الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكِفاية
في التَّفسيرِ بِالمأْثورِ والدِّراية
تأليف الفقير إلى رحمة ربه
د. عبدالله خضر حمد
الجزء الخامس
سورة البقرة الآية (228 - 286)
الطبعة الأولى
1438 هـ - 2017 م
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
الرقم الدولي (ISBN): 9953 - 72 - 715 - 5
الطبعة الأولى
1438 هـ - 2017 م
الناشر: دار القلم
بيروت - لبنان
القرآن
التفسير:
والمطلقات ذوات الحيض، يجب أن ينتظرن دون نكاح بعد الطلاق مدة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيضات على سبيل العدة؛ ليتأكدن من فراغ الرحم من الحمل. ولا يجوز لهن تزوج رجل آخر في أثناء هذه العدة حتى تنتهي. ولا يحل لهن أن يخفين ما خلق الله في أرحامهن من الحمل أو الحيض، إن كانت المطلقات مؤمنات حقًا بالله واليوم الآخر. وأزواج المطلقات أحق بمراجعتهن في العدة. وينبغي أن يكون ذلك بقصد الإصلاح والخير، وليس بقصد الإضرار تعذيبًا لهن بتطويل العدة. وللنساء حقوق على الأزواج، مثل التي عليهن، على الوجه المعروف، وللرجال على النساء منزلة زائدة من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف والقِوامة على البيت وملك الطلاق. والله عزيز له العزة القاهرة، حكيم يضع كل شيء في موضعه المناسب.
في سبب نزول الآية، أقوال:
أحدها: قال عبد الرزاق: "حدثنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن} قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر فنهاهن الله عن ذلك"(1). واخرجه الطبري (2).
والثاني: أخرج الطبري من طريق أسباط بن نصر عن السدي في هذه الآية: " فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً "(3).
والثالث: قال القرطبي: " حكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه"(4).
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أي:"والنساء اللاتي طلقهن أزواجهن، ينتظرن في العدة، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج، ثلاث حيض"(5).
قال الصابوني: " أي الواجب على المطلقات المدخول بهن أن ينتظرن مدة ثلاثة أطهار - على قول الشافعي ومالك - أو ثلاث حِيَض على قول أبي حنيفة وأحمد ثم تتزوج إِن شاءت بعد انتهاء عدتها، وهذا في المدخول بها أما غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] "(6).
قال القاسمي: " هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت"(7).
(1) تفسيره: 29، وانظر: العجاب: 1/ 580.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4750): ص 4/ 521.
(3)
تفسير الطبري (4753): ص 4/ 523. وانظر: العجاب: 1/ 580.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 112. لم نقف عليه.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 97 - 98.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 130.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 133.
قال الشوكاني: " قوله {المطلقات} يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول ثم خصص بقوله تعالى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فوجب بناء العام على الخاص وخرجت من هذا العموم المطلقة قبل الدخول وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] "(1).
قال الحافظ ابن حجر: "والمراد بالمطلقات هنا: ذوات الحيض (2)، كما دلت عليه آية سورة الطلاق المذكورة قبل (3)، والمراد بالتربص: الانتظار (4) "(5).
قال ابن عثيمين: "لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن {أنفسهن} توكيد للفاعل في {يتربصن} زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن"(6).
قال الطبري: " {المطلقات}: اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر"(7).
قال القرطبي: " {والمطلقات} لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية "الأحزاب": {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] على ما يأتي. وكذلك الحامل بقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] "(8).
و" (التربص) الانتظار
…
وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233]" (9)، و"إن قيل: كيف استعير لفمظ الخبر للأمر في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} ؟ قيل: لما كانت العدة تحصل من الرأي بانقضاء الأيام، نوتها أو لم تنوها، أجدت أو لم تجد صار لفظ الخبر أملك له من لفظ الأمر، ويدلك على صحة هذا الاعتبار إتيان جميع العدد بلفظ" (10).
وفي إعراب قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة: 228]، ثلاثة أقوال:
(1) فتح القدير: 1/ 235.
(2)
أي: الحرائر البالغات المدخول بهن، غير الحوامل، وغير من لا يحضن لصغر أو كبر. انظر: جامع البيان للطبري: 4/ 499، تفسير مقاتل-مخطوط-: 30 ب، البسيط للواحدي –مخطوط-: 1/ 138 ب، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 193 - 194، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 185 - 186، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 260، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 112، مفاتيح الغيب للرازي: 2/ 92، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 184، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 334، فتح القدير للشوكاني: 1/ 348، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 389، فتح البيان لصديق خان: 3/ 13، أضواء البيان للشنقيطي: 149/ 1.
(3)
أي: قوله-عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، وقد ذُكِرَت في الصحيح-فتح-: 9/ 379.
(4)
أي: والتلبث والتوقف والتثبت والتأني والترقب والمكث، كل ذلك قاله أهل اللغة والتفسير في معنى التربص. انظر: جامع البيان للطبري: 4/ 456، الكشف والبيان للثعلبي-مخطوط-: 2/ 104 ب، البسيط للواحدي-مخطوط-: 1/ 138 أ، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 86، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 257، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 265، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 108 و 112، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 175، الدر المصون للسمين: 1/ 551، تهذيب اللغة للأزهري: 12/ 181، الصحاح للجوهري: 3/ 1041، لسان العرب لابن منظور: 3/ 1558، تاج العروس للزبيدي: 9/ 287.
(5)
الفتح: 9/ 386.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 98.
(7)
تفسير الطبري: 4/ 499.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 112.
(9)
تفسير القطربي: 3/ 112 - 113.
(10)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 468.
أحدها: أنه خبر يراد به الأمر. وهذا قول الأكثرين (1). كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233]، وجاز لأن المعنى مفهوم، وفائدة ذلك:
أولا: رفع إيهام أن العدة لا تحصل إلا بالقصد والاختيار، وتعريف العباد أنه إذا انقضت العدة حصل المقصود، أفاده الرازي (2).
ثانيا: أن "إخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً"، أي: ثقة بالاستجابة. قاله الزمخشري (3).
والثاني: أنه أمر لفظاً ومعنى، على إضمار اللام في {يَتَربَّصْن} . وهذا قول الكوفيين.
والثالث: أنه على بابه (أي: الخبر)، وفي الآية حذف، والتقدير: وحكم المطلقات أن يتربصن.
قال ابن العربي: "قال جماعة: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ} خبر معناه الأمر، وهذا باطل، بل هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع"(4).
وهذا الذي ذكره ابن العربي-وإن كان مستقيماً من حيث المعنى-استبعده جداً أبو حيان (5)، والسمين (6)، للحاجة فيه إلى تقدير الحذف في موضعين والأصل عدمه، ولا خلاف في المعنى على الأقوال الثلاثة، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في عدة الأمة على قولين (7):
أحدهما: أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وهذا قول الجمهور.
واحتجوا بقوله عليه السلام: "طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ"(8)، فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف.
وروي عن ابن عمر: "أيهما رق نقص طلاقه"(9)، وقالت به فرقة من العلماء (10).
قال الشيخ السعدي: "، وسياق الآية يدل على أن المراد بها الحرة"(11).
والثاني: أن عدة الأمة كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع. قاله ابن سيرين (12).
والثالث: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء، وهذا قول الأصم عبدالرحمن بن كيسان، وداود بن علي، وجماعة أهل الظاهر (13).
(1) منهم: الثعلبي في الكشف والبيان-مخطوط-: 2/ 107 أ، الواحدي في البسيط-مخطوط-: 1/ 138 ب، والزمخشري في الكشاف: 1/ 365، والرازي في مفاتيح الغيب: 6/ 92، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 260، وأبو البركات ابن الأنباري في البيان في غريب إعراب القرآن: 1/ 156، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 112 وقال: (هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري)، وابن كثير في تفسيره: 1/ 334، والبيضاوي في أنوار التنزيل: 1/ 119، والألوسي في روح المعاني 2/ 131، والقاسمي في محاسن التأويل: 3/ 242، وابن عاشور في التحرير والتنوير: 2/ 388.
(2)
انظر: مفاتيح الغيب: 6/ 92.
(3)
انظر: الكشاف: 1/ 365.
(4)
أحكام القرآن: 1/ 186.
(5)
انظر: البحر المحيط: 2/ 185.
(6)
انظر: الدر المصون: 1/ 553.
(7)
تفسير القرطبي: 3/ 117 - 118.
(8)
سنن الترمذي (1182): 3/ 488. حديث ضعيف، انفرد به مظاهر بن أسلم.
(9)
أخرجه عبدالرزاق (12957) - (12959)، والدارقطني: 4/ 38.
(10)
انظر: الإستذكار: 18/ 98 - 99، وتفسير القرطبي: 3/ 118.
(11)
تفسير السعدي: 1/ 101.
(12)
انظر: مسند عبدالرزاق (12880)، والإشراف لابن المنذر: 4/ 291، والاستذكار: 18/ 192.
(13)
انظر: الإستذكار: 18/ 99، وتفسير القرطبي: 3/ 118.
