير البغوي: 1/ 90.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 36.

(13)

تفسير المراغي: 1/ 207.

(14)

أنظر: تفسير الطبري: 2/ 36.

ص: 197

والثاني: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.

والراجح هو القول الأول، وهو الأقرب الى سياق الآية، إذ "أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية - لمن استحق من خلقه عقوبته -، ولا شفاعة فيه، ولا ناصر له، وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه"(1).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إثبات يوم القيامة، وأن هذا اليوم شديد يجب اتقاؤه والحذر منه، إذ أن ذلك اليوم لا تغني نفس عن نفس شيئاً؛ حتى الوالد لا يجزي عن ولده شيئاً؛ ولا المولود يجزي عن والده شيئاً، كما قال تعالى:{يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} .

3 -

ومنها: أن من استحق العذاب ذلك اليوم لا يُقبل منه عدل؛ قال تعالى: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} .

4 -

ومنها: ثبوت أصل الشفاعة في ذلك اليوم؛ لقوله تعالى: {لا تنفعها شفاعة} ؛ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الموقف أن يُقضى بينهم (2)، وأنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار (3)؛ وفيمن دخل النار أن يخرج منها (4)؛ فعلى هذا يكون العموم في قوله تعالى:{ولا تنفعها شفاعة} مخصوصاً بما ثبتت به السنة من الشفاعة.

(1) تفسير الطبري: 2/ 36.

(2)

انظر: البخاري ص 393 – 394، كتاب التفسير، باب 5:(ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)، حديث رقم 4712؛ ومسلماً ص 714 – 715، كتاب الإيمان، باب 84: أنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم 480 [327]194.

(3)

سنن الترمذي - حديث (2359):

(حَدَّثَنَا ..... عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ..... ) ..

سنن أبي داود - حديث (4114):

(حَدَّثَنَا ..... عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي) ..

مسند أحمد - حديث (12745):

( ..... عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي) ..

سنن ابن ماجة - حديث (4300):

( ..... عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي)

(4)

فقد أخرج البخاري ومسلم في حديث الشفاعة لمن دخل النار أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر مرحلة من مراحل الشفاعة: يارب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول الله: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. فإنما يعني به المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل لا إله إلا الله، ولذلك قال في الحديث قبل الفقرة التي ذكر السائل: فأقول يا رب أمتي أمتي. وأمته المراد بها أمة الإجابة، وأما من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه فإنه لا يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفعه شفاعة أحد كائناً من كان، وإليك نص الحديث المذكور كما في صحيح البخاري، وقال الإمام البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يُسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمد بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل. فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة فقال: هيه فحدثناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع فقال: هيه فقلنا لم يزد لنا على هذا فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا، قلنا: يا أبا سعيد فحدثنا فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حدثني كما حدثكم به، وقال: ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطى واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. (واه البخاري 7510، ومسلم 193).

ص: 198

5 -

ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لقوله تعالى في آية أخرى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48].

6 -

ومنها: أنه لا أحد يُنصر يوم القيامة إذا كان من العصاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات: 25، 26]؛ فلا أحد ينصر أحداً يوم القيامة، لا الآلهة، ولا الأسياد، ولا الأشراف، ولا غيرهم.

القرآن

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]

التفسير:

واذكر-أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف، فأدَّاها وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك، فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين الإمامةُ في الدين.

قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ} [البقرة: 124]، "أي: واذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إِبراهيم، بجملة من التكاليف الشرعية" (1).

قال ابن كثير: " أي: واذكر - يا محمد - لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي"(2).

قال أبو السعود: " أي: واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ماهم فيه من الباطل"(3).

قال الزمخشري: " اختبره بأوامر ونواه، واختبار اللَّه عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار أحد الأمرين: ما يريد اللَّه، وما يشتهيه العبد، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك"(4).

قال ابن عثيمين: " وهنا أضاف الربوبية إلى إبراهيم: وهي من الربوبية الخاصة؛ فالربوبية بإزاء العبودية؛ فكما أن العبودية نوعان ــ خاصة، وعامة ــ فالربوبية أيضاً نوعان: خاصة، وعامة؛ وقد اجتمعا في قول السحرة: {آمنا برب العالمين} [الأعراف: 121]: هذه عامة؛ {رب موسى وهارون} [الشعراء: 48]: هذه خاصة؛ ولا شك أن ربوبية الله سبحانه وتعالى للرسل ــ ولا سيما أولو العزم منهم؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام ــ أخص الربوبيات"(5).

ويحتمل الخطاب في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124]، وجهين (6):

أحدهما: أن قوله {وَإِذِ} ، منصوب على المفعولية بمضمر مقدم، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 83. [بتصرف بسيط].

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 405.

(3)

تفسير أبي السعود: 1/ 154.

(4)

الكشاف: 1/ 183.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 40 - 41.

(6)

انظر: تفسير أبي السعود: 1/ 154. ونقله بتماه القاسمي في محاسن التأويل: 1/ 389.

ص: 199

والثاني: أنه منصوب بمضمر معطوف على {اذْكُرُوا} ، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام، من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم. أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به. فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ .

وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى} ، معناه:"وإذا اختبر، يقال منه: ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء، ومنه قول الله عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [سورة النساء: 6]، يعني به: اختبروهم"(1).

قال الطبري: " وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه، وأمر أمره به. وذلك هو " الكلمات " التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا"(2).

ثم اختلف أهل التفسير في صفة (الكلمات) التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه على أقوال (3):

أحدها: أنها شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما (4).

قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [سورة النجم: 37]. قال: عشر منها في (الأحزاب)(5)، وعشر منها في (براءة)(6)، وعشر منها في (المؤمنون)(7)، و (سأل سائل)(8)، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما" (9).

الثاني: إنها خصال من سُنَنِ الإسلام، خمس في الرأس.

قال ابن عباس: "ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء"(10).

وروي عن قتادة (11)، وأبي الخلد (12)، نحو ذلك.

(1) تفسير الطبري: 3/ 7.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 7.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 7، وتفسير ابن كثير: 1/ 405 - 406.

(4)

السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي القداح. ثم سمى ما يفوز به الفالج سهما، ثم كثر حتى سمى كل نصيب سهما. وقوله هنا يدل على أنهم استعملوه في كل جزء من شيء يتجزأ وهو جملة واحدة. فقوله:" سهما " هنا، أي خصلة وشعبة. وسيأتي شاهدها في الأخبار الآتية. (تفسير الطبري: 3/ 7).

(5)

وهي في قوله تعالى: {إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ، وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ، والْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ، وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].

(6)

وهي في قوله تعالى: {التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون} [التوبة: 112].

(7)

وهي في قوله تعالى: {قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلَاّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ، فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} " [المؤمنون: 1 - 11].

(8)

من قوله تعالى: {إلا المُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، إلى {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم يُحَافظُون} [المعارج: 34].

(9)

أخرجه الطبري (1907): ص 3/ 7. كذلك رواه أبو جعفر بهذا الإسناد، في التاريخ 1: 144. وذكره ابن كثير 1: 302، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والحاكم. وذكره السيوطي 1: 111 - 112، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن مردويه، وابن عساكر. وهذا الإسناد صحيح.

(10)

أخرجه الطبري (1910): ص 2/ 9، وهذا الإسناد صحيح، وهو في تفسير عبد الرزاق (مخطوطة دار الكتب المصورة)، بهذا الإسناد، وكذلك رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 144، من تفسير عبد الرزاق. بهذا الإسناد، وكذلك رواه الحاكم 2: 266، من طريق ابن طاوس عن أبيه، به. وقال:" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير 1:301. وكذلك ذكره السيوطي 1: 111 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه. (تفسير الطبري: 3/ 9).

(11)

انظر: تفسير الطبري (1912): ص 2/ 9.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1913): ص 2/ 9 - 10.

ص: 200

الثالث: إنها عشر خصال، ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة". وهذا قول ابن عباس في رواية حنش عنه (1).

الرابع: أنها قوله: {إني جاعلك للناس إماما} ، في مناسك الحج. قاله أبو صالح (2)، وروي عن مجاهد (3)، وعكرمة (4)، والربيع (5) وابن عباس (6) نحو ذلك.

الخامس: أنها مناسك الحج خاصة. وهذا قول ابن عباس في رواية قتادة عنه (7).

السادس: أنها أمور، منهن الختان. قاله الشعبي (8).

السابع: أنها الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن. وهذا قول الحسن (9)،

عن أبي رجاء، قال: قلت للحسن: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ". قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان" (10).

الثامن: أنها: قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [البقرة: 127 - 129]. قاله السدي (11).

والصواب: أن هذه الكلمات التي هي محل الابتلاء والاختبار، أطلقها الله سبحانه وتعالى؛ فهي كلمات كونية؛ وشرعية؛ أو جامعة بينهما؛ واختلف المفسرون في هذه الكلمات؛ وأصح الأقوال فيها أن كل ما أمره به شرعاً، أو قضاه عليه قدراً، فهو كلمات؛ فمن ذلك أنه ابتُلي بالأمر بذبح ابنه، فامتثل؛ لكن الله سبحانه وتعالى رفع ذلك عنه حين استسلم لربه؛ وهذا من الكلمات الشرعية؛ وهذا امتحان من أعظم الامتحانات؛ ومن ذلك أن الله امتحنه بأن أوقدت له النار، وأُلقي فيها؛ وهذا من الكلمات الكونية؛ وصبر، واحتسب؛ فأنجاه الله منها، وقال تعالى:{يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69]؛ وكل ما قدره الله عليه مما يحتاج إلى صبر، ومصابرة، أو أمره به فهو داخل في قوله تعالى:{بكلمات} .

وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تعالى: {إِبْرَاهِيم} [البقرة: 124]، على ثلاثة أوجه من القراءات (12):

أحدها: {إبرهم} ، بِغَيْر يَاء وَطلب الْألف، قَرَأَ بها ابْن عَامر، فِي جَمِيع سورة البقرة.

(1) انظر: تفسير الطبري (1914): ص 2/ 10.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1915)، و (1916): ص 2/ 10 - 11.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1917)، و (1918)، و (1920)، و (1921): ص 2/ 11.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1919)، و (1920): ص 2/ 11.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1922): ص 2/ 11 - 12.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1923): ص 2/ 12.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1923): ص 3/ 12.

هذا الإسناد ضعيف من ناحيتين. أما سلم - بفتح السين وسكون اللام - ابن قتيبة أبو قتيبة: فإنه ثقة، خرج له البخاري في صحيحه. وأما الضعف، فلأن " عمر بن نبهان الغبري " بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة: ضعيف جدا، ذمه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/ 1/138. والوجه الآخر من الضعف: أنه منقطع، لأن قتادة لم يدرك ابن عباس.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1930)، و (1931)، و (1932): ص 3/ 13 - 14.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1933)، و (1934)، و (1935)، و (1936): ص 2/ 14.

(10)

أخرجه الطبري (1933): ص 2/ 14.

(11)

انظر: تفسير الطبري (1937): ص 2/ 14 - 15.

(12)

انظر: السبعة: 169 - 170.

ص: 201

والثاني: {إِبْرَهِيمُ} ، بالياء، قرأ بها الْقُرَّاء جَمِيعًا.

الثالث: {إبرهام} ، بالألف بعد الهاء، قاله الْأَخْفَش الدِّمَشْقِي عَن ابْن ذكْوَان عَن ابْن عَامر.

وذكروا في قوله تعالى: {إِبْراهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124]، قراءتين (1):

إحداهما: {إبراهيمُ ربَّه} ، برفع إبراهيم ونصب ربه. قرأ بها أبو حنيفة، وهي قراءة ابن عباس رضى اللَّه عنه، والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟

والثانية: {إِبْراهِيمَ رَبُّهُ} . وهي القراءة المشهورة. و {إبراهيم} فيه مقدّم في المعنى.

قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، أي:"فأتم إبراهيم الكلمات"(2).

قال الصابوني: أي: " فقام بهن خير قيام"(3).

قال الزمخشري: أي: "فقام بهنّ حق القيام وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان"(4).

قال المراغي: أي: " فأدّاها خير الأداء، وأتي بها على وجه الكمال"(5).

قال الطبري: "وإتمامه إياهن، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي الله جل ثناؤه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [سورة النجم: 37]، يعني وفى بما عهد إليه، بـ {الكلمات}، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها"(6).

وذكروا في قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، وجوها:

أحدها: أن معناه: عمل بهن. قاله أبو العالية (7).

الثاني: وفى بهن. قاله الربيع (8).

الثالث: أداهن. قاله قتادة (9).

قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، يعني: إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به" (10).

قال أبو العالية: " فجعله الله إماما يؤتم ويقتدى به"(11). وروي عن الحسن وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك (12).

قال الكلبي: "يعني: يهتدي بهديك وسنتك، فأعجب ذلك إبراهيم! "(13).

قال الماوردي: "أي: مقصوداً متبوعاً، ومنه إمام المصلين، وهو المتبوع في الصلاة"(14).

قال المراغي: " أي قال إنى جاعلك للناس رسولا يؤتمّ بك، ويقتدى بهداك إلى يوم القيامة"(15).

(1) انظر: الكشاف: 1/ 183.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 17.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(4)

الكشاف: 1/ 184، ونقله بتمامه النسفي في تفسيره: 1/ 85.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 209.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 17 - 18.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1173): ص 1/ 222.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 269.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 269.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 18.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1174): ص 1/ 222.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 222.

(13)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 175.

(14)

النكت والعيون: 1/ 185.

(15)

تفسير المراغي: 1/ 209.

ص: 202

قال ابن عثيمين: " وهي الإمامة عامة فيمن أتى بعده، فإن النبي ابراهيم-عليه السلام صار إماماً حتى لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [النحل: 123]؛ و (الإمام) مَن يُقتدى به سواء في الخير، أو في الشر؛ لكن لا ريب أن المراد هنا إمامة الخير، فإذا قال قائل: أرُونا دليلاً على أن الإمامة في الشر تسمى إمامة؟ قلنا: قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [القصص: 41]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (1)؛ وهذا لأنه إمام"(2).

قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، "أي: واجعل من ذريتي إماماً يقتدى به" (3).

قال ابن عطية: " أي ومن ذريتي يا رب فاجعل"(4).

قال الثعلبي: أي: " ومن أولادي أيضا. فاجعل أئمة يقتدى بهم"(5).

قال ابن ابي زمنين: "أي: ومن كان من ذريتي فليكن إماماً لغير ذريتي"(6).

قال البغوي: " أي ومن أولادي أيضا فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير"(7).

قال المراغي: " وقد جرى إبراهيم على سنة الفطرة، فتمنى لذريته الخير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يرجو أن يكون ابنه أحسن منه في جميع ذلك"(8).

قال أبو العالية: " فقال إبراهيم: يا رب ومن ذريتي يقول: اجعل من ذريتي، من يؤتم به ويقتدى به"(9).

ويحتمل {من} في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، وجهين (10):

أحدها: أنها لبيان الجنس؛ وبناءً على ذلك تصلح {ذريتي} لجميع الذرية؛ يعني: واجعل ذريتي كلهم أئمة.

الثاني: أنها للتبعيض؛ وعليه فيكون المقصود: اجعل بعض الذرية إماماً.

قال شيخنا ابن عثيمين: "والكلام يحتمل هذا، وهذا؛ ولكن سواء قلنا؛ إنها لبيان الجنس؛ أو للتبعيض؛ فالله تعالى أعطاه ذلك مقيداً بقوله تعالى {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} "(11).

ويحتمل الكلام في قوله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، وجهين (12):

أحدهما: أنه دعاء، وإبراهيم طمع في الإمامة لذريته، فسأل الله تعالى ذلك لهم، أي: من ذريتي يا رب فاجعل.

الثاني: أنه استفهام، قال ذلك استخباراً عن حالهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة.

وفي أصل (الذرية) قولان (13):

أحدهما: الأولاد الصغار، مشتق من الذر لكثرته.

والثاني: أنها من الذرر، وهو الخلق، فخفف الهمز وأدخل التشديد عوضا عن الهمز كالبرية.

(1) أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 20: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة

، حديث رقم 2351 [69]1017.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 42

(3)

تفسير النسفي: 1/ 85.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 206.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 269.

(6)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 176.

(7)

تفسير البغوي: 1/ 146.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 209.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1177): ص 1/ 222.

(10)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 42.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 42.

(12)

انظر: النكت والعيون: 1/ 185، وتفسير القرطبي: 2/ 107.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 259.

ص: 203

وقرئ {ذريتي} ، بكسر الذال، وهي لغة، وهي قراءة زيد بن ثابت، و {ذرية} بفتحها وهي قراءة أبي جعفر، و {ذرية} ، بضمها وهي قراءة العامة (1).

قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، يعني:"لا يصيب تعهدي لك بهذا الظالمين"(2).

قال ابن ابي زمنين: " أي: أن أجعلهم أئمة يقتدى بهم"(3).

قال أبو العالية: "يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على حق"(4).

قال ابن عباس: يخبره أي أنه كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره، وإن كانوا من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته ويبلغ فيه ما أراب من مسألته" (5).

قال عطاء: " فأبى أن يجعل ظالما إماما"(6).وروي عن مقاتل نحو ذلك (7).

قال مجاهد: " قال: أما من كان منهم صالحا فسأجعله إماما يقتدى به. وأما من كان منهم ظالما فلا، ولا نعمة عين"(8).

قال ابن كثير: " أي: أجعل من ذريتك إماماً؛ ولكن الظالم من ذريتك لا يدخل في ذلك"(9).

قال المراغي: " أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدى بالإمامة لا يناله الظالمون، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس"(10).

قال الزجاج: " فأَعلم اللَّه إبراهيم أن في ذريته الظالم"(11).

قال البيضاوي: " إجابة إلى ملتمسه، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة، وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد، والظالم لا يصلح لها، وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم. وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة"(12).

والوصية تسمى: العهد (13).

وفي قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وجوه (14):

احدها: المراد: إنه سيكون في ذريتك ظالمون. وهذا قول مجاهد (15).

الثاني: المعنى: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به. وهذا قول مجاهد في رواية ابن أبي نَجِيح عنه (16).

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 269، وتفسير البيضاوي: 1/ 104.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 410.

(3)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 176.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1177): ص 1/ 222.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1175): ص 1/ 222.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1178): ص 1/ 223.

(7)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 1/ 223.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1179): ص 1/ 223.

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 410. قال ابن كثير: " فلما جعل الله إبراهيم إمامًا، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه".

(10)

تفسير المراغي: 1/ 210.

(11)

معاني القرآن: 1/ 205.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 104.

(13)

انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 1/ 135، لسان العرب لابن منظور: 4/ 3138، الصحاح للجوهري: 2/ 515، تاج العروس للزبيدي: 5/ 144.

(14)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 410.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1962): ص 2/ 24.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1951): ص 2/ 24.

ص: 204

الثالث: أن المراد: لا يكون إمام مشرك. قاله سعيد بن جبير (1).

والصواب في تفسير قوله تعالى {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أن يقال: لا يصيب تعهدي لك بهذا، الظالمين؛ و {عهدي} فاعل؛ و {الظالمين} مفعول به؛ أي أجعل من ذريتك إماماً؛ ولكن الظالم من ذريتك لا يدخل في ذلك. والله تعالى أعلم.

واختلفوا في تفسير (العهد) في قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، على أقوال:

أحدها: أنه النبوة، وهو قول السدي (2).

والثاني: أنه الإمامة، وهو قول مجاهد (3)، وعكرمة (4).

والثالث: أنه الإيمان، وهو قول قتادة (5)، وإبراهيم (6).

والرابع: أنه الرحمة، وهو قول عطاء (7).

والخامس: أنه دين الله، وهو قول أبي العالية (8)، والربيع (9)، والضحاك (10).

والسادس: أنه الجزاء والثواب (11).

والسابع: أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة، وهو قول ابن عباس (12).

والثامن: أنه طاعته. قاله الضحاك (13)، ومقاتل بن حيان (14).

وأظهر هذه الأقوال قول من قال بأن العهد: الإمامة؛ لأنها المصدر بها في الآية، ولكنها إمامة خاصة وهي الإمامة في الدين لا في الدنيا كما يدل عليه السياق، والواقع بل الأظهر: أنها أخص من ذلك وهي النبوة فإن الأنبياء بعد إبراهيم-عليه السلام-كانوا من ذريته (15). والله أعلم.

وفي المراد بقوله: {الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وجوه:

أحدها: أنهم المشركون. قاله سعيد بن جبير (16)، والسدي (17).

والثاني: أنهم أعداء الله. قاله الضحاك (18).

والثالث: أنهم العصاة. كما في ظاهر التنزيل. وهذا قول ابن عباس (19)، وروي عن مجاهد (20)، وعطاء (21)، ومقاتل بن حيان (22)، نحو ذلك.

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 410.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1945): ص 2/ 20، وابن أبي حاتم (1182): ص 1/ 223.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1946)، و (1947)، و (1949)، و (1950)، و (1951)، و (1953): ص 2/ 20 - 22.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1948): ص 2/ 21.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1957)، و (1958): ص 2/ 22 - 23.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1959): ص 2/ 23.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1181): ص 1/ 223.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1180): ص 1/ 223.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1961): ص 2/ 23.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1960): ص 2/ 23.

(11)

انظر: النكت والعيون: 1/ 185.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1954)، و (1955)، و (1956): ص 2/ 21 - 22.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1183): ص 1/ 223.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 223.

(15)

انظر: البحر المحيط: 1/ 377، مفاتيح الغيب: 4/ 45، محاسن التأويل: 2/ 245.

(16)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1184): ص 1/ 224.

(17)

انظر: زاد المسير: 1/ 141.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1185): ص 1/ 224.

(19)

انظر: تفسير الطبري (1954)، و (1955)، و (1956): ص 2/ 21 - 22.

(20)

انظر: تفسير الطبري (1946)، و (1947)، و (1949)، و (1950)، و (1951)، و (1953): ص 2/ 20 - 22.

(21)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1181): ص 1/ 223، و (1186): ص 1/ 224.

(22)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 223، 224.

ص: 205

وفي قوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124، ثلاثة قراءات (1):

إحداها: {عهدي الظالمون} ، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة ابن مصرف.

الثانية: {عهدي الظالمين} ، مرتجلة الياء، وهي قراءة أبي رجاء والأعمش وحمزة.

والثالثة: {عهدي الظالمين} ، بفتح الياء وهي قراءة العامة.

قال الزجاج: " والقراءَة الجيّدة هي على نصب {الظالمين}؛ لأن المصحف. هكذا فيه، وتلك القراءَة جيدة (بالغة) إلا أني لا أقرأ بها، ولا ينبغي أن يُقْرأ بها لأنها خلاف المصحف"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن الله قد يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة؛ لقوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه) وكما أنه يبتلي بعض العباد بتكليفات خاصة شرعية، فإنه قد يبتليهم بأحكام كونية، مثل: مرض، مصائب في المال، أو في الأهل؛ وما أشبه ذلك.

2 -

ومنها: فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {ربه} حيث أضاف ربوبيته إلى إبراهيم - وهي ربوبية خاصة -؛ ولقوله تعالى: {فأتمهن} ؛ ولقوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} .

3 -

ومنها: أن من أتم ما كلفه الله به كان من الأئمة؛ لقوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} ؛ فإنه لما أتمَّهن جوزي على ذلك بأن جُعل للناس إماماً.

4 -

ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو لذريته بالإمامة، والصلاح؛ لقوله تعالى:{قال ومن ذريتي} ؛ وإبراهيم طلب أن يكون من ذريته أئمة، وطلب أن يكون من ذريته من يقيم الصلاة:{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40].

5 -

ومنها: أن الظالم لا يستحق أن يكون إماماً؛ والمراد: الظلم الأكبر - الذي هو الكفر -؛ لقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} .

6 -

ومنها: أن الظلم ينزل بأهله إلى أسفل سافلين؛ لا يجعلهم في قمة؛ بل ينزلهم إما في الدنيا؛ وإما في الآخرة.

7 -

ومنها: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه، فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى:{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه (3).

8 -

ومن فوائد الآية: أن كل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا، فدل

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 269، وتفسير الطبري: 2/ 24، والمحرر الوجيز: 1/ 207.

(2)

معاني القرآن: 1/ 205.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 108 - 109.

ص: 206

على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم

قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين (1).

القرآن

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]

التفسير:

واذكر -أيها النبي- حين جعلنا الكعبة مرجعًا للناس، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم، لا يُغِير عليهم عدو فيه. وقلنا: اتخِذوا من مقام إبراهيم مكانًا للصلاة فيه، وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة. وأوحينا إلى إبراهيم وابنه إسماعيل: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس؛ للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة، أو الاعتكاف في المسجد، والصلاة فيه.

وفي سبب نزول الآية، تعددت الروايات على وجوه:

أحدها: قال عمر بن الخطاب: "قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " (2).

والثاني: وأخرج ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن جعفر بن محمد عن أبيه، سمع جابرا يحدث عن حجة النبي- صلى الله عليه وسلم قال:"لما طاف النبي- صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم قال: أفلا تتخذه مصلى. فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} "(3).

وأخرج الفاكهي عن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف فقال: "هذا مقام أبينا إبراهيم"، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى؟ فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} "(4).

الثالث: وحكى الثعلبي عن ابن كيسان قال: "ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالمقام ومعه عمر فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام إبراهيم؟ قال: بلى قال: أفلا نتخذه مصلى؟ قال: لم أؤمر بذلك، فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت"(5).

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125]، "أي: اذكر يا محمد للناس إذ صيّرنا الكعبة مرجعا يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا" (6).

(1) تفسير القرطبي: 2/ 109 - 110. والكلام لابن خويز منداد.

(2)

رواه أحمد في المسند: 157، 160، 250، عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن كثير 1: 309 - 310، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي:" حسن صحيح ".

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (1196): ص 1/ 226.

(4)

العجاب في بيان الأسباب: 1/ 376 - 377. سنده ضعيف.

(5)

العجاب في بيان الأسباب: 1/ 378، وانظر: اللباب: 29.

(6)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 44. [بتصرف بسيط].

ص: 207

قال الطبري: أي" وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا"(1).

قال الصابوني: "أي واذكر حين جعلنا الكعبة المعظمة مرجعاً للناس يقبلون عليه من كل جانب"(2).

قال المراغي: " أي واذكروا حين أن جعلنا البيت الحرام مرجعا للناس يثوبون إليه للعبادة، ويقصدونه لأداء المناسك فيه، وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] "(3).

قال البيضاوي: أي: " مرجعاً يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره"(4).

قال السعدي: " أي: مرجعا يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه، ولا يقضون منه وطرا"(5).

و{البيت} : اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا (6).

وفي {البيت} في الآية قولان:

أحدهما: أنه الكعبة، وإلى ذلك ذهب زيد بن أسلم (7). واختاره القرطبي (8)، وابن الجوزي (9)، والواحدي (10)، والبغوي (11)، وابن عطية (12)، وعزاه أبو حيان لجمهور المفسرين (13)، ويشهد له قوله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97].

الثاني: أنه الحرم كله؛ لأنه تعالى وصفه بكونه (آمِنَاً) وهذه صفة جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط. قاله الرازي (14).

والقولان محتملان، والثاني أولى لما ذكره الرازي وأبو حيان، والله أعلم.

وفي تفسير قوله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125]، ثلاثة أوجه:

أحدها: مجمعاً، لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة. وهذا قول سعيد بن جبير (15)، وروي عن عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة (16)، نحو ذلك (17).

والثاني: معاذاً للناس. قاله ابن عباس (18).

(1) تفسير الطبري: 2/ 25.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 211.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 105.

(5)

تفسير السعدي: 65.

(6)

انظر: تفسير الكشاف: 1/ 309، وتفسير البيضاوي: 1/ 81، والمحرر الوجيز: 1/ 207، وتفسير أبي السعود: 1/ 156، وتفسير فتح القدير: 1/ 204، وروح المعاني: 1/ 378.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1189): ص 1/ 224.

(8)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 110.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 141.

(10)

انظر: الوسيط: 1/ 203.

(11)

انظر: تفسير البغوي: 1/ 146

(12)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 351.

(13)

انظر: البحر المحيط: 1/ 379.

(14)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 50، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 379.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1192): ص 1/ 225.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1975): ص 2/ 28.

(17)

تنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 225.

(18)

انظر: البحر المحيط: 1/ 380.

ص: 208

ووجهه أن الناس يثوبون إلى البيت عائذين به وملتجئين إليه لكونه كما قال الله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وقوله-سبحانه-:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] أو أنهم يثوبون إليه عائذين بالله-عز وجل-من ذنوبهم وملتجئين إليه من معاصيهم، لأنه لا ملجأ منه-سبحانه-إلا إليه.

والثالث: مرجعاً، من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت، ومنه قيل: ثاب إليه عقله، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه. وهذا قول ابن عباس (1)، وروي عن أبي العالية (2)، وسعيد بن جبير في إحدى روايته (3)، وعطاء (4) ومجاهد (5)، والحسن (6)، وعطية (7)، والربيع بن أنس (8)، والسدي (9)، وابن زيد (10)، والضحاك (11)، وعبدة بن أبي لبابة (12)، نحو ذلك (13).

ومن ذلك قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم (14):

مثابا لأفناء القبائل كلها

تخب إليه اليعملات الطلائح

وأكثر المفسرين قد فسروا لفظ {مَثَابَةً} بما وضع له لغة، فقالوا معناه: مرجعا (15).

والقول الثاني أولى بأن يحمل عليه كلام ابن عباس، لأن في الآية بعد {وَأَمْنًا} ، ولو حملت على الوجه الأول لكانت {وَأَمْنًا} للتأكيد، والتأسيس خير منه، وأيضاً فإن العطف يقتضي المغايرة.

(1) اتظر: تفسير ابن أبي حاتم (1191): ص 1/ 225، وتفسير الطبري (1967): ص 2/ 27.

(2)

تنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 225.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1972): ص 2/ 28.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1969): ص 2/ 27.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1963)، و (1964)، و (1965): ص 2/ 26 - 27.

(6)

تنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 225.

(7)

انظر: تفسير الطبري (1970): ص 2/ 27 - 28.

(8)

انظر: تفسير الطبري (1977): ص 2/ 29.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1966): ص 2/ 27.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1978): ص 2/ 29.

(11)

تنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 225.

(12)

انظر: تفسير الطبري (1968): ص 2/ 27.

(13)

تنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 225.

(14)

من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن كثير 2: 297، والبيت في تفسير أبي حيان 1: 380، بهذه الرواية، وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام:

فمتبع دين الذي أسس البنا

وكان له فضل على الناس راجح

وأسس بنيانا بمكة ثابتا

تلألأ فيه بالظلام المصابح

مثابا لأفناء. . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . .

بنصب " مثابا " بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم 2: 120 لورقة بن نوفل، وعجزه. تخب إليه اليعملات الذوامل

وكذلك جاء في القرطبي 2: 110:

مثابا لأفناء القبائل كلها

تخب إليها اليعملات الذوامل

وعدها أبو حيان رواية في البيت، وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب، وفي (ذمل) غير منسوب. والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت. وأخطأ صاحب اللسان في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة.

وأفناء القبائل: أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا. وخبت الدابة تخب خببا: وهو ضرب سريع من العدو. واليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل، والعمل الإسراع والعجلة. والطلائع جمع طليح. ناقة طليح أسفار: جهدها السير وهزلها، فهي ضامرة هزلا. يعني الإبل أنضاها أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت. وأما " الذوامل " في الرواية الأخرى، فهو جمع ذاملة. ناقة ذمول وذاملة: وهي التي تسير سيرا لينا سريعا.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 368 - 369، جامع البيان للطبري: 3/ 26 - 27، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 210 - 211، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 110، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 54، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 63، فتح القدير للشوكاني: 1/ 204، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 811، الكشاف للزمخشري: 1/ 309، محاسن التأويل للقاسمي: 2/ 247، وغيرها.

ص: 209

وكل هذه الأقوال على أن مثابة: من ثاب يثوب إذا رجع وهو الأظهر، وفسرها عطاء على أنها من الثواب: الذي هو الجزاء، والمعنى: على أن البيت موضع ثواب يثاب فيه الناس بحجهم واعتمارهم فيه (1).

وفي رجوعهم إليه وجهان (2):

أحدهما: أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة. وهذا قول الجمهور (3).

والثاني: أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق.

وقد اختلف أهل اللغة في (المثابة) في السبب الذي من أجله أنثت على قولين (4):

أحدهما: أن (الهاء) ألحقت في (المثابة)، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال:(سيارة)، لمن يكثر ذلك، (ونسابة). وهو قول بعض نحويي البصرة.

والثاني: أن (المثاب) و (المثابة) بمعنى واحد، نظيرة (المقام) و (المقامة)، و (المقام)، ذكر - على قوله - لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت (المقامة)، لأنه أريد بها البقعة، وأنكر هؤلاء أن تكون (المثابة) كـ (السيارة)، و (النسابة)، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في (السيارة) و (النسابة)، تشبيها لها بـ (الداعية). وهذا قول بعض نحويي الكوفة.

وقرأ الأعمش: {مثابات} على الجمع، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ} ، فيحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك (5).

قوله تعالى: {وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، "أي وجعلناه أمناً للناس"(6).

قال ابن عثيمين: "أي مكان أمن يأمن الناس فيه على دمائهم، وأموالهم، حتى أشجار الحرم، وحشيشه آمن من القطع"(7).

قال الحافظ ابن حجر (8): " أي: موضع آمن (9)، وهو كقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] والمراد ترك القتال فيه (10).

قال ابن عطية: " معناه: أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه، لأن الله تعالى جعل لها في النفوس حرمة وجعلها أمنا للناس والطير والوحوش"(11).

(1) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 351، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 110، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 380، الدر المصون للسمين: 1/ 364، روح المعاني للألوسي: 1/ 378.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 186.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 26 - 29.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 24 - 25.

(5)

تفسير القرطبي: 2/ 110، وتفسير البيضاوي: 1/ 105.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 44.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 44.

(8)

الفتح: 3/ 514.

(9)

انظر: الكشاف للزمخشري: 1/ 309، مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 51، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 81.

(10)

أي: ترك الجاهليين القتال فيه، وذلك أن الناس كانوا يغيرون ويقتتلون حول الحرم والناس فيه آمنون، حتى إن الرجل يلقى به قاتل أبيه فلا يهيجه ولا يعرض له حتى يخرجِ منه؛ لأن الله جعل له في النفوس حرمة قال-عز وجل-ممتناً عليهم:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] وقد استدل بهذه الآية قوم على أن الحدود لا تقام في الحرم، وهذا محل نظر فإن الانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وحراسة البلاد وتأمين السبل من العابثين غاية الأمن، وإنما الآية في مقام الامتنان على أهل الجاهلية، أما في الإسلام فقد أغنى الله عباده بما شرعه لهم من أحكام. انظر: جامع البيان للطبري: 3/ 29 - 30، النكت والعيون للماوردي: 1/ 186، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 111، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 352، التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/ 709، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 38.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 207.

ص: 210

قال الطبري: "وإنما سماه الله (أمنا)، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] "(1).

وقد روي عن ابن زيد في قوله: " {وأمنا} قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له"(2).

وعن الربيع: " قوله: {وأمنا}، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن"(3).

وعن السدي: أما {أمنا} ، فمن دخله كان آمنا" (4).

وقال مجاهد: "تحريمه، لا يخاف فيه من دخله"(5). وروي عن ابن عباس نحو ذلك (6).

قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، "أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"(7).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125]، على أقوال (8):

أحدها: أن {مقام إبراهيم} ، هو الحج كله. وهو قول ابن عباس (9)، ومجاهد (10)، وعطاء (11)، والشعبي (12).

الثاني: أنه عرفة والمزدلفة والجمار. وهو قول عطاء بن أبي رياح (13)، وروي عن ابن عباس (14)، مجاهد (15)، والشعبي (16)، نحو ذلك.

الثالث: أنه الحرم كله (17). وهو قول مجاهد (18)، والنخعي (19)، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح (20) عن ابن عباس (21).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 29.

(2)

أخرجه الطبري (1979): ص 2/ 29.

(3)

أخرجه الطبري (1982): ص 2/ 29.

(4)

أخرجه الطبري (1980): ص 2/ 29.

(5)

أخرجه الطبري (1981): ص 2/ 29.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1983): ص 2/ 30.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 211.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 33 - 37، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 371 وزاد المسير لابن الجوزي: 1/ 141، النكت والعيون للماوردي: 1/ 187، وتفسير ابن كثير: 1/ 413 - 418.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1990): ص 2/ 33.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1991): ص 2/ 33.

(11)

انظر: تفسير الطبري (1992): ص 2/ 33.

(12)

انظر: العيون للماوردي: 1/ 187.

(13)

انظر: تفسير الطبري (1993): ص 2/ 33.

(14)

انظر: تفسير الطبري (1995): ص 2/ 33.

(15)

انظر: تفسير الطبري (1994): ص 2/ 33.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1996): ص 2/ 33.

(17)

الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 148 ب، البسيط للواحدي: 1/ 86 أ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 113، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 381.

(18)

انظر: تفسير الطبري (1998): ص 2/ 34.

(19)

هو: أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، ثقة فقيه، ورع عابد، كان يرسل ويدلس، توفي عام: 96 هـ. انظر: تهذيب الكمال للمزي: 2/ 233، المراسيل لابن أبي حاتم: 8، جامع التحصيل للعلائي: 168، تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 177.

(20)

هو: أبو صالح باذان، ويقال: باذام مولئ أم هانئ، تابعي صاحب تفسير، متكلم فيه: وثقه العجلي، وقال ابن معين: لا بأس به، وأبى رد حديثه يحمى القطان، وروى عنه شعبة وروايته عنه تعديل كما يقول ابن تيمية. وترك حديثه ابن مهدي والجوزجاني وأبو حاتم والنسائي، واتهمه الأزدي بالكذب، وقال الحافظ: ضعيف يدلس. انظر: الضعفاء للنسائي: 23، الضعفاء للبخاري: 23، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/ 437، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 24/ 350، تهذيب الكمال للمزي: 4/ 6، تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 416.

(21)

لم أهتدِ إلى من ذكر قول ابن عباس هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح. وقد عزاه لابن عباس القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 113، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 241، والكوكباني في تفسير المنان: 2/ 1292، وأورده السيوطي في الدر المنثور: 1/ 223 عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم، لكن الذي عند ابن أبي حاتم في التفسير: 1/ 371 رقم: 1207 عن مجاهد عن ابن عباس، وهو الذي أورده ابن كثير في التفسير: 1/ 211، والعيني في عمدة القاري: 9/ 212.

ص: 211

الرابع: إن المراد بالمقام إنما هو (الحَجَرُ) الذي كان إبراهيم عليه السلام، يقوم عليه لبناء الكعبة، وهذا قول ابن عباس (1)، وسعيد بن جبير (2).

ثم هؤلاء ذكروا وجهين (3):

أحدهما: هو الحجر الذي قام عليه حين رفع بناء البيت (4)، وهو قول ابن عباس في رواية سعيد ابن جبير عنه (5)، وروي عن جابر وقتادة وسعيد بن جبير. نحو ذلك (6).

إذ لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل، عليه السلام، به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، كلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا، حتى تم جدارات الكعبة، بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية (7):

ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيًا غير ناعل

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا (8).

وثانيهما: وقيل: بل هو الذي وضعته زوج إسماعيل لإِبراهيم حيث غسلت رأسه وهو راكب. وهو قول السدي (9)، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس (10).

وقال ابن جبير ناقداً هذا القول: "ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه"(11).

(1) انظر: تفسير الطبري (1999): ص 2/ 35.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (1199): ص: 1/ 226.

(3)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 45 - 46.

(4)

هو قول ابن عباس في رواية سعيد ابن جبير عنه في البخاري-فتح-: 6/ 456 - 458 رقم: 3364، وقول جابر وقتادة وسعيد بن جبير. انظر: زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 142، مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 53، تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 373، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 381، جامع البيان للطبري: 3/ 34 - 35.

(5)

انظر: البخاري-فتح-: 6/ 456 - 458 رقم: 3364.

(6)

انظر: زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 142، مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 53، تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 226 - 227، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 381، وتفسير للطبري: 3/ 34 - 35.

(7)

البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/ 273). وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 417.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 417 - 418).

قال الشيخ ابن عثيمين: " اختلف المؤرخون: هل كان الحجر الذي كان يرفع عليه إبراهيم (ص) بناءَ الكعبة لاصقاً بالكعبة، أو كان منفصلاً عنها في مكانه الآن؛ فأكثر المؤرخين على أنه كان ملصقاً بالكعبة، وأن الذي أخره إلى هذا الموضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وبناءً على ذلك يكون للخليفة حق النظر في إزاحته عن مكانه إذا رأى في ذلك المصلحة؛ أما إذا قلنا: إن هذا مكانه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه لا يجوز أن يغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره؛ وإذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم فليس لنا أن نؤخره عنه؛ وقد كتب أحد طلبة العلم رسالة في هذا الموضوع، وقرَّظها الشيخ عبد العزيز بن باز، ورأى أنه يجوز إزاحته عن مكانه من أجل المصلحة والتوسعة بناءً على المشهور عند المؤرخين أنه كان لاصقاً بالكعبة، ثم أُخِّر؛ وهذا لا شك أنه لو أُخِّر عن مكانه فيه دفع مفسدة وهي مفسدة هؤلاء الذين يتجمعون عنده في المواسم؛ وفيه نوع مفسدة وهي أنه يبعد عن الطائفين في غير أيام المواسم؛ فهذه المصالح متعارضة هنا: هل الأولى بقاؤه في مكانه؟ أو الأولى تأخيره عن مكانه؟ فإذا كانت المصالح متكافئة فالأولى أن يبقى ما كان على ما كان، وحذراً من التشويش واختلاف الآراء في هذه المسألة؛ ومسألة تضييق المصلين على الطائفين هذا يمكن زواله بالتوعية إذا أفادت؛ أو بالمنع بالقهر إذا لم تفد؛ وفي ظني أنها قلّت في السنوات الأخيرة بعض الشيء؛ لأن الناس صار عندهم وعي". (انظر: تفسيره: 2/ 22).

(9)

انظر: تفسير الطبري (2002): ص 2/ 35 - 36، وتفسير القرطبي: 2/ 113، وقال ابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 142: ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس.

(10)

تفسير ابن كثير: 1/ 414.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1199): ص 1/ 226.

ص: 212

خامسا: وقال آخرون: بل {مقام إبراهيم} ، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. قاله قتادة (1)، والربيع (2)، والسدي (3).

والراجح: أن المقام هو (الحجر)(4) لما يعضده هذا القول من الأخبار، إذ ثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ولم يثبت قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ وعليه أكثر أهل العلم. وقد ثبت دليله عند مسلم (5)(6) من حديث جابر (7)، وعند البخاري أيضاً (8).

واختلف في معنى قوله تعالى: {مُصَلًّى} [البقرة: 125]، على قولين (9):

أحدهما: مَدْعَى يَدْعِي فيه، وهو قول مجاهد (10).

وهؤلاء وَجَّهوا (المصَلَّى) إلى أنه (مُفَعَّل)، من قول القائل:(صليت) بمعنى دعوت، وقائلوا هذا القول، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.

ومعنى الآية على هذا القول: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده - من أوليائي وأهل طاعتي - إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به.

والثاني: أنه مصلى يصلي عنده، وهو قول قتادة (11)، والسدي (12)، والحسن البصري (13).

والقول الثاني هو الراجح، لما يسنده من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (14). والله تعالى أعلم.

قال الشيخ السعدي: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، يحتمل أن يكون المراد بذلك، المقام المعروف الذي قد جعل الآن، مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا، ركعتا الطواف، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم، وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر

(1) انظر: تفسير الطبري (2000): ص 2/ 35.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2001): ص 2/ 35.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2002): ص 2/ 35.

(4)

وقد اختار ذلك أيضاً وصوبه: الطبري في جامع البيان: 3/ 38، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 112، والماوردي في النكت والعيون: 1/ 187، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 141، وابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 40، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 205، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم: 1/ 213، وقد حكى اتفاق المحققين عليه الرازي في مفاتيح الغيب: 4/ 53، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 381.

(5)

هو: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، إمام حافظ، ثقة حجة، عالم بالفقه، صاحب الصحيح، توفي عام: 261 هـ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 5/ 194، سير أعلام النبلاء: 12/ 557، تذكرة الحفاظ: 2/ 588، وكلاهما للذهبي، تقريب التهذيب لابن حجر:938.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه: 1/ 886 - 887 رقم: 1218 وفيه: (حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبرا هيم-عليه السلام-فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت).

(7)

هو: أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمي-بفتحتين-صحابي ابن صحابي، أحد المكثرين من الرواية، شهد العقبة وتسعة عشر غزوة، ولم يشهد بدراً واحداً، منعه أبوه، توفي عام: 78 هـ، وقيل غير ذلك. انظر: أسد الغابة لابن الأثير: 1/ 307، الاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 219، تهذيب الكمال للمزي: 4/ 443، الإصابة لابن حجر: 1/ 434.

(8)

انظر: البخاري في جامعه-فتح-: 1/ 601 رقم: 402 من حديث أنس عن عمر قال: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت (وَاتَّخذُوا من مَّقَام إبرَاهيمَ مُصَلَّى)

الحديث).

(9)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 37 - 38

(10)

انظر: تفسير الطبري (2004): ص 2/ 37.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2005): ص 2/ 37.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2006): ص 2/ 37.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 54، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 381. ولفظه: " أي: قبلة". وتعبير الحسن أولى من تعبير قتادة والسدي، لأن الصلاة أمامه أو بحذائه يطلق عليها صلاة عنده وليس هذا مراداً-رحمة الله على الجميع-.

(14)

أي الاستدلال على مشروعية الصلاة ركعتين خلف المقام، انظر البخاري-فتح-: 1/ 595.

ص: 213

كلها: من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج، فيكون معنى قوله:{مُصَلًّى} أي: معبدا، أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى، لدخول المعنى الأول فيه، واحتمال اللفظ له" (1).

واختلفت القرأة في قراءة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} على وجهين (2):

أحدهما: {وَاتَّخذُوا} ، بكسر (الخاء)، على وجه الأمر باتخاذه مصلى، قرأ بها ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي.

وفي توجيه قراءة الجمهور أربعة أقوال:

أحدها: أنه معطوف على ما تضمنه قوله: {مَثَابَةً} كأنه قال: ثوبوا واتخذوا (3).

الثاني: أنه معمول لمحذوف أي: وقلنا اتخذوا (4).

الثالث: أن يكون الواو للاستئناف (5).

الرابع: أن قوله {وَاتَّخذُوا} معطوفة على {اذكُرُوا} [لبقرة: 122]، إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا، ولم يرتضِ هذا الوجه الطبري (6)، واستبعده أبو حيان (7).

والثاني: {وَاتَّخذُوا} بفتح (الخاء) على وجه الخبر. وهي قراءة نافع وابن عامر. ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: (واتخذوا) إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر، وذكروا فيه ثلاثة أوجه:

الأول: أنه معطوف على تقدير (إذ)، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. قاله بعض نحويي البصرة (8).

والثاني: أنه معطوف على قوله: (جعلنا)، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى. وهو قول بعض نحويي الكوفة (9).

فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان.

والثالث: وقيل: على محذوف تقديره: فثابوا، أي: رجعوا واتخذوا (10)

والراجح في القراءة: (واتخذوا) بكسر (الخاء)، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله:" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "(11).

قال الحافظ ابن حجر: "والجمهور (12) على كسر الخاء من قوله: (وَاتَّخِذُوا) بصيغة الأمر"(13).

(1) تفسير السعدي: 1/ 65.

(2)

انظر: السبعة في القراءات: 170، وتفسير الطبري: 2/ 30 - 31.وتفسير القرطبي: 2/ 111.

(3)

انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 381، والدر المصون للسمين: 1/ 264، واستبعده أبو حيان في البحر.

(4)

هو قول الزمخشري في الكشاف: 1/ 310، وأبي حيان في البحر المحيط: 1/ 381، وانظر: الدر المصون للسمين: 1/ 364.

(5)

هو قول أبي البقاء العكبري في إملاء ما من به الرحمن: 1/ 62. وهناك قول رابع: وهو أن (وَاتَّخذُوا) معطوفة على {اذكُرُوا} [لبقرة: 122]، إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا، ولم يرتضِ هذا الوجه ابن جرير في جامع البيان: 3/ 21 - 22، واستبعده أبو حيان في البحر المحيط: 1/ 381، وانظر الدر المصون للسمين: 1/ 364، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 111.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 21 - 22.

(7)

انظر: البحر المحيط: 1/ 381.

(8)

هو قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: 1/ 207، والمهدوي في شرح الهداية: 1/ 182، ومكي في الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/ 263.

(9)

هو قول الفراء في معاني القرآن: 1/ 77، والنحاس في إعراب القرآن: 1/ 259، والزمخشري في الكشاف: 1/ 310، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 111.

(10)

هو قول أبي البقاء العكبري في إملاء ما من به الرحمن: 1/ 62.

(11)

رواه أحمد في المسند: 157، 160، 250، عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن كثير 1: 309 - 310، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي:" حسن صحيح ".

(12)

أي: جمهور القراء، انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 2/ 214، السبعة لابن مجاهد: 170، الغاية في القراءات العشر لابن مهران: 106، الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش: 2/ 602، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 263 - 264، الدر المصون للسمين: 1/ 364، شرح الهداية للمهدوي: 1/ 181.

(13)

الفتح: 8/ 18.

ص: 214

قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْماعِيلَ} [البقرة: 125]، "أي: ووصينا إبراهيم وإسماعيل" (1).

قال البيضاوي: أي: " أمرناهما"(2).

قال المراغي: " أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنوى كالشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسى كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء العبادات كالطواف به والسعى بين الصفا والمروة والعكوف فيه والركوع والسجود"(3).

قال أهل العلم: "وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها، وسماه الله بيته لأنه جعله معبدا للعبادة الصحيحة، وأمر المصلين بأن يتوجهوا في عبادتهم إليه"(4).

وفي قوله تعالى: {وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 125]، تأويلان (5):

أحدهما: أي أَمَرْنَا. وهذا قول ابن جريج (6)، وابن زيد (7).

والثاني: أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل (8).

و{َإِسْمَاعِيل} : هو ابن إبراهيم؛ وهو أبو العرب؛ وهو الذبيح على القول الصحيح؛ يعني: هو الذي أمر الله إبراهيم أن يذبحه؛ وهو الذي قال لأبيه: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]؛ وقول من قال: (إنه إسحاق) بعيد؛ وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا منقول عن بني إسرائيل: لأن بني إسرائيل يودون أن الذبيح إسحاق؛ لأنه أبوهم دون إسماعيل؛ لأنه أبو العرب عمهم؛ ولكن من تأمل آيات «الصافات» تبين له ضعف هذا القول.

قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، "أي أمرناهما بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان"(9).

قال صاحب الكشاف: أي "طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم"(10).

قال أبو السعود: " أي أمرناهما أمراً مؤكداً"(11).

قال البيضاوي: " يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به، أو أخلصاه"(12).

قال القاسمي: " أي عن كل رجس حسيّ ومعنويّ: فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع. أو ابنياه على طهر من الشرك بي. كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

(1) تفسير المراغي: 1/ 212.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 105.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 211.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 211.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 38، والنكت والعيون: 1/ 187 - 188.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2007): ص 2/ 38.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2008): ص 2/ 38.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 187 - 188.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(10)

تفسير الكشاف: 1/ 185.

(11)

انظر: تفسير أبي السعود: 1/ 157.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 105.

ص: 215

وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم. فاللام صلة «طهرا» على هذا. وعلى ما قبله، لام العلة. أي طهراه لأجلهم" (1).

قال ابن عطية: " وأضاف الله (البيت) إلى نفسه تشريفا للبيت، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك"(2).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، على أوجه (3):

أحدها: من الأصنام. قاله ابن عباس (4)، ومجاهد (5)، وابن زيد (6)، وروي عن عبيد بن عمير (7)، وسعيد بن جبير (8)، نحو ذلك.

والثاني: من الشرك. قاله مجاهد (9)، روي عن سعيد بن جبير (10)، وأبي العالية (11)، وقتادة (12)، وعطاء (13) نحوه.

والثالث: من الأنجاس. روي عن سعيد بن جبير نحوه (14).

والرابع: وقيل: "من الفرث والدم"(15).

قال ابن عطية: "وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار"(16).

والراجح أن تطهير البيت يقصد به: تطهيره من الأرجاس الحسية والمعنوية، أي: إعداده وتخصيصه للمؤمنين بالله، فلا يقربه مشرك، ولا يطوف به، ولا يعكف فيه إلا مؤمن خالص الإيمان، و (أنْ) تفسيرية؛ لأنّ (عهدنا) فيه معنى القول دون حروفه؛ أي أنّ العهد هو قوله تعالى:(طَهِّرَا بَيْتِيَ)؛ و (طَهِّرَا) فعل أمر؛ و (بيتي) المراد به الكعبة؛ وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إضافة تشريف. والله أعلم.

قال الرازي: ويقصد بتطهير البيت: "التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار، وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى: وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله، وكل ذلك داخل تحت الكلام"(17).

وإن قيل: فلم يكن على عهد إبراهيم، قبل بناء البيت بيت يطهر، قيل: عن هذا جوابان (18):

أحدهما: معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً، وهذا قول السدي (19).

والثاني: معناه أن طهرا مكان البيت (20).

(1) محاسن التأويل: 1/ 349.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 208.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 188.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1205): ص 1/ 227.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2014): ص 2/ 40.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2010): ص 2/ 39 - 40.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2011): ص 2/ 40.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1206): ص 1/ 227، وزاد "والريب، وقول الزور والرجس".

(9)

انظر: تفسير الطبري (2013): ص 2/ 40.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1207): ص 1/ 228.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 228.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2015): ص 2/ 40.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 228.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1206): ص 1/ 227.

(15)

المحرر الوجيز: 1/ 208.

(16)

المحرر الوجيز: 1/ 208.

(17)

تفسير الرازي: 4/ 48 - 49.

(18)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 31، والنكت والعيون: 1/ 188.

(19)

انظر: تفسير الطبري (2009): ص 2/ 39.

(20)

انظر: النكت والعيون: 1/ 188.

ص: 216

قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة: 125]، أي:" ليكون معقلاً للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه"(1).

وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة: 125]، اختلف في هذه الاوصاف الثلاثة على قولين (2):

القول الأول: أن تلك الأوصاف الثلاثة على فرق ثلاثة، لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف، وعلى هذا القول يمكن تعريف الأوصاف الثلاثة كالآتي:

أ- (لِلطَّائِفِينَ): فالمراد بـ (الطَّائِفِينَ): كل من يقصد البيت حاجا أو معتمرا فيطوف به فاللام هذه للتعليل أي لأجلهم.

وقد اختلف أهل التفسير في معنى {الطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]، في هذا الموضع على وجهين (3):

الأول: أنهم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ، أي من أتاه من مكان بعيد. قاله سعيد بن جبير (4).

الثاني: أنهم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله. وهذا قول عطاء (5)، ومقاتل (6).

والقول الثاني أولى، لأن (الطائف): هو الذي يطوف بالشيء دون غيره، والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم (طائف بالبيت)، إن لم يطف به.

ب- {الْعَاكِفِينَ} : كل من يقيم هناك ويجاور. فالعاكف على الشيء "، هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني ذبيان (7):

عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم

رمى الله في تلك الأكف الكوانع

قال الطبري: "وإنما قيل للمعتكف (معتكف)، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى"(8).

قال صاحب الكشاف: (وَالْعَاكِفِينَ) أي " المجاورين الذين عكفوا عنده، أى أقاموا لا يبرحون، أو المعتكفين، ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعنى القائمين في الصلاة .. لأنّ القيام والركوع والسجود هيآت المصلى"(9).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 83.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 47.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 40 - 41. ذكر الطبري أخبارا لكل من القولين: عن سعيد بن جبير في قوله: " للطائفين " قال، من أتاه من غربة. وعن عطاء: " للطائفين " قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من " الطائفين".

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1211): ص 1/ 228.

(5)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1209): ص 1/ 228.

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 1/ 228.

(7)

ديوانه: 63 من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري. حين بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني كنانة، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: أخرجوا من فيكم من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة: ليهن بني ذبيان أن بلادهم

خلت لهم من كل مولى وتابع سوى أسد، يحمونها كل شارق

بألفي كمي، ذي سلاح، ودارع ثم مدح بني أسد، وذم بني عبس، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعد بن ذبيان، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به الطبري، ورواية الديوان " قعودا "، و " يثمدونها "، والضمير للأبيات.

وقوله: " يثمدونهم " أصله من قولهم: " ثمد الماء يثمده ثمدا "، نبث عنه التراب ليخرج. وماء مثمود: كثر عليه الناس حتى فني ونفد إلا أقله. وأخذوا منه: " رجل مثمود "، إذا ألح الناس عليه في السؤال، فأعطى حتى نفد ما عنده. يقول: يظل بنو سعد ومالك لدى أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم. يصفهم بالخسة وسقوط الهمة. ومن روى: " يثمدونها " وأعاد الضمير إلى " أبياتهم "، فهو مثله، في أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها، يهزأ بهم.

والكوانع جمع كانع: وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه من بعض، كأنه يتقبض من ذلته. يصفهم بالخسة والطمع والسؤال الذليل. وقوله:" رمى الله " يعني أصابها بما يستأصلها، ورواية الديوان:" في تلك الأنوف "، فمعناه: رمى فيها بالجدع، وهو دعاء عليهم، واشمئزاز من حقارتهم. (تفسير الطبري: 2/ 41).

(8)

تفسير الطبري: 2/ 42.

(9)

تفسير الكشاف: 1/ 185.

ص: 217

وعلى هذا اختلف فيمن عنى الله بقوله {وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125]، على أقوال (1):

أحدها: أنه عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة. قاله ابن عباس (2)، وعطاء (3).

والثاني: أنهم المعتكفون المجاورون. قاله مجاهد (4)، وعكرمة (5).

والثالث: أنهم أهل البلد الحرام. قاله قتادة (6)، وسعيد بن جبير (7)، وروي عن الربيع (8)، نحو ذلك.

الرابع: أنهم المصلون. قاله ابن عباس (9).

والراجح: أن (العاكف) في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة، لأن صفة " العكوف " ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله:{أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} - المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من " العاكف "، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا (10) ".

ج- {الرُّكَّعِ السُّجُود} : كل من يصلي هناك، واختلف المفسرون في معناه على أقوال (11):

الأول: أن (الرُّكَّعِ)، جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم (راكع)، وكذلك (السجود) هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم (ساجد).

الثاني: أن المراد بـ {الركع السجود} ، المصلين. قاله ابن عباس (12)، وعطاء (13)، وقتادة (14)، ومقاتل (15).

قلت: عبر عن الصلاة بالركوع والسجود؛ لأنهما ركنان فيها؛ فإذا أطلق جزء العبادة عليها كان ذلك دليلاً على أن هذا الجزء ركن فيها لا تصح بدونه؛ و (الرُّكَّعِ) جمع راكع؛ و (السُّجُودِ) جمع ساجد.

قال ابن عطية: " وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى"(16).

القول الثاني: وقيل: أنه إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود، وهو قول عطاء (17).

والصواب هو القول الأول، لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. والله تعالى أعلم.

وهنا بدأ بـ (الطائفين)؛ لأن عبادتهم خاصة بهذا المسجد؛ ثم بـ (العاكفين}؛ لأن عبادتهم خاصة بالمساجد؛ لكنها أعم من الطائفين؛ وثلّث بـ (الرُّكَّعِ السُّجُود)؛ لأن ذلك يصح بكل مكان بالأرض؛ لقوله، عليه

(1) تفسير الطبري: 2/ 42 - 43.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1212): ص 1/ 228.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2019): ص 2/ 42.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2020): ص 2/ 42.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2020): ص 2/ 43.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1213): ص 1/ 228.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2022): ص 2/ 42 - 43.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 228.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2023): ص 2/ 43.

(10)

تفسير الطبري: 2/ 43.

(11)

تفسير الطبري: 2/ 44.

(12)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1216): ص 1/ 229.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2024): ص 2/ 44.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2025): ص 2/ 44.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 229.

(16)

المحرر الوجيز: 1/ 208.

(17)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 47، وانظر: تفسير الطبري (2025): ص 2/ 44، ولفظه هناك:" إذا كان يصلي فهو من {الركع السجود} ".

ص: 218

الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"(1)؛ فإذاً يكون الله سبحانه وتعالى بدأ بالأخص فالأخص (2).

الفوائد

1 -

من فوائد الآية: فضيلة البيت الحرام من وجهين: أنه مثابة؛ وأمن، فقوله تعالى:{وَأَمْناً} استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله:"وأمنا" تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه (3).

2 -

ومنها: ظهور رحمة الله؛ فإنه لما جعل هذا البيت مثابة، والناس لابد أن يرجعوا إليه رحمهم بأن جعله أمناً؛ وإنما أحلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار للضرورة؛ وهي ساعة الفتح؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم:"وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»؛ ثم أورد صلى الله عليه وسلم سؤالاً قال فيه: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (4)؛ والحكم لله العلي الكبير: أذِن للرسول في تلك الساعة؛ ولكنه لم يأذن لأحد بعده كما لم يأذن لأحد قبله؛ ولهذا نُهي عن حمل السلاح في الحرم حتى يبقى كل إنسان آمناً؛ ولما طعن ابن عمر رضي الله عنهما وهو على راحلته في منى طعنه أحد الخوارج بسنان الرمح في أخمص قدمه حتى لزقت قدمه بالركاب جاءه الحجاج يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ ! فقال ابن عمر: أنت أصبتني! قال: وكيف؟ قال: "حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم" (5)؛ وبهذا تعرف عظم جرم أولئك الذين يوقعون المخاوف بين المسلمين في مواسم الحج، وأنهم والعياذ بالله من أعظم الناس جرماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا البلد آمناً في كل وقت؛ فكيف في وقت أداء مناسك الحج التي ما أُمِّن والله أعلم إلا لأجلها.

3 -

ومن فوائد الآية: أنه ينبغي أن يكون كل مكان مثابة للناس أمناً؛ ولهذا كره أهل العلم أن يحمل السلاح في المساجد؛ قالوا: لأن المساجد محل أمن؛ لكن إذا كان المراد من حمل السلاح حفظ الأمن كان مأموراً به.

4 -

ومنها: وجوب اتخاذ المصلى من مقام إبراهيم؛ لقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} ؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ فإن قلنا بأن المراد بالمقام جميع مناسك الحج فلا إشكال؛ لأن فيه ما لا يتم الحج إلا به كالوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة؛ ومنه ما يصح الحج بدونه مع وجوبه كالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات؛ ومنه ما يصح الحج بدونه وليس بواجب، كصلاة الركعتين بعد الطواف على المشهور؛ وإذا قلنا: المراد به الركعتان بعد الطواف صار فيه إشكال: فإن جمهور العلماء على أنهما سنة؛ وذهب الإمام مالك إلى أنهما واجبتان؛ والذي ينبغي للإنسان: أن لا يدعهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بهما، حيث تقدم إلى مقام إبراهيم بعد الطواف، فقرأ:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} .

5 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يثيب العامل بأكثر من عمله؛ فإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم الكلمات جعله الله تعالى إماماً للناس، وأمر الناس أن يتخذوا من مقامه مصلًّى؛ وهذا بعض من إمامته.

6 -

ومنها: وجوب تطهير البيت من الأرجاس الحسية، والمعنوية؛ لقوله تعالى:{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا} ؛ والعهد هو الوصية بالأمر الهام؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]؛ ولهذا لا يجوز للمشركين وغيرهم من أهل الكفر أن يدخلوا أميال الحرم؛ لأنهم إذا دخلوها قربوا من المسجد الحرام والله تعالى يقول: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].

7 -

ومن فوائد الآية: اشتراط طهارة مكان الطواف؛ لقوله تعالى: {للطائفين} .

8 -

ومنها: اشتراط طهارة لباس الطائفين من باب أولى، وأنه لا يجوز أن يطوف بثوب نجس؛ لأن ملابسة الإنسان للثياب ألصق من ملابسته للمكان.

9 -

ومنها: أن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة؛ لقوله تعالى: {وطهرا بيتي للطائفين} ؛ ولهذا قال العلماء: يشترط لصحة الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وأنه لو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ فلو أراد الإنسان مثلاً أن يطوف حول المسجد الحرام من خارج فإنه لا يجزئ؛ لأنه يكون حينئذ طائفاً بالمسجد لا بالكعبة؛ أما الذين يطوفون في نفس المسجد سواء فوق أو تحت، فهؤلاء يجزئهم الطواف؛ وعلى هذا يجب الحذر من الطواف في المسعى، أو فوقه؛ لأن المسعى ليس من المسجد؛ إذ لو كان من المسجد لكانت المرأة إذا حاضت بعد الطواف لا تسعى؛ لأنه يلزم من سعيها أن تمكث في المسجد.

10 -

ومن فوائد الآية: فضيلة هذه العبادات الأربع: الطواف، والاعتكاف، والركوع، والسجود؛ وأن الركوع والسجود أفضل هيئة في الصلاة؛ فالركوع أفضل هيئة من القيام؛ والسجود أفضل منه؛ والقيام أفضل من الركوع، والسجود بما يُقرأ فيه؛ ولهذا نُهي المصلي أن يقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً؛ فإنَّ ذِكْر القيام كلام الله؛ وهو أفضل من كل شيء؛ وذكر الركوع والسجود هو التسبيح؛ وهو أقل حرمة من القرآن؛ ولذلك حل الذكر للجنب دون قراءة القرآن، ويجوز مس الورقات التي فيها الذكر بغير وضوء دون مس المصحف؛ فالله سبحانه وتعالى حكيم: جعل لكل ركن من أركان الصلاة ميزة يختص بها؛ فالقيام اختصه بفضل ذكره؛ والركوع والسجود بفضل هيئتهما.

11 -

ومن الفوائد: جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا (6) إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، وهو خلاف قول مالك (7) في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت، فإن قيل: لا نسلم دلالة الآية على ذلك، لأنه تعالى لم يقل: والركع السجود في البيت، وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت، وإنما دلت على فعله خارج البيت، كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها إليه، قلنا: ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت أو خارجا عنه، وإنما

(1) سبق تخريجه 1/ 344.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 19.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 111.

(4)

أخرجه البخاري ص 12، كتاب العلم، باب 37: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، حديث رقم 104، وأخرجه مسلم ص 903 - 904، كتاب الحج، باب 82: تحريم مكة وتحريم صيدها

، حديث رقم 3304 [446]1354.

(5)

أخرجه البخاري ص 76، كتاب العيدين، باب 9: ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، حديث رقم 966.

(6)

لأن ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت سواء أكان ذلك في البيت أم خارجاً عنه. وهذا القول قول الحنفية والشافعية. انظر: فتح القدير لابن الهمام: 2/ 110، بدائع الصنائع للكاساني: 1/ 115، المبسوط للسرخسي: 2/ 79، الأم للشافعي: 1/ 197، المهذب للشيرازي: 1/ 67، روضة الطالبين للنووي: 1/ 214، مغني المحتاج للشربيني: 1/ 144 - 145.

(7)

وتبعه المالكية، وهو مذهب الحنابلة قالوا: لأن الله-عز وجل-يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، والمصلي في الكعبة لا يكون مستقبلاً للبيت كله؛ لأن بعض البيت يكون خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا تصح. انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب: 1/ 510 - 511، التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق-بحاشية مواهب الجليل-: 1/ 510، بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي: 1/ 226، المغني لابن قدامة: 2/ 475 - 476، كشاف القناع للبهوتي: 1/ 354، الإنصاف للمرداوي: 1/ 496. والأظهر جواز صلاة النفل والفرض داخل الكعبة لظاهر الآية، ولثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين داخل الكعبة في فتح مكة، كما في حديث ابن عمر عن بلال-رضي الله عنهم-الذي أورده البخاري في صحيحه-فتح-: 3/ 541 رقم: 1598، ولأن الأصل تساوي الفرض والنفل في جميع الأحكام ولا فرق بينهما إلا بدليل. ولأن معنى (شَطْرَ الْمَسْجِدْ) في الآية جهته وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة أو جزء منها كما فسرت ذلك السنة بصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وانظر في المسألة: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين: 2/ 249 - 252، بداية المجتهد لابن رشد: 1/ 210 - 211، الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 1/ 602 - 604، أحكام القرآن لإلكيا الهراس: 1/ 40، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 115 - 116، مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 57 - 58.

ص: 219

أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن يطوف بالبيت، ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى:{وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] وأيضا المراد لو كان التوجه إليه للصلاة، لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه، واحتج مالك بقوله تعالى:{فول وجهك شطر المسجد الحرام} ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجها إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه. والجواب: أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجها إلى كل المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجها إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلا تحت الآية (1).

القرآن

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة: 126]

التفسير:

واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم داعيًا: ربِّ اجعل "مكة" بلدًا آمنًا من الخوف، وارزق أهله من أنواع الثمرات، وخُصَّ بهذا الرزق مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال الله: ومن كفر منهم فأرزقه في الدنيا وأُمتعه متاعًا قليلا ثم أُلجئُه مرغمًا إلى عذاب النار. وبئس المرجع والمقام هذا المصير.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، أي"واذكروا إِذ قال إبراهيم" (2): ربي "اجعل مكة بلدا آمنا"(3).

قال الحسن: " هذا دعاء، دعا به إبراهيم فاستجاب له دعاءه فجعله بلدا آمنا"(4).

قال الزمخشري: " أى: اجعل هذا البلد أو هذا المكان ذا أمن"(5)

قال أبو السعود: " أي اجعل هذا الواديَ من البلادِ الآمنة وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ"(6).

قال الآلوسي: " أي اجعل هذا المكان القفر بلدا آمنا، وكان النداء بلفظ (الرب) مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته"(7).

قال الطبري: أي: "واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وائتفاك، وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد"(8).

قال ابن عطية: " دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش، {واجْعَلْ}: لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، {وآمِناً}: معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلاث التي تحل بالبلاد، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره، ونبتت فيها أنواع الثمرات"(9).

قال المراغي: " وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته

(1) انظر: تفسير الرازي: 4/ 49.

(2)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 207.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 213، و 13/ 160. [بتصرف بسيط].

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1218): ص 1/ 229.

(5)

الكشاف: 1/ 186.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 158.

(7)

روح المعاني: 1/ 379. [بتصرف بسيط].

(8)

تفسير الطبري: 2/ 44 - 45.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 209.

ص: 220

التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول" (1).

قال الواحدي: " والعرب تقول: آمَنُ من حمام مكة، يضربون المثلَ بها في الأمن"(2).

قال أبو حيان: قوله: " {هَاذَا الْبَلَدَ}، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً. ووصف بلد بآمن، إما على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم: نهارك صائم وليلك قائم"(3).

قال الليث: "كل موضع من الأرض عامرٍ أو غامر مسكونٍ أو خالٍ: بلدٌ، والطائفة منه: بلدة"(4)، لأنها لا تثار ولا تهاج (5).

وقال أهل اللغة: أصلُ البلد: هو الأثر. من ذلك قولهم لكِرْكِرَةِ (6)، البعير: بلدة. لأنه إذا برك أثرت، قال ذو الرمة (7):

أُنِيخَتْ فألقَتْ بلدةً فوقَ بلدةٍ

قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغَامُها

ويقال للأثر: بلد، وجمعه أبلادٌ، قال القُطامي (8):

ليست تجرح فُرّارًا ظهورهم

وبالنُحورِ كُلومٌ ذاتُ أبلادٍ

وقال ابنُ الرِّقاع (9):

عرَف الديارَ توهُّمًا فاعتادَها

مِنْ بعدِ ما شَمِلَ البِلَى أبلادَها

وإنما سُمِّيت البلادُ لأنها مواضعُ مواطن الناس وتأثيرهم. والبلد: المقبرة، ويقال: هو نفس القبر، قال الشاعر (10):

كلُّ امرئ تاركٌ أحبَّتَه

ومُسْلِمٌ وجهَه إلى البلَد

ومن هذا يقال: رجلٌ بليدٌ، إذا أثَّرَ فيه الجهلُ، ثم يقالُ منه: تبلَّدَ الرجلُ، وهو نقيضُ التجلُّد، قال (11):

ألا لا تَلُمْهُ اليومَ أن يتبلَّدا

فقد غُلِبَ المحزونُ أن يتجلَّدا

وبلد أيضا: إذا ضَعُفَ في العملِ وغيره، حتى قيل في الجرِي، قال الشاعر (12):

جَرَى طَلَقًا حتى إذا قيلَ سابقٌ

تداركَه أعراقُ سوءٍ فَبَلَّدَا (13)

نستنتج مما بق بأن (البلد): "اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً، كما في قوله تعالى:{وهذا البلد الأمين} [التين: 3]؛ وسماها الله

(1) تفسير المراغي: 1/ 213.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 313.

(3)

البحر المحيط: 1/ 332.

(4)

تهذيب اللغة: 1/ 383، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 308.

(5)

انظر: مجمع الأمثال" للميداني 1/ 87، "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 199، "المستقصى" للزمخشري 1/ 7.

(6)

الكِركِرة: بالكسر: رحى زور البعير، أو صدر كل ذي خف. "القاموس"469.

(7)

انظر: ديوانه: 1004، وتهذيب اللغة: 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 341، "المعجم المفصل" 7/ 135.

(8)

انظر: ديوانه: 12، واللسان: مادة: بلد. ويروى: وفي النجوم، كما في "عمدة الحفاظ"1/ 258، وكذا في "المشوف المعلم" 1/ 117، و"البصائر" 2/ 273، وينظر:"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ص 143.

(9)

البيت في "ديوانه" ص 33، "لسان العرب" 1/ 341 مادة: بلد.

(10)

البيت بلا نسبة في "المخصص" 6/ 133، وانظر:"المعجم المفصل" 2/ 429، ونسبه الواحدي لخفاف بن عمير السلمي، انظر: التفسير البسيط: 3/ 309.

(11)

البيت للأحوص الأنصاري في "ديوانه" ص 98، وانظر:"المعجم المفصل" 2/ 201.

(12)

البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 342 و 5/ 2904، "المعجم المفصل" 2/ 201.

(13)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 309 - 310.

ص: 222

تعالى قرية، كما في قوله تعالى:{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [محمد: 13] " (1).

وقد اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه (2):

أحدها: أنه سأله الأمن من القحط، لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع.

وضعّفه أبو حيان فقال: " فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً"(3).

الثاني: أنه سأله الأمن من الخسف والمسخ.

الثالث: وقال بعض المفسرين: أي آمناً مَن فيه؛ لأن البلد نفسه لا يوصف بالأمن، والخوف، فـ (البلد)(4) أرض، وبناء؛ وإنما الذي يكون آمناً: أهلُه؛ أما هو فيكون أمْناً.

قلت: وهذا ضعيف، والذي ينبغي هو أن يبقى على ظاهره، وأن يكون البلد نفسه آمناً؛ وإذا أمِنَ البلد أمِن مَن فيه وهو أبلغ؛ لأنه مثلاً لو جاء أحد، وهدم البناء ما كان البناء آمناً، وصار البناء عرضة لأن يتسلط عليه من يُتلفه؛ فكون البلد آمناً أبلغ من أن نفسره بـ (آمناً أهله)؛ لأنه يشمل البلد، ومن فيه؛ ولهذا قال تعالى:{وارزق أهله} ؛ لأن البلد لا يرزق (5).

الرابع: أنه سأله الأمن من القتل، وهو قول أبو بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا، ثم سأله الرزق ثانيا، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية:{رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} وقال في آية أخرى: {رب اجعل هاذا البلد امنا} ثم قال في آخر القصة: {ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع} إلى قوله: {وارزقهم من الثمرات} [إبراهيم: 37].

وقد أخرج الطبري عن قتادة قال: "ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش، وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح - رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله"(6).

الخامس: وقيل: أنه سأله الأمن من الجبابرة.

وضعّفه أبو حيان فقال: " فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم"(7).

واختلف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أم كانت قبله كذلك، على ثلاثة أفوال (8):

أحدها: أنه لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض.

أخرج الطبري عن شريح الخزاعي أنه قال: " لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: " يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 51.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 48.

(3)

البحر المحيط: 1/ 332.

(4)

قال الرازي: قوله تعالى (بَلَدًا آمِنًا) يحتمل وجهين:

أحدهما: مأمون فيه كقوله تعالى: {فى عيشة راضية} (القارعة: 7) أي مرضية.

والثاني: أن يكون المراد أهل البلد كقوله: {واسئل القرية} (يوسف: 82) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد. (انظر: تفسيره: 4/ 48).

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 23.

(6)

تفسير الطبري (2026): ص 2/ 45.

(7)

البحر المحيط: 1/ 332.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 45 - 51، وتفسير القرطبي: 2/ 117 - 118.وتفسير الرازي: 4/ 51.

ص: 223

بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك " (1).

الثاني: أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها"(2).

قال ابن عطية: " ولا تعارض بين الحديثين (3)، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه"(4).

الثالث: وقيل: أنها كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة، فالأول: يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم، والثاني: بالأمر على ألسنة الرسل (5).

والراجح: أن الله جعل مكة حرما آمنا حين خلقها وأنشأها، "كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، " أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض " (6)، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله، للناس إماما يقتدى به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه "(7).

قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [البقرة: 126]، " أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات"(8).

قال ابن عباس: " يعني: من وحد الله وآمن باليوم الآخر"(9).

وعن ابن عباس أيضا: " كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين، فأنزل الله ومن كفر- أيضا- أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقا لا أرزقهم! "(10).

وقال عكرمة: " قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال الله: نعم"(11).

(1) تفسير الطبري (2027): ص 2/ 44، وهذا مختصر من حديث صحيح مطول: فرواه أحمد في المسند: 16448 (ج 4 ص 32 حلبي)، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواية ابن إسحاق ثابتة أيضًا - مطولة - في سيرة ابن هشام 4: 57 - 58 (حلبي)، و 823 - 824 أوربة، 2: 277 - 278 (من الروض الأنف). ورواه أيضًا، بنحوه، أحمد: 16444 (ج 4 ص 31)، والبخاري 1: 176 - 177، و 4: 35 - 39 (فتح)، ومسلم 1: 383 - 384 كلهم من طريق الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح. وقوله في الحديث:" أو يعضد بها شجرا "، أي يقطعه، يقال " عضد الشجر "، من باب " ضرب " قطعه. وقوله:" غضبا على أهلها ": هذا هو الصحيح الثابت في رواية ابن إسحاق، في المسند، وسيرة ابن هشام، وفي المطبوعة:" عصى على أهلها ". وهو تصحيف. (تفسير الطبري: 2/ 45 - 46).

(2)

أخرجه الطبري (2029): ص 2/ 48، وإسناده صحيح. ونقله ابن كثير 1:316.

(3)

الحديثان اللذان ذكرا في الوجهين الأول والثاني.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 209.

(5)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 51.

(6)

تفسير الطبري (2027): ص 2/ 44، ورواه أحمد في المسند: 16448 (ج 4 ص 32 حلبي).

(7)

تفسير الطبري: 2/ 50 - 51.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1223): ص 1/ 230.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1219): ص 1/ 229.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1220): ص 1/ 230.

ص: 224

قال السعدي: "أي" اعط أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، تأدبا مع الله، إذ كان دعاؤه الأول، فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم" (1).

قال أبو السعود: " بأن تجعلَ بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحد"(2).

قال أبو حيان: " دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشاً لما طغت، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف" (3) "(4).

قال الزهري: " إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها في الطائف لدعوة إبراهيم خليل الله"(5). وروي عن محمد بن مسلم الطائفي (6) مثل ذلك.

و(الإيمان) في اللغة: التصديق؛ وفي الشرع: التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته؛ و (اليوم الآخر) هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه لا يوم بعده؛ وسبق بيان ذلك (7).

وقد "ذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه"(8).

ويحتمل {مِنَ} : في قوله تعالى: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، وجهين (9):

أحدهما: أنها للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات.

والثاني: أنها لبيان الجنس.

قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126]، أي قال الله تعالى: وأرزق" كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا، وهو مدة وجودهم في الدنيا"(10).

قال الزمخشري: " أى ومن كفر، فأنا أمتعه"(11).

قال الثعلبي: أي: " فسأرزقه إلى منتهى أجله، لأنه تعالى وعد الرزق للخلق كافة كافرهم ومؤمنهم وقيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل"(12).

قال عكرمة: " قال الله: ومن كفر أيضا فإني أرزقه من الدنيا، حين استرزق إبراهيم لمن آمن"(13).

(1) انظر: تفسير السعدي: 1/ 66.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 158.

(3)

مسند الإمام أحمد (10375): ص 2/ 521. ولفظه: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ".

(4)

البحر المحيط: 1/ 332.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (1221): ص 1/ 230.

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1222): ص 1/ 230.

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 52.

(8)

البحر المحيط: 1/ 332.

(9)

انظر: البحر المحيط: 1/ 332.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 213.

(11)

الكشاف: 1/ 186.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 273.

(13)

أخرجه ابن أبي حاتم (1225): ص 1/ 230.

ص: 225

قال الصابوني: " أي قال الله وأرزق من كفر أيضاً كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقاً ثم لا أرزقهم؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعاً قليلاً وذلك مدة حياته فيها"(1).

قال أبو حيان: وهذا: " إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة، ولا تعريف الفرق بينهما، كما زعم"(2).

و(المتاع): " هو كل ما انتفع به، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء، أو بتيسير المنافع، ومنه: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، أي منفعتها التي لا تدوم، أو بالتزويد، ومنه: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]؛ أي: زوّدوهنّ نفقة. و (المتعة): ما يتبلغ به من الزاد، والجمع: (متع)، ومنه: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] "(3).

واختلف أهل التفسير في قائل هذا القول {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126]، على وجهين (4):

أحدهما: أن هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم. قاله أبي بن كعب (5) وابن إسحاق (6) وعكرمة (7).

والثاني: أنه قول إبراهيم-عليه السلام على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا. وهذا قول ابن عباس (8)، ومجاهد (9).

والصواب: ما قاله أبي بن كعب، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك. وهو اختيار الإمام الطبري (10) كذلك (11).

واختلف في نوع المتاع في قوله تعالى: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126]، على أقوال (12):

أحدها: أنه بالرزق. قاله مجاهد (13).

الثاني: أن المراد: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.

الثالث: وقيل: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها.

والصواب هو القول الأول، فيكون تفسير قوله تعالى} فأمتعه قليلا} أي: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته.

وأما القولان الأخيران وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه. والله تعالى أعلم.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126]، على وجهين (14):

أحدهما: {فأمتعه} خفيفة من (أمتعت)، قرأ بها ابن عامر وحده.

ووجه قراءته، أنّ (أمتع) لغة، ومنه قول الراعي النميري (15):

خليلين من شعبين شتّى تجاورا

قديماً وكانا بالتفرّق أمتعا

(1) صفوة التفاسير: 1/ 83.

(2)

البحر المحيط: 1/ 334.

(3)

البحر المحيط: 1/ 334.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 117 - 118. وتفسير الطبري: 2/ 53 - 54.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2033): ص 2/ 53، وابن أبي حاتم (1224): ص 1/ 230.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2034): ص 2/ 53.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1225): ص 1/ 230.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2035): ص 2/ 53، وابن أبي حاتم (1224): ص 1/ 230.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2036): ص 2/ 53.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 54.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 54.

(12)

تفسير الطبري: 2/ 55. وتفسير الرازي: 4/ 52.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1226): ص 1/ 231، وتفسير الطبري (2036): ص 2/ 54.

(14)

السبعة في القراءات: 170، والعجاب: 2/ 222 - 223.

(15)

ديوانه 166، واللسان والصحاح والتاج مادة (متع).

ص: 226

والثاني: {فأمتعه} مشددة التاء من (متعت)، وهي قراءة الباقون.

قال أبو علي: "التشديد أولى لأن التنزيل عليه، قال تعالى: {فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ} [هود: 65]، فتمتّع مطاوع متّع، وعامّة ما في التنزيل على التثقيل، قال جلّ اسمه: {يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً} [هود: 3]، {كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [القصص: 61]. وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: 98]، فكما أن هذه الألفاظ على متّع دون أمتع، فكذلك الأولى بالمختلف فيه أن يكون على متّع دون أمتع"(1).

قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126]، أي:"ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها"(2).

قال ابن أبي نجيح: " ثم مصير الكافر إلى النار"(3).

قال البيضاوي: " أي أَلُزُّهُ إليه لزَّ المضطرِ، لكفرِه وتضييعه ما متعه به من النعم"(4).

قال الواحدي: " أي: ألجئه في الآخرة إلى عذاب النار"(5).

قال الطبري: "ومعنى (الاضطرار)، الإكراه، يقال: اضطررت فلانا إلى هذا الأمر، إذا ألجأته إليه وحملته عليه، فذلك معنى قوله: (ثم أضطره إلى عذاب النار)، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه"(6).

قال الرازي: " الإضطرار: هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختيارا، كقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (البقرة: 173) (الأنعام: 145) (النحل: 115) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة، وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والإستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه، لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار، ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير، لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده"(7).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126]، على وجوه (8):

احدها: {ثم نضطره} . بالنون، وهي قراءة أبىّ بن كعب.

الثاني: {فاضطره} ، بكسر الهمزة. قرأ بها يحيى بن وثاب.

الثالث: {ثم اضطره} ، على لفظ الأمر. والمراد الدعاء من إبراهيم دعا ربه بذلك. وهي قراءة ابن عباس.

الرابع: {ثم أضطره} ، بإدغام الضاد في الطاء خبراً. قرأ بها ابن محيصن.

الخامس: {ثم اضطره} ، بضم الطاء، خبراً. قرأ بها يزيد بن أبي حبيب.

قوله تعالى: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]، أي:"وساء المصيرُ عذابُ النار"(9).

قال الصابوني: " أي وبئس المال والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم"(10).

قال أبو السعود: " أي بئس المصيرُ النارُ أو عذابُها"(11).

قال الطبري: "و (المصير)، فإنه (مَفعِل) من قول القائل:(صرت مصيرا صالحا)، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار (12).

الفوائد:

(1) العجاب: 2/ 221.

(2)

تفسير الطبري: 2/ 55 - 56.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1227): ص 1/ 231.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 105، ونقله أبو السعود بتمامه: 1/ 159.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 315.

(6)

تفسير الطبري: 2/ 55 - 56.

(7)

تفسير الرازي: 4/ 52.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 186، والبحر المحيط: 1/ 333.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 56.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 159.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 56.

ص: 227

1 -

من فوائد الآية: التنويه بفضل إبراهيم؛ لأن قوله تعالى: {وإذ قال} سبق أنها على تقدير: واذكر إذ قال؛ ولولا أن هذا أمر يستحق التنويه، والإعلام ما أمر به.

2 -

ومنها: أنه لا غنى للإنسان عن دعاء الله مهما كانت مرتبته؛ فلا أحد يستغني عن الدعاء أبداً؛ لقوله تعالى: {رب اجعل

} إلخ.

3 -

ومنها: أن للدعاء أثراً في حصول المقصود سواء كان دفع مكروه، أو جلب محبوب؛ لأنه لولا أن للدعاء أثراً لكان الدعاء عبثاً؛ وقول من يقول:«لا حاجة للدعاء: إن كان الله كتب هذا فهو حاصل، دعوت أو لم أدعُ؛ وإن كان الله لم يكتبه فلن يحصل، دعوت أو لم أدعُ» ، فإن جوابنا عن هذا أن نقول: إن الله قد كتبه بناءً على دعائك؛ فإذا لم تدع لم يحصل، كما أنه لو قال:«لن آكل الطعام؛ فإن أراد الله لي الحياة فسوف أحيا - ولو لم آكل؛ وإن كان يريد أن أموت فسوف أموت - ولو ملأت بطني إلى حلقومي» ؛ نقول: لكن الأكل سبب للحياة؛ فإنكار أن يكون الدعاء سبباً إنكار أمور بديهيات؛ لأننا نعلم علم اليقين فيما أُخبرنا به، وفيما شاهدناه، وفيما جرى علينا أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر الأشياء بالدعاء؛ فالله تعالى قص علينا في القرآن قصصاً كثيرة فيها إجابة للدعاء؛ كذلك يجري للإنسان نفسه أشياء يدعو الله بها فيشاهدها رأي العين أنها جاءت نتيجة لدعائه؛ فإذاً الشرع، والواقع كلاهما يبطل دعوى من أنكر تأثير الدعاء.

4 -

ومن فوائد الآية: رأفة إبراهيم عليه السلام بمن يؤم هذا البيت؛ لأن جعل البيت آمناً يتضمن الإرفاق بمن أمّه من الناس.

5 -

ومنها: رأفة إبراهيم عليه السلام أيضاً، حيث سأل الله أن يرزق أهله من الثمرات؛ لقوله تعالى:{وارزق أهله من الثمرات} .

6 -

ومنها: أدب إبراهيم عليه السلام، حيث لم يعمم في هذا الدعاء؛ فقال:{وارزق أهله من الثمرات من آمن} خوفاً من أن يقول الله له: «من آمن فأرزقه» ، كما قال تعالى حين سأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة:{لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]؛ فتأدب في طلب الرزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البلد؛ لكن المسألة صارت على عكس الأولى: الأولى خصص الله دعاءه؛ وهذا بالعكس: عمم.

7 -

ومنها: أن رزق الله شامل للمؤمن، والكافر؛ لقوله تعالى:{ومن كفر} ؛ فالرزق عام شامل للمؤمن، والكافر؛ بل للإنسان، والحيوان، كما قال تعالى:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6]؛ وأنت ترى بعض الخشاش في الأرض ما حوله شيء، ولكن ييسر الله له الرزق يُجلب إليه من حيث لا يشعر، ولا يحتسب؛ ويُذكر في هذه الأمور قصص غريبة، ويشاهَد بعض الحيوانات الصغيرة الصماء العمياء يَجلب الله لها رزقاً كلما احتاجت إلى ذلك، فتأكله؛ والله على كل شيء قدير.

8 -

ومن فوائد الآية: أنه يجب علينا أن نتخذ من هذا الوقت القصير عملاً كثيراً ينفعنا في الآخرة؛ لقوله تعالى: {فأمتعه قليلاً} ؛ والعمل اليسير - ولله الحمد - يثمر ثمرات كثيرة في الآخرة يضاعف بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

9 -

ومنها: إثبات عذاب النار.

10 -

ومنها: إثبات كلام الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {قال} ؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ والدليل على أنه بحرف أن قوله تعالى:{ومن كفر} مثلاً مكوَّن من حروف؛ والدليل على أنه بصوت مسموع: المحاورة مع إبراهيم؛ فلولا أن إبراهيم يسمع صوتاً لم تكن محاورة.

11 -

ومنها: إثبات سمع الله؛ لأنه يسمع إبراهيم وهو يكلمه سبحانه وتعالى.

12 -

ومنها: إثبات اليوم الآخر.

13 -

ومنها: الثناء على النار بهذا الذم، وأنها بئس المصير؛ فكل إنسان يسمع هذا من كلام الله عز وجل سوف ينفر من هذه النار، ولا يعمل عمل أهلها.

القرآن

ص: 228

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127]

التفسير:

واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يدعوان الله في خشوع: ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا، إنك أنت السميع لأقوال عبادك، العليم بأحوالهم.

قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]، "أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس" (1).

وقوله تعالى: {إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 127]، فيه قراءتان:

إحداهما: بكسر الهاء بعدها ياء.

والثانية: بفتح الهاء بعدها ألف: (إبراهام).

و(القواعد): "جمع قاعدة، وهي السارية والأساس"(2)،

ومعنى (القعود) في أصل اللغة: الثبات على أيِّ حالةٍ كانت، الدليل عليه قوله تعالى:{تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]، يريد: مثابت ومراكز، ولا يريد مَجَالس. وقولهم: قَعَدَتِ المرأةُ عن المحيض، معناه: ثبتت على حالة الطُّهْر، ولا يراد به الجُلوس، ويقولون: قَعَدَتِ الفَسِيلة، إذا ثَبَتَتْ في الأرض، وصار لها جذع، ومن هذا: قواعد البيت، فَقَعَدَ في أصل اللغة بمعنى: ثبت، ثم نقل إلى هذا الفعل المخصوص والمتعارف الذي لا تعرف العامة غيره (3).

قال ابن المظفر: "القواعد: أصول الأساسِ، الواحد: قاعدة"(4).

قال الزجاج: "وكل قاعدةٍ فهي أصلٌ للذي فوقها "(5)، قال الكُمَيْت (6):

في ذِروةٍ من يفاعٍ اوّلهم

زانت عواليَها قواعدُها

ومنه يقال للخشبات أسافل الهودج: القواعد، لأنها كالأساس للهودج (7).

وقواعد البيت: يعنى: "أصولَ البيت الّتي كانت قبل ذلك". قاله ابن عباس (8).

وقد اختلف في (القواعد) التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت، أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما، وذكروا فيه أقوال (9):

أحدها: أنها قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه. وهذا قول ابن عباس (10)، وعطاء (11).

(1) انظر: تفسير السعدي: 1/ 66.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 427 وانظر: تفسير الطبري: 3/ 57.

(3)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 316، وتهذيب اللغة" 3/ 3004، "لسان العرب" 6/ 3689 (قعد).

(4)

"تهذيب اللغة" 3/ 3004، "تفسير الثعلبي: 1/ 275، والبحر المحيط: 1/ 387.

(5)

معاني القرآن" 1/ 208، قال في "البحر المحيط" 1: 373: القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، وبالأساس فسرها ابن عطية أولًا والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها: الثابتة.

(6)

لبيت للكميت في "مجاز القرآن" 1/ 55، "تفسير الثعلبي" 1/ 1183، "البحر المحيط" 1/ 373 ولم ينسبه، واليَفَاع: المشرف من الأرض والجبل.

(7)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 316.

(8)

ذكره الثعلبي في تفسيره 1/ 274، وأخرجه ابن أبي حاتم (1228): ص 1/ 231 بلفظ: أساس البيت، وأخرجه الطبري في "تفسيره (2038): ص 3/ 58، بلفظ: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 57 - 64.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2038): ص 3/ 58.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2037): ص 3/ 57 - 58.

ص: 229

والثاني: أنها قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت. وهذا قول عبدالله بن عمر (1)، وقتادة (2)، وأبي قلابة (3)، وأبان (4).

والثالث: أنها كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة. وهذا قول ابن عباس (5)، مجاهد (6)، وعمرو بن دينار (7)، وعطاء ب أبي رباح (8)، وكعب (9).

وقد قال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أنه كان مؤسَّساً قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت"(10).

وقد جعل الفخر الرازي (11)، قوله تعالى: (وَإِذْ يَرفَعُ إبرَاهيمُ الْقَوَاعدَ منَ {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] صريحاً في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم رفعها وعمرها.

وقد تعقبه ابن كثير إذ قال: "وفي الاستدلال مما ذكره من الآية نظر، إذ لا يلزم وجود القواعد قبل، والله أعلم"(12).

قلت: الآية محتملة، وغالب ما ذكره الإخباريون والمفسرون مأخوذ "عن كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين"(13).

وقال ابن عطية -بعد ذكره بعض الأقوال في ابتداء بناء البيت: "ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر"(14).

وعند التأمل والنظر: نجد أن هذه الآية وقول الله-عز وجل-في الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، تحتملان القولين، ونجد أن الطبري قد روى عن ابن عباس بسند صححه ابن حجر (15)، قال:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] قال: "القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك"(16).

(1) انظر: تفسير الطبري (2039): ص 3/ 58.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2042): ص 3/ 59 - 60.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2040): ص 3/ 59.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2043): ص 3/ 60.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2046): ص 3/ 61.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2044): ص 3/ 60.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2045): ص 3/ 60.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2047): ص 3/ 61.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2050): ص 3/ 63.

(10)

الفتح: 3/ 515.

(11)

مفاتيح الغيب: 4/ 62.

(12)

تفسير ابن كثير: 1/ 216.

(13)

تفسير ابن كثير: 1/ 216، وانظر كلام الإمام الطبري في جامع البيان: 3/ 64 القريب من ذلك، وكذلك البداية والنهاية لابن كثير: 1/ 163.

(14)

المحرر الوجيز: 1/ 358.

(15)

انظر: الفتح: 8/ 20

(16)

تفسير الطبري (2038): ص 3/ 58.

ص: 230

فإن كان ابن عباس لم يأخذه عن أهل الكتاب فهو حجة في بناء البيت قبل إبراهيم، وإن كان أخذه منهم فالقضية تبقى محتملة إلى أن يثبت نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أمر غيبي مبنى العلم به على النص الصحيح عن المعصوم ولا مدخل للاجتهاد فيه (1). والله أعلم.

قال الشيخ ابن عثيمين: " وأخّر ذكر إسماعيل؛ لأن الأصل: إبراهيم؛ وإسماعيل مُعِين؛ هذا الظاهر"(2).

قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا} [البقرة: 127]، أي " قائلين: ربنا تقبل منا" (3).

قال السدي: " يبنيان وهما يدعوان"(4).

قال ابن عباس: " هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}، قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني"(5).

قال الحسن: " وكان إسماعيل يقول وهما يبنيانه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فتقبل منهما"(6).

قال الثعلبي: " أي تقبل منّا بناءنا البيت"(7).

قال الماوردي: " المعنى: يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى: {وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيكُم} أي يقولون سلام عليكم"(8).

قال الصابوني: "أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة قائلين يا ربنا أقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم"(9).

قال الزجاج: " المعنى: يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، ومثله في كتاب اللَّه: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]، ومثله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23 - 24]، أي يقولون سلام عليكم"(10).

قال ابن عثيمين: " يعني كل واحد يقول بلسانه: ربنا تقبل منا، و (القبول) أخذ الشيء، والرضا به؛ ومنه ما يذكره الفقهاء في قولهم: ينعقد البيع بالإيجاب، والقبول؛ فتقبُّلُ الله سبحانه وتعالى للعمل أن يتلقاه بالرضا، فيرضى عن فاعله؛ وإذا رضي الله تعالى عن فاعله فلا بد أن يثيبه الثواب الذي وعده إياه"(11).

واختلف في قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا} [البقرة: 127] على قولين (12):

أحدهما: أن المعنى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا، وقد أظهره ابن مسعود في قراءته (13).

والثاني: وقيل: بل قائل ذلك كان إسماعيل.

ثم اختلف أهل التفسير في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها، وفيه أقوال (14):

(1) انظر في المسألة: زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 144 - 145، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 120 - 123، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 1/ 29 و 1/ 60 - 62.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 25.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 65.

(4)

أخرجه الطبري (2051): ص 3/ 64.

(5)

أخرجه الطبري (2052): ص 3/ 65.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (1239): ص 1/ 233.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 275.

(8)

النكت والعيون: 1/ 190.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(10)

معاني القرآن: 1/ 208.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 25.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 65 - 70

(13)

أي: أن ابن مسعود أظهر الفعل في قراءته فقرأ: يقولان ربنا تقبل منا، وهي قراءة أبي أيضاً. انظر: المحتسب لابن جني: 1/ 108، الكشاف للزمخشري: 1/ 311، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 359، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 126، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 388، الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 369.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 65 - 71.

ص: 231

أحدها: أنه رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. قاله السدي (1) وعبيد بن عمير الليثي (2).

الثاني: أن إبراهيم رفع قواعد البيت، وكان إسماعيل يناوله الحجارة. قاله ابن عباس (3).

الثالث: أن الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير. قاله علي-كرّم الله وجهه- (4).

قال ابن عطية: " ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه، لأن الآية والآثار ترده"(5).

والصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، أي: وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا، إذ كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته (6).

قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، أي" نسألك أن تقْبل، لأنك أنت السميع العليم"(7).

قال الآلوسي: " تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا"(8).

قال أبو السعود: أي {السميع} : " لجميع المسموعاتِ التي من جُملتها دعاؤُنا، {العليم}، بكل المعلومات التي من زمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا، العليم} بكل المعلومات التي من زمرتها نياتوالجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيثُ أن كونه تعالى سمعيا لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة بل من حيثُ إنَّ علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها وقصرُ نعتي السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية"(9).

قال الطبري: هذه الجملة تعليل لطلب القبول

فإنك "أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا"(10).

وفي قراءة أبي وعبدالله بن مسعود: {وإذ يرفع وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا} (11).

قال الماوردي: "وتفسير (إسماعيل): إسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا "(12).

قال ابن عطية: " وهذا ضعيف"(13).

قال ابن إسحاق: {السميع} ، أي: سميع بما يقولون" (14).

(1) انظر: تفسير الطبري (2053): ص 3/ 65 - 66.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2054): ص 3/ 66.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2055): ص 3/ 67.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2057)، و (2058)، و (2059)، و (2060): ص 3/ 68 - 70.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 210.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 72.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 73.

(8)

روح المعاني: 1/ 383.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 160 - 161.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 73.

(11)

انظر: النكت والعيون: 1/ 190، تفسير القرطبي: 2/ 126.

(12)

النكت والعيون: 1/ 190، ونقله القرطبي: في تفسيره: 2/ 126.

(13)

المحرر الوجيز: 1/ 211.

(14)

أخرجه ابن أبي حاتم (1241): ص 1/ 234.

ص: 232

وعن سعيد بن جبير في قول الله: {السميع العليم} ـيعني عالم بها" (1).

الفوائد:

1 -

فضل عمارة الكعبة؛ لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة؛ لقوله تعالى: {وإذ يرفع

} إلخ.

2 -

ومنها: فضل إبراهيم، وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، حيث قاما برفع هذه القواعد.

3 -

ومنها: أن من إحكام البناء أن يؤسس على قواعد؛ لقوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} ؛ وإذا بني على غير قاعدة فإنه ينهار.

4 -

ومنها: جواز المعاونة في أفعال الخير.

5 -

ومنها: أهمية القبول، وأن المدار في الحقيقة عليه؛ وليس على العمل؛ فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب، فلم تنفعه؛ وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت فنفعه الله بها؛ ولهذا جاء في الحديث:«رب صائم حظه من صيامه الجوع، والظمأ؛ ورب قائم حظه من قيامه السهر» (2).

6 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما {السميع} ، و {العليم} ؛ وكل اسم من أسماء الله يدل على صفة من صفاته؛ بل على صفتين أحياناً، أو أكثر - ما يلزم من إثبات الصفة التي يدل عليها الاسم -؛ مثال ذلك:«الخالق» دل على صفة الخلق؛ وصفة الخلق تستلزم ثبوت صفة العلم، والقدرة؛ وقد يدل الاسم على الأثر إذا كان ذلك الاسم متعدياً؛ مثاله:{السميع} يدل على صفة السمع، ويدل على أن الله يسمع كل صوت يحدث.