والطلاق لغةً: مصدر طَلَقَت المرأة وطَلُقَت (1) تطلُق طلاقًا فهي طالق، ويدل على الترك والتخلية، يقال طلَّق البلاد أي تركها، وأطلق الأسير أي خلاًّه، ويستعمل في معان أخر فيطلق على الصفو الطيب الحلال فيقال هو لك طلق أي حلال، ويطلق على البعد يقال طلق فلان إذا تباعد، ويطلق على الخروج يقال أنت طِلْقٌ من هذا الأمر أي خارج من (2).
وهذه المعاني المذكورة إذا أمعنا النظر فيها وجدنا بينها وبين مقصود الطلاق ترابطًا واضحًا فالمطلق تارك لزوجته وهو أيضًا قد أحلها لغيره، وقد باعدها بفراقه لها وقد خرج أيضًا عن العقد الذي كان يربطهما، فالطلاق قد اجتمعت فيه هذه المعاني جميعًا (3).
وقد تنوعت عبارات الفقهاء، وتعددت تعريفاتهم للطلاق في العرف الشرعي، هو:"حلُّ قيد النكاح [أو بعضه] (4) في الحال أو المآل بلفظ مخصوص"(5).
وقد دلَّ على مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقوله تعالى:{{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].
- وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"(6)، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها (7).
- والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا (8).
- وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جوازه وهو واقع منذ الصدر الأول في الإسلام إلى هذا الزمان لا ينكره أحد (9).
والمعقول يؤيد جوازه الحكمة من مشروعيته، إذ شرع الله الزواج ليكون دائمًا مؤبدًا إذ به تتحقق المنافع والمصالح المرادة منه، ولا بد لتحقيق أهداف النكاح العظيمة من وجود المودة والتفاهم بين الزوجين فإذا حصل ما يقطع هذه المودة ويفسد هذا التفاهم مما هو واقع وكثير، لأسباب مشاهدة، كأن تفسد أخلاق أحد الزوجين فيندفع في تيار الفسق والفجور ويعجز المصلحون عن ردة إلى سواء الصراط، أو يحدث بين
(1) بفتح اللام وضمها كما قال ثعلب من أهل اللغة (اللسان 4/ 2696) وهو ما ذكره صاحب المطلع (333).
(2)
اللسان (4/ 2696)؛ مجمل اللغة (3/ 330)؛ ومعجم مقاييس اللغة (3/ 420) وما بعدها، مادة (طلق).
(3)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 258) عن الطلاق في الشرع: (وهو موافق لبعض مدلوله اللغوي) وفيما ذكرته تعقيب عليه، قال البعلي في المطلع ص (333) عن الطلاق في الشرع:(وهو عائد إلى معناه لغة) أهـ وتجد مثله في الدر النقي (3/ 671).
(4)
وهو الذي عرَّفه به في الدر المختار، ومعناه متفق عليه بين أهل العلم، وقد أضفت لتعريفه قيدًا وهو (أو بعضه) وفائدته إدخال الطلاق الرجعي، انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم (6/ 482)؛ وانظر: أمثلة لتعريفات الطلاق في فتح القدير؛ وشرح العناية (3/ 325)؛ البهجة في شرح التحفة (1/ 336)؛ وانظر أيضًا: التعريفات ص (141)؛ ومعجم لغة الفقهاء ص (291).
(5)
الدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه (2/ 414).
(6)
رواه ابن ماجة في سننه كتاب (الطلاق) باب طلاق العبد، برقم (2081)، والدارقطني في سننه كتاب (الطلاق والخلع والإيلاء)(4/ 37) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الدارقطني مرسلاً عن عكرمة وعن عصمة ابن مالك، وفي إسناد المرفوع عند الدارقطني أحمد بن الفرج مختلف فيه. انظر: لسان الميزان (1/ 266)، والكامل لابن عدي (1/ 190) وفي إسناده عند ابن ماجة ابن لهيعة وهو ضعيف، وللحديث طرق يقوي بها، انظر: التعليق المغني (4/ 37) وزوائد ابن ماجة بحاشية السنن، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء (2041)، وصحيح سنن ابن ماجة (1/ 355).
(7)
رواه أبو داود في سننه كتاب (الطلاق) باب في المراجعة رقم (2280) وابن ماجة في سننه كتاب (الطلاق) باب حديثا سويد بن سعيد رقم (2016) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسناده صحيح، وأخرجه النسائي في سننه كتاب (الطلاق) باب الرجعة رقم (3560) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وفي الباب عن أنس وعمار. انظر إن شئت مجمع الزوائد (9/ 244)، وإرواء الغليل رقم (2077)، والسلسلة الصحيحة (2007)، وانظر: قصة طلاقها في سير أعلام النبلاء (2/ 227) ، الإصابة (4/ 52).
(8)
انظر: نيل الأوطار (6/ 247)، وجمع الفوائد (1/ 671).
(9)
ممن نقل الإجماع على مشروعيته ابن قدامة في المغني (10/ 323)، وانظر:(حاشية الروض المربع) لابن قاسم (6/ 482).
الزوجين تنافر في الطباع وتخالف في العادات أو يلقى في نفس أحدهما كراهية الآخر والسَّأم منه والتبرم من أفعاله وقد يكون الزوج عقيمًا أو قد يصيبه مرض معد خطير أو قد يغيب غيبة لا يعلم فيها حاله، ولا حياته من موتِهِ، وقد يصاب بضيق ذلك اليد فلا يستطيع الإنفاق على زوجته وليست بخليه فتنكح غيره.
وهذه الأمثلة وليست من الخيال في شيء تفسد على البيت نظامه وتعكر عليه صفوه، فينحرف الزوجان في البحث على لذة بديلة أو سكن غير ما يجدانه في نكاحهما، وينحرف الأولاد حيث لا كافل لهم ولا راعي لشؤونهم ولا قائم بحقوقهم وينشأ الأطفال نشأة يملؤها التشاؤم، ويغلب عليها الحزن والانطواء في مجتمع أسري كهذا.
لهذه الأمور وغيرها كثير؛ أباح الله الطلاق ليكون علاجًا لهذا الوضع الرديء، والحال المفجع، والخطب الأليم، الذي أصاب الأسرة التي هي اللَّبنة الأولى لبناء المجتمع.
ولأن الإسلام دين رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، ولأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان، فقد حرص على وقاية المجتمعات من كل داهية تفتك به وكل فجيعة تلم به، وكل نكبة تصيبه، فقد شرع الطلاق ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة، وصلة موجعة، وارتباط مؤلم، ومن ثم ينقب كل منهما عمّن هو خير من سابقه، وأجدر بالارتباط به، قال تعالى:{وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعا حكيماً} [سورة النساء، الآية 130](1).
واختلفوا في (الأقراء)، على قولين (2):
أحدهما: أنها (الحِيَضُ). وهو قول عمر (3)، وعليّ (4)، وابن مسعود (5)، ومجاهد (6)، والربيع (7)، وقتادة (8)، والضحاك (9)، وابن عباس (10)، وعمرو بن دينار (11)، وعكرمة (12)، والسدي (13)، والحسن وأبي موسى الأشعري (14)، وعبدالله وعلي وسعيد بن جبير (15)، وإبراهيم (16)، وعثمان (17)، وأبيّ (18)، ومعبد الجهني (19).
(1) انظر: حجة الله البالغة) (2/ 138)؛ تفسير آيات الأحكام للصابوني (1/ 343) وما بعدها؛ الأحوال الشخصية ص (327)؛ تنظيم الأسرة ص (76)؛ تنظيم الإسلام المجتمع ص 89، كلها لمحمد أبو زهرة. ومن محاسن الدين الإسلامي، سعدي: ص (23، 24)؛ الفقه الإسلامي وأدلته (7/ 358)؛ الزواج والطلاق وآثارهما للدكتور عبد الودود السريتي ص (5، 6)، وانظر: في تاريخ الطلاق وأحكامه عند المسلمين وغيرهم، دائرة المعارف، للمعلم بطرس البناني (11/ 327، 328)؛ دائرة معارف القرن العشرين، لفريد وجدي (5/ 773) وما بعدها.
(2)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 499 وما بعدها، والنكت والعيون: 2/ 290 وما بعدها، وتفسير القرطبي: 3/ 118 وما بعدها.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4677)، (4680)، و (4681)، و (4682)، و (4683)، و (4684)، و (4685)، (4686): ص 4/ 501 - 503.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4689)، و (4693)، و (4698): ص 4/ 504 - 506.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4675)، و (4680)، و (4681)، و (4682)، و (4683)، و (4684)، و (4685)، و (4688): ص 4/ 501 - 504.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4666): ص 4/ 500.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4667): ص 4/ 500.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4668): ص 4/ 500.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4669): ص 4/ 500.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4670): ص 4/ 500.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4671): ص 4/ 500.
(12)
انظر: تفسير الطبري (4672): ص 4/ 501.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4674): ص 4/ 501.
(14)
انظر: تفسير الطبري (4678)، و (4679)، و (4687): ص 4/ 501 - 504.
(15)
انظر: تفسير الطبري (4690): ص 4/ 504.
(16)
انظر: تفسير الطبري (4691): ص 4/ 504.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4694): ص 4/ 505.
(18)
انظر: تفسير الطبري (4694): ص 4/ 505.
(19)
انظر: تفسير الطبري (4696): ص 4/ 505.
وقال به مالك وأبو حنيفة وأهل الكوفة (1)، وقد احتجوا بقول الشاعر (2):
يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض
…
له قروءٌ كقروءِ الحائض
قال الزجاج: " وما احتج به أهل اللغة مما يقوي مذهبهم"(3).
والثاني: أنها الأطهار. وهو قول عائشة (4)، وزيد بن ثابت (5)، وعلي (6)، وابن عمر (7)، وسالم بن عبدالله (8)، وأبان بن عثمان (9)، وسليمان (10).
وكذا قاله الشافعي وأهل الحجاز (11)، واستشهدوا بقول الأعشى (12):
وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ
…
تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً
…
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا
فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض (13)، "لأنّه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع اقراءهنّ أي أطهارهن، ومن قال بهذا القول قال: إذا حاضت المرأة الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للزواج"(14).
قال الراغب: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، " أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض وليس حقيقة هذا إلا ما قاله الشافعي دون ما قاله غيره في أنها إذا رأت الدم ثلاث مرات، فقد انقضى عدتها، وجعل غيره حصول ثلاثة أطهار تتعقبها ثلاث حيض"(15).
قلت: إن سبب اختلاف أهل التفسير في معنى (القروء) يعود إلى الإختلاف في المعنى اللغوي للكلمة، فـ (القروء) في كلام العرب: جمع (قُرْء)، وقد تجمعه العرب (أقراء)، يقال في (فعل) منه: أقرأت المراة، إذا صارت ذات حيض وطُهر، فهي تقرئ إقراء.
وقد واختلفوا في اشتقاق (القرء) على قولين (16):
(1) انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 303، وتفسير الثعلبي: 2/ 170، والنكت والعيون: 1/ 291.
(2)
مجالس ثعلب: 364، والمعاني الكبير: 850، 1143، والحيوان 6: 66 - 67، والأضداد: 22، وكتاب القرطين 1: 44، 77، واللسان (فرض)، وغيرها، وصواب إنشاده:
يارب مولى حاسد مباغض
…
عليّ ذي ضغن وضب فارض
والضب: الغيظ والحقد تضمره في القلب. قروء وأقراء جمع قرء (بضم فسكون): وهو وقت الحيض قال ابن قتيبة: "أي له أوقات تهيج فيها عداوته"، وقال الجاحظ:"كأنه ذهب إلى أن حقده يخبو ثم يستعر، ثم يخبو ثم يستعر".
(3)
معاني القرآن: 1/ 303.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4700) - (4703): ص 4/ 506 - 507.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4705)، و (4707)، و (4708)، و (4709)، و (4710)، و (4711)، و (4712)، و (4713)، و (4716)، و (4717)، و (4718)، و (4720) - (4725): ص 4/ 507 - 511.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4709): ص 4/ 508.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4711)، و (4715)، و (4716): ص 4/ 508 - 509.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4718): ص 4/ 509.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4719): ص 4/ 509.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 506 - 511.
(11)
انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 303، وتفسير الثعلبي: 2/ 170، والنكت والعيون: 1/ 291.
(12)
ديوانه: 67، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 74 وغيرهما كثير. يمدح هوذة بن على الحنفي، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر. جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة: تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم: الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله. والعزاء: حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان. يقول لهوذة: كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام.
(13)
انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 304.
(14)
تفسير الثعلبي: 2/ 170.
(15)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 466.
(16)
انظر: النكت والعيون: 1/ 291.
أحدهما: أن القرء الاجتماع، ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه، وقيل: قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه، وقيل: ما قرأتِ الناقة سَلَى قط، أي لم يجتمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم (1):
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ
…
هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا
فقوله (لم تقرَأْ): أي: لم تضم في رحمها ولداً قط (2).
وهذا قول الأصمعي (3)، والأخفش (4)، والكسائي (5)، والزجاج (6)، والشافعي (7).
والثاني: أن القرء الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجِيؤه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. وهذا قول أبي عمرو بن العلاء (8)، واختاره الطبري (9).
ولذلك قالت العرب: قرأت حاجةُ فلان عندي، بمعنى دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها، واقرأ النجم، إذا جاء وقت أفوله، وأقرأ، إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر (10):
إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أقْرَأَتْ
…
أَحَسَّ السِّمَا كَانِ مِنْها أُفُولا
وقيل: " أقرأت الريح "، إذا هبت لوقتها، كما قال مالك بن الحارث الهذلي (11):
شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ
…
إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ
بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها.
ومن ذلك قول الأعشى ميمون بن قيس (12):
وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ
…
تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً
…
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: "دعي الصلاة أيام أقرائك"(13).
بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك، إذ جعل (القُرء): وقت الطهر (14).
(1) البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته. انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني ص 129، وانظر: تهذيب اللغة (9/ 271)، ولسان العرب (1/ 124). والعيطل: الطويل العنق من النوق. والأدماء: البيض منها
(2)
انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 1 - 3.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 291.
(4)
انظر: معاني القرآن: 1/ 187.
(5)
انظر: النكت والعيون: 1/ 291، و "تهذيب اللغة" 3/ 2912 - 2914 مادة (قرأ)، "المفردات" ص 399 - 400، "عمدة الحفاظ" 3/ 338 - 340، "اللسان" 6/ 3564 - 3565 مادة (قرأ).
(6)
انظر: معاني القرآن: 1/ 305.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 291.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 292، ومعاني القرآن للزجاج 1/ 304، وتهذيب اللغة: 3/ 2912 - 2914 مادة (قرأ)، والمفردات: ص 399 - 400، وعمدة الحفاظ: 3/ 338 - 340، واللسان: 6/ 3564 - 3565 مادة (قرأ).
(9)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 511.
(10)
البيت من شواهد الطبري في تفسيره: 5/ 111. ولم أتعرف على قائله.
(11)
ديوان الهذليين 3: 83 وشيء الشيء يشنأه شناءة: كرهه. والعقر: اسم مكان و " خليل " الذي نسب إليه هو جد جرير بن عبد الله البجلي.
(12)
ديوانه: 67، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 74 وغيرهما كثير. يمدح هوذة بن على الحنفي، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر. جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة: تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم: الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله. والعزاء: حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان. يقول لهوذة: كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام.
(13)
رواه أبو دواد والنسائي من طريق المنذرين المغير، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " دعى الصلاة أيام أقرائك ". ثم قال: " ولكن المنذر هذا مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات " وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/ 1/242. وانظر سنن أبي داود 1: 114 - 117 تفصيل ذلك. وانظر البخاري (فتح الباري 1: 348 - وما بعده من أبواب الحيض) ومسلم 4: 16 - 21 وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية.
(14)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 511 - 512.
قال الماوردي: " فمن جعل القرْء اسماً للحيض، فلأنه وقت خروج الدم المعتاد، ومن جعله اسماً للطهر، فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد "(1).
قال الراغب: " والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً للأمرين الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد منهما، لأن عادة العرب أن كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة هي للخوان والطعام، وقد سمي كل واحد منهما بانفراده مائدة، وعلى ذلك الظعينة والكأس والراوية، فكذلك القرؤ، وليس هما اسماً للطهر مجرداً بدلالة أن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم، والنفساء لا يقال لهما ذلك"(2).
والراجح أن قوله تعالى {قُرُوءٍ} ، جمع قَرْء بفتح القاف؛ وهو الحيض؛ وهو رأي الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة:"تجلس أيام أقرائها"(3) أي حيضها؛ فقوله تعالى: {ثلاثة قروء} أي ثلاث حيض. والله تعالى أعلم (4).
قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، أي:"ولا يباح للمطلقات أن يخفين ما في أرحامهن من حبلٍ أو حيض استعجالاً في العدة وإِبطالاً لحق الزوج في الرجعة"(5).
قال القاسمي: " من الحيض أو الولد، استعجالا في العدة أو إبطالا لحقّ الزوج في الرجعة"(6).
و(الأرحام): جمع رحم؛ "وهو مقر الحمل؛ وسمي رحماً؛ لأنه ينضم على الجنين، ويحفظه؛ فهو كذوي الأرحام من انضمامهم على قريبهم، وحنوهم عليه، وعطفهم عليه"(7).
وذكر أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، ثلاثة تأويلات (8):
أحدها: أنه الحيض، وهو قول عكرمة (9)، والزهري (10)، وإبراهيم النخعي (11)، وعطية (12).
إذ "حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن"(13).
(1) النكت والعيون: 1/ 292.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 465 - 466.
(3)
أخرجه النسائي ص 2109، كتاب الحيض، باب 5: جمع المستحاضة بين الصلاتين وغسلها إذا جمعت، حديث رقم 361، وقال الألباني: صحيح (صحيح النسائي 1/ 120 – 121)، حديث رقم 359.
(4)
وقد ذكر القاسمي: " و (القرء): من الأضداد، يطلق على الحيض والطهر. نص عليه من أئمة اللغة: أبو عبيد والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم. والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل، استوفاه الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) فانظره. ولمن نظر إلى موضوعه اللغويّ أن يقول: تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض. فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به. والله أعلم". (محاسن التأويل: 2/ 134).