7 -

ومن فوائد الآية: إثبات السمع لله عز وجل؛ وينقسم السمع إلى قسمين: سمع بمعنى سماع الأصوات؛ وسمع بمعنى الإجابة؛ فمثال الأول قوله تبارك وتعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80]، وقوله تعالى:{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]؛ ومثال الثاني قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39] أي مستجيب الدعاء؛ وكذلك قول المصلي: «سمع الله لمن حمده» - يعني استجاب لمن حمده -؛ والسمع الذي هو بمعنى سماع الأصوات من صفاته الذاتية؛ والسمع بمعنى الاستجابة من صفاته الفعلية؛ لأن الاستجابة تتعلق بمشيئته: إن شاء استجاب لمن حمده؛ وإن شاء لم يستجب؛ وأما سماع الأصوات فإنه ملازم لذاته - لم يزل، ولا يزال سميعاً -؛ إذ إن خلاف السمع الصمم؛ والصمم نقص؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص؛ وكلا المعنيين يناسب الدعاء: فهو سبحانه وتعالى يسمع صوت الداعي، ويستجيب دعاءه.

والسمع - أعني سماع الأصوات - تارة يفيد تهديداً؛ وتارة يفيد إقراراً، وإحاطة؛ وتارة يفيد تأييداً. يفيد تهديداً، كما في قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا

} [آل عمران: 181] الآية، وقوله تعالى:{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف: 80] ويفيد إقراراً، وإحاطة، كما في قوله تعالى:{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]؛ ويفيد تأييداً، كما في قوله تعالى لموسى وهارون:{إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46].

8 -

ومن فوائد الآية: إثبات العلم لله تبارك وتعالى جملةً، وتفصيلاً؛ موجوداً، أو معدوماً؛ ممكناً، أو واجباً، أو مستحيلاً؛ مثال علمه بالجملة: قوله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12]، وقوله تعالى:{الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} [طه: 98]، ومثال علمه بالتفصيل: قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59]؛ ومثال علمه بالموجود: ما أخبر الله به عن علمه بما كان، مثل قول الله تعالى:{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187]؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي قد وجِد: ما علمه الله من أحوال الماضين؛ ومثال علمه بالمعدوم الذي لم

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 234.

(2)

أخرجه أحمد 2/ 373، حديث رقم 8843 واللفظ له، وأخرجه ابن ماجة ص 2578، كتاب الصيام، باب 21: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، حديث رقم 1690؛ قال الألباني في صحيح ابن ماجة، حسن صحيح 1/ 282، حديث رقم 1371.

ص: 233

يوجد بعد: ما علمه الله عز وجل من أحوال القيامة، ومآل الخلق؛ ومثال علمه بالممكن: ما علمه الله عز وجل من الحوادث الواقعة من الإنسان؛ ومثال علمه بالواجب: ما علمه الله عز وجل من كمال صفاته؛ ومثال علمه بالمستحيل: قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22].

واعلم أن من أنكر علم الله فهو كافر سواء أنكره فيما يتعلق بفعله، أو فيما يتعلق بخلقه؛ فلو قال: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العبد فهو كافر، كما لو قال: إن الله لا يعلم ما يفعله بنفسه؛ ولهذا كفَّر أهل السنة والجماعة غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد؛ فالذي ينكر علم الله بأفعال العباد لا شك أنه كافر؛ لأن الله تعالى يقول: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد

[ق: 16]، ويقول سبحانه وتعالى:{أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف: 80]؛ فالذي يقول: إن الله لا يعلم أفعال العباد فإنه كافر بهذه الآيات؛ ولهذا قال الشافعي في القدرية: «ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا» ؛ وإيمانك بهذا يوجب لك مراقبته، والخوف منه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه؛ لأنك متى علمت أنه عالم بك فإنك تخشاه؛ تستحيي منه عند المخالفة؛ وترغب فيما عنده عند الموافقة.

9 -

ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته المناسبة لما يدعو به؛ لقوله تعالى: {إنك أنت السميع العليم} .

10 -

ومنها: أن الدعاء يكون باسم «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خَلْق، وإيجاد.

القرآن

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128]

التفسير:

ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام، منقادَيْن لأحكامك، واجعل من ذريتنا أمة منقادة لك، بالإيمان، وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك، وتجاوز عن ذنوبنا. إنك أنت كثير التوبة والرحمة لعبادك.

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، "أي: ربنا واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك " (1).

قال الواحدي: أي اجعلنا: " مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك"(2).

قال الثعلبي: أي: اجعلنا" موحّدين مطيعين مخلصين لَكَ"(3).

قال النسفي: أي: " زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك"(4).

قال سلام بن أبي مطيع: " كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات"(5).

وعن عكرمة: " قال إبراهيم: تجعلنا مسلمين لك؟ قال الله: نعم"(6).

وعن عبد الكريم: " {واجعلنا مسلمين لك}، قال: مخلصين لك"(7).

قال ابن الأنباري: يقال: فلان مسلم، وفيه قولان (8):

أحدهما: أنه المستسلم لأمر الله.

(1) تفسير الطبري: 3/ 73 - 74.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 317.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 275.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 87.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1243): ص 1/ 234.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1244): ص 1/ 234.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1245): ص 1/ 234.

(8)

انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1745، وعنه في "لسان العرب" 4/ 2080، والتفسير البسيط: 3/ 317.

ص: 234

والثاني: هو المخلص لله العبادة، من قولهم: سَلَّمَ لفلان الشيءَ، أي: خَلَّصَه له، وسَلِمَ له الشيءُ، أي: خَلَصَ، ومنه قوله تعالى:{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]، معناه: خالصًا لرجل.

وأنشد على أنَّ المسلم بمعنى المستسلم لأمر الله قولَ الشاعر (1):

فقلنا أسْلِمُوا إنّا أخوكم

فقد بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ

أراد: استسلموا (2).

وقد أتى بالواو عطفاً على قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ، يعني: ربنا واجعلنا مع قبولك، مسلمين لك، لا نشرك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك، والإسلام هو الخضوع لله بالطاعة.

قال الشيخ ابن عثيمين: " إن قال قائل: كيف يستقيم أن يسأل إبراهيم، وإسماعيل ربهما أن يجعلهما مسلمين له مع أنهما كانا كذلك؟

فالجواب: أن المراد بذلك تثبيتهما على الإسلام؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان لا يأمن العاقبة؛ أو يقال: إن المراد تقوية إسلامهما بالإخلاص لله عز وجل، والانقياد لطاعته؛ أو يقال: إنهما قالا ذلك توطئة لما بعدها في قولهما: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} ؛ والأول أقوى الاحتمالات" (3).

وتجدر الإشارة بأن الإسلام في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19] ففي هذا دليل لمن قال: إن الإيمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي "مسلمين" على الجمع (4).

وقرأ عون بن أبي جميلة: {مُسْلِمِينَ} ، بكسر الميم على الجمع (5).

قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، أي:" واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك"(6).

قال الصابوني: "أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك"(7).

قال أبو السعود: " واجعل بعضَ ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحقُّ بالشفقة ولأنهم إذا صلَحوا صلَح الأتباع وإنما خَصّا به بعضَهم لمّا علما أن منهم ظلمةً وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاقَ لكل على الإخلاص والإقبالَ الكلي على الله عز وجل فإن ذلك مما يُخلُّ بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخَرِبَتِ الدنيا"(8).

قال الطبري: "فأتى بـ (من) التي للتبعيض؛ إذ "أنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما" (9).

قال القرطبي: " يقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم، فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة"(10).

قال ابن عطية: " والإسلام في هذا الموضع الإيمان والأعمال جميعا

و {مِنْ} في قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} ، للتبعيض، وخص من الذرية بعضا لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين" (11).

(1) البيت لعباس بن مرداس، في "ديوانه" ص 52، "لسان العرب" 1/ 41 "المعجم المفصل" 3/ 326.

(2)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 317.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 28.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 126.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 275.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 74.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(8)

تفسير أبي السعود: 1/ 161.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 74.

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 126.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 211.

ص: 235

وقد اختلف في قوله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة: 128]، على قولين (1):

أحدهما: أنه يعم العرب وغيرهم. وهذا قول الجمهور.

قال شيخنا ابن عثيمين: "والمراد بـ {ذريتنا} من تفرعوا منهما؛ فذرية الإنسان من تفرعوا منه"(2).

والثاني: وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب. قاله السدي (3).

قال ابن عطية: "وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم"(4).

وكذلك ضعفه الطبري، قائلا: بأن "هذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه، لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم"(5).

وردّ عليه الحافظ ابن كثير فقال: "وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وغير ذلك من الأدلة القاطعة"(6).

والراجح هو القول الأول، أي يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل والله تعالى أعلم.

و(الأمة) في هذا الموضع، فإنه يعني بها "الجماعة من الناس، من قول الله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف: 159] "(7).

وهذه الأمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصدق على أحد أنه من ذرية إبراهيم، وإسماعيل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود، والنصارى ليسوا من بني إسماعيل؛ بل من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و{الأمَّةُ} ، في اللغة تكون على وجوه (8):

أحدها: الدين والملة: ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92](9).

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 442. وتفسير الطبري: 3/ 74. وتفسير القرطبي: 2/ 126 - 127.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 62.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2062): ص 3/ 74.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 211، ونقله القرطبي في تفسيره: 2/ 127.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 74.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 442. واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض، فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة، ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 131 - 133]. وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون. (تفسير الطبري: 3/ 74).

(7)

تفسير الطبري: 3/ 74.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 283 - 284، والمفردات للراغب الأصفهاني: 33، وتفسير القرطبي: 2/ 127، والتفسير البسيط: 3/ 318 - 319.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 127.

ص: 236

الثاني: الحين والزمان والقرن، ومنه قوله تعالى {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي بعد حين وزمان (1)، وذلك لجماعة الشهور والأعوام.

قال الزجاج: " الأمة: القرن من الناس، يقال: قد مضت أمم، أي: قرون"(2).

الثالث: ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد (3)، إذ منه سميت الأمّ؛ لأنها المحتويةُ على الولد، ومنها يخرج، ومن ذلك قوله:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أَيْ: مجمع الحلال والحرام. والإمام مأخوذ من هذا؛ لأن عليه تجتمع الجماعة (4).

وكل شيء انضمت إليه أشياء فهو أمّ لها، وأمُّ القوم: رئيسُهم الذي يجتمع إليه أَمْرُهم (5)، قال الشنفرى (6):

وأمَّ عيال قد شَهِدتُ تَقُوتُهم

إذا أحْتَرتْهُمْ أحْتَرَتْ وأقَلَّتِ

الرابع: و (الأمة) أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الأمة، أي حسن القامة (7)، قال الشاعر (8):

وإن معاوية الأكرميـ

ـن حسان الوجوه طوال الأمم

فقوله (طوال الأمم)، أي: طوال القامات (9).

الخامس: وقيل: (الأمة): الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم (10).

السادس: والأمة: الرجَل الذي لا نظير له، ومنه قوله عز وجل {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]، قال أبو عبيدة معنى {كَانَ أُمَّةً} ، كان إمَاما (11).

وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: "يُبعث أمة وحده"(12)، لأنه لم يشرك في دينه غيره (13).

السابع: والأمة في اللغة: النَعْمَةُ والخير، قال عدي بن زيد (14):

ثم بعد الفلاح والرشد والأ

مَّةِ وارتْهُمُ هناك القبور.

أي بعد النعمة والخير، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول للشيخ، إذا كان باقي القوة فلان بِأمَّةٍ، ومعناه راجع إلى الخير والنعمة، لأن بقاءَ قوته من أعظم النعمة (15).

الثامن: والأمة: القصد، يقال أمَمْتُ الشيءَ إذا قصدْتُه (16).

وتلتقي جميع الأقوال السابقة في القول الأخير، لأن"أصل هذا كله من القصد، فمعنى الأمة في الدين: أن مقصدهم مقصد واحد، ومعنى الأمة في الرجل: المنفرد الذي لا نظير له، أن قصده منفرد من قصد سائر

(1) انظر: المفردات للراغب الأصفهاني: 33، وتفسير القرطبي: 2/ 127.

(2)

معاني القرآن: 1/ 283.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 127.

(4)

انظر: "لسان العرب" 1/ 133 - 134 (أمم).

(5)

انظر: لسان العرب: 1/ 133 (أمم)، والتفسير البسيط: 3/ 319.

(6)

انظر: "ديوانه" ص 35، "تهذيب اللغة" 1/ 203 وروايته: إذا حَتَرَتْهم أتْفَهَتْ وأقَلَّتِ، "لسان العرب" 2/ 769 (مادة: حتر)، 1/ 137 (مادة: أمم)، "المعجم المفصل" 1/ 552.

(7)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 282، وتفسير القرطبي: 2/ 127.

(8)

البيت للأعشى، انظر: ديوانه: رقم القصيدة 4. وروايته (عظام القباب) بدل (حسان الوجوه). وفي اللسان (امم)(بيض الوجوه).

(9)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 282.

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 127.

(11)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 283.

(12)

رواه أحمد: (1648)، عن ابن إسحاق: وحُدّثت أن ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وعمر بن الخطاب وهو ابن عمّه قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنستغفرُ لزيد بن عمرو؟ قال:"نعم فإنه يُبعثُ أمةً وحدهُ".

(13)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 127.

(14)

انظر: الشعر والشعراء" ص 130، "تهذيب اللغة" (فلح) 3/ 2826، "اللسان" (فلح) 6/ 3458. ويروى (الملك) بدل (الرشد) و (الإمه) بكسر الهمزة: غضارة العيش والنعمة.

(15)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 283.

(16)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 283.

ص: 237

الناس، ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده (1)، وإنما ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فمات موحداً فهذا أمة في وقته لانفراده

ومعنى الأمة القامة: سائر مقصد الجسد، فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت، ويقال إِمامنا هذا حَسنُ الأمة أي يقوم بإمامتهِ بنَا في صلاته ويحسن ذلك" (2).

قال الأزهري: والأمة فيما فسّروا يقع على الكفار والمؤمنين" (3).

وقال الليث: "كلُّ قوم نُسبوا إلى نبيٍّ فأضيفوا إليه فهم أمته، وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم: كل من أرسل إليه ممن آمن به أو كفر، قال: وكل جيل من الناس هم أمة على حدة"(4).

قال ابن الأنباري: "والأمة أيضًا أتباع الأنبياء، من قولهم: نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم"(5).

قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، " أي: وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا" (6).

قال ابن عثيمين: " أي بيِّنها لنا حتى نراها، و «المناسك» جمع منسك؛ وهو هنا مكان العبادة"(7).

قال الزجاج: أي: " عرِّفنا متعبداتنا، وكل متعبَّد فهو مَنْسَك ومَنْسِكِ، ومن هذا قيل للعابد: ناسك، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى النسيكة، كأنَّ الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للَّهِ جلَّ وعزَّ"(8).

وقال الواحدي: " و (نسك) في اللغة على معنيين: أحدهما: ذَبَح، والآخر: عَبَدَ، فلا يُدرى أيهما الأصل"(9).

وقال القرطبي: " إن أصل (النسك) في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا"(10).

قال أبو السعود: " والنُسُك في الأصل غايةُ العبادة وشاعَ في الحج لما فيه من الكُلفة والبعد عن العادة"(11).

و(المناسك) جمع (منسك)، "وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج (مناسكه)، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها

وأصل (المنسك) في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال:" لفلان منسك "، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر، ولذلك سميت المناسك (مناسك)، لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله." (12).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، على وجهين (13):

أحدهما: {وأرنا مناسكنا} بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من (أرنا)، غير أنه يشمها كسرة.

ومن ثم اختلفوا هؤلاء في تفسير قوله: {مَنَاسِكَنَا} على قولين:

القول الأول: أنها مناسك الحج ومعالمه. قاله قتادة (14)، والسدي (15).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 2/ 127.

(2)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 283 - 284.

(3)

"تهذيب اللغة" 1/ 204، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 320.

(4)

تهذيب اللغة" 1/ 205، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 320.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 320.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 63.

(8)

معاني القرآن: 1/ 209.وانظر: تهذيب اللغة: 4/ 3562: (نسو).

(9)

التفسير البسيط: 3/ 322، وام

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 128.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 161.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 80.

(13)

تفسير الطبري: 3/ 75 - 79. وتفسير القر\طبي: 2/ 127 - 128.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2063)، و (2064): ص 3/ 76.

(15)

انظر: تفسير الطبري (2065): ص 3/ 76 - 77.

ص: 238

القول الثاني: أن (المناسك): المذابح. قاله عطاء (1)، ومجاهد (2)، وعبيد بن عمير (3).

فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك.

قال القرطبي: " ومن كسر، فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء"(4).

قال الزجاج" "والأجود الكسر، لأن الأصل في هذا (أرْئِنَا) فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت، وطُرحت حركتها على الراء فالكسرة دليل الهمزة، فحذفها قبيح" (5).

الثاني: {وأرنا مناسكنا} بتسكين (الراء)(6)، وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول الشاعر (7):

أريني جوادا مات هزلا لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

يعني بقوله: (أريني)، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين.

واختاره أبو عبيد، وأصله: أرئنا، بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر (8):

أرنا إداوة عبدالله نملؤها

من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

قال عطاء: {أرنا مناسكنا} ، أخرجها لنا، علمناها" (9).

وروي عن علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال:" فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا " - أبرزها لنا، علمناها - فبعث الله جبريل، فحج به" (10).

قلت: إن القول واحد، إذ لا فرق بين الرؤيتين: رؤية العين ورؤية القلب. والله تعالى أعلم (11).

قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128]، "أي ووفقنا للتوبة فنتوب"(12).

قال ابن عثيمين: "والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة؛ ومن الله عز وجل: هي توفيق العبد للتوبة، ثم قبولها منه"(13).

قال البيضاوي: " استتابة لذريتهما، أو عما فرط منهما سهواً. ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشادً لذريتهما"(14).

(1) انظر: تفسير الطبري (2066)، و (2067): ص 3/ 77.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2068)، و (2069): ص 3/ 78.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2070): ص 3/ 78.

(4)

تفسير القرطبي: 2/ 128.

(5)

معاني القرآن: 1/ 209.

(6)

وهي قراءة عمر بن عبدالعزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي. (انظر: تفسير القرطبي: 2/ 127).

(7)

البيت لحاتم الطائي، في "ديوانه" ص 40، ولحطائط بن يعفر، "مجاز القرآن" 1/ 55، "الحجة" 2/ 225، "شرح أبيات المغني" 1/ 219، وفي "خزانة الأدب" 1/ 406، ولدريد في "لسان العرب" 1/ 158، ولمعن بن أوس في "ديوانه" ص 39. قال: العيني 1/ 329: أقول قائله هو حاتم بن عدي الطائي، كذا قالت جماعة من النحاة. ينظر:"المعجم المفصل" 2/ 202، وتحقيق أحمد شاكر لكتاب "الشعر والشعراء" 1/ 248.

(8)

لم أعثر على قائله، وقيل في الأصل أدرنا. وبه ينكسر الوزن. والبيت كر في مجموعة من التفاسير: البحر الميط: 1/ 561، وروح المعاني: 1/ 386

(9)

أخرجه الطبري (2068): 3/ 79.

(10)

أخرجه الطبري (2069): 3/ 79.

(11)

وفي في قراءة ابن مسعود: (وأرهم مناسكهم)، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم. (انظر: تفسير الطبري: 3/ 81).

(12)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 63.

(13)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 63.

(14)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

ص: 239

قال النسفي: أي وتب علينا" ما فرط منا من التقصير أو استتاباً لذريتهما"(1).

قال أبو السعود: " استتابة لذريتهما وحكايتُها عنهما لترغيب الكفرةِ في التوبة والإيمانِ أو توبةٌ لهما عما فرط منهما سهوا ولعلمهما قالاه هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما"(2).

قال المراغي: " أي ووفقنا للتوبة، لنتوب ويرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك، وهذا نظير قوله تعالى:(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).

وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله" (3).

قال الطبري: والتوبة: " أصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه"(4).

وقد اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128]، وهم أنبياء معصومون، وفيه وجوه (5):

أحدها: قالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب، وهذا حسن.

الثاني: "إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة"(6).

قال ابن عطية: "وهو الأحسن عندي"(7).

واعترض عليه أبو حيان فقال: "وفيه خروج قوله: {وتب علينا} عن ظاهره إلى تأويل بعيد، أي إن الدعاء بقوله: {وتب علينا}، ليس معناه أنهما طلبا التوبة، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك، وهذا بعيد جداً"(8).

الثالث: وقيل: المعنى وتبّ على الظلمة منّا.

قال أبو حيان: " قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله:{وَتُبْ عَلَيْنَآ} خاصاً بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير. قالوا: ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً، فالتقدير على عصاتنا، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرناه من الاحتمال، خلافاً لمن زعم ذلك وقال: التوبة مشروطة بتقدم الذنب، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة. والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله

(1) تفسير النسفي: 1/ 87.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 161.

(3)

تفسير المراغي: 1/ 216.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 81.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 130.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 211، وتفسير القرطبي: 2/ 130.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 211.

(8)

البحر المحيط: 1/ 339.

ص: 240

تعالى: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} ، إلى قوله:{وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له" (1).

وقال الزمخشري: " {وتب علينا}، ما فرط منا من الصغائر، أو استتاباً لذريتهما"(2).

قال أبو حيان: "فقوله: "ما فرط منا من الصغائر" (3)، هو على مذهب المعتزلة، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء"(4).

قال ابن عطية: " وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة» (5)، إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد علومه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية"(6).

قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، أي:" فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة"(7).

قال ابن عباس: "أي: الراجع بأوليائه وأهل طاعته إلى أفضل دينه"(8).

قال الطبري: أي: " إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك"(9).

قال المراغي: " أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك"(10).

قال ابن عثيمين: " هذا من باب التوسل بأسماء الله عز وجل المناسبة للمطلوب؛ و (التواب) صيغة مبالغة لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه؛ و (الرحيم) أي الموصوف بالرحمة التي يرحم بها من يشاء من عباده"(11).

قال أبو السعود: " وهو تعليلٌ للدعاء ومزيدُ استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجاب له فليدع الله عز وجل بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه"(12).

قال الآلوس قال الآلوسي: "وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل"(13).

وقرأ عبد الله {وتب عليهم} ، بضمير جمع الغيبة (14).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: شدة افتقار الإنسان إلى ربه، حيث كرر كلمة:{ربنا} ؛ وأنه بحاجة إلى ربوبية الله الخاصة التي تقتضي عناية خاصة.

(1) البحر المحيط: 1/ 339.

(2)

الكشاف: 1/ 188.

(3)

الكشاف: 1/ 188.

(4)

البحر المحيط: 1/ 339.

(5)

المعجم الأوسط (2898): ص 3/ 418.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 212.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(8)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 232.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 82.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 217.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 27.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 161.

(13)

روح المعاني: 1/ 384.

(14)

انظر: روح المعاني: 1/ 384.

ص: 241

2 -

ومنها: أن الإنسان مفتقر إلى تثبيت الله؛ وإلا هلك؛ لقوله تعالى: {واجعلنا مسلمين} ؛ فإنهما مسلمان بلا شك: فهما نبيَّان؛ ولكن لا يدوم هذا الإسلام إلا بتوفيق الله؛ قال الله سبحانه وتعالى للرسول (ص): {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلًا * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74، 75].

3 -

ومنها: أهمية الإخلاص؛ لقوله تعالى: {مسلمين لك} : {لك} تدل على إخلاص الإسلام لله عز وجل، كما قال تعالى في آية أخرى:{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة: 112].

4 -

ومنها: أن الإسلام يشمل كل استسلام لله سبحانه وتعالى، ظاهراً وباطناً.

5 -

ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} ؛ وقال إبراهيم (ص) في آية أخرى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} ؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان.

6 -

ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: {وأرنا مناسكنا} يعني: أعلمنا بها.

7 -

ومنها: أن الأصل في العبادات أنها توقيفية - يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع -؛ لقوله تعالى: {وأرنا مناسكنا} .

8 -

ومنها: تحريم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعَوَا الله عز وجل أن يريهما مناسكهما؛ فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتَعبدا بدون هذا السؤال.

9 -

ومنها: افتقار كل إنسان إلى توبة الله؛ لقوله تعالى: {وتب علينا} ؛ إذ لا يخلو الإنسان من تقصير.

10 -

ومنها: إثبات {التواب} ، و {الرحيم} اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وما تضمناه من صفة.

11 -

ومنها: مشروعية التوسل إلى الله عز وجل بأسمائه، وصفاته؛ لأن قوله تعالى:{إنك أنت التواب الرحيم} تعليل للطلب السابق؛ فهو وسيلة يتوصل بها الداعي إلى حصول مطلوبه.

12 -

ومنها: أن التوسل بأسماء الله يكون باسم مطابق لما دعا به؛ لقوله تعالى: {وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} ، ولقوله تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} .

القرآن

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129]

التفسير:

ربنا وابعث في هذه الأمة رسولا من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم القرآن والسنة، ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. إنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، أي: ربنا: و"أرسل فيهم رسولاً مرسَلاً من عندك"(1).

قال الصابوني: " أي: ابعث في الأمة المسلمة رسولاً من أنفسهم وهذا من جملة دعواتهما المباركة فاستجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم َ"(2).

قال أبو السعود: " أي من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعثَ منهم ولم يُبعث من ذريتهما غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو الذي أُجيب به دعوتُهما عليهما السلام"(3).

قال المراغي: " أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي، وقد أجاب الله دعوته، وأرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا منهم، ومن ثمّ روى الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى» (4) "(5).

قال الحافظ ابن كثير: " وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - رسولا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن"(6).

قال البيضاوي: " ولم يبعث من ذريتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم، فهو المجاب به دعوتهما"(7).

قال ابن عطية: " ومعنى {مِنْهُمْ}: أن يعرفوه ويتحققوا فضله ويشفق عليهم ويحرص"(8).

وفي قراءة أبيّ: {وابعث في آخرهم رسولا منهم} (9).

قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129]، أي:"يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه"(10).

قال الصابوني: " أي يقرأ آيات القرآن"(11).

قال البيضاوي: أي: " يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد والنبوة"(12).

قال أبو السعود: " يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات"(13).

قال ابن عثيمين: أي" يقرأ عليهم آياتك، ويبينها لهم، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] "(14).

وفي قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129]، وجهان من التفسير (15):

الأول: أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.

الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم: أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها.

قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]، أي و"يعلمهم القرآن العظيم والسنة المطهرة"(16).

قال البيضاوي: " {الْكِتابَ}: القرآن، {وَالْحِكْمَةَ}: ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام"(17).

قال أبو السعود: " أي القرآن، {والحكمة} وما يُكمل به نفوسَهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة"(18).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 62.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(3)

تفسير أبي السعود: 1/ 162.

(4)

المسند (5/ 262). وقد ذكر الطبري رواية أخرى: عن خالد بن معدان الكلاعي: "أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، صلى الله عليه وسلم". [تفسير الطبري (2070): ص 3/ 82].

(5)

تفسير المراغي: 1/ 217.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 443.

(7)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 212.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 130.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 86.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

(13)

تفسير أبي السعود: 1/ 162.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 62.

(15)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 61.

(16)

صفوة التفاسير: 1/ 83.

(17)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

(18)

تفسير أبي السعود: 1/ 162.

ص: 242

أخرج الطبري عن ابن زيد: " {ويعلمهم الكتاب}، القرآن"(1).

قال ابن عطية: " ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طرق النظر بما يلقيه الله إليه ويوحيه"(2).

واختلفوا في معنى {الْحِكْمَةَ} في هذه الآية على أقوال (3):

أحدها: أنها السنّة. قاله قتادة (4)، والحسن (5)، ومقاتل بن حيان (6)، وأبو مالك (7)، والشافعي (8)، ويحيى بن كثير (9)، وغيرهم.

والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولا وتعليمه ثانيا ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام (10).

الثاني: أن (الحكمة)، هي المعرفة بالدين والفقه فيه. أي: ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها. قاله مالك (11)، وابن زيد (12).

الثالث: أن الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالقعدة والجلسة (13).

قال الطبري: والحكمة مأخوذ من " (الحكم) الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل"(14).

والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة.

الرابع: وقيل: {ويعلمهم الكتاب} ، أراد به الآيات المحكمة، {والحكمة} أراد بها الآيات المتشابهات.

الخامس: وقيل: {ويعلمهم الكتاب} ، أي: يعلمهم ما فيه من الأحكام، {والحكمة} أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.

والسادس: ان الحكمة: العقل في الدين. وهذا قول زيد بن أسلم (15).

قلتُ: ولا منافاة بين الأقوال السابقة، فإذا كانت الحكمة هي الفهم في الدين، فالعلم بأحكامه لايدرك علمها إلا ببيان سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم، والكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة. والله تعالى أعلم.

قال الرازي: قوله تعالى {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} ، "المراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه: منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف، ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة، فهذا حكم التلاوة إلا أن

(1) تفسير الطبري (2077): ص 3/ 86.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 212.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 86 - 87. وتفسير ابن كثير: 1/ 444.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2078): ص 3/ 87.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6993): ص 4/ 1240.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6993): ص 4/ 1240.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6993): ص 4/ 1240.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 444.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6993): ص 4/ 1240.

(10)

تفسير الرازي: 4/ 62.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2079): ص 3/ 87.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2080): ص 3/ 87.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 87.

(14)

تفسير الطبري: 3/ 87.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6995): ص 4/ 1240.

ص: 243

الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورا لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} " (1).

وأما {الحكمة} : فهي: "الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيما إلا من اجتمع له الأمران وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه. قال القفال: وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية (2) ".

قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، أي: و"يطهرهم من رجس الشرك"(3).

قال البيضاوي: " عن الشرك والمعاصي"(4).

قال أبو السعود: "أي يطهرها عن دنس الشرك وفنون المعاصي"(5).

قال ابن عثيمين: " أي ينمي أخلاقهم، ويطهرها من الرذائل"(6).

قال السعدي: " بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية، التي لا تزكي النفوس معها"(7).

قال ابن عطية: أي: " يطهرهم وينميهم بالخير، ومعنى الزكاة لا يخرج عن التطهير أو التنمية"(8).

قال المراغي: أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسّيها وتفسد الأخلاق وتقوّض نظم المجتمع، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضى المولى جلّ وعلا" (9).

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] وجهان (10):

أحدهما: أن المعنى: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. قاله ابن جريج (11)، وروي عن الحسن (12) نحو ذلك.

قال الطبري: " "ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله" (13).

الثاني: أن التزكية هي الطاعة لله والإخلاص. قاله ابن عباس (14).

وذكر الفخر الرازي في معنى هذه التزكية وجهين (15):

أحدهما: ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق.

الثاني: يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود.

(1) تفسير الرازي: 4/ 61 - 62.

(2)

تفسير الرازي: 4/ 62.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 84.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/! 06.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 162.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 66.

(7)

تفسير السعدي: 66.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 212.

(9)

تفسير المراغي: 1/ 217.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 60. وتفسير الطبري: 3/ 88.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2082): ص 3/ 88.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 60.

(13)

تفسير الطبري: 3/ 88.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2081): ص 3/ 88، وابن أبي حاتم (1265): ص 1/ 237.

(15)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 59 - 60.

ص: 245

قال الرازي: "والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية"(1).

قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، "أي إنك أنت القوى الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك، الحكيم في أفعالك في عبادك، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة"(2).

قال ابن كثير: أي: "العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها؛ وحكمته وعدله"(3).

قال البيضاوي: " {الْعَزِيزُ}: لا يقهر ولا يغلب على ما يريد، {الْحَكِيمُ} المحكم له"(4).

قال الطبري: {العزيز} القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؛ و {الحكيم} الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك (5).

قال الصابوني: " {العزيز}: الذي لا يُقهر ولا يُغلب، {الحكيم}: الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة"(6).

قال ابن عطية: " {الْعَزِيزُ}: الذي يغلب ويتم مراده ولا يرد، و {الْحَكِيمُ}: المصيب مواقع الفعل المحكم لها"(7).

قال السعدي: " {لْعَزِيزُ} أي: القاهر لكل شيء، الذي لا يمتنع على قوته شيء. {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك، ابعث فيهم هذا الرسول"(8).

قال أبو السعود: "والجملة تعليلٌ للدعاء وإجابة المسئول فإن وصفَ الحكمةِ مقتضٍ لإفاضة ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور التي من جملتها بعثُ الرسول ووصفُ العزة مستدعٍ لامتناع وجود المانِع بالمرة"(9).

قال المراغي: " وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يردّ له أمر، وأنه الحكيم الذي لا معقّب لحكمه، فمن الهيّن عليه أن يجيبه إلى ما طلب، مما هو متنافر مع طباع العرب، بعيد من معايشهم وأحوالهم، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم، وفيهم خشونة في الطباع، وغلظ في الأكباد، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية، وقد أجاب الله دعاءه وكوّن منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقى والحضارة"(10).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: ضرورة الناس إلى بعث الرسل؛ ولذلك دعا إبراهيمُ وإسماعيلُ الله سبحانه وتعالى أن يبعث فيهم الرسول.

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 60.

(2)

تفسير المراغي: 1/ 217.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 445.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 88. وذكر الطبري خبرا آخر: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله: " ويزكيهم " قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 84.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 212.

(8)

تفسير السعدي: 66.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 162.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 217 - 218.

ص: 246

2 -

ومنها: أن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته؛ لقوله تعالى: {رسولاً منهم} ؛ لأنهم يعرفونه، كما قال تعالى:{ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 53]؛ فتأمل قوله تعالى: {ما ضل صاحبكم} [النجم: 53]، حيث أضافه إليهم؛ يعني: صاحبكم - الذي تعرفونه، وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته - ما ضل، وما غوى.

3 -

ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه وتعالى فيه من الخير أنه يتلو الآيات، ويعلم الكتاب، ويعلم الحكمة؛ لقوله تعالى:{يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} .

4 -

ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن ذكر آيات الله الكونية، والشرعية، وتتضمن تعليم الكتاب تلاوةً، ومعنًى، وتتضمن أيضاً الحكمة - وهي معرفة أسرار الشريعة، وتتضمن تزكية الخلق؛ لقوله تعالى:{يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} .

5 -

ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يزكي الأخلاق، ويطهرها من كل رذيلة، كما قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1)؛ وهكذا كانت شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم: تنمية للأخلاق الفاضلة، وتطهيراً من كل رذيلة؛ فهو يأمر بالبر، ويأمر بالمعروف، ويأمر بالإحسان، ويأمر بالصلة، ويأمر بالصدق، ويأمر بكل خير؛ كل ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه فإن الإسلام يأمر به - وهذه تزكية -؛ وينهى عن ضد ذلك؛ ينهى عن الإثم، والقطيعة، والعدوان، والعقوق، والكذب، والغش، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق - وهذه أيضاً تزكية -.

وحال الناس قبل الإسلام بالنسبة للعبادة لا تَسأل! شرك، وكفر؛ وبالنسبة للأحوال الاجتماعية لا تَسأل أيضاً عن حالهم! القوي يأكل الضعيف؛ والغني يأكل الفقير؛ ويأكلون الربا أضعافاً مضاعفة؛ يُغيِر بعضهم على بعض؛ يتعايرون بالأنساب؛ يدعون بدعوى الجاهلية

إلخ.

جاء الإسلام، وهدم كل هذا؛ ومن تدبر التاريخ قبل بعثه (ص) وبعده، علم الفرق العظيم بين حال الناس قبل البعثة، وحالهم بعدها؛ وظهر له معنى قوله تعالى:{ويزكيهم} .

6 -

ومنها: أن هذه الشريعة كاملة؛ لتضمن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المعاني الجليلة مما يدل على كمال شريعته.

7 -

ومنها: إثبات العزة، والحكمة لله؛ لقوله تعالى:{إنك أنت العزيز الحكيم} .

8 -

ومنها: إثبات هذين الاسمين لله: {العزيز} ، و {الحكيم} .

9 -

ومنها: مناسبة العزة، والحكمة لبعث الرسول؛ وهي ظاهرة جداً؛ لأن ما يجيء به الرسول كله حكمة، وفيه العزة: قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 80]؛ للمؤمنين عرباً كانوا، أو عجماً؛ من كان مؤمناً بالله عز وجل قائماً بأمر الله فإن له العزة؛ ومن لم يكن كذلك فاته من العزة بقدر ما أخل به من الإيمان، والعمل الصالح؛ ولهذا يجب أن تكون رابطة الإيمان أقوى الروابط بين المؤمنين؛ لأنه لا يمكن أن تكون هناك عزة واجتماع على الخير برابطة أقوى من هذه الرابطة.

القرآن

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130]

التفسير:

ولا أحد يُعرض عن دين إبراهيم -وهو الإسلام- إلا سفيه جاهل، ولقد اخترنا إبراهيم في الدنيا نبيًّا ورسولا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم أعلى الدرجات.

(1) أخرجه أحمد ج 2/ 381، حديث رقم 8939، وأخرجه الحاكم في مستدركه 2/ 613، وقال حديث صحيح على شرط مسلم؛ وأقره الذهبي، وقال ابن عبد البر: وهذا حديث مدني صحيح (التمهيد 24/ 334).

ص: 247

في سبب نزول الآية: قال الثعلبي: "إن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما إنّ الله عز وجل قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجرا أن يسلم، فأنزل الله تعالى. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي يترك دينه وشريعته"(1).

والخبر في تفسير مقاتل بن سليمان (2)، وذكره الزمخشري (3)، والسيوطي (4)، وابن حجر في العجاب (5).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130]، يعني:"وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟ "(6).

قال ابن كثير: " أي: عن طريقته ومنهجه. فيخالفها ويرغب عنها"(7).

قال البيضاوي: " استبعاد وإِنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء، أي لا يرغب أحد من ملته"(8).

قال الزجاج: " المعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم"(9).

قال الصابوني: " أي لا يرغب عن دين إِبراهيم وملته الواضحة الغراء"(10).

قال الطبري: "وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن " ملة إبراهيم " هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [سورة آل عمران: 67] "(11).

قال قتادة: "رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم - يعني الإسلام - حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم"(12). وروي عن أبي العالية (13) نحوه.

قال الثعلبي: " رغب في الشيء، إذا أردته، ورغبت عنه إذا تركته، وأصل الرّغبة: رفع الهمّة عن الشيء وإليه يقال: رغب فلان في فلان وإليه إذا همّت نفسه إليه"(14).

و(الملَّةُ): "وهي السُّنَّة والمذهب"(15).

قوله تعالى: {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، أي:" إِلا من استخفّ نفسه وامتهنها"(16).

قال ابن زيد: إلا من أخطأ حظَّه" (17).

قال مقاتل بن سليمان: " يعني: إِلَّا من خسر نفسه من أَهْل الكتاب"(18).

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 278.

(2)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 139 - 140.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 312.

(4)

انظر: اللباب: 1/ 378.

(5)

انظر: العجاب: 1/ 378 - 379.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 89.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 445.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 106.

(9)

معاني القرآن: 1/ 209.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 89.

(12)

أخرجه الطبري (2083): ص 3/ 89.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1270): ص 1/ 238.

(14)

تفسير الثعلبي: 1/ 278.

(15)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 209.

(16)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(17)

أخرجه الطبري (2085): ص 3/ 90.

(18)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 140.

ص: 248

وأخرج الكلبي عن ابن عباس: " في قوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال: خسر نفسه"(1).

قال الطبري: أي: " إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها"(2).

قال ابن كثير: " أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال"(3).

قال ابن كيسان: إلا من جهِل نفسه" (4).

قال أبو عبيدة: " أي أوبق نفسه وأهلكها"(5).

قال ابن أبي زمنين: " أي: عجز رأيه عن النظر لنفسه، فضلّ"(6).

قال ابن عبّاس: "حيّر نفسه"(7).

قال الكلبي: ظلّ من [جهة] نفسه" (8).

قال أبو روق: عجّز رأيه عن نفسه" (9).

قال يمان: حمق رأيه" (10).

وقال ابن بحر: "جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل"(11).

قال البيضاوي: أي: " إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها"(12).

قال الزجاج: أي: " إلا من جهل نفسه، أي لم يفكر فى نفسه، كقوله عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، فوضع جهِل"(13).

قال السعدي: " أي: جهلها وامتهنها، ورضي لها بالدون، وباعها بصفقة المغبون، كما أنه لا أرشد وأكمل، ممن رغب في ملة إبراهيم"(14).

قال ابن عثيمين: "أي أوقعها في سفه؛ و (السفه) ضد الرشد؛ وقيل: معناه: جهل نفسه أي جهل ما يجب لها، فضيعها؛ ولنا أن نقول: إن التعبير بما يحتمل الوجهين فيه نكتة عظيمة؛ وهي أن يكون التعبير صالحاً للأمرين؛ فكأنه ناب عن جملتين؛ فهو في الحقيقة جاهل إن لم يتعمد المخالفة؛ وسفيه إن تعمد المخالفة"(15).

قال الواحدي: " لأن من عبد حجرًا أو قمرًا أو شمسا أو صنمًا فقد جهل نفسه؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم ما يحق لله عليه، والعرب تضع سَفِهَ في موضع جَهِل، ومنه الحديث: "الكِبْرُ أن تسفَهَ الحقَّ وتغمِصَ الناسَ " (16)، أي: تجهل الحق، ويؤيد هذا القولَ ما روي في الحديث: "مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربه" (17)، قيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنّهم أنهم يملكون الضرّ والنفع دون الله"(18).

(1) التفسير البسيط: 3/ 335، وانظر:"البحر المحيط" 1/ 394.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 90.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 445.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(6)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 179.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 279. وفي لفظ اخر له عند أبي حيان: " قتل نفسه". البحر المحيط: 1/ 342.

(9)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(11)

البحر المحيط: 1/ 342.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/! 06.

(13)

معاني القرآن: 1/ 211.

(14)

تفسير السعدي: 66.

(15)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 30.

(16)

رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 69، عن ثابت بن قيس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 133، في طريق عبد الله بن عمرو: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات. اهـ. ورواه أحمد 4/ 134 عن أبي ريحانة بلفظ: "إنما الكبر من سفه الحق وغمض الناس" ورواه مسلم (91) كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه ولفظه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".

(17)

ذكره الثعلبي في "تفسيره"، وعنه البغوي 1/ 279، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214 قال النووي: ليس بثابت، ينظر:"المقاصد الحسنة" ص 490 (1149)، وقال ابن تيمية: موضوع، ينظر:"المصنوع في معرفة الموضوع" ص 189 (349)، وقال السمعاني: إنه لا يعرف مرفوعًا، ينظر:"المقاصد" ص 490، "الموضوعات" ص 351. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 262: وقال أبو المظفر ابن السمعاني في "القواطع": إنه لا يُعرف مرفوعًا وإنما يُحْكى عن يحيى بن معاذ الرازي، يعني من قوله. وقال ابن الفرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت، قال: لكن كُتبُ الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث، كالشيخ محيي بن عربي، وغيره. قال: وللحافظ السيوطي فيه تأليف سماه "القول الأشبه في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربه" والكتاب ضمن الكتب الموجودة في "الحاوي للفتاوى" للسيوطي، وذكره أبو نعيم في "الحلية" 10/ 208، عن سهل التستري.

(18)

التفسير البسيط: 3/ 323 - 333.

ص: 249

وفي قوله تعالى: {إلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، ثلاثة تأويلات (1):

أحدها: أن ذلك سفّه نفسه، أي فَعَلَ بها من السفه ما صار به سفيهاً، وهذا قول الأخفش (2).

والثاني: أنها بمعنى سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما حذف من قوله تعالى:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، أي عَلَى عقدة النكاح، وهذا قول الزجَّاج (3).

والثالث: أنها بمعنى أهلك نفسه وأوْبَقَهَا، وهذا قول أبي عبيدة (4).

قال الثعلبي: " وأصل السفه والسفاهة: الخفّة والجهل وضعف الرأي يقال سفه يسفه وسفه يسفه"(5).

وقراء: {إلا من سفه نفسه} ، بتشديد الفاء (6).

قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 130]، أي: ولقد: " اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإِمامة"(7).

قال ابن عباس: " يريد: أنه ليس في الأرض خلق إلا وهو يذكره بخير، وينتحل دينه"(8).

قال الواحدي: " وقيل: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} بالنبوة، وقيل: بالخُلّة"(9).

قال أبو مالك: " قوله: اصطفى، يعني اختار"(10).

قال ابن أبي زمنين: " أي: اخترناه"(11).

قال مقاتل بن سليمان: " يعني اخترناه بالنبوة والرسالة"(12).

قال الزجاج: " معناه اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة"(13).

قال السعدي: " أي: اخترناه ووفقناه للأعمال، التي صار بها من المصطفين الأخيار"(14).

قال الطبري: أي: " اخترناه واجتبيناه للخلة، ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما .. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته،

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 193.

(2)

انظر: معاني القرآن: 1/ 157 - 158.

(3)

انظر: معاني القرآن: 1/ 210.

(4)

انظر: معاني القرآن: 1/ 210.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(6)

انظر: تفسير الرازي: 4/ 65.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(8)

التفسير البسيط: 3/ 335.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 335.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1271): ص 1/ 238.

(11)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 179.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 140.

(13)

معاني القرآن: 1/ 211.

(14)

تفسير السعدي: 66 - 67.

ص: 250

وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده" (1).

قال أبو حيان: " أي جعلناه صافياً من الأدناس، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمروذ، والنظر في النجوم، وأذانه بالحج، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه، من خصائصه ووجوه اصطفائه"(2).

قال المراغي: " ولا شكّ أن ملة هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربه، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته، كما أن في الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعده له بذلك (3).

قلت: والاصطفاء مفهوم قرآني تكرر في العديد من الآيات القرآنية، من جملتها هذه الآية الكريمة، وكقوله تعالى:

- {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].

- {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59].

- {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].

- {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47]

- {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].

- {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].

- {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].

نلحظ بأن القرآن الكريم حينما يتحدث عن الاصطفاء يقصد معنيين وهما:

أولا: الخلوص والصفاء (4).

ثانيا: الاختيار والتفضيل والتقديم (5).

فالله تبارك وتعالى هو الحكيم الخبير، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار للنبوة إلا أصلح الناس لها، وأليقهم بها، والنبوة اصطفاء لا اكتساب، ولا يمكن للعبد بالاجتهاد في الطاعة والترقي في مقامات العبودية أن ينال مرتبة النبوة، بل هي اجتباء واصطفاء واختيار من الله تعالى، وليس معنى ذلك أن الأنبياء لم يكن فيهم مزية عن غيرهم، أو أنهم لم يكونوا أهلًا للنبوة، فإنهم أفضل الخلق! وإنما معناه أنهم لم ينالوا هذه المرتبة باجتهادهم، وإنما نالوها بفضل الله عليهم، واجتبائه لهم فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه، ميزهم على خلقه من قبل النبوة، ثم زادهم فضلًا عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم.

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]، أي:" وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين"(6).

(1) تفسير الطبري: 3/ 91.

(2)

البحر المحيط: 1/ 343.

(3)

انظر: تفسير المراغي: 1/ 218.

(4)

فالاصطفاء: من جذر يدل على الخلوص من كل شوب ويجمع الراغب بين الاصطفاء والاختيار بقوله: "والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أن الإختيار تناول خيره". (انظر: معجم مقاييس اللغة: (صفو): 3/ 292، والمفردات:(صفو)، والفروق في اللغة:279.).

(5)

الصحاح للجوهري: 2/ 652 مادة (خير)، ولسان العرب 4/ 257 مادة (خير)، ومعجم مقاييس اللغة 1/ 232؛ مادة (خير).

(6)

تفسير الطبري: 3/ 91.

ص: 251

قال ابن أبي زمنين: " وهم أهل الجنة"(1).

قال السعدي: أي" الذين لهم أعلى الدرجات"(2).

قال الصابوني: أي: "من المقربين الذين لهم الدرجات العلى"(3).

قال المراغي: أي: و"جعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة"(4).

قال الطبري: " و (الصالح) من بني آدم: "هو المؤدي حقوق الله عليه" (5).

قال الزجاج: " فَالصالحُ في الآخرة الفائز"(6).

قال البيضاوي: " حجة وبيان لذلك، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة، كان حقيقاً بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه، أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر"(7).

قال أبو حيان: أي" وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته"(8).

قال ابن عبّاس: "يعني مع آبائه الأنبياء في الجنّة"(9)، قال الثعلبي:"بيانه قوله: خطابه عن يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين} [يوسف: 101] "(10).

وأخرج ابن أبي حاتم "عن ابن عباس: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، قال: عمله يجزى به في الآخرة"(11).

وقال الحسن: "أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامةَ وحسنَ الثواب، فلما كان خلوصُ الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك"(12).

وقال الحسين بن الفضل: "في الآية تقديم وتأخير تقديرها لقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة بأنّه لمن الصالحين نظيرها في سورة النحل (13) "(14).

قال أبو حيان: " وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه"(15).

قلت: إن الصالح هو من صلحت المعاملة بينه وبين الله وبين الناس على قدر الإمكان، فتعلم ما أمر الله بتعلمه وعمل به، ودعا إليه وصبر على طريق الحق، والله يتولى أمره، وقد قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)[يونس: 62 - 64].

(1) تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 179.

(2)

تفسير السعدي: 66.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(4)

انظر: تفسير المراغي: 1/ 218.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 91.

(6)

معاني القرآن: 1/ 211.

(7)

تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(8)

البحر المحيط: 1/ 343.

(9)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(11)

تفسير ابن أبي حاتم (1273): ص 1/ 238.

(12)

التفسير البسيط: 3/ 336، والبحر المحيط: 1/ 395.

(13)

يقصد قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122].

(14)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(15)

البحر المحيط: 1/ 343.

ص: 252

ولا تحيا الأمم ولا ترقى الشعوب إلا بعظمائها، وعظماء أمّة الإسلام هم أهل الصلاح والإصلاح، الذين يحتسبون وجه الله سبحانه فيما ينالهم من العنت والمشقّة حين تأدية واجبهم وتحقيق رسالتهم، والذين يتركون في الناس الذكر الحسن في حياتهم وبعد مماتهم، هم البركة الحقيقيّة والذخيرة التي لا تنضب، يعرف ذلك من لمس أثرهم، وحرص على القرب منهم، وشتّان بين الجليس الصالح، وجليس السوء، فإذا كانت حاجة الأمم إليهم وتعلّقها بهم لا تُقدّر بثمن، فكيف الحال إذا كان تناقصُ أعدادِهم واختفاءُ آثارهم هو علمٌ من أعلام الساعة وأشراطها؟ ذلك هو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته تصريحاً وتلميحاً في غيرما مناسبة، وكان من جملة إخباراته النبويّة ما جاء في حديث مرداس الأسلمي رضي الله عنه مرفوعاً:"يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حُفالة، كحفالة الشعير والتمر، لا يباليهم الله بالةً"(1)، وفي رواية:"لا يعبأ الله بهم الله بهم شيئا"(2).

ومعنى "حُفالة": ما يسقط من قشر الشعير عند الغربلة، ومن التمر بعد الأكل، وقد جاء في رواية أخرى بلفظ "حثالة"، وهي بذات المعنى، وأما معنى "لا يباليهم الله بالةً": لا يرفع لهم قدر ولا يقيم لهم وزنا (3) ً.

فهذا الحديث يشير صراحةً إلى أن موت الصالحين وتناقص أعدادهم هو من أشراط الساعة، وأن ذهابهم يكون شيئاً فشيئاً وليس مرّةً واحدة، كما أن في الحديث السابق ترغيبٌ في الاقتداء بالصالحين، والتحذير من مخالفة طريقهم، خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به، كما ذكر ذلك شرّاح الحديث.

وقريبٌ من الحديث السابق ما جاء في سنن ابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتنتقوُنَّ كما يُنتقى التمر من أغفاله، فليذهبن خياركم، وليبقين شراركم، فموتوا ان استطعتم"(4)، ومعنى (من أغفاله): أي مما لاخير فيه.

وعنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم في زمانٍ من ترك منكم عُشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمانٌ من عمل منهم بعشُر ما أمر به نجا"(5).

(1) رواه البخاري (6434).

(2)

رواه البخاري موقوفا على مرداس الأسلمي رضي الله عنه راوي الحديث (4156).

(3)

يقول ابن حجر: "والحثالة ما سقط من قشر الشعير، والأرز، والتمر، والرديء من كل شيء"، قال:"ووجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ "تذهبون الخَيِّر فالخَيِّر حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر ينزو بعضهم على بعض نزو المعز". [فتح الباري: 11/ 252].

ومعنى "لا يباليهم الله بالة"، أي لا يعبأ بهم، ولا يرفع لهم قدراً، ولا يقيم لهم وزناً". [فتح الباري: 11/ 252].

وفي رواية: "يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، يبقى منهم حثالة قد مَرِجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا" وشبك بين أصابعه. قالوا: يا رسول الله، فما المخرج؟ قال:"تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم"، إذا كان لديك صحبة طيبة أخوان في الله خاصين، "وتدعون أمر عامتكم" [رواه أبو داود: 4344، وصححه الألباني صحيح الجامع: 4585]، لأن الأكثرية ليسوا على الحق، الحديث رواه أحمد، وقال عنه أحمد شاكر:"إسناده صحيح". [مسند أحمد: 7049].

يغربلون غربلة يذهب الأخيار، ويبقى الأشرار الأراذل، كما ينقى الدقيق بالغربال، حتى لا يبقى إلا الشيء السيئ من هذه الحثالة، ومرجت عهودهم، وأماناتهم اختلطت وفسدت، ولا عندهم عهد ولا أمانة، ينقضون العهود، ويخونون الأمانات، واختلط بعضهم ببعض، فهم في أمر مريج، لا يعرفون المعروف ولا ينكرون المنكر، وكذلك لا تعرف الأمين من الخائن، والبر من الفاجر، اختلطت الأمور لا يعرف الصالح من الطالح، وهذا ولا شك أنه وقع منه جزء كبير الآن، فالآن إذا أردت أن تميز إذا جاء رجل يخطب ابنتك أو أختك لا تعرف هذا صالح أو طالح، الناس الآن صار فيهم خلط كبير.

فتمييز الجيد لا يكاد يعرف، فالنفاق منتشر، وأشياء مخفية وأشياء لا تعرف وهكذا، ونصحهم بالإقبال على أمر خاصتهم لأن الإنسان يعرف الناس المقربين منه الذي يعرف حالهم، وأنهم على الخير يلتزم بهم.

(4)

أخرجه ابن ماجه (4038)، والبخاري في "التاريخ الكبير" 9/ 25، والحاكم 4/ 480 و 481، وقال الحاكم:" هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " وأقره الذهبي.

(5)

روى الترمذي (2267)، والطبراني في "المعجم الصغير"(1156)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 316).

وقال أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ منكر، رواه نعيم بْن حَمَّاد، وليس بثقة". "العلل المتناهية"(2/ 369).

ص: 253

إن الحديث السابق يُسفِر عن ذات الحقيقة، وهو أن صلاح المجتمعات آخذٌ بالتناقص مع مرور الوقت، كما يشير إلى النسبية والتفاوت في مستوى الصلاح بين الأجيال الأولى في الإسلام والأجيال اللاحقة على وجه العموم، وقد فُسّر الحديث بأن العُشر المأمور به إنما المقصود به: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الرعيل الأوّل وفي فجر الإسلام كان الدين عزيزاً، وفي أنصاره كثرةً، فلا عُذر في التهاون في هذه الشعيرة العظيمة، ولكن حين يضعف الإسلام، وتكثر الظلمة، ويعم الفسق، ويكثر الدجالون، وتقل أنصار الدين، ويتوارى الحق فيعذر المسلمون فيما تركوه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعدم القدرة، والله سبحانه وتعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ولنا كذلك حذيفة بن اليمان عند ابن ماجة، وفيه:"يَدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها"(1)، وحديث أنس رضي الله عنه:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله"(2).

على أننا نؤكّد أن هذه الأحاديث تتحدّث عن جانبٍ إخباريّ يتعلّق بفترةٍ زمنيّة طويلة تشمل أجيلاً متتالية، فليس المقصود نفي الخيريّة عن أمتنا أو أن تكون هذه الأحاديث سبباً في تسرّب اليأس من النفوس أو مدعاةً للتخاذل، فكما بيّنت السنة الخلل الحاصل فقد بيّنت أسبابه، وبتجنّب الأسباب يكون الصلاح، والعبدُ إنما هو مكلّفٌ بخاصّة نفسه أن يُصلحها وليس مسؤولاً عن فساد غيره ما دام قد أدّى ما عليه، قال تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]. والله تعالى أعلم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن الرشد في اتباع ملة إبراهيم؛ لقوله تعالى: {إلا من سفه نفسه} .

(1) رواه ابن ماجة (4049)، والحاكم (4/ 473). قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. قال البوصيري في الزوائد:(ق 1/ 247): اسناده صحيح ورجاله ثقات. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: برقم (87). (يدرس) من درس الرسم دروسا: إذا عفا وهلك. (وشى الثوب): نقشه.

(2)

صحيح مسلم: (148). عض الرويات جاء فيها: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه)

وهي رواية أحمد في "المسند"(3/ 268)، وابن حبان في صحيحه (15/ 262) والحاكم (4/ 540) بل هي إحدى روايات مسلم كما نقله القاضي عياض من رواية ابن أبي جعفر. انظر النووي في "شرح مسلم"(2/ 178). فهذه الرواية تفسر الرواية الأولى، فيكون المعنى: لا تقوم الساعة على الموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله.

قلت: ومن أشراط الساعة ذهاب الصالحين وإرتفاع الأسافل، فقد وجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان". (أخرجه البخاري في الرقاق، باب: رفع الأمانة (6497) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (143) مختصرا).

قال الشيخ يوسف الوابل: "وهذا هو الواقع بين المسلمين في هذا العصر، يقولون للرجل: ما أعقله! ما أحسن خلقه! ويصفونه بأبلغ الأوصاف الحسنة، وهو من أفسق الناس، وأقلهم ديناً وأمانة، وقد يكون عدواً للمسلمين، ويعمل على هدم الإسلام. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". (أشراط الساعة (ص 182).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة؟ قال: "السفيه يتكلّم في أمر العامة". (أخرجه أحمد (2/ 291) واللفظ له، وابن ماجه في الفتن، باب: شدة الزمان (4036)، قال البوصيري:"هذا إسناد فيه مقال؛ إسحاق بن بكر بن أبي الفرات قال الذهبي في الكاشف: مجهول، وقال السليماني: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات"، والحديث صححه الحاكم (4/ 512)، والألباني في الصحيحة (1887).

وفي حديث جبريل الطويل قوله: "ولكن سأحدثك عن أشراطها

وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها". (أخرجه البخاري في الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم (50)، ومسلم في الإيمان (9) واللفظ له).

قال ابن رجب رحمه الله: "فإنه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا؛ فإنه إذا كان رؤوس الناس من كان فقيراً عائلاً فصار ملكاً على الناس سواءً كان ملكه عاماً أو خاصاً في بعض الأشياء فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم، بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال، وإذا كان مع هذا جاهلاً جافياً فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جباية المال وإكثاره، ولا يبالي بما أفسد من دين الناس، ولا بمن أضاع من أهل حاجاتهم". (جامع العلوم والحكم (1/ 41).

ص: 254

2 -

ومنها: أن مخالفة هذه الملة سفه؛ مهما كان الإنسان حكيماً في قوله فإنه يعتبر سفيهاً إذا لم يلتزم بشريعة الله.

3 -

ومنها: فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث اصطفاه الله، واختاره على العالمين؛ لقوله تعالى:{ولقد اصطفيناه في الدنيا} .

4 -

ومنها: إثبات الآخرة؛ لقوله تعالى: {وإنه في الآخرة} .

5 -

ومنها: أن الصلاح وصف للأنبياء، ومن دونهم؛ فيوصف النبي بأنه صالح، ويوصف متبع الرسول بأنه صالح؛ ولهذا كانت الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يحيون الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بقولهم:«مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح» (1)؛ فوصفوه بالصلاح.

6 -

ومنها: أن المخالفين للرسل سفهاء؛ لقوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وقوله في المنافقين: {ألا إنهم هم السفهاء} [البقرة: 13]، وقوله تعالى:{سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]؛ فإنهم - وإن كانوا أذكياء، وعندهم علم بالصناعة، والسياسة - هم في الحقيقة سفهاء؛ لأن العاقل هو الذي يتبع ما جاءت به الرسل فقط.

القرآن

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131]

التفسير:

وسبب هذا الاختيار مسارعته للإسلام دون تردد، حين قال له ربه: أخلص نفسك لله منقادًا له. فاستجاب إبراهيم وقال: أسلمت لرب العالمين إخلاصًا وتوحيدًا ومحبة وإنابة.

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: 131]، أي:" إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة"(2).

قال مقاتل: " يقول أخلص"(3).

قال الزجاج: " معناه اصطفاه إِذ قال له ربه أسلم: أي في

ذلك الوقت" (4).

قال الثعلبي: " أي استقم على الإسلام أو اثبت عليه لأنّه كان مسلما كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، أي أثبت على علمك"(5).

قال ابن كثير: " أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد"(6).

قال الصابوني: " أي استسلم لأمر ربك وأخلصْ نفسك له"(7).

قال المراغي: أي: أخلص لي العبادة .. أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته" (8).

قال ابن عثيمين: أي: " اذكر إذ قال له ربه؛ فيكون أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينوه بهذه الحال التي كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم عليها"(9).

(1) أخرجه أحمد ج 2/ 381، حديث رقم 8939، وأخرجه الحاكم في مستدركه 2/ 613، وقال حديث صحيح على شرط مسلم؛ وأقره الذهبي، وقال ابن عبد البر: وهذا حديث مدني صحيح (التمهيد 24/ 334).

(2)

تفسير الطبري: 3/ 92.

(3)

تفسير مقاتل بن حيان: 1/ 140.

(4)

معاني القرآن: 1/ 211.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 446.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 219 - 220.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 72.

ص: 255

قال الراغب: "أي أخلص سرك فإنه موضع الاطلاع، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أخلص يكفك القليل من العمل " (1)، وبقوله: " الأعمال بالنيات " (2)، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيّنة: 5] "(3).

قال ابن عطية: " وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. والإسلام هنا على أتم وجوهه"(4).

قال أبو حيان: " هذا من الالتفات، إذ لو جرى على الكلام السابق، لكان: إذ قلنا له أسلم"(5).

في الآية الكريمة موضع (إذْ) نصب وفي عامله وجهان (6):

الوجه الأول: أنه نصب باصطفيناه، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم، وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به، فإن قيل قوله:{ولقد اصطفيناه} إخبار عن النفس وقوله: {إذ قال له ربه أسلم} إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحدا؟ قلنا: هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مرارا.

الوجه الثاني: أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.

وقد اختلف في معنى (الإسلام) في قوله تعالى {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: 131]، على أقوال (7):

أحدها: أنه بمعنى: الإستقامة والثبات، والمعنى: استقِمْ على الإسلامِ وَاثْبُتْ عليهِ؛ لأنه كان مُسْلِماً كقولهِ تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [محمد: 19] أي اثْبتْ على عِلْمِكَ (8).

الثاني: أن (الاسلام) هنا الإخلاص.

قال ابن كثير: "أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا (9).

وقال السمرقندي: معنى قوله (أسلم) يعني أخلص دينك لله فقال إبراهيم {أسلمت لرب العالمين} ، يعني أخلصت ديني لرب العالمين" (10).

قال الكلبيُّ: "مَعْنَاهُ: أخْلِصْ دينك للهِ بالتوحيد"(11). وروي مثله عن ابن كيسان (12).

الثالث: أن المراد بـ (الإسلامِ): تسليمُ الأمور إلى الله تعالى والانقيادُ له من غيرِ امتناعٍ وعِصْيَانٍ.

وقال عطاءُ: "سَلِّمْ نَفْسَكَ إلَى اللهِ وَفَوِّضْ أمْرَكَ إلَيْهِ"(13).

(1) أخرجه البيهقي في الشعب (6358)، : ص 9/ 174 - 175، وكنز العمال (5254) حديث ضعيف.

(2)

أخرجه البخاري (1)، (54)، (2529)، (3898)، (5070)، (6689)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمي (1647)، والنسائي (75)، (3437)، (3794)، وابن ماجة (4227)، وابن مبارك في الزهد والرقائق (1/ 62)، والطيالسي (37)، والحميدي في مسنده (28)، وأحمد في المسند (3000، 168)، والبزاز كما في البحر الزخار (257).

(3)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 318.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 213.

(5)

البحر المحيط: 1/ 343.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 62، وتفسير القرطبي: 2/ 134.

(7)

انظر: تفسير الطبراني: 1/ 87، وتفسير المراغي: 1/ 220، وتفسير ابن كثير: 1/ 446.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 220.

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 446.

(10)

تفسير بحر العلوم: 1/ 121.

(11)

تفسير الطبراني: 1/ 87، وانظر: تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(13)

تفسير الطبراني: 1/ 87، وتفسير الثعلبي: 1/ 279.

ص: 256

قال السمرقندي: "ويقال معناه فوض أمرك إلى الله فقال فوضت أمري إلى الله (1).

الرابع: وقيل معناه: "اخْضَعْ واخشَعْ"(2).

الخامس: وقيل: معناه: اعمل بالجوارح، لأن الإيمان هو صفة القلب، والإسلام هو صفة الجوارح، فلما كان مؤمناً بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح. قاله الرازي (3).

قلت: إن كلمة (الاسلام) تشمل جميع الأقوال السابقة، أي إسلام الباطن والظاهر. والله تعالى أعلم.

واختلفوا متى قيل له (أسلم) على قولين (4):

أحدهما: أنه قيل له ذلك قبل النبوّة، وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية، وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه، قال تعالى له (أسلم). وهذا قول الأكثرين.

الثاني: وقيل: كان بعد النبوّة، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة، إذ هو متحل به وقت الأمر، ويكون الإسلام هنا على بابه، والمعنى: على شريعة الإسلام.

قوله تعالى: {قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} [البقرة: 131]، "أي قال [إبراهيم]: أخلصت دينى لله الذي فطر الخلق جميعا" (5).

قال مقاتل: " يعني أخلصت لرب العالمين"(6).

قال الطبري: أي" قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره"(7).

قال المراغي: "ونحو هذا قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال: {أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام"(8).

الفوائد

1 -

من فوائد الآية: فضيلة إبراهيم عليه السلام، حيث لم يتوانَ، ولم يستكبر؛ فبادَر بقوله:{أسلمت لرب العالمين} حين قال له ربه عز وجل: {أسلم} ولم يستكبر؛ بل أقر؛ لأنه مربوب لرب العالمين.

2 -

ومنها: إثبات ربوبية الله سبحانه وتعالى العامة لكل أحد؛ لقوله تعالى: {لرب العالمين} .

3 -

ومنها: الإشارة إلى أن الخلق من آيات الله؛ لأنهم سُمّوا «عالمين» ، حيث إنهم عَلَم على خالقهم.

4 -

ومنها: المناسبة بين قوله تعالى: (أسلمت)، و (رب)؛ كأن هذا علة لقوله تعالى:(أسلمت)؛ فإن الرب هو الذي يستحق أن يُسْلَم له؛ الرب: الخالق؛ ولهذا أنكر الله سبحانه وتعالى عبادة الأصنام، وبيّن علة ذلك بأنهم لا يخلقون؛ قال تعالى:{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20، 21]؛ فتبين بهذا مناسبة ذكر الإسلام مقروناً بالربوبية.

5 -

ومن الفوائد الفرق بين الإسلام والإيمان:

فالإسلام في اللغة: الانقياد والخضوع. والإيمان في اللغة: التصديق والإقرار.

(1) تفسير بحر العلوم: 1/ 121.

(2)

تفسير الطبراني: 1/ 87، وانظر: تفسير الثعلبي: 1/ 279.

(3)

مفاتيح الغيب: 4/ 62.

(4)

انظر: تفسير بحر المحيط: 1/ 566 - 567.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 220.

(6)

تفسير مقاتل بن حيان: 1/ 140.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 92.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 220.

ص: 257

وأما في الشرع: فلكل منهما إطلاقان: بأن يذكر أحدهما غير مقترن بالآخر، أو يطلق مقترناً بالآخر.

ففي حال عدم اقترانهما: فالإسلام: الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال، والإيمان: قول واعتقاد وعمل.

فكلا التعريفين يفيد الدين كله، فيدخل أحدهما في الآخر.

قال ابن رجب: "فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة، لم يصر من قال: أنا مسلم مؤمنا بمجرد هذا القول، وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بالموت على الإسلام. وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق. وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم؛ قال: قال لي رسول الله –صلى الله عليه وسلم: يا عدي، أسلم تسلم، قلت: وما الإسلام؟ قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرها). فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام. ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع، وليس المراد الإتيان بلفظهما دون التصديق بهما، فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام، وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، بالتوحيد والتصديق طائفة من السلف، منهم محمد بن جعفر بن الزبير"(1).

وقال الشنقيطي رحمه الله: "فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل، كما ثبت في الصحيح في حديث وفد عبد القيس، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا

فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد" (2).

وأما حال اقترانهما: فإن أهل السنة والحديث مختلفون في ذلك على قولين:

1.

القول الأول: إنهما شيء واحد، وممن قال به: محمد بن نصر المروزي، وابن عبد البر، وقد روي هذا القول عن سفيان الثوري (3) ونسب للبخاري (4)، وابن حبان البستي (5)، وأبو طالب المكي (6)، وابن مندة (7)، وذهب إليه ابن حزم (8)، والبيهقي (9)، ونسبه المروزي للجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث (10)، ونسبه ابن عبد البر (11) إلى عامة أهل الفقه والنظر والمتبعين للسلف والأثر (12).

2.

والقول الثاني: التفريق بينهما: وقال به جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عباس والحسن وابن سيرين (13)، ونقل عن كثير من السلف (14) منهم: قتادة، وداود بن أبي هند، وأبو جعفر الباقر، والزهري،

(1) جامع العلوم والحكم ص (113).

(2)

أضواء البيان (7/ 297).

(3)

من رواية أيوب بن سويد الرملي عنه، وأيوب فيه ضعف، كذا قال ابن رجب في شرحه لكتاب الإيمان من الصحيح.

(4)

وهذه النسبة تحتاج إلى مزيد تأمل وممن نسب له ذلك ابن رجب وابن حجر في شرحيهما للصحيح.

(5)

فإنه ذكر في تبويبات صحيحه كما في الإحسان (1/ 375): (ذكر الخبر الدال على أن الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد)، ورد على من يرى التفريق بقوله:(ذكر خبرٍ أوهم عالماً من الناس أن الإسلام والإيمان بينهما فُرقان) كما في الإحسان (1/ 380).

(6)

فقد ذكر ما يؤيد هذا –نوعا ما- وإن كان كلامه له محمل، في: الفصل الخامس والثلاثون: (ذكر اتصال الإيمان بالإسلام في المعنى والحكم وافتراقهما في التفصيل والاسم). انظر: قوت القلوب (2/ 216).

(7)

حيث عقد باباً لبيان أخبار من فرق بين الإيمان والإسلام، ثم عقد باباً في كتابه الإيمان (1/ 321):(ذكر الأخبار الدالة والبيان الواضح من الكتاب أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد .. الخ).

(8)

انظر: الدرة فيما يجب اعتقاده ص 359، الفصل (3/ 269).

(9)

انظر: الاعتقاد للبيهقي ص 230.

(10)

انظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 529).

(11)

انظر: التمهيد (9/ 250).

(12)

قال ابن رجب: فحكاية ابن نصر وابن عبد البر عن الأكثرية التسوية بينهما غير جيد بل قد قيل إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق" انظر: فتح الباري (1/ 130) وجامع العلوم (1/ 107).

(13)

انظر: الإيمان لابن منده (1/ 311).

(14)

وقد ذكر شيخ الإسلام أنه لا يعرف عن أحد من السلف ولا من المتقدمين خلافه، ثم قال:"ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء" مجموع الفتاوى (7/ 359).

ص: 258

والنخعي، وحماد بن زيد، وابن مهدي، وشريك، وابن أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن السمعاني، وغيرهم، من الأئمة على اختلاف بينهم في صفة التفريق بينهما (1).

وقد نصر هذا القول الخلال وابن بطة والخطابي واللالكائي وأبو يعلى والبغوي وأبو القاسم التيمي (2). قال شيخ الإسلام: "التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي –صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان: بالإيمان بالأصول الخمسة فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي –صلى الله عليه وسلم"(3). وقال ابن رجب: "والتحقيق في الفرق بينهما: أن الإيمان هو تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد لله، وخضوعه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدين، كما سمى الله في كتابه الإسلام دينا"(4).

وأما أقوال المخالفين في التفريق بين الإسلام والإيمان، فقد أجمل شيخ الإسلام أقوال المخالفين في هذه المسألة بقوله: "والمقصود هنا: أن هنا قولين متطرفين:

- قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإسلام.

- وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد.

وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما نصر محمد بن نصر المروزي القول الثاني: لم يكن معه حجة على صحته؛ ولكن احتج بما يبطل به القول الأول" (5).

فالأول: قول المرجئة:

قال شيخ الإسلام: "فالمعروف من كلام المرجئة الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان، ويقولون: الإسلام بعضه إيمان، وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل"(6). وقال تعليقاً على قول معقل بن عبد الله العبسي عن المرجئة: (وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين): "قلت: قوله عن المرجئة: إنهم يقولون إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قد يكون قول بعضهم، فإنهم كلهم يقولون ليستا من الإيمان، وأما من الدين، فقد حكي عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين، ولا نفرق بين الإيمان والدين، ومنهم من يقول: بل هما من الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، وهذا هو المعروف من أقوالهم التي يقولونها عن أنفسهم، ولم أر أنا في كتاب أحد منهم أنه قال: الأعمال ليست من الدين، بل يقولون: ليست من الإيمان"(7).

والمقصود أن مبنى قول المرجئة في التغاير بين الإسلام والإيمان مبناه على أن الإسلام هو الدين، والإيمان والأعمال من الدين، وليست هي الدين؛ فإن الإيمان لا يتجزئ، فلما كان التجزؤ في الأعمال ظاهر دل على أنها ليست منه، وإنما هي من الدين وثمرة للإيمان.

والثاني: قول الخوارج والمعتزلة والرافضة (8):

(1) انظر: جامع العلوم والحكم ص (107).

(2)

انظر: السنة للخلال (1/ 479 - 482)، الإبانه الصغرى ص 199، معالم السنن (4/ 315)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 892)، الإيمان لأبي يعلى ص 321، شرح السنة للبغوي (1/ 10)، الحجة في بيان المحجة (1/ 406).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 259).

(4)

جامع العلوم والحكم ص (108).

(5)

مجموع الفتاوى (7/ 375).

(6)

مجموع الفتاوى (7/ 380).

(7)

مجموع الفتاوى (7/ 207).

(8)

ذكره عنهم المروزي كما في تعظيم قدر الصلاة ص 361، وانظر: مجموع الفتاوى (7/ 242).

ص: 259

ومبنى قولهم في الترادف هو التزامهم بعدم تجزئ الإسلام والإيمان فإذا زال بعضه زال كله؛ ولذلك كفروا بالكبيرة.

وخشية التباس قول المرجئة بقول السلف في هذه المسألة فإنه قد يُظن أن قولهم واحد؛ بسبب الاتفاق في ظاهر القول دون مضمونه قال شيخ الإسلام: "قد يظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا هو قول السلف الذي دل عليه الكتاب والسنة: من أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وبينهما من التباين أعظم مما بين قول السلف وقول المعتزلة في الإيمان والإسلام؛ فإن قول المعتزلة في الإيمان والإسلام أقرب من قول الجهمية بكثير، ولكن قولهم في تخليد أهل القبلة أبعد عن قول السلف من قول الجهمية.

فالمتأخرون الذين نصروا قول جهم في مسألة الإيمان يظهرون قول السلف في هذا وفي الاستثناء وفي انتفاء الإيمان الذي في القلب حيث نفاه القرآن ونحو ذلك. وذلك كله موافق للسلف في مجرد اللفظ وإلا فقولهم في غاية المباينة لقول السلف؛ ليس في الأقوال أبعد عن السلف منه (1).

وقول المعتزلة والخوارج والكرامية (2) في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية

فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم؛ والجهمية وإن كانوا في قولهم: بأن الفساق لا يخلدون أقرب في الحكم إلى السلف فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة ما لا يوجد مثله لغيرهم" (3).

وعلى هذا صار الخلاف في مسألة التفاضل بين الإيمان والإسلام؟ قال شيخ الإسلام: "ولهذا صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال:

- فالمرجئة يقولون: الإسلام أفضل، فإنه يدخل فيه الإيمان.

- وآخرون يقولون: الإيمان والإسلام سواء، وهم المعتزلة والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة، وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، وليس كذلك.

- والقول الثالث: أن الإيمان أكمل وأفضل، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان" (4).

وبهذا يتضح صحة قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وغيرها من المسائل، وكل ذلك مبناه على النصوص الشرعية وعلى عدم التقدم بين يدي الله ورسوله، فكان الحق بفضل الله حليفهم، وتحري الصواب بغيتهم. والله ولي التوفيق.

القرآن

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]

التفسير:

وحثَّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهما على الثبات على الإسلام قائلَيْن: يا أبناءنا إن الله اختار لكم هذا الدين- وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلا تفارقوه أيام حياتكم، ولا يأتكم الموت إلا وأنتم عليه.

(1) وهذا التقرير من شيخ الإسلام يفيد فائدتين:

الأولى: أن صحة القول ليست متوقفة على الموافقة في الظاهر لقول أهل السنة، وإنما العبرة في حقيقة القول. فمشابهة الوعيدية أهل السنة في صورة تعريفهم للإيمان لا عبرة بها، وهكذا قول من يوافق أهل السنة في تعريف الإيمان ويرى تحقق إيمان من انتفت عنه الأعمال بالكلية، فهذه موافقة في الظاهر لا في حقيقة القول، فلا عبرة بها أيضاً.

الثانية: أن الإمام المروزي ومن تبعه إنما الخلاف معهم في العبارات والتوجيهات للنصوص الواردة في ذلك، والاتفاق حاصل في حقيقة المعنى والحكم المترتب عليه، ولذلك كان الخلاف يسيراً.

(2)

معلوم أن الكرامية من المرجئة، وقول المرجئة بالتفريق بين الإسلام والإيمان أوجه بالنسبة لأصلهم في الإيمان، وموقف الكرامية في هذه المسألة يحتاج إلى مزيد تأمل، والله أعلم.

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 158 - 159).

(4)

مجموع الفتاوى (7/ 414).

ص: 260

قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]، "أي وصّى الخليل أبناءه باتباع ملته وكذلك يعقوب أوصى بملة إِبراهيم"(1).

قال ابن عباس: " وصاهم بالإسلام. وصية الله دين الله"(2).

وعن ابن عباس أيضا: " وصى يعقوب بنيه بمثل ذلك- يعني بالإسلام وصية الله دين الله"(3). وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك.

قال مقاتل: " يعني بالإخلاص إبراهيم بنيه الأربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ثم وصى بها يعقوب بنيه يوسف وإخوته اثني عشر ذكرا بنيه ويعقوب"(4).

قال الطبري: "أي: ووصى بهذه الكلمة-وهو قوله: أسلمت لرب العالمين وهي (الإسلام) -الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له، فعهد ابراهيم بنيه (5) بذلك وأمرهم به"(6).

قال الثعلبي: أي: " ووصى بها أيضا، ويعقوب: بنيه الأثني عشر وهم: روفيل أكبر ولده، وشمعون ولاوي وهودا وفريالون وسجر ودان ومفتالي وجاد واشرب ويوسف وابن يافين"(7).

قال أبو السعود: قوله تعالى {ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} : شروعٌ في بيان تكميلِه عليه السلام لغيره إثرَ بيانِ كماله في نفسه وفيه توكيدٌ لوجوب الرغبة في مِلته عليه السلام والتوصيةُ التقدمُ إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاح للمسلمين من فعلٍ أو قولٍ" (8).

قال الراغب: " الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ واشتقاقه من وصاه أي وصله، ومضاده قصاه أي فصله"(9).

واختلف في عود الضمير المتصل (الهاء) في قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا} [البقرة: 132]، على أقوال (10):

أحدهما: أنه عائد إلى (الملة) في قوله تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]، وقوله (وَصَّى بِهَا)، أي: وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله.

الثاني: وقيل أنه يعود إلى (الكلمة) وهي قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ "ونحوه رجوع الضمير في قوله تعالى:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28]، إلى قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا

(1) صفوة التفاسير: 1/ 85.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1275): ص 1/ 239.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1276): ص 1/ 239.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 140.

(5)

بنيه: بنو إبراهيم، إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، ومدين: ومديان، ونقشان، وزمزان، ونشق، ونقش سورج، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية. هؤلاء الثمانية ولده لصلبه، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير. (تفسير البحر المحيط: 1/ 570).

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 93 - 94.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 280. وأخرج الطبري عن محمد بن إسحاق قال: " نكح يَعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل - ابنة خاله " ليا " ابنة " ليان بن توبيل بن إلياس "، فولدت له " روبيل بن يعقوب "، وكان أكبر ولده، و " شمعون بن يعقوب "، و " لاوي بن يعقوب " و " يهوذا بن يعقوب " و " ريالون بن يعقوب "، و " يشجر بن يعقوب "، و " دينة بنت يعقوب "، ثم توفيت " ليا بنت ليان ". فخلف يعقوب على أختها " راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس " فولدت له " يوسف بن يعقوب " و " بنيامين " - وهو بالعربية أسد - وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما " زلفة "، واسم الأخرى " بلهية "، أربعة نفر:" دان بن يعقوب "، و " نَفثالي بن يعقوب " و " جَاد بن يعقوب "، و " إشرب بن يعقوب " فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [سورة الأعراف: 160] ". [تفسير الطبري (2107): ص 3/ 112 - 113].

(8)

تفسير أبي السعود: 1/ 163.

(9)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 319.

(10)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 446، وتفسير القرطبي/ 2/ 135. وتفسير البحر المحيط: 1/ 570، وتفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 319.

ص: 261

الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]، وقوله:{كَلِمَةً بَاقِيَةً} دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة" (1).

قال الراغب: " وكلاهما غير منفك من الآخر، إذ كانت هذه الكلمة من جملة الملة، والملة مقتضية لهذه الكلمة، فبين تعالى أن إبراهيم وصى بنيه، ووضع يعقوب بنيه أيضا بها كما أوصى إبراهيم"(2).

الثالث: وقيل: أنه يعود على كلمة الإخلاص وهي: لا إلاه إلا الله، وإن لم يجر لها ذكر، فهي مشار إليها من حيث المعنى، إذ هي أعظم عمد الإسلام. وهذا قول الكلبي ومقاتل (3).

الرابع: وقيل: يعود على الوصية الدال عليها ووصى.

الخامس: وقيل: يعود على الطاعة. قاله المفضل (4).وذلك كقوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} [ص: 32]، وومنه قول طرفة (5):

على مثلها الحواء إذا قال صاحبي

ألا ليتني أفديك عنها وافتدي

أي من الفلاة (6).

قلت: والقول الثاني أقرب إلى الصواب، للأسباب الآتية:

أولا: لأنه أقرب مذكور، أي (قولوا أسلمنا)، وأن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم، فـ"العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم. وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة، إذ الكلمة بعض الملة. ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة "(7).

ثانيا: أن (الملة) أجمع من تلك الكلمة، ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك (8). والله أعلم.

وقوله {وَصَّى} [البقرة: 132](9) فيه قراءتان (10):

إحداهما: بهمزة مفتوحة مع تخفيف الصاد: {أَوصَى} ، بمعنى عهد. وهي في مصحف عثمان، وهي قراءة نافع وابن عامر، وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام.

والثانية: بحذف الهمزة مع تشديد الصاد: {وصَّى} ، فيه معنى التكثير، أي: أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية. وهي في مصحف عبدالله.

والمعنى في القراءتين واحد، إلا أن في {وصّى} دليل مبالغة وتكثير.

قال الشيخ ابن عثيمين: وقراءة: {أوصى} لا تنطبق عليها الشروط الثلاثة في القراءة، والمجموعة في البيتين، وهما (11):

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 67.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 319.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 280.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 280.

(5)

شرح المعلقات السبع: 56.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 280.

(7)

تفسير البحر المحيط: 1/ 570.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 67.

(9)

قال ثعلب: أملى عليّ خلف بن هشام البزار، قال: اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً. كتب أهل المدينة: وأوصى، وسارعوا، يقول، الذين آمنوا من يرتدد، الذين اتخذوا، مسجداً خيراً منهما، فتوكل، وأن يظهر، بما كسبت أيديكم، ما تشتهيه الأنفس، فإن الله الغني، ولا يخاف عقباها. وكتب أهل العراق: ووصى، سارعوا، ويقول، من يرتد، والذين اتخذوا، خيراً منها، وتوكل، أن يظهر، فيما كسبت أيديكم، ما تشتهي، فإن الله هو، فلا يخاف. (تفسير البحر المحيط: 1/ 570).

(10)

انظر: السبعة في القراءات: 171، وتفسير الطبري: 3/ 95 - 96.

(11)

متن طيبة النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (ت 833 هـ):32.

ص: 262

كُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ نَحْوِ

وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالاً يَحْوِي

وَصَحَّ إسْنادًا هُوَ الْقُرآنُ

فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ الأَرْكَانُ

عليه فإن (أوصى) لم تتفق في الرسم؛ إذاً الشروط أو الأركان التي ذكرت بناءً على الأغلب.

وأما {إِبْرَاهِيمُ} ففيه قراءتان (1):

إحداهما: بكسر الهاء بعدها ياء: (إِبْرَاهِيمُ). وهي قراءة القراء في كل مصر، غير ابن عامر.

والثانية: بفتح الهاء بعدها ألف: (إبراهام). قاله الأخفش الدمشقي عن ابن ذكوان عن ابن عامر.

قال أبو علي: "مما يثبت قراءة ابن عامر قول أمية (2):

مع إبراهم التقي وموسى

وابن يعقوب عصمة في الهزال

فهذا كأنه إبراهام، إلا أنه حذف الألف، كما يقصر الممدود في الشعر. وأنشدوا (3):

عذت بما عاذ به إبراهم

وقيل: إنهم كتبوا ما في البقرة بغير ياء، فهذا يدل على أنه إبراهام، وحذفت الألف من الخط، كما حذفت من دراهم، ونحو ذلك، فيشبه أنه قرأ إبراهام وما ثبت فيه مما يدلك على ذلك. وقد روي أنه سمع ابن الزبير يقرأ:{صحف إبراهام} [الأعلى: 19] بألف" (4).

وقوله {يعقوب} (5) كذلك فيه قراءتان (6):

احداهما: برفع (يعقوب) رفعا على (إبراهيم)، أي: ويعقوب وصّى بهذا أيضا بنيه، وهي قراءة القراء العشرة.

روي عن قتادة قوله: " {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}، يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم"(7). وروي عن ابن عباس مثله (8).

قال أبو حيان: "فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه.

(1) انظر: السبعة: 169.

(2)

البيت من شواهد أبو علي الفارسي في الحجة: 2/ 226، ولم يرد في ديوانه. وهو فيما يبدو من قصيدته المذكورة برقم 62 ص 439.

(3)

قاله زيد بن عمرو بن نفيل وتتمته:

مستقبل القبلة وهو قائم

أنفي لك اللهم عان راغم

مهما تجشمني فإني جاشم انظر السيرة النبوية 1/ 230. ونسبه في اللسان (برهم) لعبد المطلب.

(4)

الحجة للقراء السبعة: 2/ 226 - 227.

(5)

جاء في تفسير البحر المحيط: " يعقوب: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية، ويعقوب عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً. الحضور: الشهود، تقول منه: حضر بفتح العين، وفي المضارع: يحضر بضمهما، ويقال: حضر بكسر العين، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال: يحضر، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت: حضر يحضر بالضم، وهي ألفاظ شذت فيها العرب، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها، قالوا: نعم ينعم، وفض يفضل، وحضر يحضر، ومت تموت، ودمت تدوم، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها. قالوا: ضللت بكسر العين، تضل بالكسر، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين. وإسحاق: اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر إسحاق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبه ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسار له. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر: الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى. (تفسير البحر المحيط: 1/ 568 - 569).

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 135. وتفسير ابن كثير/ 1/ 446.

(7)

أخرجه الطبري في تفسيره (2086): ص 3/ 94.

(8)

انظر: الطبري في تفسيره (2087): ص 3/ 94 ..

ص: 263

[والثاني]: ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى" (1).

ثم قال: " والأول أظهر"(2).

والثانية: - وروي عن علي بن أبي طالب أنها قرئت قراءة شاذة بنصب باء (يعقوب). وقرأه: "إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب"(3).

والقراءة بالرفع هو الأشهر وعليه الجمهور، ومعناه: أنه وصى كوصية إبراهيم.

وأما القراءة بالنصب عطفًا على (بنيه)، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى القشيري، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [الآية: 27] وقال في الآية الأخرى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال:"المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" الحديث (4). فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين (5).

وقال بعضهم: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} ، خبر منقض، وقوله:{ويعقوب} خبر مبتدأ، فإنه قال:{ووصى بها إبراهيم بنيه} ، بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه: أن: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وهذا القول فيه نظر، لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه وهو الحث على طاعة الله، والخضوع له، والإسلام (6).

قوله تعالى: {يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدين} [البقرة: 132]، أي:"إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم"(7).

قال مقاتل: " يعني اختار لكم الدين يعني دين الإسلام"(8).

قال الرازي: أي استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره (9).

قال الثعلبي: أي" اختار لكم الإسلام"(10).

(1) تفسير البحر المحيط: 1/ 570.

(2)

تفسير البحر المحيط: 1/ 570.

(3)

تفسير البحر المحيط: 1/ 570.

(4)

صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520).

(5)

انظر: تفسير ابن كثير/ 1/ 446.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 93.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 96.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 140.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 68.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 281.

ص: 264

قال البيضاوي: أي: " دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "(1).

قال أبو السعود: أي: " دينَ الإسلامِ الذي هو صفوةُ الأديان ولا دينَ غيرُه عنده تعالى"(2).

قال الصابوني: " أي اختار لكم دين الإِسلام ديناً وهذا حكاية لما قال إبراهيم ويعقوب لأبنائهما"(3).

والألف واللام في {الدين} للعهد، لأنهم كانوا قد عرفوه، وهو دين الإسلام.

وقوله {اصْطَفَى} [البقرة: 132]، أي:"اختار"(4)، قال الراجز (5):

يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا

خلافة الله التي أعطاكا

لك اصطفاها ولها اصطفاكا

قال الثعلبي: " {يا بَنِيَّ}، معناه: أن يا بنيّ، وكذلك في قراءة أبي وابن مسعود"(6).

وعلى قراءة: {أن يا بَنِيَّ} ، يتعين أن تكون {أن} هنا تفسيرية بمعنى (أي)، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها، ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون (7).

وقوله تعالى {الدِّينَ} [البقرة: 132]، "أي العبادة، والعمل؛ ويطلق على الجزاء؛ ففي قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، المراد بـ (الدين) الجزاء؛ وفي قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاً} [المائدة: 3]؛ (الدين): العبادة؛ فالدين يطلق على هذا، وعلى هذا - على العمل، وعلى الجزاء عليه -؛ ومنه قولهم: كما تدين تدان، يعني كما تعمل تُجازى"(8).

قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، أي: فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم على الإسلام" (9).

قال مقاتل: " يعني مخلصون بالتوحيد"(10).

قال الثعلبي: اي إلا وأنتم: "مؤمنون"(11).

قال السعدي: "لأن من عاش على شيء، مات عليه، ومن مات على شيء، بعث عليه"(12).

قال الصابوني: " أي اثبتوا على الإِسلام حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به"(13).

وقال الفضيل بن عياش: " أي: محسنون بربّكم الظن"(14).

قال الطبري: أي: "فلا تفارقوا هذا الدين - وهو الإسلام - أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه، فلذلك قالا لهم: " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون "، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 164.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(4)

تفسير القرطبي: 2/ 136.

(5)

لم أتعرف على قائله، وقد ذكره القرطبي في تفسيره: 2/ 136.

(6)

تفسير الثعلبي: 1/ 281.

(7)

انظر: تفسير البحر المحيط: 1/ 571.

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 31.

(9)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 66.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 140.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 281.

(12)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 66.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(14)

تفسير الثعلبي: 1/ 281.

ص: 265

نهار، فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم ساخط عليكم، فتهلكوا" (1).

أخرج ابن أبي حاتم عن طاوس: " {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، على الإسلام وعلى ذمة الإسلام"(2).

قال البيضاوي: "المقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، والأمر بالثبات على الإسلام كقولك: لا تصلِّ إلا وأنت خاشع، وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن من حقه أن لا يحل بهم، ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد"(3).

قال أبو السعود: " المقصودُ الأمرُ بالثبات على الإسلام إلى حين الموتِ أي فاثبُتوا عليه ولا تفارقوه أبداً"(4).

وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث [الصحيح]"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(5)؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس. وقد قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10](6).

(1) تفسير الطبري: 3/ 96 - 97. وقال أبو حيان: " (فَلا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ): هذا استثناء من الأحوال، أي إلا على هذه الحالة، والمعنى: الثبوت على الإسلام، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهى عن الموت، ونظير ذلك في الأمر: مت وأنت شهيد، لا يكون أمراً بالموت، بل أمر بالشهادة، فكأنه قال: لتستشهد في سبيل الله، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها، كان متذكراً للموت دائماً، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً، . وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام، ونظير ذلك قولهم: لا أرينك هنا، لا ينهي نفسه عن الرؤية، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان، فيكون يراه، فكأنه قال: اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.

وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف، منها: الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت. ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين، حتى وصى به من كان ملتبساً به، إذ كان بنوه على دين الإسلام. ومنها اختصاصه ببنيه، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم. ومنها أنه عمم بنيه، ولم يخص أحداً منهم، كما جاء في حديث النعمان بن بشير، حين نحله أبوه شيئاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ " ورد نحله إياه وقال: لا أشهد على جور. (صحيح البخاري (2446). ومنها إطلاق الوصية، ولم يقيدها بزمان ولا مكان. ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين. ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم". (تفسير البحر المحيط: 1/ 571).

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (1277): ص 1/ 239.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 107، ونقله بتمامه أبو السعود في تفسيره: 1/ 164.

(4)

تفسير أبي السعود: 1/ 164.

(5)

رواه البخاري (3208) ومسلم (2643)، عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا - نطفة - ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

إن هذا حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان من مبدأ خلقه ومجيئه إلى هذه الحياة الدنيا إلى آخر أحواله من الخلود في دار السعادة أو الشقاء، بما كان منه في الحياة الدنيا من كسب وعمل وفق ما سبق في علم الله وقدره وقضائه. (الوافي في شرح الأربعين (24). وقال ابن الملقن رحمه الله: لو أمعن الأئمة النظر في هذا الحديث كله من أوله إلى آخره، لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (10/ 59 ح 393).

(6)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 446 - 447.

ص: 266

وقوله تعالى: {إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، جملة حالية يراد بها استمرارهم على الإسلام إلى الممات، وكان الصالحون من سلف الأمة يخشون سوء الخاتمة، ولا يفترون عن ذكر الموت مع ما هم عليه من الإيمان والطاعة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت، قال:"أكثروا ذكر هاذم اللذات"(1)، وكل هذا من أجل أن يبقى المرء متمسكاً بما وجب عليه ومبتعداً عما نهي عنه حتى يموت وهو كذلك. اللهم تجاوز عن زلاتنا، واغفر خطيئاتنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

الفوائد:

1 -

أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين (2):

أ- أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال: وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتما بهذا الأمر متشددا فيه، كان القول إلى قبوله أقرب.

ب- أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصهم بذلك في آخر عمره، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره.

ت- أنه عمم بهذه الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين، وذلك يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر.

ث- أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل أيضا على شدة الاهتمال بهذا الأمر، ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام، وأجراها بالرعاية، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبدا إلى الإسلام والدين.

2 -

ومن فوائد الآية: أهمية هذه الوصية؛ لأنه اعتنى بها إبراهيم، ويعقوب؛ فإبراهيم أبو العرب والإسرائيليين؛ ويعقوب أبو الإسرائيليين؛ فهذان الرسولان الكريمان اعتنيا بها، حيث جعلاها مما يوصى به.

3 -

ومنها: أنه ينبغي العناية بهذه الوصية اقتداءً بإبراهيم، ويعقوب.

4 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى اختار لعباده من الدين ما هو أقوم بمصالحهم؛ لقوله تعالى: {اصطفى لكم الدين} ؛ فلولا أنه أقوم ما يقوم بمصالح العباد ما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده.

5 -

ومنها: أنه ينبغي التلطف في الخطاب؛ لقوله تعالى: {يا بنيّ} ؛ فإن نداءهم بالبنوة يقتضي قبول ما يلقى إليهم.

6 -

ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتعاهد نفسه دائماً حتى لا يأتيه الموت وهو غافل؛ لقوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .

7 -

ومنها: أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .

القرآن

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133]

التفسير:

أكنتم أيها اليهود حاضرين حين جاء الموتُ يعقوبَ، إذ جمع أبناءه وسألهم ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا، ونحن له منقادون خاضعون.

في سبب نزول الآية وجوه:

(1) رواه البيهقي في الشعب (826)، وحسنه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب (3334).

(2)

انظر: تفسير الراي: 4/ 67.

ص: 267

أحدها: قال الواحدي: " نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية"(1). وذكره الثعلبي (2) في تفسيره.

الثاني: قال الطبري: "وهذه آيات نزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية: "{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} ، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له (3).

الثالث: وقال الكلبي: "لمّا دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيّران، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك"(4)" فقال: ما تعبدون من بعدي؟ "" (5).

الرابع: وقال ابن ظفر: "قيل: إن سبب نزولها أن اليهود اعتذروا عن امتناعهم من الإسلام بأن يعقوب أوصى الأسباط عندما حضره الموت بأن لا يبتغوا بملة اليهود بدلا فنزلت {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاء} "(6).

قال الحافظ ابن حجر: " فإن الآية تضمنت أن يعقوب خاطب أولاده عند موته محرضاً لهم على الثبات على الإِسلام، وقال له أولاده: إنهم يعبدون إلهه وإله آبائه إبراهيم وإسماعيل (7) وإسحاق (8) "(9).

قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133]، أي: أكنتم - يا معشر اليهود والنصارى، حضورَ يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت" (10).

قال أبو العالية: " {أم كنتم شهداء}، يعني أهل الكتاب"(11).

قال الزجاج: أي: " بل أكنتم شهداءَ إذ حضر يعقوب الموت"(12).

قال الطبري: " أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتَنحلوهم اليهوديةَ والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم - وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم - بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم (13).

(1) أسباب النول: 41.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 281.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 98.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 281.

(5)

زاده ابن حجر في العجاب: 1/ 380.

(6)

الفتح السماوي للمناوي: 1/ 183 - 184": "قال السيوطي: لم أقف عليه".

فإذا لم يكن له سند، فلا يعتمد، وانظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 380.

(7)

إسماعيل عم ليعقوب لا والد له، وسمي أباً من باب تغليب الأكثر على الأقل أو لأن العرب تطلق على العم أباً كما نص على ذلك غير واحد. انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 265، لسان العرب لابن منظور: 1/ 16، تاج العروس للزبيدي: 19/ 132، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 138، الدر المصون للسمين: 1/ 380، لباب التأويل للخازن: 1/ 84، روح المعاني للألوسي: 1/ 391. ويؤيد الثاني ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 7/ 518 (باب: ما ذكر في العباس) رقم: 2 بسند صحيح مرسل إلى مجاهد: (احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي)، وهو عند الطبراني في الكبير: 11/ 80 رقم: 11107 عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (استوصوا بعمي العباس خيراً فإنه بقية آبائي)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 9/ 269: (وفيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال: ربما أخطأ، وبقية رجاله وثقوا)، وهو عند الطبراني أيضاً في الأوسط: 1/ 254 من حديث الحسن بن علي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 9/ 269: (وفيه جماعة لم أعرفهم)، وعند الخطيب البغدادي في تاريخه: 10/ 68 من حديث المطلب بن ربيعة، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الجامع: 32 رقم: 214 و: 215 من حديث الحسن والمطلب.

(8)

انظر: جامع البيان للطبري: 3/ 98 - 99، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 365، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 137 - 138، تفسير ابن كثير لابن كثير: 1/ 232، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 48.

(9)

الفتح: 6/ 477.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 97 - 98. وقوله {شهداء} جمع شاهد أي حاضر. (انظر: تفسير القرطبي: 2/ 137).

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1278): ص 1/ 239.

(12)

معاني القرآن: 1/ 212.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 97 - 98.

ص: 268

قال الزمخشري: " أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أى حين احتضر"(1).

قال الصابوني: " أي بل أكنتم شهداء حين احتضر يعقوب وأشرف على الموت وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم"(2).

قال البيضاوي: " أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه"(3).

قال ابن عطية: " هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية والإسلام، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم؟ ، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون"(4).

قال الحسن: " يقول: لم يشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من الناس يعقوب، إذ أخذ على بنيه الميثاق، إذ حضره الموت أن لا يعبدوا إلا إياه فأقروا بذلك، وشهد عليهم أن قد أقروا بعبادتهم، وأنهم مسلمون"(5).

وقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133]، أي: أكنتم، ولكنه استفهم بـ (أم)، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل:{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} [السجدة: 1 - 3]، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه بـ (أم)(6).

قال القفال قوله: " {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} أن (إذ) الأولى وقت الشهداء، والثانية وقت الحضور"(7).

وقوله تعالى: {إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا" (8).

قال ابن عطية: " وقدم (يعقوب)، على جهة تقديم الأهم"(9).

واختلف العلماء في الخطاب الموجه في قوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133]، على وجهين (10):

أحدهما: أن الخطاب للمؤمنين، والمعني:"ما شاهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي"(11).

الثاني: وقيل الخطاب لليهود، "لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبىُّ إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدّعون على الأنبياء اليهودية؟ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، يعنى أن أوائلكم من بنى إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ " (12).

(1) الكشاف: 1/ 192.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 213.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1279): ص 1/ 240.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 97.

(7)

مفاتيح الغيب: 4/ 69.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 137.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 214.

(10)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 107، وتفسير الكشاف: 1/ 192 - 193.

(11)

تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(12)

تفسير الكشاف: 1/ 193.

ص: 269

قال صاحب الكشاف: " وقرئ (حضِر) بكسر الضاد وهي لغة"(1).

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133]، (2) أي: إذ قال يعقوب لبنيه: أي شيء تعبدون من بعد وفاتي؟ " (3)(4).

قال البيضاوي: " أي: أي شيء تعبدونه، أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما"(5).

قال ابن عثيمين: " بدؤوا به؛ لأنهم يخاطبونه"(6).

وقد عبر عن المعبود بـ (بما) ولم يقل (مَن)، وذلك لوجهين:

الأول: لأن " (ما) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون"(7)، فأراد أن يختبرهم، ولو قال (من) لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال (ما)، وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه (8).

الثاني: ومن وجه آخر فإن قوله: (مَا تَعْبُدُونَ) كقولك عند طلب الحد والرسم: ما الإنسان (9)، قال صاحب الكشاف:" ويجوز أن يقال: (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود. كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات"(10).