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 130.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 134.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 99.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 292، وتفسير الطبري: 4/ 516 وما بعدها.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4731): ص 4/ 517.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4727): ص 4/ 516.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4728)، و (4729)، و (4730): ص 4/ 516 - 517.
(12)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2192): ص 2/ 416.
(13)
تفسير الطبري: 4/ 516.
والثاني: أنه الحمل والحيض جميعا. قاله ابن عمر (1)، ومجاهد (2)، والربيع (3)، وابن زيد (4)، والضحاك (5)، وابن عباس (6)، والشعبي (7)، والحكم بن عتيبة (8)، وهذا قول جمهور أهل التفسير.
والثالث: أنه الحمل، قاله عمر (9)، وابن عباس (10)، ومحمد بن كعب القرظي (11)، والسدي (12)، والنخعي (13) - في أحد قوليه-، وقتادة (14)، ومقاتل بن حيان (15).
ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها. قاله عمر (16)، وابن عباس (17)، وعكرمة (18).
والثاني: أن السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل - الذي هو من الزوج المطلِّق - بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن. قاله قتادة (19).
والثالث: أن السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب. قاله السدي (20).
والراجح هو القول الثاني، وهو قول الجمهور، فـ "الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها - الحيضُ والحبَل، لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال: " القُرء " الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال"(21).
(1) انظر: تفسير الطبري (4734): ص 4/ 518، وتفسير ابن أبي حاتم (2191): ص 2/ 415 - 416.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4735)، و (4737) - (4743): ص 4/ 518 - 519.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4744): ص 4/ 519.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4745): ص 4/ 519 - 520.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4746): ص 4/ 520.
(6)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2191): ص 2/ 416.
(7)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2191): ص 2/ 416.
(8)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2191): ص 2/ 416.
(9)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(10)
انظر: النكت والعيون: 1/ 292.
(11)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(12)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(14)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(15)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2190): ص 2/ 415.
(16)
انظر: تفسير الطبري (4747): ص 4/ 520.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4748): ص 4/ 521.
(18)
انظر: تفسير الطبري (4749): ص 4/ 521.
(19)
انظر: تفسير الطبري (4750) - (4752): ص 4/ 521 - 522.
(20)
انظر: تفسير الطبري (4753): ص 4/ 523.
(21)
تفسير الطبري: 4/ 523. ثم قال: " فإذا كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل علم أنهن منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر.
ويُسأل من خصّ ذلك - فجعله لأحد المعنيين دون الآخر - عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي قاله السدي من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن "، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.
وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله". (تفسير الطبري: 4/ 523 - 524).
قوله تعالى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228]، أي "إِن كنَّ حقاً مؤمنات بالله ويخشين من عقابه"(1).
قال الصابوني: "وهذا تهديد لهنَّ حتى يخبرن بالحق من غير زيادة ولا نقصان لأنه أمر لا يُعلم إِلاّ من جهتهنَّ"(2).
قال القاسمي: " أي: "إن جرين على مقتضى الإيمان به، المخوف من ذاته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، المخوف من جزائه. ودلّ هذا على أن المرجع في هذا إليهنّ. لأنه أمر لا يعلم إلّا من جهتهن. ويتعذر إقامة البينة على ذلك. فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحقّ. وهذه الآية دالة على أنّ كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه، فأمره عند الله شديد" (3).
وقال ابن عثيمين: "قوله تعالى: {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} هذه الجملة فيها إغراء لالتزام الحكم السابق؛ وهي تشبه التحدي؛ يعني إن كن صادقات في الإيمان بالله، واليوم الآخر فلا يكتمن حملهن"(4).
قال القرطبي: " ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع"(5).
قال الراغب: " فليس ذلك شرطاً في أنهن إذا لم يكن مؤمنات، يجوز أن يكتمن، وإنما ذلك تنبيه أنه مناف للإيمان، وأنه ليس من فعل المؤمن، كقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "(6).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن "سعيد بن جبير قال: جاء أعرابي فسأل: من أعلم أهل مكة؟ فقيل له: سعيد بن جبير. فسأل عنه فإذا هو في حلقة، وهو حديث السن. زاد يوسف فقال: إن هذا الحدث. فقيل له: هو هذا. قالا: جميعا فسأله ابن أخ له تزوج امرأة، ثم عرض بينهما فرقة، وبها حبل، فكتمت حبلها حتى وضعت. هل له أن يراجعها؟ قال: لا. قال: فاشتد على الأعرابي. فقال له سعيد: ما تصنع بامرأة لا تؤمن بالله واليوم الآخر. فلم يزل يزهده فيها حتى زهد فيها"(7).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 130 - 131.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 130 - 131.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 134.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 99.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 118.
(6)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 468.
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2193): ص 2/ 416.
و {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، المراد:"يوم القيامة؛ وإنما سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا يوم بعده؛ فالناس إذا بعثوا يوم القيامة فليس هناك موت؛ بل إما خلود في الجنة؛ وإما خلود في النار؛ وذكر اليوم الآخر؛ لأن الإيمان به يحمل الإنسان على فعل الطاعات، واجتناب المنهيات؛ لأنه يعلم أن أمامه يوماً يجازى فيه الإنسان على عمله؛ فتجده يحرص على فعل المأمور، وترك المحظور"(1).
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} ، " أي: وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير" (2).
قال الصابوني: "وأزواجهن أحقُّ بهنَّ في الرجعة من التزويج للأجانب إِذا لم تنقض عدتهن وكان الغرض من الرجعة الإِصلاح لا الإِضرار، وهذا في الطلاق الرجعي"(3).
قال ابن عباس: " يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة، أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع"(4).
و(البعولة)، جمع (بعل)، وهو الزوج للمرأة، و (البعل) هو الزوج، كما قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم:{قال يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72] أي: زوجي، ومنه قول جرير (5):
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ المَلابَ فَإنَّمَا
…
جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وَأَنْتُمْ حَلائِلُهْ
وقد يجمع (البعل)(البعولة)، و (البعول)، كما يجمع (الفحل)(والفحول) و (الفحولة)، و (الذكر)(الذكور)(والذكورة)، وكذلك ما كان على مثال (فعول) من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه (الهاء)(6).
وسمي الزوج بعلاً مع أنه مطلِّق؛ لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني (7).
و{إِصْلاحًا} أي ائتلافاً، والتئاماً بين الزوج، وزوجته، وإزالة لما وقع من الكسر بسبب الطلاق، وما أشبه ذلك (8).
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] أي: "ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن"(9).
قال السعدي: " أي: وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة"(10).
(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 99 - 100.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 609.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم (2195): ص 2/ 417.
(5)
ديوانه: 482 والنقائض: 650 وطبقات فحول الشعراء: 347. من نقيضة عجيبة كان من أمرها أن الحجاج قال لهما: ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية. فجاء الفرزدق قد لبس الخز والديباج وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة قومه بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد! فلبس جرير درعًا وتقلد سيفًا، وأخذ رمحًا وركب فرسًا وأقبل في أربعين فارسًا من قومه. فلما رأى الفرزدق قال:
لَبِسْتُ سِلاحِي والفَرَزْدَقُ لُعْبِةً
…
عَلَيْهِ وِشَاحًا كُرَّجٍ وَجَلاجِلُهْ
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ. . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكرج: الخيال الذي يلعب به المخنثون كأنه " خيال الظل " فيما أظن. والجلاجل: الأجراس ويروى: " أعدوا مع الخز " وهو الحرير. والملاب: طيب من الزعفران تتخلق به العروس في زينتها لجلوها. والحلائل جمع حليلة. وهي الزوجة. ولشد ما سخر جرير من ابن عمه! !
(6)
تنظر: تفسير الطبري: 4/ 526.
(7)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 100.
(8)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 100.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 609.
(10)
تفسير السعدي: 1/ 102. ثم قال: " ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف، وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال، والأشخاص والعوائد.
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة، والمعاشرة، والمسكن، وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف، فهذا موجب العقد المطلق".
وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ} أي للزوجات سواء كن مطلقات، أو ممسكات، فكما أن على الزوجة أن تتقي الله تعالى في حقوق زوجها، وأن تقوم بما فرض الله عليها؛ فلها أيضاً مثل الذي له في أنه يجب على الزوج أن يعاشرها بالمعروف، وأن يقوم بحقها الذي أوجب الله عليه (1).
ولما كانت المماثلة تقتضي المساواة أخرج ذلك بقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} أي فضل في العقل، والحقوق؛ وهذا من باب الاحتراس حتى لا يذهب الذهن إلى تساوي المرأة، والرجل من كل وجه (2).
قال ابن كثير: " فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (3) "(4).
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ " (5).
وأخرج الطبري بسنده عن ابن عباس قال: "إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} "(6).
قال الراغب: "يتبين أن لكل واحد على الآخر حقاً كحق الآخر، فمما تشاركا فيه مراعاتهما للمعنى الذي شرع لأجله النكاح وهو طلب النسل، وتربية الولد، ومعاشرة كل واحد منهما للآخر بالمعروف وحفظ المنزل، وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت أيديهما، حماية كل واحد على الآخر بقدر جهده وحده"(7).
وفي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، ثلاثة أوجه من التفسير (8):
أحدها: ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن، وهو قول الضحاك (9)، وابن زيد (10).
والثاني: ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين، مثل ما لأزواجهن، وهو قول ابن عباس (11).
والثالث: أن الذي لهن على أزواجهن، ترك مضارتهن، كما كان ذلك لأزواجهن، وهو قول أبي جعفر (12).
قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، أي "وللرجال على النساء ميزةٌ"(13).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 100.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 100.
(3)
صحيح مسلم (1218): 2/ 887.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 609 - 610.
(5)
سنن أبي داود (2142): 2/ 245.
(6)
تفسير الطبري (4768): ص 4/ 532.
(7)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 469.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 292 وما بعدها، وتفسير الطبري: 4/ 531 وما بعدها.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4766): ص 4/ 531.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4767): ص 4/ 531.
(11)
تفسير الطبري (4768): ص 4/ 532.
(12)
انظر: تفسيره: 4/ 533. إذ يقول: " فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: " ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف " فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.
فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره. وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك".
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
قال الصابوني: " هي فيما أمر تعالى به من القوامة والإِنفاق والإِمرة ووجوب الطاعة فهي درجة تكليفٍ لا تشريف لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] "(1).
قال السعدي: " أي: رفعة ورياسة، وزيادة حق عليها، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، ومنصب النبوة والقضاء، والإمامة الصغرى والكبرى، وسائر الولايات مختص بالرجال، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور، كالميراث ونحوه"(2).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} سبعة أوجه (3):
أحدها: فضل الميراث والجهاد، وهو قول مجاهد (4)، وقتادة (5).
والثاني: أنه الإمْرَةُ والطاعة، وهو قول الضحاك وزيد بن أسلم (6)، وابنه عبد الرحمن (7).
والثالث: أنه إعطاء الصداق، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإن قذفته حُدَّتْ، وهو قول الشعبي (8).
والرابع: أفضاله عليها، وأداء حقها إليها، والصفح عما يجب له من الحقوق عليها، وهو قول ابن عباس (9)، وقتادة (10).
والخامس: أنه "يطلقها، وليس لها من الأمر شيء". قاله أبو مالك (11).
والسادس: وقيل: " فضيلة بما أنفقوا عليهن من أموالهم". قاله مقاتل بن حيان (12).
والسابع: أن جعل له لحْية، وهو قول حميد (13).
قال القرطبي: " وهذا إن صح عنه، فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها (14).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 131. وقال الرغب الأصفهاني: " وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ} هو من وجه تنبيه لفضل الرجل على المرأة بالجملة، ومن وجه كالاستثناء بأن له عليها حقا، ليس لها عليه، أما فضله عليها، فقد نبه علبه بقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ودل عليه النبي- عليه السلام بقوله: " إنكن ناقصات الدين والعقول"
…
[رواه البخاري (298): بلفظ: مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ
…
]، وقيل: من نقصها أن شر ما في الرجال الجبن والبخل، وهما خير ما في النساء، ولكونهن ناقصات عظم الله نسبة البنات إليه أكثر كما تعظيمه نسبة الابن، وإلا كانا منكرين، فقال تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ، وقال:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ، وقال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، وقال:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} ، وعظم تعالي نسبة الملائكة إلى الأنوثة، فقال:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} .
ولكن الأنوثية نقص جعل القوه الانفعالية أنثى، والقوة الفاعلة ذكر حتى شبهوا السماء بالفحل والأرض باللقوحة، وقالوا حديد ذكر، وحديد أنثى، وقال تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} ، أي أصناماً مفعولة غير فاعله، وأما فضل حقوقه عليها، فقيل: عشرة أشياء جعل الطلاق إليه من دونها، وإباحة ضربها عند النشوز، أو هجران فراشها، ووجوب إجابتها إياه دعاها إلى الفراش، والائتمار له إذا نهاها عن الخروج، وأن ميراثه منها أكثر من ميراثها منه، وأنه إذا قذفها فله إسقاط الحد باللعان، وليس لها ذلك وأن له أن يجمع بينها وبين غيرها، وليس لها أن تجمع بينه وبين غيرة، وليس لها أن تصوم تطوعاً ولا أن تحج فرضاً إلا بإذنه، وله ذلك من دون إذنها.
وإلى وهذه الجملة أشار بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونبه بقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أنه يحكم بكل ما يشاء، فلا يغالب لعزة، ويتقن كل ما يفعله فيصيب بحكمته، وفيه وعد وإبعاد على مجازاتهما فيما يتحريانه من صلاح وفساد". (تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 469 - 470).
(2)
تفسير السعدي: 1/ 101.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 293، وتفسير الطبري: 4/ 533 وما بعدها.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4769) - (4770): ص 4/ 533 - 534.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4771): ص 4/ 534.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4772): ص 4/ 534.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4773): ص 4/ 534.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4775): ص 4/ 534.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4776): ص 4/ 535.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2202): ص 2/ 418.
(11)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2200): ص 2/ 417.
(12)
تفسير ابن أبي حاتم (2203): ص 2/ 418.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4777): ص 4/ 535.
(14)
تفسير القرطبي: 3/ 125.
وقول ابن عباس أقربها إلى الصواب، "وهو أن الـ {درجة} التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه، وذلك أن الله تعالى ذكره قال:{وللرجال عليهن درجة} عَقيب قوله: {ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف} ، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره:" وللرجال عليهن درجة " بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله:" ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها " لأن الله تعالى ذكره يقول: {وللرجال عليهن درجة} " (1).
قوله تعالى {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، أي: والله "غالب ينتقم ممن عصاه، حكيم في أمره وتشريعه"(2).
قال الربيع: " {عزيز} في نقمته، {حكيم} في أمره"(3).
قال السعدي: "أي: له العزة القاهرة والسلطان العظيم، الذي دانت له جميع الأشياء، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه"(4).
قال الطبري: " {والله عزيز} في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من معاصيه " حكيم " فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه .. وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ " إلى قوله: " وللرجال عليهن درجة " ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه"(5).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب اعتداد المطلقة بثلاث حيض؛ لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} ؛ وهي جملة خبرية بمعنى الأمر؛ قال البلاغيون: إذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك توكيداً له؛ كأنه أمر واقع صح أن يخبر عنه.
2 -
ومنها: قوة الداعي في المرأة للزواج؛ لقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن} ؛ فكأن النفس تحثها على أن تنهي علاقتها بالأول، وتتزوج؛ فقيل:«تربصي بنفسك» أي انتظري؛ مثل أن تقول: تربصتُ بكذا، وكذا، وكذا.
3 -
ومنها: وجوب العدة بثلاث حيض على كل مطلقة سواء كان طلاقها بائناً أم لا؛ لعموم قوله تعالى: {والمطلقات} .
(1) تفسير الطبري: 4/ 535 - 536.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(3)
تفسير الطبري (4778): ص 4/ 538.
(4)
تفسير السعدي 1/ 101.
(5)
تفسير الطبري: 4/ 537 - 538.
ويستثنى من ذلك: من لا تحيض لصغر، أو إياس: فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4].
ويستثنى أيضاً من طلقت قبل الدخول، والخلوة: فليس عليها عدة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49].
ويستثنى أيضاً الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4].
فهذه ثلاث مسائل مستثناة من عموم قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} .
4 -
ومن فوائد الآية: أن من فارق الزوجة بغير طلاق فليس عليها أن تعتد بثلاث حيض، كالمختلعة؛ وعليه فيكفي أن تستبرئ بحيضة؛ وهذا هو القول الراجح.
5 -
ومنها: أنه لو طلقها في أثناء الحيض لم يحتسب بالحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ وجهه: أن الحيض لا يتبعض؛ فتلغى بقية الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ ولا بد لها من ثلاث حيض جديدة؛ وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدتها ثلاثة قروء وبعض القرء؛ وهو خلاف النص؛ وهذا على القول بأن طلاق الحائض واقع؛ ولكن الصواب أن طلاق الحائض لا يقع؛ لحديث ابن عمر (1)؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2)؛ ولنصوص أخرى دلت على عدم وقوع طلاق الحائض.
6 -
ومن فوائد الآية: أن الطلاق لا يقع قبل النكاح منجزاً كان، أو معلقاً؛ معيناً كان، أو مطلقاً؛ فلو قال لامرأة:«إن تزوجتك فأنت طالق» فتزوجها لم تطلق؛ لقوله تعالى: {والمطلقات} ؛ ولا طلاق إلا بعد قيد - وهو عقد النكاح -.
7 -
ومنها: أنه يرجع إلى قول المرأة في عدتها؛ لقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} ؛ وجه ذلك أن الله جعل قولها معتبراً؛ ولو لم يكن معتبراً لم يكن لكتمها أيّ تأثير؛ فإذا ادعت أن عدتها انقضت، وكان ذلك في زمن ممكن فإنها تصدق؛ وهي مؤتمنة على ذلك؛ أما إذا ادعت أن عدتها انقضت في زمن لا يمكن فإن قولها مردود؛ لأن من شروط سماع الدعوى أن تكون ممكنة؛ ودعوى المستحيل غير مسموعة أصلاً.