ومعنى {مِنْ بَعْدِي} ، أي من بعد موتي (11).

(1) تفسير الكشاف: 1/ 193، وانظر: تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(2)

قال الرازي: " هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل:

الأول: المقلدة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف.

الثاني: التعليمية: قالوا: لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، بل قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم.

والجواب: كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي، فليس فيها أيضا دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم، ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلا على سبيل الاستدلال، أقصى ما في الباب أن يقال: فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال.

والجواب عنه من وجوه، أولها: أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى

بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله.

وثانيها: أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له.

وثالثها: لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله: {قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم} (البقرة: 21) وههنا مرادهم بقولهم: {نعبد إلاهك وإلاه آبائك} أي: نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد. (مفاتيح الغيب: 4/ 70).

(3)

تفسير الطبري: 3/ 98.

(4)

قيل: أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضا لهم على التمسك بعبادة الله تعالى. وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إهلك وإله آبائك ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين:

الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.

الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوما صالحين وذلك لا يليق بحالهم. (مفاتيح الغيب: 4/ 70).

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 107.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 77.

(7)

مفاتيح الغيب: 4/ 69.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 137.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 69.

(10)

تفسير الكشاف: 1/ 193.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 98.

ص: 270

قال ابن عطية: "وحكي أن يعقوب حين خير كما تخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} الآية، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى"(1).

قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، أي: قالوا: "نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق"(2).

قال أبو حيان: أي" الإله الذي دل عليه وجود آبائك، وهذا إشارة إلى الاستدلال"(3).

قال ابن عباس: " {نعبد}، يعني نوحّد"(4).

قال أبو العالية: "فسمى عمه أباه"(5).

قال موسى بن عبيدة: "سمعت محمد بن كعب يقول: الخال والد، والعم والد: {قال ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك}، إلى آخر الآية"(6).

و(الإله): هو"الذي يستحق أن يكون معبودا، قال ابن منظور: (أله) الإلَهُ الله عز وجل وكل ما اتخذ من دونه معبوداً إلَهٌ عند متخذه والجمع آلِهَةٌ والآلِهَةُ الأَصنام سموا بذلك لاعتقادهم أَن العبادة تَحُقُّ لها وأَسماؤُهم تَتْبَعُ اعتقاداتهم لا ما عليه الشيء في نفسه"(7).

وقال أبو منصور الأزهري: " قال الليث بلغنا أن اسم الله الأكبر هو الله لا إله إلا هو وحده

والتأله التعبد" (8).

وقال الزنجاني: " أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة، وقولنا الله أصل هذا الاسم "إله" على فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي معبود فلما أدخل عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام"، والتأله التعبد" (9).

وقال أبو الحسين بن فارس: " أله الهمزة واللام والهاء أصل واحد وهو التعبد فالإله "الله" تعالى وسمي بذلك لأنه معبود ويقال تأله الرجل إذا تعبد قال رؤبة (10):

للهِ دَرُّ الغانِيات المُدَّهِ

سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي" (11)

يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.

وقوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت "إسحاق" وجعلته من السحق، وصرفت "يعقوب" وجعلته من الطير. وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا (12)، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق (13).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 214، ونقله القرطبي في تفسيره: 2/ 137.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 98.

(3)

البحر المحيط: 1/ 350.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1280): ص 1/ 240.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1282): ص 1/ 240.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1283): ص 1/ 240.

(7)

اللسان: 13/ 467.

(8)

تهذيب اللغة: 6/ 421 - 424.

(9)

تهذيب الصحاح: (3/ 897)، مادة (أله).

(10)

ديوانه: 165. لله در الغانيات: أي النساء اللاتي استغنت بجمالها عن التجمل أو استغنت بزوجها عن النظر إلى غيره، المدة: مدهه كمدحه، أي المادحات لله در الغانيات المادحات، سبحن: أي قلن سبحان الله واسترجعن: أي قلن إنا لله وإنا إليه راجعون، من تألهي: أي بسبب عبادتي لله.

(11)

معجم مقاييس اللغة: 1/ 127.

(12)

قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر. (تفسير ابن كثير: 1/ 447).

(13)

تفسير القرطبي: 2/ 138.

ص: 271

قال الشيخ ابن عثيمين: " {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمع أب؛ ثم بينوا الآباء بقولهم: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق}؛ (إِبْرَاهِيمَ) بالنسبة إلى يعقوب جدّ؛ و (إِسْمَاعِيلَ) بالنسبة إليه عم؛ و (َإِسْحَاق) بالنسبة إليه أب مباشر؛ أما إطلاق الأبوة على إبراهيم، وعلى إسحاق فالأمر فيه ظاهر؛ لأن إسحاق أبوه، وإبراهيم جده؛ والجد أب؛ بل قال الله عز وجل لهذه الأمة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]؛ وهي بينها وبين إبراهيم عالَم؛ لكن الإشكال في عدِّهم إسماعيل من آبائه مع أنه عمهم؛ فيقال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" (1)؛ و (الصنو) الغصنان أصلهما واحد؛ فذُكر مع الآباء؛ لأن العم صنو الأب؛ وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخالة بمنزلة الأم" (2)؛ كذلك نقول: العم بمنزلة الأب"(3).

وقيل: "إن هذا من باب التغليب، وأن الأب لا يطلق حقيقة على العم إلا مقروناً بالأب الحقيقي؛ وعلى هذا فلا يكون فيها إشكال إطلاقاً؛ لأن التغليب سائغ في اللغة العربية، فيقال: (القمران)؛ والمراد بهما الشمس، والقمر؛ ويقال: (العُمَرانِ)؛ وهما أبو بكر، وعمر"(4).

قوله تعالى: {إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، أي:"نُوَحِّدُه بالألوهية، ونخلص له في العبادة، ولا نشرك به شيئا"(5).

ويحتمل انتصاب قوله {إِلَهًا} [البقرة: 133]، من وجهين (6):

أحدهما: أنه بدل من {إِلَهَكَ} ، بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية.

قال الزجاج: " وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد، فيكون المعنى نعبد إِلهاً واحداً"(7).

والثاني: وقيل: {إلها} حال، "كأنهم قالوا نعبد: إلهك في حال وحدانيته" (8).

قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية (9).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَإِلهَ آبائِكَ} [البقرة: 133]، على وجوه:

أحدها: {وَإِلهَ آبائِكَ} .على الجمع، وهي قراءة الجمهور، وقالوا: عم الرّجل صنو أبيه.

الثاني: وقرأ أبي: {إلهك وإله إبراهيم وإسماعيل} (10).

الثالث: {وإله أبيك} : قرأ بها الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي، وفيه وجهان (11):

أحدهما: أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لأن العرب تسمي العم أبا.

والثاني: على مذهب سيبويه أن يكون (أبيك) جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر (12):

(1) أخرجه مسلم ص 832، كتاب الزكاة، باب 3: في تقديم الزكاة ومنعها، حديث رقم 2277 [11]983.

(2)

أخرجه البخاري ص 214، كتاب الصلح، باب 6: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان

، حديث رقم 2699.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 33.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 33.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 447 وتفسير الطبري: 3/ 99.

(6)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 212، وتفسير القرطبي: 2/ 138.

(7)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 212.

(8)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 212.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 214.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 281.

(11)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 138، وتفسير الثعلبي: 1/ 281.

(12)

البيت للعباس بن مرداس، انظر: سيرة ابن هشام 4: 95، واللسان (أخو)، ومجاز القرآن 1. 97 من قصيدة له في يوم حنين، وفي هزيمة هوزان يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه. و؟ ؟ احنة: وهي الحقد.

ص: 272

فقلنا أسلموا إن أخوكم

فقد برئت من الإحن الصدور

وقال آخر (1):

فلما تبين أصواتنا

بكين وفديننا بالأبينا

والراجح من القراءة {وإله آبائك} ، وعليها إجماع القراء. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، "أي ونحن له وحده مطيعون خاضعون"(2).

قال ابن عثيمين: " أي منقادون لأمر هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وشرعه"(3).

قال ابن عطية: " أي كذلك كنا نحن ونكون"(4).

قال الزمخشري: " أى ومن حالنا، أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون"(5).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، على وجوه:(6):

أحدها: أن المعنى: ونحن له مطيعون خاضعون، كما قال تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وسلم} [آل عمران: 83]، والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم:"نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد"(7)(8).

الثاني: ويحتمل قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، أن تكون بمعنى الحال (9)، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه.

الثالث: وقيل يحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون. وهذا اختيار ابن عطية (10).

والأولى أن يفسر بمعنى: "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، مسلمين لعبادته"(11). والله تعالى أعلم.

الفوائد:

1 -

أن التوحيد وصية الأنبياء؛ لقوله تعالى: {ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك} .

2 -

ومنها: أن الموت حق حتى على الأنبياء؛ قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144].

(1) البيت لزياد بن واصل، وهو من شواهد سيبويه: 2/ 101. وشرح المفصل: 3/ 37، والخزانة: 4/ 474. ويروى: فلما تبين أشباحنا، وهو من أبيات لزياد بن واصل من شعراء الجاهلية، افتخر فيها بآبائه وأمهات آبائه من بني عامر، وهو في هذا الجزء من القصيدة يصف عودتهم من إحدى المعارك ظافرين وأن نساء القبيلة حين رأينهم رحبن بهم وقلن لهم نفديكم بآبائنا،

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 85.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 79.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 214.

(5)

الكشاف: 1/ 194.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 99، وتفسير ابن كثير: 1/ 447.

(7)

صحيح البخاري برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأولاد العلات: هم الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 447.

(9)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 214.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 214.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 99.

ص: 273

3 -

ومنها: جواز الوصية عند حضور الأجل؛ لقوله تعالى: {إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك} ؛ وهذا كالوصية لهم؛ ولكنه يشترط أن يكون الموصي يعي ما يقول؛ فإن كان لا يعي ما يقول فإنه لا تصح وصيته.

4 -

ومنها: رجحان القول الصحيح بأن الجدّ أب في الميراث؛ لقوله تعالى: {آبائك إبراهيم} .

5 -

ومنها: أنه يجوز إطلاق اسم الأب على العم تغليباً؛ لقوله تعالى: {وإسماعيل} .

6 -

ومنها: أن أبناء يعقوب كانوا على التوحيد، حيث قالوا:{نعبد إلهك وإله آبائك} ؛ وهذا لا شك توحيد منهم.

7 -

ومنها: أن النفوس مجبولة على اتباع الآباء؛ لكن إن كان على حق فهو حق؛ وإن كان على باطل فهو باطل؛ لقولهم: {وإله آبائك} ؛ ولهذا الذين حضروا وفاة أبي طالب قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب.

8 -

ومنها: أهمية التوحيد، والعناية به؛ لقوله تعالى:{ما تعبدون من بعدي} .

9 -

ومنها: أن العبادة والألوهية معناهما واحد؛ لكن العبادة باعتبار العابد؛ والألوهية باعتبار المعبود؛ ولهذا كان أهل العلم يسمون التوحيد توحيد العبادة؛ وبعضهم يقول: توحيد الألوهية.

10 -

ومنها: إخلاص الإسلام لله، حيث قال تعالى:{ونحن له مسلمون} ؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول في {له} ؛ لأنه متعلق بـ {مسلمون} ؛ فهو معمول له؛ وقد عُلم أن تقديم المعمول يفيد الحصر.

11 -

ومنها: إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {إلهاً واحداً} .

12 -

ومنها: "أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره"(1).

القرآن

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134]

التفسير:

تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ، لهم أعمالهم، ولكم أعمَالكم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، وهم لا يُسْألون عن أعمالكم، وكلٌّ سيجازى بما فعله، لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفعُ أحدًا إلا إيمانُه وتقواه.

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134]، " أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى"(2).

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قوله: " {تلك}، يعني" هذه" (3).

قال أبو العالية (4)، والربيع (5)، وقتادة (6):" {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط"(7).

قال البيضاوي: " يعني إبراهيم ويعقوب وبينهما"(8).

قال ابن عثيمين: " المشار إليه إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن سبق؛ وكان اليهود يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؛ فبين الله تعالى أن هذه أمة قد مضت"(9).

قال ابن كثير: " ولهذا جاء، في الأثر: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (10)(11).

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 69.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (1286): ص 1/ 240.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1287): ص 1/ 241.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2141): ص 3/ 128.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2140): ص 3/ 128.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1287): ص 1/ 241.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 80.

(10)

رواه مسلم (2699) من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه به، في حديث أوله:"من نفَّس عن مؤمن كربة، لكن بلفظ: من بطأ، بدون ألف، وكذا هو بهذا اللفظ عند العسكري من حديث أبي عوانة وعبد اللَّه بن سيف، فرقهما، كلاهما عن الأعمش، ورواه القضاعي من حديث زائدة به بلفظ الترجمة، وعن محمد بن النضر الحارثي قال: من فاته حسب نفسه يعني الدين لم ينفعه حسب أبيه".

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 448.

ص: 274

قال الطبري: " وإنما قيل للذي قد مات فذهب: (قد خلا)، لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه، وأصله من قولهم: (خلا الرجل)، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه"(1).

قال البيضاوي: " و (الأمة) في الأصل: المقصود، وسمي بها الجماعة، لأن الفرق تؤمها"(2).

و(الأمة) هنا بمعنى طائفة؛ وتطلق في القرآن على عدة معانٍ (3):

المعنى الأول: "الطائفة والقرن من الناس"(4)، كما هنا.

المعنى الثاني: الحقبة من الزمن، مثل قوله تعالى:{وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] يعني: بعد حقبة من الزمن.

المعنى الثالث: الإمام، مثل قوله تعالى:{إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120].

والمعنى الرابع: الطريق، والملة، مثل قوله تعالى:{إنا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 22].

قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، " أي لها ثواب ما كسبت ولكم ثواب ما كسبتم"(5).

قال سعيد: " يعني ما عملت من خير أو شر"(6).

قال الثعلبي: أي: " من الدين والعمل"(7).

قال ابن كثير: "أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم"(8).

قال البيضاوي: أي" لكل أجر عمله، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما

قال عليه الصلاة والسلام: «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» (9) " (10).

قال النسفي: " أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم"(11).

قوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، أي "لا تُسألون عن أعمال من سبقكم"(12).

قال النسفي: أي: " ولا تؤاخذون بسيئاتهم"(13).

(1) تفسير الطبري: 3/ 100.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 34.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 100.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(6)

اخرجه ابن أبي حاتم (1288): ص 1/ 241.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 447 - 448.

(9)

الحديث: " غريب جدا، قال ابن حجر في الكافي (ص: 12): "لم أجده". وأخرج الطبراني حديثا بمعناه في معجمه الكببير: (354): ص 18/ 161، وبمعناه أيضا ماذكره الحكيم الترمذي في نواد الأصول (265)، وانظر: نصوص أخرى بنحوها ذكرها السيوطي في الدر المنثور: 5/ 96.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(11)

تفسير النسفي: 1/ 89.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(13)

تفسير النسفي: 1/ 89.

ص: 275

قال ابن عثيمين: " لأن لهم ما كسبوا، ولكم ما كسبتم"(1).

قال القرطبي: "أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى"(2).

قال الثعلبي: " وإنّما تسألون عمّا تعملون أنتم"(3).

قال البيضاوي: " أي لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم (4).

قال الصابوني: " أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء"(5).

قال القاسمي: " أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة. فلها ما كسبت. وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم. ولا تسألون إلا عن عملكم"(6).

قال ابن عاشور: " والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم، فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} تمهيد لقوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إذ هو المقصود من الكلام، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه، ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب"(7).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: بطلان التقليد، لأن قوله:{لها ما كسبت} يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزا لكان كسب المتبوع نافعا للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق.

2 -

الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وتحذيرهم من مخالفته.

3 -

الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم، وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال:"يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا"(8).

وقال الله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]، وقال تعالى:{ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [النساء: 123] وكذلك قوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164) وقال: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} (النور: 54)(9).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 139.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(6)

محاسن التأويل: 1/ 412.

(7)

تفسير ابن عاشور: 1/ 735.

(8)

رواه البخاري (2753) ومسلم (206).

(9)

يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: " المعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولا وعملا واعتقادا، أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) – رواه مسلم - وقال: (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا)، وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة، ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء " انتهى. مجموع فتاوى ابن باز (3/ 98).

وقد يسأل السائل: هل أن صلاح الآباء يثاب عليه الأبناء؟ فنقول: بأن العمل الصالح قد يثاب عليه المؤمن أيضا في أبنائه وذريته، قال ابن رجب: وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: إنهما حفظا بصلاح أبيهما، وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستره، وقال ابن المسيب لابنه: يا بني لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا هذه الآية:{وكان أبوهما صالحا} [الكهف: 82]، وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.

ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله فإن الله عز وجل يحفظه في تلك الحال، كما في مسند الإمام أحمد: 5/ 67|) قال الهيثمي في المجمع (5/ 277): ورجاله رجال الصحيح): عن حميد بن هلال عن رجل قال:

"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتًا فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا وَصِيصِيَتَهَا [الصِّيصيَّة: هي الصِّنارة التي يغزل بها وينسج]، كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا، مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبِّهَا تبارك وتعالى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا، وَهَاتِيكَ [فَأْتِهَا]. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أُصَدِّقُكَ".

وكتبت عائشة إِلَى معاوية: "إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا". [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (7/ 244) برقم (35717)، والبيهقي في "الزهد الكبير": (885)].

(مجموع رسائل ابن رجب: 3/ 100 - 103).

وقال ابن القيم في حشيته على ابي داود (6/ 55): وفيه بقاء عار الآباء في الأعقاب لقوله بنت عدو الله فدل على أن لهذا الوصف تأثيرا في المنع وإلا لم يذكره مع كونها مسلمة وعليه بقاء أثر صلاح الآباء في الأعقاب لقوله تعالى وكان أبوهما صالحا.

وقال شيخ الاسلام في (اسباب رفع العقوبة: ص 47): "سابعها: قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فانتفعا بصلاح أبيهما، وليس من سعيهما.

وقد تطرق أهل التفسير إلى هذا الموضوع من خلال تفسيرهم لقوله تعالى {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] وفيما يأتي ملخص آرائهم:

قال ابن كثير: "وقوله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع. [فالله أعلم]. (تفسير ابن كثير: 6/ 185).

وقال البغوي رحمه الله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) قيل: كان اسمه "كاسح" وكان من الأتقياء. قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبويهما، وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده [وولد ولده]، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. (تفسير البغوي: 5/ 196).

وقال الطبري رحمه الله: وقوله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته رحمة من ربك بهما، يقول: فعلت فعل هذا بالجدار، رحمة من ربك لليتيمين. وكان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسره، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس، في قوله (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح. (تفسير الطبري: 18/ 90).

وقال الرازي: في تفسير قوله تعالى (وكان أبوهما صالحا): " يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن بن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله مال الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبي وجدي خير منه؟ قال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون". (مفاتيح الغيب: 21/ 162).

ص: 276

4 -

الآية تدل على بطلان قول من يقول: الأبناء يعذبون بكفر آبائهم، وكان اليهود يقولون: إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل، وهو قوله تعالى:{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة: 80]، وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك.

5 -

الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب، أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسبا دخول شيء من الأعراض بقدرته من العدم إلى الوجود (1).

(1) بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات:

أحدها: وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى، كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب.

وثانيها: أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى، ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة. وهو قول أبي بكر الباقلاني.

وثالثها: أن القدرة الحادثة والقدرة القديمة، إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما، وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله، فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين.

أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة، فهم فريقان:

الأول: الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة، والداعية القائمتان به، وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به.

الفريق الثاني من المعتزلة: وهم الذين يقولون: القدرة مع الداعي لا توجب الفعل، بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهذا الفعل والكسب، قالت المعتزلة للأشعري: إذا كان مقدور العبد واقعا بخلق الله تعالى، فإذا خلقه فيه: استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل، وإذا لم يخلقه فيه: استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به. وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكنا من الفعل والترك، ولا معنى للقادر إلا ذلك، فالعبد ألبتة غير قادر، وأيضا فهذا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعا بقدرة الله، أو لم يقع ألبتة بقدرة الله، أو وقع بالقدرتين معا، فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثرا فكيف يكون مكتسبا له؟ وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب.

وإن وقع بالقدرتين معا فهذا محال، لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع، فعند تعلق قدرة الله تعالى به، فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر، وأما قول الباقلاني فضعيف، لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه، وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب، وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير، فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة، قال أهل السنة: كون العبد مستقلا بالإيجاد والخلق محال لوجوه:

أولها: أن العبد لو كان موجدا لأفعاله، لكان عالما بتفاصيل فعله، وهو غير عالم بتلك التفاصيل، فهو غير موجد لها.

وثانيها: لو كان العبد موجدا لفعل نفسه؛ لما وقع إلا ما أراده العبد، وليس كذلك، لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل.

وثانيها: لو كان العبد موجدا لفعل نفسه لكان كونه موجدا لذلك الفعل زائدا على ذات ذلك الفعل،

وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجدا له، والمعقول غير المغفول عنه، ثم تلك الموجدية حادثة، فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى، ولزم التسلسل وهو محال، وإن كان الله تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى، ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم، فكانت موجديته قديمة، فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى. (مفاتيح الغيب: 4/ 72 - 73).

ص: 277

6 -

ومن فوائد الآية: أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً؛ لقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت

} الآية؛ يعني هم مضوا، وأسلموا لله؛ وأنتم أيها اليهود الموجودون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم أن تنظروا ماذا كسبتم لأنفسكم.

7 -

ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نسكت عما جرى بين الصحابة؛ لأنا نقول كما قال الله لهؤلاء: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} فنحن معنيون الآن بأنفسنا؛ ويُذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه سئل عما جرى بين الصحابة، فقال لهم:«هذه دماء طهر الله سيوفنا منها؛ فنحن نطهر ألسنتنا منها» ؛ هذه كلمة عظيمة؛ فعلى هذا النزاع فيما جرى بين معاوية، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وما أشبه ذلك لا محل له؛ لكن الذي يجب أن نعتني به حاضر الأمة؛ هذا الذي يجب أن يبين فيه الحق، ويبطَل فيه الباطل؛ ونقول:{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10].

8 -

ومن فوائد الآية: أن الإنسان وعملَه؛ لقوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} ؛ فلا أحد يعطى من عمل أحد، ولا يؤخذ منه؛ قال تعالى:{كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38].

9 -

ومنها: أن الآخِر لا يُسأل عن عمل الأول؛ ولكن الأول قد يُسأل عن عمل الآخر، كما قال تعالى:{وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [القصص: 41]؛ فقد يكون الأول صاحب بدعة، ويُتَّبَع على بدعته؛ فيكون دالاً على ضلالة؛ فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ لكن الآخر لا يسأل عن عمل الأول؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» (1)؛ وفي لفظ: «فتؤذوا الأحياء» (2).

(1) أخرجه البخاري ص 214، كتاب الصلح، باب 6: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان

، حديث رقم 2699.

(2)

أخرجه البخاري ص 109، كتاب الجنائز، باب 97: ما ينهى من سب الأموات، حديث رقم 1393.

ص: 278

9 -

ومن فوائد الآية: إثبات عدل الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يؤاخذ أحداً بما لم يعمله؛ لقوله تعالى:{ولا تسألون عما كانوا يعملون} .

10 -

ومنها: إثبات السؤال، وأن الإنسان سيُسأل؛ لقوله تعالى:{ولا تسألون عما كانوا يعملون} ؛ منطوق الآية: نفي السؤال عن عمل الغير؛ ومفهومها: ثبوت السؤال عن عمل العامل، وأنه مسؤول عن العمل.

القرآن

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]

التفسير:

وقالت اليهود لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم: ادخلوا في دين اليهودية تجدوا الهداية، وقالت النصارى لهم مثل ذلك. قل لهم -أيها الرسول-: بل الهداية أن نتبع- جميعًا- ملة إبراهيم، الذي مال عن كل دين باطل إلى دين الحق، وما كان من المشركين بالله تعالى.

في سبب نزول الآية وجهان:

أحدهما: أخرج الطبري عن ابن عباس قال: "قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم: " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " (1).

وذكره الثعلبي (2)، والواحدي مطولا (3).

الثاني: قال مقاتل بن سليمان: " أن رءوس اليهود كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبا ياسر بن أخطب، ومالك بن الضيف، وعازارا، وإشماويل، وخميشا، ونصارى نجران السيد والعاقب، ومن معهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا فإنه ليس دين إلا ديننا فكذبهم الله- تعالى- فقال: قل بل الدين ملة إبراهيم يعني الإسلام"(4).

قال الإمام الطبري: "احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " -: بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به - فإن دينه كان الحنيفية المسلمة - وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا. فإن ذلك - على اختلافه - لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم"(5).

قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، أي:" وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا"(6).

قال ابن أبي زمنين: " قالت اليهود: كونوا يهوداً تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا"(7).

قال ابن عطية: هذا" نظير قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى} [البقرة: 111] "(8).

وقوله {تَهْتَدُوا} ، أي:"تصيبوا طريق الحق"(9).

(1) تفسير الطبري (2090): 3/ 101 - 102، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 41.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(3)

انظر: أسباب النول: 41.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141، وانظر: العجاب: 1/ 381.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 102.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 101.

(7)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 180 - 181.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 214.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 101.

ص: 279

قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]، أي:" قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما"(1).

قال الثعلبي: " أي بل نتبع ملّة إِبْراهِيمَ"(2).

قال البيضاوي: " أي بل نكون ملة إبراهيم"(3).

قال الزجاج: أي: " بل نتبع ملة إِبراهيم في حال حنيفَتِه"(4).

قال ابن أبي زمنين: " أي: قل يا محمد، بل نكون على ملة إبراهيم"(5).

قال أبو السعود: " أي لا نكون كما تقولون بل نكون أهلَ ملتِه عليه السلام "(6).

قال الصابوني: "أي قل لهم يا محمد بل نتّبع ملة الحنيفية السمحة وهي ملة إِبراهيم حال كونه مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيم"(7).

وفي اتنصاب قوله: {ملة} [البقرة: 135]، أربعة أقوال (8):

الأول: لأنه عطف في المعنى على قوله: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، وتقديره قالوا: اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم.

الثاني: على حذف فعل مضمر، تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم.

الثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] أي أهلها، ومن ذلك قول الشاعر (9):

حسبت بغام راحلتي عناقا!

وما هي، ويب غيرك، بالعناق

يعني: صوت عناق.

فتكون الـ {ملة} ، حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب على {اليهود والنصارى} .

الرابع: وقد يجوز النصب على الإغراء (10)، والتقدير: بل اتبعوا ملة إبراهيم.

وقرأ الأعرج: {ملةُ إبراهيم} ، بالرفع أي ملته ملتنا، أو ديننا ملة إبراهيم، وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبرا (11).

وقوله تعالى: {حَنِيفًا} [البقرة: 135]، لأهل اللغة فيه قولان (12):

(1) تفسير الطبري: 3/ 104.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(4)

معاني القرآن: 1/ 213.

(5)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 181.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 166.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 74 - 75، وتفسير الطبري: 3/ 102 - 103.

(9)

البيت لذي الخرق الطهوي، انظر: نوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1: 61 - 62، واللسان (ويب)(عنق)(عقا)(بغم) وغيرها. وهو من أبيات يقولها لذئب تبعه في طريقه، وهي أبيات ساخرة جياد:

ألم تعجب لذئب بات يسري

ليؤذن صاحبا له باللحاق

حسبت بغام راحلتي عناقا!

وما هي، ويب غيرك، بالعناق

ولو أني دعوتك من قريب

لعاقك عن دعاء الذئب عاق

ولكني رميتك من بعيد

فلم أفعل، وقد أوهت بساقي

عليك الشاء، شاء بني تميم،

فعافقه، فإنك ذو عفاق

وقوله (عناق) في البيت: هي أنثى المعز، وقوله:" ويب " أي ويل. والبغام: صوت الظبية أو الناقة، واستعاره هنا للمعز. وقوله في البيت الثالث " عاق "، أي عائق، فقلب، والعقاق: السرعة في الذهاب بالشيء. عافقه: عالجه وخادعه ثم ذهب به خطفة واحدة.

وانظر الاختلاف في اسمه، ومن سمي باسمه في المؤتلف والمختلف: 119، والخزانة 1: 20، 21.

(10)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 282، ومفاتيح الغيب: 4/ 71.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 71.

ص: 280

الأول: أن الحنيف هو المستقيم.

قال الطبري: " (الحنيف)، فإنه المستقيم من كل شيء"(1).

ومنه قيل للأعرج: أحنف، تفاؤلا بالسلامة، كما قالوا للديغ: سليم، والمهلكة: مفازة، قالوا: فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف (2).

الثاني: أن الحنيف المائل، لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها، وتحنف إذا مال.

واختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {حَنِيفًا} [البقرة: 135]، على أقوال (3):

أحدها: أن الحنيفية حج البيت، والحنيف هو الحاج. وهذا قول ابن عباس (4)، والحسن (5)، ومجاهد (6)، وعطية (7)، وكثير بن زياد (8)، وعبدالله بن قاسم (9)، والضحاك (10)، والسدي (11).

وقالوا: "إنما سمي دين إبراهيم الإسلام (الحنيفية)، لأنه أول إمام لزم العباد - الذين كانوا في عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة - اتباعه في مناسك الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته، فهو (حنيف)، مسلم على دين إبراهيم"(12).

والثاني: أنها اتباع الحق، قاله مجاهد (13)، والربيع بن أنس (14).

والثالث: اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام.

فقالوا: "إنما سمي دين إبراهيم (الحنيفية)، لأنه أول إمام سن للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام، فهو " حنيف " على ملة إبراهيم"(15).

والرابع: أنها: (الإخلاص): وقوله {بل ملة إبراهيم حنيفا} ، معناه:(بل ملة إبراهيم مخلصا)، فـ (الحنيف) " على قولهم: المخلص دينه لله وحده (16)، قاله السدي (17)، ومقاتل بن سليمان (18)، وخصيف (19).

والخامس: وقيل: (الحنيفية) الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو (حنيف).

قال القفال: "وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات، وأصله من إبراهيم عليه السلام"(20).

(1) تفسير الطبري: 3/ 104.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 104.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 71.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2097): ص 3/ 106، وابن أبي حاتم (1291): ص 1/ 241، و (3650): ص 2/ 673.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3650): ص 2/ 673، وتفسير الطبري (2091): ص 3/ 104.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2094): ص 3/ 106.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2092)، و (2093): ص 3/ 104 - 105.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2095): ص 3/ 106.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2098): ص 3/ 106.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: (1291): ص 1/ 241، و (3650): ص 2/ 673.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: (1291): ص 1/ 241، و (3650): ص 2/ 673.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 104.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2099): ص 3/ 106، وابن أبي حاتم (1292): ص 1/ 241.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: (1292): ص 1/ 241.

(15)

تفسير الطبري: 3/ 106.

(16)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 106.

(17)

انظر: تفسير الطبري (2100): ص 3/ 107.

(18)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1295): ص 1/ 242.

(20)

مفاتيح الغيب: 4/ 71.

ص: 281

والسادس: أن الحنيف: المستقيم. قاله محمد بن كعب (1)، وروي عن عيسى بن جارية (2) مثله.

السابع: أن الحنيف: الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم. قاله أبو قلابة (3).

الثامن: أن الحنيف: الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا. قاله أبو العالية (4).

التاسع: أن الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات، والعمات، وما حرم الله عز وجل، والختان. وكانت حنيفة في الشرك: كانوا أهل الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وكانوا يحجون البيت، وينسكون المناسك. قاله قتادة (5).

والصواب: أن (الحنيفية) هو الإستقامة على دين إبراهيم واتباعه على ملته، قال الإمام الطبري:" وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: {ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [سورة آل عمران: 67]، فكذلك القول في الختان. لأن " الحنيفية " لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [سورة آل عمران: 67].

فقد صحّ إذًا أن " الحنيفية " ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها. فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟

قيل: بَلى. فإن قال: فكيف أضيف " الحنيفية " إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟ قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس " حنيفًا " باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل:" يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ "، وغير ذلك من صنوف الملل" (6).

وفي انتصاب قوله: {حَنِيفًا} [البقرة: 135]، وجهان (7):

أحدهما: أنه نصب على الحال من إبراهيم. قاله الزجاج (8).

الثاني: أنه نصب على القطع، أراد: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب، قاله نحاة الكوفة.

قال الزجاج: " ويجوز الرفع {بل ملةُ إِبراهيم حنيفاً}، والأجود والأكثر: النصب، ومجاز الرفع على معنى: قل ملتُنا ودينُنُا ملة إبراهيم"(9).

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، أي:" وما كان إِبراهيم من المشركين"(10).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1293): ص 1/ 242.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 242.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1294): ص 1/ 242.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1296): ص 1/ 242.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1297): ص 1/ 242.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 107 - 108.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 213.

(9)

معاني القرآن: 1/ 213.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

ص: 282

قال مقاتل: " يعني من اليهود والنصارى"(1).

قال الطبري: أي: " إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا"(2).

قال البيضاوي: " تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون"(3).

قال ابن عطية: " ونفى عنه الإشراك، فانتفت عبادة الأوثان واليهودية لقولهم: عزير ابن الله، والنصرانية لقولهم: المسيح ابن الله"(4).

قال ارازي: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، "تنبيه على أن في مذهب اليهود والنصارى شركاء، لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك"(5).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن أهل الباطل يدْعون إلى ضلالهم، ويدَّعون فيه الخير؛ {كونوا هوداً أو نصارى هذه دعوة إلى ضلال؛ {تهتدوا}: ادعاء أن ذلك خير؛ وهكذا أيضاً قد ورث هؤلاء اليهود من ضل من هذه الأمة، كأهل البدع في العقيدة، والقدر، والإيمان - الذين ادعوا أنهم على حق، وأن من سلك طريقهم فقد اهتدى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لتركبن سَنن من كان قبلكم» (6).

2 -

ومن فوائد الآية: أن كل داع إلى ضلال ففيه شبه من اليهود، والنصارى؛ دعاة السفور الآن يقولون: اتركوا المرأة تتحرر؛ اتركوها تبتهج في الحياة؛ لا تقيدوها بالغطاءِ، وتركِ التبرج، ونحو ذلك؛ أعطوها الحرية؛ وهكذا كل داع إلى ضلالة سوف يطلي هذه الضلالة بما يغر البليد فهو شبيه باليهود، والنصارى.

3 -

ومنها: مقابلة الباطل بالحق؛ لقوله تعالى: {بل ملة إبراهيم حنيفاً} ؛ إذ لابد للإنسان من أن يسير على طريق؛ لكن هل هو حق، أو باطل؟ ! بين الله أن كل ما خالف الحق فهو باطل في قوله تعالى:{بل ملة إبراهيم حنيفاً} .

4 -

ومنها: الثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه ثلاثة:

أولاً: إمامته؛ ووجهها: أننا أمرنا باتباعه؛ والمتبوع هو الإمام.

ثانياً: أنه حنيف؛ والحنيف هو المائل عن كل دين سوى الإسلام.

ثالثاً: أنه ليس فيه شرك في عمله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {وما كان من المشركين} .

5 -

ومن فوائد الآية: أن الشرك ممتنع في حق الأنبياء؛ لقوله تعالى: {وما كان من المشركين} .

6 -

ومنها: أن ملة إبراهيم عليه السلام أفضل الملل؛ وهي التوحيد، والحنيفية السمحة؛ لقوله تعالى:{بل ملة إبراهيم حنيفاً} .

7 -

ومنها: أن اليهودية والنصرانية نوع من الشرك؛ لأن قوله تعالى: {وما كان من المشركين} في مقابل دعوتهم إلى اليهودية والنصرانية يدل على أنهما نوع من الشرك؛ كل من كفر بالله ففيه نوع من الشرك؛ لكن إن اتخذ إلهاً فهو شرك حقيقة، وواقعاً؛ وإلا فإنه شرك باعتبار اتباع الهوى.

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 108.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75.

(6)

أخرجه أحمد 5/ 218، حديث رقم 22242؛ وأخرجه الترمذي ص 1871، كتاب الفتن، باب 18: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث رقم 2180؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه 8/ 248، باب: ذكر الأخبار عن اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم من الأمم، حديث رقم 6667، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح 2/ 235، حديث رقم 1771.

ص: 283

8 -

قد ذكر الرازي- من خلال تفسيره للآية -أنواعا من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام منها: حكى عنهم أنهم قالوا: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة، بل أصروا على التقليد، فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة: بأنه ذكر جوابا إلزاميا وهو قوله: {قل بل ملة إبراهيم حنيفا} وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم، لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد، فكأنه سبحانه قال: إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى.

فإن قيل: أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام.

قلنا: لما ثبت أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام، وأن محمدا عليه السلام لما دعا إلى التوحيد، كان هو على دين إبراهيم (1).

القرآن

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136]

التفسير:

قولوا -أيها المؤمنون- لهؤلاء اليهود والنَّصارى: صدَّقنا بالله الواحد المعبود بحق، وبما أنزل إلينا من القرآن الذي أوحاه الله إلى نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من الصحف إلى إبراهيم وابنيه إسماعيل وإسحاق، وإلى يعقوب والأسباط -وهم الأنبياء مِن ولد يعقوب الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة- وما أُعطي موسى من التوراة، وعيسى من الإنجيل، وما أُعطي الأنبياء جميعًا من وحي ربهم، لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، ونحن خاضعون لله بالطاعة والعبادة.

في سبب نزول الآية أقوال (2):

أحدها: قال ابن عباس قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشْيَع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب والأسباط، ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة: 59] "(3).

الثاني: وقال قتادة: {قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} إلى قوله: {ونَحنُ له مسلمون} ، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرِّقوا بين أحد منهم" (4).

الثالث: وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة، قال:"كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تُكَذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا" (5).

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 74.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 110 - 111، والعجاب: 1/ 381 - 382.

(3)

تفسير الطبري (2101): ص 3/ 110. وانظر: سيرة ابن هشام 2: 216.

(4)

تفسير الطبري (2103): 3/ 111.

(5)

صحيح البخاري برقم (4485)، وأخرج ابن ابي حاتم بمعناه عن عطاء بن يسار، انظر: تفسيره (1298): ص 1/ 242.

ص: 284

وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يَسار عن ابن عباس، قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بـ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا} الآية، والأخرى بـ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] " (1) "(2).

قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136]، "أي قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله"(3).

قال مقاتل: " بأنه واحد لا شريك له"(4).

قال الطبري: "أي: قولوا أيها المؤمنون، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى-الذين قالوا لكم كونوا هُودًا أو نصارى تَهتدوا " -: صدَّقنا بالله.

قال الشيخ السعدي: " فقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: بأنه موجود، واحد أحد، متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص وعيب، مستحق لإفراده بالعبادة كلها، وعدم الإشراك به في شيء منها، بوجه من الوجوه"(5).

قال البيضاوي: " الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ} "(6).

قال ابن عطية: " هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، علمهم الله الإيمان"(7).

قوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]، أي: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم" (8).

قال مقاتل بن سليمان: " يعني قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم"(9).

قال الصابوني: أي: وآمنا بما "أنزل إِلينا من القرآن العظيم"(10).

قال ابن عطية: " يعني به القرآن، وصحت إضافة الإنزال إليهم من حيث هم المأمورون المنهيون فيه"(11).

قال الطبري: " فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به (12).

قال السعدي: "فقوله {وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا} : يشمل القرآن والسنة، لقوله تعالى:{وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله، من صفات الباري، وصفات رسله، واليوم الآخر، والغيوب الماضية والمستقبلة، والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية، وأحكام الجزاء وغير ذلك (13).

قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]، "أي: صدَّقنا أيضًا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط " (14).

قال الطبري: " وهم الأنبياء من ولد يَعقوب"(15).

(1) صحيح مسلم برقم (727) وسنن أبي داود برقم (1259) وسنن النسائي (2/ 155).

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 449.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(5)

تفسير السعدي: 1/ 68.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 108.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 108.

(13)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 68.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 108.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 108.

ص: 285

قال مقاتل بن سليمان: " وهم بنو يعقوب يوسف وإخوته فنزل على هؤلاء صحف إبراهيم"(1).

قال البيضاوي: "وهي-أي الصحف- وإن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضاً منزلة إليهم، كما أن القرآن منزل إلينا"(2).

قال الصابوني: " أي وآمنا بما أنزل إِلى إِبراهيم من الصحف والأحكام التي كان الأنبياء متعبديون بها وكذلك حفدة إِبراهيم وإِسحاق وهم الأسباط حيث كانت النبوة فيهم"(3).

قال ابن عطية: أي" إنا نؤمن بجميع الأنبياء، لأن جميعهم جاء بالايمان بالله، فدين الله واحد وإن اختلفت أحكام الشرائع"(4).

واختلف في قوله تعالى: {الْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]، على وجهين (5):

احدها: أن (السبط) في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، و (الأسباط): القبائل من اليهود، سموا بذلك، ليفرق بين ولد إسماعيل الذين يقال لهم: قبائل، وولد إسحاق الذين يقال لهم: أسباط (6).

وهذا قول أبي عبيدة وجماعة من العلماء (7).

الثاني: أن (الأسباط) جمع (سِبْط) -بكسر السين وسكون الباء-: ابن الابن، أي: الحفيد، والمراد أسباط إسحاق، أي: أولاد يعقوب، وهم الذين تشعبت منهم قبائل بني إسرائيل، وسمّوا بذلك؛ لأنه وُلِد لكل رجل منهم أمة من الناس فسموا بذلك (8).

وهذا قول أبي العالية (9)، وقتادة (10)، والربيع بن أنس (11)، والسدي (12)، واختاره الثعلبي (13) والزجاج (14)، وآخرون (15).

قال الثعلبي: " وسبط الرّجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين عليهما السلام سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم"(16).

وقال الزمخشري: "السبط: الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، {وَالْأَسْباطِ} حفدة يعقوب ذرارىّ أبنائه الاثني عشر"(17).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 76.

(6)

انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 12/ 342 - 343، جمهرة اللغة لابن دريد: 1/ 336، لسان العرب لابن منظور: 3/ 1922 - 1923، الصحاح للجوهري: 3/ 1129، تاج العروس للزبيدي: 10/ 273.

(7)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 230، وهو قول البخاري في جامعه الصحيح-فتح-: 8/ 147، والطبري في جامع البيان: 3/ 113، والزمخشري في الكشاف: 1/ 315، والراغب في المفردات: 222، والسمين الحلبي في الدر المصون: 1/ 385، والسمرقندي في بحر العلوم: 1/ 161 - 162، والرازي في مفاتيح الغيب: 4/ 91، والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 156، والواحدي في الوسيط: 1/ 220، وابن دريد في جمهرة اللغة: 1/ 336، ورشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم: 1/ 483، وغيرهم.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 399، جامع البيان للطبري: 3/ 111 - 112، تفسير ابن كثير لابن كثير: 1/ 233.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1300): ص 1/ 243.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 243.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 243.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1301): ص 1/ 243.

(13)

تفسير الثعلبي: 1/ 283.

(14)

انظر: معاني القرآن: 1/ 217، وتهذيب اللغة: 2/ 1615، والتفسير البسيط: 3/ 356.

(15)

وممن قال بذلك: القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 141، وابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 368، والسيوطي في الإتقان: 2/ 185، والبلنسي في مبهمات القرآن: 1/ 184، والقاسمي في محاسن التأويل: 2/ 271، وابن عاشور في التحرير والتنوير: 1/ 732.

(16)

تفسير الثعلبي: 1/ 283.

(17)

الكشاف: 1/ 195، ومفاتيح الغيب: 4/ 72.

ص: 286

قال الحافظ ابن حجر: الأسباط: " اسم إخوة يوسف: رُوْبِيْل بضم الراء وسكون الواو وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام وهو أكبرهم، وشمعون بالشين المعجمة، ولاوي، ويهوذا، وداني، ونفتالي بفاء ومثناة، وكاد، وأشير، وأيساجر، ورايلون، وبنيامين (1)، وهم الأسباط"(2).

وقد اختلف في (الأسباط) هل كان فيهم أنبياء، وفيه قولان:

أحدهما: أنه كان فيهم أنبياء (3).

والثاني: أنه لم يكن فيهم نبيّ.

والراجح أنه كان فيهم أنبياء، يدل عليه ظاهر هذه الآية، وقوله تعالى {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [آل عمران: 84] وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء: 163]، فهذه الآيات تدل على نبوة الأسباط إذ عطفهم في نسق واحد على الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-، ولا يوجد ما يمنع هذا الظاهر لغة أو شرعاً حتى يقال إن الأسباط في هذه الآيات قبائل بني إسرائيل وأن هناك حذفاً تقديره: أنبياء الأسباط أو نحو ذلك، على أن القول بوجود حذف خلاف الأصل. أما ما قيل: من أن كيد إخوة يوسف ليوسف يتنافى مع القول بنبوتهم، فيقال: ذاك قبل النبوة، بل قد قيل إنه قبل البلوغ، والعصمة للأنبياء إنما تكون بعد الإيحاء إليهم على الصحيح، على أن ظواهر النصوص الثابتة لا ينبغي ردها بمثل ذلك. أما ما قيل من أنه لم تأت نصوص صحيحة تثبت نبوتهم، فيقال إن ظواهر تلك الآيات كاف في ذلك، ولابد من القول بها حتى تأتي نصوص صحيحة صريحة تفيد عدم نبوتهم، فيلجأ عندها إلى القول بالحذف ونحوه جمعاً بين النصوص وإعمالاً لها كافة، أما هكذا فلا. وأما قوله-عز وجل-عن بني إسرائيل في زمن موسى {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] فالمراد به قبائل بني إسرائيل المنحدرة من أبناء يعقوب عليهم السلام، ولا يوجد مانع يمنع أن يراد بلفظ في سياق معنى، ويراد به في سياق آخر معنى آخر، والله أعلم.

و{الأسباط} : مشتق من السبط، وهو ضرب من الشجر، يعلفه الإبل، كأنه جعل إسحاق بمنزلة شجرة، وكذلك يفعل النسابون في النسب، يجعلون الوالد بمنزلة الشجرة، ويجعلون الأولاد بمنزلة أغصانها (4).

وقال أبو العباس: "سألت ابن الأعرابي، ما معنى (السبط)، في كلام العرب؟ فقال: السِّبط والسِّبطان والأسباط: خاصة الأولاد، أو المُصاص منهم"(5)

قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136]، أي:"وآمنا أيضًا بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم"(6).

قال مقاتل: " {وما أوتي موسى}، يعني التوراة (و) {ما أوتى عيسى}، يعني: الإنجيل، يقول ما أنزل على موسى وعيسى وصدقنا وما أوتي النبيون من ربهم وأوتي داود وسليمان الزبور"(7).

قال الطبري: أي" وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله، والعمل بطاعته"(8).

(1) ورد اختلاف في بعض الأسماء انظر: جامع البيان للطبري: 3/ 112 - 113، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 368، تفسير مبهمات القرآن للبلنسي: 1/ 184، الإتقان للسيوطي: 2/ 185 - 186، محاسن التأويل للقاسمي: 2/ 267، التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/ 732.

(2)

الفتح: 6/ 483.

(3)

وممن جزم بنبوتهم: الخازن في لباب التأويل: 1/ 85، ود. الأشقر في الرسل والرسالات:19. وممن اختار عدم نبوتهم: السيوطي والألوسي ورشيد رضا كما في الإتقان: 2/ 185، وروح المعاني: 1/ 395، وتفسير القرآن الحكيم: 1/ 483.

(4)

انظر: تهذيب اللغة: 2/ 1615 (سبط)، وتفسير الثعلبي: 1/ 283، والتفسير البسيط: 3/ 356.

(5)

تهذيب اللغة: 2/ 1615 (سبط)، ونلقه الواحدي في التفسير البسيط: 3/ 356.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 109 - 110.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 109 - 110.

ص: 287

قال أبو السعود: أي: " من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فُصّل في التنزيل الجليل وإيرادُ الإيتاء لما أشير إليه من التعميم وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى، {وَمَا أُوتِيَ النبيون} أي جملةُ المذكورين وغيرُهم، {مّن رَّبّهِمُ} من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الباهراتِ"(1).

قال قتادة: " أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله"(2).

وقال سليمان بن حبيب المحاربي: " إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نعمل بما فيها"(3).

وقد يسأل سائل: لِمَ عبر الله تعالى بقوله: {وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل} ، وفي موسى وعيسى قال تعالى:{وما أوتي موسى وعيسى} ؛ فهل هناك حكمة في اختلاف التعبير؟

فالجواب: أن نقول - والله أعلم-: إن هناك حكمة لفظية، وحكمة معنوية:

فالحكمة اللفظية: لئلا تتكرر المعاني بلفظ واحد؛ لو قال: (ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وما أنزل إلى موسى

وما أنزل إلى النبيين) تكررت أربع مرات؛ ومعلوم أن من أساليب البلاغة الاختصار في تكرار الألفاظ بقدر الإمكان.

وأما الحكمة المعنوية: فلأن موسى وعيسى دينهما باقٍ إلى زمن الوحي، وكان أتباعهما يفتخرون بما أوتوا من الآيات؛ فالنصارى يقولون: عيسى بن مريم يُحيي الموتى، ويفعل كذا، ويفعل كذا؛ وهؤلاء يقولون: إن موسى فلق الله له البحر، وأنجاه، وأغرق عدوه، وما أشبه ذلك؛ فبين الله سبحانه وتعالى في هذا أن هذه الأمة تؤمن بما أوتوا من وحي وآيات (4).

قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136]، أي:" لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض"(5).

قال قتادة: " أمر الله المؤمنين أن لا يفرقوا بين أحد منهم"(6).

قال مقاتل: " فنؤمن ببعض النبيين، ونكفر ببعض، كفعل أهل الكتاب"(7).

قال الثعلبي: " فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى"(8).

قال ابن عطية: " أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما تفعلون"(9).

قال الواحدي: أي: " أي: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض كما فعلت اليهود والنصارى"(10).

قال الطبري: "بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه، بعثوا بالحق والهدى"(11).

قال أبو السعود: " كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتبروا عدمُ التفريق بينهم مع أن الكلامَ فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريقِ بين ما أوُتوه"(12).

قال السعدي: أي: "بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين، التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين، فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب، بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم

(1) تفسير أبي السعود: 1/ 166.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1304): ص 1/ 243.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1303): ص 1/ 243.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 38.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 109 - 110.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1305): ص 1/ 243.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/! 41.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 283.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(10)

التفسير البسيط: 3/ 357.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 109 - 110.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 166.

ص: 288

تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا، أنهم قد آمنوا به، قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا محمدا، فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به، فيكون كفرا برسولهم" (1).

وفي قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136]، وجهان (2):

الأول: إنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز. قال الفراء:"أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى"(3).

الثاني: لا نفرق بين أحد منهم، أي لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام، كما قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].

والصواب الوجه الأول، لأنه أليق بسياق الآية، والله أعلم.

قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، أي:"ونحنُ له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية"(4).

قال الصابوني: " أي منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه"(5).

قال أبو السعود: " أي مخلصون له ومُذعنون، حالٌ أُخرى منْهُ أو عطفٌ على {آمنا} "(6).

الفوائد:

1 -

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين، ومن ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده، كيف يقولون، ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.

2 -

ومنها: أن الكتب التي أوتيها الرسل قد نزلت من عند الله؛ لقوله تعالى: {وما أنزل إلينا} ، ولقوله تعالى:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25].

3 -

ومنها: الإشارة إلى البداءة بالأهم - وإن كان متأخراً؛ لقوله تعالى: {وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} مع أن ما أنزل إلينا متأخر عما سبق.

4 -

ومنها: الإيمان بما أوتي النبيون من الآيات الكونية، والآيات الشرعية.

5 -

ومنها: أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، على حد سواء في أصل الإيمان؛ وأما الشرائع فلكلٍّ منهم جعل الله شرعة ومنهاجاً، كما قال تعالى:{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [المائدة: 48]؛ فنحن مأمورون باتّباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الأديان؛ أما في الإيمان بأنهم رسل من عند الله، وأنهم صادقون بما جاءوا به فإنا لا نفرق بين أحد منهم؛ لقوله تعالى:{لا نفرق بين أحد منهم} ، وقوله تعالى:{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285].

6 -

ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ونحن له مسلمون} .

(1) تفسير السعدي: 1/ 68.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 76.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 141.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 110.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 166.

ص: 289

7 -

ومنها: أن الرسل ليسوا مستقلين بهذه الآيات؛ فلا يملكون أن يأتوا بهذه الآيات، أو بهذا الوحي؛ فهم يتلقون من الله؛ حتى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا طُلب منه الآيات لا يستطيع أن يأتي بها؛ ولهذا لما اقترح المكذبون عدة آيات قال تعالى:{قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولًا} [الإسراء: 93]، وقال تعالى:{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين} [العنكبوت: 50]، أي فلا أملك أن آتي بالآيات.

8 -

ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يشعر أنه هو وإخوانه كنفس واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) وشبّك بين أصابعه؛ لقوله تعالى: {ونحن له مسلمون} : فأتى بضمير الجمع: {قولوا آمنا بالله

ونحن

}.

9 -

ومنها: أن الإسلام لا بد أن يكون بالقلب، واللسان، والجوارح؛ لإطلاقه في قوله تعالى:{مسلمون} ؛ فيستسلم قلب المرء لله تبارك وتعالى محبة، وتعظيماً، وإجلالاً؛ ويستسلم لسانه لما أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول؛ وتستسلم جوارحه لما أمره الله تعالى أن يفعل.

القرآن

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} [البقرة: 137]

التفسير:

فإنْ آمن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بمثل الذي آمنتم به، مما جاء به الرسول، فقد اهتدوا إلى الحق، وإن أعرضوا فإنما هم في خلاف شديد، فسيكفيك الله -أيها الرسول- شرَّهم وينصرك عليهم، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم.

في سبب نزول الآية: قال مقاتل: " لما نزلت هذه الآية [{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّه}]، قرأها النبي- صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، فقال: إن الله- عز وجل أمرني أن أوصي بهذه الآية، فإن انتم آمنتم يعني صدقتم بالنبي- صلى الله عليه وسلم والكتاب، فقد اهتديتم وإن توليتم وأبيتم عن الإيمان فإنما أنتم في شقاق، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى- صلى الله عليه وسلم قالوا: لا نؤمن بعيسى. وقالت النصارى: وعيسى بمنزلتهم مع الأنبياء، ولكنه ولد الله. يقول: إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به فسيكفيكهم الله يا محمد يعني أهل الكتاب ففعل الله- عز وجل ذلك فقتل أهل قريظة، وأجلى [بني] النضير من المدينة إلى الشام"(2). ونقله عنه ابن حجر ملخصا (3).

قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]، " أي: فإِن آمن أهل الكتاب بنفس ما آمنم به معشر المؤمنين، فقد اهتدوا إِلى الحق كما اهتديتم" (4).

قال ابن عباس: " أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى، وأن لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه"(5).

وعن الربيع: " ثم قال: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}، فقال: من تكلم بهذا صدقا من قلبه- يعني- الإيمان فقد اهتدى"(6).

(1) أخرجه البخاري ص 40، كتاب الصلاة، باب 88: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث رقم 481؛ وأخرجه مسلم ص 1130، كتاب البر والصلة، باب 17: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، حديث رقم 6585 [65] 2585؛ بدون و "شبك أصابعه".

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(3)

انظر: العجاب: 1/ 382.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 87.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1307): ص 1/ 244، وتفسير الطبري (2108): ص 3/ 113.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1308): ص 1/ 244.

ص: 290

قال مقاتل: " يقول فإن صدق أهل الكتاب بالذي صدفتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب، فقد اهتدوا من الضلالة"(1).

قال ابن عطية: أي: " إن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم"(2).

قال الطبري: أي" فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنزل إليكم، وما أنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك. فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها"(3).

قال الزجاج: " فإِن قال قائل: فهل للإيمان مِثْلٌ هو غير الِإيمان؟ قيل له: المعنى واضح بين، وتأويله: فإِن أتَوْا بتصديق مثل تصديقكم وإِيمانكم - بالأنبياءِ، ووحَّدوا كتوحيدكم - فقد اهتدوا، أي فقد صاروا مسلمين مثلكم"(4).

وقوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ} [البقرة: 137]، اختلف المعربون في الباء، وفي (مثل) أيهما الزائد، وفيه قولان (5):

أحدهما: أن (مثل) هي الزائدة، وأن التقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا؛ وأن (مثل) زائدة إعراباً لا معنًى؛ وأن المعنى: أنهم إن آمنوا بما آمنتم به إيماناً مماثلاً لإيمانكم؛ فعلى هذا تكون الزيادة في كلمة (مثل).

وقد روي عن ابن عباس: لا تقولوا: {فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا} ، فإنه ليس لله مثل، ولكن قولوا:" فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا " - أو قال: " فإن آمنوا بما آمنتم به "(6).

وهذه القراءة جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها، وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها.

قال الطبري: " فكأن ابن عباس - في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه - يوجِّه تأويل قراءة من قرأ: {فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به}، فإن آمنوا بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه، فنؤمن أو نكفر به"(7).

الثاني: أن الزائد هو (الباء) حرف الجر؛ وأن التقدير: فإن آمنوا مثل ما آمنتم - أي مثل إيمانكم -؛ والباء الثانية أيضاً زائدة.

وقد اتفق الجميع على أن المراد الزيادة الإعرابية؛ وليست الزيادة المعنوية؛ لأنه ليس في القرآن ما هو زائد معنى - أي لا فائدة فيه -؛ والمعروف أن الأسماء لا تزاد؛ وأما الزيادة في الحروف فكثيرة؛ لأن الاسم كلمة جاءت لمعنى في نفسها؛ والحرف كلمة جاءت لمعنى في غيرها؛ ومعلوم أننا لو وزنا بالميزان المستقيم لكان ما يجيء لمعنى في غيره أولى بالزيادة مما يجيء لمعنى في نفسه؛ ولهذا أنكر بعض النحويين زيادة الأسماء، وقالوا: لا يمكن أن تزاد الأسماء؛ لأنها جاءت لمعنى في ذاتها؛ بخلاف الحرف؛ فعلى هذا تكون الزيادة في الباء - أي فإن آمنوا مثل ما آمنتم -؛ أي مثل إيمانكم؛ وعلى كلا الاحتمالين من حيث الإعراب فالمعنى واحد - أي إن آمنوا إيماناً مطابقاً لإيمانكم مماثلاً له من كل الوجوه فقد اهتدوا -.

و(الهداية) هنا هداية العلم، والتوفيق؛ لأنهم آمنوا عن علم فوفِّقوا، واهتدوا؛ والهداية هنا مطلقة كما أن المسلمين الذين آمنوا على الوصف المذكور مهتدون هداية مطلقة (8).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 141.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 215.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 113.

(4)

معاني القرآن: 1/ 214.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 42.

(6)

تفسير الطبري (2109): ص 3/ 114.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 114.

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 42.

ص: 291

قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]، " أي وإِن أعرضوا عن الإِيمان بما دعوتهم إِليه، فاعلم أنهم إِنما يريدون عداوتك وخلافك، وليسوا من طلب الحق في شيء"(1).

قال مقاتل: " يقول: إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به، أي وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب، فإنما هم في ضلال واختلاف، نظيرها: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}، يعني لفي ضلال واختلاف"(2).

قال ابن عطية: " أي أعرضوا، يعني به اليهود والنصارى، فإنما هم في شقاق لك، هم في شق وأنت في شق"(3).

قال الطبري: "أي: وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {كونوا هودًا أو نصارَى} فأعرضوا، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم"(4).

قال الواحدي: " أي: [في] خلاف وعداوة، وتأويله: أنهم صاروا في شِقّ غير شَقّ المسلمين"(5).

قال الربيع: " {وإن تولوا} عنه يعني عن الإيمان"(6).

قال محمد بن إسحاق: " {وإن تولوا} على كفرهم"(7).

و(الشقاق): من (شَقَّ عليه هذا الأمر)، إذا كرَبه وآذاه، ثم قيل:(شاقَّ فلانٌ فلانًا)، بمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته، ومنه قول الله تعالى ذكره:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] بمعنى: فراقَ بينهما (8).

و(الشقاق) في اللغة: له ثلاثة معان:

أحدها: العداوة، مثل قوله تعالى:{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].

قال الواحدي: والعداوة تسمى شقاقًا؛ لأنّ كلّ واحد من المعادين يأتي بما يشقّ على صاحبه، أو لأنّ كل واحد صار في شقّ غير شق صاحبه للعداوة والمباينة" (9).

والثاني: الخلاف، مثل قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

والثالث: الضلالة، مثل قوله:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]، وجوها (10):

أولها: أن معناه: في خلاف. قاله ابن عباس (11)، وأبو العالية (12)، وقتادة (13) والربيع بن أنس (14)، وعطاء (15)، والأخفش (16).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 88.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142. [بتصرف بسيط].

(3)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 115.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 358.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1309): ص 1/ 244.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1310): ص 1/ 244.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 115 - 116.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 358.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284، ومفاتيح الغيب: 4/ 74.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1311): ص 1/ 244.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2110): ص 3/ 115، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 244.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2111): ص 3/ 115، تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 244.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(16)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

ص: 292

ودليل هذا القول، قوله:{لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي} [هود: 89]، أي خلافي (1)، ومنه قول الشاعر (2):

فكان إليها والّذي اصطاد بكرها

شقاقا وبعضهن أو لطم وأهجرا

وثانيها: أي: في ضلال. قاله أبو عبيدة (3)، ومقاتل (4).ودليله قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما} [النساء: 35]، أي اختلاف بينهما، قال الشاعر (5):

إلى كم نقتل العلماء قسرا

ونفجر بالشّقاق وبالنفاق

أي بالضلال والاختلاف (6).

وثالثها: أن الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، ومنه:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [سورة النساء: 115]. قاله ابن زيد (7).

ورابعها: أي: في عداوة. قاله الحسن (8)، وابن سلمة (9) والسدي (10).

يقال: كان كلّ واحد منهما أخذ في شقّ صاحبه، أي في جهده وما يشق عليه من قوله:{إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7]، ودليله قوله:{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، أي عادوا الله ورسوله (11).

ومنه قول بشر بن أبي حازم (12):

وإلّا فاعلموا انّا وأنتم

بغاة ما حيينا في شقاق

أي في عداوة (13).

قال الزجاج: {هُمْ فِي شِقَاقٍ} : " أي في مشاقة وعداوة ومن هذا قول الناس: فلان قد شق عصا المسلمين، إِنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إِمامهم، وإِنما صار في شق - غير شق المسلمين"(14).

وسادسها: أن الشقاق: خلع الطّاعة، وبيانه قوله {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115]. وهذا قول الكسائي (15).

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(2)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 1/ 284.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284، ومفاتيح الغيب: 4/ 74.

(4)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(5)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 1/ 284.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2112): ص 3/ 115.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284، ومفاتيح الغيب: 4/ 74.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(12)

ديوان بشر الأسدي: ص 165، والبيت من قصيدة، مطلعها:

أهمت منك سلمى بانطلاق * وليس وصال غانية بباقي

وسبب هذا الشعر كما نقله ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه: أن قوما من آل بدر الفزاريين جاوروا بني لأم من طي، فعمد بنو لأم إلى الفزاريين فجزوا نواصيهم وقالوا: قد مننا عليكم ولم نقتلكم، وبنو فزارة حلفاء بني أسد، فغضب بنو أسد لأجل ما صنع بالبدريين، فأنشأ بشر هذه القصيدة يذكر فيها ما صنع ببني بدر ويقول للطائيين: فإذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا وأطلقوا من قد أسرتم منهم، وإن لم تفعلوا فاعلموا أنا نبغيكم ونطلبكم، فإن أصبنا أحدا منكم طلبتمونا به، فصار كل واحد منا يبغي صاحبه، فنبقى في شقاق وعداوة أبدا. راجع ديوان بشر الأسدي: ص 165 يهجو أوس بن حارثة وفيه " ما حيينا " بدل " ما بقينا "، وشرح السيرافي: ج 2 ص 14، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 10 ص 297.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(14)

معاني القرآن: 1/ 214.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 284.

ص: 293

قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137]، " أي سيكفيك يا محمد شرهم وأذاهم ويعصمك منهم"(1).

قال ابن كثير: أي: "فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم"(2).

قال مقاتل: " يعني أهل الكتاب ففعل الله- عز وجل ذلك فقتل أهل قريظة، وأجلى [بني] النضير من المدينة إلى الشام"(3).

قال الزجاج: " هذا ضمان من اللَّه عز وجل في النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم لأنه إِنما يكفيه إِياهم بإظهار ما بعثه به على كل دين سواه - وهذا كقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] "(4).

قال أبو السعود: " أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال"(5).

قال الطبري: " ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده، فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار"(6).

قال الزجاج: " فإن قال قائل: فإن من المرْسَل مَنْ قُتِل، فإن تأويل ذلك - والله أعلم - أن اللَّه غالب هو ورسله بالحجة الواضحة، والآية البينة، ويجوز أن تكون غلبةَ الآخرة لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة"(7).

وقد قيل: إِن الله لم يأمر رسولاً بحرب فاتبع ما أمره الله به في حربه إِلا غَلَب. فعلى هذا التأويل يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً.

قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، " أي هو تعالى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم من المكر والشر"(8).

قال مقاتل: " [{السميع}]، لقولهم للمؤمنين: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}، ثم قال {العليم}، بما قالوا"(9).

قال الثعلبي: أي" {السَّمِيعُ} لأقوالهم، {الْعَلِيمُ} بأحوالهم"(10)

قال ابن عطية: " {السَّمِيعُ} لقول كل قائل، {الْعَلِيمُ} بما يجب أن ينفذ في عباده"(11).

قال أبو السعود: " تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك"(12).

وفي قوله تعالى: قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، وجهان (13):

الأول: أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه.

الثاني: أنه وعد للرسول عليه السلام يعني: يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرداك، واحتج الأصحاب بقوله:{وهو السميع العليم} على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله: {عليم} بناء مبالغة فيتناول كونه عالما بجميع المعلومات، فلو كان كونه سميعا عبارة عن علمه بالمسموعات

(1) صفوة التفاسير: 1/ 88.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 450.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(4)

معاني القرآن: 1/ 214.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/! 67.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 116.

(7)

معاني القرآن: 1/ 215.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 88.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 284.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 168.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 79.

ص: 294

لزم التكرار وأنه غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعا أمرا زائدا على وصفه بكونه عليما. والله أعلم بالصواب (1).

وقال الشيخ ابن عثيمين: " قد يقول قائل: يبدو لنا أن المناسب أن يقول: «وهو القوي العزيز» لأنه قال: {فسيكفيكهم الله} فما هو الجواب عن ختمها بالسمع، والعلم؟ فالظاهر لي - والله أعلم - أنه لما كان تدبير الكيد للرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال؛ والتدبير أمر خفي ليس هو حرباً يعلن حتى نقول: ينبغي أن يقابل بقوة، وعزة؛ قال تعالى: {وهو السميع العليم} أي حتى الأمور التي لا يُدرى عنها، ولا يبرزونها، ولا يظهرون الحرابة للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله سميع عليم بها؛ هذا ما ظهر لي - والله أعلم -"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون إيمان اليهود، والنصارى مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته حقيقة، ووصفاً.

2 -

ومنها: أن ما خالف ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق الاهتداء بأن يؤمنوا بمثل ما آمن به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته.

3 -

ومنها: أنه لا حجة لمن تولى عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الشقاق، والمجادلة بالباطل؛ لقوله تعالى:{فإن تولوا فإنما هم في شقاق} .

4 -

ومنها: وقوع الشقاق بين أهل الكتاب، والمسلمين؛ وعليه فلا يمكن أن يتفق المسلمون وأهل الكتاب؛ فتبطل دعوة أهل الضلال الذين يدْعون إلى توحيد الأديان؛ لقوله تعالى:{فإنما هم في شقاق} ؛ فاليهود، والنصارى لما لم يؤمنوا صاروا معنا في شقاق؛ وهذا الشقاق لا بد أن يؤدي إلى عداوة، وبغضاء؛ وبالتالي إلى قتال؛ وهكذا وقع: فالمسلمون قاتلوا اليهود، وقاتلوا النصارى - الروم كلهم نصارى -؛ ومن بعد ذلك قاتلوا النصارى في الحروب الصليبية؛ وسيقاتلونهم أيضاً مرة أخرى حتى يدخل الإسلام عاصمتهم الروم؛ ولا بد من هذا في المستقبل بإذن الله؛ وسنقاتل اليهود حتى يختبئ اليهودي بالحجر، والشجر فينادي:«يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» (3) فلا يبَلِّغ عنهم.

5 -

ومن فوائد الآية: الوعيد الشديد لهؤلاء المتولين عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {فسيكفيكهم الله} .

6 -

ومنها: تكفل الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنهم إذا لم يؤمنوا بمثل ما آمن المؤمنون، وتولوا، فإن الله سبحانه وتعالى سيكفيه إياهم عن قرب؛ لقوله تعالى:{فسيكفيكهم الله} ؛ والحمد لله أنه صار ذلك عن قرب: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُتوفَّ حتى أجلى اليهود عن المدينة، وفتح حصونهم في

(1) ورد اسم (السميع) في كتاب الله عز وجل خمسا وأربعين مرة، اقترن بـ (العليم) اثنتين وثلاثين مرة؛ فهو أكثر اسم اقترن به، وكان (السميع) أولا في المواضع جميعها، وحتى عندما اقترن بـ (البصير) وبـ (القريب).

(السميع) بمعنى السامع بصيغة المبالغة، وهو سمع مطلق يليق بالله عز وجل، ويذكر العلماء هنا أنه -سبحانه- «يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء» ، يسمع ما يتهامس به المتهامسون، ويتناجى به المتناجون، وما تسر به لصاحبك، والكل عنده سبحانه وتعالى سواء.

و(العليم) علم يليق به سبحانه وتعالى؛ فهو يعلم كل شيء، ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن ولو كان كيف يكون، فقد أحاط سبحانه بكل شيء علما. واقتران (السميع) بـ (العليم)، فيه تحذير للعباد ألا يتكلموا بما لا يرضي الله؛ لأنه (سميع عليم)، علمه بالمسموع مباشر ليس عن طريق رسول أو واسطة، وفي اقتران الاسمين تأييد للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في (يونس: 65)، وتطمين للمؤمنين إذا هم دعوا الله عز وجل بأنه (سميع عليم) فيجيب الدعاء إذا علم من أحوالهم الصدق والإخلاص.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 41.

(3)

خرجه البخاري ص 235، كتاب الجهاد والسير، باب 94: قتال اليهود، حديث رقم 2926؛ وأخرجه مسلم ص 1184، كتاب الفتن، باب 18: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث رقم 7339 [82]2922.

ص: 295

خيبر، وأبقاهم فيها عمالاً؛ وفي خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أجلاهم من خيبر؛ فكفى الله المؤمنين شرهم - والحمد لله -.

7 -

ومن فوائد الآية: الإشارة إلى التوكل على الله تبارك وتعالى في الدعوة إليه، وفي سائر الأمور؛ لأنه إذا كان وحده سبحانه وتعالى هو الكافي فيجب أن يكون التوكل والاعتماد عليه وحده؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3].

8 -

ومنها: إثبات الاسمين الكريمين {السميع} ، و {العليم} ، وما يتضمناه من الصفات والمعاني العظيمة.

9 -

ومنها: أنه يجب على المرء مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع أقواله؛ لأن الله سبحانه وتعالى سامع لها لا يخفى عليه الصوت مهما خفي؛ بل هو يعلم عز وجل ما توسوس به نفس الإنسان - وإن لم يتكلم به

10 -

ومنها: مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر، والعلن؛ وذلك؛ لأن مقتضى اسمه الكريم:{العليم} أنه يعلم كل شيء.

القرآن

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]

التفسير:

الزموا دين الله الذي فطركم عليه، فليس هناك أحسنُ مِن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالزموها وقولوا نحن خاضعون مطيعون لربنا في اتباعنا ملَّة إبراهيم.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدها: قال الواحدي: "قال ابن عباس: إن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم يقال له: المعمودي ليظهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. نزلت في تحويل القبلة"(1). وأخرج الطبري عن قتادة (2)، وعطاء (3)، نحو ذلك.

الثاني: قال ابن حجر: "أخرج ابن مردويه في تفسير هذه الآية من طريق أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت بنو إسرائيل: يا موسي هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله، فناداه ربه يا موسى الألوان كلها من صبغى وأنزل الله على نبيه {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة} "(4).

قال الطبري: " وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية، فقال الله تعالى ذكره - إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به: " كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا " -: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه"(5).

(1) أسباب النزول: 41.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2113): ص 3/ 117 - 118.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2114): ص 3/ 118.

(4)

العجاب في بيان الأسباب: 1/ 384. وقد رواه مرفوعًا أيضًا المقدسي في "المختارة".

وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس موقوفًا كما في: الدر: 1/ 340 وتفسير ابن أبي حاتم (1314): ص 1/ 245، وقال ابن كثير بعد أن أورده من طريق ابن مردويه "1/ 188":"كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم وسيأتي أيضًا في الآية "255" من طريق ابن أبي حاتم وأبي نعيم في "الحلية". هذا من حيث السند، وأما من حيث المتن فإني لا أجد أي علاقة بسبب نزول هذه الآية.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 117.

ص: 296

قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138]، "أي ما نحن عليه من الإِيمان هو دين الله الذي صبغنا به وفطرنا عليه فظهر أثره علينا كما يظهر الصبغ في الثوب"(1).

قال الطبراني: "أي: "دينَ اللهِ وفِطْرَتَهُ؛ لأن دينَ الإسلامِ يؤثرُ في الْمُتَدَيِّنِ مِن الطهور والصلاةِ والوَقَار وسائرِ شعائر الإسلامِ كالصَّبغ الذي يكونُ في الثوب" (2).

قال مقاتل: " يقول الله- عز وجل دين الله"(3).

قال ابن أبي زمنين: "أي: دين الله"(4).

قال ابن عطية: " شريعته وسنته وفطرته"(5).

قال البيضاوي: " أي صبغنا الله صبغته، وهي فطرة الله تعالى التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو هدانا الله هدايته وأرشدنا حجته، أو طهر قلوبنا بالإِيمان تطهيره، وسماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب، أو للمشاكلة، فإن النصارى كانوا يغسمون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم"(6).

قال السعدي: أي: "الزموا صبغة الله، وهو دينه، وقوموا به قياما تاما، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعا واختيارا ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية، لحث الدين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور"(7).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138]، على أقوال (8):

أحدها: أن المعنى: دينُ الله. وهو قول: ابن عباس (9)، وأبي العالية (10)، ومجاهد (11)، والحسن (12)، وإبراهيم النخعي (13)، وعبد الله بن كثير (14)، والضحاك (15)، وقتادة (16)، وعكرمة (17)، وعطية العوفي (18)، والربيع بن أنس (19)، والسدي (20)، وابن زيد (21)(22).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 88.

(2)

تفسير الطبراني: 1/ 92.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(4)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 182.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 109.

(7)

تفسير السعدي: 1/ 68 - 69.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 118 - 119، وتفسير ابن كثير: 1/ 450.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2123): ص 3/ 119، وابن أبي حاتم (1313): ص 1/ 245.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2116): ص 3/ 118.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2118)، و (2119)، و (2120): ص 3/ 118.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(16)

انظر: تفسير الطبري (2115): ص 3/ 118.

(17)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(18)

انظر: تفسير الطبري (2121): ص 3/ 118.

(19)

انظر: تفسير الطبري (2117): ص 3/ 118.

(20)

انظر: تفسير الطبري (2122): ص 3/ 119.

(21)

انظر: تفسير الطبري (2124): ص 3/ 119.

(22)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 402 - 403، جامع البيان للطبري: 3/ 118 - 119، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 144، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 157، تفسير ابن كثير لابن كثير: 1/ 234. وقال به أيضاً: أبو عبيدة في مجاز القرآن: 1/ 59، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 64، والرازي في مفاتيح الغيب: 4/ 95 - 96، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 411، وابن جزيء في التسهيل لعلوم التنزيل: 1/ 99، وغيرهم.

ص: 297

وقد ذكروا في سبب تسمية دين الله بـ {صبغة الله} ، وجوها (1):

أحدها: "أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا. فقال الله تعالى: اطلبوا صبغة الله وهي الدين، والإسلام لا صبغتهم". قاله ابن عباس (2)، وأخرج الطبري عن قتادة (3)، وعطاء (4)، نحو ذلك.

والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم: اغرس كما يغرس فلان تريد رجلا مواظبا على الكرم، ونظيره قوله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 14 - 15]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142)، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]} (الشورى: 40)، {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38] (5).

وثانيها: أن اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى، بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم، عن قتادة قال ابن الأنباري: يقال: فلان يصبغ فلانا في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازما للثواب وأنشد ثعلب (6):

دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا

إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ (7)

وثالثها: سمي الدين صبغة، لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة، قال الله تعالى:{سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29].

ورابعها: وقيل: أن قوله: {صبغة الله} متعلق بقوله: {قولوا ءامنا بالله} (البقرة: 136) إلى قوله: {ونحن له مسلمون} [العنكبوت: 46] فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى، ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم (8).

والثاني: أن {صبغة الله} : فطرَة الله (9). قاله: مجاهد (10)، وعبدالله ابن كثير (11).

وعلى قول هؤلاء تفسير الآية: "بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [سورة الأنعام: 14]. بمعنى خالق السماوات والأرض: (12).

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75 وما بعدها.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 75. وقد جاء هذا الخبر منسوبا الى ابن عباس في أسباب النزول للواحدي: 41، والوسيط: 1/ 206. وتفسير البغوي: 1/ 157. قال ابن عباس هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2113): ص 3/ 117 - 118.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2114): ص 3/ 118.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75.

(6)

البيت ورد في كتب التفاسير: مفاتيح الغيب: 4/ 79، وتفسير القاسمي: 1/ 409، وروح البيان: 1/ 304.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 75.

(9)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2126)، و (2127): ص 3/ 119.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2128): ص 3/ 119.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 120.

ص: 298

قال الراغب: "الصبغة إشارة من الله- عز وجل إلى ما أوجده فينا من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، رشحنا به لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية"(1).

قال الرازي: " ومعنى هذا الوجه، أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة."(2)

كما وأن من حمل قوله: (صبغة الله) على الفطرة فهو مقارب في المعنى، لقول من يقول: هو دين الله، لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع، وهو الدين أيضا، لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله {قولوا ءامنا بالله} فكأنه تعالى قال في ذلك: إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر دينا ودنيا كظهور حسن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول: إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه، بدونه فلا فائدة فيه (3).

الثالث: وقيل: هو غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم (4).

وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما، روى احمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد حسن إسلام صاحبكم"(5).

الرابع: وقيل: هو الختان لأنّه يصبغ صاحبه بالدم (6).

الخامس: وقيل: : إنه حجة الله، عن الأصم (7).

السادس: وقيل: إنه خلقة الله، قاله أبو عبيدة (8)، وأجازه الزجاج (9).

من صبغت الثوب إذا غيّرت لونه وخلّقته. فيكون المعنى: إنّ الله ابتدأ الخلقة على الإسلام، دليله قول مقاتل في هذه الآية:{فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30] أيْ "دِيْنَ اللهِ"(10)، ويوضِّحه قول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"(11)(12).

السابع: هو سنة الله. حكاه الثعلبي عن أبي عبيدة (13).

الثامن: أن {صِبْغَةَ اللَّهِ} ، أيْ: وجْهَةَ اللهِ؛ بمَعْنَى الْقِبْلَةِ. قاله ابنُ كيسان (14).

التاسع: وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل (15).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 324.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 76.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 145.

(5)

مسند أحمد (10217).

(6)

تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 76.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 5.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 215، وتفسير الثعلبي: 2/ 5.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(11)

رواه البخاري: (1358)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 5.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(14)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 5، وتفسير الطبراني: 1/ 91.

(15)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 145.

ص: 299

العاشر: وقيل: "صبغة الله على مراتب، أولها ما ركب فينا من الهداية وهي الفطرة والثانية: الهداية بالتوفيق، والثالثة: الهداية ببعثة الرسل، والرابعة: الهداية في الترقي توليه إلى الدرجة العليا والسعادة القصوى"(1).

والصواب أن {صِبْغَةَ اللَّهِ} هو دين الله، وذلك للوجوه التي ذكرناها. والله تعالى أعلم.

وقد اختلف في أصل (الصبغة) على قولين (2):

أحدهما: أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم. روي ذلك عن ابن عباس (3)، وقتادة (4)، وعطاء (5).

وقال بعض شعراء ملوك همدان (6):

وكل أناس لهم صبغة

وصبغة همدان خير الصبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا

فأكرم بصبغتنا في الصبغ

فهذا يتمدح أنهم صبغوا أولادهم بصبغة معينة، تميزوا فيها عن أبناء القبائل الأخرى (7).

الثاني: وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى (8).

قال القرطبي: "وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا"(9).

وتعددت أقوال أهل العلم في انتصاب {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138]، وفيه ثلاثة أوجه (10):

الأول: أنه نصب على الإغراء، كقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]، أي: اتبعوا وألزموا صبغة الله. قاله ابن كثير (11)، وأبو عبيدة (12).

قال الحافظ ابن حجر: " وكأن لفظ {صبغة} ورد بطريق المشاكلة (13)؛ لأن النصارى كانوا يغمسون من ولد منهم في ماء المعمودية، ويزعمون أنهم يطهرونهم بذلك، فقيل للمسلمين: الزموا صبغة الله فإنها أطهر (14) "(15).

الثاني: أنه بدل من قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (16). قاله الأخفش (17).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 325.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 144.

(3)

أسباب النزول: 41.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2113): ص 3/ 117 - 118.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2114): ص 3/ 118.

(6)

البيت من شواهد كتب التفاسير، مثل: تفسير القرطبي: 2/ 144، والبحر المحيط: 1/ 583.

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 144.

(8)

انظر: حكاه القرطبي عن الماوردي، ولم نقف عليه في النكت والعيون، انظر: تفسير القرطبي: 2/ 144.

(9)

تفسير القرطبي: 2/ 144.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 6، وتفسير ابن كثير: 1/ 450.

(11)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 450.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(13)

المشاكلة هي: أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً. فمثال التحقيق: قوله-عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى، والعدوان الذي أمر الله به إنما هو القصاص، والقصاص عدل لا ظلم، وإن كان اللفظ واحداً. ومثال التقدير: هذه الآية إذ أمر الله بالتزام صبغته، أي: دينه، وهي لفظة في مقابل صبغة النصارى أولادهم بغمسهم في ماء المعمودية، فلفظ الصبغة لم يتقدم معناه في الحقيقة، وإنما هو أمر معروف من حال النصارى. انظر: الحجة للفارسي: 1/ 236، مفتاح العلوم للسكاكي: 200، جواهر البلاغة لأحمد الهاشمي: 375، معجم المصطلحات البلاغية لأحمد مطلوب: 621 - 622.

(14)

ذكر هذا المعنى الواحدي في أسباب النزول-تحقيق أيمن شعبان-: 41، والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 157، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 411 عن ابن عباس، وانظر ذلك في: معاني القرآن للفراء: 1/ 82 - 83، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 215، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 249، الكشاف للزمخشري: 1/ 316، مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 95، الدر المصون للسمين: 1/ 388، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 85، تيسير المنان تفسير القرآن للكوكباني: 2/ 1362 - 1363، وغيرها.

(15)

الفتح: 8/ 11.

(16)

وكذلك رَفع (الصبغة) من رَفع (الملة)، على ردّها عليها، وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغةُ الله. (انظر: تفسير الطبري: 3/ 117).

(17)

انظر: معاني القرآن: 1/ 159.

ص: 300

الثالث: وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} ، كقوله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} [النساء: 36] (1).

وقال الحافظ ابن حجر: " هو مصدر انتصب عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] على الأرجح (2) "(3).

وفي قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138]، قراءتان (4):

إحداهما: قراءة النصب: صِبْغَةَ الله}، وهي قراءة الجمهور.

والثانية: {صِبْغَةُ الله} ، بالرفع، وهي قراءة شاذة قرأ بها الأعرج وابن أبي عبلة.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، "أي لا أحد أحسن من الله صبغة (دينا وتطهيرا) "(5).

قال أبو العالية: أي" ومن أحسن من الله دينا"(6)، وروي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن والسدي والربيع بن أنس وعبد الله بن كثير نحو ذلك (7).

قال مقاتل: " يعني الإسلام"(8).

قال البيضاوي: أي: " لا صبغة أحسن من صبغته"(9).

قال أبو السعود: " أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى"(10).

قال الصابوني: " ولا أحد أحسن من الله ديناً"(11).

قال السعدي: قال على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: لا أحسن صبغة من صبغته" (12).

قال القاسمي: "لأنها صبغة قلب لا تزول، لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه"(13).

وقال ابن عثيمين: أي: "لا أحد أحسن من الله صبغة، وذلك؛ لأن دين الله عز وجل مشتمل على المصالح، ودرء المفاسد؛ ولا يوجد دين يشتمل على هذا إلا ما جاء من عند الله، سواء كان الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو الأديان الأخرى ما دامت قائمة لم تنسخ؛ ومجيء الاستفهام بمعنى النفي أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يتضمن التحدي؛ فإن القائل إذا قال:(ليس مثل زيد بشر) ليس كقوله: (مَنْ مثل زيد مِن البشر؟ ! )؛ فالثاني أبلغ: كأنه يتحدى المخاطَب أن يأتي بأحد مثله (14).

(1) حكاه عنه ابن كثير في تفسيره: 1/ 450. ولم نقف عليه في الكتاب.

(2)

انظر نحواً من ذلك الترجيح في: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 411 - 412، والدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 388، البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات ابن الأنباري: 1/ 126، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 66.

(3)

الفتح: 8/ 11.

(4)

انظر: الدر المصون للسمين: 1/ 388، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 370، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 411.

(5)

تفسير البغوي: 1/ 158.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1315): ص 1/ 245.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 245.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(9)

تفسير البيضاوي: 1/ 109.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 168.

(11)

صفوة التفسير: 1/ 88.

(12)

تفسير السعدي: 1/ 68 - 69.

(13)

تفسير القاسمي: 1/ 409 - 410.

(14)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 43.

ص: 301

قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، "أي ونحن نعبده جلّ وعلا ولا نعبد أحداً سواه"(1).

قال مقاتل: " يعني موحدون"(2).

قال الثعلبي: أي: " مطيعون"(3).

قال البيضاوي: " تعريض بهم، أي لا نشرك به كشرككم"(4).

قال البغوي: أي: "موحدون أو "مطيعون" (5).

قال الآلوسي: أي: "متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في إتباع تلك الملة"(6).

قال أبو السعود: " أي لله الذي أولانا تلك النعمةَ الجليلةَ، {عابدون} شكراً لها ولسائر نعمه"(7).

فـ (العبادة) التذلل لله عز وجل بفعل أوامره محبة له، واجتناب نواهيه تعظيماً له مع شعور الإنسان بمنزلته، وأن منزلته أن يكون عبداً لله عز وجل.

قال الراغب: "وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} تعريض بهم أي لا نشرك [به] كشرككم"(8).

وتقديم المعمول في قوله تعالى: {لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، على عامله هنا له فائدتان (9):

أولهما: لفظية؛ وهي مراعاة فواصل الآيات.

والثانية: معنوية؛ وهي الحصر، والاختصاص؛ فهو كقوله تعالى:{إياك نعبد} [الفاتحة: 5].

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: وجوب الالتزام بدين الله؛ لأن المعنى: الزموا صبغة الله عز وجل.

2 -

ومنها: أن هذا الدين حق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه؛ وكل ما يضاف إلى الله عز وجل فإنه حق.

3 -

ومنها: أن دين الله سبحانه وتعالى أحسن الأديان، وأكملها، وأشملها، وأقومها بمصالح العباد؛ لقوله تعالى:{ومن أحسن من الله صبغة} .

4 -

ومنها: وجوب إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {ونحن له عابدون} ؛ فقدم المعمول لإفادة الحصر؛ وعبادة الله فخر، وشرف للعبد؛ ولهذا جاء وصف العبودية في المقامات العليا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت في مقام الدفاع عنه في قوله تعالى:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]؛ وفي مقام تكريمه بالإسراء في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، وفي مقام رسالته، مثل قوله تعالى:{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} [الكهف: 1].

5 -

ومن فوائد الآية: أن العقل يقضي بالتزام الدين؛ لقوله تعالى: {ومن أحسن من الله صبغة} ؛ فإن العقل يهدي إلى التزام الأحسن؛ كل إنسان له عقل سليم فإن عقله يأمره بالتزام الأحسن.

القرآن

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} [البقرة: 139]

التفسير:

(1) صفوة التفاسير: 1/ 88.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 142.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/! 09.

(5)

تفسير البغوي: 1/ 157.

(6)

روح المعاني: 1/ 398.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 168.

(8)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 325.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 97.

ص: 302

قل -أيها الرسول لأهل الكتاب-: أتجادلوننا في توحيد الله والإخلاص له، وهو رب العالمين جميعًا، لا يختص بقوم دون قوم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن لله مخلصو العبادة والطَّاعة لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد أحدًا غيره.

قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ} [البقرة: 139]، أي:"قل أتخاصموننا وتجادلوننا في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به"(1).

أخرج الطبري عن مجاهد: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ} ، قل: أتخاصموننا؟ " (2). وروي عن ابن عباس (3)، ابن زيد (4)، نحو ذلك.

قال الثعلبي: أي: " قُلْ يا محمّد لليهود والنصارى أتجادلوننا وتخاصمونا في دين الله وذلك بأن قالوا: يا محمّد إنّ الأنبياء كانوا منّا وعلى ديننا"(5).

قال الراغب: " (المحاجة): المقاومة في إظهار الحجة البينة للحجة، أي المقصد، وقد ألزمهم بهذه الآية الحجة المذكورة في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، ولما كانت الشرائع مبنية بالقول المجمل على ثلاثة أشياء: الإقرار بالباري- عز وجل، والعمل له والإخلاص في ذلك قال، قل لهم إنا قد تشاركنا في الإقرار بالله- عز وجل وفى العمل له ونحن قد حصل لنا الإخلاص [في ذلك] من دونكم"(6).

قال المراغي: " المحاجة: المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك، في الله: أي في دينه"(7).

وقد اختلف أهل التفسير في تلك المحاجة وذكروا وجوها (8):

أحدها: أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا.

قال صاحب الكشاف: "أتجادلوننا في شأن اللَّه واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل اللَّه على أحد لأنزل علينا"(9).

وقال: النسفي: أي "أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا"(10).

وثانيها: قولهم: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان.

وثالثها: قولهم؛ {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقولهم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، عن الحسن.

ورابعها: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ} أي: أتحاجوننا في دين الله.

قال ابن كثير: أي "أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره"(11).

خامسها: وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا (12).

(1) تفسير الطبري: 3/ 122.

(2)

تفسير الطبري (2129): ص 3/ 121.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1316): ص 1/ 245.تفسير الطبري (2131): ص 3/ 121.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2130): ص 3/ 121.

(5)

تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 325.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 227.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 81.

(9)

تفسير الكشاف: 1/ 197.

(10)

تفسير النسفي: 1/ 130.

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 451.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 145.

ص: 303

وقوله تعالى {فِى اللَّهِ} [البقرة: 139]، أي:"في دينه والقرب منه والحظوة له"(1).

قال ابن عرفة: " سماها حجة مجازا، وإنما هي شبهة وليست حجة بوجه"(2).

وفي قوله تعالى: {أَتُحَآجُّونَنَا} [البقرة: 139]، وجهان من القراءة:

أحدهما: {أَتُحَآجُّونَنَا} ، وهي قراءة الجماعة، فجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لأن الثاني كالمنفصل.

والثاني: {أَتُحَآجُّونَّا} بإدغام النون (3)، لاجتماع المثلين. قرأ بها زيد بن ثابت.

قال الزجاج: "وهذا وجه جيد"(4).

قال النحاس: "وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد"(5).

ويجوز (أتحاجونا) بحذف (النون) الثانية، كما قرأ نافع {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] (6)، قال الشاعر (7):

تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الغانيات إذا فليني

يريد فلينني.

قال الزجاج: " ورأيت مذهب المازني وغيره رد هذه القراءة، وكذلك ردوا {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، والأقدام على رد هذه القراءة غلط، لأن نافعا رحمه الله قرأ بها، وأخبرني إسماعيل بن إسحاق أن نافعا رحمه الله لم يقرأ بحرف إلا وأقل ما قرأ به إثنان من قراء المدينة، وله وجه في العربية فلا ينبغي أن يرد، ولكن (الفتح) في قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] أقوى في العربية"(8).

وفي مسألة المحاجة كانت مع من؟ ذكر المفسرون وجوها (9):

أحدها: أنه خطاب لليهود والنصارى. قاله مقاتل (10)، والثعلبي (11)، والبيضاوي (12)، وابن عطية (13) وغيرهما.

وثانيها: أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، والعرب كانوا مقرين بالخالق.

وثالثها: أنه خطاب مع الكل.

والقول الأول أشبه بالصواب وأليق بنظم الآية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [البقرة: 139]، أي:" والله ربنا وربكم وهو الخالق وجميعنا خلقه"(14).

قال البيضاوي: أي: " لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده"(15).

(1) تفسير القرطبي: 2/ 145.

(2)

تفسير ابن عرفة: 1/ 433.

(3)

انظر: تفسير الكشاف: 1/ 196.

(4)

معاني القرآن: 1/ 216.

(5)

تفسير القرطبي: 2/ 145 - 146.

(6)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 216، وتفسير القرطبي: 2/ 145 - 146.

(7)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الزجاج في معاني القرآن: 1/ 217.

(8)

معاني القرآن: 1/ 216 - 217.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 81.

(10)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 143.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(12)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 109.

(13)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 216.

(14)

تفسير المراغي: 1/ 228.

(15)

تفسير البيضاوي: 1/! 09.

ص: 304

قال ابن كثير: " أي: وهو تعالى المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له"(1).

قال ابن عطية: أي: " والرب تعالى واحد "(2).

قال البغوي: " أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم"(3).

قال النسفي: أي: فنشرك جميعاً في أننا عباده، وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده (4).

قال الصابوني: " أي ربُّ الجميع على السواء وكلُّنا عبيدة"(5).

قال أبو السعود: " أي أتجادلوننا والحالُ أنه لا وجه للمجادلة أصلاً، لأنه تعالى ربُنا أي مالكُ أمرنا وأمرِكم"(6).

قال الآلوسي: "أي وهو: " تعالى مالك أمرنا وأمركم" (7).

قال القاسمي: أي: " ونحن وأنتم في العبودية له سواء"(8).

قال أبو حيان: " المعنى: أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك"(9).

وذكروا أن في قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [البقرة: 139]، وجهان (10):

الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له.

الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية، ولستم كذلك، وهو المراد بقوله:{ونحن له} وهذا التأويل أقرب.

قوله تعالى: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [البقرة: 139]، "أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم لا يتحمل أحد وزر غيره"(11).

قال أبو السعود: أي {ولنا أعمالنا} الحسنةُ الموافقةُ لأمره، {وَلَكُمْ أعمالكم} السيئةُ المخالفة لحُكمه" (12).

قال ابن عطية: أي: "وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين؟ "(13).

قال النسفي: "يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك"(14)، فإذا كان:"كل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين"(15).

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 451.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(3)

تفسير البغوي: 1/ 175.

(4)

انظر: تفسير النسفي: 1/ 130.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 88.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 169.

(7)

روح المعاني: 1/ 396.

(8)

محاسن التأويل: 1/ 410.

(9)

البحر المحيط: 1/ 358.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 81.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 88.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 169.

(13)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(14)

تفسير النسفي: 1/ 130.

(15)

تفسير القرطبي: 2/ 145.

ص: 305

قال ابن عثيمين: " أي أننا لا نسأل عنكم، ولا تُسألون عنا؛ كل له عمله؛ وسيجازيه الله به يوم القيامة"(1).

قال القاسمي: " أي نحن برءاء منكم ومما تعبدون، وأنتم برءاء منا. كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]. وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] الآية"(2).

قال البيضاوي: " فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاماً وتبكيتاً، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء والكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص. وكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله في إعطائها، فلنا أيضاً أعمال"(3).

قال الزجاج: "ثم أعلموهم أنهم مخلصون، وإخلاصهم إيمانهم بأن الله عز وجل واحد، وتصديقهم جميع رسله، فاعلموا أنهم مخلصون، دون من خالفهم"(4).

وقال الرازي: " فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح، وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خاليا عن الأغراض الدنيوية، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق"(5).

قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139]، أي: ونحن "مخلصون لله الدينَ، لا نشرك به شيئاً"(6).

قال البيضاوي: أي: " موحدون، نخصه بالإيمان والطاعة دونكم"(7).

قال الطبري: " إذ عبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ "(8).

قال ابن عطية: " أي ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم؟ "(9).

قال أبو السعود: أي مخلصون له" في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهَه، فأنّى لكم المُحاجّةُ وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمعِ في دخول الجنة بسببه ودعوةِ الناس إليه"(10).

قال القاسمي: أي" لا نشرك به شيئا، وأنتم تشركون به عزيرا والمسيح والأحبار والرهبان"(11).

قال النسفي: "والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره (12)،

قال القرطبي: "وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم"(13).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 99.

(2)

محاسن التأويل: 1/ 410.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/! 09.

(4)

معاني القرآن: 1/ 217.

(5)

مفاتيح الغيب: 4/ 81.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 99.

(7)

تفسير البيضاوي: 1/ 109.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 122.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 216.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/ 169.

(11)

محاسن التأويل: 1/ 410.

(12)

تفسير النسفي: 1/ 130.

(13)

تفسير القرطبي: 2/ 146.

ص: 306

قال البقاعي: " ونحن أحسن أعمالاً منكم لأنا دونكم (له) وحده (مخلصون) لا نشرك به شيئاً وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان، وأنتم تعلمون ذلك في باطن الأمر وإن أظهرتم خلافه، فلزم قطعاً أنا أخص به منكم"(1).

قال صاحب الكشاف: " ثم قال {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} فجاء بما هو سبب الكرامة، أى ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة، وكانوا يقولون: نحن أحق بأن تكون النبوة فينا، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أوثان"(2).

قال الثعلبي: " وهذه الآية منسوخة بآية السّيف"(3).

قال القرطبي: " والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين"(4).

وقيل: أن" الإخلاص: عزل النفس جملة، فلا يبلغ عبد حقيقته حتى لا يحب أن يحمد على عمل"(5).

والإخلاص في اللغة: خَلَص يخلص خلوصًا: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها، ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصًا: أي نجّاه. والإخلاص في الطاعة: ترك الرياء (6).

وحقيقة الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعْمَرَ من ظاهره.

وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه (7).

ولهذا قال القاضي عياض: "تَرْك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعملُ من أجل الناس شركٌ، والإخلاصُ أن يعافيَكَ الله منهما"(8).

والإخلاص: في حياة المسلم أن يَقصد بعمله، وقوله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا رب سواه.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: الإنكار على اليهود والنصارى الذين يحاجون المسلمين في الله مع إقرارهم بأنه ربهم؛ لقوله تعالى: {قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم} .

2 -

ومنها: وجوب البراءة من أعمال الكفار؛ لقوله تعالى: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} ؛ فإن المراد بذلك البراءة مما هم عليه.

3 -

ومنها: أنه ينبغي للمرء أن يفتخر بما هو عليه من الحق؛ لقوله تعالى: {ولنا أعمالنا} أي فنحن مفتخرون بها بريئون من أعمالكم.

4 -

ومنها: أنه لا يجوز التشبه بأعداء الله؛ لأن المشابهة موافقة في العمل؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (9)؛ وهنا قال تعالى: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} : فنحن متميزون عنكم، وأنتم متميزون عنا.

(1) تفسير البقاعي: 1/ 257 - 258.

(2)

تفسير الكشاف: 1/ 197.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 6.

(4)

تفسير القرطبي: 2/ 146

(5)

تفسير البقاعي: 1/ 257 - 258.

(6)

المعجم الوسيط، 1/ 249، ومختار الصحاح، ص 77.

(7)

مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91.

(8)

انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91.

(9)

أخرجه أحمد 2/ 50، حديث رقم 5114، وأخرجه أبو داود ص 1518، كتاب اللباس، باب 4: في لبس الشهرة، حديث رقم 4031، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنفن كتاب السير، باب 79: ما قالوا فيما ذكر من الرماح واتخاذها، حديث رقم 33006، قال الحافظ في الفتح 10/ 271: أخرجه أبو داود بسند حسن؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/ 504، وقال في الإرواء: صحيح 5/ 109، حديث رقم 1269.

ص: 307

5 -

ومنها: وجوب الإخلاص لله؛ لتقديم المعمول في قوله تعالى: {ونحن له مخلصون} .

القرآن

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140]

التفسير:

بل أتقولون مجادلين في الله: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط- وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد يعقوب- كانوا على دين اليهود أو النصارى؟ وهذا كذب؛ فقد بُعِثوا وماتوا قبل نزول التوراة والإنجيل. قل لهم -أيها الرسول-: أأنتم أعلم بدينهم أم الله تعالى؟ وقد أخبر في القرآن بأنهم كانوا حنفاء مسلمين، ولا أحد أظلم منكم حين تخفون شهادة ثابتة عندكم من الله تعالى، وتدَّعون خلافها افتراء على الله. وما الله بغافل عن شيء من أعمالكم، بل هو مُحْصٍ لها ومجازيكم عليها.

قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140]، أي" أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها"(1).

قال البيضاوي: "يعني: "أيّ الأمرين تأتون المحاجة، أو ادعاء اليهودية، أو النصرانية على الأنبياء" (2).

قال الزجاج: " كأنهم قالوا لهم: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا؟

أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون" (3).

قال الزمخشري: المعنى: " أىّ الأمرين تأتون: ألمحاجة في حكمة اللَّه أم ادّعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ "(4).

قال ابن كثير: أنكر تعالى عليهم، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية" (5).

قال ابن عثيمين: أي: " بل أتقولون أن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاط كانوا على ملة اليهودية، والنصرانية، وهذا من سفه هؤلاء اليهود الذين يدعون ذلك؛ لأن أصل اليهودية، والنصرانية حدثت بعد هؤلاء؛ فكيف يكون هؤلاء هوداً، أو نصارى؟ ! ! ! "(6).

ولا يخفى بأن هذه دعوى كاذبة؛ فليس هؤلاء هوداً، ولا نصارى؛ بل إن الله سبحانه وتعالى قال موبخاً لهؤلاء مبيناً ضلالهم ــ الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} [آل عمران: 67]، وقال تعالى:{وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون} [آل عمران: 65]؛ فكيف كون يهودياً أو نصرانياً وكتاب اليهود والنصارى لم ينزل إلا من بعد إبراهيم؟ ! ! ! (7).