8 -
ومن فوائد الآية: أن المطلقة البائن عدتها ثلاثة قروء؛ لعموم قوله تعالى: {والمطلقات} ؛ فيشمل حتى البوائن؛ وهو قول جمهور العلماء؛ حتى لو كانت بائناً بالثلاث؛ فإنها لا بد أن تعتدّ بثلاثة قروء؛ وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن كانت المسألة إجماعية فالإجماع معتبر، وهو حجة؛ وإن لم تكن إجماعية فإن القول بأن المبانة تعتد بحيضة واحدة قول وجيه؛ فعلق القول به على وجود مخالف؛ وقد وجد؛ ويؤيد هذا القول قوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} ؛ فإن هذا الحكم إنما هو للرجعيات؛ فيكون العموم مخصصاً بذكر الحكم المختص ببعض أفراده؛ وهذه المسألة فيها نزاع بين العلماء - وهي أنه إذا ورد لفظ عام، ثم فرع عليه حكم يتعلق ببعض أفراده فهل يكون ذلك مخصصاً لعمومه -؛ أو يقال: إن ذكر حكم يختص ببعض الأفراد لا يقتضي التخصيص؛ ومن أمثلته حديث جابر: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» (3)؛ إذا نظرنا إلى أول الحديث: «في كل ما
(1) راجع البخاري ص 453، كتاب الطلاق، باب 1: وقول الله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)، حديث رقم 5251؛ ومسلماً ص 926 – 927، كتاب الطلاق، باب 1: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها
…
، حديث رقم 3652 [1]1471.
(2)
أخرجه البخاري ص 214، كتاب الصلح، باب 5: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2697؛ وأخرجه مسلم ص 982 - 983، كتاب الأقضية، باب 8: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم 4493 [18] 1718، واللفظ لمسلم.
(3)
أخرجه البخاري ص 171، كتاب البيوع، باب 96: بيع الشريك من شريكه، حديث رقم 2213، وأخرجه مسلم ص 957، كتاب المساقاة، باب 28 الشفعة، حديث رقم 4128 [134] واللفظ للبخاري.
يقسم» وجدنا أن الشفعة تجري في كل شيء؛ وإذا نظرنا إلى آخره: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق» ، قلنا: إن الشفعة لا تجري إلا فيما كان له حدود، وطرق - وهو الأرض -.
و«الشفعة» أن ينتزع الشريك حصة شريكه التي باعها لطرف ثالث؛ مثال ذلك: زيد شريك لعمرو في أرض؛ فباع عمرو نصيبه لخالد؛ فلزيد أن يأخذ هذا النصيب من خالد بالثمن الذي يستقر عليه العقد؛ فإذا كان لشخصين سيارة واحدة، وباع أحدهما نصيبه من هذه السيارة لشخص ثالث فللشريك أن يأخذ هذا النصيب ممن اشتراه بثمنه على مقتضى أول الحديث العام؛ لكن قوله تعالى:«فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» يقتضي أن لا شفعة له في نصيب شريكه في السيارة؛ لأنه لا حدود، ولا طرق فيها؛ والمسألة ذات خلاف معروف في كتب الفقه.
9 -
ومن فوائد الآية: أنه ينبغي ذكر ما يوجب القبول، والعمل؛ لقوله تعالى:{إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} .
10 -
ومنها: أنه ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا الله عز وجل من عذاب يوم الآخر إن هو لم يقم بواجب الأمانة؛ لقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} .
11 -
ومنها: إثبات اليوم الآخر.
12 -
ومنها: أن الرجعية في حكم الزوجات؛ لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق} ؛ فأثبت أنه بعل.
فإن قال قائل: ألا يمكن أن يقال: {بعولتهن} فيما مضى؛ لأن الشيء قد يعبر عنه بعد انتهائه، كقوله تعالى:{وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2]؛ وهم لا يؤتونها إلا بعد زوال اليتم؛ كما أنه قد يعبر عن الشيء قبل وجوده، كقوله تعالى:{إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36]؛ وهو إنما يعصر عنباً ليكون خمراً؟
فالجواب: أن الأصل خلاف ذلك؛ ولا يصار إلى خلاف الأصل إلا بدليل؛ لأن الأصل أن الوصف متحقق في الموصوف حتى يتبين زوال الوصف عنه؛ ولهذا قال أهل العلم: إن الرجعية زوجة في حكم الزوجات؛ وينبني على ذلك أن كل ما يترتب على الزوجية فهو ثابت للرجعية إلا أنهم استثنوا بعض المسائل.
13 -
ومن فوائد الآية: أنه لا حق للزوج في الرجعة إذا لم يرد الإصلاح؛ لقوله تعالى: {إن أرادوا إصلاحاً} ؛ وقال بعض أهل العلم: «إن هذا ليس على سبيل الشرط؛ ولكنه على سبيل الإرشاد» ؛ وهو خلاف ظاهر الآية؛ والواجب إبقاء الآية على ظاهرها؛ فليس له أن يراجع إلا بهذا الشرط.
14 -
ومنها: أنه لا رجعة بعد انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: {أحق بردهن في ذلك} .
15 -
ومنها: أن للزوجة حقاً كما أن عليها حقاً؛ لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} .
16 -
ومنها: إثبات الرجوع إلى العرف؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} ؛ وهكذا كل ما جاء، ولم يحدد بالشرع فإن مرجعه إلى العرف.
17 -
ومنها: استعمال الاحتراس؛ وأنه لا ينبغي الإطلاق في موضع يخشى فيه من التعميم؛ لقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} أي حقوق الرجال أكثر من حقوق النساء؛ ولهذا كان على الزوجة أن تطيع زوجها؛ وليس على الزوج أن يطيع زوجته؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء: 34]؛ وهذا من معنى الدرجة؛ ودرجة الرجال على النساء من وجوه متعددة؛ فالدرجة التي فضل بها الرجال على النساء في العقل، والجسم، والدين، والولاية، والإنفاق، والميراث، وعطية الأولاد.
الأمر الأول: العقل؛ فالرجل عقله أكمل من عقل المرأة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن؛ قلن: ما نقصان العقل يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة الرجل بشهادة امرأتين؟ فذلك نقصان عقلها» (1).
الأمر الثاني: الجسم؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الجسم؛ فهو أنشط من المرأة، وأقوى في الجسم.
الأمر الثالث: الدين؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: «إنها ناقصة في الدين» ؛ وفَسر ذلك بأنها إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم؛ ولهذا يجب على الرجل من الواجبات الدينية ما لا يجب على المرأة، كالجهاد مثلاً.
الأمر الرابع: الولاية؛ فقد فضل الرجل على المرأة في الولاية؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الرجل قواماً على المرأة؛ فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض؛ ولهذا لا يحل أن تتولى المرأة ولاية عامة أبداً - لا وزارة، ولا غير وزارة -؛ فالولاية العامة ليست من حقوق النساء أبداً، ولا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة.
الأمر الخامس: الإنفاق؛ فالزوج هو الذي ينفق على المرأة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى"(2)؛ و (اليد العليا): هي المعطية؛ و (السفلى): الآخذة.
الأمر السادس: الميراث، وعطية الأولاد؛ فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
18 -
ومن فوائد الآية: أن الذين لهم درجة على النساء هم الرجال الذين هم جديرون بهذا الوصف؛ وأما من جعل نفسه بمنزلة النسوة فهذا يكون شراً من المرأة؛ لأنه انتكس من الكمال إلى الدون؛ ومن ثم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء؛ والمتشبهات من النساء بالرجال (3)؛ حتى لا يعتدي أحد على حق؛ أو على اختصاصات أحد.
19 -
ومنها: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وما تضمناه من صفة - وهي العزة في (العزيز) -؛ والحكمة، والحكم في «الحكيم» ؛ وما يترتب على ذلك من أثر.
القرآن
التفسير:
الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان، واحدة بعد الأخرى، فحكم الله بعد كل طلقة هو إمساك المرأة بالمعروف، وحسن العشرة بعد مراجعتها، أو تخلية سبيلها مع حسن معاملتها بأداء حقوقها، وألا يذكرها مطلقها بسوء. ولا يحل لكم- أيها الأزواج- أن تأخذوا شيئًا مما أعطيتموهن من المهر ونحوه، إلا أن يخاف الزوجان ألا يقوما بالحقوق الزوجية، فحينئذ يعرضان أمرهما على الأولياء، فإن خاف الأولياء عدم إقامة الزوجين حدود الله، فلا حرج على الزوجين فيما تدفعه المرأة للزوج مقابل طلاقها. تلك الأحكام هي حدود الله الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تتجاوزوها، ومن يتجاوز حدود الله تعالى فأولئك هم الظالمون أنفسهم بتعريضها لعذاب الله.
في سبب نزول الآية أقوال:
(1) أخرجه البخاري ص 26، كتاب الحيض، باب 6: ترك الحائض الصوم، حديث رقم 304، وأخرجه مسلم ص 692، كتاب الإيمان، باب 34: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، حديث رقم 241 [132]79.