وفي قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} [البقرة: 140]، قراءتان (8):

(1) تفسير المراغي: 1/ 229.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(3)

معاني القرآن: 1/ 217.

(4)

الكشاف: 1/ 197.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 451.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 11 - 101. [بتصرف بسيط].

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 101.

(8)

انظر: السبعة في القراءات: 171، والحجة: 2/ 228 - 229، وتفسير الثعلبي: 2/ 7، وتفسير الطبري: 3/ 122 - 123، ومفاتيح الغيب: 4/ 81، وتفسير القرطبي: 2/ 146 - 147.

ص: 308

إحداهما: قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {أَمْ تَقُولُونَ} بالتاء على المخاطبة، كأنه قال: أتحاجوننا أم تقولون.

قال القرطبي: " وهي قراءة حسنة، لأن الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي (أم) المتصلة"(1)، ويحتمل أن تكون (أم) المنقطعة بمعنى: بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضا.

الثاني: وقراءة الباقين: {أَمْ يقُولُونَ} بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى، وعلى هذا الوجه تكون (أم) منقطعة، لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل: أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هودا أو نصارى.

والراجح من القراءة (أم تقولون) بالتاء، وذلك لأنه اليق بالسياق (2)، والقراءة بالياء قراءة شاذة عن عامة القراء. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: (وإسماعيل): هو أكبر أولاد إبراهيم؛ وهو الذي أمر الله أباه أن يذبحه؛ والقصة مبسوطة في سورة الصافات.

قوله تعالى: (وإسحاق): هو أخو إسماعيل؛ وهو الولد الثاني لإبراهيم عليه السلام؛ (ويعقوب): هو ابن إسحاق؛ وهو الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل؛ (والأسباط) سبق الكلام على بيانهم.

قوله تعالى: (كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) يعني كانوا على ملة اليهودية، والنصرانية؛ وهذا من سفه هؤلاء اليهود الذين يدعون ذلك؛ لأن أصل اليهودية، والنصرانية حدثت بعد هؤلاء؛ فكيف يكون هؤلاء هوداً، أو نصارى؟ ! ! !

ولا إشكال بأن هذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد - لهؤلاء اليهود والنصارى -: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا - على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك - برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يقتدى بهم (3).

قال الرازي: إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه (4):

أحدها: لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ثبتت نبوته بسائر المعجزات، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه.

وثانيها: شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية.

وثالثها: أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم.

ورابعها: أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.

قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]، أي:" أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟ "(5).

(1) تفسير القرطبي: 2/ 146.

(2)

يقول الطبري: " (أم تقولون) بالتاء دون الياء عطفًا على قوله: " قل أتحاجُّوننا "، بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا - وأمرنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم، فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه". (تفسير الطبري: 3/ 123).

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 123.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 81.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 124.

ص: 309

قال القرطبي: "وهو تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى، فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى"(1).

قال ابن عثيمين: " ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم من الله عز وجل؛ ولكن الله سبحانه وتعالى قال ذلك إلزاماً للخصم حتى يتبين بطلان ما ادعاه؛ وهو كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]؛ ومن المعلوم أن الله خير مما يشركون؛ لكن من أجل إفحام الخصم، وإلزامه بما هو ظاهر لا إشكال فيه"(2).

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، "يعني: لا أحد أظلم في كتمان الشهادة ممن كتم شهادة عنده من الله" (3).

قال ابن عثيمين: أي: " وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية"(4).

قال الزمخشري: "وفيه تعريض بكتمانهم شهادة اللَّه لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته"(5).

قال الربيع: "أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان"(6). وروي عن مجاهد (7)، والحسن (8)، نحو ذلك.

وقال قتادة: "أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل"(9).

وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، ثلاثة أوجه (10):

أحدها: أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك: ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب، علمنا أنه ليس الأمر كذلك.

وثانيها: ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله: {من الله} تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال: ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها.

وثالثها: أن يكون: (من) في قوله: (مِنَ اللَّهِ) صلة الشهادة والمعنى: ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك، أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك.

(1) تفسير القرطبي: 2/ 147.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 101.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 101.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 101.

(5)

الكشاف: 1/ 197.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2135): ص 3/ 125.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2132)، (2133): ص 3/ 124.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2134): ص 3/ 125.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2136)، (2137): ص 3/ 126 - 127.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 82.

ص: 310

وذكر الزمخشري في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، معنيين (1):

أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها.

والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها.

واختلف في قوله تعالى: {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} [البقرة: 140]، على قولين (2):

أحدهما: يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام. قاله مجاهد (3)، والربيع (4) والحسن (5).

والثاني: يريد: ما كتموه اليهود من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. قاله قتادة (6)، والربيع (7)، وابن زيد (8).

والقول الأول أشبه بسياق الآية، إذ جاء إثر سرد قصة أنبيائه لهم. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140]، يعني:"أن الله عز وجل لا يغفل عما يعمل هؤلاء؛ بل هو جل وعلا عالم به، وسوف يحاسبهم عليه"(9).

قال النسفي: " من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة"(10).

قال الصابوني: " أي مطلع على أعمالهم ومجازيهم عليها وفيه وعيد شديد"(11).

قال البيضاوي: " وعيد لهم"(12).

قال ابن كثير: والقول فيه تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه (13).

قال أبو السعود: " يدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميعِ ما تأتونَ وما تذرونَ فيعاقبُكم بذلك أشد عقاب"(14).

وقرئ: {عما يعملون} ، على صيغة الغَيْبة، فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى وإما لأهلِ الكتاب (15).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إبطال دعوى هؤلاء اليهود، والنصارى أن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، كانوا هوداً أو نصارى؛ فهذه الدعوى باطلة؛ بل وصفُ هؤلاء الإسلام؛ فإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط ليسوا هوداً، ولا نصارى؛ بل هم مسلمون لله سبحانه وتعالى.

2 -

ومنها: رد علم هذه الأشياء إلى الله؛ لقوله تعالى: {أأنتم أعلم أم الله} .

3 -

ومنها: الرد على أهل التحريف في أسماء الله، وصفاته الذين يقولون:«إن هذا جائز عقلاً على الله؛ فنقر به؛ وهذا يمتنع عقلاً على الله؛ فلا نقر به» كالمعتزلة، والأشاعرة، ونحوهم؛ نقول لهم كلهم في الجواب:{أأنتم أعلم أم الله} : أأنتم أعلم بما يجوز على الله، ويمتنع عليه، ويجب له، أم الله أعلم بما يمتنع عليه، ويجب له،

(1) انظر: الكشاف: 1/ 197.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 147، وتفسير ابن كثير: 1/ 451.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2132)، (2133): ص 3/ 124.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2135): ص 3/ 125.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2134): ص 3/ 125.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2136)، (2137): ص 3/ 126 - 127.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2136): ص 3/ 126.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2139): ص 3/ 127.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 102.

(10)

تفسير النسفي: 1/ 129.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 89.

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(13)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 452.

(14)

تفسير أبي السعود: 1/ 170.

(15)

اظر: تفسير البيضاوي: 1/ 110، وتفسير أبي السعود: 1/ 170.

ص: 311

ويجوز له؟ ! ! ! وهذه في الحقيقة حجة ملزمة مفحمة مقحمة لهؤلاء الذين يتحكمون في صفات الله تعالى بعقولهم، فيقولون:«يجب لله كذا؛ يمتنع عليه كذا» ؛ نقول: {أأنتم أعلم أم الله} .

4 -

ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم؛ لقوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} ؛ فإن العالم بشريعة الله عنده شهادة من الله بهذه الشريعة، كما قال الله تعالى:{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18]؛ فكل إنسان يكتم علماً فقد كتم شهادة عنده من الله؛ ثم إن في هذا عظم إثمه؛ لقوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} .

5 -

ومنها: كمال علم الله، ومراقبته لعباده؛ لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون} .

6 -

ومنها: ثبوت الصفات المنفية؛ وهي ما نفاه الله سبحانه وتعالى عن نفسه؛ لقوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} ؛ فإن هذه صفة منفية، وليست ثبوتية؛ والصفات المنفية متضمنة لإثبات كمال ضدها؛ فلكمال مراقبته، وعلمه سبحانه وتعالى ليس بغافل عما نعمل.

7 -

ومنها: تخويف الإنسان، وإنذاره من المخالفة؛ لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون} ؛ فإياك والمخالفة؛ مثلما تهدد إنساناً بشيء تقول: لست بغافل عنك.

8 -

ومنها: إضافة العمل إلى العامل؛ ففيه رد على الجبرية الذين يقولون: «إن الإنسان مجبر على عمله» ؛ لقوله تعالى: {عما تعملون} .

القرآن

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} [البقرة: 141]

التفسير:

تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ، لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، وهم لا يُسْألون عن أعمالكم. وفي الآية قطع للتعلق بالمخلوقين، وعدم الاغترار بالانتساب إليهم، وأن العبرة بالإيمان بالله وعبادته وحده، واتباع رسله، وأن من كفر برسول منهم فقد كفر بسائر الرسل.

وهذه الآية جاءت تأكيدا وقد تقدم تفسيرها (1)، وكررها، "لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال"(2).

قال الصابوني: " كرّرها، لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إِذا كان أولئك الأنبياء على فضلهم وجلاله قدرهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى "(3).

قال البيضاوي: " تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم. قيل: الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم. وقيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى"(4).

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 141]، "أي: إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت" (5).

قال الصابوني: " أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى"(6).

قال الطبري: أي: "مضت لسبيلها، فصارت إلى ربها، وخَلتْ بأعمالها وآمالها"(7).

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قوله: " {تلك}، يعني" هذه" (8).

(1) وقد سبق ان تناولنا معاني الآية في الآية رقم (134) من السورة.

(2)

تفسير السعدي: 1/ 70.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 89.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 230.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 128.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم (1286): ص 1/ 240.

ص: 312

وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ} [البقرة: 141]، يعني: إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. قاله قتادة (1)، والربيع (2)، وأبو العالية (3).

قال البيضاوي: " يعني إبراهيم ويعقوب وبينهما"(4).

قال ابن عثيمين: " المشار إليه إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن سبق؛ وكان اليهود يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؛ فبين الله تعالى أن هذه أمة قد مضت"(5).

قال ابن كثير: " ولهذا جاء، في الأثر: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (6)(7).

قال الطبري: " وإنما قيل للذي قد مات فذهب: (قد خلا)، لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه، وأصله من قولهم: (خلا الرجل)، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه"(8).

و(الأمة) في الأصل: "المقصود، وسمي بها الجماعة، لأن الفرق تؤمها"(9).

قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 141]، " أي: لها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها" (10).

قال الثعلبي: أي: " من الدين والعمل"(11).

قال الطبري: أي: "لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها"(12).

قال الصابوني: " أي لها ثواب ما كسبت، ولكم ثواب ما كسبتم"(13).

قال سعيد: " يعني ما عملت من خير أو شر"(14).

قال ابن كثير: "أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم"(15).

قال البيضاوي: أي" لكل أجر عمله، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» (16) "(17).

(1) انظر: تفسير الطبري (2140): ص 3/ 128.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2141): ص 3/ 128.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1287): ص 1/ 241.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 80.

(6)

رواه مسلم (2699) من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه به، في حديث أوله:"من نفَّس عن مؤمن كربة، لكن بلفظ: من بطأ، بدون ألف، وكذا هو بهذا اللفظ عند العسكري من حديث أبي عوانة وعبد اللَّه بن سيف، فرقهما، كلاهما عن الأعمش، ورواه القضاعي من حديث زائدة به بلفظ الترجمة، وعن محمد بن النضر الحارثي قال: من فاته حسب نفسه يعني الدين لم ينفعه حسب أبيه".

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 448.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 100.

(9)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(10)

تفسير المراغي: 1/ 230.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 128.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(14)

اخرجه ابن أبي حاتم (1288): ص 1/ 241.

(15)

تفسير ابن كثير: 1/ 447 - 448.

(16)

الحديث: " غريب جدا، قال ابن حجر في الكافي (ص: 12): "لم أجده". وأخرج الطبراني حديثا بمعناه في معجمه الكببير: (354): ص 18/ 161، وبمعناه أيضا ماذكره الحكيم الترمذي في نواد الأصول (265)، وانظر: نصوص أخرى بنحوها ذكرها السيوطي في الدر المنثور: 5/ 96.

(17)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

ص: 313

قال النسفي: " أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم"(1).

قوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141]، " أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء"(2).

أي "لا تُسألون عن أعمال من سبقكم"(3).

قال النسفي: أي: " ولا تؤاخذون بسيئاتهم"(4).

قال ابن عثيمين: " لأن لهم ما كسبوا، ولكم ما كسبتم"(5).

قال القرطبي: "أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى"(6).

قال الثعلبي: " وإنّما تسألون عمّا تعملون أنتم"(7).

قال البيضاوي: " أي لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم (8).

قال الصابوني: " أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء"(9).

قال القاسمي: " أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة. فلها ما كسبت. وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم. ولا تسألون إلا عن عملكم"(10).

قال المراغي: أي: "ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38 - 39]، لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة. وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة - الجزاء على العمل - ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزىّ بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره"(11).

(1) تفسير النسفي: 1/ 89.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 89.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 139.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 282.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 108.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 86.

(10)

محاسن التأويل: 1/ 412.

(11)

تفسير المراغي: 1/ 231.

ص: 314

قال ابن عاشور: " والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم، فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} تمهيد لقوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إذ هو المقصود من الكلام، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه، ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب"(1)

ولما حاج الله تعالى اليهودَ في هؤلاء الأنبياء، فعقبه بهذه الآية لوجوه (2):

أحدها: ليكون وعظا لهم وزجرا حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله.

وثانيها: أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إلى ملة أخرى.

وثالثها: أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد، فإن قيل لم كررت الآية؟ قلنا فيه قولان، أحدهما: أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: بطلان التقليد، لأن قوله:{لها ما كسبت} يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، كما أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً.

2 -

ومنها: الترغيب في الإيمان، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام، والتتحذير من مخالفته.

3 -

- ومنها: أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم. وقال الله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] وقال تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [النساء: 123] وكذلك قوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] وقال: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} [النور: 54].

4 -

ومنها أن العبد مكتسب، وليس معنى كون العبد مكتسبا دخول شيء من الأعراض بقدرته من العدم إلى الوجود.

5 -

ومنها: أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً بما لم يعمله؛ لقوله تعالى: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} .

القرآن

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]

التفسير:

سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم، في سخرية واعتراض: ما الذي صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول الإسلام؛ وهي "بيت المقدس" قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما بينهما ملك لله، فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه، يهدي مَن يشاء من عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في امتثال أوامره، فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا.

في سبب نزول الآية: أخرج الواحدي عن عن البراء، قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى آخر الآية، فقال السفهاء

(1) تفسير ابن عاشور: 1/ 735.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 78.

ص: 315

من الناس - وهم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال الله تعالى: {قل لله المشرق والمغرب} إلى آخر الآية" (1).

قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142]، "أي سيقول ضعفاء العقول من الناس"(2).

قال الطبري: يعني: سيقول الجهال من الناس، وهم اليهود وأهل النفاق" (3).

قال البيضاوي: " يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين"(4).

قال المراغي: " أي سيقول الذين خفّت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب"(5).

وفي والمراد بـ {السفهاء} [البقرة: 142]، هَا هُنَا ستة أقوال:

أحدها: أنهم اليهود، وهو قول ابن عباس (6)، ومجاهد (7)، والبراء (8)، والحسن (9).

قال الزمخشري: وذلك" لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، وأنهم لا يرون النسخ"(10).

ومن جهة أخرى أنهم كانوا يأنسون بموافقة الرسول لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه، واشتاق إلى دينهم، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فقالوا: ما حكى الله عنهم في هذه الآية (11).

والثاني: المنافقون، وهو قول السدي (12).

قال الزمخشري: " لحرصهم على الطعن والاستهزاء"(13).

والثالث: كفار قريش. حكاه الزجاج (14)، وقاله الحسن، والأصم (15).

إذ أنهم: "قالوا: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، واللَّه ليرجعن إلى دينهم"(16).

الرابع: أنهم اليهود ومشركو مكة، قاله البغوي (17)، والواحدي (18).

الخامس: أنهم اليهود وأهل النفاق، قاله الطبري (19)، والسمرقندي (20)، وعزاه ابن عطية للسدي (21).

(1) أسباب النزول: 42. والحديث أخرجه البخاري (فتح الباري: 1/ 95 - ح: 40، 1/ 502 - ح: 399) ومسلم (1/ 374 - ح: 525) والإمام أحمد (الفتح الرباني: 3/ 115 - ح: 421)، وابن أبي حاتم (1327): ص 1/ 248، والترمذي (5/ 207 - ح: 2962) وابن ماجه (1/ 322 - ح: 1010)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 287) عن البراء مختصرا. وله شواهد، منها:

1 -

ما أخرجه ابن جرير (2160): ص 3/ 138، من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وسنده صحيح.

2 -

ما أخرجه ابن جرير أيضا (2149): ص 3/ 132، من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وسنده حسن.

3 -

ما أخرجه ابن أبي حاتم أيضا (1329): ص 1/ 248، من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وسنده ضعيف.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 129.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 5.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2147): ص 3/ 130.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2142)، و (2143): ص 3/ 130.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2144)، و (2145)، و (2146): ص 3/ 130.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1323): ص 1/ 247.

(10)

الكشاف: 1/ 198.

(11)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84، وتفسير الطبري: 3/ 139 - 140، وزاد المسير: 1/ 153، والنكت والعيون للماوردي: 1/ 197.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2148): ص 3/ 130، وابن أبي حاتم (1324): ص 1/ 247.

(13)

الكشاف: 1/ 198.

(14)

انظر: معاني القرآن: 1/ 218.

(15)

انظر: مفاتيح الغيب للرازي: 4/ 79، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 153.

(16)

الكشاف: 1/ 198.

(17)

انظر: تفسير البغوي: 1/ 158.

(18)

انظر: الوجيز: 1/ 135.

(19)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 129.

(20)

انظر: بحر العلوم: 1/ 163.

(21)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 218.

ص: 316

إذ "قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء، وذلك أنهم قالوا: اشتاق الرجل إلى وطنه"(1).

السادس: أن المراد بالسفهاء: الكفار وأهل النفاق واليهود، والآية عامة في هؤلاء كلهم، يدل عليه وهو قوله:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] فوجب أن يتناول الكل. وهذا قول ابن كثير (2)، والبيضاوي (3)، والحافظ ابن حجر (4)، وجماعة من أهل التفسير (5).

قال الرازي: " الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك، لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا البتة"(6).

مع أن هذه الأقوال لا تعارض بينها لاحتمال أن يكون كل صاحب قول ذكر ذلك من باب التفسير بالجزء والمثال أو على سبيل بيان الطائفة التي نزلت فيهم الآية (7)، إلا أن أظهر هذه الأقوال هو القول الأخير، لأن جمع السفهاء محلى بأل وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل. والله أعلم.

قال الزمخشري: " فإن قلت: أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أنّ مفاجأة المكروه أشدّ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس، وأنّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم"(8).

قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، " أي ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يصلون إِليها وهي بيت المقدس"(9).

قال الطبري: " أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟ "(10).

قال ابن كثير: " أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ "(11).

قال المراغي: يعني: " أىّ شاء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟ "(12).

قال الزجاج: " ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس،

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلفة

لحجه، فأحب الله عز وجل أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لا يتبعه، كما قال الله عز وجل:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة، والله أعلم" (13).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 218. حكاه عن السدي.

(2)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 452

(3)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(4)

الفتح: 8/ 21.

(5)

منهم الرازي في مفاتيح الغيب: 4/ 79 - 80 وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: 1/ 171، والألوسي في روح المعاني: 2/ 2، وغيرهم.

(6)

مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(7)

انظر: روح المعاني للألوسي: 2/ 2.

(8)

الكشاف: 1/ 198.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 131.

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 454.

(12)

تفسير المراغي: 2/ 5.

(13)

معاني القرآن: 1/ 218.

ص: 317

قال البيضاوي: " والقبلة: في الأصل الحالة التي عليها الإِنسان من الاستقبال، فصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة"(1).

والقبلة: "هي الجهة التي يُصلى نحوها، ولا تصح الصلاة إلا بالاتجاه إليها، والقبلة من شعائر الإسلام، ومما يتميز به المسلمون وحدة قبلتهم، وسميت القبلة قبلة: لأن المصلى يقابلها وتقابله، وقيل لإقبال الناس عليها"(2).

قال الرازي: "يقال ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]، وقوله: {ما ولاهم} استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب"(3).

قال الشيخ السعدي: " ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد، والتسليم كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وقد كان في قوله (السفهاء) ما يغني عن رد قولهم، وعدم المبالاة به"(4).

وقد ذكر العلماء في هذا (التولي) وجهان (5):

الوجه الأول: وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله: (ما ولاهم) للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس.

واختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة، على أقوال (6):

أحدها: تسعة أشهر أو عشرة أشهر. وهذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه (7).

الثاني: ثلاثة عشر شهرا. قاله معاذ (8).

الثالث: ستة عشر شهرا. قاله سعيد بن المسيب (9).

الرابع: سبعة عشر شهرا. قاله ابن عباس (10)، والبراء بن عازب (11).

قال الواقدي: "صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا"(12).

الخامس: سنتان. حكاه الرازي (13).

قال الرازي: "وقول ابن عباس أثبت عندنا من سائر الأقوال"(14).

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(2)

عون المعبود 1/ 14.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(4)

تفسير السعدي: 1/ 71.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 85.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 85. وتفسير الطبري: 3/ 132 - 137.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2155): ص 3/ 135.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2156): ص 3/ 136.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2157) ص: 3/ 137، و (2154) ص: 3/ 134.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2149) ص: 3/ 132 - 133.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2150)، و (2151)، و (2152)، و (2153) ص: 3/ 13 - 134.

(12)

مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(14)

مفاتيح الغيب: 4/ 80.

ص: 318

قلت: المشهور أن هذا التحويل قد تم في ليلة للنصف من شعبان للسنة الثانية من الهجرة، وهذا القول خلاف ما قال به الجمهور. والله أعلم.

الوجه الثاني: قول أبي مسلم، وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها، أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى، فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق، وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكرا، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين، فقال الله تعالى رادا عليهم؛ {قل لله المشرق والمغرب} (1).

قال الرازي: " واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملا والله أعلم"(2).

وقد اختلف العلماء في السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة، وفيه قولان (3):

أحدهما: أن ذلك كان باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم. قاله عكرمة (4)، والحسن البصري (5)، والربيع (6).

الثاني: أنه كان بفرض الله عز ذكره عليهم. وهو قول ابن عباس (7)، وابن جريج (8).

قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]، أي: قل لهم يا محمد " لله وحده المشرق، والمغرب"(9).

قال الثعلبي: أي: " ملكا، والخلق عبيده يحولهم كيف شاء"(10).

قال ابن كثير: " أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله"(11).

قال الزمخشري: " أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها"(12).

قال الواحدي: " أي: له أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء"(13).

قال البيضاوي: أي: " لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان"(14).

قال أبو السعود: " أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلها ملكا وملكا وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه"(15).

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 80.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 138 - 139.

(4)

انظر: تفسير الطبري: (2158): ص 3/ 138.

(5)

انظر: تفسير الطبري: (2158): ص 3/ 138.

(6)

انظر: تفسير الطبري: (2159): ص 3/ 138.

(7)

انظر: تفسير الطبري: (2160): ص 3/ 138 - 139،

(8)

انظر: تفسير الطبري: (2161): ص 3/ 139.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 106.

(10)

تفسير الثعلبي: 2/ 8.

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 454.

(12)

الكشاف: 1/ 198.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 368.

(14)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(15)

تفسير أبي السعود: 1/ 171.

ص: 319

قال الطبراني: " أي مَن كان مَالِكَ المشرقِ والمغرب لا يُعْتَرَضُ عليهِ في جميع ما يأمرُ، ويجوز أن يكونَ معناهُ: أنَّ الله خالقُ الأماكنِ كلِّها، فليسَ بعضُ ما خَلَقَ أولَى أن يُجعل قبلةً في العقلِ من بعضٍ، فوجبَ الانتهاءُ إلى أمرِ الله باستقبالِ ما شاءَ اللهُ"(1).

قال الزجاج: " معناه حيث أمر الله أن يصلى ويتعبد، فهو له، وعالم به، وهو فيه كما قال: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، وكما قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وكما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] "(2).

قال المراغي: " أي أجبهم: بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم فى عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هى الصخرة المعيّنة أو البناء المعين"(3).

قال ابن عثيمين: " وخص المشرق، والمغرب؛ لأن منهما تطلع الشمس، وتغرب"(4).

قال الشيخ السعدي: " فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله، لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره، بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم، وهدايته وإحسانه، أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم، معترض على فضل الله، حسدا لكم وبغيا"(5).

وتجدر الإشارة بأن مسألة تعيين القبلة، ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة، أما أهل السنة فإنهم يقولون: لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة (6).

(1) تفسير الطبراني: 1/ 95.

(2)

معاني القرآن: 1/ 218 - 219.

(3)

تفسير المراغي: 2/ 5.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 106.

(5)

تفسير السعدي: 1/ 71.

(6)

واحتجوا عليه بوجوه:

أحدها: أن كل من فعل فعلا لغرض، فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده، وإما أن لا يكون كذلك، بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان، فإن كان الأول، كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره، وذلك على الله محال، وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضا ومقصودا ومرجحا فإن قيل: إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه، فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا: عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه، هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء، أو ليس الأمر كذلك، وحينئذ يعود التقسيم.

وثانيها: أن كل من فعل فعلا لغرض فإما أن يكون قادرا على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة، أو لا يكون قادرا عليه. فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثا، وإن كان الثاني كان عجزا وهو على الله محال.

وثالثها: أنه تعالى إن فعل فعلا لغرض فذلك الغرض وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، وإن كان محدثا توقف إحداثه على غرض آخر، ولزم الدور أو التسلسل وهو محال.

ورابعها: أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في

ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات، فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر، وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض.

وخامسها: ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته، وذلك يبطل القول بالغرض، لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد.

وسادسها: أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل، إما أن يكون جائزا أو وجبا، فإن كان جائزا افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل، ولأنه يلزم صحة العدم على القديم، وإن كان واجبا فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال، وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء، وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله تعالى:{قل لله المشرق والمغرب} فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكا للمشرق والمغرب، والملك يرجع حاصله إلى القدرة ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة، فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا.

أما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم، والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض، علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكما وأغراضا، ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا، وتارة مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا، وإذا كان الأمر كذلك: استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام. (انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 86).

ص: 320

قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، أي" والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه"(1).

قال الطبراني: أي: "إلى طريقٍ قَوِيْمٍ؛ وهو الإسلامُ وقِبلة الكعبةِ"(2).

قال أبو العالية: " يهديهم إلى المخرج من الشبهات والضلالات والفتنة"(3).

قال الزمخشري: يعني من يهدي من يشاء" من أهلها إِلى {صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة، من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة"(4).

قال النسفي: " أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده"(5).

قال ابن عثيمين: " أي: يدِلّ، ويوفق من يشاء، ولكن كل شيء قيد بمشيئة الله فهو مقرون بالحكمة: يهدي من يشاء ممن هو أهل للهداية؛ و (المشيئة) هي الإرادة الكونية: فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن"(6).

قال السعدي: " والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية"(7).

قال القاسمي: " فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة. كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج: 26] "(8).

و{الصراط} : "الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه؛ والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده"(9).

وقال الطبري في تفسير {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : "أي الطريق القويم ويعني بذلك إلى "قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق" (10).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: علم الله تعالى بما سيكون؛ لقوله تعالى: {سيقول السفهاء} .

2 -

ومنها: تحقق وقوع خبر الله عز وجل؛ لأنهم قالوا ذلك.

3 -

ومنها: من اعترض على حكم الله فهو سفيه.

(1) تفسير الطبري: 4/ 286.

(2)

تفسير الطبراني: 1/ 94.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1330): ص 1/ 248.

(4)

الكشاف: 1/ 198.

(5)

تفسير النسفي: 1/ 130.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 106.

(7)

انظر: تفسير السعدي: 1/ 71.

(8)

محاسن التأويل: 1/ 413.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 106.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 140 - 141.

ص: 321

4 -

ومنها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث أخبر الله تعالى أنه لا يعترض عليه في ذلك إلا سفيه.

5 -

ومنها: إعلام المرء بما يتوقع أن يكون ليستعد له؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب"؛ ليكون مستعداً (1).

6 -

ومنها: جواز تعليل الأحكام الشرعية بمقتضى الربوبية لإسكات الناس حتى لا يحصل منازعة؛ إذا قال أحد: لماذا كذا؟ قلت: الله ربك يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد؛ «لماذا أحل كذا، وحرم كذا؟ » تقول: لأنه ربك؛ «لماذا توجه الناس من المشرق إلى المغرب؛ من المغرب إلى المشرق؛ من بيت المقدس إلى الكعبة؟ » قلت: لأن ذلك بمقتضى ربوبية الله: [لله المشرق والمغرب].

7 -

من فوائد الآية: أن العدو يحتج على عدوه بما يثير نعرته، ويلزمه؛ لقوله تعالى:{عن قبلتهم} ؛ لم يقولوا: عن القبلة؛ كأنهم يقولون: كنتم تتولون ذلك فما الذي صرفكم عنه؟ ! ! وهكذا قد يثير شعور الإنسان حتى يبقى على ما هو عليه، وكأنهم قالوا: بالأمس تختارونها، واليوم تنكرونها، وتنبذونها؛ فالخصم دائماً يُهيج خصمه بما يثير نعرته؛ ليوافقه فيما ذهب إليه.

8 -

من فوائد الآية: عموم ملك الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {لله المشرق والمغرب} ؛ فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء؛ ونحن ليس علينا إلا السمع، والطاعة؛ أينما وجهنا توجهنا؛ هذا المهم؛ لا أن تتجه إلى كذا، أو إلى كذا؛ فالسجود لغير الله شرك؛ وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة، وعبادة؛ وقتل النفس بغير حق - ولا سيما قتل الولد - من أكبر الكبائر؛ وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة، وعبادة؛ فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى.

9 -

من فوائد الآية: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {يهدي من يشاء} .

فإن قال قائل: هل في ذلك حجة للجبرية في قولهم: إن العبد مجبر على عمله؟

فالجواب: أنه لا حجة لهم في ذلك؛ لأن الاحتجاج ببعض القرآن دون بعض كفر به؛ فالقرآن من متكلم واحد؛ فمطلقه في موضع يقيد في موضع آخر؛ بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تقيد القرآن، وتبينه، وتخصصه؛ فإذاً لا دليل في هذه الآية للجبرية إلا من نظر بعين أعور؛ لأن الأعور ينظر من جانب العين الصحيحة؛ لكن من جانب العين العوراء لا يرى؛ والواجب أن ينظر الإنسان إلى النصوص بعينين ثاقبتين؛ وليس بعين واحدة؛ وقد دلت النصوص من الكتاب، والسنة على أن الإنسان له إرادة، واختيار، وقدرة، وأضافت أعماله إليه؛ وحينئذ لا يمكن أن يكون مجبراً.

10 -

من فوائد الآية: أن الهداية بيد الله؛ لقوله تعالى: {يهدي من يشاء} ، ومنها: أنْ هدَى هذه الأمة إلى القبلة التي يرضاها الرسول صلى الله عليه وسلم.

11 -

ومنها: الثناء على هذه الأمة؛ لأنها التي على صراط مستقيم؛ لأن أول من يدخل في قوله تعالى: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} هؤلاء الذين تولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة.

12 -

ومنها: أن معارضة الشرع كما أنه سفه، فهو أيضاً ضلال؛ لأن الشرع هو الصراط المستقيم - وهو الهداية؛ وما سواه ضلال، واعوجاج.

13 -

ومنها: فضيلة هذه الأمة، حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع الناس.

القرآن

(1) أخرجه البخاري ص 118، كتاب الزكاة، باب 63: أخذ الصدقة من الأغنياء

، حديث رقم 1496؛ وأخرجه مسلم ص 684، كتاب الإيمان، باب 7: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم 121 [29] 19. قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل:"فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة".

ص: 322

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143]

التفسير:

وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين، جعلناكم أمة خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم بلَّغتهم رسالات ربهم، ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. وما جعلنا -أيها الرسول- قبلة "بيت المقدس" التي كنت عليها، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة بـ "مكة"، إلا ليظهر ما علمناه في الأزل؛ علما يتعلق به الثواب والعقاب لنميز مَن يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ومَن هو ضعيف الإيمان فينقلب مرتدًا عن دينه لشكه ونفاقه. وإن هذه الحال التي هي تحول المسلم في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة لثقيلة شاقة إلا على الذين هداهم ومنّ عليهم بالإيمان والتقوى وما كان الله ليضيع إيمانكم به واتباعكم لرسوله، ويبطل صلاتكم إلى القبلة السابقة. إنه سبحانه وتعالى بالناس لرءوف رحيم.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: قال الواحدي: " قال ابن عباس في رواية الكلبي: كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم أسعد بن زرارة وأبو أمامة أحد بني النجار، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، وأناس آخرون، جاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية. ثم قال: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: "وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" وكان يريد الكعبة، لأنها قبلة إبراهيم، فقال له جبريل: "إنما أنا عبد مثلك لا أملك

شيئا فسل ربك أن يحولك عنها إلى قبلة إبراهيم" ثم ارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بما سأله فأنزل الله تعالى هذه الآية"(1).

الثاني: أخرج الواحدي عن البراء قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله عز وجل هوى نبيه صلى الله عليه وسلم فنزلت: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} الآية"(2).

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، " أي كما هديناكم إِلى الإِسلام كذلك جعلناكم يا معشر المؤمنين أمة عدولاً خيارا"(3).

قل ابن عثيمين: "أي: مثلَ هذا الجعل الذي جعلنا لكم وهو اتجاهكم إلى القبلة جعلناكم أمة وسطاً"(4).

قال الطبري: " كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا"(5).

(1) أسباب النزول: 42 - 43.

(2)

أسباب النزول: 43، هي ذات الرواية السابقة التي مضى تخريجها في سبب نزول الآية (115) من سورة البقرة، إلا أنها بلفظ آخر، ويشهد لها:

1 -

ما أخرجه مسلم (1/ 375 - ح: 527) وأبو داود (1/ 633 - ح: 1045) عن أنس بن مالك نحوه.

2 -

ما أخرجه الطبري (2160): ص 3/ 138 - 139، وابن أبي حاتم (1329): ص 1/ 248، من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.

3 -

ما أخرجه ابن أبي حاتم (1328): ص 1/ 248، عن البراء نحوه وإسناده صحيح. وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 452.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 109.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 141.

ص: 323

قال السعدي: " أي: عدلا خيارا .. فجعل الله هذه الأمة، وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى"(1).

قال البيضاوي: " أي خياراً، أو عدولاً مزكين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها، مستوياً فيه الواحد والجمع"(2).

قال النسفي: " أي: كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا"(3).

ويحتمل التشبيه في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وجهين من التفسير (4):

أحدهما: أن التشبيه في قوله: {وَكذَلِكَ} ، يرجع إلى ذكر الأنبياء الذين أنعم الله عليهم، وهم إبراهيم وأولاده، فلما ذكرهم وذكر النعمة عليهم بالكتاب المنزل، والحنيفية المستقيمة، قال:{وَكذَلِكَ} أي: وكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم، كذلك جعلناكم أمةً وسطًا.

الثاني: وقيل: هذه الآية تتصل بما قبلها من قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هديناكم وخصصناكم دونهم بالصراط المستقيم، وتحويل قبلتكم إلى قبلة إبراهيم، وكذلك أنعمنا عليكم نعمة أخرى فقال: إنا جعلناكم عدولًا.

قال البيضاوي: " {وَكَذلِكَ، إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل."(5).

و(الوسَط): "اسم لما بين طرفي الشيء"(6).

قال الفراء: "الوَسَط المثقل: اسم، كقولك: رأسٌ وسط وأسفل، ولا تقولن ههنا: وسْط بالتخفيف، واحتجم وَسَط رأسه، وربما خفف، وليس بالوجه. وجلس وسْط القوم، ولا تقول: وسَط؛ لأنه في معنى بين القوم، وجلس وسَط الدار؛ لأن (بين) لا يصلح في هذا الموضع، وربما خفف"(7).

قال الجوهري: "كل وضع صلح فيه بين فهو (وسْط)، وإن لم يصلح فيه بين فهو (وسَط) بالتحريك، وربما سكن، وليس بالوجه، كقول الشاعر (8):

قالوا يالَ أشجع يومَ هَيْجٍ

ووَسْط الدار ضَربًا واحْتِمايا" (9)

ومما يصدق هذا ما روي في الخبر: "الجالس وسْط الحلقة ملعون"(10)، لم يرو إلا بالتخفيف (11).

وقيل: (وَسَط): جمع واسط، و (فَعَل) يجوز في جمع (فاعل)، نحو: خدَم ونشَأ، والواسط: الذي يسِطُ الشيء، أي: يتوسطه، قال حسان (12):

(1) تفسير السعدي: 1/ 71.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 130.

(4)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 369.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 110.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 369.

(7)

نقله عنه الواحدي، انظر: التفسير البسيط: 3/ 369. ولم أجده في معاني القرآن، وانظر: اللسان: 7/ 431: (وسط).

(8)

البيت، نسبه في "اللسان" 8/ 4831 (وسط) لأعصر بن سعد بن قيس عيلان.

(9)

الصحاح: 3/ 1168: (وسط).

(10)

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 384 عن حذيفة، في الذي يقعد في وسط الحلقة قال: ملعون على لسان 22752، والترمذي (2753) الأدب، باب: كراهية القعود وسط الحلقة، وأبو داود (4826) الأدب، باب: في الجلوس وسط الحلقة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(11)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 370.

(12)

البيت لحسان بن ثابت في "ديوانه" ص 225.

ص: 324

وَسَطتْ نسبتي الذوائبَ منهم

كلُّ دار فيها أبٌ لي عظيم

وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أن نسبه توسط نسبهم، فهو كريم الطرفين، أبوه وأمه من ذلك النسب.

والثاني: أنه أخذ من واسطة القلادة؛ لأنه يجعل فيه أنفَسَ خَرَزها.

قال الشاعر (1):

ومَن يفتقِرْ في قومه يحمَدِ الغنى

وإن كان فيهم واسطَ العَمِّ مُخْوِلا

قوله: واسط العم، يحتمل المعنيين (2).

وقد اختلف أهل العمل في قوله: {وَسَطًا} [البقرة: 143]، على وجوه (3):

القول الأول: أنه (العدل)، وهذا قول جماعة من أهل العلم، منهم: أبو سعيد" (4)، وابن عباس وسعيد (5)، ومجاهد (6)، وقتادة (7)، والربيع، (8) وعطاء (9)، وعبد الله بن كثير (10)، وابن زيد (11)، وحبان بن أبي جبلة (12).

وقال به أيضاً: الفراء (13)، والزجاج (14)، وأبو عبيدة (15)، وابن قتيبة (16)، إلا أنهما قالا: عدلاً: خياراً، والعدل والخيار بمعنى-كما ذكر الزجاج-لأن من كان خياراً فهو عدلاً. وقال به أيضاً: ابن عطية (17)، والقرطبي (18)، والواحدي (19)، والسمرقندي (20)، وأبو حيان (21)، وقال:"وإذا صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب المصير في تفسير الوسط إليه"(22). قلت: وقد صح كما سيأتي.

والدليل عليه: الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى (23):

أ- أما الآية فقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]، "أي أعدلهم"(24).

ب- ومن الأخبار:

(1) البيت لجابر بن الثعلب الطائي، ينظر:"ديوان الحماسة" 1/ 109.

(2)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 374.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2165)، و (2166)، و (2167)، و (2168): ص 3/ 142 - 143، ورواه الإمام أحمد في المسند: 3/ 9.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2169): ص 3/ 144.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2170)، و (2171): ص 3/ 144.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2172)، و (2173): ص 3/ 144.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2174): ص 3/ 144 - 145.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2175): ص 3/ 145.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2177): ص 3/ 145.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2178): ص 3/ 145.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2176): ص 3/ 145.

(13)

انظر: معاني القرآن: 1/ 83.

(14)

معاني القرآن وإعرابه: 1/ 219

(15)

مجاز القرآن: 1/ 59.

(16)

تفسير غريب القرآن: 64.

(17)

المحرر الوجيز: 2/ 3.

(18)

الجامع لأحكام القرآن: 2/ 153.

(19)

الوجيز: 1/ 135.

(20)

بحر العلوم: 1/ 164.

(21)

البحر المحيط: 1/ 365.

(22)

البحر المحيط: 1/ 365.

(23)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84.

(24)

مفاتيح الغيب: 4/ 84.

ص: 325

- ما أخرجه الطبري عن أبي سعيد، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله في قوله:" {وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا}، قال، عُدولا"(1).

- وروي عنه عليه الصلاة والسلام: "خير الأمور أوسطها"(2)، "أي أعدلها"(3).

- وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا، وقال عليه الصلاة والسلام:"عليكم بالنمط الأوسط"(4).

- وروي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" قال: فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (5). قال: الوسط: العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم" (6).

- وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة [ومعه الرجل والنبي] ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال [لهم] هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال [له] من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا" فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} "(7).

ج- وأما الشعر، فقول زهير (8):

هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ

إذَا نزلَتْ إحْدَى الليَالِي بِمُعْظَمِ

د-وأما النقل: فقال الجوهري: " {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، أي عدلا"(9)، وهو الذي قاله الأخفش (10)، والخليل (11)، وقطرب (12)، وابن منظور (13)، والفيروزآبادي (14)، والرازي (15)، وغيرهم.

هـ- وأما المعنى، فمن وجوه (16):

أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيدا عن الطرفين فكان معتدلا فاضلا.

(1) تفسير الطبري (2165)، و (2166)، و (2167)، و (2168): ص 3/ 142 - 143، ورواه الإمام أحمد في المسند: 3/ 9.

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (6651): ص 5/ 261، عن مطرف وإسناده صحيح موقوف، ومن طريق ابن وهب (3/ 273)، واسناده ضعيف، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 273): بإسناده عن عمرو بن الْحارث، وقال هذا منقطع.

(3)

مفاتيح الغيب: 4/ 84.

(4)

قال العراقي في "تخريج الإحياء: 1/ 106: حديث: "عليكم بالنمط الأوسط"، رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" موقوفا على علي بن أبي طالب، ولم أجده مرفوعا، وذكره في "اللسان" 8/ 4833 "وسط" من كلام علي. وفي "تفسير القرطبي" 2/ 140 - 141: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل". والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد، وقيل هو الطريقة.

(5)

المسند: 3/ 32.

(6)

صحيح البخاري برقم (3339، 4487) وسنن الترمذي برقم (2961) وسنن النسائي الكبرى برقم (11007) وسنن ابن ماجة برقم (4284).

(7)

المسند: 3/ 58.

(8)

ديوانه: 2/ 27، ووشرح المعلقات العشر:57.

(9)

الصحاح: 3/ 1167، (وسط).

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84، ولم اجده في معاني القرآن.

(11)

انظر: العين: 7/ 279. ولفظه: " والوسط من الناس وكل شيء: أعدله، وأفضله، ليس بالغالي ولا المقصر".

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84.

(13)

انظر: لسان العرب: 7/ 428 (وسط).

(14)

انظر: القاموس المحيط: 1/ 691 (وسط).

(15)

انظر: الصحاح: 338، (وسط).

(16)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 84.

ص: 326

وثانيها: إنما سمي العدل وسطا، لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين.

وثالثها: لا شك أن المراد بقوله: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} طريقة المدح لهم، لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفا ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهودا له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله:(وسطا) ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودا إلا بكونهم عدولا، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة.

ورابعها: أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.

وخامسها: أنه سمي العدل وسطا، من وسط الوادي والقاع، وهو خير موضح فيه، وأكثره كَلأً وماءً، وذلك أن في غالب الأمر الماء يبرح وسط الوادي؛ لأنه في الصيف وشدة الحر ينحسر عن الأطراف إلى جوف الوادي، فيكون الكلأ هناك أكثر، ولذلك تقول العرب: انزل وسط الوادي، أي: خير مكان منه (1)، فعلى هذا (الوسط) اسم وصف به (2).

القول الثاني: أن الوسط من كل شيء خياره.

وقالوا: وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه:

أحدها: أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب "الكشاف": "اكتريت جملا من أعرابي بمكة للحج فقال: أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير"(3).

قال الرازي: "ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات، فكان هذا التفسير أولى"(4).

الثاني: أنه مطابق لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]

يقول الحافظ ابن كثير: (وسطا)"هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي (أفضل) الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] "(5).

القول الثالث: أن الرجل إذا قال: فلان أوسطنا نسبا، فالمعنى: أنه أكثر فضلا، وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى (6).

القول الرابع: يجوز أن يكونوا وسطا على معنى: أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء، لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابنا وإلها ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه (7).

قال الكلبي: "يعني متوسطة أهل دين: وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين"(8).

(1) انظر: اللسان: (وسط).

(2)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 372، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 219.

(3)

الكشاف: 1/ 199.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 84.

(5)

تفسير ابن كثير: 4/ 454.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 85.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 85.

(8)

تفسير الثعلبي: 2/ 8.

ص: 327

قال الراغب: " الوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدورة، ومن الطرفين في المطول كالنقطة من الدائرة ولسان الميزان من العمود، ويجعل عبارة عن العدل، وكذلك السواء والنصف، وشبه به كل ما وقع بين طرفين إفراط وتفريط كالجود بين السرف والبخل والشجاعة بين التهور والجبن"(1).

وهذا القول الأخير اختاره الطبري، إذ يقول:" وأنا أرى أن (الوسط) في هذا الموضع، هو (الوسط) الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل (وسَط الدار) محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز في " سينه " التخفيف. وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم (وسَط)، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها"(2).

وقد اعترض على رأيه الحافظ ابن حجر، قائلا:"لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحاً لمعنى التوسط أن لا يكون أريد به معناه الآخر، كما نص عليه الحديث"(3).

قلت: أن جميع الأقوال السابقة متقاربة في المعنى وغير متنافية. والله أعلم.

قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، " أي لتشهدوا على الأمم يوم القامة أن رسلهم بلّغتهم"(4).

قال ابن عثيمين: " أي: تشهدون على الناس بأن الرسل قد بلغتهم؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر"(5).

قال البيضاوي: " علة للجعل، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم، بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا. ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات، والإِعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم، أو بعدكم"(6).

قال ابن عاشور: "علة لجَعْلِهم وسطاً فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيراً فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته"(7).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 328 - 329.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 142. ويؤكد ابن عاشور المعنى نفسه قائلا: إن" الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمَلَ عقولَ هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإِثبات أحكامها بالاستدلال استنباطاً بالنسبة للعلماء وفَهْماً بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قَيِّمة وهو معنى كونها وسطاً، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلَّ فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبتَ لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمداً ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظراً، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيباً من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال". (تفسير ابن عاشور: 2/ 19 - 20).

(3)

الفتح: 8/ 22. وقوله (كما نص عليه الحديث) أي: حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً عند البخاري-فتح-: 8/ 21 رقم: 4487 قال: (والوسط: العدل)، وانظر: فتح الباري: 8/ 22، وتنصيصه على أن ذلك من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم ..

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 111.

(7)

تفسير ابن عاشور: 2/ 20.

ص: 328

ثم قال: "و (الناس) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية:

1 -

فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهورِ الحق، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.

وفي حديث أنس بن مالك أن جنازة مرت فأثني عليه خيراً فقال النبي: "وجبت وجبت"، ثم مرت أخرى فأثني عليها شراً فقال النبي:"وجبت وجبت"، فلما سأله عمر عن ذلك قال:"من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض"(1).

2 -

ومن خصائص الأمة المحمدية الأخروية أنها تشهد لكل نبي أنكر قومه أنه قد بلغ، تشهد له بأداء الرسالة وتبليغها فيقبل الله شهادتها، والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، يا رب، فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم، فتشهدون "، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]- قال: عدلا - {لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143] " (2).

فقوله (ثم قرأ) يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطاً، وأما مجيء شهادة الآخرة على طِبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126] " (3).

قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، أي:" ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم"(4).

قال ابن عثيمين: أي: النبي صلى الله عليه وسلم يشهد على أمته بأنه بلغ البلاغ المبين" (5).

قلت: وكون النبي-صلى الله عليه وآله- شاهداً على أمته وعلى الناس أجمعين هذهِ حقيقة قرآنية قد نصّ عليها القرآن في سور عديدة وآياتٍ كثيرة، منها الآية المبحوث عنها) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا (وهكذا قال تعالى في سورة الفتح:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 9].

ومنها قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} ([المزمل: 16].

(1) رواه البخاري: (1367) ومسلم (949).

(2)

رواه البخاري: (7349). وفي رواية الترمذي: " حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ: فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا سورة البقرة آية 143 وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ "، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، نَحْوَهُ ". (جامع الترمذي (2906).

وروى الإمام أحمد (1164) وابن ماجه (4284) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لا فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؛ فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قَالَ: يَقُولُ: عَدْلا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2448).

(3)

تفسير ابن عاشور: 2/ 20.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

ص: 329

بل يصرح القرآن المجيد بأنّ كلّ امةٍ من الأمم جعل الله عليها شهيداً منهم من نبيٍ أو رسول أو إمام، قال تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 42].

وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 76].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النمل: 90].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 85].

وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزُمَر: 70].

وقد يسأل السائل: مَن المراد من الأمة الوسط، هل هي الأمة الإسلامية بكاملها، تشهد على الناس ويشهد بعضها على بعض؟

فنقول: أجمع أهل العلم بأن الأمة الوسط هم الموصوفون بالعدالة والخيرية، ولا شكّ بأنّ الشاهد يجب انْ يكون عادلاً وإلاّ لا يصح الاستشهاد به في الدنيا فضلاً عن الآخرة، قال تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 3]، والحال الأمة الإسلامية – بحكم الضرورة والبداهة – فيها العادل والظالم، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، فكيف يستشهد الله تعالى بهم جميعاً؟ هذا ما لا يرتضيه العقل ويخالف الوجدان والذوق والمنطق السليم، والتحليل العلمي ويخالف أيضاً القرآن العظيم، يقول تعالى مخاطباً المؤمنين مِن هذهِ الأمة:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 141]، فقوله تعالى:{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهدَاءَ} لفظة "منكم" هنا للتبعيض، أي يتخذ بعضكم شهداء، فلو أنّ الأمة تشهد لقال:{ويتخذكم شهداء} وهذا دليل قرآنيٌ واضح على أنّ الشهداء على الأمة الإسلامية بعضها لا كلها. والله تعالى أهلم.

قال الفخر الرازي: "دلّت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبّه، والخوارج، والروافض (1) فإنه لا يُعتدّ به في الإجماع، لأن الله إنّما جَعل الشهداء مَن وَصَفهم بالعدالة والخَيريّة، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل"(2).

أما القول بأن الأمة الوسط الشهيدة على الناس، هي الأمة الاسلامية بأجمعها (3)، فهذا فيه نظر، إذ روي عن الضحاك في قوله:" لتكونوا شُهداء على الناس "، يعني بذلك: الذين استقاموا على الهُدى، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله" (4).

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، " أي وما أمرناك بالتوجه إِلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إِلى الكعبة"" (5).

قال الطبري: أي: "إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة"(6).

(1) وقالت طائفة" انّ الشهداء على هذه الأمة إنمّا هم الأئمة الاثنى عشر، كل واحدٍ منهم يكون شهيداً على أهل زمانه دون غيرهم". وهذا القول باطل لا محال، لأن قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) المخاطب هم خيار أمة محمد وقد ذكرنا الخبر عن الضحاك بأن الأمة الوسط يقصد بها المستقيمون على الإسلام. والله تعالى أعلم.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 94.

(3)

انظر: تفسير الدر المنثور: 1/ 144، نقلاً عن رجل مجهول إنه سال ابن عمر فقال: "والأمة الوسط أمة محمّد (صلى الله عليه وآله) جميعاً.

(4)

تفسير الطبري (2196): ص 3/ 152.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 457.

ص: 330

قوله تعالى: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، أي "إِلا لنختبر إِيمان الناس فنعلم من يصدّق الرسول، ممن يشكّك في الدين ويرجع إِلى الكفر لضعف يقينه"(1).

قال الطبري: أي: " ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي: مُرْتَدّاً عن دينه"(2).

قال البيضاوي: أي: " إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه"(3).

وإن قيل: كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالماً.

قلت-البيضاوي-: "هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، والمعنى ليتعلق علمنا به موجوداً. وقيل: ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول، والعلم إما بمعنى المعرفة، أو معلق لما في مَنْ من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزاً ممن ينقلب"(4).

وفي قوله تعالى: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، ثلاثة أوجه (5):

أحدها: أن المراد علم ظهور. أي علم بأن الشيء حصل، فيعلمه أنه حاصل؛ وأما العلم به قبل وقوعه فهو علم بأنه سيحصل؛ وفرق بين العلم بالشيء أنه سيحصل، والعلم بأنه قد حصل.

الثاني: أن المراد علم الجزاء؛ لأن علم الله الكائن في الأزل لا يترتب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد، ويُنظر.

والثالث: وقيل المعنى: " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه"(6).

والصواب الوجهان الأولان؛ وأحسنهما أن يكون المراد بالعلم هنا الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأنه الواضح وليس فيه تكلف (7). والله أعلم.

قال ابن عثيمين: " وهذا ــ وإن كان له وجه من حيث اللفظ؛ وهو أن يعبر بالمضارع عن الماضي أحياناً ــ لكنه ضعيف هنا من حيث المعنى؛ إذ لا حكمة من ذلك؛ لأنه يكون معنى الآية: وما جعلنا هذا إلا لأننا قد علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وحينئذ يقال: إذاً ما الفائدة؟ ! لأنه لا يناسب أن الله ما جعل هذه القبلة إلا لأنه قد علم من يبقى على دينه، ومن لا يبقى"(8).

وقد ذكر الرازي في قوله تعالى: {إِلا لِنَعْلَمَ} [وجوها عن المفسرين (9):

أحدها: أن قوله: {إلا لنعلم} معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك: فتحنا البلدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا، ومنه يقال: فتح عمر السواد، ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه:"استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وادهراه وأنا الدهر" وفي الحديث: "من أهان لي وليا فقد أهانني".

(1) صفوة التفاسير: 1/ 90.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 457.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 111.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 111.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 110.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 95 - 96.

ص: 331

وثانيها: معناه ليحصل المعدوم فيصير موجودا، فقوله:{إلا لنعلم} معناه: إلا لنعلمه موجودا، فإن قيل: فهذا يقتضي حدوث العلم، قلنا: اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور.

وثالثها: إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون، فسمي التمييز علما، لأنه أحد فوائد العلم وثمراته.

ورابعها: {إلا لنعلم} معناه: إلا لنرى، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله:{ألم تر كيف} [الفجر: 6][الفيل: 1][إبراهيم: 19] ورأيت، وعلمت، وشهدت، ألفاظ متعاقبة.

وخامسها: ما ذهب إليه الفراء: وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، ومثاله أن جاهلا وعاقلا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه: لنعلم أينا الجاهل، فكذلك قوله:{إلا لنعلم} إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام: الاستمالة والرفق في الخطاب، كقوله:{وإنا أو إياكم لعلى هدى} (سبأ: 24) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقا للخطاب ورفقا بالمخاطب، فكذا قوله:{إلا لنعلم} .

وسادسها: نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك.

وسابعها: أن العلم صلة زائدة، فقوله؛ {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} معناه: إلا ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.

وفي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وجوه (1):

الأول: أن يكون هذا الكلام بيانا للحكمة في جعل القبلة، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة فنقول:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} الجهة: {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أولا: يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء.

الثاني: يجوز أن يكون قوله: {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} لسانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة، يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه.

الثالث: وقد ذكره أبو مسلم فقال: "لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها، لأنه قد يقال: كنت بمعنى صرت كقوله تعالى: {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110]، وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى: {وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 158]، فلا يمتنع أن يراد بقوله: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا"(2).

واختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها (3):

أحدهما: أنها حصلت بسبب تعيين القبلة، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم.

الثاني: أن هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل، فإنهم قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه، روى القفال عن ابن جريح أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم، وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا، وقال السدي: لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 95.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 90.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 90.

ص: 332

فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها، وقال المسلمون: لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، وقال المشركون: تحير في دينه.

قال الرازي: " والقول الأخير أولى، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} فكان حمله عليه أولى"(1).

وقوله تعالى {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، استعارة ومعناه:"من يكفر بالله ورسوله، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: {ثم أدبر واستكبر} [المدثر: 23] وكما قال: {كذب وتولى} [طه: 48]، وكل ذلك تشبيه"(2).

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، "أي وإِن كان هذا التحويل لشاقاً وصعباً إِلاّ على الذين هداهم الله"(3).

قال ابن عباس: " يعني: تحويلها على أهل الشك والريبة"(4).

قال مجاهد: " يقول: ما أمروا به من التحول إلى الكعبة من بيت المقدس"" (5)، وروي عن أبي العالية، وقتادة، ومقاتل بن حيان نحو ذلك (6).

قال الزجاج: " يعني قبلة بيت المقدس، أي وإن كان اتباعها لكبيرة، المعنى إنه كبير على غير المخلصين، فأما من أخلص فليست بكبيرة عليه، كما قال: {إلا على الذين هدى الله} أي فليست بكبيرة عليهم"(7).

قال ابن كثير: "أي: "هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك " (8).

و(الكبَر): "يراد به الشيء الشاق العظيم؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صاحبَي القبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» (9)، أي في أمر شاق عليهما"(10).

قال الرازي: أي: " لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5]، أي: عظمت الفرية بذلك، وقال الله تعالى: {سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور: 16]، وقال: {إن ذالكم كان عند الله عظيما} [الأحزاب: 53] "(11).

قال ابن عطية: " وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية"(12).

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 90.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 97.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1344): ص 1/ 251.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1344): ص 1/ 251.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 251.

(7)

معاني القرآن: 1/ 220.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 457.

(9)

أخرجه البخاري ص 20، كتاب الوضوء، باب، حديث رقم 218، وأخرجه مسلم ص 727، كتاب الطهارة، باب 34: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، حديث رقم 677 [111]292.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 49.

(11)

مفاتيح الغيب: 4/ 91.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 220.

ص: 333

وفي قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلَاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: 143]، أربعة تأويلات (1):

أحدها: معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ، وهذا قول ابن عباس (2)، ومجاهد (3)، وقتادة (4).

والتأنيث في قوله {كانت} ، للتولية، لأنه قال:{ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها} ثم قال عطفا على هذا: {وإن كانت لكبيرة} أي وإن كانت التولية.

والثاني: إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل، وهذا قول أبي العالية الرياحي (5).

لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} [البقرة: 143].

والثالث: أن الكبيرة هي الصلاة، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (6).

والراجح هو القول الأول، " لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم"(7).

قال الرازي: "إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة، قلنا: إن تركها ثقيل عليهم، لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا: الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا: إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة"(8).

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، وجهان من المعنى:

أحدهما: أي: الذين ثبت الله. قاله ابن عباس (9).

الثاني: أن المراد: عصم الله. قاله قتادة (10).

قال ابن عثيمين: " والمراد بالهداية هنا: هداية العلم، وهداية التوفيق؛ أما كونها هداية العلم فلأن الذين يخشون الله هم العلماء، كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] أي العلماء به، وبأسمائه، وصفاته، وبأحكامه؛ هذه هي هداية العلم؛ لأنهم إذا علموا خشوا الله سبحانه وتعالى، ولم يكرهوا شريعته، ولم يكبر ذلك عليهم، ولم يشق؛ كذلك هداية التوفيق - وهي المهمة: إذا وفق العبد للانقياد لله سبحانه وتعالى سهل عليه دينه، وصار أيسر عليه من كل شيء، كما قال تعالى: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7] "(11).

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 201، ومفاتيح الغيب: 4/ 90.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2210): ص 3/ 164.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2211)، و (2212): ص 3/ 164.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2213): ص 3/ 164.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2214): ص 3/ 164.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2215)، و (2216): ص 3/ 164 - 165.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 165.

(8)

مفاتيح الغيب: 4/ 91.

(9)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1345): ص 1/ 251.

(10)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1345): ص 1/ 251.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 49.

ص: 334

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي "ما كان الله يترك إيمانكم سدًى بدون مجازاة عليه"(1).

قال ابن عباس: "يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم"" (2).

قال مقاتل: " يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس يقول لقد تقبلت منهم"(3).

قال الصابوني: " أي ما صحَّ ولا استقام أن يضيع الله صلاتكم إِلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها"(4).

قال الماوردي: " يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل"(5).

قال الزجاج: " أي من كان صلى إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة إلى البيت الحرام بمكة فصلاته غير ضائعة وثوابه قائم"(6).

قال الفخر الرازي: " أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} [آل عمران: 195] "(7).

قال الطبري: (وإضاعته إياه) جل ثناؤه - لو أضاعه -: تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه، فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة " إضاعة الرجل ماله "، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل، فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه، وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله" (8).

وعنى بـ (الإيمان)، في هذا الموضع:(الصلاةَ). قاله: ابن عباس (9)، والبراء (10)، وقتادة (11)، والسدي (12)، والربيع (13)، وداود بن أبي عاصم (14)، وابن زيد (15)، وسعيد بن مسيب (16).

وفي سبب تسمية الصلاة بالإيمان، وجهان (17):

أحدهما: أن الصلاة سميت إيمانا، لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال وكان ثابتا في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي، ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر.

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 50.

(2)

أخرجه الطبري (2227): ص 3/ 169.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 146.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(5)

النكت والعيون: 1/ 201.

(6)

معاني القرآن: 1/ 221.

(7)

مفاتيح الغيب: 4/ 99 - 100.

(8)

تفسير الطبري: 2/ 169 - 170.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2219): ص 3/ 167، و (2227): ص 3/ 169.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2220)، و (2221)، و (2222): ص 3/ 1670168.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2223): ص 3/ 168.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2224): ص 3/ 168.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2225): ص 3/ 168.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2226): ص 3/ 168 - 169.

(15)

انظر: تفسير الطبري (2228): ص 3/ 169.

(16)

انظر: تفسير الطبري (2219): ص 3/ 167.

(17)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 221.

ص: 335

والثاني: أنها سميت إيمانا، إذ هي من شعب الإيمان.

قال ابن عثيمين: "والمراد بـ (إِيمَانَكُمْ)، صلاتهم إلى بيت المقدس؛ وهذا عام للذين ماتوا قبل تحويل القبلة، ومن بقوا حتى حولت، «ما كان الله

» في القرآن فهي الأمر الممتنع غاية الامتناع؛ مثل: «لا ينبغي» ، أو «ما ينبغي» فالمراد أنه ممتنع مستحيل، كقوله تعالى:{لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} [يس: 40]، وقوله تعالى:{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} [مريم: 92] أي ممتنع مستحيل؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام"(1)، المعنى: أنه مستحيل" (2).

قال الرازي: "فإن قيل: إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ قلنا: الجواب من وجوه:

أحدها: أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك المنافق.

وثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك، فذكر الله تعالى هذا الكلام جوابا عن ذلك.

وثالثها: لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم" (3).

وقد اختلفوا في الخطاب الموجه في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، على قولين (4):

القول الأول: أن الخطاب مع المؤمنين.

وقد ذكر القفال على هذا القول، أربعة أوجه (5):

الوجه الأول: أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ، وذلك جواب عما سألوه من قبل.

الثاني: أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ.

الثالث: يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل:{وما كان الله ليضيع إيمانكم} والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم: {وإذ قتلتم نفسا} [البقرة: 72]، {وإذ فرقنا بكم البحر} [البقرة: 50].

الرابع: يجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا، فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما. والله أعلم (6).

القول الثاني: أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا. قاله أبو مسلم (7).

قال ابن عطية: " وخاطب الحاضرين والمراد من حضر ومن مات، لأن الحاضر يغلب، كما تقول العرب: ألم نقتلكم في موطن كذا؟ ، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره"(8).

وقرأ الضحاك: {لِيُضَيّعَ} ، بفتح (الضاد) وشد (الياء)(9).

(1) أخرجه مسلم ص 709، كتاب الإيمان، باب 79: في قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام"

، حديث رقم 445 [293]179.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 50.

(3)

تفسير الإمام الرازي: 4/ 98 - 99.

(4)

تفسير الإمام الرازي: 4/ 98 - 99.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 93.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 93.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 93.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 220 - 221.

(9)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 221.

ص: 336

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، "أي إن الله رءوف بعباده، لأنه ذو الرحمة الواسعة"(1).

قال مقاتل: " {لَرَءُوفٌ}: يعني يرق لهم، {رَحِيمٌ}: حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة"(2).

قال الزجاج: " ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة"(3).

قال البغوي: " والرأفة أشد الرحمة"(4).

قال ابن عطية: " والرأفة أعلى منازل الرحمة"(5).

قال النسفي: " {ؤحيم}، لا يضيع أجورهم، والرأفة: أشد من الرحمة، وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم"(6).

قال أبو السعود: " تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحهم"(7).

قال الصابوني: " تعليل للحكم أي أنه تعالى عظيم الرحمة بعباده لا يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها"(8).

قال الطبري: "أي: "أن الله بجميع عباده ذُو رأفة، و (الرأفة)، أعلى مَعاني الرحمة، وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة، وأما (الرحيم): فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل" (9).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، على وجهين (10):

أحدهما: {لرءوف رحيم} مهموزا غير مشبع على وزن: رعف. قرأ بها عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم.

والثاني: {رؤف} مثقلا مهموزا مشبعا على وزن رعوف، قرأ بها ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وكذلك ابن عامر.

وفيه أربع لغات: (رئف) أيضا كحزر، و (رأف) على وزن فعل (11)، وكلتاهما قراءتان سبعيتان، قال الوليد بن عقبة (12):

وَشرُّ الطالِبِينَ - وَلا تَكُنْه -

بقَاتِلِ عَمِّه، الرَّؤُفُ الرَّحِيم

(1) تفسير المراغي: 2/ 8.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 146.

(3)

معاني القرآن: 1/ 221.

(4)

تفسير البغوي: 1/! 61.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 221.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 129.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 174.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 170 - 171.

(10)

انظر: السبعة في القراءات: 171، والحجة: 2/ 229 - 230.

(11)

مفاتيح الغيب: 4/ 100.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 145، وتفسير أبي حيان: 1/ 427، في الأول (يقاتل)، والثاني (يقابل)، وكأن هذا البيت من شعر الوليد بن عقبة، الذي كتب به إلى معاوية يحض معاوية على قتال علي رضي الله عنهما. وهي في أنساب الأشراف: 140، وتاريخ الطبري 5/ 236 - 237، وحماسة البحتري: 30، واللسان (حلم) وغيرها، وليس فيها هذا البيت، وكأنه قبل البيت الذي يقول فيه:

لَكَ الْوَيْلاتُ! أَقْحِمْهَا عَلَيْهِمْ

فخيرُ الطَّالبي التِّرَةِ الغَشُومُ

وقوله: " لا تكنه "، دعاء له، واستنكار أن يكون كهذا الطالب الثائر الذي يطالب بدم عمه، وهو رؤوف رحيم بعدوه وقاتل عمه، وهو شر طالب ثأر.

ص: 337

وقال العلماء: إن الرأفة أشد الرحمة؛ فهي رحمة خاصة؛ و (رَحِيمٌ) أي متصف بالرحمة؛ وقالوا: إنه قدمت (لَرَءُوفٌ) على (رَحِيمٌ) - مع أن (الرؤوف) أبلغ - من أجل مراعاة الفواصل؛ وقال تعالى: (رَحِيمٌ)، لأن هذا يتعلق بفعله - أي برحمته الخلق (1).

قال القفال رحمه الله: "الفرق بين الرأفة والرحمة: أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله} (النور: 2) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال: {وهو الذى يرسل الرياح * بشرا بين * يدى رحمته} (الأعراف: 57) لأنه إفضال من الله وإنعام، فذكر الله تعالى الرأفة أولا بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معا"(2).

وقد ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين (الرءوف الرحيم) بما قبلهما وجوها (3):

أحدها: أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال: {إن الله بالناس لرءوف رحيم} [الحج: 65] والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة.

وثانيها: أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا.

وثالثها: قال: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} فكأنه تعالى قال: وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: فضيلة هذه الأمة حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع للناس؛ وروى الإمام أحمد في مسنده أن مما يحسدنا عليه اليهود القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها؛ فهم يحسدوننا على هذه الخصلة؛ وكذلك على يوم الجمعة، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين (4)؛ المهم أن استقبال القبلة مما حسدونا عليه؛ لأن الكعبة أول بيت وضع للناس، وأعظم بيت في الأرض؛ ولا يوجد بيت قصده ركن من أركان الإسلام للحج إلا الكعبة؛ ولذلك حسدنا اليهود عليها، وأثاروا ضجة عظيمة على التولي عن قبلتهم إلى الكعبة، وصاروا مع من يناصرهم من المشركين؛ أحدثوا أمراً عظيماً حتى إن بعض المسلمين ارتد - والعياذ بالله - عن الإسلام لما سمع من زخرف القول من هؤلاء اليهود، وغيرهم.

2 -

ومن فوائد الآية: فضل هذه الأمة على جميع الأمم؛ لقوله تعالى: {وسطاً} .

3 -

ومنها: عدالة هذه الأمة؛ لقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} ؛ والشهيد قوله مقبول؛ والمراد بـ «الأمة» هنا أمة الإجابة؛ ومن هنا نعرف حذق أهل الفقه، حيث قالوا: إن «العدل» من استقام على دين الله؛ يعني: هذه الأمة أمة وسط إذا كانت على دين الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون شهيداً، وتقبل شهادتها إذا استقامت على دين الله، وكانت أمة حقيقية؛ فعلية يؤخذ من هذا حدّ «العدل»: أن العدل من استقام على دين الله.

4 -

من فوائد الآية: أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} ؛ والشهادة تكون في الدنيا، والآخرة؛ فإذا حشر الناس، وسئل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم؛ ثم تسأل الأمم:

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 50.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 100.

(3)

مفاتيح الغيب: 4/ 95.

(4)

أخرجه أحمد ص 1869، حديث رقم 25543؛ وفيه علي بن عاصم شيخ الإمام أحمد؛ قال يعقوب بن شيبة:"كان من أهل الدين، والصلاح، والخير البارع، وكان شديد التوقي، أنكر عليه كثرة الغلط، والخطأ مع تماديه على ذلك"(ميزان الاعتدال 3/ 135)؛ وقال الألباني: "ولذلك ضعفه جمهور أئمة الحديث، وكذبه ابن معين وغيره"، (سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 443)؛ وقال أحمد:"هو والله عندي ثقة، وأنا أحدث عنه"(الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 326).

ص: 338

هل بُلِّغتم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير، ولا نذير؛ ما جاءنا من أحد؛ فيقال للرسول: من يشهد لك؟ فيقول: «محمد، وأمته» ؛ يُستشهدون يوم القيامة، ويَشهدون؛ فيكونون شهداء على الناس.

فإذا قال قائل: كيف تشهد وهي لم تر؟ نقول: لكنها سمعت عمن خبره أصدق من المعاينة - صلوات الله وسلامه عليه.

5 -

من فوائد الآية: أن نبينا صلى الله عليه وسلم يكون شهيداً علينا يوم القيامة - شهيداً علينا بالعدالة؛ وقيل: شهيداً علينا بأنه بلغ البلاغ المبين؛ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة في أعظم مجمع حصل له مع الصحابة: "ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهم اشهد"(1)؛ فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم ربه على إقرار أمته بالبلاغ؛ نعم؛ لقد بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم، فترك أمته على المحجة البيضاء؛ وما مات حتى أكمل الله به الدين؛ وما بقي شيء يحتاج الناس إليه في دينهم صغيراً كان، أو كبيراً إلا بينه صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً - والحمد لله - فالرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على هذه الأمة؛ قال الله تعالى في سورة النساء:{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]، يعني: كيف تكون الحال في ذلك اليوم عظيم؛ ولهذا لما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم، ووصل إلى هذه الآية قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«حسبك» يعني: قف؛ قال: "فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان"(2)؛ لأن الأمر العظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم شهيد علينا؛ يشهد بأننا بُلِّغنا، وأقيمت علينا الحجة، وما بقي لنا عذر بأيّ وجه من الوجوه؛ ولهذا لا عذر لأحد بعد أن يتبين له الهدى أن يشاق الله ورسوله، كما قال تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 115].

6 -

ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} .

7 -

ومنها: أنه لا رسول بعده؛ لأن «أل» هنا للعهد، وهو يخاطب هذه الأمة؛ فالرسول المعهود فيها واحد؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون بعده رسول.

8 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العباد بالأحكام الشرعية إيجاباً، أو تحريماً، أو نسخاً؛ لقوله تعالى:{ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} ؛ فلينتبه الإنسان لهذا؛ فإن الله قد يبتليه بالمال بأن يعطيه مالاً ليبلوه أيقوم بواجبه، أم لا؛ وهذه محنة؛ لأن غالب من ابتلي بالمال طغى من وجه، وشح من وجه آخر؛ ثم اعتدى في تمول المال؛ فضَلَّ في تموله، والتصرف فيه، وتصريفه؛ وقد يبتليه بالعلم؛ فيرزقه علماً ليبلوه أيعمل به، أم لا؛ ثم هل يعلمه الناس، أم لا؛ ثم هل يدعو به إلى سبيل الله، أم لا؛ فليحذر من آتاه الله علماً أن يخل بواحد من هذه الأمور.

وكذلك قد يمتحن العباد بالأحكام الكونية؛ ومنها ما يجري على العبد من المصائب.

ومن امتحانه بهما أن الله حرم الصيد على المحرِم، ثم أرسله على الصحابة وهم محرِمون حتى تناله أيديهم، ورماحهم.

9 -

ومن فوائد الآية: وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {لنعلم من يتبع الرسول فالله امتحن العباد ليعلم هل يتبعون الرسول؛ والصحابة رضي الله عنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك أشد الاتباع: جاءهم رجل وهم يصلون الفجر في قباء وهم ركوع، فقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة القرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم؛ فاستداروا إلى

(1) أخرجه البخاري ص 590، كتاب الفتن، باب 8: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً"

، حديث رقم 7078، وأخرجه مسلم ص 880 – 881، كتاب الحج، باب 19: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 2950 [147]1218.

(2)

أخرجه البخاري ص 437، كتاب فضائل القرآن، باب 33: قول المقرئ للقارئ "حسبك"؛ وأخرجه مسلم ص 803، كتاب صلاة المسافرين، باب 40: فضل استماع القرآن

، حديث رقم 1867 [247] 800؛ واللفظ للبخاري.

ص: 339

الكعبة» (1)؛ هذا هو الاتباع العظيم؛ وكذلك فعل بنو سلمة في مسجد القبلتين (2)؛ إذاً فاتباع الرسول واجب؛ وإلا لما احتيج إلى محنة الناس عليه.

10 -

ومن فوائد الآية: إثبات علم الله؛ لقوله تعالى: {لنعلم} ؛ وعلم الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، كما قال تعالى:{لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12].

11 -

ومنها: أن الردة عن الإسلام انقلاب؛ لقوله تعالى: {ممن ينقلب على عقبيه} ؛ فإن بعض الذين أسلموا ارتدوا حينما تحولت القبلة إلى الكعبة؛ وقالوا: «إن محمداً ليس على يقين من أمره: بالأمس له قبلة؛ واليوم له قبلة» ؛ وما علموا أن ذلك مما يؤيد رسالته؛ لأن الإنسان الكذاب يحرص على أن لا يتراجع؛ لأن التراجع وصمة فيه؛ لكن الإنسان الصدوق لا يهتم أن يقول ما أوحي إليه، سواء وافق ما كان عليه أولاً، أو خالف.

12 -

ومنها: أن التقدم حقيقة إنما يكون بالإسلام، وأن الرجعية حقيقة إنما تكون بمخالفة الإسلام؛ لقوله تعالى:{ممن ينقلب على عقبيه} ؛ فإن هذا حقيقة الرجوع على غير هدًى؛ لأن الذي ينقلب على عقبيه لا يبصر ما وراءه؛ فمن قال للمتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله رجعيون، قلنا له: بل أنت الرجعي حقيقة؛ لأن الله سمى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم انقلاباً على العقب؛ ولا أبلغ من هذا الرجوع أن الإنسان يرجع على عقبيه رجوعاً أعمى - والعياذ بالله - لا يدري ما وراءه.

13 -

ومن فوائد الآية: أن تغيير القبلة شاق إلا على طائفة معينة من الناس؛ لقوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} ؛ وهذا يقع كثيراً للإنسان: تشق عليه بعض الأوامر الشرعية، واجتناب بعض النواهي الشرعية؛ لكن بتمام الإيمان تزول هذه المشقة، وتكون سهلة؛ والعلماء اختلفوا: أيهما أفضل رجل يفعل العبادة بمشقة، ويترك المعصية بمشقة؛ وآخر يفعل العبادة بيسر، ويترك المعصية بيسر؛ قال بعض العلماء: الأول أفضل؛ لأنه مجاهد يجاهد نفسه، فيتعب؛ وقال آخرون: بل الثاني أفضل؛ لأن العبادة كأنها امتزجت بدمه ولحمه، حتى صارت سجية له، ويسيرة عليه لا ينشرح صدره إلا بها؛ والصحيح أن يقال: أما الذي يفعلها بسهولة، ويسر، وانقياد فهذا أكمل حالاً بلا شك؛ لأنه مطمئن بالإيمان فرح بالطاعة؛ أما الثاني فحاله أدنى؛ ولكنه يؤجر على مجاهدة نفسه على الطاعة؛ وعلى ترك المعصية؛ على أن هذا الثاني الذي قلنا: إنه مفضول، وله أجر المشقة ربما يمن الله عز وجل عليه - وهو أكرم الأكرمين - حتى تكون العبادة في نفسه سهلة، ويفعلها بارتياح؛ وهذا هو معنى قول بعض أهل العلم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله؛ فالإنسان قد يفعل العبادة في البداية بمشقة، ويكون عنده نوع من التعب في تنفيذها؛ لكن إذا علم الله من نيته صدق القصد والطلب، يسر الله له الطاعة حتى كانت سجية له.

14 -

ومن فوائد الآية: إظهار منة الله عز وجل على من هداه الله؛ لأنه نسب الهداية إليه؛ لقوله تعالى: {إلا على الذين هدى الله} ؛ وهذه أعظم منة منَّ الله بها عليه أن هداه للإسلام؛ فيجب أن يشعر بها الإنسان؛ لا يمنّ بدينه على ربه؛ بل يعتقد أن المنة لله عليه، كما قال تعالى:{يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17]؛ فكم من أناس ضلوا عن الحق مع بيانه، ووضوحه؛ وهم كثيرون؛ بل هم الأكثر، كما قال تعالى:{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]؛ وانظر إلى الفضل، والكرم: هو الذي منّ علينا بالهداية، ثم يقول في سورة الرحمن:{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]؛ فكأننا نحن الذين أحسنا؛ فأحسن إلينا بالجزاء مع أن له الإحسان أولاً، وآخراً؛ هو الذي أحسن إلينا أولاً، وأحسن إلينا آخراً؛ ولكن هذه مِن منَّته سبحانه وتعالى، ومِن شكره لسعي عبده، كما قال تعالى:{إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً} [الإنسان: 22].

(1) أخرجه البخاري ص 35، كتاب الصلاة، باب 32: ما جاء في القبلة

، حديث رقم 403، وأخرجه مسلم ص 759 – 760، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 2: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، حديث رقم 1178 [13]526.

(2)

راجع الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 241 – 242.

ص: 340

15 -

ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر عمل عامل إذا كان مبنياً على الإيمان؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ؛ كل عمل تعمله صادر عن إيمانه فإنه لن يضيع؛ ستجده مسجلاً - قولاً كان، أو فعلاً، أو همّاً بالقلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة» (1).

16 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «الرؤوف» و «الرحيم» ، وما تضمناه من الصفة؛ وهي الرأفة، والرحمة.

17 -

ومنها: إثبات عموم الرحمة لكل الناس؛ لقوله تعالى: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} ؛ وهذه هي الرحمة العامة التي بها يعيش الناس في دنياهم برزق الله من طعام، وشراب، وكسوة، وغيرها؛ وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة؛ وبها يحصل سعادة الدنيا، والآخرة، كالعلم والإيمان المثمرَين لطاعة الله، ورسوله.

18 -

ومنها: أن العمل من الإيمان، لقوله تعالى:{وما كان الله ليضيع إيمانكم} ؛ فإنها فسرت بالصلاة إلى بيت المقدس؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة: أن العمل داخل في الإيمان؛ وهذا أحد أدلتهم؛ ومن الدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق؛ والحياء شعبة من الإيمان» (2)؛ فقول: «لا إله إلا الله» من أعمال اللسان؛ و «إماطة الأذى عن الطريق» من أعمال الجوارح؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء شعبة من الإيمان» من أعمال القلوب؛ كما أن الإيمان أيضاً يطلق على الاعتقاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» (3)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله» هذا اعتقاد القلب؛ فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يشمل: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح؛ ووجه كون الأعمال من الإيمان أنها صادرة عن إيمان؛ الإيمان هو الذي حمل عليها، ولهذا لا يعد عمل المنافق من الإيمان؛ عمل المنافق - صلاته، وذكره لله؛ ونفقاته - لا يُعَدّ من الإيمان؛ لأنه صادر عن غير إيمان.

19 -

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم، والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفا رحيما بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي، ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفا رحيما فلعى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفا رحيما

20 -

استدلت المعتزلة بقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة. والجواب: لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة، بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال: أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة (4).

القرآن

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]

التفسير:

(1) أخرجه البخاري ص 544، كتاب الرقاق، باب 31: من هم بحسنة أو سيئة، حديث رقم 6491، وأخرجه مسلم ص 700، كتاب الإيمان، باب 59: إذا هم العبد بحسنة

، حديث رقم 338 [207]131.

(2)

أخرجه مسلم ص 687، كتاب الإيمان، باب 12: بيان عدد شعب الإيمان

، حديث رقم 153 [58]35.

(3)

أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 37: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان

، حديث رقم 50؛ وأخرجه مسلم ص 681، كتاب الإيمان، باب 1: بيان الإيمان والإسلام

، حديث رقم 93 [1]8.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 99.

ص: 341

قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء، مرة بعد مرة؛ انتظارًا لنزول الوحي إليك في شأن القبلة، فلنصرفنك عن "بيت المقدس" إلى قبلة تحبها وترضاها، وهي وجهة المسجد الحرام بـ "مكة"، فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة هو الحق الثابت في كتبهم. وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعترضون المشككون، وسيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، " أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة"(1).

قال أبو العالية: " يقول: قد نرى نظرك إلى السماء"(2).

قال النسفي: أي" قد نرى يا محمد نحن تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم"(3).

وفي قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، وجهان (4):

الأول: قال جمهور المفسرين: أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة.

الثاني: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، قالوا: لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجها آخر، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله:{فول وجهك شطر المسجد الحرام} (5).

وقد اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة، وفيه قولان (6):

أحدهما: أنه كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا! . قاله عن مجاهد (7)، وابن زيد (8).

الثاني: أنه كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام. روي ذلك عن ابن عباس (9).

قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، " أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة"(10).

قال الطبري: " أي فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة تَهواها وتُحبها"(11).

قال المراغي: " أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس"(12)

قال أبو العالية: " {فلنولينك قبلة ترضاها}، وذلك أن الكعبة كانت أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء، وكان يهوى الكعبة، فولاه الله قبلة كان يهواها ويرضاها"(13).

قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، " أي: فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام" (14).

قال القرطبي: "أي ناحية الكعبة ونحوه"(15).

قال الطبري: أي: " اصرف وجهك وَحوِّله نحو المسجد الحرام"(16).

قال النسفي: " أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي في جهته وسمته، لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي، وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين"(17).

قال المراغي: " وفي ذكر {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} دون الكعبة، إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه"(18).

وسمي المسجد (حراماً)؛ "لأنه يمنع فيه من أشياء لا تمنع في غيره، ولأنه محترم معظم؛ والمراد به الكعبة، وما حولها من البناء المعروف"(19).

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، وجهان:

أحدهما: يعني: تلقاءه. قاله أبو العالية (20). وروي عن ابن عباس (21)، ومجاهد (22)، وقتادة (23)، والربيع (24)، والبراء (25)، وابن زيد (26)، ورفيع (27)، نحو ذلك.

والثاني: يعني: وسطه. قاله البراء (28).

قال الطبري: "و (الشطر)، معناه: "النحوَ والقصدَ والتّلقاء" (29)، كما قال الهذلي (30):

إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا

فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

يعني بقوله: شَطْرَها، نحوها. وكما قال ابن أحمر (31):

(1) تفسير المراغي: 2/ 9.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1356): ص 1/ 253.

(3)

انظر: تفسير النسفي: 1/ 93.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 95.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 95.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 174.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2234): ص 3/ 173 - 174.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2235): ص 3/ 174.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2236): ص 3/ 174.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 175.

(12)

تفسير المراغي: 2/ 9.

(13)

أخرجه ابن أبي حاتم (1358): ص 1/ 253.

(14)

تفسير المراغي: 2/ 10.

(15)

انظر: تفسير اقرطبي: 2/ 159، وتفسير النسفي: 1/ 134.

(16)

تفسير الطبري: 3/ 175. [بتصرف بسيط].

(17)

انظر: تفسير النسفي: 1/ 134.

(18)

تفسير المراغي: 2/ 10.

(19)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 54.

(20)

انظر: الطبري (2237)، : ص 3/ 176، وابن أبي حاتم (1361): ص 1/ 254.

(21)

انظر: تفسير الطبري (2238): ص 3/ 176، و (2244): ص 3/ 177.

(22)

انظر: تفسير الطبري (2239)، و (2240): ص 3/ 176.

(23)

انظر: تفسير الطبري (2241)، و (2242): ص 3/ 176.

(24)

انظر: تفسير الطبري (22224339): ص 3/ 177.

(25)

انظر: تفسير الطبري (2245): ص 3/ 177.

(26)

انظر: تفسير الطبري (2246): ص 3/ 177.

(27)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1362): ص 1/ 254.

(28)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1360): ص 1/ 254.

(29)

تفسير الطبري: 3/ 175.

(30)

البيت هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل، انظر: ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: 261 (أوربة)، ورسالة الشافعي: 35، 487، وسيرة ابن هشام 2: 200، والكامل 1: 12، 2: 3 ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60، واللسان (شطر)(حسر)، وغيرها. ورواية الشافعي في الرسالة:" إن العسيب " بالباء في آخره، ورواية ديوانه وابن هشام:" إن النعوس ". والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته. وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام:" النعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: " وهو حسير ". ويروى: " داء يخامرها فنحوها. . . "، ورواية ديوانه " مخزور ". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور: من قولهم: " خزر بصره ": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل.

(31)

سيرة ابن هشام 2: 199، والروض الأنف 2: 38، والخزانة 3: 38، ومجاز القرآن لأبي عبيدة:60.

ص: 342

تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ

قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا" (1)

وقد اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام، وفيه قولان (2):

أحدهما: أن القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله: حيالَ ميزاب الكعبة. قاله: عبدالله بن عمرو (3).

والثاني: أن البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب. قاله: ابن عباس (4).

والصواب: أن "المولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ"(5)، وقبلة البيت بابه، كما قال أسامة بن زيد:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة"(6). والله أعلم.

قوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ} [البقرة: 144]، " فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه"(7).

قال الصابوني: " أي: وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة أيضاً "(8).

قال المراغي: " أي وفي أىّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة"(9).

قال ابن عثيمين: " عدل عن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لأمته؛ لأن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب له، وللأمة؛ إذ إنه الإمام؛ والخطاب إذا وجه للإمام فهو خطاب له، ولمن اتبعه"(10).

قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، " أي إِن اليهود والنصارى ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حقٌ من عند الله"(11).

قال المراغي: " أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هى من كتبهم، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك فى نفوسهم"(12).

واختلف في قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، على قولين (13):

أحدهما أنهم أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.

والثاني: عنى بذلك اليهودَ خاصةً. قاله السدي (14).

(1) تفسير الطبري: 3/ 175.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 178 - 179.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2247)، و (2248)، و (2249): ص 3/ 177 - 178.

(4)

انظر تفسير الطبري (2250): ص 3/ 179.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 179.

(6)

أخرجه الطبري (2252)، و (2253)، و (2254)، و (2255): ص 3/ 180 - 181، ورواه أحمد في المسند (21247): ص 5/ 201.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 182.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(9)

تفسير المراغي: 2/ 10.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 124.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(12)

تفسير المراغي: 2/ 10.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 183.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2256): ص 3/ 183.

ص: 343

والقول الأول أولى بالصواب، أي: أن هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ (1) الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده (2)، وأن هذا التحويل كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إلى القبلتين. والله أعلم.

قال القرطبي: فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان (3):

أحدهما: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به.

الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.

قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]، " أي: وليس (4) الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون يجازيَكم به أحسن جزاء" (5).

قال مقاتل: " يعني عما يعملون من كفرهم بالقبلة"(6).

قال الصابوني: " أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها"(7).

قال المراغي: أي" فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين"(8).

قال البيضاوي: " وعد ووعيد للفريقين"(9).

قال أبو السعود: " وعد ووعيد للفريقين والخطابُ للكل تغليبا"(10).

قال القاسمي: " فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم"(11).

قال الشيخ ابن عثيمين: "إن (ما) اسم موصول تفيد العموم؛ يعني: عن أيّ عمل يعملونه سواء كان يتعلق بالجوارح، أو يتعلق بالقلوب؛ فيشمل الاعتقاد، ويشمل القول، والفعل (12).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]، على وجهين (13):

أحدهما: {تعملون} ، بالتاء، قرأ بها ابن عامر وحمزة والكسائي، على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد.

الثاني: {يَعْمَلُونَ} ، بالياء من تحت، قرأ بها الباقون.

الفوائد:

1 -

لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره

(1) و (الحق) معناه الشيء الثابت؛ فإن أضيف إلى الخبر فهو الصدق؛ وإن أضيف إلى الحكم فهو العدل؛ قال الله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115].

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 183.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 161.

(4)

قوله تعالى: (وما الله بغافل عما يعملون)؛ {ما} هنا حجازية؛ لأن القرآن بلغة قريش؛ والدليل على هذا قوله تعالى في سورة يوسف: {ما هذا بشراً} [يوسف: 31]؛ ولم يقل: «بشر» ؛ فالقرآن بلغة قريش؛ وقريش حجازيون؛ و {ما} عندهم تعمل عمل «ليس» .

(5)

تفسير الطبري: 3/ 184. [بتصرف بسيط].

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/! 47.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 190.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 11.

(9)

تفسير البيضاوي: 1/ 112.

(10)

تفسير أبي السعود: 1/! 75.

(11)

محاسن التأويل: 1/ 426.

(12)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 54.

(13)

انظر: القرطبي: 2/ 161، وتفسير النسفي: 1/ 134، وتفسير البيضاوي: 1/ 172.

ص: 345

أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد (1). واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} يعني من الأرض من شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت (2).

2 -

من فوائد الآية: إثبات رؤية الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} .

3 -

ومنها: أن النظر إلى السماء ليس سوء أدب مع الله؛ لقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء لكن في الصلاة لا يرفع بصره إلى السماء؛ لورود الوعيد الشديد به.

4 -

ومنها: إثبات علو الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء؛ لأن الوحي يأتيه من السماء.

5 -

ومنها: كمال عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، حيث كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لكنه لم يفعل حتى أُمر بذلك.

6 -

ومنها: إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {فلنولينك قبلة} ؛ فإن ضمير الجمع للتعظيم.

7 -

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة؛ لقوله تعالى: {ترضاها} مع قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك} .

8 -

ومنها: وجوب الاتجاه نحو المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} .

9 -

ومنها: أن الوجه أشرف الأعضاء حيث عبر به عن سائر الجسم.

10 -

ومنها: ما استدل به المالكية على أنه ينبغي للمصلي أن ينظر تلقاء وجهه؛ لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ؛ فإذا ولّى الإنسان وجهه شطر المسجد الحرام فسيكون نظره تلقاء وجهه غالباً؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: ماذا ينظر إليه المصلي حال القيام؟ فالمشهور عن المالكية أن المصلي ينظر تلقاء وجهه؛ وعند الإمام أحمد أنه ينظر إلى موضع سجوده (3) - وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة؛ واستدلوا لذلك بأثر مرسل عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطأطئ رأسه، وينظر إلى موضع سجوده؛ ولأنه أظهر في الخشوع؛ وقال بعض العلماء: إن الإمام والمنفرد ينظران إلى موضع السجود؛ وأما المأموم فينظر إلى إمامه - بكسر الهمزة؛ واستدلوا لذلك بأحاديث في البخاري؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صلى صلاة الكسوف، وأخبر أصحابه بأنه عرضت عليه الجنة والنار قال لهم:«وذلك حين رأيتموني تقدمت وتأخرت» (4)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أنه لما صنع له المنبر قام يصلي عليه، فكان يقوم، ويركع؛ فإدا أراد السجود نزل، وسجد على الأرض؛ وقال:«إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي» (5)؛ وهذا دليل على أنهم ينظرون إليه؛ ومنها أيضاً أنهم لما أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة السر؛ قيل لهم: بم تعرفون ذلك؟ قالوا: «باضطراب لحيته» (6)؛ وهذه كلها في

(1) انظر: تفسير القرطبي: 2/ 160.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 160.

(3)

راجع تفسير الطبري 19/ 8.

(4)

أخرجه البخاري ص 94، كتاب الجمعة، باب 11: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، حديث رقم 212؛ وأخرجه مسلم ص 820، كتاب الكسوف، باب 3: ما عرض على النبي في صلاة الكسوف

، حديث رقم 2102 [10]904.

(5)

أخرجه البخاري ص 72، كتاب الجمعة، باب 26: الخطبة على المنبر، حديث رقم 917؛ وأخرجه مسلم ص 762، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 10: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة

، حديث رقم 1216 [44]544.

(6)

أخرجه البخاري ص 59، كتاب الأذان، باب 91: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، حديث رقم 746.

ص: 346

الصحيح؛ فهذا دليل على أن المأموم ينظر إلى إمامه؛ ولأنه أبلغ في الائتمام به؛ لأن الإمام قد يقوم، وقد يجلس ساهياً مثلاً؛ فإذا كان المأموم ينظر إلى الإمام كان ذلك أبلغ في الاقتداء به؛ أما الإمام، والمنفرد فإنهما ينظران إلى موضع السجود؛ وهذا القول أقرب؛ ولا سيما إذا كان المأموم محتاجاً إلى ذلك، كما لو كان لا يسمع، فيريد أن ينظر إلى الإمام ليقتدي به، أو نحو ذلك.

لكن يستثنى من ذلك إذا كان جالساً؛ فإنه ينظر إلى موضع إشارته؛ لقول عبد الله بن الزبير: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجاوز بصره إشارته» (1)؛ ومما يستثنى من ذلك عند بعضهم: إذا كنت في المسجد الحرام ويمكنك مشاهدة الكعبة؛ فإنك تنظر إلى الكعبة؛ ومنها إذا كنت في خوف وحولك العدو؛ فإنك تنظر إلى جهة العدو؛ فهذه المسائل الثلاث تستثنى؛ والراجح في مسألة الكعبة أن المصلي لا ينظر إليها حال صلاته؛ لعدم الدليل على ذلك؛ ولأنه ربما ينشغل به عن صلاته، لا سيما إذا كان الناس يطوفون حولها؛ وأما استثناء الصلاة حال الخوف فصحيح؛ لدخوله في عموم قوله تعالى:{وخذوا حذركم} ؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث طليعة؛ فكان يصلي وهو يلتفت إلى الشعب هل جاء الطليعة أم لا (2).

11 -

ومن فوائد الآية: عظمة هذا المسجد لوصفه بالحرام - أي ذي الحرمة والتعظيم - ولهذا كان من يدخله آمناً، ولا يدخله أحد إلا بإحرام وجوباً إن كان لم يؤد الفرض؛ أو استحباباً إن كان قد أداه - بخلاف غيره؛ فكل شيء فيه حياة فهو آمن داخل الحرم - حتى الجماد: فالشجر آمن لا يجوز قطعه في الحرم؛ والصيد آمن لا يقتل في الحرم؛ بل ولا ينفر من مكانه.

12 -

ومنها: وجوب الاتجاه إلى القبلة في أيّ مكان كان الإنسان: من بر، أو بحر، أو جو؛ لقوله تعالى:{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ؛ ويشمل من كان في مكة، ومن كان بعيداً عنها، ومن كان في جوف الكعبة؛ لعموم قوله تعالى:{وحيث ما كنتم} ؛ إذاً إذا كان في جوف الكعبة يستقبل أمام وجهه من أيّ الجهات كان؛ إلا أن بعض أهل العلم يقول: لا يستقبل الباب إذا كان مفتوحاً ما لم يكن له عتبة؛ لأنه لابد من شاخص يكون بين يديه حتى يصح أن يقال: إنه ولّى وجهه شطره؛ وإذا كنا خارج الكعبة - ولكن في المسجد - فإنا ندور حوله؛ لأننا لو استقمنا في صف مستقيم لم نوَلّ وجوهنا شطره؛ ويكون من خرج عن مسامتته ولّى وجهه جهة غيره؛ لأنه محصور الآن؛ وإذا ابتعدنا فإن بعض العلماء يقول: إن كنت في مكة فاستقبل المسجد؛ وإن كنت خارج مكة فاستقبل مكة؛ لكن هذا تقريبي؛ إنما الصواب في هذه المسألة أن من أمكنه مشاهدة عين الكعبة وجب عليه استقبال العين - لا يخرج عن مسامتتها؛ ومن لا يمكن مشاهدتها لبعد، أو حيلولة شيء دونها استكفى بالجهة؛ لقوله تعالى:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].

ويسقط استقبال القبلة في مواضع؛ منها:

أ - عند صلاة النفل في سفر؛ فيصلي حيث كان وجهه.

ب - عند الخوف الشديد إذا كان لا يمكن استقبال القبلة.

ج - إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة لمرض - أو صلب - يعني: لو صلب إلى غير القبلة، أو نحو ذلك.

أما إذا اشتبهت عليه القبلة فعليه أن يجتهد إن كان بمكان يصح فيه الاجتهاد؛ فإن أصاب فذاك؛ وإن أخطأ فهو معذور؛ إذاً فالاشتباه لا يُستثنى؛ لأن حقيقة الأمر أنه لا يجوز أن يصلي إلا وهو يعتقد أنه إلى القبلة؛ بخلاف

(1) خرجه أبو داود ص 1396، كتاب الصلاة، باب 180: الإشارة في التشهد، حديث رقم 990، وأخرجه النسائي ص 2170 كتاب السهو، باب 39: موضع البصر عند الإشارة

، حديث رقم 1276، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 355، باب 226: النظر إلى السباب، حديث رقم 718، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح (1/ 407).

(2)

أخرجه أبو داود ص 1290، كتاب الصلاة، باب 163: الرخصة في ذلك، حديث رقم 916، وأخرجه ابن خزيمة 1/ 246، باب 93: ذكر الدليل على أن الالتفات المنهي عنه في الصلاة

، حديث رقم 485، وأخرجه الحاكم في مستدركه 2/ 83 – 84، كتاب الجهاد، وقال الحاكم (صحيح على شرط الشيخين غير أنهما لم يخرجا لسهل لقلة رواية التابعين عنه)؛ وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود:(صحيح) 1/ 256.

ص: 347

الذي ذكرنا؛ فالعاجز يعرف أن القبلة خلفه، فيصلي إلى غير القبلة؛ وكذلك في شدة الخوف؛ وكذلك المتنفل في السفر.

13 -

المسلمين على وجهة واحدة؛ لأنه تعالى قال: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ؛ فالمسلمون في أقطار الدنيا كلها يتجهون إلى قبلة واحدة؛ هذا توحيد؛ ولا سيما أنهم يتجهون هذا الاتجاه، ويتحدون هذا الاتحاد في أعظم مشعر عملي، أو في أعظم فريضة عملية - وهي الصلاة؛ فيدل هذا على أن الشرع يراعي مراعاة تامة توحيد المسلمين في دينهم، وتوحيدهم في الاتجاه البدني، وكذلك في الاتجاه القلبي الفكري.

14 -

والنصارى؛ لقوله تعالى: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} ؛ ولكن مع ذلك شنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم تشنيعاً عظيماً حين توجه إلى الكعبة بأمر ربه.

15 -

ومنها: أن ما كان من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: {أنه الحق} مضافاً إلى الله: {من ربهم} .

16 -

ومنها: أن هؤلاء المعاندين من أهل الكتاب يعاندون مع علمهم التام، ومع إقرارهم بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ فهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيستقبل الكعبة؛ وهم علموا ذلك مما جاء في كتبهم من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا النبي الأمي سوف يتجه إلى الكعبة؛ وكان عليهم حيث أقروا بربوبية الله لهم، وعلموا الحق أن ينقادوا له، وأن يكونوا أولى الناس باتباعه؛ لأن من أقر بربوبية الله سبحانه وتعالى لزم أن يقر بأحكامه، ويلتزم بها؛ لأن الرب له الملك المطلق يتصرف كيف يشاء؛ ولهذا أضاف الربوبية هنا إليهم:{من ربهم} ؛ لإقامة الحجة عليهم حيث يعترفون بربوبيته.

17 -

ومن فوائد الآية: انتفاء غفلة الله عز وجل عن أعمالهم المتضمن لكمال علمه، وإحاطته بهم؛ ولا يكفي أن نقول: انتفاء الغفلة فقط؛ بل نقول: المتضمن لكمال العلم، والإحاطة؛ لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما يعملون} .

18 -

ومنها: صحة تقسيم الصفات إلى ثبوتية، ومنفية؛ لأن التي في الآية هنا منفية - وهي قوله تعالى:{وما الله بغافل عما يعملون} فالصفات المنفية: كل صفة صُدِّرت بما يدل على النفي بأيّ أداة كانت، مثل قوله تعالى:{لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]، وقوله تعالى:{وما مسنا من لغوب} [ق: 38]، وقوله تعالى:{ولم يعيَ بخلقهن} [الأحقاف: 33]؛ واعلم أن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي؛ وإنما يراد بها مع النفي: ضدها؛ فإذا قال الله تعالى عن نفسه: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] فالمراد: نفي اللغوب، وإثبات كمال قوته، وقدرته.