(2)
أخرجه البخاري ص 112، كتاب الزكاة، باب 18: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، حديث رقم 1427، وأخرجه مسلم ص 841، كتاب الزكاة، باب 32: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى
…
، حديث رقم 2386 [95]1034.
(3)
راجع البخاري ص 501، كتاب اللباس، باب 61: المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم 5885.
أحدها: أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن "هشام بن عروة عن أبيه، أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدا، ولا أؤيدك أبدا وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له، فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}. قال هشام: ولم يكن لهم شيء ينتهون إليه من الطلاق"(1).
والثاني: أخرج الطبري بسنده الصحيح عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة " قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما" (2).
والثالث: أخرج الواحدي عن عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أنها أتتها امرأة فسألتها عن شيء من الطلاق، قالت:"فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فنزلت: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} "(3).
قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، أي: عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الردّ والرجعة: اثنتان" (4).
قال ابن عثيمين: "يعني أن الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان: بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع"(5).
قال الشوكاني: "أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان أي الطلقة الأولى والثانية إذلارجعة بعد الثالثة وإنما قال سبحانه {مرتان} ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة كذا قال جماعة من المفسرين"(6).
وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] على قولين (7):
الاول: أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث، وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة. وهذا قول قتادة (8)، وابن زيد (9)، وعروة (10)، والسدي (11)، وعكرمة (12).
وذلك لأن "أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه"(13).
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2206): ص 2/ 418، وأخرجه الطبري في تفسيره (4779): ص 4/ 539، والواحدي في أسباب النزول: 79 - 80، وأخرجه الإمام مالك (الموطأ برواية يحيى بن يحيى: 403 - ح: 1242) والترمذي (3/ 497 - ح: 1192)، والشافعي وعبد بن حميد (تفسير ابن كثير: 1/ 271) والبيهقي (فتح القدير: 1/ 239) كلهم من طريق هشام به. وهو صحيح الإسناد، إلا أنه مرسل. (حاشية جامع الأصول: 2/ 46).
(2)
تفسير الطبري (4810): ص 4/ 556.
(3)
أسباب النزول: 80، وأخرجه الترمذي (3/ 497) والحاكم (المستدرك: 2/ 279) وابن مردويه والبيهقي (فتح القدير: 1/ 239) من طريق يعلى بن شبيب المكي به. وإسناده ضعيف بسبب يعلى (تقريب التهذيب: 2/ 378) - رقم: 405).
(4)
محاسن التأويل: 2/ 137.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 108.
(6)
فتح القدير: 1/ 238.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 293 - 294.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4781)، و (4782): 4/ 540
(9)
انظر: تفسير الطبري (4783): ص 4/ 540
(10)
انظر: تفسير الطبري (4779): ص 4/ 539 - 541.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4784): ص 4/ 540
(12)
انظر: تفسير الطبري (4785): ص 4/ 541
(13)
تفسير الطبري: 4/ 538 - 539.
الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة، وهو قول عبد الله بن مسعود (1)، وعبد الله بن عباس (2)، ومجاهد (3).
والراجح هو القول الأول، لأنه أولى بظاهر الآية، و"الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ - ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه"(4). والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، "أي ليس لكم بعد المرتين إلا الإمساك بالمعروف"(5).
قال الصابوني: أي: "وليس بعدهما إلا المعاشرة بالمعروف مع حسن المعاملة"(6).
قال الشوكاني: " أي فأمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة"(7).
قال ابن عثيمين: " فعليكم إمساك بمعروف، أي: بما يتعارفه الناس من العشرة الطيبة الحسنة -"(8).
قال الضحاك: "المعروف: أن يحسن صحبتها"(9).
قال ابن عباس: " ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها "(10).
قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، أي:"أو الطلاق بإحسان"(11).
قال الشوكاني: " أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها"(12).
قال الصابوني: يعني: "بألا يظلمها من حقها شيئاً ولا يذكرها بسوء ولا ينفّر الناس عنها"(13).
قال ابن عثيمين: " أي إطلاق لهن؛ وهو كقوله تعالى في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]؛ والمراد بـ (الإحسان) هنا أن يمتعها بشيء يجبر كسرها، ويطيب قلبها"(14).
قال ابن عباس: " يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا"(15).
قال السدي: " الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها"(16).
قال الضحاك: " التسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة"(17).
(1) انظر: تفسير الطبري (4786): ص 4/ 541
(2)
انظر: تفسير الطبري (4787): ص 4/ 542.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4788)، و (4789): ص 4/ 543.
(4)
تفسير الطبري: 4/ 543 - 544.
(5)
تفسير المراغي: 2/ 170.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(7)
فتح القدير: 1/ 238.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 108.
(9)
تفسير الطبري (4799): ص 4/ 548.
(10)
تفسير الطبري: 4/ 548. عن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
(11)
تفسير البغوي: 1/ 412.
(12)
فتح القدير: 1/ 238.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 108.
(15)
تفسير الطبري (4801): ص 4/ 548.
(16)
تفسير الطبري (4803): ص 4/ 548.
(17)
تفسير الطبري (4804): ص 4/ 548 - 549.
قال الشوكاني: " عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان، وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثا أو واحدة فقط فذهب إلى الأول الجمهور وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق وقد قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا وأفردته برسالة مستقلة"(1).
وقد ذكر العلماء بأن الطلاق على قسمين من حيث الصيغة: الصريح والكناية (2)(3).
(1) فتح القدير: 1/ 238.
(2)
إن المتأمل في حال المجتمعات الإسلامية يلحظ تزايداً مطردا في نسب الطلاق، حتى وصلت النسب إلى مستوً لا يمكن تقبله في بعض البلدان الإسلامية، ولعل من جملة الأسباب التي أدت إلى ذلك جهل كثير من الناس بأحكام الطلاق، ومتى يقع الطلاق، ومتى لا يقع، وألفاظه إلى غير ذلك، وبناء عليه كان لا بد من إطلالة فقهية على بعض أحكام الطلاق، ومن تلك الأحكام معرفة أنواع الطلاق وأقسامه، ويمكن أن يقسم الطلاق إلى أقسام عدة باعتبارات عدة، فنقول:
أولا: أقسام الطلاق من حيث الصفة (انظر: المغني: (7/ 278، وتحفة الفقهاء، السمرقندي: 2/ 171 - 175):
1 -
الطلاق السني: وهو أن يطلق الرجل المرأة فى طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها فلا يطلقها طلقة أخرى وهي لا زالت في العدة، قال ابن قدامة:"ولا خلاف في أنه إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه ، ثم تركها حتى تنقضي عدتها ، أنه مصيب للسنة ، مطلق للعدة التي أمر الله بها. قاله ابن عبد البر ، وابن المنذر"1.
2 -
الطلاق البدعي: وهو أن يطلق الرجل امرأته وهي حائض أو نفساء، أو فى طهر قد جامعها فيه، أو يطلقها ثلاثاً في كلمة واحدة فيقول: أنت طالق ثلاثاً، أو ثلاثاً في كلمات متفرقة فيقول: أنت طالق، طالق، طالق.
والطلاق البدعي كالسني عند عامة أهل العلم من حيث وقوعه، ومن أهل العلم من لا يوقعه، وليس المقام هنا مقام تفصيل لذلك، إذ المقصود بيان أقسام الطلاق كما تقدم.
ثانيا: أقسام الطلاق من حيث الرجعة وعدمها:
الطلاق الرجعى: وهو ما يملك معه الزوج حق مراجعة مطلقته في عدتها من غير استئناف عقد جديد، وهو ما كان دون الثلاث في المدخول بها، وبدون عوض، فيثبت له حق الرجعة ما دامت في عدتها، ويكفيه أن يقول لها:"لقد راجعتك".
الطلاق البائن: وهو الذى لا يملك المطلق معه حق الرجعة، ويقع الطلاق بائناً في صور هي:
1 -
أن يطلقها طلاقاً رجعياً، فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها.
2 -
أن يطلقها على مال تدفعه مخالعة.
3 -
أن يطلقها قبل الدخول بها.
4 -
أن يطلقها ثلاثاً في كلمة واحدة، أو متفرقات في المجلس، أو يطلقها ثالثة بعد اثنتين قبلها؛ فتبين منه بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ثالثا: أقسام الطلاق من حيث الصيغة:
1 -
الطلاق الصريح: وهو ما لا يحتاج المطلق معه إلى نية الطلاق، بل يكفي فيه لفظ الطلاق الصريح كأن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى:{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وقد قال عمر بن عبدالعزيز: "لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى". (موطأ مالك 1170: 1/ 413)، وقد روي عن علي قال:" الْخَلِيَّةُ وَالْبَرِيَّةُ وَالْبَتَّةُ وَالْبَائِنُ وَالْحَرَامُ إِذَا نَوَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثِ". (كتاب السنن الكبرى: 7/ 344) من حديث الشعبي.