القرآن

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145]

التفسير:

ولئن جئت -أيها الرسول- الذين أُعطوا التوراة والإنجيل بكل حجة وبرهان على أن توجُّهك إلى الكعبة في الصلاة هو الحق من عند الله، ما تبعوا قبلتك عنادًا واستكبارًا، وما أنت بتابع قبلتهم مرة أخرى، وما بعضهم بتابع قبلة بعض. ولئن اتبعت أهواءهم في شأن القبلة وغيرها بعد ما جاءك من العلم بأنك على الحق وهم على الباطل، إنك حينئذ لمن الظالمين لأنفسهم. وهذا خطاب لجميع الأمة وهو تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام (1).

في سبب نزول الآية: أخرج الطبري من طريق أسباط عن السدي قال: " وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده!

(1) تفسير السعدي: 1/ 72

ص: 348

ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم: {وإنّ الذين أوتوا الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم} ، إلى قوله:{ليكتمون الحق وهم يعلمون} " (1).

وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (2)، وقتادة (3)، نحوه

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} [البقرة: 144]، " أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل معجزة على صدقك في أمر القبلة"(4).

قال ابن عثيمين: أي" إن أتيتهم بكل آية تدل على صدق ما أتيت به"(5).

قال الطبري: أي: " ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة، بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام"(6).

واختلفوا في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144]، على قولين (7):

أحدهما: أن المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} [البقرة: 144]. قاله الأصم (8).

الثاني: أن المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واحتجوا عليه بأن قوله:{الذين أوتوا الكتاب} صيغة عموم فيتناول الكل.

قوله تعالى: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 144]، أي:" ما اتبعوك يا محمد ولا صلّوا إلى قبلتك"(9).

قال ابن عثيمين: " أي الكعبة؛ لعنادهم، واستكبارهم"(10).

قال الطبري: أي: "ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك - قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام"(11).

قال الزجاج: أي" فإن أهل الكتاب قد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق وأن صفته ونبوته في كتابهم، وهم يحققون العلم بذلك فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف"(12).

قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145]، أي:"وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم"(13).

قال ابن عطية: " لفظ خبر يتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك"(14).

قال الطبري: " وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها"(15).

وذكروا في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145]، وجوها (16):

(1) تفسير الطبري (2258): ص 3/ 186، و (2204): ص 3/ 157.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2258): ص 3/ 186.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2163): ص 3/ 139 - 140.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 92. [بتصرف بسيط].

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 134.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 184.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 107.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 107.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 134.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 184.

(12)

معاني القرآن: 1/ 224.

(13)

تفسير الطبري: 3/ 185.

(14)

المحرر الوجيز: 1/ 223.

(15)

تفسير الطبري: 3/ 185.

(16)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 115.

ص: 349

أحدها: أنه دفع لتجويز النسخ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة.

والثاني: حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.

الثالث: المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك.

الرابع: أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم، لأن ذلك معصية.

الخامس: وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق، فالزم قبلتك ودع أقوالهم.

قوله تعالى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 144]، أي:"وما اليهود بتابعةٍ قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها"(1).

قال السدي: " يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود"(2). وروي عن ابن زيد وابن زيد (3) مثله.

قال ابن عثيمين: " فاليهود لا تتبع قبلة النصارى؛ والنصارى لا تتبع قبلة اليهود؛ لأن النصارى يقولون: إن اليهود كفار؛ واليهود يقولون: إن النصارى كفار ليسوا على حق؛ ولهذا يكذبون عيسى صلى الله عليه وسلم"(4).

قال المراغي: " أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث فى فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا"(5).

قال أبو السعود: " فإن اليهودَ تستقبلُ الصخرةَ والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقُهم كما لا يرجى موافقتُهم لك لتصلُّب كلِّ فريقٍ فيما هو فيه"(6).

وفي قوله تعالى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 144]، تفسيران (7):

أحدهما: أن المعنى: ليست اليهود متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، قاله السدي (8)، وابن زيد (9).

قال ابن عطية: "فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم"(10).

الثاني: أن معنى الآية: وما من أسلم معك منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم بمتبع قبلة من أسلم.

قال ابن عطية: "والأول أظهر في الأبعاض، وقبلة النصارى مشرق الشمس وقبلة اليهود بيت المقدس"(11).

(1) تفسير الطبري: 3/ 185 - 186.

(2)

أخرجه الطبري (2257): ص: 3/ 186.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2258): ص 3/ 186.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 134.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 11.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 175.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 223.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2257): ص: 3/ 186.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2258): ص 3/ 186.

(10)

المحرر الوجيز: 1/ 223.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 223.

ص: 350

قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 144]، أي:" ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فاتبعتَ قبلتهم"(1).

قال أبو السعود: " أي ولئن اتبعت أهواءَهم فرضاً"(2).

قال الثعلبي: أي" مرادهم في أمر القبلة"(3).

قال الواحدي: " أي: صليت إلى قبلتهم"(4).

قال المراغي: " أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك"(5).

قال الصابوني: " أي ولئن فرض وقدّر أنك سايرتهم على أهوائهم، واتبعت ما يهوونه ويحبونه بعد وضوح البرهان الذي جاءك بطريق الوحي"(6).

و(الهوى)، هو الميل؛ ومنه يقال للنجم:(هوى) إذا مال، وسقط؛ ويطلق (الهوى) في الغالب على الميل عن الحق؛ ويقابله (الهدى)؛ فيقال: اتبعَ الهوى بعد الهدى؛ وإن صح الحديث وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(7) - فهو دليل على أن الهوى يكون في الخير كما يكون في الشر (8).

قال ابن عطية: " وهوى النفس: إنما يستعمل في الأكثر: فيما لا خير فيه، وقد يستعمل في الخير مقيدا به، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسرى بدر: "فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر" (9) "(10).

قال السعدي: "إنما قال: {أهواءهم}، ولم يقل: (دينهم}، لأن ما هم عليه مجرد أهوية نفس، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين، اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} "(11).

واختلفوا في المخاطب في قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 145]، على ثلاثة أوجه (12):

أحدها: أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم في الظاهر، وهو في المعنى لأمته، كما قال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1].

الثاني: أن المراد: الرسول وغيره. فإن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره والغرض منه أن لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة.

الثالث: وقيل غيره، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب.

والراجح، أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، "وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي صلى الله عليه وسلم ظلما متوقعا فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم

(1) تفسير الطبري: 3/ 186. [بتصرف بسيط].

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 175.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 12.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 359.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 12.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(7)

أخرجه البغوي في شرح السنة 1/ 212 – 213، حديث رقم 104، قال النووي في آخر الأربعين النووية "حسن صحيح"، وقال الحافظ في الفتح 13/ 289: أخرجه الحسن بن سفيان وغيره؛ ورجاله ثقات؛ وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 394): تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 59.

(9)

رواه مسلم في الجهاد والسير (1763)، وأحمد في المسند (221، وأبو داود في الجهاد (2690)، والترمذي في تفسير القرآن (3081).

(10)

المحرر الوجيز: 1/ 223.

(11)

تفسير السعدي: 1/ 72.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 110، والتفسير البسيط: 3/ 395.

ص: 351

وقطعنا أن ذلك لا يكون منه فإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر" (1).

قال الواحدي: "وقيل: أن الله تعالى خاطب نبيه عليه السلام بهذا مهددًا أمته، أي: إذا استحققت منا مثل ذا الجزاء عند مخالفة، لو وقعت منك، ولن تقع أبدًا كانوا هم أجدر وأخلق، بتكاثف الأوزار، واجتماع الآثام، عند ما يظهر منهم من إيثار الضلال والانحراف عن الحق"(2).

قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، أي" بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه"(3).

قال الثعلبي: أي: " إنها حق وإنها قبلة إبراهيم"(4).

قال الواحدي: أي" أن قبلة الله: الكعبة"(5).

قال الطبري: أي: "من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق، ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها"(6).

قال ابن عثيمين: " والمراد بـ (العلم) الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم"(7).

قوله تعالى: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِين} [البقرة: 145]، أي:" لتكونن من جملة الظالمين"(8).

قال الثعلبي: أي" الجاحدين الضارين أنفسهم"(9).

قال الواحدي: " أي: إنك إذن مثلهم"(10).

قال الطبري: "أي: "إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدُهم وفي عِدادِهم" (11)، و"الغرض منه التهديد والزجر" (12)

قال ابن عثيمين: "أي: لمن المعتدين الذين نقصوا الواجب عليهم من اتباع الحق دون الأهواء"(13).

قال الصابوني: " والكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، وإِلا فحاشاه صلى الله عليه وسلم َ من أتباع أهواء الكفرة المجرمين، وهو من باب التهييج للثبات على الحق"(14).

قال البيضاوي: " وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه:

أحدها: الإِتيان باللام الموطئة للقسم.

ثانيها: القسم المضمر.

ثالثها: حرف التحقيق وهو أن.

رابعها: تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية.

وخامسها: الإِتيان باللام في الخبر.

(1) المحرر الوجيز: 1/ 223.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 396.

(3)

تفسير المراغي: 2/ 12.

(4)

تفسير الثعلبي: 2/ 12.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 359.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 187.

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 59.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 12.

(9)

تفسير الثعلبي: 2/ 12.

(10)

التفسير البسيط: 3/ 395.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 187.

(12)

تفسير الراي: 4/ 117.

(13)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 136.

(14)

صفوة التفاسير: 2/ 92.

ص: 352

وسادسها: جعله من الظَّالِمِينَ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم.

وسابعها: التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم، وتحريصا على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى، واستفظاعاً لصدور الذنب عن الأنبياء" (1).

قال المراغي: " وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شاء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك، فكأنه قيل: إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم {وما للظّالمين من أنصار}، فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟ ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا، وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الخلق؛ لأن قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية} دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض الآيات، ويبين الحقائق؛ ولكن لا ينتفعون بها.

2 -

ومنها: شدة عناد هؤلاء الذين أوتوا الكتاب؛ وأنهم مهما أوتوا من الآيات فإنهم لن ينصاعوا لها، ولن يتبعوها.

3 -

ومنها: أن الذين أوتوا الكتاب لن يتبعوا قبلة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا كان كذلك فلن يتبعوا دينه؛ لأن القبلة بعض الدين؛ فمتى كفروا بها فهو كفر بالدين كله.

4 -

ومنها: أن الكعبة قبلة للمسلمين خاصة؛ لأنه تعالى أضاف استقبالها إليهم؛ ولكن الظاهر - والله أعلم - أن الكعبة قبلة لكل الأنبياء؛ لقوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} [آل عمران: 96 وهكذا قال شيخ الإسلام: إن المسجد الحرام قبلة لكل الأنبياء؛ لكن أتباعهم من اليهود، والنصارى هم الذين بدلوا هذه القبلة.

5 -

ومنها: وجوب الانقياد للحق إذا ظهرت آياته؛ لأن هذه الآية سيقت مساق الذم؛ فدل هذا على وجوب اتباع الحق إذا تبينت الآيات.

6 -

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يكون تابعاً لقبلتهم؛ لأن قبلتهم التي يدعونها لم تثبت شرعاً؛ ثم لو فرض أنها جاءت في شرائعهم فإنها نُسِخت بقبلة الإسلام.

7 -

ومنها: أنه يستحيل شرعاً أن يتبع المسلم طريقة اليهود، والنصارى؛ لقوله تعالى:{وما أنت بتابع قبلتهم} ؛ وجه الاستحالة: أن الجملة جاءت بالاسمية المؤكدة بحرف الجر في سياق النفي؛ فالمؤمن حقيقة لا يمكن أن يتابع أعداء الله، ولا أن يأخذ بآرائهم، وأفكارهم، واتجاهاتهم؛ وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غاية الحماية، حيث قال:«من تشبه بقوم فهو منهم» (3)، حتى نحذر ونبعد عن التشبه بأعداء الله، والتقليد لهم سواء

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 112.

(2)

تفسير المراغي: 2/ 12.

(3)

أخرجه أحمد 2/ 50، حديث رقم 5114، وأخرجه أبو داود ص 1518، كتاب اللباس، باب 4: في لبس الشهرة، حديث رقم 4031، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنفن كتاب السير، باب 79: ما قالوا فيما ذكر من الرماح واتخاذها، حديث رقم 33006، قال الحافظ في الفتح 10/ 271: أخرجه أبو داود بسند حسن؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/ 504، وقال في الإرواء: صحيح 5/ 109، حديث رقم 1269.

ص: 353

في أمور العبادة، أو في أمور العادة؛ فإن التشبه بأعداء الله حرام: وقد يؤدي إلى الكفر، والشرك - والعياذ بالله.

8 -

ومن فوائد الآية: أن اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم بعضاً؛ بل يضلل بعضهم بعضاً؛ فاليهود يرون النصارى ليسوا على شيء من الدين؛ والنصارى يرون اليهود ليسوا على شيء من الدين أيضاً؛ كل منهم يضلل الآخر فيما بينهم؛ كل واحد منهم يرى أن الآخر ليس على ملة صحيحة؛ ولهذا قال تعالى: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} [البقرة: 145]؛ فقبلة اليهود إلى بيت المقدس - إلى الصخرة؛ وقبلة النصارى إلى المشرق يتجهون نحو الشمس؛ لكنهم على الإسلام يد واحدة بعضهم لبعض وليّ، كما قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51]؛ لأنهم كلهم أعداء للإسلام.

9 -

ومن فوائد الآية: أن اتباع اليهود والنصارى اتباع للهوى لا للهدى؛ لقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} .

10 -

ومنها: أن اليهود والنصارى ليسوا على هدى، حيث جعل الله سبحانه وتعالى ما هم عليه هوى، وليس بهدى.

11 -

ومنها: أن الإنسان لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد قيام الحجة؛ لقوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} ؛ فالإنسان قد يتابع غيره جهلاً؛ فلا يؤاخذ به - وإن كان يسمى ضالاً؛ لكنه ليس بظالم؛ لأنه لم يتعمد المخالفة؛ لا يتحقق الظلم إلا لمن عرف الحق وخالفه.

12 -

ومنها: التلطف في الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {لمن الظالمين} ؛ لأنك لو قلت لرجل: «أنت رجل ظالم» لكان أشد وقعاً من قولك له: أنت من الظالمين؛ ونظيره قوله تعالى: {عبس وتولى} [عبس: 1 عندما تقرؤها تظن أن العابس والمتولي غير الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تظن أنه رجل آخر؛ ولكن المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم.

13 -

ومنها: بيان أن العلم حقيقة هو علم الشريعة؛ لقوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} : أتى بـ «أل» المفيدة للكمال؛ ولا شك أن العلم الكامل الذي هو محل الحمد والثناء هو العلم بالشريعة؛ ولذلك نقول: إن عصر النبوة هو عصر العلم؛ وليس عصرنا الآن هو عصر العلم الذي يمدح على الإطلاق؛ لكن ما كان منه نافعاً في الدين فإنه يمدح عليه لهذا.

14 -

ومنها: أن الظلم، والعدل، وغير ذلك مقرون بالأعمال؛ لا بالأشخاص؛ بمعنى أنه ليس بين الله تعالى وأحد من الخلق شيء يحابيه، ويراعيه به؛ كل من خالفه فهو ظالم؛ فلا نقول مثلاً: هذا قريب من الرسول صلى الله عليه وسلم تكفر سيئاته لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو نقول: هذا إنسان من قريش من سلالة الأشراف - من سلالة بني هاشم - تكفّر عنه سيئاته؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه وتعالى له: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} ؛ فما بالك بمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم! ! ! فلا أحد يحابى من قِبل الله عز وجل من أجل نسبه، أو حسبه، أو جاهه بين الناس: قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13].

15 -

ومن فوائد الآية: قد يرد التعليق على شرط لا يمكن تحققه؛ لقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} ؛ فهذا الشرط لا يمكن أن يقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

16 -

ومنها: تحذير الأمة من اتباع أهواء غير المؤمنين؛ وجه ذلك أنه إذا كان هذا الوصف يكون للرسول صلى الله عليه وسلم لو اتبع أهواءهم فالذي دونه من باب أولى؛ فعلينا أن نحذر غاية الحذر من اتباع أهواء أعداء الله؛ فالواجب على علماء الأمة أن يحذِّروها مما وقعت فيها الآن من اتباع أهواء أعداء الله، ويبينوا لهم أن اتباع أهوائهم هو الظلم؛ والظلم ظلمات يوم القيامة؛ والظلم مرتع مبتغيه وخيم.

17 -

دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} يدل على ذلك.

القرآن

ص: 354

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]

التفسير:

الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل من أحبار اليهود وعلماء النصارى يعرفون أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله بأوصافه المذكورة في كتبهم، مثل معرفتهم بأبنائهم. وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون صِدْقه، وثبوت أوصافه.

في سبب نزول الآية: قال الواحدي: " نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان؛ قال عبد الله بن سلام: لأنا أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام"(1).

قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، " أي إن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا النبي الأمى خاتم الرسل كما يعرفون أبناءهم"(2).

قال الثعلبي: " يعني محمدا كما يعرفون أبناءهم من بين النصارى"(3).

قال البيضاوي: " أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم"(4).

قال المراغي: " هذا كالدليل لما ذكر فى قوله: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شاء من أمرهم"(5).

واختلف في عود الضمير في قوله تعالى {يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146]، على ثلاثة أوجه (6):

أحدها: أنه عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم. قاله ابن عباس (7)، مجاهد (8) وقتادة (9) وغيرهما، وهو قول أكثر المفسرين (10).

قال البيضاوي: " الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه"(11).

الثاني: أنه راجع إلى أمر القبلة: أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر تحويل القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم. قاله أبوالعالية وقتادة والسدي ومقاتل وروي عن ابن عباس أيضا (12)، واختاره الإمام الطبري (13).

الثالث: أنه يرجع إلى القرآن. حكاه البيضاوي (14).

(1) أسباب النزول: 44، وانظر: العجاب: 1/ 398 - 399.

(2)

تفسير المراغي: 7/ 94.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 112.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 12 - 13.

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 162 - 163.

(7)

عزاه في: زاد المسير: 1/ 158.

(8)

عزاه إليه ابن عطية، انظر: المحرر الوجيز: 1/ 224.

(9)

عزاه إليه ابن عطية، انظر: المحرر الوجيز: 1/ 224.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 13، وقال في "البحر المحيط" 1/ 435:"واختاره الزجاج ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري" وهو الذي رجحه أبو حيان.

(11)

تفسير البيضاوي: 1/ 112.

(12)

عزاه إليهم في زاد المسير: 1/ 158.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 187.

(14)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 112.

ص: 355

والقول الأول أولى بالصواب، وذلك للوجوه الآتية (1):

أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله:{من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة: 145]، والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.

وثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

وفي سبب تخصيص ذكر الأبناء في المعرفة دون الأنفس في قوله تعالى {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ، قال الرازي:" لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق"(2).

وقال القرطبي: "وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبدالله بن سلام: أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه"(3).

قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146]، "أي وإن جماعة منهم، ليخفون الحق ولا يعلنونه"(4).

قال مجاهد: " يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل"(5).

قال الثعلبي: " يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة"(6).

قال الزجاج: " أي يكتمون صفته، ومن لا يعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به"(7).

قال البيضاوي: " تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن"(8).

قال ابن عطية: " والفريق الجماعة، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم"(9).

وفي الحق الذي كتموه، قولان:

أحدهما: أنه النبي محمد-صلى الله عليه وسلم يكتمه اليهود والنصارى. قاله مجاهد (10)، وقتادة (11)، وخصيف.

ولهذا ذكر الله في سورة آل عمران أن بعضهم يقول لبعض: كيف تبينون الهدى لمحمد، وأصحابه؟ ! إذا بينتموه يحاجوكم به عند الله أفلا تعقلون! فهم يتواصون بالكتمان - والعياذ بالله (12).

الثاني: وقيل المراد: استقبال الكعبة (13)، قاله الربيع (14)، والسدي (15)، ومقاتل (16).

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 119.

(2)

مفاتيح الغيب: 4/ 118.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 163.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(5)

أخرجه الطبري (2270): ص 3/ 189.

(6)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(7)

معاني القرآن: 1/ 225.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 112.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 224.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2270): ص 3/ 189.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2269): ص 3/ 189.

(12)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 62.

(13)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 163.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2271): ص 3/ 190، وابن أبي حاتم (1371): ص 1/ 256.

(15)

عزاه في زاد المسير: 1/! 58.

(16)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 148.

ص: 356

قال الطبري: "وذلك الحق هو القبلة التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى، فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس، ورفضُوا ما أمرهم الله به، وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى، وخيانتهم عبادَه، وكتمانِهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه"(1).

قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، أي:" يكتمون والحال أنهم يعلمون أنه الحق"(2).

قال الزجاج: أي" أنه الحق"(3).

قال الواحدي: " لأن الله بيّن ذلك في كتابهم"(4).

قال ابن عثيمين: "وهذا أبلغ في الذم، وأقبح في الفعل أن يكونوا كاتمين للحق وهم يعلمون، ومثله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وقوله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] "(5).

وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وجهان من التفسير (6):

أحدهما: وهم يعلمون أنه حق.

والثاني: وهم يعلمون ما على مخالفه من العقاب.

الفوائد

1 -

من فوائد الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم معروف عند أهل الكتاب معرفة تامة؛ وذلك كما جاء في كتبهم، كما قال الله تبارك وتعالى:{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157].

2 -

ومنها: أنه لا عذر ولا حجة لأهل الكتاب في إنكارهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أوتوا من وصفه ما يعرفونه به كما يعرفون أبناءهم.

3 -

ومنها: بيان أن تعلق الإنسان بالابن أقوى من تعلقه بالبنت؛ لقوله تعالى: {كما يعرفون أبناءهم} ؛ فهو يعرف الابن أكثر مما يعرف البنت لقوة تعلقه به.

4 -

ومنها: الاحتراس في القرآن الكريم، حيث قال تعالى:{وإن فريقاً منهم} ؛ لأن كتمان الحق لم يكن من جميعهم؛ بل من فريق منهم؛ وطائفة أخرى لا تكتم الحق؛ فإن من النصارى من آمن، كالنجاشي؛ ومن اليهود - كعبد الله بن سلام - مَن آمن، ولم يكتم الحق.

5 -

ومنها: شدة اللوم، والذم لهؤلاء الذين يكتمون الحق؛ لأنهم يكتمونه مع العلم به؛ فهم عامدون ظالمون؛ وهذا أشد قبحاً من كتمان الإنسان ما يكون متردداً فيه.

القرآن

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147]

التفسير:

(1) تفسير الطبري: 3/ 189.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 141.

(3)

معاني القرآن: 1/ 225.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 398.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 141.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 158.

ص: 357

الذي أنزل إليك -أيها النبي- هو الحق من ربك، فلا تكونن من الشاكين فيه. وهذا وإن كان خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فهو موجه للأمة.

قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147]، أي:" اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى"(1).

قال الربيع: " يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك"(2).

قال الثعلبي: "أي هذا الحق"(3) من ربك (4).

قال الواحدي: " أي: هذا الحق من ربك"(5).

قال ابن عثيمين: "يعنى أن الحق ثابت، وحاصل من ربك؛ وقيل: هذا الحق من ربك"(6).

قال الطبري: " وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل"(7).

قال ابن كثير: " ثبّت تعالى نبيه والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك"(8).

وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ: {الحق} ، منصوبا بـ {يعلمون} ، أي {يعلمون الحق} (9).

قال النحاس: "فأما الذي في "الأنبياء" {الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة (البقرة) مبتدأ آية، والذي في الأنبياء ليس كذلك"(10).

قال القرطبي: " ويصح نصبه على تقدير (الزم الحق)، والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ والتقدير: (هو الحق)، أو على إضمار فعل، أي (جاءك الحق) "(11).

وأما الألف واللام في قوله {الْحَقُّ} [البقرة: 147]، ففيه وجهان (12):

الأول: أن يكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الحق الذي في قوله:{ليكتمون الحق} أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك.

والثاني: أن يكون للجنس على معنى: الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل.

قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، أي:" فلا تكوننَّ من الشاكّين"(13).

قال الطبري: "أي من الشاكين، في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره"(14).

قال ابن زيد: " قال: من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك"(15).

(1) تفسير الطبري: 3/ 190.

(2)

أخرجه الطبري (2272): ص 3/ 190.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(4)

انظر: زاد المسير: 1/ 158.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 398.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 143.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 190.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 462.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(10)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 163.

(11)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 163.

(12)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 119.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(14)

تفسير الطبري: 3/ 190.

(15)

أخرجه الطبري (2273): ص 3/ 191.

ص: 358

قال الزجاج: " أي من الشاكين والخطاب أيضا عام أي فلا تكونوا من الشاكين"(1).

قال الصابوني: "والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته"(2).

قال الواحدي: "يعني: فلا تكونن من الممترين في الجملة التي أخبرتك من أمر القبلة، وعناد من كتم النبوة، وامتناعهم من الإيمان بك"(3).

قال الثعلبي: " والخطاب في هذه الآية: وفي ما قبلها للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، وكل ما ورد عليك من هذا النحو فهو سبيله"(4).

قال ابن عثيمين: " والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا النهي يراد به التثبيت؛ إذ لا يمكن وقوع الامتراء من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما أن أمر المؤمن بالإيمان يراد به الثبوت، والاستمرار عليه، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} [النساء: 136]، كما أن الشرط قد يعلق بما لا يمكن وقوعه كما سبق في قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين} [البقرة: 145] "(5).

و(المرية): الشك، ومنه: الامتراء والتماري (6)، وأنشد الطبري قول الأعشى (7):

تَدِرُّ عَلَى أَسْوُقِ المُمْتَرِينَ

رَكْضًا، إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنّ

قال ابن عطية: " ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري"(8).

وقال الراغب: "المرية: التردد في الأمر، وهو أخصمن الشك، والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية"(9).

وقد اختلف العلماء في تحديد نوع (المرية) في قوله {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، على أقوال (10):

أحدها: فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وأن بعضهم عاند وكتم، قاله الحسن.

وثانيها: بل يرجع إلى أمر القبلة. قاله الربيع (11).

وثالثها: إلى صحة نبوته وشرعه.

والقول الثالث هو الأقرب، "لأن أقرب المذكورات إليه قوله:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة، فقوله:{فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وجب أن يكون راجعا إليه" (12). والله تعالى أعلم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن ما جاء من عند الله فهو حق؛ لقوله تعالى: {الحق من ربك} .

(1) معاني القرآن: 1/ 225.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 398.

(4)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 143 - 144.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 158، والتفسير البسيط: 3/ 398، وتفسير القرطبي: 2/ 150.

(7)

ديوانه: 20 واللسان (رجحن).

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 224.

(9)

المفردات: 469.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 112.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1373): ص 1/ 256.

(12)

مفاتيح الغيب: 4/ 112.

ص: 359

2 -

ومنها: أنه ما دام الحق من الله فإنه يجب أن يؤمن الإنسان به، وأن لا يلحقه في ذلك شك، ولا مرية.

3 -

ومنها: أن كل شيء خالف ما جاء عن الله فهو باطل؛ لقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32].

4 -

ومنها: تقوية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الحق - وإن كتمه أهل الكتاب - لأن الإنسان بشر؛ لما أنكر هؤلاء الذين أوتوا الكتاب الحق قد يعتري الإنسان شيء من الشبهة - وإن كان بعيداً؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن ما جاء به هو الحق؛ لقوله تعالى: {الحق من ربك} .

5 -

ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالنبي بذكره بالربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: {من ربك} .

6 -

ومنها: أن الشك ينافي الإيمان؛ لقوله تعالى: {فلا تكونن من الممترين} .

7 -

ومنها: أنه قد ينهى عن الشيء مع استحالة وقوعه؛ لقوله تعالى: {فلا تكونن من الممترين} ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون من الممترين.

8 -

ومنها: عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت؛ لأن قوله تعالى له: {الحق من ربك} يقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: {فلا تكونن من الممترين} يقتضي استمراره على هذا الثبات؛ ولا شك أن في هذا من تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ما هو ظاهر.

القرآن

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]

التفسير:

ولكل أمة من الأمم قبلة يتوجَّه إليها كل واحد منها في صلاته، فبادروا - أيها المؤمنون- متسابقين إلى فِعْل الأعمال الصالحة التي شرعها الله لكم في دين الإسلام. وسيجمعكم الله جميعا يوم القيامة من أي موضع كنتم فيه. إن الله على كل شيء قدير.

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، "أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها"(1).

قال ابن عباس: " يعني بذلك: أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها. ووجه الله حيث توجه المؤمنون"(2).

قال أبو العالية: " قال: لليهودي وجهة هو موليها، (وللنصارى) وجهة هو موليها، وهداكم الله أنتم أيتها الأمة (القبلة) التي هي القبلة"(3). وروي عن مجاهد في أحد قوليه. والضحاك، وعطاء، والسدي، والربيع نحو ذلك (4).

قال الثعلبي: " أي ولكل أهل ملة قبلة، مستقبلها ومقبل إليها"(5).

قال البيضاوي: " ولكل أمة قبلة، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة"(6).

قال الصابوني: " أي لكل أمة من الأمم قبلةٌ هو مولّيها وجهه أي مائل إِليها بوجهه"(7).

وروي عن مجاهد في قوله {لكل وجهة هو موليها} ، قال:"أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة"(8). وروي عن الحسن نحو ذلك (9).

(1) تفسير المراغي: 2/ 14.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1374): ص 1/ 256.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1375): ص 1/ 256.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 256.

(5)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1376): ص 1/ 257.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 257.

ص: 360

وقال قتادة: " هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة"(1).

يقال: "وليته، ووليت إليه. إذا أقبلت إليه ووليت عنه إذا أدبرت عنه، وأصل التولية: الانصراف"(2).

قد ذكر أهل العلم في قوله: {وَلِكُلٍّ} [البقرة: 148]، أربعة أوجه (3):

أحدها: أنه يتناول جميع الفرق، أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، وهو قول الاصم، قال: لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].

وثانيها: أن المراد: أهل الكتاب وهم: المسلمون واليهود والنصارى، والمشركون غير داخلين فيه. وهو قول ابن عباس (4)، وأبي العالية (5)، و"مجاهد في أحد قوليه. والضحاك، وعطاء، والسدي، والربيع"(6).

وثالثها: أن المراد: لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها: جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، واحتجوا على هذا القول بوجهين:

الأول: قوله تعالى: {هو موليها} يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة، لأن ما عداها تولية الشيطان.

والثاني: أن الله تعالى عقبه بقوله: {فاستبقوا الخيرات} والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة.

ورابعها: أن المراد: لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة، فقبلة المقربين: العرش، وقبلة الروحانيين: الكرسي، وقبلة الكروبيين: البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة.

واختلفوا في المراد بقوله تعالى {وِجْهَةٌ} [البقرة: 148]، على قولين (7):

أحدهما: أن المراد المنهاج والشرع، قاله الحسن (8)، وهو كقوله تعالى:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 67]، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] والمراد منه أن للشرائع مصالح، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضا اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير.

الثاني: أن المراد منه أمر القبلة، قاله ابن عباس (9)،

وقالوا: لأنه تقدم قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك.

وذكروا في الضمير (هو) في قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وجهان (10):

الأول: أنه عائد إلى الكل، أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه إليها.

الثاني: أنه عائد إلى اسم الله تعالى، أي: الله تعالى يوليها إياه.

وتقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله: {هو موليها} عائدا إلى الله تعالى فههنا وجهان:

(1) أهرجه ابن ابي حاتم (1377): ص 1/ 257.

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 120.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1374): ص 1/ 256.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1375): ص 1/ 256.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 256.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 113.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 113.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1374): ص 1/ 256.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 113.

ص: 361

الأول: أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحا فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون:{ما ولاهم عن قبلتهم} [البقرة: 142]، فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعا في عرصة القيامة، فيفصل بينكم.

الثاني: أنا إذا فسرنا قوله: {ولكل وجهة} بجهات الكعبة ونواحيها، كان المعنى: ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة، أي ناحية من الكعبة:{فاستبقوا الخيرات} بالتوجه إليها من جميع النواحي، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، على وجهين (1):

أحدهما: {هو مُولَّاها} ، بفتح اللام، "أي مصروف إليها"(2). قرأ بها ابن عباس وابن عامر وأبو رجاء وسليمان بن عبد الملك.

الثاني: {مُوَلِّيهَا} ، بكسر اللام. قرأ بها الباقون.

وقرئ: {وَلِكُلّ وِجْهَةٍ} : بالإِضافة، والمعنى وكل وجهة الله موليها أهلها، واللام مزيدة للتأكيد جبراً لضعف العامل (3).

قال الثعلبي: " وفي حرف أبيّ: {ولك قبلة هو موليها}، وفي حرف عبد الله: {ولكل جعلنا قبلة هو موليها} "(4).

قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، أي:" فبادروا وسارعوا أيها المؤمنون إِلى فعل الخيرات"(5).

قال أبو السعود: " أي تسابقوا إليها"(6).

قال البيضاوي: أي"من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين، أو الفاضلات من الجهات وهي المسامتة للكعبة"(7).

قال المراغي: "أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه"(8).

قال الزجاج: " أي فبادروا إلى القبول من - الله عز وجل، وولوا وجوهكم حيث أمركم أن تولوا"(9).

قال الطبري: "أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم، فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، فلا عذر لكم في التفريط، وحافظوا على قبلتكم، فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، فتضلُّوا كما ضلت"(10).

(1) انظر: السبعة في القراءات: 172، وتفسير الثعلبي: 2/ 13.

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 13.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(4)

تفسير الثعلبي: 2/ 14.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 177.

(7)

تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 15.

(9)

معاني القرآن: 1/ 226.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 196.

ص: 362

قال الثعلبي: أي" وبادروا فعل الخيرات، ومجازه فاستبقوا إلى الخيرات: أي يسبق بعضكم بعضا فحذف حرف الخبر. كقول الشاعر (1):

ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل

سواكم فإني مهتد غير مائل

أراد من يمل إلى سواكم" (2).

وذكروا في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وجهين من التفسير:

أحدهما: أن المعنى: " سارعوا في الخيرات". قاله أبو العالية (3)، وروي عن الربيع بن أنس (4) نحو ذلك.

الثاني: أن المراد: " اثبتوا على قبلتكم. قاله الحسن (5).

قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148]، أي:"في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة"(6).

قال أبو العالية: " يعني: يوم القيامة"(7). وروي عن السدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك (8).

قال الزجاج: " أي يرجعكم إليه"(9).

قال البيضاوي: " فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع"(10).

قال الواحدي: " أي: أينما تكونوا يجمعكم الله للحساب فيجزيكم بأعمالكم"(11).

قال أبو السعود: " أي في أيّ موضعٍ تكونوا من موافِقٍ أو مخالفٍ مجتمعِ الأجزاء أو متفرقِها يحشُرُكم الله تعالى إلى المَحْشَر للجزاء"(12).

قال الثعلبي: " يريد أهل الكتاب، [فيجمعكم الله] يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم"(13).

قال المراغي: " أي ففى أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها فى أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية"(14).

قال الصابوني: " أي في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قمم الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل يبن المحق والمبطل"(15).

وعن السدي: قوله {أينما تكونوا} ، قال: من الأرض" (16).

وعن الضحاك، في قوله: " {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا} ،

(1) البيت للراعي النميري، انظر: ديوانه: 205، و 108، والبيت ورد في: البحر المحيط: 1/ 439، والدر المصون: 2/ 176، وغيرهما.

والبيت سقط في المخطوط عد الثعلبي، وفيه: وهو الداعي [ ...... ] عليكم بالحرب

ومن يمل سواكم فإني منه غير مائل

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 14.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1379): ص 1/ 257.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 257.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1381): ص 1/ 257.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 197.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1382): ص 1/ 258.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 158.

(9)

معاني القرآن: 1/ 226.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(11)

التفسير البسيط: 3/ 405.

(12)

تفسير ابي السعود: 1/ 177.

(13)

تفسير الثعلبي: 2/ 14.

(14)

تفسير المراغي: 2/ 15.

(15)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(16)

أخرجه ابن أبي حاتم (1383): ص 1/ 258.

ص: 363

قال: البر والفاجر" (1).

وذكر البيضاوي في قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148]، ثلاثة أوجه (2):

أحدها: في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف مجتمع الأجزاء ومفترقها، يحشركم الله إلى المحشر للجزاء.

الثاني: أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال، يقبض أرواحكم.

الثالث: أينما تكونوا من الجهات المتقابلة، يأت بكم الله جميعاً ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، " أي إِنه تعالى قادر على كل شيء"(3).

قال ابن عثيمين: " أي: لا يعتريه عجز في كل شيء فعله"(4).

قال الزجاج: أي: "فتوفون ما عملتم"(5).

قال القرطبي: " ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى"(6).

قال المراغي: " فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات"(7).

قال الصابوني: " أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسامكم وأبدانكم"(8).

قال أبو السعود: " فيقدِر على الإماتة والإحياء والجمعِ فهو تعليل للحكم السابق"(9).

قال محمد بن إسحاق: " {إن الله على كل شيء قدير}: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير"(10).

وعن محمد ابن إسحاق كذلك: " قوله: {على كل شيء قدير}، أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك"(11).

الفوائد:

1 -

من فوائد قوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} ، الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها، واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل، خلافا لأبي حنيفة.

2 -

ومن فوائد الآية: أن الأمم قد تختلف مناهجها - وإن اتفقت على أصل واحد؛ وهو الإسلام؛ ونعني بـ «الإسلام» المعنى العام؛ وهو الاستسلام لله بشرائعه القائمة التي لم تُنسَخ.

3 -

ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يتبع الحق أينما كان؛ ولا ينظر إلى كثرة المخالف؛ لا يقل: الناس على كذا فكيف أشذ عنهم! بل يجب عليه أن يتبع الحق؛ لأن قوله تعالى: {ولكل وجهة} يشمل الوجهة الشرعية، والوجهة القدرية؛ يعني ما وجه الله العباد إليه شرعاً، وما وجههم إليه قدراً؛ الوجهة القدرية معروفة: فمن الناس من يهديه الله تعالى فيكون اتجاهه إلى الحق؛ ومن الناس من يُخذَل فيَضل، ويكون اتجاهه إلى الباطل؛ فالوجهة التي يتبعها المشركون، واليهود، والنصارى، وما أشبه ذلك هذه وجهة قدرية؛ أما شرعية فلا؛ لأن

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1384): ص 1/ 258.

(2)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 31.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 358.

(5)

معاني القرآن: 1/ 226.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 167.

(7)

تفسير المراغي: 2/ 15.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(9)

تفسير أبي السعود: 1/ 177.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (214): ص 1/ 59.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1071): ص 1/ 202.

ص: 364

الله ما شرع الكفر أبداً؛ ولا شرع شيئاً من خصال الكفر؛ والوجهة الشرعية: اختلاف الشرائع بين الناس؛ فلا تظن أن اختلاف الشريعة الإسلامية عن غيرها معناه أنها ليست حقاً؛ فإنها الحق من الله.

4 -

ومن فوائد الآية: وجوب المسابقة إلى الخير؛ لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} .

5 -

ومنها: أن الأمر يقتضي الفورية؛ لأن الاستباق إلى الخير لا يكون إلا بالمبادرة إلى فعله؛ فهذه الآية مما يستدل به على أن الأمر المطلق للفورية.

6 -

ومنها: البلاغة التامة في قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} دون «استبقوا إلى الخيرات» - وإن كان بعض الناس يقولون: إنها نُزِع منها حرف الجر؛ وليس بصحيح؛ لأن {فاستبقوا الخيرات} يشمل الاستباق إليها، والاستباق فيها؛ فليس معناه: إذا وصلت إلى الخير فإنك تقف؛ بل حتى في نفس فعلك الخير كن مسابقاً؛ وهذا يشبهه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]؛ فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط، ويستمر فيه؛ ولهذا قال تعالى:{اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].

7 -

ومن فوائد الآية: إحاطة الله تعالى بالخلق أينما كانوا؛ لقوله تعالى: {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً} .

8 -

ومنها: الإشارة إلى البعث؛ لأن الإتيان بالجميع يكون يوم القيامة.

9 -

ومنها: إثبات عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} ؛ وقد قال الله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 4].

وهناك كلمة يقولها بعض الناس فيقول: «إن الله على ما يشاء قدير» ؛ وهذا لا ينبغي:

أولاً: لأنه خلاف إطلاق النص؛ فالنص مطلق.

ثانياً: لأنه قد يفهم منه تخصيص القدرة بما يشاء الله دون ما لم يشأ؛ والله قادر على ما يشاء، وعلى ما لا يشاء.

ثالثاً: أنه قد يفهم منه مذهب المعتزلة القدرية الذين قالوا: «إن الله عز وجل لا يشاء أفعال العبد؛ فهو غير قادر عليها» .

ولهذا ينبغي أن نطلق ما أطلقه الله لنفسه، فنقول: إن الله على كل شيء قدير؛ أما إذا جاءت القدرة مضافة إلى فعل معين فلا بأس أن تقيد بالمشيئة، كما في قوله تعالى:{وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [الشورى: 29]؛ فإن {إذا يشاء} عائدة على «الجمع» ؛ لا على «القدرة» ؛ فهو قدير على الشيء شاءه، أم لم يشأه؛ لكن جمعه لا يقع إلا بالمشيئة؛ ومنه الحديث في قصة الرجل الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى، فقال:«ولكني على ما أشاء قادر» (1)؛ لأنه يتكلم عن فعل معين؛ ولهذا قال: «قادر» : أتى باسم الفاعل الدال على وقوع الفعل دون الصفة المشبهة - «قدير» - الدالة على الاتصاف بالقدرة.

القرآن

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} [البقرة: 149]

التفسير:

ومن أي مكان خَرَجْتَ -أيها النبي- مسافرًا، وأردت الصلاة، فوجِّه وجهك نحو المسجد الحرام. وإنَّ توجُّهك إليه لهو الحق الثابت من ربك. وما الله بغافل عما تعملونه، وسيجازيكم على ذلك.

قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149]، معناه:"ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فحوِّل يامحمد وَجْهك شطر المسجد الحرام"(2).

قال ابن عثيمين: " أي مستقبلاً له؛ وذلك عند الصلاة"(3).

(1) أخرجه مسلم ص 712، كتاب الإيمان، باب 83، آخر أهل النار خروجاً، رقم الحديث: 463 [310]187.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 198.

(3)

تفسير انب عثيمين: 2/ 149 - 150.

ص: 365

قال مقاتل: " يعني الحرم كله فإنه مسجد كله"(1).

قال البيضاوي: " ومن أي مكان خرجت للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}، إذا صليت"(2).

و(شطر المسجد) أي جهة المسجد؛ و (المسجد الحرام) هو المسجد الذي فيه الكعبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام

" (3)؛ بل لقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25]؛ ووصِف بالحرام لاحترامه، وتعظيمه (4).

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، "أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة"(5).

قال ابن أبي زمنين: " يعني: أن القبلة: الكعبة"(6).

قال الآلوسي: " أي: الاستقبال أو الصرف أو التولية، [هو الحق] الثابت الموافق للحكمة"(7).

قال الطبري: اي: "وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله"(8).

قال أبو حيان: " هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل"(9).

قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 149]، "أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء"(10).

قال الطبري: "أي: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة"(11).

قال المراغي: " ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون"(12).

قال أبو حيان: " فالجهات كلها بالنسبة إلى الباراء تعالى مستوية، فكونه خص باستقبال هذه زماناً، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض. فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم، بل هو المطلع عليها، المجازي بالثواب من امتثل أمره، وبالعقاب من خالفه"(13).

وفي قوله تعالى: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 149]، قراءتان (14):

إحداهما: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء: خطاب للمسلمين.

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 149.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 113.

(3)

أخرجه البخاري ص 92، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، باب 1: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث رقم 1189، أخرجه مسلم ص 909، كتاب الحج، باب 95: فضل المساجد الثلاثة، حديث رقم 3384 [511]1397.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 150.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 16.

(6)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 187.

(7)

روح المعاني: 1/ 415.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 198.

(9)

البحر المحيط: 1/ 282.

(10)

تفسير المراغي: 2/ 16.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 198.

(12)

تفسير المراغي: 2/ 16.

(13)

البحر المحيط: 1/ 382.

(14)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 113، والبحر المحيط: 1/ 382، وتفسير ابن عثيمين/ 2/ 67.

ص: 366

قال القاسمي: " فهو وعد للمؤمنين"(1).

والثانية: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالياء، وهو قراءة أبو عمرو، خطاب لهؤلاء الذين اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى ليس بغافل عنهم؛ بل سوف يجازيهم بما يستحقون.

قال القاسمي: " فهو وعيد للكافرين"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: وجوب التوجه إلى المسجد الحرام أينما كان الإنسان؛ لقوله تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} ؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء

} [البقرة: 144] الآية.

2 -

ومنها: تكرار الأمر الهام لتثبيته، والثبات عليه، ودفع المعارضة فيه؛ لأنه كلما كرر كان مقتضاه أن الأمر ثابت محكم يجب الثبوت عليه؛ وكون المسلمين ينقلون من وجهة إلى وجهة في القبلة أمر هام له شأن عظيم؛ ولهذا ارتد من ارتد من الناس حين حوِّلت القبلة.

3 -

ومنها: إثبات حرمة المسجد الحرام، وتعظيمه؛ لقوله تعالى:{المسجد الحرام} ؛ فالمسجد محترم معظم؛ حتى ما حوله صار محترماً معظماً؛ فالبلد كله آمن حتى الأشجار التي لا إحساس لها آمنة في هذا المكان؛ ولهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو يعضد شوكها (3)، أو يقطع شجرها (4)، كل هذا لاحترام هذا المكان، وتعظيمه.

4 -

ومنها: أن التوجه إلى الكعبة هو الحق؛ لقوله تعالى: {وإنه للحق من ربك} فأثبت فيه الحقية مؤكداً بـ {إن} ، واللام.

5 -

ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه؛ لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون} .

6 -

ومنها: إضافة العمل إلى الإنسان، فيكون فيه رد على الجبرية؛ لقوله تعالى:{عما تعملون} ؛ ولا شك أن الإنسان يضاف إليه عمله؛ وعمله: كسبه - إن كان في الخير - واكتسابه - إن كان في الشر - كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286].

والناس في هذه المسألة - أعني مسألة أعمال العباد - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من يرون أن الإنسان مجبر على العمل؛ لا يفعل شيئاً باختيار أبداً؛ وما فعله الاختياري إلا كفِعله الاضطراري: فمن نزل من السطح على الدرج درجة درجة هو كمن سقط بدون علمه من أعلى السطح؛ وهذا مذهب الجبرية من الجهمية؛ وهو مذهب باطل ترده الأدلة السمعية، والعقلية.

القسم الثاني: من يرون أن الإنسان مستقل بعمله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يصرِّف العبد إطلاقاً؛ فالعبد له الحرية الكاملة في عمله، ولا تعلق لمشيئة الله به، ولا تعلق لتقدير الله، وخلقه بعمل الإنسان، وهذا مذهب المعتزلة القدرية؛ وهو مذهب باطل للأدلة السمعية، والعقلية.

وكلا القسمين مع بطلانهما يلزم عليهما لوازم باطلة.

القسم الثالث: يرون أن فعل العبد باختياره؛ وله تعلق بمشيئة الله؛ فمتى فعل العبد الفعل علمنا أن الله تعالى قد شاءه، وقدره؛ وأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريد؛ بل كل ما وقع فهو مراد لله مخلوق له؛ ووجه كون فعل العبد مخلوقاً لله: أن الإنسان مخلوق لله؛ وفعله كائن بأمرين: بعزيمة صادقة؛ وقدرة؛ والله عز وجل هو الذي خلق العزيمة الصادقة، والقدرة؛ فالإنسان بصفاته، وأجزائه، وجميع ما فيه كله مخلوق لله عز وجل.

هذا القول الوسط هو الذي تجتمع فيه الأدلة جميعاً؛ لأن الذين قالوا: «إن الإنسان مجبر» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا من أيديهم الدليل الآخر؛ والذين قالوا:«إنه مستقل» أخذوا بدليل واحد، وأطلقوا الدليل الثاني من أيديهم؛ لكن أهل السنة، والجماعة - والحمد لله - أخذوا بأيديهم بالدليلين؛ وقالوا: الإنسان يفعل باختياره؛ ولكن تصرفه تحت مشيئة الله عز وجل؛ ولهذا إذا وقع الأمر بغير اختياره رُفع عنه حكمه: فالنائم لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ والمكره على الشيء لا حكم لفعله، ولا لقوله؛ بل أبلغ من ذلك: الجاهل بالشيء لا حكم لفعله مع أنه قد قصد الفعل؛ لكنه لجهله يعفى عنه؛ كل ذلك يدل على أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.

القرآن

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} [البقرة: 150]

التفسير:

ومن أى مكان خرجت -أيها النبي- فتوجَّه إلى المسجد الحرام، وحيثما كنتم -أيها المسلمون-، بأي قطر من أقطار الأرض فولُّوا وجوهكم نحو المسجد الحرام؛ لكي لا يكون للناس المخالفين لكم احتجاج عليكم بالمخاصمة والمجادلة، بعد هذا التوجه إليه، إلا أهل الظلم والعناد منهم، فسيظلُّون على جدالهم، فلا تخافوهم وخافوني بامتثال أمري، واجتناب نهيي؛ ولكي أتم نعمتي عليكم باختيار أكمل الشرائع لكم، ولعلكم تهتدون إلى الحق والصواب.

في سبب نزول الآية: قال السدي: " السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين: " سَيقول السفهاء من الناس مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله: " وإنْ كانتْ كبيرةً إلا على الذين هَدى الله "، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها"(5).

قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150]، أي: و"من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد، فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام"(6).

قال المراغي: " أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام"(7).

قال الصابوني: " أي من أيّ مكان خرجت إِليه للسفر فتوجه بوجهك في صلاتك جهة الكعبة"(8).

وفي تكرار قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150]، قولان (9):

أحدهما: أن هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.

(1) محاسن التأويل: 1/ 430.

(2)

محاسن التأويل: 1/ 430.

(3)

راجع البخاري ص 144، كتاب جزاء الصيد، باب 10: لا يحل القتال بمكة، حديث رقم 1834؛ ومسلماً ص 903، كتاب الحج، باب 82: تحريم مكة، وتحريم صيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، حديث رقم 3302 [445]1353.

(4)

راجع البخاري ص 12، كتاب العلم، باب 39: كتابة العلم، حديث رقم 112؛ ومسلماً ص 904، كتاب الحج، باب 82: تحريم مكة، وتحريم صيدها، وخلاها

، حديث رقم 3306 [448] 1355

(5)

أخرجه الطبري (2204): ص 3/ 157 - 158.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 199.

(7)

تفسير المراغي: 2/ 16.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(9)

تفسير القطربي: 2/ 168.

ص: 367

والثاني: أنه أراد بالأول: ولّ وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. ثم قال:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، ثم قال {ومن حيث خرجت} ، يعني: وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض.

والقول الثاني أحسن من الأول، لأن فيه حمل كل آية على فائدة والله تعالى أعلم.

قال الواحدي: " إنما كرر هذا؛ لأن هذا من مواضع التوكيد؛ لأجل النسخ الذي نُقلوا فيه من جهة إلى جهة للتقرير"(1).

قال الصابوني: " وفائدة هذا التكرار أن القبلة كان أول ما نسخ من الأحكام الشرعية، فدعت الحاجة إِلى التكرار لأجل والتقرير وإِزالة الشبهة"(2).

قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، " أي: وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة" (3).

قال المراغي: أي: " وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره"(4).

قوله تعالى: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، " أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون - حجة وسلطان عليكم"(5).

قال أبو العالية: " يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم عند انصرافه إلى البيت الحرام، أن قالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا"(6).

قال ابن أبي حاتم: " وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي وقتادة والربيع بن أنس والضحاك، قالوا: قد رجعت إلى قبلتنا"(7).

قال ابن عطية: "المعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم"(8).

قال الزمخشري: "معناه: لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحباً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء"(9).

قال الزجاج: " أي: قد عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيناه لئلا يكون للناس على الله حجة في قوله: {ولكل وجهة هو موليها} "(10).

قال الصابوني: " أي عرّفكم أمر القبلة لئلا يحتج عليكم اليهود فيقولوا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا فتكون لها حجة عليكم أو كقول المشركين: يدعى محمد ملة إِبراهيم ويخالف قبلته "(11).

واختلف في المعنيين بـ (الناس)، في الآية على ثلاثة أقوال:(12):

(1) التفسير البسيط: 3/ 406.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 90.

(4)

تفسير المراغي: 2/ 16.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 17.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1387): ص 1/ 258.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 258.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 225.

(9)

الكشاف: 1/ 206.

(10)

معاني القرآن: 1/ 226.

(11)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 199 - 200، وتفسير القرطبي: 2/ 169.

ص: 368

أحدها: أنهم مشركو العرب. قاله مجاهد (1)، وعطاء (2).

وحجتهم قولهم: "قدر رجعتت إلى قبلتنا! "(3)، وقد أجيبوا عن هذا بقوله:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142].

الثاني: أنهم أهل الكتاب. قاله قتادة (4)، والربيع (5).

وفي حجتهم قولان:

القول الأول: "أنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين"(6). قاله الطبري.

القول الثاني: " ذلك أنهم كانوا قد عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم، وقد كانوا وجدوا في التوراة أن محمدا سيحول إليها، فحوله الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون. بأن هذا النبي الذى نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت فلما حول النبي صلى الله عليه وسلم ذهبت حجتهم ثم قال: إلا الذين ظلموا منهم يعني إلا أن يظلموكم فيكتموا ما عرفوا"(7). قاله أبو روق.

الثالث: أنهم المنافقون. إذ قالوا: " إن هذا الرجل لا يثبت على دينه؛ ولو كان نبياً حقاً لثبت على دينه"(8).

قال ابن عطية: " وقوله: {لِلنَّاسِ}، عموم في اليهود والعرب وغيرهم"(9).

قال شيخنا ابن عثيمين: "وهذه عادة أهل الباطل يموِّهون، ويقلبون الحق باطلاً؛ لأنهم يريدون غرضاً سيئاً؛ بل إن تحوله إلى استقبال الكعبة مع هذه الاعتراضات، والمضايقات دليل على أنه رسول الله حقاً فاعل ما يؤمر به"(10).

و(الحجة): "من الحج الذي هو القصد، لأنها مقصودة للمخاصم، ومنه: المحجّة: لأنها تقصد بالسلوك. والمخاصمةُ يقال لها: المحاجّة؛ لقصد كل واحد من الخصمين إلى إقامة بينته وإبطال ما في يد صاحبه"(11).

قال الطبري: "وإنما (الحجة) في هذا الموضع: الخصومة والجدال"(12).

قال الثعلبي: " ومعنى (الحجة) في [الآية]: الخصومة والجدل، والدعوى بالباطل كقوله {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، : أي لا خصومة، وقوله {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139]، وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلها بمعنى المجادلة والمخاصمة، لا بمعنى الدليل والبرهان"(13).

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة"(14).

(1) انظر: تفسير الطبري (2300)، و (23 - 1)، و (2302): ص 3/ 202.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2306): ص 3/ 203.

(3)

تفسير الطبري (2292): ص 3/ 199.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2292): ص 3/ 199.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2293): ص 3/ 199 - 200.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 200.

(7)

تفسير الثعلبي: 2/ 16.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 154.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 225.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 155.

(11)

التفسير البسيط: 3/ 406، وانظر:"المفردات" ص 115، "لسان العرب" 2/ 779 (حجج).

(12)

تفسير الطبري: 3/ 201.

(13)

تفسير الثعلبي: 2/ 15.

(14)

الكشاف: 1/ 206.

ص: 370

وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة، وقرأ الباقون {لِئَلَّا} ، بالهمز (1).

قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، أي:" لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم، ومخاصمتهم"(2).

قال الحسن: " يقول: لن يحتج عليكم بذلك إلا ظالم، فولوا وجوهكم شطره، لئلا يحتج عليكم الظلمة"(3).

قال أبو العالية: " يعني: مشركي قريش، يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك"(4). وروي عن مجاهد، وعطاء وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك (5).

قال الزجاج: " المعنى: "إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له" (6).

قال الزمخشري: " وهم أهل مكة حين يقولون: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم"(7).

قال ابن عثيمين: " المراد بهم المعاندون المكابرون الذين لا يَرْعَوون للحق مهما تبين"(8).

قال المراغي: " أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، إذ يقول اليهود: ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبّا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله، ويقول المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، ويقول المنافقون: إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان، بل هى جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن"(9).

واختلف في نوع الاستثناء في قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، وفيه ثلاثة أوجه (10):

أحدها: أنه استثناء متصل. فيكون {الذين ظلموا} مستثنى من (الناس)؛ لأن الناس منهم ظالم؛ ومنهم من ليس بظالم.

قال ابن عطية: " والمعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم ما وَلَّاهُمْ استهزاء، وفي قولهم: تحير محمد في دينه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق"(11).

وممن صحّح الإستثناء على ظاهره: أبو العالية (12)، ومجاهد (13)، وعطاء (14)، وقتادة (15)، والربيع (16)، والسدي (17)، وأبو روق (18)(19)، وقال به أبو حيان (20)، ونسبه إلى ابن عباس (21)، قال:"واختاره الطبري (22)، وبدأ به ابن عطية (23)، ولم يذكر الزمخشري (24) غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانًا حسنًا كان أولى من غيره"(25).

الثاني: أنه منقطع، و (إلا) بمعنى (لكن)؛ يعني: لئلا يكون للناس عليكم حجة؛ لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم، ومخاصمتهم. وهذا مذهب الأخفش (26)، والمؤرج (27)، والفراء (28).

وهذا "كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] يعني: لكن الذين يتبعون الظن {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20]، يعني: لكن يبتغي، فيكون منقطعًا من الكلام الأول"(29).

الثالث: وقيل أن (إلا) ههنا بمعنى (الواو)، وهذا مذهب أبو عبيدة (30)، ومعمر بن المثنى (31).

والمعنى: والذين ظلموا لا يكون لهم أيضا حجة، فهو استثناء بمعنى (الواو)، ومنه قول الشاعر (32):

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان،

ووأنشدوا قول الآخر (33):

كل أخٍ مفارقُهُ أخوه

لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدان

فقال: أراد: والفرقدان أيضًا يفترقان.

وقول الشاعر (34):

وأرى لها دارًا بأغْدِرَةِ السِّيـ

ـدَانِ لم يَدْرُس لها رَسْمُ

إلّا رَمَادًا خامدًا دَفَعَتْ

عنهُ الرِّياحَ خَوَالِد سُحْمُ

أراد: أرى دارًا ورمادًا (35).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 225.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 155.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1388): ص 1/ 259.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1389): ص 1/ 259.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(6)

معاني القرآن: 1/ 227.

(7)

الكشاف: 1/ 206.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 155.

(9)

تفسير المراغي: 2/ 17.

(10)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 406، وتفسير ابن عثيمين: 2/ 69.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 225.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1389): ص 1/ 259.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2300)، و (2301)، و (2302): ً 3/ 202، تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2306): ً 3/ 203، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(15)

انظر: تفسير الطبري (2303): ً 3/ 202، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(16)

انظر: تفسير الطبري (2304): ً 3/ 202، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(17)

انظر: تفسير الطبري (2305): ص 2/ 202.

(18)

هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي صدوق، صاحب تفسير، عده ابن حجر من طبقة صغار التابعين، ينظر:"تقريب التهذيب" ص 393 (4615)، "الجرح والتعديل" 3/ 382.

(19)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 16.

(20)

انظر: البحر المحيط: 1/ 384.

(21)

انظر: البحر المحيط: 1/ 384.

(22)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 204.

(23)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 225.

(24)

انظر: الكشاف: 1/ 206.

(25)

البحر المحيط: 1/ 384.

(26)

انظر: معاني القرآن: 1/ 162.

(27)

البيت نسب فى كتاب سيبويه 1/ 373 إلى الفرزدق. وانظر فى تخريج إعرابه السيرافي على الكتاب 3/ 306 من التيمورية.

(28)

معاني القرآن: 1/ 89.

(29)

التفسير البسيط: 3/ 410.

(30)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 16.

(31)

انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 60 - 61، وتفسير الثعلبي: 2/ 16، والتفسير البسيط: 3/ 412.

(32)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 409.

(33)

البيت. نسب لعمرو بن معدي كرب، ينظر:"ديوانه" ص 178، "الكتاب" 2/ 334، "المؤتلف والمختلف" ص 151، ولعمرو أو لحضرمي في "خزانة الأدب" 3/ 421. وهو بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 1/ 1255، "لسان العرب" 6/ 3402 "فرقد". والفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان.

(34)

البيت للمُخَبَّل السعدي، ينظر:"ديوانه" ص 312، "تفسير الثعلبي" 1/ 1256، "لسان العرب" 2/ 1225 (خلد)، "المفضليات" ص 113 - 114. والأغدرة: جمع غدير، السِّيدان: أرض لبني سعد. الخوالد: البواقي وعنى بها: الأثافي. سحم: ذات لون يضرب إلى السواد.

(35)

انظر: معاني القرآن للأخفش: 1/! 52.

ص: 371

وكذا قيل في قوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] أي الذين آمنوا (1)،

قال الثعلبي: " يؤيد هذا القول ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعضهم إنه قرأ بعضهم: {إلى الذين ظلموا}، مخففا يعني: مع الذين ظلموا"(2).

ومعنى الآية على هذا القول: "لئلا يكون للناس، يعني اليهود عليكم حجة في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين ظلموا وهم مشركوا مكة لأنهم قالوا: إن الكعبة قبلة جدنا إبراهيم فما بال محمد تحول عنها فلا يصلي إليها ويصلي إلى قبلة اليهود"(3).

وأبطل الزجاج والفراء هذا الوجه الثالث:

فقال الزجاج: "هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفيه بطلان المعاني"(4).

وقال الفراء: " هذا صواب فِي التفسير، خطأ فِي العربية، إنما تكون (إلا) بمنزلة (الواو)، إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة (الواو) "(5).

والأقرب - والله أعلم - أن الاستثناء منقطع؛ "لأن قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} هذا عام شامل؛ لكن من ظلَم من اليهود، أو المشركين، فإنه لن يرعوي بهذه الحكمة التي أبانها الله عز وجل"(6).

وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنهما: {ألا الذين ظلموا منهم} ، على أنّ ألا للتنبيه ووقف على {حجة} ، ثم استأنف منبها (7).

قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} [البقرة: 150]، أي:" فلا تخافوهم"(8).

قال السدي: " يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم"(9).

قال الزمخشري: أي: " فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم"(10).

قال الثعلبي: أي: فلا تخافوهم" في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمجاوبة فاني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة"(11).

قال الواحدي: أي: " لا تخشوهم في انصرافكم إلى الكعبة، وفي تظاهرهم عليكم في المحاجّة والمحاربة"(12).

قال المراغي: " أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلى ولا هدى سماوى"(13).

قال ابن كثيرأي: "لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين"(14).

قال أبو السعود: أي: " فإن مطاعنهم لاتضركم شيئا"(15).

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 16، ومعاني القرآن للفراء: 1/ 90، وتفسير القرطبي: 2/ 169.

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 17.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 17.

(4)

تفسير القرطبي: 2/ 169. ولم أجد قول الزجاج في معاني القرآن.

(5)

معاني القرآن: 1/ 89.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 69.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 206.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(9)

أخرجه الطبري (2308): ص 3/ 207، وابن أبي حاتم (1390): ص 1/ 259.

(10)

الكشاف: 1/ 206.

(11)

تفسير الثعلبي: 2/ 17.

(12)

التفسير البسيط: 3/ 415.

(13)

تفسير المراغي: 2/ 17.

(14)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(15)

تفسير أبي السعود: 1/ 178.

ص: 372

قال ابن عثيمين: " يعني مهما قال الذين ظلموا من كلام، ومهما قالوا من زخارف القول، ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم"(1).

قال الشيخ السعدي: " لأن حجتهم باطلة، والباطل كاسمه مخذول، مخذول صاحبه، وهذا بخلاف صاحب الحق، فإن للحق صولة وعزا، يوجب خشية من هو معه، وأمر تعالى بخشيته، التي هي أصل كل خير، فمن لم يخش الله، لم ينكف عن معصيته، ولم يمتثل أمره"(2).

قوله تعالى: {وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، أي:"وخافوني"(3).

قال أبو السعود: أي: " فلا تخالفوا أمرى"(4).

قال الزمخشري: أي: " فلا تخالفوا أمرى وما رأيته مصلحة لكم"(5).

قال ابن كثير: أي: "وأفْرِدُوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه"(6).

قال ابن عثيمين: " الأمر هنا للوجوب بلا شك؛ الواجب على المرء أن يخشى الله وحده."(7).

قال المراغي: أي: " فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولى عنى، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم"(8).

قال أهل العلم: "وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له، فإن الحق دائما يعلو، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل"(9).

قال القرطبي: "الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي، والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا، ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والأمر بإطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى (10).

قوله تعالى: {وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]، " أي وأمرتكم بما مر، لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة"(11).

قال الزمخشري: أي: " ولإتمامى النعمة عليكم، أمرتكم بذلك، "(12).

قال ابن كثير: أي: "ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها"(13).

قال الصابوني: " أي أتمّ فضلي عليكم بالهداية إِلى قبلة أبيكم إبراهيم والتوفيق لسعادة الدارين"(14).

قال الثعلبي: أي: " ولكن أتم نعمتي بهدايتي اياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية"(15).

قال ابن عثيمين: أي" في هذه الشريعة الخاصة ــ وهي استقبال الكعبة بدلاً عن بيت المقدس"(16).

(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 155 - 156.

(2)

تفسير السعدي: 1/ 73.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 92.

(4)

تفسير أبي السعود: 1/ 178.

(5)

الكشاف: 1/ 206.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 156.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 17.

(9)

تفسير المراغي: 2/ 17.

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 170.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 178.

(12)

الكشاف: 1/ 206.

(13)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 92 - 93.

(15)

تفسير الثعلبي: 2/ 17.

(16)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 157.

ص: 374

قال المراغي: " بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة، وتكون النعمة أتمّ، والمنة أكمل، إذا كان فيه حكمة ظاهرة، وشرف للأمة، وأثر حميد نافع لها"(1).

قال القرطبي: "أي ولأن أتم، قاله الأخفش. وقيل: مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة (2).

وإتمام الشيء: بلوغ غايته؛ والغالب أنه يكون في الكمال؛ و «النعمة» هي ما ينعَم به الإنسان؛ ويقال: «نِعمة» بكسر النون؛ ويقال: «نَعمة» بالفتح؛ لكن الغالب في نعمة الخير أن تكون بالكسر؛ و «النَّعمة» بالفتح: التنعم من غير شكر، كما قال تعالى:{ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان: 27]، وقال تعالى:{وذرني والمكذبين أولي النَّعمة} [المزمل: 1 ونزلت هذه الآية في أول الهجرة عند تحويل القبلة - يعني في السنة الثانية - ولا يعارضها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]؛ وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع؛ لأن المراد في آية المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الإتمام العام في كل الشريعة؛ أما هنا: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150]: في هذه الشريعة الخاصة - وهي استقبال الكعبة بدلاً عن بيت المقدس؛ لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ينتظر متى يؤمر بالتوجه إلى الكعبة؛ فلا شك أنه من نعمة الله عز وجل أن أنعم على المسلمين بأن يتجهوا إلى هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس، والذي - كما قال بعض أهل العلم - هو قبلة جميع الأنبياء، كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ويحتمل وجهاً آخر في الجمع بين الآيتين: بأن هذه الآية جاءت بصيغة المضارع الدال على الاستمرار؛ وآية المائدة بصيغة الماضي الدال على الانتهاء (3).

وقد أضاف الله سبحانه وتعالى النعمة إليه؛ لأنه عز وجل صاحبها: هو الذي يسديها، ويولِيها على عباده؛ ولولا نعم الله العظيمة ما بقي الناس طرفة عين؛ وانظر إلى قوله تعالى:{إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم} [الفاتحة]؛ في النعمة قال: {أنعمت عليهم} ؛ لأن النعمة من الله وحده، كما قال تعالى:{وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53]؛ وأما الغضب على المخالف في دين الله فيكون من الله، ومن أولياء الله من الرسل، وأتباعهم (4).

قال الواحدي: "قال عطاء: عن ابن عباس: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} يريد: في الدنيا والآخرة، أما الدنيا: فأنصركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأولادهم، وأما في الآخرة: ففي رحمتي وجنتي، وأزوجكم من الحور العين "(5).

قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150]، أي:" ولإرادتي اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادةِ الدَّارينِ"(6).

قال ابن كثير: أي: "إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه، وخَصصْناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها (7).

قال الزمخشري: أي" ولإرادتى اهتداءكم أمرتكم بذلك"(8).

(1) تفسير المراغي: 2/ 18.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 170.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 69.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 70.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 415.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 178.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(8)

الكشاف: 1/ 206.

ص: 375

قال المراغي: " أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق"(1).

قال الشيخ السعدي: "أي: تعلمون الحق، وتعملون به، فالله تبارك وتعالى من رحمته - بالعباد، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير، ونبههم على سلوك طرقها، وبينها لهم أتم تبيين، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق، المعاندين له فيجادلون فيه، فيتضح بذلك الحق، وتظهر آياته وأعلامه، ويتضح بطلان الباطل، وأنه لا حقيقة له، ولولا قيامه في مقابلة الحق، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق، وبضدها تتبين الأشياء، فلولا الليل، ما عرف فضل النهار، ولولا القبيح، ما عرف فضل الحسن، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا، فلله الحمد على ذلك"(2).

قال ابن عثيمين: " و {لعل} هنا للتعليل؛ أي: تكتسبون علماً، وعملاً؛ وهذه هي العلة الثانية؛ العلة الأولى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} ؛ والعلة الثانية: {ولأتم نعمتي عليكم والثالثة: {ولعلكم تهتدون} ؛ وسيأتي بيان أنواع الهداية.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: تكرير الأمر الهام؛ وذلك لتثبيته، وتَسِرَّ به النفوس، وبيان أهميته.

2 -

ومنها: وجوب استقبال الكعبة أينما كان الإنسان؛ قال أهل العلم: من أمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب إصابة عينها؛ ومن لم تمكنه كفى استقبال جهتها؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ؛ وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] الآية.

3 -

ومنها: دفع ملامة اللائمين ما أمكن؛ تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} .

4 -

ومنها: أن الظالم لا يدفع ملامته شيء؛ بمعنى أنه سيلوم وإن لم يكن محل لوم؛ لقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} .

5 -

ومنها: أن أهل الباطل يحاجون في الحق لإبطاله؛ ولكن حججهم باطلة.

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يعرف شبه المخالفين التي يدعونها حججاً لِيَنْقَضَّ عليهم منها، فيبطلها؛ قال الله تعالى:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء: 18].

6 -

ومن فوائد الآية: وجوب تنفيذ شريعة الله عز وجل، وألا يخشى الإنسان لومة لائم.

7 -

ومنها: وجوب خشية الله تعالى؛ لأنه هو الذي بيده النفع، والضرر.

8 -

ومنها: نعمة الله تبارك وتعالى على هذه الأمة، وفضله، وإحسانه؛ لقوله تعالى:{ولأتم نعمتي عليكم} .

9 -

ومنها: إثبات حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {ولأتم

ولعلكم تهتدون}.

10 -

ومنها: أن تنفيذ أوامر الله، وخشيته سبب للهداية؛ والهداية نوعان: هداية علمية؛ وهداية عملية؛ ويقال: هداية الإرشاد؛ وهداية التوفيق.

فـ «الهداية العلمية» معناها أن الله يفتح على الإنسان من العلم ما يحتاج إليه لأمور دينه ودنياه.

و«الهداية العملية» أن يوفق للعمل بهذا العلم.

الأولى: وسيلة، والثانية: غاية؛ ولهذا لا خير في علم بدون عمل؛ بل إن العلم بدون عمل يكون وبالاً على صاحبه؛ والهداية هنا شاملة للعلمية، والعملية؛ ووجه كونها شاملة: أنهم لم يعلموا أن مرضاة الله بالتوجه إلى الكعبة إلا بما علمهم الله؛ ثم إن الله وفقهم للعمل به؛ فلم يمانعوا أبداً؛ بل إن أهل قباء أتاهم الخبر وهم يصلون صلاة الفجر وكانوا متجهين إلى بيت المقدس، فاستداروا إلى الكعبة؛ فصار الإمام نحو الجنوب، والمأمومون نحو الشمال؛ هذه هداية عملية عظيمة؛ لأن انتقال الإنسان إلى ما أمره الله به بهذه السهولة مع توقع المعارضات، والمضايقات يدل على قوة إيمانهم، وثقتهم بربهم سبحانه وتعالى؛ وهكذا يجب على كل مؤمن إذا

(1) تفسير المراغي: 2/ 18.

(2)

تفسير السعدي: 1/ 73،

ص: 376

جاء أمر الله أن يمتثل الأمر؛ وسيجعل الله له من أمره يسراً؛ لأن تقوى الله فيها تيسير الأمور؛ لقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} .

11 -

ومنها: إثبات الحكمة في أفعال الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ولعلكم تهتدون} .

القرآن

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} [البقرة: 151]

التفسير:

كما أنعمنا عليكم باستقبال الكعبة أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل، ويطهركم من دنس الشرك وسوء الأخلاق، ويعلمكم الكتاب والسنة وأحكام الشريعة، ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقصص الأمم السابقة ما كنتم تجهلونه.

قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا} [البقرة: 151]، أي:" كما اتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم"(1).

قال مقاتل: " يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم"(2)، وروي عن ابي العالية (3)، والربيع بن أنس (4) مثل ذلك.

قال أبو السعود: أي"كإتمامي لنعمتي عليكم بإرسال رسولٍ كائنٍ منكم فإن"(5).

قال البيضاوي: " أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإِرسال فاذكروني"(6).

قال ابن عثيمين: " هذه أيضاً منّة رابعة وجهت إلى المؤمنين؛ والثلاث قبلها هي: قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} [البقرة: 150]، وقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150]، وقوله تعالى: {ولعلكم تهتدون} [البقرة: 150] "(7).

و(الكاف) في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا} [البقرة: 151]، للتشبيه (8)، وتحتاج إلى شيء يرجع إليه، وللعلماء فيه أقوال (9):

أحدها: أنها ترجع إلى ما قبلها، ومعناه: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم رسولا، وفيه وجوه (10):

الوجه الأول: أنه راجع إلى قوله: {ولاتم نعمتى عليكم} [البقرة: 150]، أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول.

قال الثعلبي: " فيكون إرسال الرسول شرطا للخشية مزيدا بإتمام النعمة"(11).

الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام دعى بدعوتين:

الأولى: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، فهذه الدعوة الأولى.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 94.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1392): ص 1/ 259.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 259.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 178.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 160.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 18.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 18، ومفاتيح الغيب: 4/ 122، وتفسير الطبري: 3/ 208 وما بعدها، وتفسير البغوي: 1/ 166 - 167.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 122.

(11)

تفسير الثعلبي: 2/ 18.

ص: 377

والثانية قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129].

فبعث الله الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ووعد في هذه الآية أن يجيب الدعوة الثانية أن يجعل من ذريته أمة مسلمة لك فمعنى الآية: ولأتم نعمتي عليكم: ببيان شرائع ملتكم الحنيفية وأهديكم لدين خليلي إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعني فكما أجبت دعوته بانبعاث الرسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين (1).

قال الإمام الطبري: " فبعث الله الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ووعد إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة، يعني كما أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية"(2).

قال الثعلبي: " وهذا على قول من يجعله متصلا بما قبلها وجوابا للآية الأولى"(3).

وهو إختيار الفراء (4)، إذ قال:" "وقوله: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ

} [البقرة: 150]، جواب لقوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]: {كَما أَرْسَلْنا} ، فهذا جواب مقدم ومؤخر" (5).

الوجه الثالث: أن التقدير: وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا، أي كما أرسلنا فيكم رسولا من شأنه وصفته كذا وكذا، فكذلك جعلناكم أمة وسطا. وهو قول أبي مسلم الأصفهاني (6).

الثاني: أن (الكاف) متعلقة بما بعدها وهو قوله: {فاذكروني أذكركم} ، معناه: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم فاذكروني (7)، وهذه الآية خطاب لأهل مكة والعرب، يعني: كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولا منكم محمد صلى الله عليه وسلم (8).

وهذا قول مجاهد (9)، وعطاء (10)، وأبي نجيح (11)، والكلبي (12)، ومقاتل (13)، والأخفش (14)، وابن كيسان (15).

واختاره الزجاج، فقال:" والأجود أن تكون (كما) معلقة بقوله عز وجل: {فاذكروني أذكركم}، أي فاذكروني بالشكر والإخلاص كما أرسلنا فيكم"(16).

(1) تفسير الثعلبي: 2/ 18 - 19.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 208 - 209.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 19.

(4)

انظر: معاني القرآن: 1/ 92.

(5)

معاني القرآن: 1/ 92، أي مقدّم فى اللفظ، مؤخر فى النية. والعبارة فى الطبرىّ 3/ 210:«وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير» .

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 122.

(7)

انظر: معاني القرآن للأخفش: 1/ 163، وتفسير الطبري: 3/ 210.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 119، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 228، قال الزجاج:" ومعنى الآية أنها خطاب لمشركي العرب، فخاطبهم الله عز وجل بما دلهم على إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كما أرسلنا فيكم محمدا صلى الله عليه وسلم وهو رجل منكم أمي تعلمون أنه لم يتل كتابا قبل رسالته ولا بعدها إلا بما أوحي إليه، وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة ولا أخبار الأنبياء، ولا آبائهم ولا أقاصيصهم. فأرسل إليكم النبي صلى الله عليه وسلم فأنبأكم بأخبار الأنبياء، وبما كان من أخبارهم مع أممهم، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب، فكما أنعمت عليكم بإرساله فاذكروني - بتوحيدي، وتصديقه صلى الله عليه وسلم". [معاني القرآن: 1/ 228].

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1391): ص 1/ 259، وتفسير الطبري (2310): ص 4/ 210، وتفسير الثعلبي: 2/ 19، ومفاتيح الغيب: 4/ 122.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 19، ومفاتيح الغيب: 4/ 122.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2309): ص 3/ 210.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 19، ومفاتيح الغيب: 4/ 122.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 19.

(14)

انظر: معاني القرآن: 1/ 163.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 19.

(16)

معاني القرآن: 1/ 227.

ص: 378

ثم قال: " فإن قال قائل فكيف يكون جواب "(كما أرسلنا)(فاذكروني أذكركم)، فالجواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين لأن قوله، (فاذكروني) أمر، وقوله (أذكركم) جزاء اذكروني: والمعنى إن تذكروني أذكركم" (1).

وإن قيل: (كما) هل يجوز أن يكون جوابا؟ قلنا: جوّزه الفراء (2) وجعل لأذكروني جوابين:

أحدهما: {كما} .

والثاني: {أذكركم} ، ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته (3).

قال الرازي: "والوجه الأول أولى، لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى"(4).

وقد ذكروا في وجه التشبيه في قوله {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا} [البقرة: 151]، قولان (5):

الأول: إن قلنا الكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح.

الثاني: وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى: {اذكروني} دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.

قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة: 151]، "أي يقرأ عليكم القرآن"(6).

قال مقاتل: أي"القرآن"(7).

قال الثعلبي: " يعني: القرآن"(8).

قوله تعالى: {وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151]، "أي ويطهركم، وينمي أخلاقكم، ودينكم"(9).

قال مقاتل بن سليمان: " يعنى: ويطهركم من الشرك والكفر"(10).

قال مقاتل بن حيان: "ويطهركم من الذنوب"(11).

قال الثعلبي: " أي يعلمون من الأحكام وشرائع الإسلام"(12).

قال ابن كثير: " أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور"(13).

قال البيضاوي: " أي يحمِلُكم على ما تصيرون به أزكياءَ (14)، قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل"(15).

قال الصابوني: " أي يطهركم من الشرك وقبيح الفعال"(16).

(1) معاني القرآن: 1/ 227.

(2)

انظر: معاني القرآن: 1/ 92.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 123، ومعاني القرآن للفراء: 1/ 92.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 123.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 123.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(8)

تفسير الثعلبي: 2/ 19.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/! 60.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1393): ص 1/ 259.

(12)

تفسير الثعلبي: 2/ 19.

(13)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(14)

ونقله بتمامه، أبو السعود في تفسيره: 1/ 178.

(15)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(16)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

ص: 379

قال السعدي أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية (1).

قال المراغي: " أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب، وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى، وكانوا أئمة الأمم التي كانت تحتقر هذا الجنس، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم، فدانوا لحكمه خاضعين، واهتدوا بهديه راشدين"(2).

وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151]، وجوها (3):

أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء. عن الحسن.

وثانيها: يزكيهم بالثناء والمدح، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به، كما يقال: إن المزكي زكي الشاهد، أي وصفه بالزكاء.

وثالثها: أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال:{إذ كنتم قليلا فكثركم} [الأعراف: 86]، وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم.

قال الرازي: "وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك"(4).

قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ} [البقرة: 151]، أي "ويعلمكم القرآن الكريم"(5).

قال الصابوني: " أي يعلمكم أحكام الكتاب المجيد"(6).

قال مقاتل: " يعني القرآن"(7).

قال ابن كثير: " وهو القرآن"(8).

قال المراغي: أي: "ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره"(9).

قوله تعالى: {وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]، أي: ويعلمكم السنة النبوية المطهرة" (10).

قال مقاتل بن سليمان: "يعني: الحلال والحرام"(11).

قال ابن كثير: " وهي السنة "(12).

(1) تفسير السعدي: 1/ 74.

(2)

تفسير المراغي: 2/ 18 - 19.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 131.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 123.

(5)

تفسير المراغي: 1/ 248 - 249.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

(9)

تفسير المراغي: 1/ 248 - 249.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(12)

تفسير ابن كثير: 1/ 464.

ص: 380

قال الطبري: أي " ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقَصَص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم"(1).

قال الرازي في معنى {الحكمة} : " فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه (الحكمة) هي سنة الرسول عليه السلام"(2).

قال ابن عثيمين: {والحكمة} : هي أسرار الشريعة، وحسن التصرف بوضع كل شيء في موضعه اللائق به - بعد أن كانوا في الجاهلية يتصرفون تصرفاً أهوج من عبادة الأصنام، وقتل الأولاد، والبغي على العباد" (3).

قال المراغي في تفسير {الحكمة} : وهى "العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها، الباعث على العمل بها، ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلى الله عليه وسلم في بيته، ومع أصحابه في السلم والحرب، والسفر والإقامة، فى القلة والكثرة، جاءت مفصلة لمجمل القرآن، مبيّنة لمبهمه، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع، ولولا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولى كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد، والتآخى والعلم، وسياسة الأمم، فالنبى صلى الله عليه وسلم وقف أصحابه على فقه الدين، ونفذ بهم إلى سرّه، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه فقهه وعرف أسرار أحكامه"(4).

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ} ، فليس بتكرار، "لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم" وَيُعَلِّمُكُمُ.

قال البيضاوي: وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر" (5).

قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، "أي ويعلمكم من أمور الدنيا والدين الشيء الكثير الذي لم تكونوا تعلمونه"(6).

قال ابن عثيمين: " أي من أمور الدين، والدنيا؛ وهذه الجملة لتقرير ما سبق من تعليمهم الكتاب، والحكمة"(7).

قال المراغي: أي: "ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر، بل طريق معرفته الوحى كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم"(8).

قال الرازي: "فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمدا بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم"(9).

قال ابن كثير: " فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ

(1) تفسير الطبري: 3/ 211.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 123.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 161.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 249.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 161.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 249.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 131.

ص: 381

وَيُزَكِّيهِمْ} الآية [آل عمران: 164]. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] " (1).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: " {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}، يعني: كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته والرجل على راحلته"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: بيان نعمة الله تعالى علينا بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً} ؛ لأن هذه الآية متعلقة بقوله تعالى: {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150]؛ فإن هذا من تمام النعمة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليُعبَد بما شرع؛ ولا يمكن أن نعرف أن هذا مما يرضاه الله أن نتعبده به، وهذا مما لا يرضاه إلا بواسطة الرسل؛ ولو أن الإنسان وكِل إلى عقله في العبادة ما عرف كيف يعبد الله؛ ولو وكِل إلى عقله في العبادة ما اجتمع الناس على عبادة الله: لكان كل واحد يقول: هذا هو الصواب؛ ولو أن الإنسان وكل إلى عقله في العبادة ما كانت أمتنا أمة واحدة؛ فعلى كل حال لا يمكن لنا بمجرد عقولنا أن ندرك كيف نعبد الله؛ ومَثَل يسير يبين ذلك: لو أُمرنا بالتطهر للصلاة - ولم يبين لنا الكيفية - لتنازع الناس في ذلك؛ وأخذ كلٌّ برأيه؛ فافترقت الأمة؛ فلولا أن الله أبان لنا كيف نعبده ما عرفنا كيف نعبده، فهذا من نعمة الله علينا من إرسال هذا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا كل شيء؛ ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه:«تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم» (3)؛ حتى الطيور في السماء علمنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

ومن فوائد الآية: أن كون الرسول مِنّا يقتضي أن تكون قريش أول من يصدق به؛ لأنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون أمانته؛ ولهذا وبخهم الله تعالى على الكفر به، ووصْفِه بالضلال، والجنون، فقال جل وعلا:{ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 2]، وقال جل وعلا:{وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22].

3 -

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أوحي إليه على وجه الكمال؛ لقوله تعالى: {يتلو عليكم آياتنا} ؛ فإن هذا يدل على أن جميع الآيات التي أوحاها الله إليه قد تلاها؛ ولهذا القرآن - والحمد لله - مبين لفظه، ومعناه؛ ليس فيه شيء يشتبه على الناس إلا اشتباهاً نسبياً بحيث يشتبه على شخص دون الآخر، أو في حال دون الأخرى؛ قال الله تعالى:{إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 17 - 19].

4 -

ومنها: أن من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حصول العلم؛ لأن هذه الآيات كلها علم؛ لقوله تعالى: {يتلو عليكم آياتنا} .

5 -

ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو من آيات الله الدالة على كمال ربوبيته، وسلطانه، ورحمته، وحكمته سواء كان من الآيات الكونية، أو الشرعية؛ لكن منها ما هو بيِّن ظاهر؛ ومنها ما يخفى على كثير من الناس إلا الراسخين في العلم؛ ومنها ما هو بيْن ذلك.

6 -

ومنها: أن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم كلها تزكية للأمة، وتنمية لأخلاقها، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة؛ ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة أنها تأتي بالمصالح الخالصة، أو الراجحة، وتنهى عن المفاسد الخالصة، أو الراجحة؛ فالخمر فيه مصالح، ومفاسد؛ لكن مفاسده راجحة؛ ولهذا حرم؛ الحجر على السفيه فيه مصالح، وفيه مفاسد؛ لكن مصالحه راجحة؛ فلذلك قدمت المصالح؛ أو مصالح خالصة - فليس فيها مفاسد، كعبادة الله مثلاً؛ هذه قاعدة الشريعة؛ ولهذا قال تعالى:{ويزكيكم} .

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 464 - 465.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (1394): ص 1/ 260.

(3)

أخرجه أحمد 5/ 162: حديث 21770، وأخرجه ابن حبان 1/ 142 باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها، حديث رقم 65، وأخرجه الطبراني فيالمعجم الكبير 2/ 166 رقم 1647؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 267، (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)، (تخريج صحيح ابن حبان: 1/ 267، حديث 65 حاشية (1))، وقال: إسناده صحيح.

ص: 382

7 -

ومن فوائد الآية: أن كل ما فيه تزكية للنفوس فإن الشريعة قد جاءت به؛ لقوله تعالى: {ويزكيكم

8 -

ومنها: أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة.

9 -

ومنها: الرد على أهل التأويل، وأهل التجهيل؛ لقوله تعالى:{يعلمكم الكتاب} - أهل التأويل الذين يؤولون آيات الصفات - لأنه لو كان هذا التأويل من العلم لعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما لم يعلمنا إياه علمنا أنه ليس من العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأهل التجهيل - وهم طائفة يقولون: «إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والأمة كلها لا تعلم معاني آيات الصفات، وأحاديثها؛ فلا يدرون ما معناها؛ حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحديث من صفات الله ولا يدري معناها» ! ! !

10 -

ومن فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة لفظ القرآن، ومعناه؛ ولهذا إذا استشكل الصحابة شيئاً من المعنى سألوه، فعلمهم؛ ولكن الغالب أنهم لا يستشكلون؛ لأنه نزل بلغتهم، وفي عصرهم، يعرفون معناه، ومغزاه، وأسبابه.

11 -

ومنها: اشتمال الشريعة على الحكمة؛ لقوله تعالى: {ويعلمكم الكتاب والحكمة} ؛ فالشريعة متضمنة للحكمة تضمناً كاملاً؛ فما من شيء من مأموراتها، ولا منهياتها، إلا وهو مشتمل على الحكمة؛ لكن هنا حكمة لازمة لكل حكم؛ وهو طاعة الله ورسوله؛ فإن هذه أعظم حكمة؛ وهي ثابتة فيما نعقل حكمته، وفيما لا نعقلها؛ ولهذا لما قالت المرأة لعائشة رضي الله عنها:«ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (1)؛ فبينت الحكمة من ذلك؛ وهو طاعة الله، ورسوله؛ وهذه حكمة لازمة في كل حكم سواء عقل معناه، أو لم يُعقَل.

12 -

ومن فوائد الآية: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} ؛ وهو مما يدل على نقص الإنسان، حيث كان الأصل فيه الجهل؛ قال تعالى:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78]؛ ثم قال عز وجل: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78]؛ فبين طرق العلم: {السمع والبصر} ؛ وبهما الإدراك؛ و {الأفئدة} ؛ وبها الوعي، والحفظ.

13 -

ومنها: فضل الله عز وجل، حيث علمنا ما لم نكن نعلم؛ لقوله تعالى:{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} ؛ وهذا عام في كل ما نحتاج إلى العلم به من أمور الدنيا، والآخرة.

إذا قال قائل: «اضربوا لنا مثلاً» فماذا نقول؟

فالجواب: أن كل الشريعة مثال؛ فإننا لا نعرف كيف نصلي إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولا كيف نتوضأ، ولا مقدار الواجب في الأموال من الزكاة، ولا مَن تُصرف إليهم الزكاة، ولا غير ذلك من أمور الشريعة إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهناك أحكام قدرية لا نعرفها أيضاً علمنا الله سبحانه وتعالى إياها، كابتداء الكون، ونهايته: كخلق السموات، والأرض؛ واليوم الآخر؛ إذاً فعلومنا الشرعية، والقدرية متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وليس لنا علم بها قبل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم.

القرآن

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]

التفسير:

أمر تعالى المؤمنين بذكره، ووعد عليه أفضل الجزاء، وهو الثناء في الملأ الأعلى على مَنْ ذكره، وخصوني -أيها المؤمنون- بالشكر قولا وعملا ولا تجحدوا نعمي عليكم.

قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، "أي اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة"(2).

(1) أخرجه البخاري ص 27، كتاب الحيض، باب 20: لا تقضي الحائض الصلاة، حديث رقم 321، وأخرجه مسلم ص 733، كتاب الحيض، باب 15: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، حديث رقم 763 [69]335.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

ص: 383

قال مقاتل بن سليمان: " يقول فاذكروني بالطاعة أذكركم بخير"(1).

قال الزجاج: " المعنى: إن تذكروني أذكركم"(2).

قال الطبري: أي: " فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم"(3).

قال البيضاوي: " {فَاذْكُرُونِي}: بالطاعة، {أَذْكُرْكُمْ}: بالثواب"(4).

أصل الذكر في اللغة: "التنبيه على الشيء، ومن ذكّرك شيئا فقد نبهك عليه، وإذا ذكرته فقد تنبهت عليه، والذَّكرُ أَنْبَهُ من الأنثى. وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف: 44] أي: شرف لك، من النباهة. ومعنى الذكر: حضور المعنى للنفس، ثم يكون تارة بالقلب، وتارة بالقول، وليس موجبه أن يكون بعد النسيان؛ لأنه يستعمل كثيرًا دون أن يتقدمه نسيان"(5).

وقال الراغب: " الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر"(6).

قال ابن عثيمين: "وذِكر الله يكون بالقلب، واللسان، والجوارح"(7).

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، على وجوه (8):

أحدها: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي. قاله سعيد بن جبير (9)، وفي رواية" أذكركم برحمتي"(10).

الثاني: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي. قاله الحسن (11).

الثالث: فاذكروني - بتوحيدي، وتصديقه صلى الله عليه وسلم، أذكركم برحمتي ومغفرتي والثناء عليكم. قاله الزجاج (12).

الرابع: يعني: " إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره". قاله أبو العالية (13)، وروي عن الحسن، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك (14).

الخامس: اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء. عن سعيد بن جبير (15)، وبيانه: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144].

السادس: ذكر الله إياكم أكثر من ذكركم إياه. قاله ابن عباس (16).

السابع: اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله: {ادعونى أستجب لكم} [غافر: 60]، إذ أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين، وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء، فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة. وهذا قول أبي مسلم (17).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(2)

معاني القرآن: 1/ 227.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 211.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 419، وانظر:"البحر المحيط" 1/ 445 - 446، "لسان العرب" 3/ 1507 - 1509 (ذكر).

(6)

المفردات: 184.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 166.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 124. وتفسير ابن كثير: 1/ 465.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2312): ص 3/ 211.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1399): ص 1/ 261.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1400): ص 1/ 261.

(12)

انظر: معاني القرآن: 1/ 228.

(13)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1396): ص 1/ 260.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 260.

(15)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 124.

(16)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (1395): ص 1/ 260.

(17)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 124.

ص: 384

وبذلك فإن قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، عمل، وجزاء؛ العمل: ما أفاده قوله تعالى: {اذكروني} ؛ والجزاء: ما أفاده قوله تعالى: {أذكركم} (1).

وفي قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي} [البقرة: 152]، قراءتان (2):

إحداهما: {فَاذْكُرُونِي} ، بفتح الياء.

والثانية: {فَاذْكُرُونِي} بإسكان الياء؛ لأن ياء المتكلم من حيث اللغة العربية يجوز إسكانها، وفتحها، وحذفها تخفيفاً؛ لكنها في القرآن تتوقف على السماع.

قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152]، "أي اشكروا نعمتي عليكم"(3).

قال مقاتل: "يقول اشكروا الله- عز وجل في هذه النعم"(4).

قال ابن كثير: أي: " اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي، إذ "أمر الله تعالى بشكره، ووعده على شكره بمزيد الخير، فقال:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] " (5).

قال ابن عثيمين: " أي قوموا بالشكر، و «الشكر» هو القيام بطاعة المنعم"(6).

قال أبو العالية: "إن الله يزيد من شكره"(7).

وروي عن زيد بن أسلم: "أن موسى صلى الله عليه وسلم قال لربه: أي رب أخبرني كيف أشكرك. قال له ربه: تذكرني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني"(8).

قال ابن منظور: يقال: شكرته، وشكرت له، وباللام أفصح" (9).

وقال الفراء: "العرب لا تكاد تقول شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك، ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا"(10).

قال أبو حيان: "وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدى بحرف الجر، وتارة تتعدى بنفسها وقالوا: إذا قلت شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله. واشكروا لي ما أنعمت به عليكم"(11).

وقال ابن عطية: " واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر"(12).

قال الواحدي: " تقول العرب: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، في أحرف تسمع ولا تقاس، فمن قال: شكرتك، أوقع اسم المنعم موقع النعمة، فعدّى الفعل بغير وسيطة، والأجود: شكرت لك؛ لأنه الأصل في الكلام، والأكثر في الاستعمال"(13).

قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، أي:" ولا تكفروا نعمتي بالجحود والعصيان"(14).

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 166.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 166.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 465.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 166.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1401): ص 1/ 261.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1402): ص 1/ 261.

(9)

لسان العرب: 4/ 2305 (شكر).

(10)

معاني القرآن: 1/ 92.

(11)

البحر المحيط: 1/ 389.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 226.

(13)

التفسير البسيط: 3/ 420.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 94. [بتصرف بسيط].

ص: 385

قال مقاتل: أي"لا تكفروا بها"(1).

قال الزمخشري: " ولا تجحدوا نعمائي"(2).

قال البيضاوي: "بجحد النعم وعصيان الأمر"(3).

قال أبو حيان: " أي ولا تكفروا نعمتي"(4).

قال الطبري: أي "لا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي، فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته، ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه"(5).

قال ابن عثيمين: " أي لا تجحدوني، أو تجحدوا نعمتي؛ بل قوموا بشكرها، وإعلانها، وإظهارها"(6).

قال المراغي: وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها، وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال، كما قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] " (7).

قال الواحدي: "وأصل الكفر إنما هو ستر النعمة لا ستر المنعم"(8).

وقد ختم بجملة النهي: {وَلا تَكْفُرُونِ} ، "لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك"(9).

روي عن أبي العالية، "يعني قوله:{ولا تكفرون} ، قال: إن الله يعذب من كفره" (10). وروي، عن الربيع بن أنس نحو ذلك (11).

وعن زيد بن أسلم: "أن موسى صلى الله عليه وسلم قال له ربه: تذكرني ولا تنساني، فإذا نسيتني فقد كفرتني"(12).

قال الزجاج: " قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، الأكثر الذي أتى به القراء حذف الياءات مع النون"(13).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: وجوب ذكر الله؛ للأمر به؛ مطلق الذكر واجب: يجب على كل إنسان أن يذكر ربه؛ بل كل مجلس يجلسه الإنسان ولا يذكر الله فيه، ولا يصلي على النبي إلا كان عليه ترة - أي خسارة، وحسرة يوم القيامة؛ فالعبد مأمور بذكر الله؛ لكن ذكر الله ينقسم إلى فريضة من فرائض الإسلام؛ وإلى واجب من واجباته؛ وإلى سنة من سننه - بحسب ما تقتضيه الأدلة؛ إنما مطلق الذكر حكمه أن واجب.

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(2)

الكشاف: 1/ 206.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(4)

البحر المحيط: 1/ 389. قال أبو حيان: " ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي".

(5)

تفسير الطبري: 3/ 211.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 167.

(7)

تفسير المراغي: 1/ 350

(8)

التفسير البسيط: 3/ 421.

(9)

البحر المحيط: 1/ 389.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1403): ص 1/ 261.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 261.

(12)

أخرجه ابن أبي حاتم (1404): ص 1/ 261.

(13)

معاني القرآن: 1/ 228. وقد حذفت مع غير النون، كقوله: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} (4) [ق: 41]. [انظر: التفسير البسيط: 3/ 421].

ص: 386

2 -

ومنها: أن مَنْ ذَكر الله ذكره الله؛ لقوله تعالى: {أذكركم} ؛ وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره؛ ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» (1)؛ وذكر الله يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ فالأصل ذكر القلب كما قال صلى الله عليه وسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» (2) فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [الكهف: 28؛ وذكر الله باللسان، أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جداً، كجسد بلا روح؛ وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب؛ وأما ذكر الله باللسان فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله؛ وأعلاه قول: «لا إله إلا الله»؛ وأما ذكر الله بالجوارح فبكل فعل يقرب إلى الله: القيام في الصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة، كلها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعاً لله؛ وحينئذٍ تكون ذاكراً لله بهذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]؛ قال بعض العلماء: أي لما تضمنته من ذكر الله أكبر؛ وهذا أحد القولين في هذه الآية.

3 -

ومن فوائد الآية: فضيلة الذكر؛ لأن به يحصل ذكر الله للعبد؛ وذكر الله للعبد أمر له شأن كبير عظيم؛ فليس الشأن بأن تذكر الله، أو أن تحب الله؛ ولكن الشأن أن يذكرك الله عز وجل، وأن يحبك الله عز وجل؛ ولهذا قال الله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]؛ فقال تعالى: {يحببكم الله} لأن هذا هو الغاية المطلوبة.

4 -

ومنها: وجوب الشكر؛ لقوله تعالى: {واشكروا لي} ؛ و «الشكر» يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلا في مقابلة نعمة؛ فسببه أخص من سبب «الحمد» ؛ ومتعلَّقه أعم من متعلق «الحمد» ؛ فيختلفان إذاً من حيث السبب؛ ويختلفان من حيث المتعلق؛ سبب «الحمد» كمال المحمود، وإنعام المحمود؛ فإذا كان سببه إنعام المحمود كان «الحمد» من «الشكر»؛ أما «الشكر» فسببه واحد؛ وهو نعمة المشكور؛ وأما متعلق «الحمد» فيكون باللسان فقط؛ وأما متعلق «الشكر» فثلاثة: يكون باللسان، والقلب، والجوارح؛ وعليه قول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا فـ «يدي» هذا الشكر بالجوارح؛ و «لساني» هذا الشكر باللسان - يعني القول؛ و «الضمير المحجبا» يعني القلب.

والشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عز وجل وحده؛ فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام؛ ولهذا ورد في الحديث: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه» (3)؛ فإن الإنسان إذا شعر بأن هذه النعمة من الله أحب الله سبحانه وتعالى؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها.

وأما الشكر باللسان فأن يتحدث الإنسان بنعمه لا افتخاراً؛ بل شكراً؛ قال الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11]؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» (4).

(1) أخرجه البخاري ص 616، كتاب التوحيد، باب 15: قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، حديث رقم 7405، وأخرجه مسلم ص 1144، كتاب الذكر والدعوات

، باب 1: الحث على ذكر الله تعالى، حديث رقم 6805 [2]2675.

(2)

أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 39: فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم 52، وأخرجه مسلم ص 955، كتاب المساقاة، باب 2: أخذ الحلال وترك الحرام، حديث رقم 4094 [107]1599.

(3)

أخرجه الترمذي ص 2041، كتاب المناقب، باب 31، في مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 3789، وأخرجه الحاكم في مستدركه 3/ 150، كتاب الهجرة، ومن مناقب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ وقال الذهبي:"صحيح"(المرجع السابق).

(4)

أخرجه أحمد 3/ 2، حديث رقم 11000؛ وأخرجه الترمذي ص 1970، كتاب تفسير القرآن، باب 17: ومن سورة بني إسرائيل، حديث رقم 3148؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2739، كتاب الزهد، باب 37: ذكر الشفاعة، حديث رقم 4308؛ ومدار الحديث على عليّ بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف، والحديث صحيح بطرقه وشواهده، منها ما أخرجه الدارمي في المقدمة بمعناه 1/ 39، حديث رقم 47؛ وما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة 2/ 355 - 356، وقال الألباني في تخريجه: صحيح الإسناد 2/ 356، وقال في صحيح الترمذي: صحيح 3/ 71، حديث رقم 2516 - 3369.

ص: 387

وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم الإنسان بطاعة الله، ويصرف هذه النعمة لما جعلت له؛ فإن هذا من شكر النعمة.

5 -

ومن فوائد الآية: وجوب ملاحظة الإخلاص؛ لقوله تعالى: {واشكروا لي} يعني مخلصين لله عز وجل؛ لأن الشكر طاعة؛ والطاعة لا بد فيها من الإخلاص، كما قال تعالى:{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110].

6 -

ومنها: تحريم كفر النعمة؛ لقوله تعالى: {ولا تكفرون} ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه؛ فإذا أنعم الله عليه بعلم فإن الله يحب من هذا العالم أن يظهر أثر هذه النعمة عليه:

أولاً: على سلوكه هو بنفسه بحيث يكون معروفاً بعلمه، وعمله به.

ثانياً: بنشر علمه ما استطاع، سواء كان ذلك على وجه العموم، أو الخصوص.

ثالثاً: أن يدعو إلى الله على بصيرة بحيث إنه في كل مجال يمكنه أن يتكلم في الدعوة إلى الله بقدر ما يستطيع حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى وليمة مثلاً، ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم؛ وبعض أهل العلم يكون معه كتاب، فيقرأ الكتاب على الحاضرين، فيستفيد، ويفيد؛ وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عوَّدهم على هذا، فصاروا يرقبونه منه؛ أما إذا لم يعوِّدهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا، ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يورده - سؤالاً مثلاً - حتى ينفتح المجال للناس، ويسألون، وينتفعون؛ لأن بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها؛ وهذا لا شك أنه حرمان - وإن كانوا لا يأثمون إذا لم يأتوا بما يوجب الإثم؛ فالذي ينبغي لطالب العلم - حتى وإن لم يُسأل - أن يورد هو سؤالاً لأجل أن يفتح الباب للحاضرين، فيسألوا؛ وقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وأماراتها؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (1)؛ مع أن الذي يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن جعله معلماً وهو يسأل؛ لأنه هو السبب في هذا التعليم.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]

التفسير

يا أيها المؤمنون اطلبوا العون من الله في كل أموركم: بالصبر على النوائب والمصائب، وترك المعاصي والذنوب، والصبر على الطاعات والقربات، والصلاة التي تطمئن بها النفس، وتنهى عن الفحشاء والمنكر. إن الله مع الصابرين بعونه وتوفيقه وتسديده. وفي الآية: إثبات معيَّة الله الخاصة بالمؤمنين، المقتضية لما سلف ذكره؛ أما المعية العامة، المقتضية للعلم والإحاطة فهي لجميع الخلق.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 153]، " أي: يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله" (2).

قال الصابوني: " هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه"(3).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(4).

قال ابن عثيمين: "إن تصدير الحكم بالنداء، دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(5).

(1) أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 37: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان

، حديث رقم 50؛ وأخرجه مسلم ص 681، كتاب الإيمان، باب 1: بيان الإيمان والإسلام

، حديث رقم 93 [1]8.

(2)

تفسير المراغي: 11/ 43، وانظر: صفوة التفاسير: 2/ 487.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 75.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

ص: 388

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(1).

قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153]، أي:"استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم، بالصبر والصلاة"(2).

قال ابن جريج: " إنهما معونتان على رحمة الله"(3).

قال الصابوني: " فبالصبر تنالون كل فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كل رذيلة"(4).

قال مقاتل: أي: " استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلوات في مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم"(5).

قال الزجاج: " أي أنكم إذا صليتم تلوتم في صلاتكم ما تعرفون به فضل ما أنتم عليه، فكان ذلك لكم عونا"(6).

قال المراغي: " أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصايب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ"(7).

قال النسفي: أي: استعينوا على حوائجكم إلى الله، بالجمع بينهما، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها" (8).

قال الجصاص: " ينصرف الأمر بالصبر على أداء الفرائض التي فرضها الله واجتناب معاصيه وفعل الصلاة المفروضة"(9).

قال الراغب: وخصها [أي الصلاة] برد الضمير إليها دون الصبر، وأما الصلاة التي تخفف على غير الخاشع، فإنها مسماة باسمها، وليس هي في حكمها، بدلالة قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، ومثلها، وقل ما ترى صلاة غير الخاشع تنهاه عن الفحشاء والمنكر" (10).

وقال المفسرون وأصحاب المعاني: "إن جميع العبادات داخلة تحت قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} لأنه أراد الصبر عليها، ولكن خصت الصلاة بالذكر تخصيصا وتفضيلا، كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقوله {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] "(11).

و(الصبر) في اللغة: "الحبس"(12).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 273.

(3)

أخرجه الطبري (854): ص 2/ 15.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 273.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150.

(6)

معاني القرآن: 1/ 229.

(7)

تفسير المراغي: 2/ 23.

(8)

تفسير النسفي: 1/ 63.

(9)

أحكام القرآن: 1/ 39.

(10)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 177.

(11)

التفسير البسيط: 2/ 456.

(12)

انظر: لسان العرب: 4/ 438: (صبر).

ص: 389

قال الطبري: و (الصبر): "حبس النفس على ما تكره ومنعها محابّها وكفها عن هواها (1)، والصبر لغة: الحبس، يقال قتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف، وصبرت نفسي على الشيء: حبستها، قال الحطيئة (2):

قُلْتُ لها أَصْبِرُها جاهِداً:

وَيْحَك، أَمْثالُ طَرِيفٍ قَلِيلْ

والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت، وهي المجثَّمة، قال عنترة يذكر حربا كان فيها (3):

فَصَبَرْتُ عارِفَةً لذلك حُرَّةً

تَرْسُو، إِذا نَفْسُ الجبان تَطَلَّعُ

يقول: حَبَست نفساً صابِرة. قال أَبو عبيد: يقول إِنه حَبَس نفسَه (4).

وقال الراغب، الصبر ضربان:"صبر عن المشتهى، وهو العفة، وصبر على المكروه وهو الشجاعة "(5).

وفي الآية قدّم الصبر على الصلاة "لأنها لا تكمل إلا به، أو لمناسبته لحال المخاطبين، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه وهو الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة"(6).

وفي الاصطلاح الشرعي (الصبر): "هو كَفُّ النَّفْس عن الجَزَع والسَّخَط، وحبسها عن شهواتها، وكف اللسان عن الشكوى، والثبات على أحكام الكتاب والسنة"(7).

وقال السعدي: " (الصبر) على ثلاثة أقسام:

أحدها: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها.

والثاني: وعن معصية الله حتى تتركها.

والثالث: وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها.

فـ (الصبر): "هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر، أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار، إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا، وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار. وكذلك البلاء الشاق، خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، واللجأ إليه، والافتقار على الدوام"(8).

(1) انظر تفسير الطبري: 2/ 11.

(2)

يوانه بشرح أبي سعيد السكري: 176. وهو في اللسان (صبر)، والجامع: 144. وفيه (ويلك) بدل (ويحك)، والإقناع: 54 وفيه (به) بدل (بها)، والعروض لابن جني: 80

(3)

ديوانه: 89 من أبيات، يقول قبله، يذكر الغراب، ويتشاءم به:

إنَّ الذينَ نعيْتَ لي بفِراقهمْ

قد أسْهرُوا لَيْلي التّمامَ فأَوْجعوا

وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي

لا يُنْجِنِي مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ

فصبرتُ عارفة ً لذلكَ حرَّة ً

ترسو إذا نفسُ الجبانِ تطلع

وقوله (نفس عارفة)، أي: حاملة الشدائد صبور، إذا حملت على أمر احتملته، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة. و (ترسو)، تثبت. و (تطلع)، تنزو متلفتة إلى مهرب، أو ناصر، من الجزع والرعب.

(4)

انظر: اللسان: مادة (ص ب ر).

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 177.

(6)

تفسير الآلوسي: 1/ 248 - 249.

(7)

أصول المنهج الإسلامي: العبيد: 518.

(8)

تفسير السعدي: 75.

ص: 390

وقد ذكر الصبر في القرآن الكريم، في (اثنان وثمانون) موضعاً في المدح، وموضعان في الذم، أما موضعا الذم فقوله تعالى:{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]، وقوله تعالى:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6].

و(الاستعانة) هي "طلب العون؛ و "الاستعانة بالصبر" أن يصبر الإنسان على ما أصابه من البلاء، أو حُمِّل إياه من الشريعة"(1).

قال الواحدي: "فالاستعانة بالصبر: هو أن يستعين على دينه بحبس النفس عن الشهوات والمحارم، وحبسها على الطاعات"(2).

قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ أي: لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، ونبرأ من كل معبود دونك ومن عابديه، ونبرأ من الحول والقوة إلا بك، فلا حَوْلَ لأحد عن معصيتك ولا قوة على طاعتك إلا بتوفيقك ومعونتك، وقال عن نبيه يعقوب عليه السلام:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس رضى الله عنهما:"إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله"(3)، وقال في دعائه:"اللَّهُمَ أعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ "(4).

وفي سبب تخصيص الإستعانة بالصبر والصلاة وجهان (5):

أحدهما: أنه تعالى خصهما بذلك، لما فيهما من المعونة على العبادات، أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات، وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم.

والثاني: ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده: {ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله} [البقرة: 154] وأيضا فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا} [الأنفال: 45] وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} [آل عمران: 147].

والقول الأول أولى، وذلك لعموم اللفظ وعدم تقييده، والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال:{اتل ما أوحى إليك من الكتاب} [العنكبوت: 45] ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة، وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (6).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، أي إن الله مع الصابرين"بالنصر والمعونة والحفظ والتأييد"(7).

(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 97.

(2)

التفسير البسيط: 3/ 422.

(3)

رواه أحمد في المسند: 1/ 293، والترمذي (2516)، في صفة القيامة، باب (59). عن ابن عباس.

(4)

رواه أبو داود (1522)، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ:(يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 124.

(6)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 124 - 125.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

ص: 391

قال الواحدي: "قال عطاء عن ابن عباس: "يقول: إني معكم أنصركم ولا أخذلكم" (1).

قال الزجاج: " أي يظهر دينه على سائر الأديان، لأن من كان الله معه فهو الغالب - كما قال عز وجل: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] "(2).

قال المراغي: " أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم، ومن كان الله ناصره فلا غالب له، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله، والقلب اللاهي ممتلاء بهموم الدنيا وأكدارها، وإن حاز الدنيا بحذافيرها"(3).

قال أبو حيان: "أي: بالمعونة والحفظ والتأييد، كما قال: اهجهم، وروح القدس معك. وقال تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، ومن كان الله معه فهو الغالب"(4).

قال الرازي: "يعني في النصر لهم كما قال: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137]، فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقا وتسديدا وألطافا كما قال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76] "(5).

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن ابن وهب، قال:"سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره، وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله"(6).

وفي رواية أخرى: " سمعت ابن زيد وقال لي: الصبر في بابين: على ما أحب الله وإن ثقل. وصبر على ما تكره وإن نازعت إليه الهوى. فمن كان هكذا فهو من الصابرين"(7).

وعن علي بن الحسين قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين، ينادي مناد: أين الصابرون، ليدخلوا الجنة قبل الحساب. قال: فيقوم عنق من الناس، فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة قالوا: وقبل الحساب؟

قالوا نعم. قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله. قالوا: أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين" (8).

وقال سعيد بن جبير: "الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر"(9).

ومن الصفات الثابتة لله عز وجل (المَعِيَّة)، فهو مع عباده سبحانه وتعالى أينما كانوا، فقال سبحانه:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وقال:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وهذه معية عامة، فالمعية نوعان (10):

أحدهما: مَعِيَّة عامَّة؛ كقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، ومعناها: إحاطته بهم عِلْمًا وقُدْرَةً، وهو إجماع الصحابة والتابعين.

والثاني: مَعِيَّة خاصَّة، فَهِيَ مَعِيَّتُه سبحانه لأحْبابه وأوليائه، فتلك غير المعية العامة، فهو معهم بالرعايَة والإعانة والكفاية، والنصر والتأييد والهداية، والتوفيق وغير ذلك، مما تجفو عبارة المخلوق عنه، ويقصر

(1) انظر: التفسير البسيط: 3/ 423.

(2)

معاني القرآن: 1/ 229.

(3)

تفسير المراغي: 2/ 23.

(4)

انظر: تفسير البحر المحيط: 1/ 621.

(5)

مفاتيح الغيب: 4/ 125.

(6)

تفسير ابن أبي حاتم (1405): ص 1/ 261 - 262.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (1408): ص 1/ 262.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم (1406): ص 1/ 262.

(9)

تفسير ابن أبي حاتم (1407): ص 1/ 262.

(10)

معارج القبول، حافظ حكمى:164.

ص: 392

تعريفه دونه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقوله لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وكل ذلك لم يَنْفِ العلو؛ فهو سبحانه وتعالى مُسْتَوٍ على عَرْشِه، بائِن (مُنْفَصِل) مِن خَلْقِه، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وليس معنى مَعِيَّته مع عِبادِه أن يكون ذلك بالجوارح، أو أنه تعالى مختلط بالخَلْق؛ فهو خلاف ما أجمع عليه سَلَفُ الأُمَّة وخِلاف ما فَطَرَ اللهُ عليه الخَلْق، بل القمر آية من آيات الله، ومن أصْغَر مَخْلُوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المُسافر وغير المسافر، أينما كان ومن أشار إلى غير هذا، فإنما يشير إلى الإلحاد والحلول والاتحاد، والله ورسوله بَرِيئانِ مِنه (1).

وقد قال تعالى: {مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، لثلاثة وجوه (2):

الوجه الأول: أن الصلاة من الصبر؛ لأنها صبر على طاعة الله.

الوجه الثاني: أن الاستعانة بالصبر أشق من الصلاة؛ لأن الصبر مُرّ: الصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فهو مرٌّ يكابده الإنسان، ويعاني، ويصابر، ويتغير دمه حتى من يراه يقول: هذا مريض.

الوجه الثالث: أنه إذا كان مع الصابرين فهو مع المصلين من باب أولى بدليل أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان المصلي يناجي ربه، وأن الله قِبل وجهه (3) - وهو على عرشه سبحانه وتعالى.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا

}.

2 -

ومنها: الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة؛ لقوله تعالى: {استعينوا بالصبر والصلاة} .

3 -

ومنها: بيان الآثار الحميدة للصلاة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين العبد في أموره.

4 -

ومنها: جواز الاستعانة بغير الله فيما يمكن أن يعين فيه؛ لقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وجاء في الحديث: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة» (4).

5 -

ومنها: أن الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا

} إلخ.

6 -

ومنها: فضيلة الصبر؛ لأنه يعين على الأمور؛ والصبر ثقيل جداً على النفس؛ لأن الإنسان إذا أصابه ضيق، أو بلاء ثقل عليه تحمله، فاحتاج إلى الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49]؛ فقال تعالى: {فاصبر} إشارة إلى أن هذا الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى صبر، وتحمل؛ لأنه سيجد من ينازع، ويضاد؛ ونظيره قوله تعالى:{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} [الإنسان: 23، 24]؛ إذاً الصبر شاق على النفوس؛ لكن يجب على الإنسان أن يصبر؛ ولهذا من لم يوفق للصبر فاته خير كثير؛ والذي يصبر أيضاً غالباً ينتظر الفرج لا سيما إذا صبر بإخلاص، وحسن نية؛ وانتظار الفرج عبادة، وباب للفرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«واعلم أن النصر مع الصبر؛ وأن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسراً» (5)؛ لأنه إذا كان منتظراً للفرج هان عليه الصبر؛ لأنه يؤمل أن الأمور ستزول، وأن دوام الحال من المحال؛ فإذا كان يؤمل الأجر في الآخرة، ويؤمل الفرج في الدنيا هان عليه الصبر كثيراً؛ وهذه لا شك من الخصال الحميدة التي جاء بها

(1) معارج القبول، حافظ حكمى:164.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 172.

(3)

راجع البخاري ص 35، كتاب الصلاة، باب 33: حك البزاق باليد من المسجد، حديث رقم 406، وراجع صحيح مسلم ص 763، كتاب المساجد، باب 13: النهي عن البصاق في المسجد

، حديث رقم 1223 [50]547.

(4)

أخرجه البخاري ص 232، كتاب الجهاد، باب 72: فضل من حمل متاع صاحبه في السفر حديث رقم 2891؛ وأخرجه مسلم ص 837، كتاب الزكاة، باب 16: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم 2335 [56] 1009، واللفظ لمسلم.

(5)

أخرجه أحمد 1/ 293، حديث رقم 2669؛ وأخرجه الترمذي ص 1904 - 1905، كتاب صفة القيامة، باب 59: حديث حنظلة، حديث رقم 2516، وفي سنده قيس بن الحجاج، قال الحافظ في التقريب: صدوق، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح 2/ 308 - 309، حديث رقم 2043.

ص: 393

الإسلام، ودليل على أن الأمور تسهل بالصبر؛ مهما بلغتك الأمور اصبر، فتهون؛ ولهذا جعل الله الصبر عوناً.

7 -

ومن فوائد الآية: أن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها؛ لقوله تعالى:{إن الله مع الصابرين} ؛ فإذا آمن الإنسان بأن الله معه ازداد نشاطاً، وثباتاً؛ وكون الله سبحانه وتعالى مع الإنسان مسدداً له، ومؤيداً له، ومصبِّراً له، لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها؛ ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يتناضلون قال:«ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً وأنا مع بني فلان؛ قال الآخرون: يا رسول الله، إذا كنت معهم فلا نناضل؛ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» (1).

8 -

ومن فوائد الآية: إثبات معية الله سبحانه وتعالى؛ ومعيته تعالى نوعان:

النوع الأول: عامة لجميع الخلق، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ لقوله تعالى:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7].

والنوع الثاني: خاصة؛ ومقتضاها مع الإحاطة: النصر، والتأييد؛ وهي نوعان: مقيدة بوصف، كقوله تعالى:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128]؛ ومقيدة بشخص، كقوله تعالى لموسى، وهارون:{إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46]، وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40].

القرآن

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة: 154]

التفسير:

ولا تقولوا -أيها المؤمنون- فيمن يُقتلون مجاهدين في سبيل الله: هم أموات، بل هم أحياء حياة خاصة بهم في قبورهم، لا يعلم كيفيتها إلا الله - تعالى-، ولكنكم لا تُحسُّون بها. وفي هذا دليل على نعيم القبر.

في سبب نزول الآية: قولان:

أحدهما: قال الواحدي: " نزلت في قتلى بدر من المسلمين، وكانوا بضعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وذلك أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها، فأنزل الله هذه الآية"(2).

وكذا ذكره الثعلبي (3) بغير إسناد.

وذكره مقاتل بن سليمان (4)، وبه زيادة أن سمى الستة من المهاجرين وهم: عبيدة بن الحارث (5)، وعمير بن أبي وقاص (6)، وذو الشمالين (7) بن عبد عمرو (8) وعاقل بن البكير (9)، ومهجع مولى عمر (10)، وصفوان بن بيضاء (11)، وسمى الثمانية من الأنصار وهم: سعد بن خيثمة (12) ومبشر بن عبد المنذر (13)

(1) أخرجه البخاري ص 233، كتاب الجهاد، باب 78: التحريض على الرمي

، حديث رقم 2899.

(2)

أسباب النزول: 44. والخبر أخرجه ابن مندة في "الصحابة" (لباب النقول: 30) من طريق السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه وقد علمنا سابقا أن هذه سلسلة الكذب (الإتفان: 2/ 189).

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 21.

(4)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 150 - 151.

(5)

في الأصل: عبيد وهو خطأ وترجمته في "الإصابة""2/ 449".

(6)

في الأصل: " عتبة هو خطأ "الإصابة" "3/ 35".

(7)

واسمه عمير "الإصابة""3/ 35".

(8)

جاء في "تفسير مقاتل": "وذي الشمالين عبد عمر بن نضلة" وقد سقط منه لفظ "بن" وواو عمرو.

(9)

انظر: في الأصل وفي "تفسير مقاتل": عقيل وهو خطأ "الإصابة""2/ 247".

(10)

مهجع العكي "الإصابة""2/ 466".

(11)

ترجمه الحافظ في "الإصابة" باسم: صفوان بن وهب "2/ 191".

(12)

انظر: في الأصل: سعيد وهو خطأ "الإصابة""2/ 25".

(13)

انظر: الإصابة: 3/ 360. ولم ينقط في الأصل.

ص: 394

وحارثة بن سراقة (1)، وعوف (2) ومعوذ (3) ابنا عفراء (4)، وهي أمهما، واسم أبيهما الحارث بن مالك ويزيد بن الحارث (5)، وعمير بن الحمام (6) ورافع بن المعلى (7).

وذكره ابن عطية (8)، والرازي (9)، والقاسمي (10) وغيرهم من المفسرين.

وذكره الماوردي مختصرا ولفظه: "وسبب ذلك أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحُد: مات فلان، ومات فلان، فنزلت الآية"(11).

الثاني: وقال ابن عطية في سبب نزولها: أن" المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، وتخبر عن حقيقة حالهم، فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم"(12).

الثالث: وقيل: أن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة، فنزلت هذه الآية (13).

قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154]، " أي لا تقولوا للشهداء إنهم أموات"(14).

أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى:" {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله}، يعني: الذين قتلوا في طاعة الله في قتال المشركين"(15).

قال سعيد بن جبير: " يقول الله: لا تحسبهم أمواتا"(16).

قال مقاتل: أي" ولا تقولوا معشر المؤمنين لمن يقتل في سبيل الله أموات"(17).

قال ابن عثيمين: أي: "لا تقولوا: هم أموات، والذي يقتل في سبيل الله هو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا"(18).

قال المراغي: " أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا: إنهم أموات"(19).

قال أبو حيان: " نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء"(20).

قال ابن عاشور: "نهي عن القول الناشاء عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال: "قتل أناس قبل تحويل القبلة"، فأعقب قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة"(21).

قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]، " أي بل هم أحياءً عند ربهم يرزقون ولكن لا تشعرون بذلك"(22).

قال مقاتل: " مرزوقون في الجنة عند الله، ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى في جنة المأوى"(23).

قال المراغي: أي: " بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم"(24).

قال الصابوني: " لأنهم في حياةٍ برزخية أسمي من هذه الحياة"(25).

قال ابن عثيمين: " وهي حياة برزخية لا نعلم كيفيتها"(26).

قال البيضاوي: " وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي"(27).

قال أبو السعود: " وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وإنما هي أمر روحاني لا يدرك بالعقل بل بالوحي"(28).

قال الطبري: أي: "ولكنكم لا تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به"(29).

قال ابن عثيمين: " أي لا تشعرون بحياتهم؛ لأنها حياة برزخية غيبية؛ ولولا أن الله عز وجل أخبرنا بها ما كنا نعلم بها"(30).

قال أبو العالية: " يقول هم أحياء في صدور طير خضر، يطيرون في الجنة حيث شاءوا، ويأكلون من حيث شاءوا"(31).

واختلف في حقيقة الموت والحياة في الآية، على قولين (32):

أحدهما: أن المراد حقيقة الموت والحياة.

(1) انظر: الإصابة: 1/ 297.

(2)

انظر: الإصابة" "3/ 42".

(3)

انظر: في الأصل: مسعود وهو تحريف "الإصابة""3/ 450".

(4)

هي عفراء بنت عبيدة من بني النجار، الصحابية التي شهد سبعة من أولادها بدرًا رضي الله عنها "الإصابة""4/ 364" و"المجتبى من المجتنى" لابن الجوزي "ص 165".

(5)

انظر: الإصابة" "3/ 654".

(6)

انظر: الإصابة" "3/ 31. في الأصل: عمرو وفي "تفسير مقاتل": عمر وكلاهما خطأ. قال السيوطي في "اللباب""ص 30": "أخرج ابن منده في الصحابة من طريق السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قتل تميم بن الحمام ببدرا، وفيه وفي غيره نزلت {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} الآية قال أبو نعيم: اتفقوا على أنه عمير بن الحمام، وأن السدي صحفه".

(7)

انظر: الإصابة" "1/ 499".

وانظر أسماء الشهداء الأربعة عشر في "السيرة" لابن هشام "1/ 706 - 708".

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 227.

(9)

مفاتيح الغيب: 4/ 132، قال الرازي:"قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب، وعمر بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله. ومن الأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء، وكانوا يقولون: مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا".

(10)

تفسير القاسمي: 1/ 131، قال القاسمي:" قال الضحاك هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة وقال الكلبي هم الذين قتلوا ببدر قتل يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا وكان الناس يقولون مات فلان ومات فلان فأنزل الله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " يعني هم في الحكم كالأحياء لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا كما قال في آية أخرى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ".

(11)

النكت والعيون: 1/ 209.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 227.

(13)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 132.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(15)

تفسير ابن أبي حاتم (1409): ص 1/ 262.

(16)

تفسير ابن أبي حاتم (1410): ص 1/ 262.

(17)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/! 51.

(18)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 175. [بتصرف بسيط].

(19)

تفسير المراغي: 2/ 23.

(20)

البحر المحيط: 1/ 390.

(21)

التحرير والتنوير: 2/ 53.

(22)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(23)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 151.

(24)

تفسير المراغي: 2/ 23.

(25)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(26)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 176.

(27)

تفسير البيضاوي: 1/ 114.

(28)

تفسير أبي السعود: 1/ 179.

(29)

تفسير الطبري: 3/ 218

(30)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 176.

(31)

أخرجه ابن أبي حاتم (1412): ص 1/ 263، وأخرجه الحاكم: 2/ 271 كتاب التفسير حديث صحيح الإسناد.

(32)

انظر: البحر المحيط: 1/ 390.

ص: 395

والثاني: وقيل: ذلك مجاز.

والظاهر هو القول الأول. والله أعلم.

قال أبو حيان: " وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم: معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى: أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة: بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله: {وَلَاكِن لا تَشْعُرُونَ} معناه: لا تشعرون بكيفية حياتهم، ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه: ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ}، وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، وكما ترى النائم على هيئته، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به"(1).

فإن قال قائل: كيف لا نقول أموات وقد ماتوا؟

فالجواب: أن المراد هنا: لا تقولوا: أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد؛ فهذا موجود؛ ولولا أن أرواحهم فارقت أجسادهم لما دفناهم، ولكانوا باقين يأكلون، ويشربون؛ ولكن الموت المطلق لم يقع منهم بدليل الإضراب الإبطالي في قوله تعالى:{بل أحياء} يعني: بل هم أحياء .. والمراد: أحياء عند ربهم" (2).

قال ابن عاشور: "وإنما قال: (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها (3)، والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها"(4).

واختلف في مستقر أرواح الشهداء على أقوال (5):

أحدها: قيل: قبورهم يرزقون فيها.

والثاني: وقيل: في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها، قاله أبو بشار السلمي (6).

الثالث: أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة المنتهى، قاله قتادة (7).

الرابع: وقيل: يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها، قاله مجاهد (8).

(1) البحر المحيط: 1/ 390 - 391.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 176.

(3)

لعله يقصد هذا الحديث: سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، فقال:"إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل". (رواه مسلم:(1887).

(4)

تفسير ابن عاشور: 2/ 53 - 54.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 391.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2324): ص 3/ 217 - 218.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2319): ص 3/ 215.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2317)، و (2318): ص 3/ 215.

ص: 396

الخامس: وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"" الشهداءُ على بَارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء " (1).

وجاء في صحيح مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة، فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نقتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله: إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون"(2).

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه"(3).

قال ابن كثير: "ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما"(4).

وقد اختلف العلماء في هذا الوصف الذي اتصف به الشهيد، هل هو خاص به، أم أنه يشمل عموم المؤمنين؟ :

القول الأول: أن هذا الوصف لم يخص مؤمنًا شهيدًا من غير شهيد.

روى كعب بن مالك قال: قال رسول الله? : "إنما نسمة (5) المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه"(6).

ففي هذا الحديث لم يخص مؤمنًا شهيدًا من غير شهيد (7).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (8) رحمه الله: "الصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجنة، ليس مختصًا بالشهيد. كما دلت على ذلك النصوص الثابتة، ويختص الشهيد بالذكر، لكون الظان يظن أنه يموت، فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة، كما نُهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق، لأنه هو الواقع، وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق"(9).

وقد تابع ابن تيمية على قوله هذا: تلميذه ابن القيم في كتابه الروح (10)، وابن كثير في تفسيره (11)،

(1) انظر: تفسير الطبري (2323): ص 3/ 216 - 217.

(2)

صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه مختلف لكن معناه واحد.

(3)

المسند (3/ 455).

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 467.

(5)

نسمة: أي روح. انظر. النهاية: 5/ 94.

(6)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب جامع الجنائز: 1/ 240. والنسائي، كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، رقم 2073. وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، رقم 4271.

قال ابن القيم في "الروح"، ص 252:"الحديث من صحاح الأحاديث".

وقال ابن كثير: "هذا إسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه"، تفسير ابن كثير: 1/ 404.

(7)

التمهيد: لابن عبد البر: 11/ 59.

(8)

هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الدمشقي، ولد سنة 661 هـ، الإمام، الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، الأصولي، أبو العباس تقي الدين، شيخ الإسلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، وبالإسهاب في أمره، تصانيفه كثيرة قيمة نافعة، منها: اقتضاء الصراط المستقيم، منهاج السنة، درء تعارض العقل والنقل. توفي سنة 728 هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة: 2/ 387، لابن رجب، والكواكب الدرية في مناقب المجدد ابن تيمية. مرعي بن يوسف الكرمي، والرد الوافر على من زعم: بأن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، لابن ناصر الدين، وتذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1496.

(9)

فتاوى ابن تيمية: 4/ 332، و 4/ 278.

(10)

ص 259 وما بعدها.

(11)

1/ 187، و 1/ 404.

ص: 398

وشارح الطحاوية (1).

القول الثاني: أن هذا الوصف خاص بالشهداء لا غيرهم. وإن الآيات والأحاديث السابقة تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم، وأما حديث: «إنما نسمة المؤمن

»، فتأويله: إنما نسمة المؤمن من الشهداء (2).

ونقل القرطبي عن ابن العربي أنه حكى إجماع الأمة على اختصاص الشهيد بهذا الوصف (3).

والذي يظهر أن هذا الإجماع غير صحيح، لمعارضته النص الصريح، والصحيح عن النبي? في قوله: «إنما نسمة المؤمن

»، بل حكى شيخ الإسلام رحمه الله خلاف ذلك وأن جماهير أهل السنة على أن هذا الوصف ليس مختصًا به، وبهذا قال بعض كبار العلماء من الشافعية كابن كثير والحنفية كابن أبي العز كما سبق، والله أعلم.

قال الراغب: إن الحياة تقال على أوجه، وكل واحدة يقابلها موت (4):

الأول: في القوة النامية التي بها الغذاء والشهوة إليها، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان، ولذلك يقال: نبات حي.

والثاني: في القوة الحساسة التي بها الحركة المكانية وهي موجودة في الحيوان والإنسان دون النبات.

والثالث: القوة العاملة العاقلة [وبها يكون العقل والعلم] وهي في الإنسان دون الحيوانات والنبات وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد الحقيقي، والعمل الصالح حياة، وعلى ذلك قوله تعالى:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .

و(الشهيد) في اللغة: على وزن "فَعِيْل"، مشتق من الفعل شَهِدَ يَشْهُد شهادةً، فهو شاهد وشهيد، فشاهد وشهيد بمعنى واحد، مثل عالم وعليم، وناصر ونصير (5). إلا أن صيغة فعيل أبلغ (6)، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل (7).

وقيل: الشهيد: فعيل، بمعنى مفعول (8).

والشهيد: القتيل في سبيل الله، وقد استشهد فلان على ما لم يُسَمَّ فاعله (9).

والشين والهاء والدال أصل يدلّ على حضور، وعلم، وإعلام، ومن ذلك الشهادة، يجمع الأصول التي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام (10).

والشاهد، والشهيد: الحاضر، والجمع شهداء، وشهَّد، وأشهاد، وشهود (11).

ومما يدل على أن من معانيه الحضور: ما جاء في الحديث: «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه» (12).

(1) ابن أبي العز الحنفي، ص 403 - 404.

(2)

انظر: التمهيد، لابن عبد البر: 6/ 64 - 65.

(3)

انظر: "التذكرة" ص 635 للقرطبي، فقد نقل عن ابن العربي في كتابه "سراج المريدين" إجماع الأمة على اختصاص الشهيد بهذا الوصف.

وكتاب "سراج المريدين" مخطوط في دار الكتب المصرية تحت رقم (20348 ب).

وانظر: فهرست مخطوطات دار الكتب المصرية: 1/ 458 (في 245 لوحة).

(4)

انظر: تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 347 - 348.

(5)

جمهرة اللغة، لابن دريد: 2/ 653، 3/ 1248.

(6)

عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، لابن السمين، ص 278.

(7)

النهاية، لابن الأثير: 2/ 513.

(8)

أنيس الفقهاء، للقونوي، ص 123.

(9)

مختار الصحاح، للرازي، ص 147.

(10)

المقاييس في اللغة: 3/ 221

(11)

لسان العرب: 3/ 239.

(12)

البخاري: كتاب النكاح، ح 4899.

ص: 399

ومن ذلك قول الشاعر:

كأني، وإن كانت شهودًا عشيرتي

إذا غبت عني يا عثيم غريب (1)

ويقال: قوم شهود، أي حضور (2).

وهذا معروف في لسان العرب معرفة يستغنى بها عن الاستشهاد عليها بشيء، ولكن لتأكيد هذا أوردنا بعض الشواهد في ذلك.

وقد اختلف في اشتقاق كلمة (شهيد)، هل هو من الشهادة؟ أو من المشاهدة، أو هو فعيل بمعنى مفعول؟ أو بمعنى فاعل؟ (3).

فإن كان الاشتقاق من الشهادة، فهو شهيد، بمعنى: مشهود، أي مشهود عليه، ومشهود له بالجنة، ويجوز أن يكون من الشهادة، وتكون فعيل بمعنى فاعل، لأن الله تعالى يقول:{وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]، أي تشهدون عليهم، وهذا وإن كان عامًا في جميع أمة محمد? ، فالشهداء أولى بهذا الاسم، فهذان وجهان في معنى الشهيد إذا جعلته مشتقًا من الشهادة.

وإن كان من المشاهدة، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، على معنى أنه يشاهد من ملكوت الله، وقد يكون بمعنى مفعول، من المشاهدة، أي أن الملائكة تشاهد قبضه والعروج بروحه، ونحو ذلك، فيكون فعيلاً بمعنى مفعول (4).

وبناء على عدم الاتفاق في تقدير معنى الفعل؛ افترقت الأقوال، وتشعبت الآراء في سبب التسمية، وكان اختلاف بعض هذه الأقوال يرجع إلى تباين وتضاد، وبعضها ليس كذلك، بل الأقوال فيها متقاربة.

ونلاحظ عند استقراء هذه الأقوال أنها تفرعت عن قولين رئيسين هما:

القول الأول: أن الشهيد بمعنى شاهد، أي فعيل بمعنى فاعل، وشاهد قد تكون بمعنى الإخبار والإعلام، كما في قوله تعالى:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَاّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81]. فالشهادة هنا بمعنى الإخبار.

وقد ترد ويراد منها الحضور والمشاهدة، كما في قوله تعالى:{وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر: 13]. أي حضورًا (5).

وهؤلاء اختلفوا أيضًا في سبب التسمية على أقوال:

أحدها: لأنه ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي? على الأمم الخالية، قال تعالى:{لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143](6).

الثاني: لأن أرواحهم شهدت دار السلام، أي حضرتها، وأما أرواح غيرهم فلا تحضرها إلى يوم البعث (7). قال الأزهري (8):«وقال ابن شميل في تفسير الشهيد الذي يستشهد: الشهيد: الحي. قلت: أراه تأول قول الله جل وعز: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. كأن أرواحهم أحضرت دار السلام أحياءً، وأرواح غيرهم أخرت إلى يوم البعث، وهذا قول حسن» (9).

الثالث: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل (10).

(1) أورده ابن منظور في اللسان، وقال قبله: وأنشد ثعلب، انظر: لسان العرب: 3/ 240.

(2)

الصحاح، للجوهري: 2/ 494.

(3)

تاج العروس، للزبيدي: 8/ 256، بتصرف. وانظر: النهاية: 2/ 513.

(4)

الروض الأنف، للسهيلي: 3/ 195، بتصرف.

(5)

عمدة الحفاظ، للسمين، ص 280، بتصرف.

(6)

انظر تهذيب اللغة للأزهري (6/ 73).

(7)

عمدة الحفاظ، ص 279.

(8)

هو: محمد بن احمد بن الأزهر بن طلحة، الأزهري الهروي اللغوي، الإمام المشهور في اللغة، ولد سنة 282 هـ، من مؤلفاته في اللغة كتاب "التهذيب"، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي تستعملها الفقهاء يسمى بـ"الزاهر" وهو على غريب ألفاظ كتاب المزني. توفي سنة 370 هـ. انظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان: 4/ 639.

(9)

تهذيب اللغة: 6/ 73.

(10)

لسان العرب، لابن منظور: 3/ 243.

ص: 400

الرابع: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد الله له من الثواب والكرامة بالقتل (1).

الخامس: لأنه شهد المغازي (2).

السادس: لأنه شهد لله بالوجود والإلهية بالفعل، كما شهد غيره بالقول (3).

السابع: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره (4).

الثامن: لأنه يشاهد الدارين: دار الدنيا، ودار الآخرة (5).

القول الثاني: أن الشهيد بمعنى مشهود، أي فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تحديد سبب التسمية إلى أقوال:

أحدها: لأن ملائكة الرحمة تشهده (6)، وصحح هذا القول الرازي (7) في كتابه "حلية الفقهاء"(8).

فالشهيد: هو المحتضر، فتسميته بذلك لحضور الملائكة إياه، إشارة إلى ما قال الله عز وجل:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا} [فصلت: 30](9).

الثاني: لأن الله وملائكته شهود له بالجنة (10)، أو بالخير (11).

الثالث: لأنه شهد له بالإيمان، وحسن الخاتمة بظاهر حاله (12).

الرابع: لأن عليه شاهدًا يشهد بشهادته؛ وهو دمه (13).

هذه أغلب الأقوال التي قيلت في سبب التسمية، وما لم نذكره فإنه يدخل في بعض هذه الأقوال، ولا يخرج عنها في الغالب.

وأقرب الأقوال إلى الصحة -والله أعلم- هو ما رجّحه الإمام السهيلي (14) رحمه الله حيث قال -بعد ذكره بعض هذه الأوجه-: «وأولى هذه الوجوه كلها بالصحة: أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، ويكون معناه: مشهودًا له بالجنة، أو يشهد عليه النبي عليه السلام، كما قال: «هؤلاء أنا شهيد عليهم» ، أي: قّيم عليهم بالشهادة لهم، وإذا حشروا تحت لوائه، فهو وال عليهم، وإن كان شاهدًا لهم، فمن ههنا اتصل الفعل بعلى، فتقوى هذا الوجه من جهة الخبر، ومن وجه آخر من العربية؛ وهو أن النبي? حين ذكر الشهداء قال:«والمرأة تموت بجمع شهيد» (15)، ولم يقل: شهيدة، وفي رواية أخرى قال:«والنفساء شهيد، يجرها جنينها بسرره إلى الجنة» (16)، ولم يقل: شهيدة، وفعيل إذا كان صفة لمؤنث كان بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول، نحو امرأة قتيل وجريح، وإن كان بمعنى فاعل، كان بالهاء، كقولهم: امرأة عليمة ورحيمة، ونحو ذلك.

(1) لسان العرب: 3/ 243، تهذيب الأسماء واللغات، للنووي: 3/ 167.

(2)

تاج العروس: 8/ 254.

(3)

المطلع على أبواب المقنع، لابن مفلح، ص 116.

(4)

بذل الماعون في فضل الطاعون، لابن حجر، ص 190.

(5)

بذل الماعون في فضل الطاعون، ص 190.

(6)

لسان العرب: 3/ 243.

(7)

هو: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الأنصاري، كان من أئمة أهل اللغة في وقته. من أهم مؤلفاته:"المقاييس في اللغة"، و"المجمل"، وغيرها. توفي سنة 395 هـ. انظر: وفيات الأعيان: 1/ 118، ومقدمة كتاب المقاييس في اللغة لعبد السلام هارون.

(8)

ص 93.

(9)

انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص 468.

(10)

تهذيب اللغة: 6/ 73.

(11)

عمدة الحفاظ، ص 279.

(12)

تاج العروس: 8/ 255، المطلع، ص 116.

(13)

تاج العروس: 8/ 255.

(14)

هو: أبو القاسم عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد بن عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن الخثعمي السهيلي، الإمام المشهور، الفقيه، الحافظ، الأديب، كان عالمًا بالعربية واللغة والقراءات، بارعًا في ذلك. ولد سنة 508 هـ، له عدة مؤلفات، منها: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، نتائج الفكر في النحو، وغيرها كثير. توفي سنة 581 هـ. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لابن فرحون، ص 150، تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1348.

(15)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، رقم 36.

(16)

سوف يأتي تخريجه كاملاً -إن شاء الله- عند ذكر أنواع الشهادة.

ص: 401

فدل على أن الشهيد مشهود له، ومشهود عليه، وهذا استقراء من اللغة صحيح، واستنباط من الحديث بديع، فقف عليه (1).

وقد أشاد بهذا القول الزبيدي (2) رحمه الله فقال - بعد ذكره الخلاف في ذلك-: «وذكر أكثر من ذلك محررًا مهذبًا: الشيخ أبو القاسم السهيلي في الروض الأنف بما لا مزيد عليه» (3).

وتعدّ لفظة "شهيد" لفظة عامة يدخل تحتها جميع من أثبت له الشارع صفة الشهادة، لكن الفقهاء رحمهم الله لهم اصطلاح خاص في تسمية الشهيد الذي يأخذ أحكامًا تخصه عن سائر الموتى.

وقد اختلفوا في تحديد الشروط والضوابط التي تحدد مفهوم الشهيد بالمعنى الاصطلاحي، ولذا فإنهم قد اختلفت تعريفاتهم حسب شرط كل مذهب، وسوف نعرض هنا لبعض هذه التعريفات -إن شاء الله- على وجه الاختصار والإجمال:

أولا: التعريف الاصطلاحي للشهيد عند الحنفية:

اختلفت عبارات الحنفية في تحديد مفهوم الشهيد عندهم، ولعل أحسنها وأشملها: تعريف ابن عابدين (4)، الذي عرفه بقوله:«هو كل مكلف، مسلم، طاهر، قتل ظلمًا، بجارحة، ولم يجب بنفس القتل مال، ولم يرتث (5)» (6)، «وكذا لو قتله باغ أو حربي أو قاطع طريق ولو تسببًا أو بغير آلة جارحة» (7).

ثانيا: التعريف الاصطلاحي للشهيد عند المالكية:

جاء في وصف الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه قول خليل (8)، هو: «شهيد معترك فقط، ولو ببلد الإسلام أو لم يقاتل، وإن أجنب على الأحسن، إلا إن رفع حيًا، وإن أنفذت مقاتله، إلا المغمور

» (9).

ثالثا: التعريف الاصطلاحي للشهيد عند الشافعية:

عرفه الإمام النووي (10) رحمه الله بأنه: «من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال» (11).

رابعا: التعريف الاصطلاحي للشهيد عند الحنابلة:

عرّف ابن مفلح (12) رحمه الله الشهيد بأنه: «من قتل بأيدي الكفار في معركتهم» (13).

(1) الروض الأنف: 3/ 195.

(2)

هو: محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني، الزبيدي الحنفي، الملقب بمرتضى، ولد سنة 1145، نحوي، محدث، أصولي، مؤرخ، نسابة، أصله من واسط في العراق، ومولده في بلجرام في الشمال الغربي من الهند، ومنشأه في زبيد باليمن، رحل إلى الحجاز، وأقام بمصر. من تصانيفه: تاج العروس في شرح القاموس، الروض المعطار في نسب السادة آل جعفر الطيار، إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين. توفي بالطاعون في مصر سنة 1205 هـ. انظر: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للجبرتي: 2/ 91 - 114، ومعجم المؤلفين: 11/ 282.

(3)

تاج العروس: 8/ 256.

(4)

هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي الحنفي، ولد سنة 1198 هـ، من أشهر مؤلفاته: حاشيته المسماة "رد المحتار على الدر المختار"، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره. توفي سنة 1252 هـ. انظر: الأعلام: 6/ 42. ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة: 9/ 77

(5)

المرتث هو من أصيب في المعركة أو غيرها ولم يجهز عليه في مصرعه ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحته، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث خاص. انظر ص 165.

(6)

حاشية ابن عابدين: 2/ 247.

(7)

المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(8)

هو: خليل بن إسحاق بن موسى المصري المالكي، مؤلف المختصر الذي هو عمدة المذهب. توفي سنة 767 هـ. انظر: الديباج: 1/ 357. وشجرة النور الزكية، ص 223. ومعجم المؤلفين: 3/ 113.

(9)

مختصر خليل، ص 56 - 57.

(10)

هو: الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، الشافعي، ولد سنة 631 هـ، من كبار علماء الإسلام، له المؤلفات الجليلة النافعة، منها: شرح صحيح مسلم، وروضة الطالبين، والمجموع شرح المهذب، ورياض الصالحين، وغيرها. توفي سنة 676 هـ. انظر: طبقات الشافعية، لابن هداية الله، ص 89. والمنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي، للسخاوي.

(11)

روضة الطالبين: 2/ 119.

(12)

هو: برهان الدين أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي، ولد سنة 815 هـ، انتهى إليه رئاسة عصره. من مؤلفاته:"المبدع في شرح المقنع"، وهو عمدة في المذهب. توفي سنة 884 هـ. انظر: السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة: 1/ 60.

(13)

المبدع شرح المقنع، لابن مفلح: 2/ 234.

ص: 402

وتعاريف الفقهاء رحمهم الله للشهيد بالمعنى الاصطلاحي ليست بجامعة ولا مانعة عدا الحنفية، ولعل ذلك -والله أعلم- لكثرة الخلاف في ضابط الشهيد، والاختلاف في أكثر صوره.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: النهي عن القول بأن الذين قتلوا في سبيل الله أموات؛ وهو يشمل القول بالقلب - وهو الاعتقاد، والقول باللسان - وهو النطق.

2 -

ومنها: التنبيه على الإخلاص في القتال؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} ؛ وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (1)؛ وهذه مسألة مهمة؛ لأن كثيراً من الناس قد يقصد أن هذا جهاد، فيخرج؛ لأنه جهاد وقتال لأعداء الله؛ لكن كونه يشعر بأن هذا في سبيل الله - أي في الطريق الموصل إلى الله أبلغ.

3 -

ومن فوائد الآية: إثبات حياة الشهداء؛ لكنها حياة برزخية لا تماثل حياة الدنيا؛ بل هي أجلّ، وأعظم، ولا تعلم كيفيتها.

4 -

ومنها: أن ثواب الله سبحانه وتعالى للعامل أجلُّ، وأعلى؛ وذلك؛ لأن الشهيد عرض نفسه للموت ابتغاء ثواب الله؛ فأثابه الله، حيث جعله حياً بعد موته حياة برزخية أكمل من حياة الدنيا؛ لقوله تعالى:{عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169].

5 -

ومنها: إثبات الحياة البرزخية؛ لقوله تعالى: {بل أحياء} ؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دفن الإنسان رد الله عليه روحه، وجاءه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه (2).

6 -

ومنها: إثبات نعيم القبر؛ لقوله تعالى: {بل إحياء} .

7 -

ومنها: أن أحوال البرزخ، وعالم الغيب غير معلومة لنا، ولا نشعر بها إلا ما علمنا الله ورسوله.

القرآن

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة: 155]

التفسير:

ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع، وبنقص من الأموال بتعسر الحصول عليها، أو ذهابها، ومن الأنفس: بالموت أو الشهادة في سبيل الله، وبنقص من ثمرات النخيل والأعناب والحبوب، بقلَّة ناتجها أو فسادها. وبشِّر -أيها النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.

في سبب نزول الآية: قال الماوردي: " لما تقدم من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عليهم سنين كسني يوسفَ (3) حين قحطوا سبع سنين، فقال الله تعالى مجيباً لدعاء نبيه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالجُوعِ}، الخوف يعني الفزع في القتال، والجوع يعني المجاعة بالجدب "(4).

(1) أخرجه البخاري ص 251 – 252، كتاب فرض الخمس، باب 10: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، حديث رقم 3126، وأخرجه مسلم ص 1018، كتاب الإمارة، باب 42: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حديث رقم 4920 [150] 1904، واللفظ لمسلم.

(2)

راجع مسند الإمام أحمد 4/ 295 – 296، حديث رقم 18815، وأبو داود ص 1572، كتاب السنة، باب 23: المسألة في القبر وعذاب القبر، حديث رقم 4753، والترمذي مختصراً ص 1968، كتاب تفسير القرآن، باب 14: ومن سورة إبراهيم، حديث رقم 3120، وقال الألباني في صحيح أبي داود 3/ 165 – 166، "صحيح". أهـ. وأصله في البخاري ومسلم.

(3)

لفظ الحديث: " "اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف". رواه البخاري في "صحيحه" كتاب "الأذان" باب يهوي بالتكبير حين يسجد "الفتح" "2/ 290" بهذا اللفظ وبدون "عليهم في كتاب الاستسقاء" باب دعاء الني صلى الله عليه وسلم" اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "الفتح""2/ 492" وكتاب "التفسير" باب "ليس لك من الأمر شيء". "الفتح""8/ 226".

(4)

النكت والعيون: 1/ 209، وانظر: العجاب: 1/ 405 - 406.

ص: 403

وعبّر عنه أبو حيان بقوله: " وقيل: هؤلاء أهل مكة، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم، وليبقوا يتوقعون المصيبة، فتضاعف عليهم المصيبات"(1).

قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155]، " أي ولنختبرنكم (2).

قال الثعلبي: أي: " ولنختبرنكم يا أمة محمد"(3).

قال ابن عطية: "معناه: لنمتحننكم"(4).

قال المراغي: " أي والله لنمتحننكم"(5).

قال أبو السعود: أي: " لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء"(6).

قال القرطبي: أي: "لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة"(7).

قال ابن كثير: "إذ "أخبر تعالى أنه يبتلي عباده المؤمنين، أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] فتارة بالسراء، وتارة بالضراء" (8).

قال ابن عباس: " أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال: {وبشر الصابرين}، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} "(9).

واختلف النحويون في فتح (الواو) في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155]، على قولين (10):

أحدهما: . أنها مفتوحة لالتقاء الساكنين. قاله سيبويه (11).

الثاني: وقال آخرون: أنها مبنيه علي الفتح.

قال الزجاج: "فالذين قالوا إنها مبنية على الفتح غير خارجين من قول سيبويه، وكلا القولين جائز"(12).

قوله تعالى: {بِشَيْءٍ} [البقرة: 150]، " بشيءٍ يسير من ألوان البلاء"(13).

قال الزمخشري: أي: "بِشَيْءٍ قليل (14) من كل واحد من هذه البلايا، و (شيء) هنا للتقليل؛ ويحتمل أن يكون للتكثير.

قال أبو السعود: " أي بقليل من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيب به معانديهم وإنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة حميدة"(15).

(1) البحر المحيط: 1/ 391، وانظر: العجاب: 1/ 406.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 22.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 227.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 24.

(6)

تفسير أبي السعود: 1/ 180.

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 173.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 467.

(9)

أخرجه الطبري (2325): ص 3/ 219.

(10)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 230.

(11)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 230.

(12)

معاني القرآن: 1/ 230.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(14)

انظر: تفسير الكشاف: 1/ 207.

(15)

تفسير أبي السعود: 1/ 180.

ص: 404

قال ابن عطية: " فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول إيجازا ولذلك وحد"(1).

وقرأ الضحاك: {بأشياء} ، على الجمع، والمعنى قريب بعضه من بعض (2).

وإنما قال {بِشَيْءٍ} على الوحدان، ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين (3):

الأول: لئلا يوهم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشيء من كذا.

الثاني: معناه بشيء قليل من هذه الأشياء.

وقال الإمام الطبري: "وإنما قال تعالى ذكره: " بشيء من الخوف " ولم يقل بأشياء، لاختلاف أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا - وكانت " مِن " تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر " شيء "، فإنّ معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر " الشيء " في أوله، من إعادته مع كل نوع منها، ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن"(4).

قوله تعالى: {مِنَ الْخَوْفِ} [البقرة: 155]، أي:"وشيء من الخوف"(5).

قال ابن عطية: " يعني من الأعداء في الحروب"(6).

قال الطبري: يعني: من الخوف من العدو" (7).

قال ابن عثيمين: معناه: "الذُّعْر؛ وهو شامل للخوف العام، والخوف الخاص؛ الخوف العام: كأن تكون البلاد مهددة بعدو؛ والخوف الخاص: كأن يكون الإنسان يبتلى بنفسه بمن يخيفه ويروعه"(8).

قال ابن عباس: " {الخوف}: يعني: خوف العدو"(9).

قال الشافعي: "خوف العدو"(10).

قال النسفي: " خوف الله والعدو"(11).

قوله تعالى: {وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، أي:"وشيء من الجوع"" (12).

قال الطبري: "وهو القحط، يقول: وبسَنه تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم"(13).

وفي قوله تعالى: : {وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، وجهان:

أحدهما: أن المراد: الجوع بسبب يعني المجاعة والقحط. وهذا في قول ابن عباس (14).

والثاني: أنه الجوع في شهر رمضان. قاله الشافعي (15).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 228.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 228.

(3)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 137.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 220.

(5)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 230.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 227.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 220.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 79.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

(10)

انظر: تفسير الشافعي: 1/ 242، وتفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير البيضاوي: 1/ 114، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

(11)

تفسير النسفي: 1/ 137.

(12)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 230.

(13)

تفسير الطبري: 3/ 220.

(14)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

(15)

انظر: تفسير الشافعي: 1/ 242، وتفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير البيضاوي: 1/ 114، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

ص: 405

قال ابن عطية: أي: " الجدب والسنة، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعا"(1).

قال النسفي: أي: " أي القحط أو صوم شهر رمضان"(2).

و{الْجُوعِ} : "هو خلو البطن من الطعام مع شدة اشتهائه؛ وهو ضد «الشِّبع»؛ وله أسباب؛ السبب الأول: قلة الطعام؛ والسبب الثاني: قلة المال الذي يحصل به الطعام؛ والسبب الثالث: أن يصاب الإنسان بمرض يمنعه من الطعام إما لقلة الشهية؛ وإما للعجز عن استساغه لسدَدٍ في الحلق، أو قروح في المعدة، أو غير ذلك؛ والجوع لا يدرك أثره إلا من جربه؛ بل كل المصائب لا يدرك أثرها إلا من جربها؛ أما من لم يجرب فإنه لا يشعر بآثار المصائب؛ ولهذا قيل: وبضدها تتبين الأشياء"(3).

قوله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} [البقرة: 155]، أي: و"وذهاب بعض الأموال"(4).

قال الزجاج: أي"وشيء من تقص الأموال"(5).

قال ابن عطية: أي: " بالجوائح والمصائب"(6).

قال أبو السعود: أي: بـ" الزكاة والصدقات"(7).

قال ابن كثير: "أي "ذهاب بعضها" (8).

قال الثعلبي: " يعني الخسران والنقصان في المال، وهلاك المواشي"(9).

قال النسفي: " بموت المواشي أو الزكاة، وهو عطف على شيء، أو على الخوف أي وشيء من نقص الأموال"(10).

أخرج ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة: " {ونقص من الثمرات}، قال: حتى لا تحمل النخلة إلا ثمرة واحدة"(11).

وفي سبب نقص الأموال أقوال:

أحدها: أن ذلك بسبب الاشتغال بقتال الكفار (12).

الثاني: وقيل: بالجوائح المتلفة.

الثالث: بالزكاة المفروضة. قاله الشافعي (13).

و{الأموال} : "جمع (مال)؛ وهو كل ما يتموله الإنسان من نقود، ومتاع، وحيوان"(14).

قوله تعالى: {وَالأَنْفُسِ} [البقرة: 155]، أي:" وموت بعض الأحباب"(15).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 227.

(2)

تفسير النسفي: 1/! 37.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 178.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(5)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 230.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 227.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 180.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 467.

(9)

تفسير الثعلبي: 2/ 22.

(10)

تفسير النسفي: 1/ 138.

(11)

تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 264.

(12)

وذلك بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل، فهناك يحصل النقص في المال والنفس. فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى:{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (التوبة: 41) وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى: {ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله} (التوبة: 120). (مفاتيح الغيب: 4/ 137).

(13)

انظر: تفسير الشافعي: 1/ 242، وتفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير البيضاوي: 1/ 114، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 179.

(15)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

ص: 406

قال ابن عطية: اي: " بالموت والقتل"(1).

قال أبو السعود: أي بـ" الأمراض"(2).

قال الطبري: أي: "موتُ ذراريكم وأولادكم"(3).

قال النسفي: أي: " بالقتل والموت، أو بالمرض والشيب"(4).

وفي نقص الأنفس، ثلاثة أقوال:

أحدهما: يعني: بالقتل والموت في الجهاد. قاله ابن عباس (5).

الثاني: يعني بالأمراض. قاله الشافعي (6).

الثالث: وقيل: الشيب (7).

و{الأنفس} : "جمع (نفس)؛ والمراد: الأرواح، كالأمراض الفتاكة التي تهلك بها أمم، مثل الطاعون، وغيره"(8).

قوله تعالى: {وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، أي:" وضياع بعض الزروع والثمار"(9).

قال ابن عباس: "المراد: قلة النبات وانقطاع البركات"(10).

قال الطبري: " وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم "(11).

قال ابن عطية: أي: " بالعاهات ونزع البركة"(12).

قال الثعلبي: " يعني [الحوائج]، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج"(13).

قال ابن كثير: فـ"لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها، كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه الله ومن قنط أحل الله به عقابه"(14).

قال النسفي: أي: " ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة الفؤاد"(15).

و{الثمرات} : "جمع (ثمرة)؛ وهي "ما ينتج من أشجار النخيل، والأعناب، وغيرهما، بأن تأتي كوارث تنقص بها هذه الثمار، أو تتلف" (16).

وفي نقص {وَالثَّمَرَاتِ} ، قولان:

أحدهما: أنها نقص من ثمار الأشجار.

(1) المحرر الوجيز: 1/ 228.

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 180.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 220.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 138.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 174.

(6)

انظر: تفسير الشافعي: 1/ 242، وتفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير البيضاوي: 1/ 114، وتفسير القرطبي: 2/ 173.

(7)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 22.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 179.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(10)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 173.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 220.

(12)

المحرر الوجيز: 1/ 228.

(13)

تفسير الثعلبي: 2/ 22.

(14)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 467.

(15)

تفسير النسفي: 1/ 138.

(16)

تفسير القرطبي: 2/ 179.

ص: 407

قال القاسمي: " أي بأن لا نغلّ الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر، لا سيما في وقت نزول هذه الآيات. وهو أول زمان الهجرة"(1).

الثاني: أن"المراد موت الأولاد". قاله الشافعي (2)، وولد الرجل ثمرة قلبه (3).

والقول الثاني ضعيف، لأنه صرف عن ظاهر اللفظ، وقد اعترض عليه ابن كثير (4)، والله أعلم.

قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، " أي: وبشر الصابرين على المصائب والبلايا بجنات النعيم" (5).

قال سعيد بن جبير: " يعني: بشرهم بالجنة"(6).

قال الطبري: أي" يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به"(7).

قال الثعلبي: أي الصابرين"على البلايا والرزايا"(8).

قال القرطبي: أي "بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر"(9).

قال الزجاج: أي: " بالصلاة عليهم من ربهم والرحمة وبأنهم المهتدون"(10).

قال الزمخشري: " والخطاب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة"(11).

قال أبو حيان: " خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من تتأتى منه البشارة، أي على الجهاد بالنصر، أو على الطاعة بالجزاء، أو على المصائب بالثواب، أقوال: والأحسن عدم التقييد، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً، فهو مندرج في الصابرين"(12).

وأصل (التبشير): "إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه، لم يسبقه به إلى غيره"(13).

(1) محاسن التأويل: 1/ 442.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 22، وتفسير البيضاوي: 1/ 114، وتفسير القرطبي: 2/ 173. ولم أجد هذا التفسير في تفسير الشافعي: 1/ 242. وإنما قال: " {والثمرات}: الصدقات".

(3)

روي عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ أَلا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ قُلْتُ بَلَى فَقَالَ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ: " ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ " رواه الترمذي (942)، حسنه الألباني في السلسة الصحيحة (1408).

(4)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 467. قال ابن كثير: " وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا: خوف الله، وبالجوع: صيام رمضان، ونقص الأموال: الزكاة، والأنفس: الأمراض، والثمرات: الأولاد، وفي هذا نظر".

وقيل: "لأن هذا الابتلاء موعود به في المستقبل، مذكور قبل وقوعه توطنا عليه عند الوقوع، ولعله ما من بلية ذكرها إلا وقد تقدمت لهم قبل نزول الآية، إذ الخوف من اللَّه تعالى لم يزل مشحونا في قلوب المؤمنين، ويبعد أن يعبر عن الصدقة بالنقص وقد عبر عنها الشرع بالزكاة التي هي النمو ضد النقص وورد، " ما نقصت صدقة من مال". [صحيح مسلم (4/ 2001): باب استحباب العفو والتواضع، (2588)]، ويمكن أن يقال هي نقص حساً وإنما سميت زكاة باعتبار ما يؤول إليه حال القيام بها من النمو فالعوض المرجو من كرم اللَّه خلف فلما ذكرها اللَّه تعالى في سياق الابتلاء الموعود بها عبر عنها بالزكاة تسهيلا لاخراجها على المكلف لأنه إذا استشعر العوض من اللَّه تعالى ونمو ماله بذلك، هان عليه بذلها وسمحت نفسه لذلك. والله أعلم". [حاشية الكشاف: 1/ 207].

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1420): ً 1/ 264.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 221.

(8)

تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 173.

(10)

معاني القرآن: 1/ 231.

(11)

الكشاف: 1/ 207.

(12)

البحر المحيط: 1/ 450 - 451.

(13)

تفسير الطبري: 3/ 221.

ص: 408

ونرى بأن هذه المصائب الخمس (الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: (القسم، واللام، والنون)؛ والتقدير: واللَّهِ لنبلونكم؛ والفعل هنا مع نون التوكيد مبني على الفتح؛ و (نبلو) بمعنى نختبر.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: ابتلاء العباد بما ذكر الله من الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات، وهو لمن وقع به ظاهر؛ ولغيرهم يكون الابتلاء بالاعتبار، والخوف أن يقع بهم مثل ما وقع بالذين ابتلوا.

2 -

ومنها: أن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: صابر، وساخط؛ وقد جاء في الحديث:«من رضي فله الرضا؛ ومن سخط فله السخط» (1)؛ فالصبر على المصائب واجب؛ وقد ذكر العلماء أن للإنسان عند المصيبة أربعة مقامات:

المقام الأول: الصبر - وهو واجب.

المقام الثاني: الرضا - وهو سنة على القول الراجح؛ والفرق بينه، والصبر، أن الصابر يتجرع مرارة الصبر، ويشق عليه ما وقع؛ ولكنه يحبس نفسه عن السخط؛ وأما الراضي: فإن المصيبة باردة على قلبه لم يتجرع مرارة الصبر عليه؛ فهو أكمل حالاً من الصابر.

المقام الثالث: الشكر: بأن يشكر الله على المصيبة.

فإن قيل: كيف يشكره على المصيبة؟

فالجواب: أن ذلك من وجوه:

منها: أن ينسبها إلى ما هو أعظم منها؛ فينسب مصيبة الدنيا إلى مصيبة الدين؛ فتكون أهون؛ فيشكر الله أن لم يجعل المصيبة في الأشد.

ومنها: احتساب الأجر على المصيبة بأنه كلما عظم المصاب كثر الثواب؛ ولهذا ذكروا عن بعض العابدات أنها أصيبت بمصيبة، ولم يظهر عليها أثر الجزع؛ فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.

المقام الرابع: السخط - وهو محرم - بل من كبائر الذنوب؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (2).

3 -

ومن فوائد الآية: البشرى للصابرين.

القرآن

{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 156]

التفسير:

من صفة هؤلاء الصابرين أنهم إذا أصابهم شيء يكرهونه قالوا: إنَّا عبيد مملوكون لله، مدبَّرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت، ثم بالبعث للحساب والجزاء.

قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156]، "أي نزل بهم كرب أو بلاء أو مكروه"(3).

قال مقاتل: " يعني فيما ذكر من هذه الآية"(4).

قال الآلوسي: " إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها، كما

(1) أخرجه الترمذي ص 1892، كتاب الزهد، باب 56: ما جاء في الصبر على البلاء، حديث رقم 2396، وأخرجه ابن ماجة ص 2719، كتاب الفتن، باب 23: الصبر على البلاء، حديث رقم 4031، وفي الحديث سعد بن سنان مختلف فيه، قال الألباني في السلسلة الصحيحة:"سنده حسن" 1/ 299، حديث رقم 146.

(2)

أخرجه البخاري ص 101، كتاب الجنائز، باب 38: ليس منا من ضرب الخدود، حديث رقم 1297؛ وأخرجه مسلم ص 695، كتاب الإيما، باب 44: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب

، حديث رقم 285 [165]103.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 151.

ص: 409

في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة» (1) " (2).

قال البيضاوي: " الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لمن تتأتى منه البشارة"(3).

قال الراغب: " المصيبة: من: أصاب السهم، إذا بلغ على صواب، وهي في الأصل صفة، وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وتصور بها المقصد ووطن نفسه عليه"(4).

قال القرطبي: "و (المصيبة): كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة "بضم الصاد" مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل. والمصاب الإصابة، قال الشاعر (5):

أَظُلَيْمُ إن مُصَابَكم رَجُلا

أَهْدَى السّلامَ تحيَّةً ظُلْمُ

وصاب السهم القرطاس يصيب صيبا، لغة في أصابه (6)، والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر" (7).

قال أبو حيان: " و (المصيبة): كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى: مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه (8) "(9).

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا همٍ، ولا حزن، ولا أذىً، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه"(10)، والنصب التعب، والوصب: المرض، وقيل هو المرض اللازم (11).

وإن قيل: ولم قلت إن الأمر بالصبر يقتضي العلم، وما الصبر من العلم؟ قيل:"الصبر على الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبة، ولهذا قال الخضر لموسى لما علم أن ليس يرف مقصده في فعله قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 67 - 68]، فدل أن حقيقة تحمل الصبر لأبد له من معرفة المقصود به"(12).

قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا للَّهِ} [البقرة: 156]، أي: إنا لله" عبيدا وملكا"(13).

قال الصابوني: "أي استرجعوا وأقروا بأنهم عبيد الله يفعل بهم ما يشاء"(14).

(1) صحيح مسلم (926) /ص 2/ 638.

(2)

روح المعاني: 1/ 421.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(4)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 353.

(5)

البيت للحارث بن خالد المخومي كما في الأغاني: 9/ 229، والخزانة: 1/ 454، ونسبه ابن هشام في المغني: 697، للأعرجي، وهو في مجالس ثعلب: 224، وتفسير الطبري: 1/ 116، وأمالي ابن الشجري: 1/ 161، بدون نسبة، وجا عند بعظهم" أظليم، وعند بعضهم: أظلوم، بدل أسليم، وانظر: اللسان: (صوب).

(6)

انظر: الصحاح: (صوب).

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 175.

(8)

أخرجه: (الطبراني في الكبير رقم 7824).

(9)

البحر المحيط: 1/ 451.

(10)

خرجه البخاري في كتاب المرضى باب: ما جاء في كفارة المرض (الفتح 11/ 239 برقم 5641)، وأخرجه مسلم في كتاب البر واصلة والآداب: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (4/ 1990 برقم 2572).

(11)

فتح الباري (11/ 242 - 243).

(12)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 353 - 354.

(13)

تفسير الثعلبي: 2/ 23، وتفسير البغوي: 1/ 169.

(14)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

ص: 410

قال ابن عثيمين: أي قالوا: بقلوبهم، وألسنتهم إنا ملك لله يفعل بنا ما يشاء، " (1).

قال الزجاج: " أي نحن وأموالنا لله ونحن عبيده يصنع بنا ما شاء، وفي ذلك صلاح لنا وخير"(2).

قال أبو حيان: " معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور"(3).

قال أهل العلم: "إن إسناد الإصابة إلى المصيبة، لا إلى الله تعالى، ليعم ما كان من الله، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: {إِنَّا لِلَّهِ}، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى"(4).

وقد أمال نصير (النون) في قوله {إنا لله} ، فأمال قتيبة {النون واللام} جميعا، فخمها الباقون (5).

قوله تعالى: {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، أي:" وإنا إليه صائرون فنرجو ثوابه"(6).

قال الزجاج: " أي نحن مصدقون بأنا نبعث ونعطي الثواب على

تصديقنا، والصبر على ما ابتلانا به" (7).

قال الثعلبي: أي" {وإنا إليه راجعون} في الآخرة"(8).

قال ابن كثير: " أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة"(9).

قال أبو حيان: " إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له"(10).

قال البيضاوي: " وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل به وبالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه، ويستسلم له"(11).

قال أبو السعود: " وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق له وأنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه اضعاف ما استرده منه فيهون ذلك على نفسه ويستسلم"(12).

قال ابن عطية: " جعل هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة، وذلك توحيد الله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له"(13).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 179. [بتصرف بسيط].

(2)

معاني القرآن: 1/ 231.

(3)

البحر المحيط: 1/ 451.

(4)

البحر المحيط: 1/ 451 - 452.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 179. [بتصرف بسيط].

(7)

معاني القرآن: 1/ 231.

(8)

تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 467 - 468.

(10)

البحر المحيط: 1/ 451.

(11)

تفسير الييضاوي: 1/ 115.

(12)

تفسير أبو السعود: 1/ 180.

(13)

المحرر الوجيز: 1/ 228.

ص: 411

وقال سعيد بن جبير: " مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة: {الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة}، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف: 84] "(1).

قال أبو بكر الوراق: " {إنا لله}: اقرار منا له بالملك، {وإنا إليه راجعون}: في الآخرة، إقرار على أنفسنا بالهلاك"(2).

قال عليه السلام: " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلقاً يرضاه "(3).

وعن جويبر، عن الضحاك، قال:"كتب إليه رجل يسأله عن هذه الآية الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أخاصة هي؟ أو عامة؟ قال: هي لمن آمن بالتقوى وأدى الفرائض"(4).

قال الراغب: "وحقيقة الرجوع إليه تتبين في قوله- عز وجل {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فهو أدق معنى مما قدره من قال: (إنا راجعون) إلى أن لا يملك أمورنا غيره كما كنا في الابتداء، فجعل ذلك رجوعأ لهم"(5).

قال القرطبي: جعل الله تعالى هذه الكلمات: {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين: لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله:(إِنَّا لِلَّهِ) توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له" (6).

وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، أقوال (7):

أحدها: أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا. الثاني: أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه، {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني: للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء.

الثالث: راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب.

الرابع: أن معناه إقرار بالمملكة في قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} ، وإقرار بالهلكة في قوله:{وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

قال أبو حيان: " واشتملت الآية على فرض ونفل. فالفرض: التسليم لأمر الله، والرضا بقدره، والصبر على أداء فرائضه. والنفل: إظهاراً لقول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وفي إظهاره فوائد منها: غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله"(8).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن من سمة الصابرين تفويض أمرهم إلى الله بقلوبهم، وألسنتهم إذا أصابتهم المصائب؛ لقوله تعالى:{وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} .

2 -

ومنها: مشروعية هذا القول؛ وقد جاءت السنة بزيادة: «اللهم أْجُرني في مصيبتي» - أي أثبني عليها - «وأخلف لي» بقطع الهمزة - أي اجعل لي خلفاً «خيراً منها» (9) والدليل على هذا قصة أم سلمة رضي الله

(1) أخرجه الطبري (2331): ص 3/ 224.

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(3)

رواه الطبراني في الكبير وإسناده ضعيف: انظر: مجمع الزوائد: 2/ 331. وأخرجه الطبري والبيهقي في الشعب، فقال: خْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّرَائِفِيُّ، نَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ سورة البقرة آية 156، إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ لأَمْرِ اللَّهِ ، وَرَجَعَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلاثَ خِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: الصَّلاةَ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةَ، وَتَحْقِيقَ سَبِيلِ الْهُدَى، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ ". (شعب الإيمان: 9058).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1423): ص 1/ 265.

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 353 - 354.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 176.

(7)

انظر: البحر المحيط: 1/ 451.

(8)

البحر المحيط: 1/ 452.

(9)

أخرجه مسلم ص 822، كتاب الجنائز، باب 2: ما يقال عند المصيبة، حديث رقم 2126 [3]918.

ص: 412

عنها: كانت تحب زوجها ابن عمها أبا سلمة محبة شديدة؛ ولما مات - وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حدثها بهذا الحديث - قالت: «اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها» ؛ فكانت تفكر في نفسها، وتقول: من يصير خيراً من أبي سلمة! ! ! وهي مؤمنة في نفسها أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ لكن لا تدري من هو؛ وما كان يجول في فكرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون هو الخلف؛ فأخلف الله لها خيراً من زوجها؛ فإذا قالها الإنسان مؤمناً محتسباً أجرَه الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها (1).

القرآن

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 157]

التفسير:

أولئك الصابرون لهم ثناء من ربهم ورحمة عظيمة منه سبحانه، وأولئك هم المهتدون إلى الرشاد.

قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، " أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم ثناء وتمجيد ورحمة من الله"(2).

قال أبو العالية: " يقول: فالصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا"(3). وروي عن الربيع (4) مثل ذلك.

وعن سعيد بن جبير في قوله: " {ورحمة}، يعني: رحمة لهم وأمنة من العذاب"(5).

قال المراغي: أي "أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة"(6).

قال الثعلبي: " أي أهل هذه الصفة، {عليهم صلوات} "(7).

وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة (8).

قال ابن عطية: " وصلوات الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا، وهي من أعظم أجزاء الصلاة منه تعالى، وشهد لهم بالاهتداء"(9).

(1) وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} عند المصائب أحاديث كثيرة: وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، وعَبَّاد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام، حدثنا عباد بن زياد، عن أمه، عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد: قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن هشام بن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها [الحسين].

وقد رواه إسماعيل بن عُلَية، ويزيد بن هارون، عن هشام بن زياد عن أبيه، كذا عن، فاطمة، عن أبيها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان قال: دفنتُ ابنًا لي، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة - يعني الخولاني - فأخرجني، وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي؟ قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم. قال: فما قال؟ قال: حَمِدَك واسترجع، قال: ابنو له بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيتَ الحمد". ثم رواه عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك. فذكره (المسند (4/ 415) .. وهكذا رواه الترمذي عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، به. سنن الترمذي برقم (1021). وقال: حسن غريب. واسم أبي سنان: عيسى بن سنان.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1428): ص 1/ 266.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2330): ص 3/ 224.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1429): ص 1/ 266.

(6)

تفسير المراغي: 1/ 256.

(7)

تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(8)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 177.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 228.

ص: 413

قال القرطبي: " وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له"(1).

قال الطبري: " وصلوات الله على عباده، غُفرانه لعباده، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى" (2)، يعني: اغفر لَهم"(3).

قال البيضاوي: " الأصل [في الصلاة]: الدعاء، ومن الله تعالى التزكية والمغفرة، وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها. والمراد بالرحمة اللطف والإِحسان"(4).

قال الزجاج: " الصلاة في اللغة على ضرببن:

أحدهما الركوع والسجود.

والآخر: الرحمةوالثناء والدعاء.

فصلاة الناس على الميت إنما معناها الدعاء، والثناء على الله صلاة، والصلاة من الله عز وجل على أنبيائه وعباده معناها الرحمة لهم، والثناء عليهم" (5).

وقد اختلف في أصل (الصلاة)، على ثلاثة أقوال:

أحدهما: أنها: الدُّعاءُ، كما قال الأعشى (6):

لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا

وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا

يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا (7):

وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا

وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ

قال الطبري: " وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت " صلاة "، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ"(8).

الثاني: أنها من الرحمة. قاله أبو عبية (9)، واحتجّ بقول الأعشى (10):

تقولُ بنتي وقد قَرّبْتُ مُرْتَحِلًا

يا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأوصابَ والوجعا

عليكِ مِثْلُ الذي صلَّيتِ فاغتمضي

نومًا فإنّ لجنب المرء مضطجَعا

قال: عليك مثل دعائك، أي: ينالك من الخير مثل الذي أردت لي. فأبو عبيدة يجعل صليت بمعنى: ترحمت (11).

(1) تفسير القرطبي: 2/ 177.

(2)

رواه البخاري 3: 286 (من الفتح). ومسلم 1: 297، كلاهما من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى قال، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى ".قال الحافظ: " يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء. . . وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر ".

وهذه فائدة نفيسة، من الحافظ ابن حجر، رحمه الله.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 222.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(5)

معاني القرآن: 1/ 231.

(6)

ديوانه: 200، يذكر الخمر في دنها. وزمزم العلج من الفرس: إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم. وفعلهم ذلك هو الزمزمة. " ذبحت " أي بزلت وأزيل ختمها. وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة، فيخسر.

(7)

ديوان الأعشى: 29. وقوله " وقابلها الريح " أي جعلها قبالة مهب الريح، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها. ويروى: " فأقبلها الريح " وهو مثله. وارتسم الرجل: كبر ودعا وتعوذ، مخافة أن يجدها قد فسدت، فتبور تجارته.

(8)

تفسير الطبري: 1/ 243.

(9)

انظر: مجاز القرآن: 61 - 62.

(10)

ديوانه: 106، وانظر: الخزانة: 1/ 359، ومراتب النحويين:194.

(11)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 431.

ص: 414

والقولان الأول والثاني: قريبان من البعض، " لأن المترحم على الإنسان داعٍ له، والداعي للإنسان مترحّم عليه"(1).

والثالث: أنها: مأخوذة من: الصّلا، وهو عرق في وسط الظهر، ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صلوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صلواه" (2).

قال ابن عطية: " والقول إنها من الدعاء أحسن (3).

قال ابن عثيمين: "وجاءت بلفظ الإشارة {أُولئِكَ}، للبعيد للدلالة على علو مرتبتهم، ومنزلتهم"(4).

وقد تعددت عبارات المفسرين في قوله تعالى: {صَلَواتٌ} [البقرة: 157]، هاهنا، على أقوال:

أحدها: يعني مغفرة من ربهم. قاله ابن جبير (5)، ومقاتل (6)، وابن عباس (7).

ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] يعني "استغفر لهم إن استغفارك سكن لهم"(8).

الثاني: أنها الثناء. قاله ابن كيسان (9).

الثالث: أنها: الغفران والثناء الحسن. قاله الزجاج (10).

وأصح الأقوال فيها أن المراد بها الثناء عليهم في الملأ الأعلى؛ والمعنى أن الله يثني على هؤلاء في الملأ الأعلى رفعاً لذكرهم، وإعلاءً لشأنهم (11). والله أعلم.

وفي قوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وجهان:

أحدهما: ونعمة. قاله ابن عباس (12).

الثاني: أن الصلاة والرحمة معناهما واحد، وإنما ذكرهما لاختلاف اللفظين كقول الحطيئة (13):

ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد

والنأي: هو البعد بعينه.

وهذا قول ابن كيسان (14).

ومنه قول ذي الرمة (15):

لمياءُ في شفتيها حوَّة لَعَسٌ

وفي اللثات وفي أنيابها شَنَبُ

فاللعَس حُوَّة، فكرر لما اختلف اللفظان (16).

(1) التفسير البسيط: 3/ 431.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 85.

(3)

المحرر الوجيز: 1/ 85.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 182.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1426): ص 1/ 265.

(6)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 151.

(7)

انظر: البحر المحيط: 1/ 452.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 151. [بتصرف بسيط].

(9)

انظر: البحر المحيط: 1/ 452.

(10)

انظر: معاني القرآن: 1/ 231، والبحر المحيط: 1/ 452.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/! 82.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 23.

(13)

ديوانه: 39، والدرر: 221، اللسان (سند)، ونأي)، وبلا نسبة في المفصل: 1/ 10، وهمع الهوامع: 2/ 88، وانظر: تفسير الثعلبي: 2/ 23 - 24.

(14)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 23 - 24.

(15)

"ديوانه" ص 32، "لسان العرب" 4/ 2336 (شنب).

(16)

انظر: التفسير البسيط: 4/ 434.

ص: 415

ومثله قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]. فذكر السر والنجوى، لإشباع المعنى، والاتساع في اللفظ (1).

وكما قال: {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]، فعطف قوله:{وبينات} ، على {هدى} ، هو من عطف الخاص على العام؛ لأن (الهدى) منه خفي ومنه جلي، فنص بـ (البينات) على الجلي من الهدى؛ لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، فذكر عليه أشرف أنواعه، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة. قال السمين الحلبي معللاً الغرض من هذا العطف:"لأن الهدى يكون بالأشياء الخفية والجلية، والبينات من الأشياء الجلية"(2).

فيمكن القول بأن تكرار {لرحمة} في قوله تعالى: {صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، هو لما اختلف اللفظ، تأكيدا وإشباعا للمعنى، أي:"من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الثناء عليهم في الملأ الأعلى من الرحمة"(3).

والصلاة منّا: دعاء، ومن الله تعالى: رحمة، وأنشد الأزهري في تفسير هذه الآية قول الشاعر (4):

صلّى على يحيى وأشياعه

ربٌّ كريمٌ وشفيعٌ مُطاعْ

معناه: ترحم عليه على الدعاء، لا على الخبر (5).

قال ثعلب عن ابن الأعرابي: "الصلاة من الله رحمة، ومن المخلوقين: الملائكة والإنس والجن القيام والركوع والسجود والدعاء والتسبيح، ومن الطير والهوام: التسبيح، ومنه قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] "(6).

قال الواحدي: " فالصلاة لها معانٍ بالتدريج، أصلها: الدعاء، ثم صارت الرحمة، لما ذكرنا من أن الداعي مترحّم، ثم صارت للمغفرة؛ لأن الترحم يوجب المغفرة، ومن ترحم الله عليه غفر له"(7).

قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]، أي وأولئك" هم المهتدون إِلى طريق السعادة"(8).

قال سعيد بن جبير: " يعني: من المهتدين بالاسترجاع عند المصيبة"(9).

قال البيضاوي: مهتدون" للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى"(10).

قال الطبري: أي: أولئك الموصوفون بالصبر المذكور هم "المصيبون طريق الحقّ"(11).

قال ابن عثمين: " أي الذين اهتدوا إلى طريق الحق؛ فإن هذا الكلام الذي يقولونه مع الصبر هو الهداية"(12).

واختلف في قوله تعالى: : {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]، على وجوه (13):

(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 228، والتفسير البسيط: 3/ 433.

(2)

الدر المصون: 2/ 281.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(4)

البيت للسفاح بن بُكير بن معدان اليربوعي، في شرح اختيارات المفضل" ص 1362، في قصيدة رثى بها يحيى ابن شداد بن ثعلبة بن بشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقال أبو عبيدة: هي لرجل من بني قريع، رثى بها يحيى بن ميسرة صاحب مصعب بن الزبير وكان وفيا له حتى قتل معه. انظر: اللسن: (صلا)، وامعجم البلدان 8: 374. والخزانة: 1/ 140. وشرح المفضليات: 630 - 633. وفي رواية: "رب رحيم".

(5)

انظر: اللسان: (صلا)، والتفسير البسيط: 3/ 432.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 432.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 432.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 94.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1429): ص 1/ 266.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 223.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 182.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 24، والنكت والعيون: 1/ 210.

ص: 416

أحدها: أنهم المهتدون إلى الاسترجاع. وهذا قول سعيد بن جبير (1)، ومقاتل (2).

الثاني: وقيل: إلى الجنة والثواب.

الثالث: وقيل: إلى الحق والصواب.

الرابع: المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن (3).

الخامس: المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر (4).

وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: " نعم العدلان، ونعم العلاوة"(5).

قال ابن عطية: " أراد بالعدلين: الصلاة والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء"(6).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: بيان حكمة الله عز وجل فيما يبتلي به العباد.

2 -

ومنها: عظم ثواب الصبر؛ لقوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} .

3 -

ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل؛ وهي صفة حقيقية ثابتة لله؛ بها يرحم من يشاء من عباده؛ ومن آثارها حصول النعم، واندفاع النقم.

4 -

ومنها: الثناء على الصابرين بأنهم هم المهتدون الذين اهتدوا إلى ما فيه رضا الله وثوابه.

5 -

قال الشيخ السعدي: " ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر، وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب"(7).

القرآن

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158]

التفسير:

إن الصفا والمروة- وهما جبلان صغيران قرب الكعبة من جهة الشرق- من معالم دين الله الظاهرة التي تعبَّد الله عباده بالسعي بينهما. فمَن قصد الكعبة حاجًّا أو معتمرًا، فلا إثم عليه ولا حرج في أن يسعى بينهما، بل يجب عليه ذلك، ومن فعل الطاعات طواعية من نفسه مخلصًا بها لله تعالى، فإن الله تعالى شاكر يثيب على القليل بالكثير، عليم بأعمال عباده فلا يضعها، ولا يبخس أحدًا مثقال ذرة.

اختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال (8):

أحدها: قالت: عائشة-رضي الله عنها: "أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية"(9).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1429): ص 1/ 266.

(2)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 151.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 210.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1/ 210.

(5)

تفسير الثعلبي: 2/ 24، قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 228.

(7)

تفسير السعدي: 1/ 75.

(8)

انظر: أسباب النزول للواحدي: 44 - 47، والعجاب: 1/ 406 - 411.

(9)

أسباب النزول للواحدي: 44 - 45. وأخرجه البخاري (فتح الباري: 3/ 614 - ح: 1790 3/ 497 - ح: 1643) ومسلم (2/ 928 - ح: 260 2/ 929 - ح: 261، 2/ 930 - ح: 263) والإمام مالك (الموطأ: 257 - ح: 835 رواية يحيى الليثي) والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/ 78 - ح: 173، 18/ 79 - ح: 74) وأبو داود (2/ 453 - ح: 1901) والترمذي (5/ 208 - ح: 2965) والنسائي (جامع الأصول: 2/ 18) وابن ماجه (2/ 994 - ح: 2986) وابن جرير (2/ 29، 31) كلهم عن عائشة رضي الله عنها به.

ص: 417

الثاني: قال الشعبي: "أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى (إسافًا)، ووثنًا على المرْوة يسمى (نائلة)، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر، " فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما " (1).

وروي عن عامر (2)، ويزيد (3)، وأنس بن مالك (4)، وابن عمر (5)، ومجاهد (6)، وابن زيد (7)، نحو ذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته المشهورة:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم

بمفضى السيول من إساف ونائل (8)

الثالث: وقال قتادة: "قوله: {إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله}، الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما"(9).

وروي عن عائشة (10)، نحو ذلك.

الرابع: وقال مقاتل بن سليمان: " وذلك أن الخمس: وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قالوا: ليست الصفا والمروة من شعائر الله، وكان على الصفا صنم يقال له نائلة، وعلى المروة صنم يقال له يساف في الجاهلية. قالوا، إنه حرج علينا في الطواف بينهما، فكانوا لا يطوفون بينهما فأنزل الله- عز وجل {إن الصفا والمروة من شعائر الله} "(11).

الخامس: وقال ابن كثير: "قال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (12).

السادس: قال ابن عباس: " أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله: {فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما} "(13).

والصواب: "إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره، فأما قوله:{فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما} ، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين

(1) أخرجه الطبري (2335): ص 3/ 331.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2336): ص 3/ 231 - 232.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2337): ص 3/ 232.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2338)، و (2339): ص 3/ 232.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2340): ص 3/ 233.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2343)، و (2344): ص 3/ 235.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2345): ص 3/ 235.

(8)

السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص 4) ط، حميد الله، المغرب.

(9)

أخرجه الطبري (2349): ص 3/ 236، و (2352): ص 3/ 238.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2350)، و (2351): ص 3/ 236 - 237.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 152.

(12)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 470.

(13)

أخرجه الطبري (2342): ص 3/ 234، وتفسير القرطبي: 2/ 179، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 46، حكاه عن السدي.

ص: 418

اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة، وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره:{فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما} ، الآية، دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله:{فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما} " (1).

وروي عن حَبِيبة بنت أبي تجراة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول:"اسعَوا، فإن الله كتب عليكم السعي"(2).

وفي رواية أخرى عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول:"كتب عليكم السعي، فاسعوا"(3).

وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج (4)، لأنه عليه السلام طاف بينهما، وقال:"لتأخذوا عني مناسككم". فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج، إلا ما خرج بدليل، والله أعلم (5).

(1) تفسير الطبري: 3/ 239 - 240.

(2)

المسند (6/ 421).

(3)

المسند (6/ 437).

(4)

مع الاتفاق على مشروعية السعي للحج والعمرة إلا أن أهل العلم اختلفوا في حكمه، فقال مالك والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: هو ركن من أركان الحج لا ينوب عنه الدم، وقال أبو حنيفة: هو واجب ينوب عنه الدم، وقال أحمد في إحدى روايتيه: هو سنة لا يجب بتركه دم، والأول أظهر لقول عائشة-رضي الله عنها-عند البخاري-فتح-: 3/ 719 رقم: 1790، ومسلم: 2/ 928 - 929 رقم: 1277، واللفظ له:(فلعمري! ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)، وانظر: الذخيرة للقرافي: 3/ 213، نهاية المحتاج للرملي: 3/ 321، الإفصاح لابن هبيرة: 1/ 278، المغني لابن قدامة: 3/ 238، فتح القدير لابن الهمام: 2/ 467.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 471. قد فصّل الإمام الرازي في هذا الموضوع قائلا:

قوله تعالى: {لا جناح عليهن} أنه لا إثم عليه، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر، إذا عرفت هذا فنقول: مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن، ولا يقوم الدم مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن، ويقوم الدم مقامه، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه:

أحدها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا"، فإن قيل: هذا الحديث متروك الظاهر، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو، ذلك غير واجب قلنا: لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) والعدو فيه غير واجب، وقال الله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) وليس المراد منه العدو، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية، سلمنا أنه يدل على العدو، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة، فيبقى أصل المشي واجبا.

وثانيها: ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته، وقال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر، أما القرآن: فقوله تعالى: {واتبعوه} وقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى} (آل عمران: 31) وقوله: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21) وأما الخبر فقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" والأمر للوجوب.

وثالثها: أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركنا كطواف الزيارة، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين:

أحدهما: هذه الآية وهي قوله: {لا جناح عليهن * أن يطوف بهما} وهذا لا يقال في الواجبات.

ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {ومن تطوع خيرا} فبين أنه تطوع وليس بواجب.

وثانيهما: قوله: "الحج عرفة" ومن أدرك عرفة فقد تم حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، ترك العمل به في بعض الأشياء، فيبقى معمولا به في السعي والجواب عن الأول من وجوه:

الأول: ما بينا أن قوله: {فلا جناح عليه} ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى:{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم} (النساء: 101) والقصر عند أبي حنيفة واجب، مع أنه قال فيه:{فلا جناح عليه} فكذا ههنا.

الثاني: أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب، وإنما الثاني هو الواجب.

الثالث: قال ابن عباس: كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جناح عليك أن تصلي فيه، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة.

الرابع: روي عن عروة أنه قال لعائشة: إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما، فقالت: بئس ما قلت لو كان كذلك لقال: أن لا يطوف بهما، ثم حكى ما تقدم من الصنمين، وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين، فإن قالوا: قرأ ابن مسعود: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضا محتمل له كقوله: {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء: 176) أي أن لا تضلوا، وكقوله تعالى:{أن تقولوا يوم القيامة} (الأعراف: 172) معناه: أن لا تقولوا، قلنا: القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواترا.

الخامس: كما أن قوله: {فلا جناح عليه} لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب، ولا شك في أن السعي مندوب، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.

وأما التمسك بقوله: {فمن تطوع خيرا} فضعيف، لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولا، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر قال الله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} (البقرة: 184) ثم قال: {فمن تطوع خيرا فهو خير له} (البقرة: 184) فأوجب عليهم الطعام، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى: فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيرا، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفا إلى شيء آخر وهو من وجهين:

أحدهما: أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.

الثاني: أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول: ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم. (مفاتيح الغيب: 4/ 146 - 147).

ص: 419

قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أي إن الصفا والمروة من:" من أعلام دينه ومناسكه"(1).

قال البيضاوي: أي: "إن الصفا والمروة-وهما علما جبلين بمكة- من أعلام مناسكه"(2).

قال الطبري: أي أنهما: "من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها"(3).

قال المراغي: " أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعى بينهما هى أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما"(4).

قال أبو حيان: " وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله، بل ذلك على حذف مضاف، أي إن طواف الصفا والمروة"(5).

و(الصفا): "جمع (صَفاة)، وهي الصخرة الصلبة الملساء"(6)، ومنه قول الطرمَّاح (7):

أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا

يُؤَبِّسَ حَافِرٌ أَبَدًا صَفَاتِي

وقال امرؤ القيس (8):

(1) صفوة التفاسير: 1/ 96.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 226.

(4)

تفسير المراغي: 2/ 27.

(5)

البحر المحيط: 1/ 456.

(6)

تفسير الثعلبي: 2/ 24، وانظر: تفسير الطبري: 3/ 224.

(7)

ديوانه: 134، الطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول عباس بن مرداس:

إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لا أُؤَبِّسُهُ

أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ

السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه

وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

(8)

ديوانه: 164؛ ولسان العرب 9/ 21 (جحف)؛ وتاج العروس 23/ 67 (جحف)؛ وبلا نسبة في تهذيب اللغة 4/ 161؛ ومقاييس اللغة 1/ 428؛ ومجمل اللغة 1/ 406 مشوب (1/ 177).

ص: 420

لها كفل كصفا المسيل

أبرز عنها جحاف مضر

وقالوا إن (الصفا) واحد، وأنه يثنى (صَفَوان)، ويجمع (أصفاء) و (صُفِيًّا)، (وصِفِيًّا)، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز (1):

كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ

مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ

وقالوا: هو نظير: عَصَا وعُصِيّ وعِصِيّ، وأَعْصاء، ورَحَا ورُحِيّ وَرِحِيّ وأرْحاء (2).

وأما (المروة)، فإنها الحصاةُ الصغيرة، يجمع قليلها (مَرَوات)، وكثيرها (المرْو)، مثل (تمرة وتمَرات وتمر)، قال الأعشى ميمون بن قيس (3):

وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا

فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح

يعني بـ (المرو): الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي (4):

حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ

بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ

أي صخرة رخوة صغيرة (5).

وإنّ {الصفا والمروة} ، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه (6)، دون سائر الصفا والمرو، ولذلك أدخل فيهما:(الألف واللام)، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ (7).

قال البيضاوي: {شَعائِرِ} : "جمع شعيرة وهي العلامة"(8).

قال الثعلبي: "وكل كان معلما لقربان يتقرب به إلى الله عز وجل من دعاء وصلاة من ذبيحة وأداء فرض وغير ذلك فهو شعيرة"(9) ..

قال الواحدي: " شعائر الله: متعبداته التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا، وهي كلّ ما كان من مَشعر، أو موقف، أو مسعًى، أو منحر قال الزجاج: وإنما قيل شعائر لكل علم لما تعبد به، لأن قولهم شعرت به: علمته، فلهذا سميت الأعلام التي هي متعبدات شعائر"(10).

واختلف في أصل (الشعائر)(11) على أقوال (12):

(1) والجمهرة 3: 135، والمخصص 10: 90، ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2: 339، والقالي 2: 8، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه " متنيه " إلا ابن دريد فإنه أنشده:

كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ

مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ

والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى " متني " فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى " متنيه "، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري:" هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا ". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه " من طول إشراف " بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و " الطوي " البئر المطوية بالحجارة. (تفسير الطبري: 3/ 225).

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 224 - 225، وتفسير الثعلبي: 2/ 24.

(3)

ديوانه: 161، ورواية الديوان: وَتُولِّي الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا

وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا: دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل.

(4)

ديوانه: 3، والمفضليات: 587، من قصيدة البارعة في رثاء أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: " وإنما خص المشرق، لكثرة مرور الناس به ". ثم قال: " ورواها أبو عبيدة: " المشقر ": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد ".

(5)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 225 - 226، وتفسير الثعلبي: 2/ 24.

(6)

وهو الجبل الذي يبدأ منه المسلمون سعيهم للحج أو العمرة، وسمي بذلك لأن حجاره ملساء، أو لأنه لا يخالطها طين أو تراب، قال أبو حيان:(وهو الذي يدل عليه الاشتقاق). انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 24، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 179، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 172، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 454، الدر المصون للسمين: 1/ 414، معجم البلدان لياقوت: 3/ 411.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 226، وتفسير الثعلبي: 2/ 24 - 25.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(9)

تفسير الثعلبي: 2/ 25.

(10)

معاني القرآن: 1/ 223، وانظر:"البحر المحيط" 1/ 454.

(11)

في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤها وزادُها، حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك ليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله، عز وجل، فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله، عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم.

قال البخاري، رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب السخيتاني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة - يزيد أحدُهما على الآخر - عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أول ما اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل، عليهما السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، عليهما السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم، عليه السلام، منطلقًا. فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، قال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، عليهما السلام، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا؟ فلم تر أحدًا. ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُهُ، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعينًا".

قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة؛ فإن هاهنا بيتًا لله، عز وجل، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله، عز وجل، لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق كَدَاء. فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء. قالوا: نعم.

قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس. فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ، وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، عليهما السلام، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه. فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشَرّ، نحن في ضيق وشدة. وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، كأنه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسأل عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غَيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك. فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده. فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم. فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله، عز وجل. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حَب، ولو كان لهم، لدعا لهم فيه. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه". قال: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله، عز وجل، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك، عز وجل. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} " قال: "فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . [صحيح البخاري برقم (3364)]. ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني. وابن جرير، عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا. [تفسير ابن أبي حاتم (1/ 381)].

(12)

. انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 1/ 416 - 417، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 194، جامع البيان للطبري: 3/ 226 - 227، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 62، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 233، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 172 - 173، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 164، النكت والعيون للماوردي: 1/ 211، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 25 - 26، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 454، الدر المصون للسمين: 1/ 414

ص: 421

أحدها: أن أصلها من الإشعار، وهي الأعلام على الشيء. قاله الثعلبي (1).

ومنه: الشعائر بمعنى العلامة؛ ولهذا تسمى الهدايا: شعائر؛ لأنها تُشْعَر بحديدة في سنامها من جانبها الأيمن حتى يخرج الدم، قال الكميت (2):

نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ

شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ

الثاني: أنها جمع شعيرة؛ وهي التي تكون عَلَماً في الدين (3). وهذا قول الزجاج (4)، والأكثرين، وهو الأقرب.

الثالث: وقيل: جمع شعارة.

قال الرازي: إن (الشعائر)" هي أعلام طاعته وكل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله، قال الله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج: 36]، أي علامة للقربة، وقال: {ذالك ومن يعظم شعائر الله} [الحج: 32] وشعائر الحج: معالم نسكه ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام: وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله، ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام"(5).

قال الواحدي: يحتمل أن يكون (الشعائر) من الإعلام بالشيء" (6). وهذا قول مجاهد (7).

واعترض عليه الطبري، فقال:" وذلك تأويل من المفهوم بعيد، وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر، لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سورة النحل: 123] "(8).

وقال أهل العلم: أن الأحكام الشرعية قسمان (9):

أحدهما: نوع يسمى بالشعائر، وهى ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .

والثاني: ما لا يسمى بالشعائر، كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.

(1) تفسير الثعلبي: 2/ 25.

(2)

الهاشميات: 21، ومجاز القرآن: 1/ 146، واللسان (شعر)، وغيرهم. والضمير في قوله:" نقتلهم "، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل:

عَلامَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا

بغارتنا، بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ

وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا

وَتَحْوِيلهَا عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ

والجيل: الأمة، أو الصنف من الناس. وفي المطبوعة واللسان:" تراهم " بالتاء، وهو خطأ. والشعائر هنا جمع شعيرة: وهي البدنة المهداة إلى البيت، وسميت بذلك لأنه يؤثر فيها بالعلامات. وإشعار البدن: إدماؤها بطعن أو رمي أو حديدة حتى تدمي.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(4)

انظر: معاني القرآن: 1/ 233.

(5)

مفاتيح الغيب: 4/ 144.

(6)

انظر: "مجاز القرآن" 1/ 146، "تفسير الطبري" 2/ 44، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 233، "تهذيب اللغة" 2/ 1884 وما بعدها، "تفسير الثعلبي" 1/ 1284، "المفردات" ص 265، "تفسير البغوي" 1/ 172.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2332)، و (2333): ص 3/ 227.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 227.

(9)

انظر: تفسير المراغي: 2/ 27.

ص: 423

قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة: 158]، " أي من قصد بيت الله للحج أو العمرة"(1).

قال المراغي: " أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر"(2).

قال ابن عثيمنن: أي: فمن "قصده لأداء مناسك الحج؛ و (الْبَيْتَ) هو بيت الله؛ أي الكعبة"(3).

قال الطبري: أي"فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء"(4).

وكل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو (حَاجٌّ إليه)، ومنه قول الشاعر (5):

لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا

فقوله: (يحجون)، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج " حاجّ "، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ، فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له: " حاجٌّ (6).

واختلف في أصل (الحج)، على أقوال:

الأول: أن الحج في اللغة: كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. وهذا قول الطبري (7)، وكثير من أهل اللغه.

الثاني: أن أصل الحجّ: القصد، وكلّ من قصد شيئًا فقد حجّه. وهذا اختيار الزجاج (8)، والبيضاوي (9)، وغيرهما.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 96.

(2)

تفسير المراغي: 2/ 27.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(4)

تفسير الطبري: 3/ 228.

(5)

البيت لمخبل السعدي (شاعر مخضرم)، انظر: المعاني الكبير: 478، والاشتقاق لابن دريد: 77، 156، وتهذيب الألفاظ: 563، وإصلاح المنطق: 411، والبيان والتبيين 3: 97، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: 313، وللبطليوسي: 405، واللسان (سبب)(حجج)، (قهر)(زبرق)، والجمرة لابن دريد: 1: 31، 49/ 3: 434، وسمط اللآلي: 191، والخزانة 3:427.

وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم إلى أن " السب " هاهنا العمامة، وأن سادات العرب كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة وقطرب إلى أنه " السب " هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا، وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان، حتى نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنما هو عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده "(النقائض: 1048) قال أبو عبيدة في النقائض: " كان المخبل القريعي أهجى العرب. . . ثم كان بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل. هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير ". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء: 96 - 100)، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له:

يَا زِبْرِقَانُ أخَابَنِي خَلَفٍ

مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ

مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ

كالإسْكَتَينِ عَلاهُمَا البَظْرُ

وكل شعره في الزبرقان وأخته مقذع. وهذا البيت الذي استشهد به الطبري من قذعه. وقبل البيت:

أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أنَّنِي

تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لأَكْبَرَا

لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا

تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ

فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا

وفي سيرة ابن هشام 2: 275 - 276 قول عتبة بن ربيعة في أبي جهل: " سيعلم مصفراسته من انتفخ سحره، أنا أم هو! " فرماه بمثل ذلك من القبيح، الذي قاله المخبل السعدي. ومن زعم أن المخبل يقول إنه:" كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحج بنو عوف عصابته "، فقد أخطأ، وقد نقض عليه البيت الثالث ما زعم، فإنه يصفه بأنه تمنى السيادة، ولكن ذلك لم يزده إلا ذلا وقهرًا، فكيف يتأتى أن يقول ما زعم هذا أنه أراده؟ بل أراد المخبل أن يسخر به ويتهكم، كما فعل في سائر هجائه له.

وقوله: " وأشهد " منصوب، عطفًا على قوله:" لأكبرا ".

(6)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 229.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 229.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 234.

(9)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115.

ص: 424

ومنه قول الشاعر (1):

يحج مأمومة في قعرها لجف

قاست الطبيب قذاها كالمغاريد

وقال العجاج (2):

لقد سما ابن معمر حين اعتمر

مغزى بعيدا من بعيد وضبر

قوله: اعتمر، أي قصد.

الثالث: أن أصل الحج في اللغة: زيارة شيء تعظّمه. قاله الليث (3).

الرابع: أن الحج: الحلق، يقال: احجج شجتك، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة، فيكون المعنى: حج فلان أي حلق. قاله قطرب (4).

قال القفال: "وهذا محتمل لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أي حجاجا وعمارا، فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق"(5).

والقول الأول أولى بالصواب، وعليه الجمهور، لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى، وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه" (6).والله أعلم.

و(أو) في قوله: {أَوِ اعْتَمَرَ} ، للتنويع؛ لأن قاصد البيت إما أن يكون حاجاً؛ وإما أن يكون معتمراً" (7).

وقي أصل (العمرة)، في اللغة: أقوال:

أحدهما: أنها من القصد. قاله الزجاج (8).

قال الأزهري: "وقد يقال: الاعتمار القصد، وأنشد للعجاج (9):

لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ

غْزًى بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ

يعنى: حين قصد مغزًى بعيدًا " (10)

ومن ذلك قول أعشى باهلة (11):

(1) البيت لعذار بن درة الطائي، في اللسان:(حجج)، والجمهرة: 1/ 49، وفيها:"عياض-وسقال عذار"، وهو بلا نسبة في الحيوان: 3/ 425، والمثلث: 1/ 461، وشرح السقط: 1/ 9، ومقاييس اللغة: 1/ 23، والمخصص: 13: 182. والمغاريد: الصغار من الكمأة.

(2)

ديوانه "19" و "تفسير الطبري""2/ 27" وغيرهما. والشطران من قصيدة له في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، وقوله:"مغزى" أي غزوا وضبر: جمع قوائمة لثبت ثم وثب، وهو يصف بعده جيش عمر ابن عبيد الله وكان فتح الفتوح الكثيرة وعظم أمره في قتال الخوارج. هامش الطبري "3/ 229 لمحمود شاكر".

(3)

انظر: افتسير البسيط: 3/ 436.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 136.

(5)

مفاتيخ الغيب: 4/ 136.

(6)

مفاتيخ الغيب: 4/ 136.

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 81.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 234.

(9)

ديوانه: 19، تهذيب اللغة" 3/ 2566 (عمر)، "تفسير الثعلبي" 2/ 25، "القرطبي" 2/ 166، قوله: مغزى: أي غزوًا. ومعنى: ضبر الجواد: تهيأ للوثوب بقوائمه أو جمع قوائمه ليثب ثم وثب. ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 234.

(10)

تفسير الثعلبي: 2/ 25، وتهذيب اللغة" 3/ 2566 (عمر).

(11)

الأصمعيات: 88. وأمالي الشريف المرتضى 3: 100، الخزانة: 1: 89، والجمهرة: 3/ 140، والمرزباني: 14، واللسان: 6/ 16، ومعجم البلدان: 2/ 367، والبيت ضمن قصيدة من المراثي المعدودات، يرثي بها أعشى باهلة أخاه لأمه المنتشر بن وهب بن سلمة بن كراثة بن هلال بن عمرو بن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. وكان المنتشر رئيسًا. وكان من خبر مقتله ما رواه البغدادي في الخزانة عن جابر أخو بني فراص. وكان بنو نفيل عمرو بن كلاب أعداء له، فلما رأوا مخرجه وعورته وما يطلبه به بنو الحرث بن كعب – وطريقه عليهم، وكان من حج ذا الخلصة أهدى له هديا يتحرم به ممن لقيه – فلم يكن مع المنتشر هدى، فسار حتى إذا كان بهضب النباع انكسر له بعض غلمته الذين كانوا معه، فصعدوا في شعب من النباع فقالوا في غار فيه – وكان الأقيصر يتكهن – وأنذر بنو نفيل بالمنتشر بني الحرث بن كعب فقال الأقيصر: النجاء يا منتشر، فقد أتيت! فقال: لا أبرح حتى أبرد، فمضى الأقيصر وأقام المنتشر، وأتاه غلمته بسلاحه وأراد قتالهم فأمنوه، وكان قد أسر رجلا من بني الحرث بني كعب يقال له هند بن أسماء بن زنباع، فأسه أن يفدي نفسه فأبطأ عليه، فقطع أنملة، ثم أبطأ فقطع منه أخرى، وقد أمنه القوم ووضع سلاخه، فقال [أي هند بن أسماء]: أتؤمنون مقطعًا؟ والله لا أومنه! ثم قتل وقتل غلمته.

ص: 425

وجاشت النفس لما جاء جمعهم

وراكب جاء من تثليث معتمر

الثاني: أنها من الزيارة (1). وهو اختيار الطبري (2)، وبه قال البيضاوي (3).

وإنما قيل له: (معتمر)، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه، وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:(أو اعتمر)، أو اعتمرَ البيت (4).

قال القفال: "ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة، لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم ينصرف كالزائر"(5).

الثالث: أن: اعتمر: أي حل بمكة بعد الطواف والسعي، ففعل ما يفعل الحلال. قاله المفضل بن سلمة (6).

والراجح أن (العمرة) في اللغة: الزيارة؛ والمراد بها: زيارة البيت لأداء مناسك العمرة (7). والله أعلم.

قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، " أي: لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما" (8).

قال الطبري: أي: "فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما"(9).

قال المراغي: أي" فلا يتخوفنّ من الطواف بهما"(10).

و(الجناح) الإثم. قاله السدي (11).

وإنما نفى الإثم؛ لأنهم كانوا يتحرجون من الطواف بهما، "من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما"(12).

قال ابن عباس: " وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما"(13).

قال الرازي: وأما الجناح فهو من قولهم: جنح إلى كذا أي مال إليه، قال الله تعالى:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال: 61]، وجنحت السفينة، إذا لزمت الماء فلم تمض، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده، إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع: جوانح لاعوجاجها، وجناح الطائر من هذا، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل، ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضا فمعنى: لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، ومنهم من قال: بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به" (14).

قال البيضاوي: "والإِجماع على أنه [أي الصفا والمروة]، مشروع في الحج والعمرة"(15).

(1) انظر: المفرات: 350.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 229.

(3)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 137.

(5)

مفاتيح الغيب: 4/ 137.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 25.

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 184.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 330.

(10)

تفسير المراغي: 2/ 27.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2334): ص 3/ 231.

(12)

تفسير المراغي: 2/ 27.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2341): ص 3/ 233.

(14)

مفاتيح الغيب: 4/ 137.

(15)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

ص: 426

قال المراغي: " والسرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعى بينهما إما فرض كما هو رأى مالك (1) والشافعي (2) أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة (3)، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعى بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم"(4).

واختلف أهل العلم في وجوب طواف (الصفا والمروة)، على ثلاثة أقوال (5):

أحدها: أنه سنة، قاله احمد، وبه قال أنس وابن عباس (6)، عبدالله بن الزبير (7)، وعطاء (8)، ومجاهد (9)، وعاصم (10)، وأنس بن مالك (11) رضي الله عنهم (12).

وحجتهم: قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ} ، فإنه يفهم منه التخيير.

قال البيضاوي: " وهو ضعيف، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه"(13).

الثاني: أنه واجب، يجبر بالدم. وهذا مذهب أبي حنيفة (14)، والثوري (15).

الثالث: أنه ركن. وهذا قول مالك (16)، والشافعي (17) رحمهما الله (18).

واجتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"(19).

قال أبو حيان: " ومن ذهب إلى أنه ركن، أو واجب يجبر بالدم، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآن"(20).

والراجح: "أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما"(21). والله أعلم.

(1) انظر: لفظ مالك في الموطأ: 374 - 375، وتفسير الطبري (2353): ص 3/ 241.

(2)

انظر لفظ الشافعي في الأم 2: 178، وانظر: تفسير الطبري (2354): ص 3/ 241.

(3)

وفي بعض روايات أبي حنيفة: "إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين". [انظر: البحر المحيط: 1/ 457].

(4)

تفسير المراغي: 2/ 28.

(5)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2357): ص 3/ 2410242.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2362): ص 3/ 242.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2356): ص 3/ 241.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2360)، و (2361): ص 3/ 242.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2358): ص 3/ 242.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2359): ص 3/ 242.

(12)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115، والبحر المحيط: 1/ 457.

(13)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(14)

وفي بعض روايات أبي حنيفة: "إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين". [انظر: البحر المحيط: 1/ 457].

(15)

انظر: تفسير الطبري (2355): ص 3/ 241، وتفسير البيضاوي: 1/ 115، والبحر المحيط: 1/ 457.

(16)

انظر: لفظ مالك في الموطأ: 374 - 375، وتفسير الطبري (2353): ص 3/ 241.

(17)

انظر لفظ الشافعي في الأم 2: 178، وانظر: تفسير الطبري (2354): ص 3/ 241.

(18)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115، والبحر المحيط: 1/ 457.

(19)

أخرجه أحمد 6/ 421 – 422، حديث رقم 27911، وأخرجه ابن خزيمة 4/ 232 – 233، حديث رقم 2764، 2765، وأخرجه الشافعي في مسنده 1/ 351 – 352، حديث رقم 907، وقال الألباني الحديث "صحيح" (الإرواء: 4/ 269 – 270).

(20)

البحر المحيط: 1/ 457.

(21)

تفسير الطبري: 3/ 243. ومن تلك الأخبار:

- روي عن جابر أنه قال: "لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال: "{إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله} ، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه". [تفسير الطبري (2365): ص 3/ 243].

- عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله "، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى". [تفسير الطبري (2366): ص 3/ 243].

ص: 427

وفي قوله تعالى: {أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وجهان من القراءة (1):

أحدهما: {أن يطوّف} . قراءة الجمهور.

والثاني: {أن لا يطوّف} ، قرأ بها أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة (لا)، نحو:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا} ؟ أي: "ما منعك أن تسجد"(2).

قال أبو عبيدة: " والعرب تضع (لا) فى موضع الإيجاب، وهى من حروف الزوائد، قال أبو النجم (3):

فما ألوم البيض ألّا تسخرا

ممّا رأين الشمط القفندرا

أي: ما ألوم البيض أن يسخرن، القفندر: القبيح السّمج، وقال الأحوص (4):

ويلحيننى فى اللهو ألّا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل

أراد: فى اللهو أن أحبه، قال العجاج (5):

فى بئر لا حور سرى وما شعر

الحور: الهلكة، وقوله لا حور: أي فى بئر حور، و «لا» فى هذا الموضع فضل" (6).

قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158]، " أي: ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب" (7).

قال الصابوني: "أي: من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نقلاً"(8).

قال مقاتل: أي: " ومن تطوع خيرا بعد الفريضة فزاد في الطواف"(9).

قال البيضاوي: " أي فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة"(10).

قال أبو السعود: " أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف"(11).

قال أبو حيان: " التطوّع: ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك"(12).

وقد تعددت آراء العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158]، على وجوه (13):

أحدها: قيل: بالنفل على واجب الطواف، قاله مجاهد (14).

(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 455 - 456.

(2)

مجاز القرآن: 1/ 211.

(3)

البيت فى الكتاب: 2/ 32 والطبري 1/ 61 والجمهرة 3/ 334 والزجاج 1/ 107 ب والقرطبي 2/ 182 والصحاح واللسان والتاج (قفندر) والخزانة 1/ 48. وأبو النجم: اسمه الفضل بن قدامة بن عبد الله، عجلى من بنى عجل بن لجيم، أخباره فى الأغانى 9/ 73، وله ترجمة فى الخزانة 1/ 49.

(4)

انظر: الكامل مع آخر قبله: 49، وتفسير القرطبي 1/ 62، ونقله أبو على الفارسي فى الحجة: 1/ 110 من إنشاد أبى عبيدة.

(5)

ديوانه 16 - وتفسير الطبري 1/ 61، والجمهرة 2/ 146، واللسان والتاج (صور)، والخزانة 2/ 95 ..

(6)

مجاز القرآن: 1/ 211.

(7)

تفسير المراغي: 2/ 28.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 152.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(11)

تفسير أبي السعود: 1/ 181.

(12)

البحر المحيط: 1/ 457.

(13)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 472. ومفاتيح الغيب: 4/ 139.

(14)

انظر: البحر المحيط: 1/ 457.

ص: 428

الثاني: وقيل بالعمرة. قاله ابن زيد (1).

الثالث: وقيل: بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه (2).

الرابع: وقيل: بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول من أسقط وجوب السعي، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، حمل هذا على الطواف بهما، كأنه قيل: ومن تبرع بالطواف بينهما (3).

الخامس: بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة (4).

السادس: وقيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات. قاله الحسن (5).

والقول الأخير أولى بالصواب، لأنه أوفق لعموم اللفظ. والله تعالى أعلم.

قال الشيخ ابن عثيمين: " وتخصيص التطوع بالمستحب اصطلاح فقهي؛ أما في الشرع فإنه يشمل الواجب، والمستحب"(6).

وفي قوله تعالى: {تَطَوَّعَ} [البقرة: 158]، وجهان من القراءة (7):

أحدهما: {يطوع} بالياء وجزم العين، قرأ بها حمزة والكسائي ويعقوب، وتقديره: يتطوع، إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما، مثل يطوف (8).

قال الرازي: "وهذا أحسن، لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن"(9).

والثاني: {تطوع} ، قرأ بها الباقون، على وزن (تفعل)، ماضيا.

وعلى هذه القراءة فإن قوله {تطوع} ، يحتمل أمرين (10):

أحدهما: أن يكون موضع (تطوع) جزما.

الثاني: أن لا يجعل (من) للجزاء، ولكن يكون بمنزلة (الذي) ويكون مبتدأ و (الفاء) مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر، إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة، أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله:{وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53]، فـ (ما) مبتدأ موصول، و (الفاء) مع ما بعدها خبر له (11).

قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، أي: إن الله"مثيب على الطاعة، لا تخفى عليه"(12).

قال الصابوني: "أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين"(13).

(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 457.

(2)

انظر: البحر المحيط: 1/ 457.

(3)

انظر: البحر المحيط: 1/ 457.

(4)

انظر: البحر المحيط: 1/ 457.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 457، ومفاتيح الغيب: 4/ 139.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 82.

(7)

انظر: السبعة في القراءات: 1/ 172، والحجة: 2/ 248.

(8)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(9)

مفاتيح الغيب: 4/ 138.

(10)

انظر: الحجة للقراءة السبعة: 2/ 245.

(11)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 138.، ومنه قوله تعالى: {والذين ينفقون أموالهم} [النساء: 38] إلى قوله: {فلهم أجرهم} [البقرة: 274]، وقوله: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [البروج: 10]، إلى قوله: {فلهم عذاب جهنم}، وقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} وقوله: {ومن كفر فأمتعه قليلا}، وقوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، وقوله: {ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. [انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 138 - 139].

(12)

تفسير البيضاوي: 1/ 115.

(13)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

ص: 429

قال ابن كثير: أي: "يثيب على القليل بالكثير (عَلِيمٌ) بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] "(1).

قال ابن عثيمين: "أي: فالله يشكر؛ وشكره تعالى أنه يثيب العامل أكثر من عمله؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله {عَلِيمٌ}، أي ذو علم؛ وعلمه تعالى محيط بكل شيء؛ لقوله تعالى: {وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] "(2).

قال أبو السعود: " أي مجاز على الطاعة عبر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان إلى العباد، {عليم} مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا"(3).

قال المراغي: أي: " فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء، وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر - تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه"(4).

قال الرازي: أي: "أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى: {عليم} تعلق بشاكر، ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك"(5).

روي عن قتادة. قوله: {شاكر عليم} ، قال: إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا" (6).

وعنه كذلك: " لا شيء أشكر من الله، ولا أجزأ لخير من الله عز وجل"(7).

وقرن (العلم) بـ (الشكر)، لاطمئنان العبد إلى أن عمله لن يضيع فإنه معلوم عند الله، ولا يمكن أن يضيع منه شيء؛ يعني: إذا عَلم العامل أن الله تعالى شاكر، وأنه عليم، فإنه سيطمئن غاية الطمأنينة إلى أن الله سبحانه وتعالى سيجزيه على عمله بما وعده به، ويعطيه أكثر من عمله (8).

قال أبو حيان: " وشكر الله العبد بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء. وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل. وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن، لأن التطوّع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم، وإن كانت متقدمة، على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي"(9).

وفي إعراب قوله تعالى: {خيراً} [البقرة: 158]، وجهان (10):

الوجه الأول: أن تكون منصوبة بنزع الخافض؛ والتقدير: ومن تطوع بخير فإن الله شاكر عليم.

والوجه الثاني: أن تكون مفعولاً لأجله - أي ومن تطوع لأجل الخير، وطلبه فإن الله شاكر عليم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: مشروعية الطواف بين الصفا، والمروة؛ ويؤخذ ذلك من كونه من شعائر الله؛ وهل هو ركن، أو واجب، أو سنة؟ اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال ثلاثة؛ فقال بعضهم: إنه ركن من أركان الحج

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 472.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 82 [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير أبي السعود: 1/ 181.

(4)

تفسير المراغي: 2/ 28.

(5)

مفاتيح الغيب: 4/ 148.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1437): ص 1/ 268.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1438): ص 1/ 268.

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 82

(9)

البحر المحيط: 1/ 458.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 82.

ص: 430

لا يتم الحج إلا به؛ وقال بعضهم: إنه واجب من واجبات الحج يجبر بدم، ويصح الحج بدونه؛ وقال آخرون: إنه سنة، وليس بواجب.

والقول بأنه سنة ضعيف جداً؛ لأن قوله تعالى: {من شعائر الله} يدل على أنه أمر مهم؛ لأن الشعيرة ليست هي السنة فقط؛ الشعيرة هي طاعة عظيمة لها شأن كبير في الدين.

بقي أن يكون متردداً بين الركن، والواجب؛ والأظهر أنه ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» (1)؛ وقالت عائشة: «والله! ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة» (2).

فالأقرب أنه ركن؛ وليس بواجب؛ وإن كان الموفق رحمه الله وهو من مشائخ مذهب الإمام أحمد - اختار أنه واجب يجبر بدم.

2 -

من فوائد الآية: دفع ما توهمه بعض الصحابة من الإثم بالطواف بالصفا، والمروة؛ لقوله تعالى:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ؛ وعلى هذا فلا ينافي أن يكون الطواف بينهما ركناً من أركان الحج، أو واجباً من واجباته، أو مشروعاً من مشروعاته؛ وذلك أن أناساً من الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية المذكورة في القرآن؛ وهي في المشلّل - مكان قرب مكة - فكانوا يتحرجون من الطواف بالصفا والمروة وقد أهلوا لمناة؛ فلما جاء الإسلام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ؛ فعلى هذا يكون النفي هنا لدفع ما وقع في نفوسهم من التحرج؛ لأنها من شعائر الله؛ وليس لبيان أصل الحكم.

وفيه سبب آخر لتحرج الناس من الطواف بهما: وهو أنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فكانوا يطوفون بهما كما كانوا يطوفون بالبيت أيضاً، فذكر الله عز وجل الطواف بالبيت، ولم يذكر الطواف بالصفا، والمروة؛ فقالوا: لو كان ذلك جائزاً لذكره الله عز وجل، فهذا دليل على أنه ليس بمشروع؛ لأنه من أعمال الجاهلية؛ فلا نطوف؛ فأنزل الله هذه الآية.

وفيه أيضاً سبب ثالث؛ وهو أنه يقال: إنه كان فيهما صنمان: إساف، ونائلة؛ وقيل: إنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في جوف الكعبة؛ فمسخهما الله سبحانه وتعالى حجارة؛ فكان من جهل العرب أن قالوا: «هذان مسخا حجارة؛ إذاً لا بد أن هناك سراً، وسبباً، فاخرجوا بهما عن الكعبة، واجعلوهما على الجبلين - الصفا، والمروة نطوف بهما، ونتمسح بهما» ؛ وقد كان؛ وعلى هذا يقول أبو طالب:

وحيث يُنيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إسافٍ ونائل و «مفضى السيول» مجرى الوادي المعروف الذي بين الصفا، والمروة؛ فالحاصل أن هذه ثلاثة أسباب في نزول الآية؛ وأظهرها السبب الأول؛ على أنه لا مانع من تعدد الأسباب.

3 -

ومن فوائد الآية: أن الطواف بالصفا والمروة من طاعة الله؛ لقوله تعالى: {ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} .

4 -

ومنها: أن الطاعة خير؛ لقوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} ؛ ولا ريب أن طاعة الله سبحانه وتعالى خير للإنسان في حاله ومآله.

5 -

ومنها: إثبات اسم «الشاكر» لله؛ لقوله تعالى: {شاكر} .

6 -

ومنها: إثبات «العليم» اسماً لله؛ لقوله تعالى: {شاكر عليم} .

(1) أخرجه أحمد 6/ 421 – 422، حديث رقم 27911، وأخرجه ابن خزيمة 4/ 232 – 233، حديث رقم 2764، 2765، وأخرجه الشافعي في مسنده 1/ 351 – 352، حديث رقم 907، وقال الألباني الحديث "صحيح" (الإرواء: 4/ 269 – 270).

(2)

أخرجه البخاري ص 140، كتاب العمرة، باب 10: يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج حديث رقم 1790، وأخرجه مسلم ص 899، كتاب الحج، باب 43: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن

، حديث رقم 3079 [259]1277.

ص: 431

7 -

ومنها: إثبات صفة الشكر، والعلم؛ لقوله تعالى:{شاكر عليم} ؛ لأنهما اسمان دالان على الصفة؛ وعلى الحكم إن كان متعدياً، فقوله تعالى:{عليم} يدل على العلم - وهذه هي الصفة؛ ويدل على الحكم بأنه يعلم كل شيء.

القرآن

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]

التفسير:

إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل، أولئك يطردهم الله من رحمته، ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.

اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية على قولين:

أحدهما: قال مقاتل: " وذلك أن معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وحارثة بن زيد، سألوا اليهود عن أمر محمد- صلى الله عليه وسلم وعن الرجم وغيره فكتموهم يعني اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وابن صوريا، ما أنزلنا من البينات يعني ما بين الله- عز وجل في التوراة يعني الرجم والحلال والحرام والهدى يعني أمر محمد- صلى الله عليه وسلم في التوراة فكتموه الناس"(1).

وذكره الماوردي، فزاد:" فيهم كعب بن أسيد وزيد بن التابوت"(2).

وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: "سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم: {إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون} "(3).

وروي عن مجاهد (4)، والربيع (5)، وقتادة (6)، والسدي (7)، وأبو العالية (8)، نحو ذلك. وهو قول الجمهور.

الثاني: وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم:"من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار"(9).

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]،

قال الصابوني: " يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم"(10).

قال المراغي: " أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عليه وسلم"(11).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 152.

(2)

النكت والعيون: 1/ 214، وانظر: العجاب: 1/ 412.

(3)

تفسير الطبري (2370): ص 3/ 249 - 250، وانظر: العجاب: 1/ 412.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2371): ص 3/ 250.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2372)، و (2373): ص 3/ 250.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2374): ص 3/ 251.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2375): ص 3/ 251.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1441): ص 1/ 268، وتفسير ابن كثير: 1/ 472.

(9)

المسند (2/ 263) وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف"(1/ 252 - 257) في ذكر طرق هذا الحديث.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(11)

تفسير المراغي: 2/ 30.

ص: 432

قال ابن عطية: أي" أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير"(1).

قال الزجاج: " هذا إخبار عن علماء إليهود الذين كتموا ما علموه من صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم"(2).

قال البيضاوي: " {الْبَيِّناتِ}: كالآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم، {وَالْهُدى}: وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإِيمان به"(3).

قال ابن عثيمين: " {الْهُدَى}: "العلم النافع الذي يهتدي به الخلق إلى الله عز وجل" (4).

قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159]، "أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية"(5).

قال البيضاوي: أي: من بعد ما" لخصناه في في التوراة"(6).

قال الزمخشري: أي: " لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس"(7).

قال ابن عثيمين: " أي من بعد أن أظهرناه للناس عموماً المؤمن، والكافر؛ فإن الله تعالى بين الحق لعموم الناس، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]؛ فكل الناس قد بين الله لهم الحق؛ لكن منهم من اهتدى؛ ومنهم من بقي على ضلاله"(8).

واختلف في والمراد بـ {الْكِتَابِ} [البقرة: 159]، على قولين:

أحدهما: يعني به القرآن. قاله الزجاج (9).

الثاني: أنه التوراة والإنجيل، بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية". وهذا قول ابن عطية (10).

قال ابن عثيمين: " فما من نبي أرسله الله إلا ومعه كتاب، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25]، وكما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] "(11).

وفي كتمان أهل الكتاب بعض ما في كتبهم، وجهان (12):

أحدهما: إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه، كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته مع وجودها في كتبهم.

الثاني: وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم.

قال المراغي: "وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات الإيضاح"(13).

وقرأ طلحة بن صرف: {من بعد ما بينه} ، على الإفراد (14).

(1) المحرر الوجزي: 1/ 231.

(2)

معاني القرآن: 1/ 235.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 189.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(7)

الكشاف: 1/ 209.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 83.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 235.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 231.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 83.

(12)

انظر: تفسير المراغي: 2/ 30.

(13)

تفسير المراغي: 2/ 30.

(14)

المحرر الوجي: 1/ 231.

ص: 433

قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 159]، أي:"أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته"(1).

قال السعدي: أي: "يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته"(2).

قال ابن عثيمين: أي: " يطردهم ويبعدهم عن رحمته"(3).

قال الطبري: أي"

قال أبو السعود: " أي يطردهم ويبعدهم من رحمته"(4).

قال الصابوني: "أي: أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته"(5).

قال القرطبي: "أي: يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للّعين: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78] "(6).

وأصل (اللعن) في اللغة الإبعاد والطرد، كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورَد عليه (7):

ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ

مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ

يعني: مقامَ الذئب الطريد. و (اللعين) من نعت (الذئب)، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل (8).

وقال النابغة (9):

فبت كانني خرج لعين

نفاه الناس أو أدنف طعين

قال الثعلبي: " فمعنى قولنا: لعنه الله: أي طرده وأبعده وأصل اللعنة ما ذكرنا ثم كثر ذلك حتى صار قولا"(10).

قوله تعالى (وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [القرة: 159]، أي: " ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم" (11).

قال الطبري والثعلبي: " أي: يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم"(12).

قال أبو السعود: " أي الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين والمراد بيان دوام اللعن واستمراره"(13).

قال ابن عثيمين: " أي يسألون لهم اللعنة؛ وهم أيضاً بأنفسهم يبغضونهم، ويعادونهم، ويبتعدون عنهم"(14).

قال الصابوني: أي: " وتلعنهم الملائكة والمؤمنون"(15).

قال المراغي: أي: " ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين"(16).

قال البيضاوي: " أي: الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين"(17).

قال السعدي: أي: "يسألون لهم اللعنة؛ وهم أيضاً بأنفسهم يبغضونهم، ويعادونهم، ويبتعدون عنهم، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها فهذا عليه هذا الوعيد الشديد"(18).

واختلفوا في هؤلاء اللاعنين على أقوال (19):

أحدها: أنهم كل شيء في الأرض من حيوان وجماد إلا الثقلين الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس (20)، والضحاك (21)، والبراء بن عازب (22)، ومقاتل بن سليمان (23).

والثاني: اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت اللعنة على اليهود، وهذا قول ابن مسعود (24).

والثالث: أنهم البهائم، إذا يبست الأرض قالت البهائم هذا من أجل عُصاةِ بني آدم، وهذا قول مجاهد (25)، وعكرمة (26).

الرابع: أنهم: كل دابة والجن والإنس. قاله عطاء (27).

الخامس: أنهم عباد الله أجمعون. قاله الحسن (28).

السادس: أنهم المؤمنون من الإنس والجن، والملائكة يَلعنون مَنْ كَفَر بالله واليوم الآخر، وهذا قول قتادة (29)، والربيع بن أنس (30)، وأي العالية (31)، واختاره ابن عطية (32)، والزجاج (33)، وآخرون.

قال ابن عطية: " وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام

[وأما الأقوال الأخرى]، فلا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر" (34).

(1) تفسير الطبري: 3/ 254.

(2)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 190.

(4)

تفسير أبي السعود: 1/ 182.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 186.

(7)

ديوانه: 92، ومجاز القرآن 461، وروايته في ديوانه، " مقام الذئب " والضمير في " به " إلى " ماء " في قوله قبله: وماء قد وردت لوصل أروى

عليه الطير كالورق اللجين

وأراد في البيت: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. والرجل اللعين المطرود لا يزال منتبذا عن الناس، شبه الذئب به، يعني في ذله وشدة مخافته وذعره.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 254، وتفسير الثعلبي: 2/ 29.

(9)

البيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 2/ 29.

(10)

تفسير الثعلبي: 2/ 29.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 254.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 254، وتفسير الثعلبي: 2/ 30.

(13)

تفسير أبي السعود: 1/ 182.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 190.

(15)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(16)

تفسير المراغي: 2/ 30.

(17)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(18)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(19)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 254 وما بعدها، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 235، وتفسير الثعلبي: 2/ 30، والنكت والعيون: 1/ 215، والمحرر الوجيز: 1/ 231.

(20)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 30، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 235، والنكت والعيون: 1/ 215.

(21)

انظر: تفسير الطبري (2389): ص 3/ 257.

(22)

انظر: تفسير الطبري (2388): ص 3/ 257.

(23)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 153.

(24)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 30، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 235، والنكت والعيون: 1/ 215، والمحرر الوجيز: 1/ 231.

(25)

انظر: تفسير الطبري (2378)، و (2379)، و (2380)، و (2381)، و (2383)، و (2384): ص 3/ 254 - 255.

(26)

انظر: تفسير الطبري (2382): ص 3/ 255.

(27)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1449): ص 1/ 270.

(28)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 30.

(29)

انظر: تفسير الطبري (2385)، و (2386): ص 3/ 256 - 257.

(30)

انظر: تفسير الطبري (2387): ص 3/ 257.

(31)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1445): ص 1/ 269.

(32)

المحرر الوجيز: 1/ 231. [بتصرف بسيط].

(33)

نقله عنه الاختيار، القرطبي، ولم نقف عليه، انظر: تفسير القرطبي: 2/ 186.

(34)

المحرر الوجيز: 1/ 231. [بتصرف بسيط].

ص: 434

وقد اعترض القرطبي على القول الأخير، لكونه يخالف ما جاء في الحديث، في قوله تعالى:{يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} ، قال-عليه السلام:"دواب الأرض"(1).

قال القرطبي: " فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟ قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ولم يقل ساجدات، وقد قال: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]، وقال: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 198]، ومثله كثير"(2).

والصواب أن (اللاعنون)، هم: الملائكةُ والمؤمنون، "لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم " اللاعنون "، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر"(3). والله أعلم.

وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار"(4).

والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: "لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية"(5).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن كتم العلم من كبائر الذنوب؛ يؤخذ من ترتيب اللعنة على فاعله؛ والذي يرتب عليه اللعنة لا شك أنه من كبائر الذنوب.

قال الحافظ ابن حجر: إن"هذه الآية تحرض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب (6)، لكن العبرة بعموم اللفظ"(7).

(1) هذا قطعة من حديث طويل رواه أبو داود في السنن برقم (4753، 4754) والنسائي في السنن (4/ 78) من طريق زاذان به، وسيأتي ذكره عند قوله تعالى:(يثبت الله الذين آمنوا) في تفسير سورة إبراهيم.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 187.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 257 - 258.

(4)

المسند (2/ 263) وقد توسع الحافظ الزيلعي في كتابه "تخريج أحاديث الكشاف"(1/ 252 - 257) في ذكر طرق هذا الحديث.

(5)

صحيح البخاري برقم (118) وصحيح مسلم برقم (2492).

(6)

أخرج ابن جرير في جامع البيان: 3/ 249 رقم: 2370، وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام: 2/ 143، وابن أبي حاتم-تحقيق الطيب-: 1/ 268 رقم: 1439، وابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي: 1/ 295 عن ابن عباس بإسناد حسن قال: (سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفراً من أحبار يهود-قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بعض ما في التوراة-فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة: 159]-إلى قوله-: {اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. وقال الواحدي في أسباب النزول-تحقيق الحميدان-: 47 (نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه وسلم.

(7)

الفتح: 1/ 214. قال الطبري في جامع البيان: 3/ 251: [وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها مَعْنِيّ بها كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، ، وهو حديث صحيح أخرجه من حديث أبي هريرة الطيالسي في مسنده: 330 رقم: 2534، وأبو داود في سننه: 4/ 67 رقم: 3658، والترمذي في جامعه: 5/ 29 رقم: 2649 وحسنه، والحاكم في المستدرك: 1/ 101 وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه بترتيب ابن بلبان: 1/ 297 رقم: 95، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 52 رقم: 116، وقد نص سحنون-رحمه الله-على أن هذا الحديث خاص بالشهادة، وبين ابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 49 أن الصحيح خلاف ذلك. ولا يعارض ما تفيده الآية والحديث من وجوب تبليغ العلم والنهي عن كتمه قول علي-رضي الله عنه-عند البخاري-فتح-: 1/ 272 (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، وقول ابن مسعود-رضي الله عنه-عند مسلم في مقدمة صحيحه: 11 (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) لأن الآية محمولة على من قصد كتمان العلم، والحديث يفيد أن من سئل عن علم وجب عليه الجواب، لكنه مقيد بما إذا كان قصد السائل حسناً، لا بمن أراد بسؤاله تعنتاً أو انحرافاً، وأما قول علي وابن مسعود فيفيدان أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة وأن حكم العالم أن يحدث بما يُفْهَم عنه، والله أعلم. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 184 - 185، فتح الباري لابن حجر: 1/ 272، عمدة القاري للعيني: 2/ 204، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 48 - 49، تفسير ابن كثير لابن كثير: 1/ 249، أحكام القرآن لإلكيا الهراس: 1/ 53، وغيرها.

ص: 435

2 -

ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {يكتمون} ؛ والكاتم مريد للكتم.

3 -

ومنها: أن ما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه؛ وهدًى لا ضلالة فيه؛ لقوله تعالى: {من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب} ؛ والبيان ينقسم إلى قسمين: بيان مفصل؛ وبيان مجمل؛ فالمجمل هي القواعد العامة في الشريعة؛ والمفصل هو أن يبين الله سبحانه وتعالى قضية معينة مفصلة مثل آيات الفرائض في الأحكام؛ فإنها مفصلة مبيّنة لا يشذ عنها إلا مسائل قليلة؛ وهناك آيات مجملة عامة مثل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]: فهو بيان عام؛ وكذلك بعض القصص يذكرها الله سبحانه وتعالى مفصلة، وأحياناً مجملة؛ وكل هذا يعتبر بياناً.

4 -

ومن فوائد الآية: الرد على أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لأن لازم طريقهم ألا يكون القرآن بياناً للناس؛ لأن الله أثبت لنفسه في القرآن صفات ذاتية، وفعلية؛ فإذا صرفت عن ظاهرها صار القرآن غير بيان؛ يكون الله سبحانه وتعالى ذكر شيئاً لا يريده؛ وهذا تعمية لا بيان؛ فيستفاد من هذه الآية الرد على أهل التأويل؛ والحقيقة أنهم - كما قال شيخ الإسلام - أهل التحريف لا أهل التأويل؛ لأن التأويل منه حق، ومنه باطل؛ لكن طريقهم باطل لا حق فيه.

5 -

ومن فوائد الآية: الرد على أهل التفويض الذين يقولون: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم الخلق معناها؛ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد.

6 -

ومنها: بيان فضل الله عز وجل على عباده بما أنزله من البينات، والهدى؛ لأن الناس محتاجون إلى هذا؛ ولولا بيان الله سبحانه وتعالى وهدايته ما عرف الناس كيف يتوضؤون، ولا كيف يصلون، ولا كيف يصومون، ولا كيف يحجون؛ ولكن من فضل الله أن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك.

7 -

ومنها: إثبات علو الله؛ لقوله تعالى: {ما أنزلنا} ؛ والنزول إنما يكون من أعلى؛ وعلو الله بذاته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.

8 -

ومنها: قبح هذ الكتمان الذي سلكه هؤلاء؛ لأنه كتمان بعد بيان؛ ليس لهم أن يقولوا: «ما تكلمنا؛ لأنّ الأمر مشتبه علينا» ؛ فالإنسان الذي لا يتكلم بالشيء لاشتباه الأمر عليه قد يعذر؛ لكن الذي لا يتكلم مع أن الله بينه للناس يكون هذا أعظم قبحاً - والعياذ بالله.

9 -

ومنها: وجوب نشر العلم عند الحاجة إليه سواء ظهرت الحاجة بلسان الحال، أو بلسان المقال، ولسان الحال: أن ترى إنساناً يعمل عملاً ليس على الوجه المرضي؛ فهذا لسان حاله يدعو إلى أن تبين له الحق؛ ولسان المقال: أن يسألك سائل عن علم وأن تتعلمه؛ فيجب عليك أن تبلغه ما دمت تعلم؛ أما إذا كنت لا تعلم فإنه يجب أن تقول: «لا أدري» ، أو «لا أعلم» ؛ كذلك لو رأيت الناس عمّ فيهم الجهل في مسألة من أمور الدين؛ فهنا الحاجة داعية إلى البيان؛ فيجب أن تبين.

10 -

ومن فوائد الآية: أن الكتب السماوية كلها بيان للناس، لأن قوله تعالى:{في الكتاب} المراد به الجنس لا العهد؛ فالله تعالى بين الحق في كل كتاب أنزله؛ لم يترك الحق غامضاً؛ بل بينه لأجل أن تقوم الحجة على الخلق؛ لأنه لو كان الأمر غامضاً لكان للناس حجة في أن يقولوا: ما تبين لنا الأمر.

11 -

ومنها: أن الرجوع في بيان الحق إلى الكتب المنزلة.

12 -

ومنها: أن هؤلاء الكاتمين ملعونون؛ يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون؛ لقوله تعالى:{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} .

13 -

ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ وهي كل فعل يتعلق بمشيئته، مثل النزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده؛ والاستواء على العرش؛ والضحك؛ والكلام؛ والتعجب؛ وما إلى ذلك؛ كل

ص: 437

فعل يتعلق بمشيئة الله عز وجل فإنه من الأفعال الاختيارية؛ و «اللعن» منها؛ ويدل على أنه منها أن له سبباً؛ وما كان له سبب فإنه يوجَد بالسبب، ويعدم بعدمه؛ إذاً فاللعن من الأفعال الاختيارية.

14 -

ومنها: جواز الدعاء باللعنة على كاتم العلم؛ لقوله تعالى: {يلعنهم اللاعنون} ؛ لأن من معنى {يلعنهم اللاعنون} الدعاء عليهم باللعنة؛ تقول: اللهم العنهم؛ ولا يلعن الشخص المعين؛ بل على سبيل التعميم؛ لأن الصحيح أن لعن المعين لا يجوز - ولو كان من المستحقين للعنة؛ لأنه لا يُدرى ماذا يموت عليه؛ قد يهديه الله، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} [آل عمران: 128]؛ وأما لعنه بعد موته أيجوز، أم لا يجوز؟ فقد يقال: إنه لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» (1)؛ وهذا عام؛ ثم إنه قد يثير ضغائن، وأحقاد من أقاربه، وأصحابه، وأصدقائه؛ فيكون في ذلك مفسدة؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (2)؛ وأيّ خير في كونك تلعن واحداً كافراً قد مات؛ وأما طريقته فالواجب التنفير عنها، والقدح فيها، وذمها؛ أما هو شخصياً فإنه لا يظهر لنا جواز لعنه - وإن كان المعروف عند جمهور أهل العلم أنه يجوز لعنه إذا مات على الكفر.

15 -

ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم، حيث كان من الكبائر؛ وكتم العلم يتحقق عند الحاجة إلى بيانه إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال؛ فإن من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار إلا أن يكون السائل متعنتاً، أو يريد الإيقاع بالمسؤول، أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض، أو يترتب على إجابته مفسدة، فلا يجاب حينئذ؛ وليس هذا من كتم العلم؛ بل هو من مراعاة المصالح، ودرء المفاسد.

مسألة (3):

دفع الفتوى - وهو أن يحوِّل المستفتي إلى غيره، فيقول: اسأل فلاناً، أو اسأل العلماء - اختلف فيها أهل العلم: هل يجوز، أو لا يجوز؟ والصحيح أنه لا يجوز؛ إلا عند الاشتباه فيجب؛ أما إذا كان الأمر واضحاً فإنه لا يجوز؛ لأنه يضيع الناس لا سيما إذا كان الإنسان يرى أنه إذا دفعها استُفتي أناس جهال يضلون الناس؛ فإنه هنا تتعين عليه الفتوى؛ ويستعين الله عز وجل، ويسأل الله الصواب والتوفيق.

16 -

ومن فوائد الآية: استحقاق الكاتمين للعنة الله، ولعنة اللاعنين.

قد يقول قائل: هذا تحصيل حاصل، لأنه كقول القائل: قام القائمون، أو يقوم القائمون، ويدخل الداخلون.

فالجواب: لا، لأنه ليس كل من نسب إليه الوصف يكون قائماً به على الوجه الأكمل؛ قد تقول:«قام القائمون» بمعنى أنهم أتوا بالقيام على وجهه؛ فمعنى {يلعنهم اللاعنون} أي الذين يعرفون من يستحق اللعنة، ويوجهونها إلى أهلها؛ فهم ذوو علم بالمستحِق، وذوي حكمة في توجيه اللعنة إليه؛ ونظير ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله

} [النساء: 136] الآية؛ فناداهم باسم الإيمان، وأمرهم به؛ أي بتحقيقه، والثبات عليه.

إذاً هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات، والهدى مع ظهوره، وبيانه يستحقون - والعياذ بالله - هذا الجزاء الوخيم من الله، ومن عباد الله؛ وعكس ذلك الذين يبينون الحق - نسأل الله أن يجعلنا منهم؛ فهؤلاء يكون لهم المودة، والمحبة من الله، ومن أولياء الله؛ وقد ورد في حديث أبي الدرداء الطويل أن العالم يستغفر له أهل السموات والأرض حتى الحيتان في الماء (4) لأن الذي يبين شريعة الله يُلقي الله سبحانه وتعالى في

(1) سبق تخريجه 1/ 294.

(2)

سبق تخريجه 1/ 255.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 86.

(4)

أخرجه أحمد ص 1602، حديث رقم 22058؛ والترمذي ص 1922، كتاب العلم، باب 19 ما جاء في فضل الفقه على العبادة، حديث رقم 2682؛ وأبو داود ص 1493، أول كتاب العلم، باب 1: في فضل العلم، حديث رقم 3641؛ وابن ماجة ص 2491، كتاب السنة، باب 17: فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث رقم 223؛ والدارمي 1/ 110، المقدمة، باب 32: في فضل العلم والعالم، حديث رقم 342؛ ومدار هذهالأسانيد على داود بن جميل عن كثير بن قيس (ويقال: قيس بن كثير؛ والأول أصوب – قاله الحافظ في التقريب -)؛ وكل من داود، وكثير ضعيف؛ وقال الألباني:"لكن أخرجه أبو داود من طريق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن"(راجع صحيح الترغيب والترهيب، الطبعة الثانية، حاشية 3 ص 33)؛ لكن في سنده شبيب بن شيبة، قال الحافظ في التقريب: مجهول؛ وقال عمرو بن عثمان: "عن شعيب بن رزيق" بدلاً عن شبيب بن شيبة؛ وقال: "وهو أشبه بالصواب"(راجع تهذيب التهذيب 4/ 271)؛ وشعيب بن رزيق الشامي قال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ"؛ وقيل: صدوق حسن الحديث (تحرير تقريب التهذيب 2/ 117)؛ وعليه فالإسناد حسن.

ص: 438

قلوب عباده مودته، ومحبته، والقبول له حتى في السماء؛ ونحن نعلم ذلك - وإن لم يرد به نص خاص - عن طريق القياس الجلي: فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعاقب الكاتمين بهذه العقوبة الواقعة منه، ومن عباده؛ وهو الذي سبقت رحمته غضبه، فالذين يبينون البينات، والهدى يستحقون أن يثني الله سبحانه وتعالى عليهم بدلاً من اللعنة، ويقربهم بدلاً من البعد.

17 -

ومن فوائد الآية: أنه يجب على من قال قولاً باطلاً، ثم تبين له بطلانه أن يبينه للناس إلا إذا كان اختلاف اجتهاد فلا يلزمه أن يبين بطلان ما سبق؛ لأنه لا يدري أيّ الاجتهادين هو الصواب.

القرآن

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 160]

التفسير:

إلا الذين رجعوا مستغفرين الله من خطاياهم، وأصلحوا ما أفسدوه، وبَيَّنوا ما كتموه، فأولئك أقبل توبتهم وأجازيهم بالمغفرة، وأنا التواب على من تاب من عبادي، الرحيم بهم؛ إذ وفقتُهم للتوبة وقبلتها منهم.

قوله تعالى: {ِإلا الَّذِينَ تَابُوا} [القرة: 160]، "أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا"(1).

قال أبو حيان: أي" عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان ءلى الإظهار"(2).

قال البيضاوي: أي: " عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه"(3).

قال السعدي: أي: "رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا، وعزما على عدم المعاودة"(4).

قال ابن عطية: " توبة الله على عبده: رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة"(5).

قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160]، أي:"وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان"(6).

قال الواحدي: " أي: أصلحوا السريرة بإظهار أمر محمد صلى الله عليه وسلم"(7).

قال أبو حيان: أي: " ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال"(8).

قال السعدي: أي: أصلحوا "ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن"(9).

قال البيضاوي: " ما أفسدوا بالتدارك"(10).

قال قتادة: "يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله"(11).

قوله تعالى: {وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]، أي "وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله"(12).

قال ابن زيد: " {بيّنوا}: ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود"(13).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 96.

(2)

البحر المحيط: 1/ 459.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(4)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 231.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 447.

(8)

البحر المحيط: 1/ 459.

(9)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(10)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(11)

أخرجه الطبري (2390): ص 3/ 260.

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(13)

أخرجه الطبري (2390): ص 3/ 260.

ص: 439

قال ابن عثيمين: أي: "وضحوا للناس ما كتموا من العلم ببيانه، وبيان معانيه؛ لأنه لا يتم البيان إلا ببيان المعنى"(1).

وفي قوله تعالى: {وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]، وجوه:

أحدها: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. قاله الطبري (2).

الثاني: أنهم وبيَّنوا الذي جاءهم من الله، فلم يكتموه ولم يجحدوا به". قاله قتادة (3)، وروي عن ابن زيد (4) نحوه.

الثالث: اعترفوا بتلبيسهم وزورهم (5).

الرابع: ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين (6).

قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 160]، أي:" فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته"(7).

قال أبو حيان: " أي أعطف عليهم، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة"(8).

قال ابن عثيمين: " يعني الذين تابوا، وأصلحوا، وبينوا، "أقبل منهم التوبة؛ لأن توبة الله على العبد لها معنيان؛ أحدهما: توفيق العبد للتوبة؛ الثاني: قبول هذه التوبة، كما قال الله تعالى:{ثم تاب عليهم ليتوبوا} " (9).

قوله تعالى: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]، "أي: كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم" (10).

قال أبو حيان: وختم الكلام بهاتين الصفتين "ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه"(11).

و{التَّوَّابُ} ، يعني:"الرجاع على عباده بالعفو والصفح، بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع، إذا رجعوا"(12).

و{الرَّحِيمُ} : "الذي اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفا وكرما، هذا حكم التائب من الذنب"(13).

قال ابن كثير: "وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه (14).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 87.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 260. قال الطبري: " وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: " وبيَّنوا "، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، على كتمانهم ما أنزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون، ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل".

(3)

أخرجه الطبري (2390): ص 3/ 260.

(4)

أخرجه الطبري (2390): ص 3/ 260.

(5)

انظر: البحر المحيط: 1/ 459.

(6)

انظر: البحر المحيط: 1/ 459.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(8)

البحر المحيط: 1/ 459.

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 87.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(11)

البحر المحيط: 1/ 459.

(12)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(13)

تفسير السعدي: 1/ 77.

(14)

تفسير ابن كثير: 1/ 473.

ص: 440

وفي هذه الآية التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى

} [البقرة: 159]، وقوله تعالى:{أولئك يلعنهم الله} [البقرة: 159]؛ ولم يقل: «نلعنهم» ؛ وللالتفات فائدتان (1):

الأولى: تنبيه المخاطب؛ لأنه إذا تغير نسق الكلام أوجب أن ينتبه المخاطب لما حصل من التغيير.

والفائدة الثانية: تكون بحسب السياق: ففي هذه الآية: {أولئك يلعنهم الله} الفائدة: التعظيم؛ لأن قوله: {يلعنهم الله} أبلغ في التعظيم من «أولئك نلعنهم» ؛ لأن المتكلم إذا تحدث عن نفسه بصيغة الغائب صار أشد هيبة، مثل قول الملك: إن الملك يأمركم بكذا، وكذا؛ وأمر الملك بكذا، وكذا - ويعني نفسه.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن توبة الكاتمين للعلم لا تكون إلا بالبيان، والإصلاح؛ لقوله تعالى:{إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} : ثلاثة شروط:

الأول: التوبة؛ وهي الرجوع عما حصل من الكتمان.

الثاني: الإصلاح لما فسد بكتمانهم؛ لأن كتمانهم الحق حصل به فساد.

الثالث: بيان الحق غاية البيان.

وبهذا تبدل سيئاتهم حسنات.

2 -

ومن فوائد الآية: أن كل ذنب - وإن عظم - إذا تاب الإنسان منه فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه.

3 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهما {التواب} ، و {الرحيم} ؛ {التواب} على من أذنب؛ {الرحيم} على من أخلص، وعمل؛ فالرحمة تجلب الخير؛ والتوبة تدفع الشر.

4 -

ومنها: إثبات صفتين من صفات الله؛ وهما التوبة، والرحمة.

5 -

ومنها: إثبات حكمين من هذين الاسمين: أن الله يتوب، ويرحم؛ ولهذا قال تعالى:{فأولئك أتوب عليهم} .

6 -

ومنها: توكيد الحكم بما يوجبه؛ لقوله تعالى: {وأنا التواب الرحيم} .

7 -

ومنها: كثرة توبة الله، وكثرة من يتوب عليهم؛ لقوله تعالى:{التواب} .

والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته؛ فيرجع من الشرك إلى التوحيد؛ ومن الزنى إلى العفاف؛ ومن الاستكبار إلى الذل، والخضوع؛ ومن كل معصية إلى ما يقابلها من الطاعة؛ وشروطها خمسة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ والندم على الذنب؛ والإقلاع عنه في الحال؛ والعزم على أن لا يعود؛ وأن تكون التوبة في وقت تقبل فيه.

الشرط الأول: الإخلاص لله بأن يكون قصده بالتوبة رضا الله، وثواب الآخرة، وألا يحمله على التوبة خوف مخلوق، أو رجاء مخلوق، أو علو مرتبة، أو ما أشبه ذلك.

الشرط الثاني: الندم على ما جرى منه من الذنب؛ ومعنى «الندم» أن يتحسر الإنسان أن وقع منه هذا الذنب.

الشرط الثالث: الإقلاع عن المعصية؛ وهذا يدخل فيه أداء حقوق العباد إليهم؛ لأن من لم يؤد الحق إلى العباد فإنه لم يقلع؛ فهو ليس شرطاً مستقلاً - كما قاله بعض العلماء؛ ولكنه شرط داخل في الإقلاع؛ إذ إن من لم يؤد الحق إلى أهله لم يقلع عن المعصية.

الشرط الرابع: أن يعزم ألا يعود؛ فإن لم يعزم فلا توبة، وليس من الشرط ألا يعود فإذا صحت التوبة، ثم عاد إلى الذنب لم تبطل توبته الأولى؛ لكنه يحتاج إلى تجديد التوبة.

الشرط الخامس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه؛ يعني أن تكون في وقت قبول التوبة؛ وذلك بأن تكون قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ فإذا كان بعد حضور الموت لم تقبل؛ لقوله تعالى:{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18]؛ وإذا كانت بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل؛ لقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 87.

ص: 441

تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158]؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة؛ ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"(1).

وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال؛ الأول: أنها تصح؛ والثاني: أنها تصح إن كان الذنب من غير الجنس؛ والثالث: لا تصح؛ والصحيح أنها تصح من ذنب مع الإصرار على غيره؛ لكن لا يستحق اسم التائبين على سبيل الإطلاق؛ فلا يستحق وصف التائب، ولا يدخل في مدح التائبين؛ لأن توبته مقيدة من هذا الذنب المعين؛ ومثال ذلك: إذا تاب رجل من الزنى لكنه يتتبع النساء بالنظر المحرم فإن توبته من الزنى تصح على القول الراجح؛ لكن لا يستحق وصف التائب على سبيل الإطلاق؛ وعلى القول بأنها تصح إذا كانت من غير الجنس: فإنها لا تصح؛ وإذا تاب من الزنى مع الإصرار على الربا فإنها تصح؛ لأن الربا ليس من جنسه؛ إلا على القول الثالث الذي يقول لا تصح إلا مع الإقلاع عن جميع الذنوب.

8 -

ومن فوائد الآية: عظم الكتمان؛ لأن الله ذكر لنجاتهم من هذه اللعنة ثلاثة شروط: التوبة، والإصلاح، والبيان؛ لأن كتمهم لِما أنزل الله يتضمن إفساداً في الأرض، وإضلالاً للخلق؛ فتوبتهم منه لا تكفي حتى يصلحوا ما فسد بسبب كتمانهم، مثال ذلك: قوم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا:«ليس هو بالرسول الذي سيبعث» ؛ فسيضل من الناس بناءً على قولهم عالَم؛ فلا يكفي أن يتوبوا، ويندموا، ويقلعوا، ويُسْلِموا، حتى يصلحوا ما أفسدوا من الآثار التي ترتبت على كتمانهم الحق؛ وإلا لم تصح التوبة.

9 -

ومن فوائد الآية: عظم العلم، وأنه حمل ثقيل، وعبء عظيم على من حمَّله الله سبحانه وتعالى إياه، وأن الإنسان على خطر إذا لم يقم بواجبه من البيان؛ وسبق أن البيان حين يحتاج الناس إليه ويسألون، إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال.

القرآن

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161]

التفسير:

إن الذين جحدوا الإيمان وكتموا الحق، واستمروا على ذلك حتى ماتوا، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين بالطرد من رحمته.

ذكر ابن حجر في سبب نزول الآية قولين (2):

أحدهما: قال ابن حجر: قال الطبري: "نزلت في الذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا، من اليهود والنصارى وغيرهم"(3).

الثاني: قال ابن حجر: "وقال مقاتل: نزلت فيمن مات من اليهود على الكفر"(4).

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 161]، أي: إن الذين "كفروا بالله"(5).

(1) أخرجه أحمد 4/ 99، حديث رقم 17030، وأخرجه أبو داود ص 1406، كتاب الجهاد، باب 2: الهجرة قد انقطعت، حديث رقم 2479، وأخرجه الدارمي ج 2/ 312، كتاب السير، باب 70: الهجرة لا تنقطع، حديث رقم 2613؛ وفي سنده أبو هند البجلي قال الذهبي في الميزان 4/ 853:"لا يصرف؛ لكن احتج به النسائي على قاعدته"؛ قال عبد القادر في تخريج جامع الأصول لابن الأثير 11/ 606 حاشية رقم (2): رواه أحمد في المسند 1/ 192 من طريق آخر وإسناده حسن. أهـ (باختصار).

(2)

انظر: العجاب: 1/ 413.

(3)

العجاب: 1/ 413، ولم يقل الطبري:"نزلت"، وإنما قال: "يعني تعالى ذكره بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، إن الذين حجدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

" والفرق بين التعبيرين واضح. انظر: تفسير الطبري: 3/ 261.

(4)

العجاب: 1/ 413، لم يقل مقاتل:"نزلت" وإنما قال: "ثم ذكر مَنْ مات من اليهود على الكفر

".انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 153.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

ص: 442

قال الطبري: أي: "إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان"(1).

قال الزمخشري: " يعنى الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين"(2).

قال ابن عثيمين: "والمراد بالكُفر في القرآن والسنة: جحد ما يجب لله سبحانه وتعالى من الطاعة، والانقياد؛ وهو نوعان: إما تكذيب؛ وإما استكبار"(3).

و(الكَفْر) في اللغة: "بمعنى الستر؛ ومنها كُفُرَّى النخل - أي وعاء طلعه - لستره الطلع"(4).

قال الطبري: " وأصْلُ (الكفر) عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل: كافرًا، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر (5):

فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا

أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ

وقال لبيدُ بن ربيعة (6):

يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا

يعني: غَطَّاها" (7).

قوله تعالى: {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة: 161]، أي:"وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم"(8).

قال الزجاج: " يعني لم يتوبوا قبل موتهم من كفرهم"(9).

قال الصابوني: أي: " واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة"(10).

قال الزمخشري: أي: " ولم يتوبوا"(11).

قال ابن عثيمين: أي: " استمروا على كفرهم إلى الموت، فلم يزالوا على الكفر، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا"(12).

قال البيضاوي: " أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات"(13).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} [البقرة: 161]، أي: أولئك" أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته"(14).

قال الطبري: "أي: الذين كفروا وماتوا وهم كفار، عليهم لعنة الله، بمعنى: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته،

قال البيضاوي: أي: " استقر عليهم اللعن من الله"(15).

(1) تفسير الطبري: 3/ 261.

(2)

الكشاف: 1/ 209.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 201 - 202.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 201 - 202.

(5)

الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات:257. والضمير في قوله " فتذكرا " للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس.

(6)

انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 100، ويروى " ظلامها ". يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها.

(7)

تفسير الطبري: 1/ 255.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 261.

(9)

معاني القرآن: 1/ 236.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(11)

الكشاف: 1/ 209.

(12)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 202.

(13)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(14)

تفسير الطبري: 3/ 261.

(15)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

ص: 443

قال الزجاج: " واللعنة هي إبعاد الله، وإبعاده عذابه"(1).

قال ابن عطية: " واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب"(2).

قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]، يعني "ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون"(3).

قال الطبري: " ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم: عليهم لعنة الله"(4).

قال الثعلبي: " أي ولعنة الملائكة، والناس أجمعين"(5).

قال الزجاج: " المعنى لعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين

قيل: إنهم يلعنونه في الآخرة، كما قال عز وجل:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] " (6).

قال أبو العالية: "إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون"(7). وروي عن قتادة (8) نحوه.

قال المراغي: " والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرّحيم، فماذا يرجو من سواه من عباده؟ "(9).

و(الملائكة): "عالم غيبي خُلِقوا من نور؛ وهم محجوبون عن الإنس؛ وربما يرونهم إما على الصورة التي خلقوا عليها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلِق عليها له ستمائة جناح (10) قد سد الأفق (11)؛ وإما على صورة أخرى، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورة دحية الكلبي (12)؛ وهم عباد لله عز وجل لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون؛ يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ لا يأكلون، ولا يشربون؛ صُمْدٌ - أي لا أجواف لهم؛ والملائكة عليهم السلام لهم وظائف، وأعمال خصهم الله سبحانه وتعالى بها؛ فإسرافيل، وميكائيل، وجبريل موكلون بما فيه الحياة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جَبرائيل وميكائيل وإسرافيل

» (13) الحديث؛ لأن هؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه الحياة؛ والبعث من النوم حياة؛ ولهذا ناسب أن يكون هذا الاستفتاح في أول عمل يعمله الإنسان بعد أن توفاه الله عز وجل بالنوم؛ وهؤلاء الثلاثة أحدهم مكلف بما فيه حياة القلوب - وهو جبريل - والثاني بما فيه حياة الأبدان - وهو إسرافيل - والثالث بما فيه حياة النبات - وهو ميكائيل - وأفضلهم جبريل - ولهذا امتدحه الله عز وجل بقوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير:

(1) معاني القرآن: 1/ 236.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 232.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 261.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 261.

(5)

تفسير الثعلبي: 2/ 31.

(6)

معاني القرآن: 1/ 236.

(7)

أخرجه الطبري (2394): ص 3/ 262، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 473.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1456): ص 1/ 271.

(9)

تفسير المراغي: 2/ 32.

(10)

راجع البخاري ص 262، كتاب بدء الخلق، باب 7: إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، حديث رقم 3232؛ ومسلماً ص 708، كتاب الإيمان، باب 77: معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى)

، حديث رقم 432 [280]174.

(11)

راجع البخاري ص 262، كتاب بدء الخلق، باب 7: إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء

، حديث رقم 3235؛ ومسلماً ص 709، كتاب الإيمان، باب 77: معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى)

، حديثرقم 442 [290]177.

(12)

راجع مسلماً ص 707، كتاب الإيمان، باب 74: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم 423 [271]167.

(13)

سبق تخريجه 1/ 315.

ص: 444

19، 20]، وبقوله تعالى:{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]؛ فجبريل أفضل الملائكة على الإطلاق" (1).

وإن قيل: فليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل: عن هذا جوابان (2):

أحدهما: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس، فغلب حكم الأكثر على الأقل.

والثاني: أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى: {يَومَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25].

واختلف في تفسير قوله تعالى {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]، على وجوه (3):

أحدها: أن المراد بـ {النَّاسِ أَجْمَعِينَ} : أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر. قاله قتادة (4)، والربيع (5).

وضعّفه الطبري فقال: هذا" قولٌ ظاهرُ التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة، وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه، وجحوده نعمةَ ربه، ومخالفته أمرَه"(6).

الثاني: أن ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم. قاله أبو العالية " (7)، وقتادة (8).

الثالث: أن ذلك قول القائل كائنًا من كان: " لَعنَ الله الظالم "، فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة. وهذا قول السدي (9).

والراجح أنه عنى الله بذلك جَميعَ الناس، وهو قولهم:" (لعن الله الظالم - أو الظالمين)، لأن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، ومن أي أهل ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان، لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] "(10).

وقرئ {والملائكةُ والناسُ أجمعون} ، عطفاً على محل اسم الله، لأنه فاعل في المعنى، كقولك أعجبني ضرب زيدٍ وعمرو، أو فاعلاً لفعل مقدر نحو وتلعنهم الملائكة (11).

قال الزجاج: " وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته - المصحف، والقراءة، إنما ينبغي أن يلزم فيها السنة، ولزوم السنة فيها أيضا أقوى غند أهل العربية، لأن الإجماع في القراءة إنما يقع على الشيء الجيد البالغ ورفع الملائكة في قراءة الحسن على تأويل: أولئك جزاؤهم أن لعنهم الله والملائكة، فعطف الملائكة على موضع إعراب لله في التأويل"(12).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 202 - 203.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 215، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 236.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 261 - 262، وتفسير ابن كثير: 1/ 473.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2392): ص 3/ 262.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2392): ص 3/ 262.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 262.

(7)

أخرجه الطبري (2394): ص 3/ 262، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 473.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1456): ص 1/ 271.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2395): ص 3/ 262، وتفسير ابن أبي حاتم (1457): ص 1/ 271.

(10)

تفسير الطبري: 3/ 262.

(11)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(12)

معاني القرآن: 1/ 236.

ص: 445

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن الكافر مستحق للعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

2 -

ومنها: أنه تشترط لثبوت هذا أن يموت على الكفر؛ لقوله تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} ؛ فلو رجعوا عن الكفر إلى الإسلام ارتفعت عنهم هذه العقوبة.

3 -

ومنها: إثبات الملائكة.

4 -

ومنها: أن الكافر يلعنه الكافر؛ لقوله تعالى: {والناس أجمعين} ؛ وقد أخبر الله تعالى عن أهل النار أنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى:{إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب} [البقرة: 166] إلخ؛ فالكافر - والعياذ بالله - ملعون حتى ممن شاركه في كفره.

القرآن

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 162]

التفسير:

دائمين في اللعنة والنار، لا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون بمعذرة يعتذرون بها.

قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة: 162]، " أي: خالدين في النار" (1).

قال البيضاوي: " أي في اللعنة أو في النار"(2).

قال الثعلبي: " مقيمين في اللعنة والنار"(3).

قال الزجاج: " أي في اللعنة، وخلودهم فيها خلود في العذاب"(4).

قال أبو العالية: " يعني: {في النار}: في اللعنة"(5). وروي عن الربيع بن أنس (6) نحو ذلك.

و(الخلود): "اللزوم أبدًا، ومنه يقال: أخلد إلى كذا، أي: لزمه، وركن إليه"(7).

وقد اختلف في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة: 162]، على قولين (8):

أحدهما: أي: خالدين في اللعنة. قاله الزجاج (9) وآخرون.

قال ابن عثيمين: " والمراد فيما يترتب عليها؛ فإنهم خالدون في النار التي تكون بسبب اللعنة"(10).

والثاني: وقيل خالدين في النار، إلا أنها أضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا كما في قوله تعالى:{إنا أنزلناه فى ليلة القدر} [القدر: 1].

والقول الأول أولى لوجوه (11):

(1) صصفوة التفاسير: 1/ 96.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 116، ونقله أبو السعود في تفسيره: : 1/ 183.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 31.

(4)

معاني القرآن: 1/ 236.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1458): ص 1/ 271.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 271.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 448، وانظر: المفردات: 160، ومفاتيح الغيب: 4/ 143.

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 204.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 236.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 204.

(11)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 153. وقال الإمام الرازي: واعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بأمور ثلاثة.

أحدها: الخلود وهو المكث الطويل عندنا، والمكث الدائم عند المعتزلة، على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى:{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 81).

وثانيها: عدم التخفيف، ومعناه أن الذي ينالهم من عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها، لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض، فإن قيل: هذا التشابه ممتنع لوجوه:

الأول: أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب، كان ذلك كالتخفيف منه.

الثاني: أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفا.

الثالث: أنهم حيثما يخاطبون بقوله: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت.

(أجابوا عنه) بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة، فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت، قالوا: ولما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه، وجب أن يكون دائما لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوروه، وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته وكلما كانت محنته أعظم، كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الإنقطاع أكثر. (مفاتيح الغيب: 4/ 153).

ص: 446

الأول: أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر.

الثاني: أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى.

الثالث: أن قوله: {خالدين فيها} إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلا في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلا في الحال، بل لا بد من التأويل؛ فكان ذلك أولى.

قوله تعالى: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة: 162]، "أي لا يهوَّن عنهم، لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة"(1).

قال الصابوني: "أي: إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع"(2).

قال الثعلبي: " لا يرفه عنهم العذاب"(3)، وقال أيضا: لا" يهون"(4).

قال ابن كثير: أي: "لا ينقص عَمَّا هم فيه"(5). وقال أيضا: ": " أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة" (6).

قال الطبري: " فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [سورة فاطر: 36]، وكما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [سورة النساء: 56] "(7).

قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162]، " أي لا يمهلون ولا يؤجلون"(8).

قال أبو حيان: " نفى الأنظار، وهو تأخير العذاب"(9).

قال ابن عباس: " لا يؤخرون"(10).

وقال عطاء عن ابن عباس: "يريد: للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة"(11).

قال الطبري: يعني: "ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [سورة المرسلات: 35 - 36] "(12). وهذا قول أبي العالية (13).

قال البيضاوي: " أي لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة"(14).

قال الزمخشري: " أى: لا يمهلون ولا يؤجلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا. ولا ينظر إليهم نظر رحمة"(15).

(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 277.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(3)

تفسير الثعلبي: 2/ 31.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 232، وانظر: تفسير البغوي: 1/ 119.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 473.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 320 - 321.

(7)

تفسير الطبري: 3/ 264.

(8)

تفسير أبي السعود: 1/ 183، وانظر: تفسير الثعلبي: 2/ 31.

(9)

البحر المحيط: 1/ 461.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم (1459): ص 1/ 272.

(11)

التفسير البسيط: 3/ 449.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 264.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2397): ص 13/ 264 - 265.

(14)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(15)

الكشاف: 1/ 210.

ص: 447

قال ابن كثير: أي: "لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتَّر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك"(1).

قال الصابوني: "أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب حال مفارقة الحياة الدنيا"(2).

وقال الشيخ ابن عثيمين: "أي لا يمهلون؛ بل يؤخذون بالعقاب؛ من حين ما يموتون وهم في العذاب؛ ويحتمل أن المراد لا ينظرون بالعين؛ فلا ينظرون نظر رحمة، وعناية بهم؛ وهذا قد يؤيَّد بقوله تعالى:{قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]؛ فإن هذا من احتقارهم، وازدرائهم أنهم يوبخون بهذا القول.

قال المراغي: أي: "ولا يمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة، ويرجع إلى الحق، ويزكى نفسه، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه، فأىّ شاء يرجو من غيره؟ "(3).

قال الرازي: " والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] والمعنى: إن عذابهم لا يؤجل، بل يكون حاضرا متصلا بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى، وفي الآخرة لا مهلة البتة فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم؛ {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]، نعوذ بالله من ذلك، والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الإنقطاع والتخفيف والتأخير"(4).

وذكروا في قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162]، وجهان (5):

أحدهما: معناه: يؤخرون عن العذاب.

والثاني: ويحتمل أن يكون من النظر، نحو قوله تعالى:{وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [آل عمران: 77].

قال ابن عطية: " والأول أظهر، لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذا في الشعر"(6).

الفوائد:

1 -

ومنها: أن الذين يموتون وهم كفار مخلدون في لعنة الله، وطرده، وإبعاده عن رحمته.

2 -

ومنها: أن العذاب لا يخفف عنهم، ولا يوماً واحداً؛ ولهذا يقول الله عز وجل:{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]؛ لم يسألوا أن يرفع العذاب؛ ولم يسألوا أن يخفف دائماً؛ بل يخفف ولو يوماً واحداً من أبد الآبدين؛ يتمنون هذا؛ يتوسلون بالملائكة إلى الله عز وجل أن يخفف عنهم يوماً واحداً من العذاب؛ ولكن يوبخون إذا سألوا هذا: {قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر: 50]؛ فما يستطيع أحد أن يتصور كيف تكون حسرتهم حينئذٍ؛ يقولون: ليتنا فعلنا؛ ليتنا صدقنا؛ ليتنا اتبعنا الرسول؛ ولهذا يقولون: {بلى} ؛ لا يستطيعون أن ينكروا أبداً؛ {قالوا فادعوا} [غافر: 50] أي أنتم؛ ولكن دعاء لا يقبل، كما قال تعالى:{وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50] أي في ضياع - والعياذ بالله؛ والمقصود أنه لا يخفف عنهم العذاب.

3 -

من فوائد الآية: أنهم لا ينظرون؛ إما أنه من النظر؛ أو من الإنظار؛ فهم لا يمهلون ولا ساعة واحدة؛ ولهذا قال تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71]؛ فمن يوم يجيئونها تفتح؛ أما أهل الجنة فإذا

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 473.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 96.

(3)

تفسير المراغي: 2/ 32.

(4)

مفاتيح الغيب: 4/ 144.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 232.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 232.

ص: 448

جاءوها لم تفتح فور مجيئهم، كما قال تعالى:{حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 71]؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بالشفاعة، وبعد أن يقتص من بعضهم لبعض؛ فإذا جاءوها هذبوا، ونقوا، ثم شفع النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة؛ وحينئذ تفتح أبوابها.

القرآن

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]

التفسير:

وإلهكم -أيها الناس- إله واحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبودية خلقه له، لا معبود بحق إلا هو، الرحمن المتصف بالرحمة في ذاته وأفعاله لجميع الخلق، الرحيم بالمؤمنين.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: قال ابن حجر: "قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: " قالت كفار قريش: يا محمد صف أو انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسورة الإخلاص" (1). وكذا نقله الواحدي في "الوسيط" (2)، والثعلبي في تفسيره (3).

والثاني: قال ابن حجر: "ومن طريق جويبر عن الضحاك: كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله فبين الله تعالى أنه إله واحد فأنزل هذه الآية"(4). وكذا ذكره الثعلبي (5).

قوله تعالى: : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، أي "أيها الناس معبودكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا"(6).

قال مقاتل: " يقول ربكم رب واحد فوحد نفسه تبارك اسمه"(7).

قال المراغي: " أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا"(8).

قال الصابوني: " أي إِلهكم المستحق للعبادة إِلهٌ واحد، لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله"(9).

قال الزجاج: " أخبر عز وجل بوحدانيته"(10).

قال ابن عثيمين: " الخطاب للبشر كلهم"(11).

قال أبو السعود: " خطاب عام لكافة الناس، أي المستحق منكم للعبادة، فرد في الإلهيه لاصحة لتسمية غيره إلها أصلا"(12).

قال الراغب: " يجوز أن يكون خطاباً عاماً أي المستحق منكم العبادة وهو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين، والمعنى: الذي يقصدونه إله واحد تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون آلهة من الأصنام والشيطان والهوى وغير ذلك"(13).

(1) العجاب: 1/ 413.

(2)

انظر: الوسيط: 1/ 245، والتفسير البسيط: 3/ 451، وتفسير الثعلبي: 2/ 31، والعجاب: 1/ 413.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 31.

(4)

العجاب: 1/ 413، وتفسير الثعلبي: 2/ 32، ولم أجد هذا في "تفسير الطبري" وابن كثير والسيوطي.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 32.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 206.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/! 53.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 33.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(10)

معاني القرآن: 1/ 236.

(11)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 206.

(12)

تفسير أبي السعود: 1/ 183.

(13)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 358 - 359.

ص: 449

قال أبو حيان: " وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى، ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال: صف لنا ربك وانسبه، أو خطاباً لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار"(1).

و(إله): "بمعنى مألوه؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و (المألوه) معناه المعبود حباً، وتعظيماً - وهو إله واحد؛ ووحدانيته بالألوهية متضمنة لوحدانيته بالربوبية؛ إذ لا يُعبد إلا من يُعلم أنه رب"(2).

وأراد بقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، أراد أمرين (3):

أحدهما: أن إله جميع الخلق واحد، لا كما ذهبت إليه عبدة الأصنام من العرب وغيرهم أن لكل قوم إلَهاً غير إله من سواهم.

والثاني: أن الإله وإنْ كان إلهاً لجميع الخلق فهو واحد لا ثاني له ولا مثل له.

وقد اختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره، على وجهين (4):

أحدهما: نَفي الأشباه والأمثال عنه.

الثاني: انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه.

والشرك به ضربان (5):

أحدهما: شرك في الألوهية والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.

والثاني: شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].

وقوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163]، "أي لا معبود بحق إِلا هو جلّ وعلا"(6).

قال محمد بن إسحاق: " أي ليس معه غيره شريكا في أمره"(7).

قال المراغي: أي: " الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها"(8).

قال الطبري: أي: "لا رب للعالمين غيرُه، ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام"(9).

قال ابن عطية: " إعلام بالوحدانية، وواحِدٌ في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند، وقال أبو المعالي: هو نفي التبعيض والانقسام"(10).

قال أبو حيان: " توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره. وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى"(11).

(1) البحر المحيط: 1/ 462.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 206.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 216.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 265 - 266.

(5)

انظر: تفسير المراغي: 1/ 265.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 98

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (1464): ص 1/ 272.

(8)

تفسير المراغي: 2/ 33.

(9)

تفسير الطبري: 3/ 266.

(10)

المحرر الوجيز: 1/ 232.

(11)

البحر المحيط: 1/ 462.

ص: 450

وقد زعم بعضهم أن تقدير الخبر في قوله {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي:«موجود» ؛ وهذا غلط واضح؛ لأنه يختل به المعنى اختلالاً كبيراً من وجهين (1):

الوجه الأول: أن هناك آلهة موجودة سوى الله؛ لكنها باطلة، كما قال تعالى:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62]، وكما قال تعالى:{فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} [هود: 101]، وكما قال تعالى:{فلا تدع مع الله إلهاً آخر} [الشعراء: 213].

الوجه الثاني: أنه يقتضي أن الآلهة المعبودة من دون الله هي الله، ولا يخفى فساد هذا؛ وعليه فيتعين أن يكون التقدير:«لا إله حق» ، كما فسرناه.

قال الراغب: " إن قيل: ما فائدة الجمع بين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبين {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وأحدهما يبنى على الآخر؟

قيل: لما بين بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها، وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد أولا يستحق العبادة أكده بقوله:(لأ إله إلاً هو)، وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا ويكرر عليه الألفاظ [الملخصة]، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه" (2).

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، "أي: المولى لجميع النعم أصولها وفروعها" (3).

قال السعدي: أي" المتصف بالرحمة العظيمة"(4).

قال الصابوني: أي: " مُولي النعم ومصدر الإِحسان"(5).

قال الماوردي: " ثم وصف فقال: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، ترغيباً في عبادته وحثاً على طاعته"(6).

قال أبو حيان: " ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب"(7).

قال ابن عثيمين: "وأسماء الله سبحانه وتعالى لها ثلاث دلالات: دلالة مطابقة؛ ودلالة تضمن؛ ودلالة التزام؛ فدلالة الاسم على الذات، والصفة دلالة مطابقة؛ ودلالته على الذات وحدها، أو الصفة وحدها دلالة تضمن؛ ودلالته على ما يستلزمه من الصفات الأخرى دلالة التزام؛ مثال ذلك «الخالق»: فهو دال على ذات متصفة بالخلق؛ وعلى صفة الخلق؛ فدلالتها على الأمرين دلالة مطابقة؛ وعلى أحدهما دلالة تضمن؛ وهي تدل على صفة العلم، والقدرة دلالة التزام؛ إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة"(8).

قال الرازي: " واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية، وعزة الفردانية وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان"(9).

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 206 - 207.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 359.

(3)

الكشاف: 1/ 210، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 141.

(4)

تفسير السعدي: 78.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(6)

النكت والعيون: 1/ 216.

(7)

البحر المحيط: 1/ 463.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 207.

(9)

مفاتيح الغيب: 4/ 161.

ص: 451

قال المراغي: " وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده"(1).

وفي الحديث عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] "(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن إله الخلق إله واحد - وهو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} .

2 -

ومنها: إثبات اسم «الإله» ، و «الواحد» لله عز وجل؛ لقوله تعالى:{وإلهكم إله واحد} ؛ وقد جاء في قوله تعالى: {لله الواحد القهار} [إبراهيم: 48]: فأثبت اسم «الواحد» سبحانه وتعالى.

3 -

ومنها: اختصاص الألوهية بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: {لا إله إلا هو} .

فإن قال قائل: إن هؤلاء المشركين قد يفتنون بهذه الآلهة، فيدعونها، ثم يأتيهم ما دعوا به؛ فما هو الجواب؟

فالجواب: عن هذا أن هذه الأصنام لم توجِد ما دعوا به قطعاً؛ لقوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم من دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5، 6]، ولقوله تعالى:{إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14]؛ فيكون حصول ما دعوا به من باب الفتنة التي يضل بها كثير من الناس؛ والذي أوجدها هو الله عز وجل؛ لكن قد يُمتحَن الإنسان بتيسير أسباب المعصية ابتلاءً من الله عز وجل؛ فيكون هذا الشيء حصل عند دعاء هذه الأصنام لا به.

4 -

ومنها: كفر النصارى القائلين بتعدد الآلهة؛ لأن قولهم تكذيب للقرآن؛ بل وللتوراة، والإنجيل؛ بل ولجميع الرسل؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"(3).

(1) تفسير المراغي: 2/ 34.

(2)

رواه أبو داود في السنن برقم (1496) والترمذي في السنن برقم (3478) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

(3)

أخرجه مسلم حديث (153)، وانفرد به عن البخاري.

ولهذا الحديث الشريف فوائد جمة:

الفائدة الأولى: الحديث دليل على نسخ جميع الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فيجب على كل عبد أن يؤمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليحقق الإسلام، يهودياً كان أو نصرانياً أو غيرهما من ملل الكفر، فإن قيل: لم خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في حديث الباب؟

فالجواب: قال النووي رحمه الله: " وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاب، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى".شرح النووي لصحيح مسلم (2/ 365).

الفائدة الثانية: الحديث دليل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، وهذا من خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: } قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال الله تعالى: } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وجاء في الصحيحين ما يؤيد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي" وفيه " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" وفي رواية لمسلم" وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وفي رواية " وأرسلت إلى الخلق كافة".

الفائدة الثالثة: الحديث في مفهومه دليل على أن من لم تبلغه الدعوة فهو معذور، لأن الوعيد في الحديث لمن سمع بالرسالة ولم يؤمن بها، بخلاف من لم تبلغه.

قال القرطبي رحمه الله: " وفيه دليل على أن لم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمره لا عقاب عليه، ولا مؤاخذة، وهذا كما قال تعالى: } وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15" [. المفهم (1/ 368).

واختلف أهل العلم فيمن لم تبلغه الدعوة ومات على ذلك وكذلك أطفال المشركين على أقوال ذكرها ابن القيم رحمه الله بأدلتها:

أحدها: الوقف، وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار.

والثاني: أنهم في النار.

والثالث: أنهم في الجنة.

والرابع: أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار.

والخامس: أنهم تحت مشيئة الله تعالى.

والسادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم.

والسابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة.

والثامن: أنهم يمتحنون في عرصة القيامة، واختاره ابن القيم رحمه الله حيث قال: " المذهب الثامن أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث

وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً " [انظر طريق الهجرتين الأقوال بأدلتها " فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة (1/ 570).

وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: " ما مصير من لم يبلغ بالإسلام يوم القيامة، باعتباره لم يتبلغ ولم يعرف الإسلام؟

فأجاب رحمه الله: " هذا حكمه حكم أهل الفترة الذين لم تبلغهم رسالة الرسل عليهم السلام، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن نجح منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، فمن لم تبلغه دعوة الإسلام ممن يكون نشأ في جاهلية بعيدة عن المسلمين، كما في زماننا مثلاً في أطراف أمريكا أو شواطئ إفريقيا البعيدة عن الإسلام، أو ما أشبه ذلك من الجهات التي لم تبلغها الإسلام، فهذا يمتحن يوم القيامة". مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الثامن، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 150).

أما في الدنيا فإننا نحكم عليهم بأنهم كفار كما هو ظاهر لنا، لأن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر، وإنما مصيرهم في الآخرة فإلى الله تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله:

" والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلف، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا؟ فذلك مالا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر". طريق الهجرتين (1/ 610).

وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:

" وظاهر الحديث أن مجرد السماع تقوم به الحجة؛ لأنه قال" لا يَسْمَعُ بِي" ولكن قيّد هذا الإطلاق بسماع يبين به الأمر؛ لقوله تعالى} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4 [لماذا؟ } لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] فلابد أن يحصل البلاغ الذي تقوم به الحجة

وأما الذين في أوربا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلا مشوهاً، فهل يُعذبون؟

فنقول في هؤلاء: هم الآن يدينون بالكفر، ويرون أنهم طرف نقيض مع الإسلام، فنحن نحكم عليهم بأنهم كفار في الظاهر، فإذا لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة، فأمرهم إلى الله يوم القيامة؛ لكن نحن نعاملهم الآن بما تقتضيه حالهم؛ لأنهم كفار".التعليق على مسلم (1/ 490 - 491).

الفائدة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " فيه جواز الحلف من غير استحلاف لاسيما في الأمور المهمة.

الفائدة الخامسة: قوله صلى الله عليه وسلم " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " فيه إثبات اليد لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، وهي صفة ذاتية خبرية دلّ عليها الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى} بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ومن السنة حديث الباب، وأجمع السلف على ثبوتها.

وخالف أهل السنة والجماعة المعطلة من الجهمية والمعتزلة الذين يؤولون صفة اليدين ويقولون المراد بها في النصوص؛ القدرة أو النعمة، أو القدرة والنعمة، والرد عليهم من وجوه أشهرها:

1 -

أن تفسير اليد بالقدرة والنعمة مخالف لظاهر لفظ الآية، ولا دليل على هذا التأويل.

2 -

أنه مخالف لإجماع السلف، فلا يعرف أحدٌ أولها بالقدرة والنعمة.

3 -

أن تأويلها بالقدرة والنعمة ممتنع في بعض الآيات كقوله تعالى} لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 25]، وقوله} يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} مما يدل على أنهما يدان اثنان، وتأويلهما بالنعمة يلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط وهذا ممتنع؛ لأن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى قال تعالى: } وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وتأويلها بالقدرة يلزم أن يكون له سبحانه قدرتان، ولا يجوز أن يكون له سبحانه قدرتان بإجماع العلماء.

4 -

أن الله تعالى يقول: } مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75] ولو كان المراد باليد القدرة لما كان لآدم عليه السلام فضل على غيره؛ لأن الخلق كلهم خلقوا بقدرة الله تعالى، بل لم يكن لآدم عليه السلام فضل على إبليس فإبليس خلق بقدرة الله أيضاً، والله تعالى ذكر ذلك مزية لآدم وأنه خلقه بيديه.

5 -

أن اليد التي أثبتها الله تعالى لنفسه جاءت في الأدلة مقرونة بأمور كثيرة، تدل على أنها يد حقيقية، فجاءت على وجوه يمتنع تأويلها بالقدرة والنعمة؛ حيث جاءت مقرونة بالطي، والقبض، والبسط واليمين، والنعمة، والقدرة لا توصف بهذه الأوصاف.

ص: 452

5 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما {الرحمن الرحيم} .

6 -

ومنها: إثبات ما تضمنه هذان الاسمان من الصفة - وهو الرحمة - والحكم: أنه يرحم بهذه الرحمة.

7 -

ومنها: أنه قد يكون للاسم من أسماء الله معنًى إذا انفرد؛ ومعنًى إذا انضم إلى غيره؛ لأن {الرحمن} لو انفرد لدل على الصفة، والحكم؛ وإذا جمع مع {الرحيم} جُعل {الرحمن} للوصف؛ و {الرحيم} للفعل.

القرآن

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]

التفسير:

إن في خلق السماوات بارتفاعها واتساعها، والأرض بجبالها وسهولها وبحارها، وفي اختلاف الليل والنهار من الطول والقصر، والظلمة والنور، وتعاقبهما بأن يخلف كل منهما الآخر، وفي السفن الجارية في البحار، التي تحمل ما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء المطر، فأحيا به الأرض، فصارت مخضرَّة ذات بهجة بعد أن كانت يابسة لا نبات فيها، وما نشره الله فيها من كل ما دبَّ على وجه الأرض، وما أنعم به عليكم من تقليب الرياح وتوجيهها، والسحاب المسيَّر بين السماء والأرض -إن في كل الدلائل السابقة لآياتٍ على وحدانية الله، وجليل نعمه، لقوم يعقلون مواضع الحجج، ويفهمون أدلته سبحانه على وحدانيته، واستحقاقه وحده للعبادة.

اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية الكريمة على أقوال (1):

أحدها: أنزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان.

قال عطاء: "نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: {وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره: " إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار "، إلى قوله: " لآياتٍ لقوم يَعقلون "، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء"(2).

الثاني: أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية]، فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.

أخرج ابن مَرْدُويه عن ابن عباس قال: "أتت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك. قال: "أوثقوا لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا لتُؤْمنُنّ بي" فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين. قال محمد صلى الله عليه وسلم: "ربّ لا بل دعني وقومي فلأدعهم يومًا بيوم". فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية"(3).

وأخرج الطبري عن أبي الضحى (4)، وعطاء بن أبي رباح (5)، وسعيد (6)، والسدي (7)، نحو ذلك.

(1) انظر: تفسير الطبري: 3/ 267 - 270، والعجاب: 1/ 414 - 415.

(2)

أخرجه الطبري (2398): ص 3/ 268.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 475.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2399)، و (2400)، و (2401): ص 3/ 268 - 269.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2402): ص 3/ 269.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2403): ص 3/ 269 - 270.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2404): ص 3/ 270.

ص: 454

والراجح" أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت"(1).

قوله تعالى: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ الأرْضِ} [البقرة: 164]، أي "إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما"(2).

قال الصابوني: " أي إِن في إِبداع السماوات والأرض بما فيهما من عجائب الصنعة ودلائل القدرة"(3).

قال ابن عثيمين: "أي إيجادهما من عدم؛ ويشمل ذلك بقاءهما، وكيفيتهما، وكل ما يتعلق بهما من الشيء الدال على علم الله سبحانه وتعالى، وقدرته، وحكمته، ورحمته"(4).

قال الشيخ السعدي: أي: "في ارتفاعها واتساعها، وإحكامها، وإتقانها، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر، والنجوم، وتنظيمها لمصالح العباد، وفي خلق (الأرْضِ) مهادا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها، والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها، وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع، من منافع الخلق ومصالحهم، وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة، لانفراده بالخلق والتدبير، والقيام بشئون عباده"(5).

و(السموات) جمع سماء، وتقدم أنها سبع؛ و (الأرض) مفرد يراد به الجنس؛ فيشمل السبع.

قال البيضاوي: " إنما جمع {السموات}، وأفرد {الأرض}، لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين"(6).

قوله تعالى: {اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]، " أي: تعاقبهما بنظام محكم" (7).

قال البيضاوي: أي" تعاقبهما، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله"(8).

قال السعدي: " وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض، من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير، وتسخير، تنبهر له العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها، وعلمه وحكمته، ورحمته الواسعة، ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره، الذي تفرد به، وعظمته، وعظمة ملكه وسلطانه، مما يوجب أن يؤله ويعبد، ويفرد بالمحبة والتعظيم، والخوف والرجاء، وبذل الجهد في محابه ومراضيه"(9).

وفي تفسير {وَاخْتِلَافِ} ، في قوله تعالى:{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} وجهان (10):

أحدهما: أنه (إفتعال)، من (خُلوف) كل واحد منهما الآخر، من قولهم: خلَفه يخلُفه، إذا ذهب الأول وجاء الثاني خلافه، أي: بعده، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ

(1) تفسير الطبري: 3/ 270.

(2)

تفسير الطبري: 3/ 270.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 209.

(5)

تفسير السعدي: 1/ 78.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(9)

تفسير السعدي: 1/ 78.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 32، والتفسير البسيط: 3/ 454 - 455، والبحر المحيط: 1/ 465.

ص: 455

شُكُورًا} [سورة الفرقان: 62]، بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء، ومنه قول زهير (1):

بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً

وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم

الثاني: أنه أراد: اختلافهما في الطول والقصر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان. قاله ابن كيسان (2)، وعطاء (3).

قال ابن عثيمين: " واختلاف الليل، والنهار أيضاً في الطول، والقصر، كما قال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} [الحج: 61] على وجه خفي لا يشعر الناس به: يزداد شيئاً فشيئاً، وينقص شيئاً فشيئاً - ليست الشمس تطلع فجأة من مدار السرطان، وفي اليوم التالي مباشرة من مدار الجدي! ولكنها تنتقل بينهما شيئاً فشيئاً حتى يحصل الالتئام، والتوازن، وعدم الكوارث؛ فلو انتقلت فجأة من مدار السرطان إلى مدار الجدي لهلك الناس من حر شديد إلى برد شديد؛ والعكس بالعكس؛ ولكن الله - جل وعلا - بحكمته، ورحمته جعلها تنتقل حتى يختلف الليل والنهار على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته"(4).

قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]، أي: إن في السفن التي تسير في البحر (5).

قال أبو مالك: " {الفلك}: السفينة"(6). وروي عن سعيد بن جبير مثله (7).

قال مقاتل: " يعني السفن التي في البحر"(8).

قال الصابوني: " أي السفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء وهي موقرةٌ بالأثقال"(9).

و(الفلك): "هي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها"(10).

واختلف في مفرد (الفلك) على قولين (11):

أحدهما: أن واحدُه وجمعه بلفظ واحد، فتطلق على المفرد، كما في هذه الآية؛ وعلى الجمع، كما في قوله تعالى:{حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]، ويذكَّر ويؤنث كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [سورة يس: 41]، فذكَّره (12).

(1) شرح المعلقات السبع للزوزني: 72، "جمهرة اللغة" ص 415 - 416، "لسان العرب" 2/ 1237 (خلف)، و 5/ 2700، وبلا نسبة في "رصف المباني" ص 145، والهاء في " بها " إلى " ديار أم أوفى " صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن الرمل. " خلفة " إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 32، و "البحر المحيط" 1/ 465.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 32، وتفسير القرطبي: 2/ 176، وتفسير البغوي: 1/ 177.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 210.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 211. [بتصرف بسيط].

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1467): ص 1/ 273.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 273.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 153.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(10)

تفسير السعدي: 1/ 78.

(11)

انظر: تفسير غريب القرآن: 64، وتفسير الطبري: 3/ 270، وتهذيب اللغة: 3/ 2830 - 2831، والمفردات: 387، واللسان: 6/ 3465 (فلك)، والتفسير البسيط: 3/ 455، وتفسير القرطبي: 2/ 178.

(12)

تفسير الطبري: 3/ 273.

ص: 456

والثاني: وقيل: واحده: فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها، ومنه فلكة المغزل، وسميت السفينة فلكا، لأنها تدور بالماء أسهل دور (1).

وتخصيص {الْفُلْكِ} بالذكر، "لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وتأنيث الْفُلْكِ لأنه بمعنى السفينة"(2).

قال القرطبي: " ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها"(3).

ويحتمل {في} ، في قوله تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]، وجهان (4):

أحدهما: أن المعنى تسير؛ في جوف البحر، على الأصل.

قال ابن عثيمين: "فالغواصات تجري في البحر بما ينفع الناس وهي في جوفه؛ لأنه يقاتل بها الأعداء، وتحمى بها البلاد؛ وهذا مما ينفع الناس.

الثاني: ويجوز أن تكون (في) بمعنى (على)، أي على سطح البحر، كقوله تعالى:{ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} [الشورى: 32].

قال ابن عثيمين: " وهذه أيضاً من آيات الله؛ سفن محملة بالآدميين، والأمتعة، والأرزاق، تجري على سطح الماء بدون تقلب، أو إزعاج غالباً! هذا من آيات الله؛ وقد حدث في عصرنا هذا ما هو أعظم آية، وأكبر منه؛ وهو الفلك الذي يجري في الهواء؛ فإذا أشار الله سبحانه وتعالى إلى شيء من آياته في أمر فما هو أعظم منه يكون أقوى دلالة على ذلك؛ وها هو الطير مسخراً في جو السماء لا يمسكه إلا الله من آيات الله، كما قال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [النحل: 79]؛ هذه الطيور لا تحمل إلا نفسها، فجعلها الله سبحانه وتعالى آية؛ فكيف بهذه الطائرات! تكون أعظم، وأعظم"(5).

وقرئ {الْفُلُكِ} بضمتين على الأصل، أو الجمع، وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين" (6).

قوله تعالى: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]، "أي بما فيه مصالح الناس"(7).

قال مقاتل: " في معايشهم"(8).

قال الواحدي: " أي: بالذي ينفعهم، من ركوبها، والحمل عليها في التجارات، وينفع الحامل؛ لأنه يريح، والمحمول إليه؛ لأنه ينتفع بما حمل إليه"(9).

قال القرطبي: أي: " أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم"(10).

قال ابن عطية: " هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج، والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها، فلذلك خص ذكر الانتفاع إذ قد تجري بما يضر"(11).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 2/ 194.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(3)

تفسير القرطبي: 2/ 194.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 211.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 211.

(6)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 116.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 153.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 456 - 457.

(10)

تفسير القرطبي: 2/ 196.

(11)

المحرر الوجيز: 1/ 233.

ص: 457

و (الباء) هنا للمصاحبة - أي مصحوبة بما ينفع الناس من الأرزاق، والبضائع، والأنفس، والذخائر، وغيرها؛ لأن {ما} اسم موصول يفيد العموم؛ فالفلك آية من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته، وكمال رحمته، وتسخيره، كما قال تعالى في أخرى:{وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار} [إبراهيم: 32](1).

ومن حكمة الله عز وجل أنه قدر في الأرض أقواتها - يعني جعل قدْراً هنا، وقدْراً هنا، وقدْراً هنا؛ لأجل أن ينتفع الناس؛ فهناك ناس لا تكثر عندهم البقول، والخضروات، وما أشبه ذلك؛ يأتيهم من أرض أخرى؛ وهناك ناس يكثر عندهم نوع من النخيل لا يوجد في مكان آخر، فينقل إلى المكان الآخر، فيتبادل الناس الأرزاق، وينتفع الناس، ويتحركون - كل فيما قدر له (2).

قوله تعالى: {وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} [البقرة: 164]، " أي وما أنزل الله من السحاب من المطر"(3).

قال مقاتل: يعنى بالماء" (4).

قال السعدي: "وهو المطر النازل من السحاب (5).

قال ابن عطية: " يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق"(6).

قال ابن عثيمين: أي" وفيما أنزل الله سبحانه وتعالى من السماء من ماء؛ والمراد بـ (السماء) هنا العلو؛ لأن المطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء، والأرض؛ وليس من السماء نفسها"(7).

قال أبو هريرة: "ما نزل قطر إلا بميزان"(8).

والمطر الذي أنزله الله من السماء؛ وفيه آيات عظيمة، منها (9):

أحدها: كونه ينزل رذاذاً هذا من آيات الله الدالة على رحمته؛ لأنه لو كان ينزل صباً لأهلك العالم.

الثاني: كونه ينزل من السماء لا يجري من الأرض هذا أيضاً من آيات الله؛ لأجل أن ينتفع به سهول الأرض، وجبالها؛ ولو كان يجري من الأرض لغرق الأسفل قبل أن يصل إلى الأعلى.

الثالث: كذلك من آيات الله كونه ينزل لا حاراً، ولا بارداً؛ البردَ ذكره الله تعالى في سياق يدل على أنه نوع من الانتقام، فقال تعالى:{وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} [النور: 43]؛ وإن كان الله قد يجعله رحمة؛ لكن الغالب أنه انتقام.

قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [القرة: 164]، "أي أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار، بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار"(10).

قال مقاتل: أي بعد" يبسها"(11).

قال السعدي: "أي: فأظهرت من أنواع الأقوات، وأصناف النبات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون بدونها"(12).

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 211.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 211.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 153.

(5)

تفسير السعدي: 1/ 78.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 233.

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 211.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم (1468): ص 1/ 274.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 212.

(10)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 154.

(12)

تفسير السعدي: 1/ 78.

ص: 458

قال قتادة: " كما أحيا الله الأرض الميتة بهذا الماء، كذلك [يحيي] الله عز وجل الناس يوم القيامة"(1).

قال الواحدي: " أراد بموت الأرض: جدوبتها ويبوستها، فسماها موتا مجازا، وذلك أن الأرض إذا لم يصبها مطر لم تنبت، ولم تنم نباتا، وكانت من هذا الوجه كالميت، وإذا أصابها المطر أنبتت، ونحو هذا قوله:{وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5]، فلما وصفت بالاهتزاز وهو الحركة عند نزول الماء، توصف عند إمساك الماء بالسكون، والعرب تسمي السكون موتا، قال الشاعر (2):

إني لأرجو أن تموت الريح

فأسكن اليوم وأستريح

فيجوز أن يراد بالموت في هذه الآية: ضد الاهتزاز الذي وصفت به عند نزول الماء، ولما سمى ذلك موتا سمى إزالتها إحياء ليتجانس اللفظ " (3).

قال الشيخ ابن عثيمين: " وفي إحياء النبات آيات كثيرة: آيات دالة على الرحمة؛ وآيات دالة على الحكمة؛ وآيات دالة على القدرة"(4):

الأول: آيات دالة على الرحمة: لما في هذا الإحياء من المنافع العظيمة؛ لقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم} [النازعات: 31، 33]، وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً

} [عبس: 24] إلى قوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} ؛ فكم من نعم كثيرة في هذه الزروع التي أحياها الله سبحانه وتعالى بالمطر لنا، ولأنعامنا قوتاً، ودواءً، وغير ذلك.

والثاني: وآيات دالة على الحكمة: وهو أن حياة الأرض جاءت بسبب - وهو الماء الذي نزل؛ فمنه نأخذ أن الله - جل وعلا - يخلق بحكمة، ويقدّر بحكمة؛ الله - جل وعلا - قادر على أن يقول للأرض:«أنبتي الزرع» فتنبت بدون ماء؛ لكن كل شيء مقرون بسبب؛ فكونه جلا وعلا ربط إحياء الأرض بنزول الماء يدل على الحكمة، وأن كل شيء له نظام خاص لا يتعداه منذ خُلق إلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم.

الثالث: وآيات دالة على القدرة: وهي أنك ترى الأرض خاشعة هامدة سوداء شهباء ما فيها شيء؛ فإذا أنزل الله عليها المطر؛ تأتي إليها بعد نحو شهر تجدها تهتز أزهاراً، وأوراقاً، وأشجاراً: قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39]؛ وهذه قدرة عظيمة؛ واللَّهِ! لو أن البشر من أولهم إلى آخرهم اجتمعوا على أن يخرجوا ورقة واحدة من حبة لما استطاعوا؛ وحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ أليس هذا دليلاً على القدرة العظيمة! ! ! (5).

قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، " أي نشر في الأرض من الدواب المتنوعة"(6).

قال الصابوني: " أي نشر وفرّق في الأرض من كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، المختلفة في أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها"(7).

قال ابن كثير: أي: نشر من الدواب المتنوعة، "على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] "(8).

قال السعدي: "وهو دليل على قدرته وعظمته، ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع، فمنها: ما يأكلون من لحمه، ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو

(1) اخرجه ابن أبي حاتم (1472): ص 1/ 274.

(2)

البيت في "اللسان" 7/ 4295 (موت)، بغير نسبة. وينظر:"شأن الدعاء" ص 116، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 381.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 457، وانظر: مفاتيح الغيب: 4/ 198 - 199.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 213.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 213.

(6)

تفسير السعدي: 78. [بتصرف بسيط].

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 98.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 475.

ص: 459

ساع في مصالحهم وحراستهم، ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها" (1).

وفي تفسير (البث) في قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وجوها:

أحدها: أن معنى" {بث}: خلق". قاله السدي (2)، وروي عن مقاتل بن حيان (3)، مثل ذلك.

الثاني: أنه يعني: بسط". قاله مقاتل بن سليمان (4).

الثالث: أن" معناه: فرق وبسط". قاله ابن عطية (5).

وجميع المعاني متقاربة، والله أعلم.

قال الواحدي: " البث: النشر والتفريق، ومنه قوله تعالى: {وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء: 1]، ومنه: {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4]، ويقال: بثثته سري أبثثته، إذا أطلعته عليه؛ لأنك فرقت بين سرك وبينك، ويقال للحزن: بث؛ لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يظهره"(6).

قال الشيخ ابن عثيمين: "وأتى بـ (كل) لإفادة العموم الشامل لجميع الأجناس، والأنواع، والأفراد؛ ففي الأرض دواب لا يَعلَم بأنواعها، ولا أجناسها - فضلاً عن أفرادها - إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى يعلم هذه الأجناس، وأنواعها، وأفرادها، وأحوالها، وكل ما يصلحها؛ ففيها من آيات الله الدالة على كمال قدرته، ورحمته، وعلمه، وحكمته ما يبهر العقول؛ تجد هذه الدواب المختلفة المتنوعة، والحشرات الصغيرة كيف هداها الله لما خلقت له؛ قال تعالى:{أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] حتى إنك لترى الماء يدخل في جحر النمل، فترى النملة تخرج من هذا الجحر حاملة أولادها! ماذا ترجو من هذه الأولاد؟ ! لكن رحمة أرحم الراحمين أن جعل في قلب هذه النملة رحمة لتحمل أولادها عن الغرق؛ كذلك أيضاً السباع الضارية التي تأكل ما دون أولادها من الحيوان: تجدها تحنو على ولدها، وتربيه؛ حتى إذا استقل بنفسه صار عدواً لها، أو صارت عدوة له؛ فالهرة تربي أولادها؛ فإذا استغنوا عنها طردتهم، وصارت عدوة لأولادها؛ فهذا من آيات الله عز وجل؛ ترى بعض الدواب تدب على الأرض؛ ولكن لا تكاد تدرك جسمها صغراً فضلاً عن أعضائها، وعما في جوفها؛ ومع ذلك فهي عايشة، وتعرف مصالحها، وتعرف جحرها تأوي إليه؛ فهذه من آيات الله عز وجل؛ ومن درس في علم الأحياء وجد من هذا ما يبهر العقول؛ فما بث الله سبحانه وتعالى في الأرض من الدواب من أجناسها، وأنواعها، وأفرادها فيه من آيات الله ما لا يحصى؛ لأن في كل شيء منه آية؛ وهو لا يحصى أنواعاً، أو أجناساً فضلاً عن أفرادٍ؛ وهذه الدواب تنقسم باعتبار مصالح الخلق إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما فيه مصلحة خالصة، أو راجحة.

الثاني: ما فيه مضرة خالصة، أو راجحة؛ لكن مضرتها لها حِكَم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.

الثالث: ما لا مضرة فيه، ولا مصلحة؛ ولكن فيه دلالة على كمال الله سبحانه وتعالى" (7).

والآية فيها مع ظهور القدرة على إنشاء {الدابة} من ثلاثة أوجه (8):

أحدها: تباين خلقها.

والثاني: اختلاف معانيها.

والثالث: إلهامها وجوه مصالحها.

واختلف في تفسير {دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، على قولين:

(1) تفسير السعدي: 1/ 78.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1473): ص 1/ 275.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 275.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 154.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 233.

(6)

البتفسير البسيط: 3/ 458، وانظر: المفردات: 47، واللسان: 1/ 208: (بثث).

(7)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 214 - 215.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 217.

ص: 460

أحدهما: أنها تجمع الحيوان كله. وهذا قول الأكثرين (1).

قال الماوردي: " يعني جميع الحيوان الذي أنشأه فيها، سماه {دابة} لدبيبه عليها"(2).

الثاني: أن الدابة اسم لكل ذي روح كان، غير طائر بجناحيه لدبيبه على الأرض، وهو قول الطبري (3)، وظاهر كلام الرازي (4).

وقد رد القول الثاني جماعة من أهل العلم كابن عطية (5)، وأبي حيان (6)، والقرطبي (7).

قال القرطبي: "وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته"(8)، ومنه قول الأعشى (9):

نياف كغض البان ترتجّ إنْ مشتْ

دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبدة (10):

فكأنما صَابَتْ عليه سحابة

صواعقها لطيرهن دبيب

وقال الحافظ ابن حجر: " الدابة: ما دبّ من الحيوان"(11)، واستثنى بعضهم (12) الطير لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، لقوله تعالى لقوله تعالى:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، وعرفاً: ذوات الأربع (13)، وقيل: يختص بالفرس (14)، وقيل: بالحمار (15)، والمراد هنا المعنى اللغوي" (16)، أي: كل ما دب على الأرض من كائن له روح ليفيد العموم.

قوله تعالى: {وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164]، "أي وتوجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة"(17).

قال ابن عثيمين: "أي: تنويعها في اتجاهها، وشدتها، ومنافعها"(18).

قال مقاتل: أي" في العذاب والرحمة"(19).

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 217، والمحرر الوجيز: 1/ 233، وتفسير القرطبي: 2/ 197.

(2)

النكت والعيون: 1/ 217.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 275.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 222.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 35.

(6)

البحر المحيط: 1/ 455

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 197.

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 197.

(9)

ديوانه: 161، والبحر المحيط: 1/ 629، والدر المصون: 1/ 424.

(10)

المفضليات: 395، واللسان (صوب). والبيت في مفضليته التي مطلعها:

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

(11)

انظر: لسان العرب لابن منظور: 2/ 1314، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 4/ 50، المفردات للراغب: 164، الوسيط للواحدي: 1/ 247، النكت والعيون للماوردي: 1/ 217، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 35، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 196 - 197، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 455، تاج العروس للزبيدي: 1/ 478، الدر المصون للسمين: 3/ 52.

(12)

ويقصد به الإمام الطبري: 3/ 275، وظاهر كلام الرازي في مفاتيح الغيب: 12/ 222.

(13)

لم أهتد إلى من ذكر هذا العرف مع البحث، والذي في لسان العرب: 2/ 1314: (والدابة: التي تركب، قال: وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب)، وما يركب أخص من ذوات الأربع، وانظر: الصحاح للجوهري: 1/ 124، وتاج العروس للزبيدي: 1/ 478، عمدة القاري للعيني: 10/ 178.

(14)

قاله: الراغب في المفردات: 164.

(15)

لم أهتدِ إلى من ذكره.

(16)

الفتح: 6/ 400.

(17)

تفسير المراغي: 2/ 37.

(18)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 215.

(19)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 154.

ص: 461

قال ابن كثير: "تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، تارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه"(1).

عن أبي بن كعب، قال:"كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب"(2).

و(الرِّيَاحِ) جمع ريح؛ وهي الهواء؛ وفي قراءة: {الريح} بالإفراد (3)؛ والمراد به الجنس؛ والتصريف يشمل تصريفها من حيث الاتجاه؛ تصريفها من حيث الشدة، وعدمها؛ تصريفها من حيث المنافع، وعدمها؛ فمن حيث الاتجاه جعلها الله سبحانه وتعالى متجهة جنوباً، وشمالاً، وغرباً، وشرقاً؛ وهذه هي أصول الجهات؛ وهناك جهات أخرى تكون بينها؛ وتسمى النكبة؛ لأنها ليست في الاستقامة في الشرق، أو الغرب، أو الشمال، أو الجنوب؛ فهي نكباء - ناكبة عن الاتجاه الأصلي (4).

قال ابن الأنباري: "إنما سميت الريح ريحا؛ لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم، فهي مأخوذة من الروح. وأصلها: روح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا في الميزان والميعاد والعيد، والدليل على أن أصلها الواو: قولهم في الجمع: أرواح.

قال زهير (5):

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديم

ويقال: رحت الريح أراحها، وأرحتها أريحها: إذا وجدتها، ومنه الحديث:"من استرعي رعية فلم يحطهم بنصيحة، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة مائة عام"(6) " (7).

وفي قوله تعالى: {وَتَصْرِيفَ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164]، وجهان (8):

أحدهما: اختلاف هبوبها في انتقال الشمال جنوبها، والصبا دبوراً، فلا يعلم لانتقالها سبب، ولا لانصرافها جهة.

والثاني: ما جعله في اختلافها من إنعام ينفع، وانتقام يؤذي.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَتَصْرِيفَ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164]، على وجهين (9):

أحدهما: قرأ حمزة والكسائي: {الريح} على الإفراد، وكذا في:(الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية)، لا خلاف بينهما في ذلك، ووافقهما ابن كثير في:(الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى)، وأفرد حمزة {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]. وأفرد ابن كثير {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [الفرقان: 48].

الثاني: وقرأ الباقون {الرِّيَاحِ} ، بالجمع في جميعها سوى الذي في:(إبراهيم والشورى) فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع.

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 475.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1475): 1/ 275.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 172 - 173، وتفسير القرطبي: 2/ 198 - 199.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 95.

(5)

"ديوانه" ص 145، "لسان العرب" 8/ 4942.

(6)

الحديث أصله في الصحيحين، رواه البخاري (7150، 7151) كتاب الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم (142) في الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، وليس في ألفاظهما:"لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة مائة عام"، ولفظ (لم يرح) في حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا:"من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري (3166) كتاب الجزية، باب: إثم من قتل معاهدا بغير جرم، (6914) كتاب: الديات، باب: إثم من قتل ذميا بغير جرم.

(7)

التفسير البسيط: 3/ 459.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 217.

(9)

انظر: السبعة في القراءات: 172 - 173، وتفسير القرطبي: 2/ 198 - 199.

ص: 462

قال ابن عثيمين: "وفي تصريف هذه الرياح آيات: لو بقيت الريح في اتجاه واحد لأضرت بالعالم؛ لكنها تتقابل، فيكسر بعضها حدةَ بعض، ويذهب بعضها بما جاء به البعض الآخر من الأذى، والجراثيم، وغيرها؛ كذلك أيضاً في تصريفها آيات بالنسبة للسحاب فبعضها يجمع السحاب؛ وبعضها يفرقه؛ وبعضها يلقحه؛ وبعضه يدره، فيمطر، كما قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء} [الروم: 48]، وقال تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22]؛ قال المفسرون: تلقح في السحاب؛ وفي تصريف الرياح أيضاً آيات للسفن الشراعية؛ وفيه أيضاً آيات في إهلاك الناس، وإنجاء آخرين: أهلك الله به عاداً، وطرد به الأحزاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنجى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الريح من شر الأحزاب؛ ومن تدبر هذا عرف ما فيها من قدرة الله، ورحمته، وعزته، وحكمته؛ لو أن جميع مكائن الدنيا كلها اجتمعت، وصارت على أقوى ما يكون من نَفْث هواء لا يمكن أن تحرك ساكناً إلا فيما حولها فقط؛ لكن أن تصل من أقصى الشمال إلى الجنوب، أو بالعكس فلا؛ والله - جل وعلا - يقول للشيء إذا أراده: {كن فيكون} [البقرة: 117]؛ فتجد الرياح شديدة شمالية؛ وفي لحظة تنعكس، وتكون جنوبية شديدة؛ هذه تمام القدرة العظيمة، حيث يدبر الله هذه الرياح بأمر لا يستطيعه البشر؛ ولهذا صار تصريف الرياح آية من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته؛ ثم إن في تصريفها أيضاً مصالح للسفن الجوية؛ لأن لها تأثيراً على الطائرات - كما يقولون؛ وكذلك بالنسبة للسيارات لها تأثير"(1).

قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]، "أي: وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض" (2).

قال ابن كثير: أي: "سائر بين السماء والأرض يُسَخَّر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى"(3).

قال المراغي: " أي الغيم الذي ذلل وسحب فى الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد"(4).

قال الواحدي: " سمي السحاب لانسحابه في الهواء، ومعنى التسخير: التذليل، {والسحاب المسخر}: المطيعة لله تعالى"(5).

قال ابن عثيمين: " و (وَالسَّحَابِ) هو هذا الغمام، والمزن؛ وسمي سحاباً؛ لأنه ينسحب انسحاباً في الجو بإذن الله؛ و (الْمُسَخَّرِ)، أي المذلل بأمر الله لمصالح الخلق؛ ومن الآيات فيه أنه دال على: القدرة (6)، والرحمة (7)، والحكمة (8).

والمراد بـ (السماء): "السقف المرفوع؛ و {الأرض} : أرضنا هذه؛ وهذه البينية لا تقتضي الملاصقة، ولا المماسة - كما هو ظاهر؛ وبهذا يعرف الرد على الذين أنكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» (9)، وقالوا: «لو كان هذا حقيقة للزم أن تكون أصابع الرحمن

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 216 - 217.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 217.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 475.

(4)

تفسير المراغي: 2/ 37.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 466، وانظر: المفردات" 233، "التفسير الكبير" 4/ 202، "اللسان" 4/ 1963 (سخر).

(6)

قال: " أما دلالته على القدرة: فلأنه لا يستطيع أحد أن يفرقه إلا الله؛ ولا يستطيع أحد أن يوجهه إلى أي جهة إلا الله؛ ثم من يستطيع أن يجعل هذا السحاب أحياناً متراكماً حتى يكون مثل الجبال السود يوحش من يراه؛ وأحياناً يكون خفيفاً؛ وأحياناً يكون سريعاً؛ وأحياناً يكون بطيئاً؛ وأحياناً لا يتحرك؛ لأنه يسير بأمر الله". [تفسير ابن عثيمين: 2/ 217].

(7)

قال: "وأما دلالته على الحكمة: فلأنه يأتي من فوق الرؤوس حتى يكون شاملاً لما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها؛ ويأتي قطرات حتى لا ينهدم البنيان، ولا تشقق الأرض". [تفسير ابن عثيمين: 2/ 217].

(8)

قال: "وأما دلالته على الرحمة: فلما يحصل من آثاره من نبات الأرض المختلف الذي يعيش عليه الإنسان، والبهائم". [تفسير ابن عثيمين: 2/ 217].

(9)

أخرجه مسلم ص 1140، كتاب القدر، باب 33: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، حديث رقم 6750 [17]2654.

ص: 463

داخل أجوافنا؛ وهذا مستحيل؛ فيكون ظاهر الخبر مستحيلاً، ويصرف إلى معنى أن الله يقلب القلوب دون أن تكون بين أصابعه»؛ ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ وقد تبين بهذه الآية الكريمة أن البينية لا تستلزم الملاصقة، والمماسة؛ وعليه فلا يكون من لازم كون القلوب بين أصابع الرحمن أن تكون أصابعه داخل أجوافنا؛ ويقال أيضاً: بدر بين مكة والمدينة - هذا في المكان، وبينهما مسافة واضحة" (1).

وفي قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]، ثلاثة أوجه (2):

أحدها: ابتداء نشوئه وانتهاء تلاشيه.

والثاني: ثبوته بين السماء والأرض من غير عَمَد ولا علائق.

والثالث: تسخيره وإرساله إلى حيث يشاء الله عز وجل.

قوله تعالى: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، "أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب"(3).

قال أبو الضحى: " يقول: في هذه الآيات لقوم يعقلون"(4).

قال ابن كثير: "أي: في هذه الأشياء، دلالات بينة على وحدانية الله تعالى"(5).

قال الصابوني: " أي لدلائل وبراهين عظيمة دالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة لقوم لهم عقول تعي وأبصار تدرك، وتتدبر بأن هذه الأمور من صنع إِله قادر حكيم"(6).

قال القرطبي: " أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: {وإلهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها"(7).

و{آيات} : "جمع آية؛ وهي العلامة المعيِّنة لمعلومها؛ وصارت تلك آيات؛ لأنها دالة على كمال علم الله، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وسلطانه، وغير ذلك من مقتضى ربوبيته"(8).

قال ابن طية: " فهذه آيات أن الصانع موجود. والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحدا لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا"(9).

قال ابن عثيمين: " فالإنسان العاقل حقاً إذا تأمل هذه الأشياء وجد أن فيها آيات تدل على خالقها - جل وعلا -، وموجدها، وعلى ما تضمنته من صفات كماله؛ أما الإنسان المعرض - وإن كان ذكاؤه قوياً - فإنه لا ينتفع بها - ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بأنهم لا يعقلون مع أنهم في العقل الإدراكي - يدركون به ما ينفعهم، وما يضرهم - عقلاء؛ لكن نفاه الله عنهم لعدم انتفاعهم به، وعدم عقلهم الرشدي الذي يرشدهم إلى ما فيه مصلحتهم"(10).

قال الماوردي: " وهذه الآية قد جمعت من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ما صار لذوي العقول مرشداً وإلى الحق قائداً. فلم يقتصر الله بنا على مجرد الإخبار حتى قرنه بالنظر والاعتبار "(11).

الفوائد:

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 218.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 218.

(3)

تفسير المراغي: 2/ 37.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1477): ص 1/ 275.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 475.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 201.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 218.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 234.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 218 - 219.

(11)

النكت والعيون: 1/ 218.

ص: 464

1 -

من فوائد الآية: عظم خلق السموات، والأرض؛ لقوله تعالى:{لآيات} ؛ فلولا أنه عظيم ما كان آيات.

2 -

ومنها: أن السموات متعددة؛ لقوله تعالى: {إن في خلق السموات} .

3 -

ومنها: أن السموات مخلوقة؛ فهي إذاً كانت معدومة من قبل؛ فليست أزلية.

ويتفرع على هذه الفائدة الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم الأفلاك - يعنون أنها غير مخلوقة، وأنها أزلية أبدية؛ ولهذا أنكروا انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الأفلاك العلوية لا تقبل التغيير، ولا العدم؛ وفسروا قوله تعالى:{اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] بأن المراد ظهور العلم، والنور برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا شك أن هذا تحريف باطل مخالف للأحاديث المتواترة الصحيحة في انشقاق القمر انشقاقاً حسياً.

4 -

ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتأمل في هذه السموات والأرض ليصل إلى الآيات التي فيها؛ فيكون من الموقنين.

5 -

ومنها: أن الآيات في خلق السموات، والأرض متنوعة بحسب ما تدل عليه من القدرة، والحكمة، والرحمة، وما إلى ذلك.

6 -

ومنها: ما في اختلاف الليل، والنهار من الآيات، والعبر التي سبق بيان شيء منها؛ لقوله تعالى:{واختلاف الليل والنهار} .

7 -

ومنها: أن اختلاف الليل، والنهار من رحمة الله، وحكمته.

8 -

ومنها: ما في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس من آيات الله، ونعمه؛ وسبق تفصيل ذلك، وقال القرطبي:" هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد"(1).

9 -

ومنها: ما تضمنه إنزال المطر من السماء؛ ففيه آيات عظيمة سبقت الإشارة إليها.

10 -

ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: {فأحيا به الأرض بعد موتها} من الآيات؛ وسبق الكلام عليها؛ وهي آيات عظيمة دالة على كمال القدرة، والرحمة، والعظمة، وعلى إحياء الله سبحانه وتعالى الموتى.

11 -

ومنها: ما تضمنه قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} من الآيات التي سبق بيان شيء منها.

12 -

ومنها: ما في تصريف الرياح من الآيات التي سبق ذكر شيء منها.

13 -

ومنها: ما في السحاب المسخر بين السماء، والأرض من الآيات العظيمة؛ وسبق ذكر شيء منها.

14 -

ومنها: مدح العقل، وأنه به يستظهر الإنسان الآيات التي تزيده إيماناً، ويقيناً؛ لقوله تعالى: {لقوم يعقلون

15 -

ومنها: أن الناس ينقسمون في هذه الآيات إلى قسمين: قسم يعقل ما فيها من الآيات، ويستدل به على ما لله سبحانه وتعالى فيها من كمال الصفات؛ وقسم لا يعقلون ذلك، وقد وصفهم الله تعالى بقوله:{إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا} [الفرقان: 44].

القرآن

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]

التفسير:

ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصنامًا وأوثانًا وأولياء يجعلونهم نظراء لله تعالى، ويعطونهم من المحبة والتعظيم والطاعة، ما لا يليق إلا بالله وحده. والمؤمنون أعظم حبا لله من حب هؤلاء الكفار لله ولآلهتهم؛ لأن المؤمنين أخلصوا المحبة كلها لله، وأولئك أشركوا في المحبة. ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك في الحياة الدنيا، حين يشاهدون عذاب الآخرة، أن الله هو المتفرد بالقوة جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لما اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم من دونه، ويتقربون بهم إليه.

(1) تفسير القرطبي: 2/ 195.

ص: 465

في سبب نزول الآية: قال ابن حجر: "قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب"(1).

قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165]، أي: ومن الناس من يتخذ من غير الله رؤساء وأَصناماً" (2).

قال البغوي: أي: "أصناما يعبدونها"(3).

قال ابن كثير: " أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ندَّ له، ولا شريك معه"(4).

قال المراغي: " أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون"(5).

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك"(6).

وقوله {أَنْدَادًا} جمع ندّ؛ وهو الشبيه النظير؛ لأنه من: نادّه ينادّه إذا كان نظيراً له مكافئاً له (7).

واختلف أهل التأويل في (الأنداد) التي كان القوم اتخذوها، على أقوال (8):

أحدها: أنها: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. وهذا قول قتادة (9)، ومجاهد (10)، والربيع (11)، وابن زيد (12)، أبو العالية (13).

فكانوا يعبدونهم "لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا من عندها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور، وقربوا لها القرابين، وهو قول أكثر المفسرين، وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض، أي أمثال ليس إنها أندادا لله، أو المعنى: إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة"(14).

الثاني: أنهم: سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى. قاله السدي (15)، وابن عباس (16).

فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله (17).

والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه (18):

الأول: أن قوله: {يحبونهم كحب الله} الهاء والميم فيه ضمير العقلاء.

الثاني: أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع.

(1) العجاب: 1/ 416، ولم يقل مقاتل هذا وإنما قال:" {وَمِنَ النَّاس} يعني مشركي العرب". انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 154.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 99. [بتصرف بسيط].

(3)

تفسير البغوي: 1/ 178.

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 476.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 38.

(6)

صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).

(7)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 97.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 279 - 280.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2406): ص 3/ 279.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2407)، و (2408): ص 3/ 279.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2409): ص 3/ 280.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2410): ص 3/ 280.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1478): ص 1/ 276.

(14)

مفاتيح الغيب: 4/ 174.

(15)

انظر: تفسير الطبري (2411): ص 3/ 280، وابن أبي حاتم (1481): ص 1/ 276.

(16)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 203.

(17)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 174.

(18)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 174.

ص: 466

الثالث: أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} [البقرة: 166]، وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالا لله تعالى، يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم، ما يلتزمه المؤمنون من الإنقياد لله تعالى.

الثالث: وقيل: "أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندا لله تعالى وهو المراد من قوله: {أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه} (الفرقان: 43) "(1).

وأجاز البيضاوي القول الأخير، فقال البيضاوي:" ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله"(2).

قلت: وهذا القول الأخير ولو أن معناه صحيح، لكنه بعيد عن سياق الآية إذ أنها تتحدث عن الكفار وشركهم بالله. والله أعلم.

والقول الأول أصح؛ " أي فهم يحبون هذه الأصنام، ويعتقدون أنها تنفع، وتضر؛ ولا فرق في ذلك بين من يتخذ محبوباً إلى الله عز وجل، أو غير محبوب إليه؛ فمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم نداً لله في المحبة، والتعظيم، كمن اتخذ صنماً من شجر، أو حجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصنم كلاهما لا يستحق أن يكون نداً لله عز وجل؛ ولهذا لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]، وكان ظاهر الآية يشمل الأنبياء الذين عُبدوا من دون الله، استثناهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101]- ولو عُبِدوا من دون الله -؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: «ما شاء الله وشئت»: «أجعلتني لله نداً! ! ! بل ما شاء الله وحده» (3)؛ فأنكر عليه أن يجعله نداً لله"(4).

قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، " أي:" يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم"(5).

قال أبو العالية: " يقول: يحبون تلك الأوثان كحب الله، أي: كحب الذين آمنوا ربهم"(6). وروي عن قتادة، والربيع، نحو ذلك (7).

قال الصابوني: أي: "يعظمونهم ويخضعون لهم كحب المؤمنين لله"(8).

قال الزجاج: " أي: يسوون بين هذه الأوثان وبين الله عز وجل في المحبة"(9).

قال المراغي: أي" ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبى فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد"(10).

قال البيضاوي: " أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة، والمحبة: ميل القلب من الحب، استعير لحبة القلب، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والإِعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة، وصونه عن المعاصي"(11).

وفي قوله: {كحب الله} [البقرة: 165] ثلاثة أقوال:

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 174.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 117.

(3)

سبق تخريجه 1/ 217.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 97.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 38.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1482): ص 1/ 276.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 276.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(9)

معاني القرآن: 1/ 237.

(10)

تفسير المراغي: 2/ 38.

(11)

تفسير البيضاوي: 1/ 117.

ص: 467

أحدها: أن المعنى: " يحبونهم كحبكم أنتم لله"(1)، أي: يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم، فأضيف المصدر إلى المحبوب.

ومنه قول الشاعر (2):

ولست مسلما ما دمت حيا

على زيدكتسليم الأمير

أراد: كتسليمي على الأمير، وهذا قول الفراء (3).

ويوافقه تفسير ابن عباس، فإنه قال:"يريد: كحب الذين آمنوا الله "(4).

قال الواحدي: فكثير من العلماء (5) على هذه الطريقة فلم يثبتوا للكفار حبا لله، وجعلوا حب الله للمؤمنين، وشبهوا حب الكفار للأصنام بحب المؤمنين لله" (6).

واعترض الزجاج على هذا الوجه، فقال:"وهذا قول ليس بشيء، ودليل نقضه قوله: {والذين آمنوا أشد حبا لله}، والمعنى أن المخلصين الذين لا يشركون مع الله غيره هم المحبون حقا"(7).

الثالث: أن معناه: يحبون الأصنام حبا لا يستحق مثل ذلك الحب إلا الله، ويحبونهم كما ينبغي لهم أن يحبوا الله، فالمعنى فيه: كالحب المستحق لله. قاله أبو روق (8).

الثالث: أن المعنى: يسوون بين هذه الأصنام وبين الله عز وجل في الحب، فيكون تقدير الآية: يحبونهم كحبهم الله، فيضاف الحب إلى الله عز وجل، والمشركون هم المحبون، وعلى المشركين في تسويتهم بين الله عز وجل والأصنام في المحبة أعظم الحجج وأوكدها، إذ أحبوا وعبدوا ما لا ينفع ولا يضر، ولا يحيي ولا يميت. وقد بين الله -عز اسمه- ما يدل على هذا المعنى في قوله:{والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3].

وهذا القول اختيار الزجاج (9)، وابن كيسان (10)، واختاره الرازي (11)، وعلى هذا فقد أثبت للمشركين حبا لله، شبه حبهم الأصنام بحبهم الله تعالى (12).

وقد جاء الضمير في قوله {يُحِبُّونَهُمْ} جمعاً للعاقل دون أن يأتي بضمير المؤنث - مع أن الأكثر من هذه الأنداد أنها لا تعقل؛ وغير العاقل يكون ضميره مؤنثاً - باعتبار عقيدة عابديها؛ لأنهم يعتقدون أنها تنفع وتضر (13).

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، أي:"أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم"(14).

(1) معاني القرآن للزجاج: 1/ 237، وقال القرطبي فيما معناه ونسبه إلى المبرد، انظر: تفسير القرطبي:

(2)

البيت لعلي بن خالد البردخت، كما في "رسائل الجاحظ" 2/ 261، ينظر:"معاني القرآن" للفراء 1/ 100، "البيان والتبيين" 4/ 51، "تفسير الطبري" 2/ 67 "تفسيرالثعلبي" 1/ 1314.

(3)

انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 97.

(4)

نسبه إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 170، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 54.

(5)

انظر: الكشاف: 1/ 209.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 469.

(7)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 237، وقال القرطبي فيما معناه ونسبه إلى المبرد، انظر: تفسير القرطبي:

(8)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 469.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 237.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 33.

(11)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 175.

(12)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 469.

(13)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 97.

(14)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 98.

ص: 468

قال البيضاوي: " لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره"(1).

قال الصابوني: " أي حب المؤمنين لله أشدُّ من حب المشركين للأنداد"(2).

روي عن أبي العالية، في قوله:{والذين آمنوا أشد حبا لله} ، قال:"من أهل الأوثان لأوثانهم"(3). وروي عن الربيع، ومجاهد، وقتادة ونحو ذلك (4).

وقال ابن عباس في قوله: {أشد حبا لله} : أي" أثبت وأدوم، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنما فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك، وأقبلوا على عبادة الأحسن"(5).

وقال عكرمة: "أشد حبا في الآخرة"(6).

وقال قتادة: " إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله عز وجل لقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] "(7).

قال ابن عثيمين: "وإما أن المفضل عليه حب هؤلاء لله؛ فيكون المعنى: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله؛ وكلا الاحتمالين صحيح؛ أما الأول فلأن حب المؤمنين لله يكون في السراء، والضراء؛ وحب هؤلاء لأصنامهم في السراء فقط؛ وعند الضراء يلجؤون إلى الله عز وجل؛ فإذاً ليس حبهم الأصنام كحب المؤمنين لله عز وجل؛ ثم إن بعضهم يصرح، فيقول: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»؛ وأما الاحتمال الثاني في الآية فوجه التفضيل ظاهر؛ لأن حب المؤمنين لله خالص لا يشوبه شيء؛ وحب هؤلاء لله مشترك: يحبون الله، ويجعلون معه الأصنام نداً"(8).

فالمؤمنون "لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني قال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (65 - العنكبوت) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء (9).

وقرأ أبو رجاء العطاردي: {يَحبونهم} بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب (10).

قال الفراء: أنشدني أبو تراب (11):

أحب لحبها السودان حتى

حببت لحبها سود الكلاب

قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]، " أي لو رأى الظالمون حين يشاهدون العذاب المعدّ لهم يوم القيامة أَن القدرة كلها لله وحده"(12).

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 117.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1484): ص 1/ 276.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 276.

(5)

ذكره الثعلبى في "تفسيره: 2/ 33، والسمعاني في "تفسيره: 2/ 121، والبغوي: 1/ 178 ولم ينسبه لابن عباس.

(6)

ذكره الثعلبي في تفسيره: 2/ 33.

(7)

ذكره الثعلبي في تفسيره: 2/ 34.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 98.

(9)

انظر: الوسيط للواحدي: 1/ 236.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 34، وتفسير القرطبي: 2/ 204.

(11)

معاني القران للفراء: 1/ 135، والبيت من شواهد تفسير القرطبي: 2/ 204. ورد فى عيون الأخبار 4/ 43 غير معزوّ.

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

ص: 469

قال الحسن: " يقول الله لمحمد: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، إنك ستراهم إذ يرون العذاب وحينئذ يعلمون أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب"(1).

قال الربيع: " يقول: لو عاينوا العذاب"(2)، وروي عن أبي العالية (3) مثل ذلك.

وقال قتادة: " العذاب أي: عقوبة الآخرة"(4).

قال ابن كثير: أي: "لو عاينوا العذاب لعلموا وأيقنوا حينئذ أن القوة لله جميعًا"(5).

قال السعدي: أي "يوم القيامة حين يرون العذاب عيانا بأبصارهم، فيعمون بأن المختص بالقوة الكاملة من جميع الوجوه هو الله"(6).

قال الطبري: أي: " ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي، حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة، وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا"(7).

قال البيضاوي: أي: " ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد، إِذ عاينوا العذاب يوم القيامة، لعلموا أن القوة لله كلها، لا ينفع ولا يضر غيره. وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ} "(8).

و(الظالمون): "أي الذين نقصوا الله حقه، حيث جعلوا له أنداداً؛ وهم أيضاً ظلموا أنفسهم - أي نقصوها حقها -؛ لأن النفس أمانة عندك يجب أن ترعاها حق رعايتها؛ ولهذا قال تعالى: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10]؛ فالنفس أمانة عندك؛ فإذا عصيت ربك فإنك ظالم لنفسك"(9).

وأصل: (الظلم) في كلام العرب: "وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان (10):

إِلا أُوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهَا

وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها، ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث (11):

ظَلَمَ الْبِطَاحَ بِهَا انْهِلالُ حَرِيصَةٍ

فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ الْمُقْلَعِ

وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه" (12).

والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير، أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على الشرك،

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1487) و (1485): ص 1/ 277.

(2)

أخرجه الطبري (2412): ص 3/ 286.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1486): ص 1/ 277.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1488): ص 1/ 277.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 476.

(6)

تفسير السعدي: 1/ 79. [بتصرف بسيط].

(7)

تفسير الطبري: 3/ 286.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 117. [بتصرف بسيط].

(9)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 98.

(10)

ديوانه: 23، والجلد: الأرض الصلبة، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد.

(11)

البيت له في تفسير الطبري: 1/ 524، جاء أيضًا في تفسيره: 2/ 50 منسوبًا لعمرو بن قميئة. وصحة نسبته إلى الحادرة الذبياني، وهو في ديوان الحادرة، قصيدة: 4، البيت رقم: 7، وشرح المفضليات:54. والبطاح جمع بطحاء وأبطح: وهو بطن الوادي. وأنهل المطر انهلالا: اشتد صوبه ووقعه. والحريصة والحارصة: السحابة التي تحرص مطرتها وجه الأرض، أي تقشره من شدة وقعها. والنطاف جمع نطفة: وهي الماء القليل يبقى في الدلو وغيره. وقوله: " بعيد المقلع ": أي بعد أن أقلعت هذه السحابة. ورواية المفضليات: " ظلم البطاح له " وقوله: " له ": أي من أجله.

(12)

تفسير الطبري: 1/ 523 - 524.

ص: 470

كما قال تعالى عن العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: " بشرك"(1)، ثم تلا قول لقمان:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، أي:"من المشركين بالله، الظالمي أنفسهم"(2).

ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: 33]، أي و"لم تنقص"(3).

وقيل: {أن} : "في موضع نصب مفعول من أجله، أي لأن القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه (4):

وأغفر عوراء الكريم ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه" (5).

وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: 165]، على ثلاثة أوجه (6):

أحدها: {ولو يرى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} بياء الغيبة في {يرى} ، وبفتح الياء في {يَرَوْنَ} ، على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال: ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد.

الثاني: {ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} بتاء الخطاب في {ترى} ، خطابا للنبي عليه السلام، كأنه قال: لو ترى يا محمد الذين ظلموا.

وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب.

الثالث: وبفتح الياء في {يَرون} ؛ وبضمها: {يُرون} . وهي قراءة ابن عامر، على التعدية وحجته قوله تعالى:{كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.

وقد رجح بعضهم القراءة الأولى، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار، ويعاينون من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم (7).

وقرأ أبو جعفر ويعقوب {إن القوة وإن الله} بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مع إضمار الجواب" (8)، وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها (9).

(1) رواه البخاري: كتاب الأنبياء (3636): باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)، عن عبد الله رضي الله عنه قال:"لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ".

(2)

تفسير الطبري: 15/ 219.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 357.

(4)

البيت لحاتم الطائي، الجواد المشهور. انظر: ديوانه: 24، ونوادر أبي زيد: 11، والخزانة: 1/ 491، وشرح ابن عقيل: 2/ 190

(5)

تفسير القرطبي: 2/ 205.

(6)

انظر: السبعة في القراءات: 173 - 174، مفاتيح الغيب: 4/ 178، وتفسير ابن عثيمين: 2/ 223 - 224.

(7)

مفاتيح الغيب: 4/ 189.

(8)

انظر: تفسير البغوي: 1/ 179.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 189. قال الإمام الرازي: لما عرفت أن {يرى الذين ظلموا} قراء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت، وقوله: {أن القوة} قراء تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يقرأ {ولو يرى} بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير: ولو يرون أن القوة لله: ومعناه، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله:{ولو ترى * إذا * وقفوا على النار} (الأنعام: 27)، {ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت} (الأنعام: 93)، {ولو أن قرانا سيرت به الجبال} (الرعد: 31) ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.

الاحتمال الثاني: أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا: إن القوة لله.

الاحتمال الثالث: أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع فتح الهمزة من (أن) وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء: الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعا.

الاحتمال الرابع: أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع كسر الهمزة، وتقديره: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعا، وهذا أيضا تأويل ظاهر جيد. (مفاتيح الغيب: 4/ 189 - 190)

ص: 471

قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]، " أي وأنَّ عذاب الله شديد أليم"(1).

قال ابن عثيمين: "أي قوي العقوبة"(2).

قال أبو حيان: " وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة"(3).

قال الآلوسي: " وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص {الْقُوَّةَ} به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه"(4).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن بعض الناس يجعل لله نداً في المحبة يحبه كحب الله؛ لقوله تعالى: {يحبونهم كحب الله} .

2 -

ومنها: أن محبة الله من العبادة؛ لأن الله جعل من سوّى غيره فيها مشركاً متخذاً لله نداً؛ فالمحبة من العبادة؛ بل هي أساس العبادة؛ لأن أساس العبادة مبني على الحب، والتعظيم؛ فبالحب يفعل المأمور؛ وبالتعظيم يجتنب المحظور؛ هذا إذا اجتمعا؛ وإن انفرد أحدهما استلزم الآخر.

3 -

ومنها: أن من جعل لله نداً في المحبة فهو ظالم؛ لقوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} .

4 -

ومنها: إثبات الجزاء؛ لقوله تعالى: {إذ يرون العذاب} .

5 -

ومنها: إثبات القوة لله؛ لقوله تعالى: {أن القوة لله جميعاً} ؛ فإن قيل: كيف يتفق قوله تعالى: {جميعاً} مع أن للمخلوق قوة؟

فالجواب: أن قوة المخلوق ليست بشيء عند قوة الخالق؛ وهذا كقوله تعالى: {فإن العزة لله جميعاً} [النساء: 139 مع أن الله أثبت للمخلوق عزة؛ وهكذا نقول في بقية الصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل الصفة.

6 -

ومنها: أن المؤمن محب لله عز وجل أكثر من محبة هؤلاء لأصنامهم؛ لقوله تعالى: {والذين آمنوا أشد حباً} .

7 -

ومنها: أنه كلما ازداد إيمان العبد ازدادت محبته لله؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى رتب شدة المحبة على الإيمان؛ وقد عُلم أن الحكم إذا عُلِّق على وصف فإنه يقوى بقوة ذلك الوصف، وينقص بنقصه؛ فكلما ازداد الإنسان إيماناً بالله عز وجل ازداد حباً له.

8 -

ومنها: شدة عذاب الله عز وجل لهؤلاء الظالمين؛ لقوله تعالى: {وأن الله شديد العذاب} ؛ فإن قيل: كيف يكون الله عز وجل شديد العذاب مع أنه أرحم من الوالدة بولدها؟

(1) صفوة التفاسير: 1/ 99.

(2)

تفسير ابن عثيمكين: 2/ 225.

(3)

البحر المحيط: 1/ 472.

(4)

معاني القرآن: 1/ 433.

ص: 472

فالجواب: أن هذا من كمال عزه، وسلطانه، وعدله، وحكمته؛ لأنه أنذر مستحق العذاب، وأعذر منهم بإرسال الرسل؛ فلم يبق لهم حجة توجب تخفيف العذاب عنهم؛ فلو رحم هؤلاء الكافرين به لكان لا فرق بينهم والمؤمنين به.

وشدة عذاب الله لهؤلاء مذكور في القرآن، والسنة: قال الله تعالى: {وإن يستغيثوا} [الكهف: 29] أي أهل النار {يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29]؛ فما بالك لو وصلت إلى الأمعاء؟ ! ! ؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15]؛ ومع ذلك تتقطع، وتلتئم بسرعة كما قال تعالى في جلودهم:{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56]؛ و {كلما} تفيد التكرار؛ وجوابها يفيد الفورية؛ والحكمة: {ليذوقوا العذاب} [النساء: 56]؛ وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} [الدخان: 43 - 48]؛ ويقال له أيضاً: تبكيتاً، وتوبيخاً، وتنديماً، وتلويماً، {ذق}؛ ويذكّر أيضاً بحاله في الدنيا فيقال له:{إنك أنت العزيز الكريم} ؛ فحينئذ يتقطع ألماً، وحسرة؛ ولا شك أن المؤمنين يسرون بعذاب أعداء الله؛ فعذابهم رحمة للمؤمنين، كما قال تعالى:{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون} .

القرآن

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة: 166]

التفسير:

عند معاينتهم عذاب الآخرة يتبرأ الرؤساء المتبوعون ممن اتبعهم على الشرك، وتنقطع بينهم كل الصلات التي ارتبطوا بها في الدنيا: من القرابة، والاتِّباع، والدين، وغير ذلك.

قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]، أي إذ" تبرأ الرؤساء من الأتباع"(1).

قال أبو العالية: " تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة إذا رأت العذاب"(2). وروي عن الربيع (3)، وعطاء (4)، وقتادة (5)، نحو ذلك.

قال البيضاوي: " أي إِذ تبرأ المتبوعون من الأتباع"(6).

قال الزجاج: " يعني به: السادة والأشراف من الأتباع والسفلة"(7).

قال القرطبي: أي: "السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر"(8).

قال ابن عطية: " وتبريرهم هو بأن قالوا إنّا لم نضل هؤلاء بل كفروا بإرادتهم، وتعلق العقاب على المتبعين بكفرهم ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على المضلين"(9).

وقد اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} ، على أقوال (10):

أحدها: أن المعنى: "تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة". قاله الربيع (11)، وعطاء (12)، وقتادة (13)، وأبو العالية (14).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 99.

(2)

أخرجه ابن أي حاتم (1489): ص 1/ 277.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2414): ص 3/ 287.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2415): ص 3/ 287.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2413): ص 3/ 287.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(7)

معاني القرآن: 1/ 239. [بتصرف بسيط].

(8)

تفسير القرطبي: 2/ 206.

(9)

المحرر الوجيز: 1/ 236.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 287 - 288.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2414): ص 3/ 287.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2415): ص 3/ 287.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2413): ص 3/ 287.

(14)

انظر: تفسير ابن أي حاتم (1489): ص 1/ 277.

ص: 473

قال الثعلبي: " المتبوعون هم الجبابرة والقادة في الشرك والشر، والتابعون هم الأتباع والضعفاء والسفلة قاله أكثر أهل التفسير"(1).

الثاني: أنهم الشياطين تبرأوا من الإنس. قال السدي" (2).

الثالث: وقيل: هم الملائكة تبرأوا من الإنس. قاله ابن كثير (3).

الرابع: أن "لفظ الآية يعم هذا كله". قاله ابن عطية (4).

والراجح أن الله قد عمّ المشركين جميعا دون تخصيص بعضهم دون بعض، عليه فإن كل متبوع على الكفر يتبرأ من أتباعه حين يرون عذاب الله. والله تعالى أعلم.

وفي قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]، قراءتان (5):

إحداهما: قرأ مجاهد: بتقديم الفاعل على المفعول.

والثانية: وقرأ الباقون: بالعكس، " أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء " (6).

قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة: 166]، " أي: حين عاينوا العذاب" (7).

قال الزمخشري: " أى تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب"(8).

قال الزجاج: " يعنى به التابعون والمتبوعون"(9).

وفي قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة: 166]، وجهان من التفسير (10):

أحدهما: يعني: أن التابعين والمتبوعين، بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا.

الثاني: وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة.

قال القرطبي: "كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال"(11).

قوله تعالى {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ} ، " وتقطعت بينهم الروابط وزالت المودّات"(12).

قال ابن عثيمين: " أي تقطعت بهم المودة"(13).

قال القرطبي: أي: " أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره"(14).

قال النسفي: مثل "الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب"(15).

(1) تفسير الثعلبي: 2/ 36.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2416): ص 3/ 287 - 288، وابن أبي حاتم (1491): ص 1/ 278.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 477.

(4)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 236.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 36، وتفسير البيضاوي: 1/ 118.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(8)

الكشاف: 1/ 212.

(9)

معاني القرآن: 1/ 239.

(10)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 206.

(11)

تفسير القرطبي: 2/ 206.

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(13)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 229.

(14)

تفسير القرطبي: 2/ 206.

(15)

تفسير النسفي: 1/ 99.

ص: 474

قال الزجاج: " أي انقطع وصلهم الذى كان جمعهم، كما قال: {لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}، فبينهم وصلهم، والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا"(1).

و{الأسْبَابُ} جمع سبب؛ وهو ما يتوصل به إلى غيره؛ "وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا"(2).

قال شمر: "قال أبو عبيدة: السبب: كل حبل حدرته (6) من فوق"(3).

وقال خالد بن جنبة: "السبب من الحبال: القوي الطويل، قال: ولا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به وينزل، ومن هذا قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء} [الحج: 15] "(4).

قال ابن عطية: " والسبب في اللغة: الحبل الرابط الموصل، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين شيئين"(5).

قال الثعلبي: " وأصل (السبب): كل شيء يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودة، ومنه قيل للجهاد: سبب وللطريق سبب وللسلم سبب"(6).

قال الواحدي: " فالسبب: الحبل في هذا الموضع، ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، يقال: ما بيني وبينك سبب، أي: آصرة رحم، أو عاطفة مودة. وقيل للطريق: سبب؛ لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، قال الله تعالى:{فأتبع سببا} [الكهف: 85]، أي: طريقا، و (أسباب السماء): أبوابها؛ لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال الله تعالى خبرا عن فرعون:{لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات} [غافر: 36 - 37]، ومنه قول زهير (7):

وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الَمنَايَا يَنَلْنَهُ

وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

كما أن المودة بين القوم تسمى: سببا؛ لأنهم بها يتواصلون، ومنه قول لبيد (8):

بل ما تذكر من نوار وقد نأت

وتقطعت أسبابها ورمامها

والتي في هذه الآية يعني بها: وصلهم التي كانت تجمعهم" (9).

والمراد بـ (الأسباب) في الآية، "كل سبب يؤملون به الانتفاع من هؤلاء المتبوعين، مثل قولهم: {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]، وقول فرعون لقومه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29]؛ فهذه الأسباب التي سلكها المتبعون ظناً منهم أنها تنقذهم من العذاب إذا كان يوم القيامة تقطعت بهم؛ ولا يجدون سبيلاً إلى الوصول إلى غاياتهم"(10).

وقد اختلف أهل الفسير في معنى {الأسْبَابُ} [البقرة: 166]، على وجوه (11):

أحدها: أن معناه: "الوصال الذي كان بينهم في الدنيا". قاله مجاهد (12)، روي عن ابن عباس (13)، وقتادة (14)، والربيع (15)، نحو ذلك.

(1) معاني القرآن: 1/ 239.

(2)

تفسير القرطبي: 2/ 206.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 478.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 478.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 236.

(6)

تفسير الثعلبي: 2/ 36.

(7)

ديوانه: 30، وشرح المعلقات السبع: 83، وانظر:"تفسير الثعلبي" 2/ 36، وتفسير السمعاني: 2/ 123، ومفاتيح الغيب: 4/ 234، ولسان العرب: 4/ 1910 (سب).

(8)

ديوانه" ص 301، "لسان العرب" 4/ 1910 (سب).

(9)

التفسير البسيط: 3/ 479. [بتصرف بسيط].

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 229.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 289 - 291.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2417)، و (2418)، و (2419)، و (2420)، و (2421)، و (2422): ص 3/ 289 - 290.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2423): ص 3/ 290، وابن أبي حاتم (1492): ص 1/ 278.

(14)

انظر: تفسير الطبري (2424)، و (2425): ص 3/ 290.

(15)

انظر: تفسير الطبري (2426): ص 3/ 290.

ص: 475

الثاني: أن معنى {الأسْبَابُ} ، "المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا". قاله ابن عباس (1)، والربيع بن أنس (2).

الثالث: أن {الأسْبَابُ} : الأرحام. قاله ابن عباس (3).

الرابع: أن {الأسْبَابُ} : "الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا". قاله السدي (4)، وابن زيد (5).

الخامس: العهود التي كانت بينهم في الدنيا. قاله أبو روق (6).

وجميع المعاني السابقة تجمعها كلمة (الأسباب)، لأن كل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة (7).

واختلف في (الباء) في قوله: {وتقطعت بهم} [البقرة: 166]، على وجوه (8):

أحدها: أنها بمعنى: (عن)، كقوله:{فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59]، أي: عنه، قال علقمة بن عبدة (9):

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

أي: عن النساء.

وقال يزيد بن جهم (10):

تسائل بي هوازن أين مالي

وهل لي غير ما أتلفت مال

أي: عني (11).

الثاني: أنها للسببية، والتقدير: وتقطعت بسبب كفرهم (12).

الثالث: وقيل: إنها للحال، أي تقطعت موصولة بهم الأسباب (13).

الرابع: وقيل: الباء للتعدية، والتقدير: قطعتهم الأسباب، كما تقول: تفرقت بهم الطرق، أي فرقتهم (14).

وقرئ: {وتقَطَّعَتْ} ، على البناء للمفعول (15).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم؛ لقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا} ؛ ولو كانوا ينفعونهم لم يتبرؤوا منهم.

(1) انظر: تفسير الطبري (2427): ص 3/ 291.

(2)

انظر: تفسير الطبري (2428): ص 3/ 291.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2429): ص 3/ 291.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2430): ص 3/ 291.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2431): ص 3/ 291.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 36.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 292 - 293.

(8)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 478، والبحر المحيط" 1/ 473، "التفسير الكبير" 4/ 211، والتبيان: 1/ 107.

(9)

ديوانه: 35.

(10)

ديوان الحماسة: 3/ 478.

(11)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 478.

(12)

انظر: التبيان: 1/ 107.

(13)

انظر: التبيان: 1/ 107.

(14)

انظر: التبيان: 1/ 107.

(15)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 118.

ص: 476

2 -

ومنها: أن الأمر لا يقتصر على عدم النفع؛ بل يتعداه إلى البراءة منهم، والتباعد عنهم؛ وهذا يكون أشد حسرة على الأتباع مما لو كان موقفهم سلبياً.

3 -

ومنها: ثبوت العقاب؛ لقوله تعالى: {ورأوا العذاب} .

ويتفرع عليه ثبوت البعث.

4 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يجمع يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين توبيخاً، وتنديماً لهم؛ ويتبرأ بعضهم من بعض؛ لأن هذا - لا شك - أعظم حسرة إذا صار متبوعه الذي كان يعظمه في الدنيا يتبرأ منه وجهاً لوجه.

5 -

ومنها: أن جميع الأسباب الباطلة التي لا تُرضي الله ورسوله، تتقطع بأصحابها يوم القيامة، وتزول، ولا تنفعهم.

6 -

ومنها: أن الإستغاثة (1) لا تكون إلا بالله، وأما الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه، جائزة، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ كالاستعانة بالأموات، والاستغاثة بالأحياء، والاستعانة بهم في شفاء المرضى، وتفريج الكربات، ودفع الضر، فهذا النوع حرامٌ.

القرآن

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 167]

التفسير:

وقال التابعون: يا ليت لنا عودة إلى الدنيا، فنعلن براءتنا من هؤلاء الرؤساء، كما أعلنوا براءتهم مِنَّا. وكما أراهم الله شدة عذابه يوم القيامة يريهم أعمالهم الباطلة ندامات عليهم، وليسوا بخارجين من النار أبدًا.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: أخرج ابن أبي حاتم عن " الأوزاعي، سمعت ثابت بن معبد قال: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت وما هم بخارجين من النار"(2).

الثاني: قال الواحدي: "قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المشركين الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة"(3).

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: 167]، أي:"وقال الأتباع ليت (4) لنا رجعة إلى الدنيا "(5).

قال الصابوني: " أي تمنّى الأتباع لو أنّ لهم رجعة إِلى الدنيا"(6).

قال الزجاج: " أي عودة إلى الدنيا"(7).

قال البيضاوي: " أي ليت لنا كرة إلى الدنيا"(8).

(1) الاستغاثة: طلب الغَوْث، وهو التخليص من الشِّدة والنِّقمة، والعون على الفَكاك من الشدائد، ولم يتعدَّ في القرآن إلا بنفسِه؛ كقوله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]، تستجيرون به مِن عدوِّكم، وتطلبون منه الغَوْث والنصرَ.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (1501): ص 1/ 279. والعجاب: 1/ 416.

(3)

التفسير البسيط: 3/ 482.

(4)

إن {لو} هنا ليست شرطية؛ ولكنها للتمني؛ يعني: ليت لنا كرة فنتبرأ؛ والدليل على أنها للتمني أن الفعل نصب بعدها؛ وهو منصوب بـ «أنْ» المضمرة بعد الفاء السببية؛ و «لو» تأتي في اللغة العربية على ثلاثة أوجه: تكون شرطية؛ وتكون للتمني؛ وتكون مصدرية؛ فـ {لو} في قوله تعالى: {وودوا لو تكفرون} [الممتحنة: 2] مصدرية؛ و {لو} في قوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253] شرطية؛ {لو} في قوله تعالى: {لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} للتمني؛ ومثلها قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} [الشعراء: 102].

(5)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 293. [بتصرف بسيط].

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(7)

معاني القرآن: 1/ 240.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

ص: 477

و (الكرة): أي: "الرجعة والعودة إلى حال قد كانت"(1).

قال قتادة: في قوله تعالى: {لو أن لنا كرة} ، "أي: لنا رجعةً إلى الدنيا" (2). وروي عن الربيع (3) مثل ذلك.

قال ابن عثيمين: " والمراد هنا: الرجوع إلى الدنيا؛ فنتبرأ منهم في الدنيا إذا رجعنا كما تبرءوا منا هنا في الآخرة؛ فنجازيهم بما جازونا به؛ لكن أنى لهم ذلك! ! ! فهذا التمني لا ينفعهم"(4).

قال الطبري: "و (الكرَّة): المرة الواحدة، وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم"(5)، ومنه قول الأخطل (6):

وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً

كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالا

قوله تعالى: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة: 167]، أي:"لتبرأنا منهم كما تبرَّأوا منا في الآخرة"(7).

قال الطبري: " أرادوا أن يتبرأوا "من الذين من كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله" (8).

قال القرطبي: " والتبرؤ الانفصال"(9).

قال ابن كثير: " وهم كاذبون في هذا [التمني}، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه. كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} أي: تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الآية [النور: 39] "(10).

قوله تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167]، أي:"كما أراهم الله العذاب، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم"(11).

قال الصابوني: " أي: أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه كذلك يريهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة وحسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم"(12).

قال الزجاج: " أي كتبري بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسراب عليهم لأن ما عمله الكافر غير نافعه مع كفره، قال الله عز وجل:{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} ، وقال: [حبطت

(1) تفسير القرطبي: 2/ 206.

(2)

أخرجه الطبري (2432): ص 3/ 294.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2433): ص 3/ 294.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 230.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 293.

(6)

ديوانه 48، ونقائض جرير والأخطل:79. وفي المطبوعة: " كر المشيح "، وهو خطأ وفي الديوان " على قدارة "، وهو خطأ. وفزارة بن ذبيان بن بغيض. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة، ولكنها تعاد معها في كل ضربة. وقوله:" عطفن " يعني الخيل، ذكرها في بيت قبله.

(7)

تفسير الطبراني: 1/ 110.

(8)

تفسير الطبري: 3/ 294.

(9)

تفسير القطربي: 2/ 206.

(10)

تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 294. [بتصرف بسيط].

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

ص: 478

أعمالهم}، ومعنى {أضل أعمالهم}: لم يجازهم على ما عملوا من خير، وهذا كما تقول لمن عمل عملا لم يعد عليه فيه نفع: لقد ضل سعيك" (1).

قال الثعلبي: " أي كما أراهم العذاب، كذلك يريهم الله أعمالهم ندامات"(2).

قال الزمخشري: " معناه أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم"(3).

وقوله {كذلك} : أي: " مثل ذلك الآراء الفظيع"(4)، فـ (الكاف): اسم بمعنى «مثل» ؛ وهي مفعول مطلق عامله الفعل بعده؛ وهذا كثيراً ما يأتي في القرآن، كقوله تعالى:{وكذلك يفعلون} [النمل: 3]، وقوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143](5).

قال القرطبي: "و {يُرِيهِمُ اللَّهُ} قيل: هي، من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الأول الهاء والميم في {يريهم}، والثاني {أعمالهم}، وتكون {حسرات} حال، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون "حسرات" المفعول الثالث"(6).

وقد ذكر الرازي: أن قوله تعالى {كذالك يُرِيهِمُ} فيه وجهان (7):

الأول: كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد.

الثاني: كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات، لأنهم أيقنوا بالهلاك.

وكذلك اختلف أهل التفسير في المراد بقوله {أَعْمَالَهُمْ} [البقرة: 167]، على أقوال (8):

الأول: الطاعات، يتحسرون لم ضيعوها. قاله السدي (9)، وعبدالله (10).

واعترض عليه الإمام الطبري قائلا: " والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية، فإنه مَنزع بعيد، ولا أثر - بأنّ ذلك كما ذكر - تقوم به حُجة فيسلم لها، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل"(11).

الثاني: المعاصي وأعمالهم الخبيثة، يتحسرون لم عملوها. قاله الربيع (12)، وابن زيد (13).

واختاره الإمام الطبري قائلا: " كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم، فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها"(14).

الثالث: ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر. وهذا قول الأصم (15).

الرابع: أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم (16).

(1) معاني القرآن: 1/ 240.

(2)

تفسير الثعلبي: 2/ 37. [بتصرف بسيط].

(3)

الكشاف: 1/ 212.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 231.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 206 - 207.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 181.

(8)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 181. وتفسير الطبري: 3/ 296 - 298.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2434): ص 3/ 296.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2435): ص 3/ 296 - 297.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 299.

(12)

انظر: تفسير الطبري (2436): ص 3/ 298.

(13)

انظر: تفسير الطبري (2437): ص 3/ 298.

(14)

تفسير الطبري: 3/ 298 - 299.

(15)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 181.

(16)

انظر: مفاتيح الغيب: 4/ 181.

ص: 479

قال الرازي: "والظاهر أن المراد: الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به"(1).

قال الطبري: "و {حَسَرَاتٍ} جمع حسرة؛ وكل اسم كان واحده على (فَعْلة) مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على (فَعَلات) مثل: شَهوة وتَمرة، تجمع (شَهوات وتَمرات) مثقَّلة الثواني من حروفها، فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل (ضخمة)، تجمعها (ضخْمات) و (عَبْلة) تجمعها (عَبْلات)، وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر (2):

عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا

يُدِلْنَنَا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا

فسكنّ الثاني من " الزفرات "، وهي اسم" (3).

و(الحسرة): "هي الندم مع الانكماش، والحزن؛ فهؤلاء الأتباع شعورهم بالندم، والخيبة، والخسران لا يتصور؛ فالأعمال التي عملوها لهؤلاء المتبوعين صارت - والعياذ بالله - خسارة عليهم، وندماً؛ ضاعت بها دنياهم، وآخرتهم؛ وهذا أعظم ما يكون من الحسرة"(4).

وقال الزجاج: " والحسرة: شدة الندم، حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه، ويقال: حسر فلان يحسر حسرة وحسرا: إذا اشتد ندمه على أمر فاته، قال المرار (5):

ما أنا اليوم على شيء خلا

يا ابنة القين تولى بحسر

أي: بنادم" (6).

واختلف في أصل (الحسرة) في اللغة، على قولين (7):

أحدهما: أنها مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر.

والثاني: أنها: من حسر إذا كشف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يحسر الفرات عن جبل من ذهب» (8).

قال الواحدي: "وأصل الحسر: الكشف، يقال: حسر عن ذراعه، والحسرة: انكشاف عن حال الندامة، والحسور: الإعياء؛ لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر، والمحسرة: المكنسة؛ لأنها تكشف عن الأرض، والطير تنحسر؛ لأنها تنكشف بذهاب الريش"(9).

(1) مفاتيح الغيب: 4/ 181.

(2)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري/ 3/ 294، واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال): العقبة في المال والحرب وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة. ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: " تديلنا " وأداله: جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة.

(3)

تفسير الطبري: 3/ 294.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 231.

(5)

البيت للمرار في "لسان العرب" 2/ 869، والتفسير البسيط: 3/ 481.

(6)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 3/ 481، ولم نقف عليه في معاني القرآن.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 236.

(8)

رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن (8/ 100) باب خروج النار، ومسلم في كتاب الفتن (برقم 2894) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب.

(9)

التفسير البسيط: 3/ 481 - 482، وانظر: في معاني حسر: "تفسير الطبري" 2/ 73 - 74، "تفسير الثعلبي: 2/ 37، والمفردات" ص 125، "تاج العروس" 6/ 273.

وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً. نفس المراجع السابقة، ورواه أيضاً أبو داود (برقم 4313) والترمذي (برقم 2572).

وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال: كنت واقفاً مع أبي بن كعب، فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا؟ قلت: أجل، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون. مسلم (برقم 2895).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون. رواه حنبل بن إسحاق في كتابه الفتن (ص 216) بسند صحيح.

وأخرج هذا الحديث بالإضافة إلى الإمامين البخاري ومسلم، كل من عبدالرزاق في مصنفه (11/ 382) عن أبي هريرة، والإمام أحمد في مسنده (2/ 306) عن معمر، وفي (2/ 332) من طريق زهير، وكذلك في (5/ 139 140) عن طريق كعب. وأبو داود في سننه (4/ 493) والترمذي في سننه (4/ 699)، وابن ماجة في سننه (2/ 1343). كما أورده كل من الإمام أبي عمرو الداني في كتابه السنن الواردة في أكثر من موضع. وأيضاً أورده الإمام الحافظ نعيم بن حماد في الفتن في أكثر من موضع، وأورده ابن كثير في كتابه النهاية في الفتن والملاحم.

وقد جاءت ألفاظ أخرى شاذة للحديث المذكور، وهي: ليحسرن الفرات عن جبل من ذهب حتى يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل عشرة تسعة. أخرجه ابن ماجة في سننه (2/ 1343)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 261، 346، 415). قال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات: زوائد ابن ماجة (2/ 306). والحديث أورده الحافظ في الفتح (13/ 81)، وقال: وهي رواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من حديث أبي هريرة عند مسلم، وشاهد من حديث أبي بن كعب: من كل مائة تسعة وتسعون. وقال الألباني عنه: حسن صحيح دون قوله: من كل عشرة تسعة، فإنه شاذ. صحيح ابن ماجة (2/ 377).

وكذلك وردت رواية أخرى عند نعيم بن حماد في الفتن (برقم 921) من طريق آخر عن يحيى بن أبي عمرو عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: من كل تسعة سبعة، وهو منقطع لأن يحيى روايته عن الصحابة مرسلة، كما في التقريب (ص 378)، وشيخ نعيم مبهم.

ص: 480

قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، " أي ليس لهم سبيل إِلى الخروج من النار"(1).

قال الصابوني: أي: " هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي"(2).

قال ابن عثيمين: "أي أنهم خالدون فيها"(3).

قال البيضاوي: " أصله وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة، للمبالغة في الخلود والأقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا"(4).

قال القرطبي: "وهذا "دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية ولقوله تعالى:{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] " (5).

قال الرازي: "وقد احتج به الأصحاب، على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار، فقالوا: إن قوله {وَمَا هُمْ} تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)} [الانفطار: 14 - 16]، وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه"(6).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن هؤلاء الأتباع يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليتبرءوا من متبوعيهم كما تبرأ هؤلاء منهم في الآخرة؛ وهو غير ممكن؛ وما يزيدهم هذا إلا حسرة؛ ولهذا قال الله تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} .

2 -

ومنها: تحسر هؤلاء، وأمثالهم الذين فاتهم في هذه الدنيا العمل الصالح؛ فإنهم يتحسرون في الآخرة تحسراً لا نظير له لا يدور في خيالهم اليوم، ولا في خيال غيرهم؛ لأنه ندم لا يمكن العتبى منه.

3 -

ومنها: إثبات نكال الله بهم؛ لقوله تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} .

(1) صفوة التفاسير: 1/ 99.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 99.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 231.

(4)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(5)

تفسير القرطبي: 2/ 207.

(6)

مفاتيح الغيب: 4/ 182.

ص: 481

4 -

ومنها: أن المشركين مخلدون في النار لا يخرجون منها؛ لقوله تعالى: {وما هم بخارجين من النار} ؛ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الخلود الأبدي في النار في ثلاثة مواضع من القرآن: في سورة النساء؛ وفي سورة الأحزاب؛ وفي سورة الجن؛ وبه يبطل قول من ادعى أن النار تفنى؛ لأن خلود الماكث الأبدي يدل على خلود مكانه.

5 -

ومنها: إثبات النار، وأنها حق.

القرآن

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]

التفسير:

يا أيها الناس كلوا من رزق الله الذي أباحه لكم في الأرض، وهو الطاهر غير النجس، النافع غير الضار، ولا تتبعوا طرق الشيطان في التحليل والتحريم، والبدع والمعاصي. إنه عدو لكم ظاهر العداوة.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: قال الواحدي: "قال الكلبي عن أبي صالح: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي"(1).

وذكره الرازي عن ابن عباس" (2).

وقال مقاتل: " نزلت في ثقيف، وفي بني عامر بن صعصعه، وخزاعة، وبني مدلج، وعامر، والحارث ابني عبد مناة"(3).

ونقل ابن عطية عن النقاش: أنها "نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب"(4).

والثاني: قال ابن حجر: "قال ابن ظفر: ورُوي عن عطاء أنها نزلت في المؤمنين، وقيل في عثمان بن مظعون وأصحابه الذين عزموا على الترهب"(5).

وهذه الآية جاءت في سورة البقرة؛ وسورة البقرة مدنية؛ وقد سبق أنه جاء أيضاً مثلها: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21]؛ وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها بـ {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 104]؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام؛ وهي أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون في هذه الرسالة؛ فصار التوجه إليها بالخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا} ؛ لكنها ليست قاعدة؛ ولكنها ضابط يخرج منه بعض المسائل؛ لأن من السور المدنية فيها {يا أيها الناس} ، كسورة النساء، وسورة الحجرات (6).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، أي: يا أيها الناس "كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول"(7).

قال ابن كثير: "أي: كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض"(8).

قال الزجاج: " أي: لا تأكلوا مما يحرم"(9).

قال الواحدي معلقا على كلام الزجاج: " فعلى هذا: المعنى: كلوا حلالا من حيث يحل لكم، فأما أن يأكل مال غيره فهو حلال في جنسه، ولكن ليس يحل له أكله، فهو حلال وليس مما يطيب له"(10).

و{النَّاسُ} أصلها: " (الأناس)؛ وحذفت الهمزة منها تخفيفاً؛ والمراد بـ {الناس} بنو آدم"(11).

و{حَلَالًا طَيِّبًا} ، أي:"مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول"(12).

قال القرطبي: " وسمي الحلال حلالا، لانحلال عقدة الحظر عنه"(13).

قال الواحدي: وأصل (الحلال): " من الحل الذي هو نقيض العقد، ومعنى الحلال: المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه. ومنه: حل بالمكان، إذا نزل به؛ لأنه حل شد الارتحال للنزول. وحل الدين: إذا وجب؛ لانحلال العقدة بانقضاء المدة، وحل من إحرامه؛ لأنه حل عقدة الإحرام. وحلت عليه العقوبة، أي: وجبت، لانحلال العقدة المانعة من العذاب، والحلة: الإزار والرداء؛ لأنها تحل عن الطي للبس، ومن هذا: تحلة اليمين؛ لأن عقدة اليمين تنحل به"(14).

والطيب في اللغة: "الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب؛ لأن الحرام يوصف بأنه خبيث، قال الله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب} [المائدة: 100]. والأصل في الطيب: هو ما يستلذ ويستطاب، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه؛ لأن النجس تكرهه النفس فلا يستلذ، والحرام غير مستلذ؛ لأن الشرع يزجر عنه"(15).

وفي قوله تعالى: {حلالًا طيباً} [البقرة: 168]، وجهان (16):

أحدهما: أنها منصوبة على الحال من «ما» ؛ أي كلوه حال كونه حلالاً - أي محللاً -؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و {طيباً} حال أخرى - يعني: حال كون طيباً - مؤكد لقوله تعالى: {حلالًا} .

والثاني: ويحتمل أن يكون المراد بـ «الحلال» ما كان حلالاً في كسبه؛ وبـ «الطيب» ما كان طيباً في ذاته (17)؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]، وقوله تعالى في الميتة، ولحم الخنزير:{فإنه رجس} [الأنعام: 145].

قال ابن عثيمين: وهذا القول الأخير أولى؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد" (18).

(1) أسباب النول: 48، والعجاب: 1/ 416.

وانظر معاني هذه الألفاظ في "زاد المسير" لابن الجوزي "2/ 436 - 440" وقد ذكر في معنى البحيرة أربعة أقوال، وفي معنى كل من السائبة والوصيلة خمسة أقوال، وفي معنى الحام ستة أقوال، ونقلها يطول.

(2)

مفاتيح الغيب: 5/ 4.

(3)

تفسير مقاتل: 1/ 155.

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 237.

(5)

العجاب: 1/ 417.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 102.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 101.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(9)

معاني القرآن: 1/ 241.

(10)

التفسير البسيط: 3/ 483.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 233.

(12)

تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(13)

تفسير القرطبي: 2/ 208. وقال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة". (تفسير القرطبي: 2/ 208).

(14)

التفسير البسيط: 3/ 483، وانظر: تهذيب اللغة" 1/ 902 - 904 (حل)، "المفردات" ص 135، "تاج العروس" 14/ 158 - 168.

(15)

التفسير البسيط: 3/ 483، وانظر: تهذيب اللغة" 1/ 902 - 904 (حل)، "المفردات" ص 135، "تاج العروس" 14/ 158 - 168.

(16)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 233.

(17)

قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني - رفيق إبراهيم بن أدهم - حدثنا ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: تُليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به". (المعجم الأوسط للطبراني برقم (5026)"مجمع البحرين").

(18)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 233.

ص: 482

وفي نوع (مِن) في قوله تعالى: {مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 168]، وجهان (1):

أحدهما: أن تكون لبيان الجنس.

والثاني: أن تكون للتبعيض.

قال ابن كثير: "كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] "(2).

قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، " أي ولا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش"(3).

قال الزجاج: " أي لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان"(4).

قال مقاتل: " يعني تزيين الشيطان في تحريم الحرث والأنعام"(5).

قال البيضاوي: أي" لا تقتدوا به في اتباع الهوى، فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام"(6).

قال أبو السعود: " أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى"(7)

قال ابن عطية: " المعنى: النهي عن اتباع الشيطان وسلوك سبله وطرائقه

وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان" (8).

و{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : هي: "طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البَحَائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زَينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: إن كل ما أمنحُه عبادي فهو لهم حلال" وفيه: "وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم" (9) "(10).

قال ابن عثيمين: " و {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، أي: أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} [البقرة: 169]، وقال تعالى: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور: 21]؛ فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه"(11).

قال الثعلبي: " والخطوة ما بين القدمين، والخطوة بالفتح الفعلة الواحدة من قول القائل: خطوت خطوة واحدة"(12).

قال الطبري: "و {خُطُوَاتِ} ، جمع خطوة، والجمع خطوات-بالتحريك- وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس (13):

لها وثبات كوثب الظباء

فواد خطاء وواد مطر" (14)

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 101.

(4)

معاني القرآن: 1/ 241.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 155.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(7)

تفسير أبي السعود: 1/ 187.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 237.

(9)

صحيح مسلم برقم (2865).

(10)

تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 233.

(12)

تفسير الثعلبي: 2/ 38.

(13)

ديوانه: 72.

(14)

انظر: مفاتيح الغيب: 5/ 186.

ص: 483

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {خُطُوَاتِ} [البقرة: 168]، على وجوه (1):

أحدها: {خطوات} ، ثقيلة، بضم (الخاء) و (الطاء)، قرأ بها: ابن كثير وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم.

الثاني: {خطوات} ، خفيفة، رواه ابن فليح عن أصحابه عن ابن كثير.

الثالث: {خطوات} ، ساكنة خفيفة. قرأ بها: نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة.

الرابع: {خَطَوات} بفتح (الخاء) و (الطاء)، قرأ بها: أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير.

الخامس: {خُطُؤات} بضم (الخاء) و (الطاء) و (الهمزة) على (الواو)، روي هذه الوجه عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش.

قيل: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع (خطيئة)، من الخطأ لا من الخطو" (2).

والمعنى على قراءة الجمهور: "ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان"(3).

قال عكرمة: "إنما سمي الشيطان: لأنه تشيطن"(4).

وقد تعددت أقوال أهل العلم في تفسير قوله تعالى {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، على وجوه (5):

أحدها: أنها طاعته. قاله السدي (6)، والكلبي (7).

الثاني: أنها خطاياه. قاله مجاهد (8). وروي عن قتادة (9)، والضحاك (10) نحو ذلك.

الثالث: أنها: النذور في المعاصي. رواه سعيد بن منصور (11) عن أبي مِجْلزَ (12)، وروي عن الشعي (13)، وابن مسعود (14)، وعبدالله بن عمر (15)، نحو ذلك.

الرابع: أنها نزغات الشيطان. قاله عكرمة (16).

الخامس: أنها عمله. قاله ابن عباس (17).

السادس: أنها طرقه. قاله القتيبي (18) والزجاج (19).

(1) انظر: السبعة في القراءات: 174، وتفسير القرطبي: 2/ 208.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 208، حكاه عن الأخفش ولم نقف عليه في معاني القرآن.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 208.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1509): ص 1/ 281.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 479.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2443): ص 3/ 302.

(7)

تفسير الثعلبي: 2/ 38.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2439)، و (2440): ص 3/ 301.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2441): ص 3/ 302.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2442): ص 3/ 302.

(11)

في سننه-تحقيق الحميد-: 2/ 643 رقم: 242، وأخرجه الطبري (2444): ص 3/ 302، وابن أبي حاتم في (1507): ص 1/ 281، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 1/ 305 لعبد بن حميد وأبي الشيخ، وسنده صحيح كما ذكر الحميد في تحقيقه لسنن سعيد بن منصور: 2/ 644.

(12)

هو: أبو مِجْلَز لاحق بن سعيد السدوسي البصري، إمام تابعي ثقة مشهور بكنيته، توفي عام: 109 هـ، وقيل: قبل ذلك، انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 9/ 124، تهذيب التهذيب لابن حجر: 11/ 171، تقريب التهذيب له أيضاً:1046.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1504): ص 1/ 280.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1503): ص 1/ 280.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1502): ص 1/ 280.

(16)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1506): ص 1/ 280، وانظر تفسير عبد الرزاق 1/ 83.

(17)

تفسير الطبري (2438): ص 3/ 301.

(18)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 38.

(19)

انظر: معاني القرآن: 1/ 241.

ص: 485

السابع: أنها: هي المحقرات من الذنوب. قاله أبو عبيد (1).

الثامن: أنها زلاته وشهواته. حكاه الثعلبي عن ابن عباس (2).

قال الشوكاني: "والأولى التعميم، وعدم التخصيص بفرد أو نوع"(3).

وقال الحافظ ابن حجر: " واللفظ أعم من ذلك"(4).

قال أبو حيان: " وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل. والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة، فيزين بذلك ما لا يحل، فزجر الله عن ذلك"(5).

وقال القرطبي: وكل هذه الأقوال "قريبٌ معنى بعضها من بعض، لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله"(6)، وقال القرطبي:" والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي"(7).

قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]، " أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل"(8).

قال مقاتل: يعني بيّن" (9).

قال الماوردي: أي ظاهر العداوة" (10).

قال ابن كثير: تنفير عنه وتحذير منه (11).

قال النسفي: أي: " ظاهر العداوة لاخفاءه به"(12).

قال أبو السعود: " تعليل للنهي، أي ظاهر العدواة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى {أولياؤهم الطاغوت} "(13).

قال أبو حيان: " تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان، لأن من ظهرت عداوته واستبانت، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه"(14).

قال الطبري: يعني: "أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة، وأكل من الشجرة"(15).

قال الثعلبي: أي: " بين العداوة، وقيل: مظهر العداوة، قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لأبيكم آدم عليه السلام وغروره إياه حين أخرجه من الجنة"(16).

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 38.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 38.

(3)

فتح القدير للشوكاني: 1/ 246 - 247.

(4)

الفتح: 8/ 13.

(5)

البحر المحيط: 1/ 479.

(6)

تفسير الطبري: 3/ 302.

(7)

تفسير القرطبي: 2/ 209، وانظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 241، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 63، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 180، مفاتيح الغيب للرازي: 5/ 226، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 208، تفسير ابن كثير لابن كثير: 1/ 253.

(8)

صفوة التفاسير: 1/ 101.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 155.

(10)

النكت والعيون: 1/ 220.

(11)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 478.

(12)

تفسير النسفي: 1/! 43.

(13)

تفسير أبي السعود: 1/ 188.

(14)

البحر المحيط: 1/ 479.

(15)

تفسير الطبري: 3/ 300.

(16)

تفسير الثعلبي: 2/ 39.

ص: 486

قال القرطبي: " أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء: 60] وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] "(1).

قال البيضاوي: أي: " ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، ولذلك سماه ولياً في قوله تعالى: {أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} "(2).

قال ابن عثيمين: "أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم صلى الله عليه وسلم؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنَّهم فليغيرنَّ خلق الله} [النساء: 118، 119]، ثم قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [النساء: 119] "(3).

وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]، وجهان من التفسير (4):

أحدهما: قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم، وهو الذي أخرجه من الجنة، وعليه، فإن قوله {مبين}: من أبان العداوة: إذا أظهرها.

والثاني: أن يكون الـ {مبين} بمعنى: الظاهر هاهنا؛ لأن (أبان) يتعدى، وقد لا يتعدى.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله تعالى:{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} .

2 -

ومنها: أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.

3 -

ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس} ؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى:{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54]؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث، وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها – كما قال أهل العلم – زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [المدثر: 39 - 47].

4 -

ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} ؛ ومن ذلك الأكل بالشمال، والشرب بالشمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل أحدكم بشماله،

(1) تفسير القرطبي: 2/ 209.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 234.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39، واللسان: 1/ 406 (بين)، والمفردات: 45 - 46، وزاد المسير: 1/ 172، والتفسير البسيط: 3/ 487.

ص: 487

ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (1)؛ ومن اتباع خطوات الشيطان القياس الفاسد؛ لأن أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس؛ لأن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد: قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص~: 38]؛ يعني: فكان الأولى هو الذي يسجد؛ فهذا قياس في مقابلة النص؛ فاسد الاعتبار؛ ومن اتباع خطوات الشيطان أيضاً الحسد؛ لأن الشيطان إنما قال ذلك حسداً لآدم؛ وهو أيضاً دأب اليهود، كما قال تعالى:{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} [البقرة: 109]؛ وكل خُلق ذميم، أو عمل سوء، فإنه من خطوات الشيطان.

5 -

ومن فوائد الآية: تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: {إنه لكم عدو مبين} ؛ فإن الجملة مؤكدة بـ «إن» .

6 -

ومنها: ظهور بلاغة القرآن؛ وذلك لقرن الحُكم بعلته؛ فإن قرن الحكم بعلته له فوائد؛ منها معرفة الحكمة؛ ومنها زيادة طمأنينة المخاطب؛ ومنها تقوية الحكم؛ ومنها عموم الحكم بعموم العلة - يعني القياس -؛ مثاله قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]؛ فإن مقتضى هذا التعليل أن كل ما كان نجساً فهو محرم.

7 -

ومنها: التحذير الشديد من اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: {إنه لكم عدو مبين} ؛ وما أظن أحداً عاقلاً يؤمن بعداوة أحد ويتبعه أبداً.

القرآن

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 169]

التفسير:

إنما يأمركم الشيطان بكل ذنب قبيح يسوءُكم، وبكل معصية بالغة القبح، وبأن تفتروا على الله الكذب من تحريم الحلال وغيره بدون علم.

قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} ، أي: إنما يأمركم الشيطان "بالإثم والمعاصي وما قبح من القول والفعل"(2).

قال ابن كثير: أي: "إنما يأمركم عدوّكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا"(3).

قال الصابوني: " أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهي في القبح من الرذائل"(4).

قال المراغي: " أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(5).

قال البيضاوي: " بيان لعداوته، ووجوب التحرز عن متابعته. واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم"(6).

قال أبو حيان: " وأمر الشيطان، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور، وإما بوسوسته وإغوائه. فإذا أطيع، نفذ أمره بالسوء، أي بما يسوء في العقبى"(7).

(1) أخرجه مسلم ص 1039، كتاب الأشربة، باب 13: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، حديث رقم 5265 [105]2020.

(2)

تفسير البغوي: 1/ 180.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 479.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 101.

(5)

تفسير المراغي: 2/ 43.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 118.

(7)

البحر المحيط: 1/ 480.

ص: 488

و {السُّوءِ} : "كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و {الْفَحْشَاءِ} أي المعاصي الكبيرة، كالزنا؛ فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه؛ ثم لا ندري أتقوى هذه الأعمال الصالحة على تكفير السيئات، أم يكون فيها خلل، ونقص يمنع من تكفيرها السيئات"(1).

وقال أبو السعود: " (السوء): يطلق على جميع المعاصي سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها والفحشاء أقبح أنواعها وأعظمها مساءة"(2).

وقال القاسمي: " و {بِالسُّوءِ} يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب. {والْفَحْشاءِ}، ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم"(3).

وقال الراغب: " السوء والفحشاء كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل [وكل ما يقال له سوء] يقال له فحشُ، لكن بنظرين مختلفين، فإنه سمي سوءاً لاغتمام العاقل به، والفحشاء بأن يستفحشه، ونبه تعالى بأن الشيطان داع إلى إتيان الشر والسوء والفحش والتقول على الله عز وجل"(4).

وفي تفسير {بالسوء} [البقرة: 169]، قولان:

أحدهما: المعصية. قاله السدي (5).

الثاني: أن السوء من الذنوب ما لا حد فيه. قاله ابن عباس (6).

وفي تفسير {الفحشاء} [البقرة: 169]، هاهنا أقوال أقاويل (7):

أحدها: الزنى. قاله السدي (8).

والثاني: المعاصي. قاله الثعلبي (9).

والثالث: كل ما فيه الحد، سمي بذلك لفحش فعله وقبح مسموعه. قاله ابن عباس (10).

الرابع: البخل. قاله عطاء (11).

الخامس. منع الزكاة. قاله مقاتل (12).

السادس: ما تفاحش ذكره (13).

السابع: ما قبح قولاً أو فعلاً (14).

الثامن: ما لا يعرف في شريعتة ولا سنة. قاله طاوس (15).

وفي أصل {السوء} [البقرة: 169]، قولان:

أحدهما: يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ، إذا قبح، والسوء: الاسم الجامع للآفات والداء. قاله الليث (16).

(1) تفسير ابن عثيمين: 2/ 237

(2)

تفسير أبي السعود: 1/ 188.

(3)

محاسن التأويل: 1/ 467.

(4)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 366.

(5)

أخرجه الطبري (2445): ص 3/ 303، وابن أبي حاتم (1510): ص 1/ 281.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39، والبحر المحيط: 1/ 480.

(7)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39، والنكت والعيون: 1/ 220، والكشاف: 1/ 213، وتفسير البغوي: 1/ 180 - 181.

(8)

أخرجه الطبري (2445): ص 3/ 303، وابن أبي حاتم (1510): ص 1/ 281.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39.

(11)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39، والبحر المحيط: 1/ 480.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39.

(13)

انظر: البحر المحيط: 1/ 480.

(14)

انظر: البحر المحيط: 1/ 480.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 39، والبحر المحيط: 1/ 480.

(16)

نقله عنه في "اللسان " 4/ 2138 (سوأ)، وانظر: التفسير البسيط: 3/ 487.

ص: 489

الثاني: يقال: ساءه يسوءه سوءا ومساءة، والسوء الاسم، بمنزلة الضر وهو كل ما يسوء صاحبه في العاقبة (1).

قال الطبري: " وسمي (السوء) سوءا، لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: ساءه يسوءه سوءا ومساءة، إذا أحزنه، وسؤته فسيء، إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى:{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]، وقال الشاعر (2):

إن يك هذا الدهر قد ساءني

فطالما قد سرني الدهر

الأمر عندي فيهما واحد

لذاك شكر ولذاك صبر (3)

و(الفحشاء) أصله: قبح المنظر، كما قال امرؤ القيس (4):

وجِيدٍ كجِيدِ الرّئْمِ ليْسَ بفاحشٍ

إِذا هيَ نَصَّتْهُ وَلا بمُعَطَّلِ

ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء (5).

قال الواحدي: "و (الفحشاء): اسم الفاحشة، وكل شيء تجاوز قدره فهو فاحش، وكل أمر لا يكون موافقا للحق فهو فاحشة وفحشاء. ويقال: فحش الرجل يفحش صار فاحشا، وأفحش [قال] قولا فاحشا"(6).

قال صاحب الكشاف: " فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} ؟

قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ولذلك قال:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} وقال اللَّه تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت" (7).

قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [القرة: 169]، أي:"إن الشيطان يأمركم أن تنسبوا إلى الله القول من غير علم"(8).

قال الثعلبي: أي" من تحريم الحرث والأنعام"(9).

قال الطبري: وهو "ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرَّم ذلك"(10).

وقال صاحب الكشاف: " وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام، بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللَّه تعالى مما لا يجوز عليه"(11)،

(1) انظر: المفردات: 253 - 254، والمحرر الوجيز: 2/ 237، وزاد المسير: 1/ 172، واللسان: 1/ 4/2138 - 2139 (سوأ).

(2)

البيت من شواهد تفسير القرطبي، ولم أتعرف على قائله، انظر تفسير القرطبي: 2/ 210.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 209 - 210.

(4)

ديوانه: 16، تحق: أبو الفضل ابراهيم. والبيت من معلقته المشهورة.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 209 - 210.

(6)

التفسير البسيط: 3/ 488، وانظر: ي الفحش: "تفسير الطبري" 3/ 303، والمفردات: 375 - 376، والمحرر الوجيز 2/ 237، والبحر المحيط: 1/ 480.

(7)

تفسير الكشاف: 1/ 213.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 237 - 238. [بتصرف بسيط].

(9)

تفسير الثعلبي: 2/ 39.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 303. فقال تعالى ذكره لهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة: 103] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، (1) أنّ قيلهم: " إنّ الله حرم هذا! " من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه، ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا منهم خطواته، واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره: " وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قَالوا بَلْ نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا ". (تفسير الطبري: 3/ 304).

(11)

تفسير الكشاف: 1/ 213.

ص: 490

قال الصابوني: " أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم"(1).

قال القاسمي: " أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علم"(2).

قال البيضاوي: " كاتخاذ الأنداد وتحليل المحرمات وتحريم الطيبات، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأساً. وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرِك شرعي فوجوبه قطعي، والظن في طريقه كما بيناه في الكتب الأصولية"(3).

قال المراغي: " أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففى كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع"(4).

قال أبو السعود: "أي وبأن تفتروا على الله بأنه حرم هذا وذاك ومعنى مالا تعلمون مالا تعلمون إن الله تعالى أمر به"(5).

وقيل: "وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان. قالوا: وفي هذه الآية إشارة إلى ذمّ من قلد الجاهل واتبع حكمه"(6).

قال السعدي: " فالقول على الله بلا علم، من أكبر المحرمات، وأشملها، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده، ويبذلون مكرهم وخداعهم، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه"(7).

وفي قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، وجهان (8):

أحدهما: أن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرمه الله عليكم.

والثاني: أن تجعلوا له شريكاً.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن للشيطان إرادة، وأمراً؛ لقوله تعالى:{إنما يأمركم} .

2 -

ومنها: أن الشيطان لا يأمر بالخير؛ لقوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} ؛ وهذا حصر بـ {إنما} ؛ وهو يوازن: ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء.

3 -

ومنها: أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى:{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف: 200].

4 -

ومنها: أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ؛ والقول على الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قاله؛ هذا جائز؛ ويصل إلى حد الوجوب إذا دعت الحاجة إليه.

القسم الثاني: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه؛ فهذا حرام؛ وهذا أشد الأقسام لما فيه من محادة الله.

القسم الثالث: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله؛ وهذا حرام أيضاً.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 101.

(2)

محاسن التأويل: 1/ 467.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 118.

(4)

تفسير المراغي: 2/ 44.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 188.

(6)

البحر المحيط: 1/ 480.

(7)

تفسير السعدي: 1/ 80.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 220.

ص: 491

فصار القول على الله حراماً في حالين؛ إحداهما: أن يقول على الله ما لا يعلم أن الله قاله، أم لم يقله؛ والثانية: أن يقول على الله ما يعلم أن الله قال خلافه.

وقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} يشمل القول على الله في ذاته، كالقائلين أنه سبحانه وتعالى ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق العالم، ولا تحت؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم؛ بل بما يُعلم أن الأمر بخلافه.

ويشمل القول على الله في أسمائه، مثل أن يقول: إن أسماء الله سبحانه وتعالى أعلام مجردة لا تحمل معاني، ولا صفات: فهو سميع بلا سمع؛ وبصير بلا بصر؛ وعليم بلا علم؛ فهو عليم بذاته - لا بعلم هو وصفه

ويشمل أيضاً من قال في صفات الله ما لا يعلم، مثل أن يثبتوا بعض الصفات دون بعض، فيقولون فيما نفوه: أراد به كذا، ولم يرد به كذا؛ فقالوا على الله بلا علم من وجهين:

الوجه الأول: أنهم نفوا ما أراد الله بلا علم.

والثاني: أثبتوا ما لم يعلموا أن الله أراده؛ فقالوا مثلاً: {استوى على العرش} [الأعراف: 54] بمعنى استولى عليه؛ قالوا على الله بلا علم من وجهين؛ الوجه الأول: نفيهم حقيقة الاستواء بلا علم؛ والثاني: إثباتهم أنها بمعنى الاستيلاء بلا علم.

كذلك يشمل القول على الله بلا علم في أفعاله، مثل أن يثبتوا أسباباً لم يجعلها الله أسباباً، كمثل المنجمين، والخرَّاصين، وشبههم؛ هؤلاء قالوا على الله بلا علم في أفعاله، ومخلوقاته؛ فيقولون: سبب وجود هذا وهذا كذا؛ وهو لا يُعلم أنه سبب له كوناً، ولا شرعاً.

ويشمل أيضاً القول على الله بلا علم في أحكامه؛ مثل أن يقول: «هذا حرام» وهو لا يعلم أن الله حرمه؛ أو «واجب» وهو لا يعلم أن الله أوجبه؛ وهم كثيرون جداً؛ ومنهم العامة، ومنهم أدعياء العلم الذي يظنون أنهم علماء وليس عندهم علم؛ ومن الأشياء التي مرت عليّ قريباً، وهي غريبة: أن رجلاً ذهب إلى إمام مسجد ليكتب له الطلاق؛ فقال له: «طلق امرأتك طلقتين؛ أنا لا أكتب طلقة واحدة؛ لأن الله يقول: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]» ؛ فقال له الرجل: «اكتب أني طلقت امرأتي مرتين» ؛ وهذا جهل مركب منافٍ لمعنى الآية؛ لأن معناها أن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة هو الطلقة الأولى، والطلقة الثانية؛ فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.

فالقول على الله بلا علم في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، كل ذلك من أوامر الشيطان؛ والغالب أنه لا يحمل على ذلك إلا محبة الشرف، والسيادة، والجاه؛ وإلا لو كان عند الإنسان تقوى لالتزم الأدب مع الله عز وجل، ولم يتقدم بين يدي الله ورسوله، وصار لا يقول على الله إلا ما يعلم.

فإذا قال قائل: ألستم تبيحون الفتوى بالظن عند تعذر اليقين؟

فالجواب: بلى؛ بشرط أن يكون لهذا الظن أساس شرعي - من اجتهاد، أو تقليد لمن هو أهل لذلك - يبنى عليه؛ فإذا أفتينا بالظن لتعذر اليقين فقد أفتينا بما أذن الله لنا فيه؛ لقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقوله تعالى:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]؛ ومعلوم أن القول بغلبة الظن خير من التوقف؛ وكثير من مسائل الفقه التي تكلم فيها الفقهاء، واختلفوا فيها من هذا الباب؛ لأنها لو كانت يقينية لم يحصل فيها اختلاف؛ ثم إن الشيء قد يكون يقيناً عند شخص لإيمانه، وكثرة علمه، وقوة فهمه؛ ومظنوناً عند آخر لنقصه في ذلك.

5 -

ومنها: تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى:{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].

6 -

ومنها: ضلال أهل التأويل في أسماء الله، وصفاته؛ لأنهم قالوا على الله بلا علم.

ص: 492

7 -

ومنها: وجوب تعظيم الله عز وجل؛ لأنه تعالى حرم القول عليه بلا علم تعظيماً له، وتأدباً معه؛ وقد قال الله عز وجل:{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} [الحجرات: 1].

القرآن

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]

التفسير:

وإذا قال المؤمنون ناصحين أهل الضلال: اتبعوا ما أنزل الله من القرآن والهدى، أصرُّوا على تقليد أسلافهم المشركين قائلين: لا نتبع دينكم، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون عن الله شيئًا، ولا يدركون رشدًا؟

في سبب نزول الآية: أخرج ابن إسحاق (1)، والطبري (2)، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فرغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك من قولهما: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" (3).

قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 170]، أي: إذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم فيه من الضلال والجهل (4).

قال الطبري: أي: "فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به، وقائدًا تَتبعون أحكامه"(5).

قال القرطبي: " أي بالقبول والعمل"(6).

وقد اختلف أهل التفسير في الضمير في قوله تعالى {لَهُمُ} على ثلاثة أقوال (7):

أحدها: أنه عائد على {مَنْ} في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً} [البقرة: 165] وهم مشركو العرب، وقد سبق ذكرهم.

وثانيها: أن الضمير عائد على {الناس} من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مما في الأرض حَلالا طيبًا} ، وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون (8).وهذا اختيار الطبري (9)، والبيضاوي (10).

وثالثها: قال ابن عباس: "نزلت في اليهود، وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام، فقالوا: نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا خير منا، وأعلم منا"(11)، فعلى هذا الآية مستأنفة، والكناية في {لهم} تعود إلى غير مذكور، إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور.

(1) انظر: السيرة" لابن هشام "2/ 552".

(2)

انظر: تفسيرالطبري (2446): ص 3/ 305.

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (1511): ص 1/ 281، وانظر: العجاب: 1/ 417.

(4)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 480.

(5)

تفسير الطبري: 3/ 306.

(6)

تفسير القرطبي: 2/ 211.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 238، ومفاتيح الغيب: 5/ 188.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 119.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 304.

(10)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 119.

(11)

تفسير الطبري: 3/ 305. وتفسير ابن كثير: 1/ 480، ومفاتيح الغيب: 5/ 7.

ص: 493

قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، أي: قالوا: " بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا"(1).

قال البيضاوي: أي: " ما وجدناهم عليه"(2).

قال ابن كثير: أي من: "عبادة الأصنام والأنداد"(3).

قال ابن عثيمين: يعني، بل نتّبع ما وجدنا آباءنا عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً" (4).

وفي قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، وجهان (5):

أحدهما: أن المعنى: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام.

وعلى هذا الوجه، يكون الخطاب لكفار قريش من بني عبدالدار، فتكون (الهاء والميم) في قوله {لهم} ، عائدة على من في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165].

الثاني: أن المعنى: بل نتبع ما ألفينا وجدنا عليه آباؤنا من التحريم والتحليل والدين والمنهاج.

وعلى هذا القول تكون (الهاء والميم) في قوله {لهم} ، راجعة إلى {الناس} في قوله تعالى:{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} [البقرة: 168].

واختلف في معنى قوله تعالى: {ألفينا} [البقرة: 170]، على وجهين:

أحدهما: أنه بمعنى وجدنا. قاله أبو العالية (6)، وقتادة (7)، والربيع (8)، وهو قول الجمهور (9).

ودليله: قوله تعالى في آية أخرى {بل نتبع ما وجدنا عليه ءاباءنا} {لقمان: 21} ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى:{وألفيا سيدها لدى الباب} [يوسف: 25] وقوله: {إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين} [الصافات: 69] " (10)، ومنه قول الشاعر (11):

(1) صفوة التفاسير: 1/ 101.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 119.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 480.

(4)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 40.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1512): ص 1/ 281.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 281.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 281.

(9)

هذا تفسير أبي عبيدة في المجاز: 1/ 63، واليزيدي في غريب القرآن وتفسيره: 86، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 68، والطبري في جامع البيان: 3/ 306، والبغوي في معالم التنزيل 1/ 181، وابن عطية في المحرر الوجيز: 2/ 45، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 211.

(10)

مفاتيح الغيب: 5/ 7.

(11)

البيت لأبي الأسود الدؤلي، انظر: ديوانه: 123، وهو من شواهد سيبويه "1/ 85" وابن جني في الخصائص "1/ 311" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص 1235" ورضي الدين في باب التنوين من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 554" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 808" وابن الشجري في أماليه "1/ 346"، ومعاني الفراء: 2/ 202، والمقتضب: 1/ 157، ومجالس ثعلب: 123، والخزانة: 11/ 374، والزمخشري في تفسير سورة آل عمران من الكشاف "1/ 152 بولاق".

وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، وكانت برزة جميلة، فقالت له يومًا: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك؟ فإني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور. قال: نعم. فجمعت أهلها وتزوجته. ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت، فأسرعت في ماله، ومدت يدها في خيانته، وأفشت عليه سره، فغدا على من كان حضر تزويجه، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا. فقال لهم:

أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ

أتَانِي، فَقَالَ: اتّخِذْنِي خليلا

فخالَلْتَهُ، ثُمَّ صَافيْتُه

فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فتيلا

وَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُه

كَذُوبَ الحَدِيثِ سَرُوقًا بَخِيلا

فَذَكَّرْتُه، ثُمَّ عَاتبتُهُ

عِتَابًا رَفِيقًا وَقَوْلاً جَمِيلا

فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ

وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلَاّ قَلِيلا

أَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ

وَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا طَوِيلا? !

قالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها. ثم صرفها معهم. قال ابن الشجرى:" والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ونصب اسم الله تعالى، واختيار ذلك على حذف التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى المعرفة، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في التنكير، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وأعمل اسم الفاعل ". واستعجب الرجل: رجع عن الإساءة وطلب الرضا، فهو مستعتب. (انظر: تفسير الطبري: 3/ 306).

ص: 494

فَأَلْفَيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ

ولا ذاكر اللهَ إلا قليلًا

الثاني: أن معناه: صادفنا. قاله الزجاج (1).

و{آباءنا} : "يشمل الأدنى منهم، والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل خطأ؛ ولهذا أبطله الله تعالى في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} "(2).

وقرأ الكسائي: {بل نتبع} بإدغام (اللام) في (النون)، وكذلك يدغم لام (هل) و (بل) في (التاء والثاء والزاي والسين والصاد والطاء والظاء) ووافق حمزة في (التاء والثاء والسين)(3).

قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، أي:"أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون شيئا"(4)، ولا يهتدون "للصواب"(5).

قال الثعلبي: أي: "من التوحيد ومعرفه الرحمن ولا يهتدون للحجة البالغة"(6).

قال ابن كثير: أي: "ليس لهم فهم ولا هداية! ! "(7).

قال البغوي: " لفظه عام ومعناه الخصوص"(8).

قال الصابوني: " أي أيتبّعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ "(9).

قال ابن عثيمين: أي: " أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئا، ولا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق لا يستحقون أن يتبعوا"(10).

قال البيضاوي: " أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين، ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم. وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد. وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله"(11).

قال ابن عطية: " وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد"(12).

والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد، وهو حسن تصرف (13).

(1) انظر: معاني القرآن: 1/ 241،.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 40، وتفسير البغوي: 1/ 181.

(4)

تفسير البغوي: 1/ 181.

(5)

تفسير النسفي: 1/ 99.

(6)

تفسير الثعلبي: 2/ 40.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 480.

(8)

تفسير البغوي: 1/ 181.

(9)

صفوة التفاسير: 1/ 101.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

(11)

تفسير البيضاوي: 1/ 119.

(12)

المحرر الوجي: 1/ 238.

(13)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

ص: 495

وإذا قال قائل: إذا كانت للعموم فمعنى ذلك أنهم لا يعقلون شيئاً حتى من أمور الدنيا مع أنهم في أمور الدنيا يحسنون التصرف: فهم يبيعون، ويشترون، ويتحرون الأفضل، والأحسن لهم؟

فيقال: " {لا يعقلون شيئا}، لفظ عام ومعناه الخصوص لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، [ومعناه] لا يعقلون شيئا من أمر الدين ولا يهتدون"(1).

قال ابن عثيمين: المعنى: " أنهم لا يعقلون شيئاً من أمور دينهم، لأن المقام هنا مقام منهاج، وعمل، وليس مقام دنيا، وبيع، وشراء؛ فيكون المراد بقوله تعالى: {شيئاً} شيئاً من أمور الآخرة؛ وكلا الاحتمالين يرجع إلى معنى واحد"(2).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: ذم التعصب بغير هدى؛ لقوله تعالى: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} ؛ مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى.

2 -

ومنها: أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: «اتبع ما أنزل الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» .

3 -

ومنها: أنه لا يجب الانقياد إلا لما أنزل الله - وهو الكتاب، والحكمة -.

4 -

ومنها: بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: {اتبعوا ما أنزل الله} قالوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} دون أن يقيموا برهاناً على صحته.

5 -

ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى:{لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} .

6 -

قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، ونظيرها:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في "لهم" عائد عليهم في الآيتين جميعا، وقد تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح، والتقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا (3).

-----------------------------------------------

انتهى المجلد الثالث من التفسير ويليه المجلد الرابع بإذن الله، وبدايته تفسير الآية (171) من سورة البقرة.

(1) تفسير الثعلبي: 2/ 40 - 41.

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 242 - 243.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 2/ 211.

ص: 496

فهرست المجلد الثالث

الموضوع

الصفحة

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة: 91]

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} [البقرة: 92]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} [البقرة: 93]

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ

ص: 497

صَادِقِينَ (94)} [البقرة: 94]

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} [البقرة: 95]

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96]

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} [البقرة: 97]

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 98]

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} [البقرة: 99]

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100]

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102]

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} [البقرة: 103]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104]

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105]

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 107]

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} [البقرة: 108]

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} [البقرة: 110]

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ

ص: 498

يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} [البقرة: 113]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114]

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115]

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 117]

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} [البقرة: 118]

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} [البقرة: 119]

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120]

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} [البقرة: 121]

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)} [البقرة: 122]

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} [البقرة: 123]

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة: 126]

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127]

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ

ص: 499

أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128]

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129]

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} [البقرة: 130]

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131]

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133]

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134]

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136]

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} [البقرة: 137]

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138]

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} [البقرة: 139]

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140]

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} [البقرة: 141]

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143]

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا

ص: 500

بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145]

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147]

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} [البقرة: 149]

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} [البقرة: 150]

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} [البقرة: 151]

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة: 154]

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة: 155]

{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 156]

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 157]

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158]

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 160]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161]

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة: 162]

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]

ص: 501

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة: 166]

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 167]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 169]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]

ص: 502