2 -
الطلاق الكناية: وهو ما يحتاج فيه إلى نية الطلاق، إذ اللفظ غير صريح فى الدلالة عليه كأن يقول:"الحقي بأهلك"، أو غير ذلك، فهنا لا بد في وقوع الطلاق من نية الطلاق، فلو قال لم أنو بهذا اللفظ الطلاق قبل منه ولم يقع طلاقا.
والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله.
وقد جاء في " حاشية البجيرمي على الخطيب "(3/ 491): " قَوْلُهُ: (وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ) وَضَابِطُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ لِلَّفْظِ إشْعَارٌ قَرِيبٌ بِالْفُرْقَةِ، وَلَمْ يَشِعْ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا " انتهى.
وجاء في " الموسوعة الفقهية "(29/ 26): " كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ، وَاحْتَمَلَهُ، وَغَيْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلا لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ " انتهى. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "كل ما يحتمل الفراق، فهو كناية " انتهى من " الشرح الممتع "(13/ 70).
ولا يقع الطلاق بألفاظ الكنايات، إلا بشرطين: أن ينوي الشخص الطلاق، وأن يأتي بلفظ دال عليه، فلو تلفظ الشخص بلفظ لا يدل على الطلاق لا شرعاً ولا عرفاً، وكانت نيته من ذلك اللفظ: الطلاق، فإنه لا يقع طلاقه
قال ابن القيم رحمه الله: " وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ حَتَّى يَنْوِيَهُ، وَيَأْتِيَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهِ، فَلَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَلَا الْعِتَاقُ. وَتَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَقْسِيمًا صَحِيحًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَلَيْسَ حُكْمًا ثَابِتًا لِلَّفْظِ لِذَاتِهِ، فَرُبَّ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ، كِنَايَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ، أَوْ صَرِيحٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، كِنَايَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَهَذَا لَفْظُ السَّرَاحِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطَّلَاقِ، لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، لَزِمَهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ
…
"انتهى من " زاد المعاد " (5/ 291).
وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله ما يفيد أن الدعاء الذي يدل على الطلاق يكون من ألفاظ الطلاق.
فإنه سئل عمن قال لزوجته: فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فقَالَ:" إنْ كَانَ يُرِيدُ أنه دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فَأَرْجُو أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ". " مسائل أبي داود للإمام أحمد"(ص 239)، "الإنصاف"(8/ 478).
وقد علق عليه ابن مفلح في " الفروع"(9/ 38) قائلا: "فَلَمْ يَجْعَلْهُ شَيْئًا مَعَ نِيَّةِ الدُّعَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، أَوْ الْإِطْلَاقِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِرَاقَ صَرِيحٌ، أَوْ لِلْقَرِينَةِ".
ثم ذكر ما يشبه هذه المسألة ثم قال: "فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ، وَظَهَرَ أَنَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ: هَلْ يَعْمَلُ بِالْإِطْلَاقِ لِلْقَرِينَةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ، أَمْ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ؟ " انتهى.
ومعنى هذا: أن الدعاء بـ "فرق الله بين وبينك في الدنيا والآخرة" هو من كنايات الطلاق، وقد نقل عن الإمام أحمد روايتان في كنايات الطلاق، وأن القول الراجح هو أن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، ولا تكفي القرينة، والله تعالى أعلم.
رابعا: أقسام الطلاق من حيث التنجيز والتعليق:
1 -
الطلاق المنجز: هو ما تطلق به الزوجة فى الحال، كقوله:"أنت طالق"، فلا يعلق وقوع الطلاق على أمر ما.
2 -
الطلاق المعلق: هو ما رتب وقوع الطلاق فيه على حصول أمر في المستقبل، بأداة من أدوات الشرط مثل إن، وإذا، ومتى، ولو ونحوها، كأن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إذا سافرت إلى بلدك فأنت طالق، أو إن خرجت السوق فأنتي طالق، أو متى زرت فلانة فأنت طالق، فلا يقع الطلاق إلى عند حصول ذلك الأمر.
(3)
وقد أُثير فى هذه الأيام فتوى شاذة تمس الحرمات التى نهى الله عن قربها والأبضاع التي جاء الدين الحنيف بصيانتها وحفظها. وظهر بيننا من تجرّء على الفتيا فى مسائل الطلاق ، وركب ظهور العواصف، ظناً منه أن العاصفة سترفعه ونسى انها قاصفة تُردي به فى واد سحيق ، فنفث الفتاوى الشاذة بلا علم واجتهد مع النص واستقرار الأحكام وأظهر كل عوراء وعرجا من شاذ الفتاوى ومستنكر الأقوال. وراح يبعث فى أقوال مهجورة ضررها أكبر من نفعها.
وسوف نتناول في فوائد الآية: الرد على من أفتى بأن الطلاق بالقول الصريح لا يقع إلا عند توثيقه لدى الجهات المختصة وفى حضور الشهود. والله المستعان.
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وذكروا فيه قولان (1):
الأول: أن هذا في الطلقة الثالثة. وهذا قول عطاء (2)، ومجاهد (3)، وقتادة (4)، وهذا التفسير نقله الطبري (5)(6) وغيره (7) عن الجمهور (8).
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 294، وتفسير الطبري: 4/ 544 وما بعدها.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4790): ص 4/ 544.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4794): ص 4/ 546.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4795): ص 4/ 546.
(5)
جامع البيان للطبري: 4/ 544 - 546 رقم: 4790 - 4795.
(6)
وهو اختيار الطبري، انظر: تفسيره: 4/ 547. وبعد أن ذكر القول الثاني، علّق عليه قائلا: " وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره، فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن ".
(7)
الاستذكار لابن عبد البر: 18/ 158، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 127، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 193 - 194.
(8)
قال أبو حيان في البحر: 2/ 193 - 194: "
…
فهو قول مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار"، وحكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر في الاستذكار: 18/ 158، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 127 - 128، وفي حكايته-رحمه الله-للإِجماع نظر؛ إذ المسألة فيها خلاف مشهور، انظر: جامع البيان للطبري: 4/ 539، النكت والعيون للماوردي: 1/ 394، البسيط للو احدي-مخطوط-: 1/ 139 ب، التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام للقاضي أبي حسين بن أبي يعلى: 2/ 157، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 105، الإجماع في التفسير للخضيري: 252 - 253، وغيرها. وهو اختيار مقاتل في تفسيره: 30 ب، وابن جرير في جامع البيان: 4/ 547، وابن عطية في المحرر الوجيز: 2/ 198 - 199، وأبي حيان في البحر المحيط: 2/ 194، والسمين في الدر المصون: 1/ 557، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 353، وصديق خان في فتح البيان: 2/ 20، وغيرهم.
قال الكرماني: "أو التسريح بإحسان: عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة"(1).
ويسند القول ما أخرجه الطبري وغيره (2) عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان " هي الثالثة" (3).
قال الحافظ ابن حجر: " وسنده حسن لكنه مرسل؛ لأن أبا رزين لا صحبة له (4)، وقد وصله الدارقطني (5) من وجه آخر عن إسماعيل فقال: عن أنس (6) لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ (7) "(8).
والثاني: أنه عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وهو قول السدي (9)، والضحاك (10)(11).
قال ابن حجر: " وقد رجح إلكيا الهراسي (12) من الشافعية في كتاب: (أحكام القرآن) له قول السدي، ودفع الخبر لكونه مرسلاً، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله أن فيه زيادة فائدة، وهي بيان حال المطلقة وأنها تَبِين إذا انقضت عدتها، قال: وتؤخذ الطلقة الثالثة من قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} اهـ"(13).
(1) شرح الكرماني لصحيح البخاري: 19/ 182.
(2)
كابن أبي حاتم في التفسير-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 756 رقم: 2172، وسعيد بن منصور في سننه-تحقيق الأعظمي-: 1/ 340 - 341 رقم: 1456 - 1457، والبيهقي في السنن الكبرى: 7/ 340، وعبد الرزاق في التفسير: 1/ 93، والنحاس في الناسخ والمنسوخ: 2/ 50 رقم: 239، ومعاني القرآن: 1/ 200، وابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 175، وذكره السيوطي في الدر المنثور: 1/ 495 وزاد نسبته لوكيع وأحمد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن مردويه.
(3)
تفسير الطبري (4791) - (4793): 4/ 545. وهو حديث مرسل ضعيف.
(4)
قلت: ولذا ضعفه ابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 191، وأحمد شاكر في تخريجه لأحاديث الطبري: 4/ 545، وانظر ما كتبه اللاحم في تحقيقه للناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 50 - 51، والغامدي في تخريجه لأحاديث وآثار القسم الثاني من سورة البقرة من تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 756.
(5)
هو: أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدارقطني، إمام زمانه، حافظ عصره، شيخ الإسلام، انتهى إليهم علم الأثر والمعرفة بالعلل مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد، توفي عام: 385 هـ، له مصنفات أشهرها: السنن، وعلل الحديث. انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 34، وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 297، سير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 449، تذكرة الحفاظ له أيضاً: 3/ 991.
(6)
سنن الدارقطني: 4/ 4، وهو عن أنس عند البيهقي في السنن الكبرى أيضاً: 7/ 340.
(7)
قال الدارقطني: 4/ 4 عقيب حديث أنس: (كذا قال عن أنس، والصواب عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحواً من ذلك قال البيهقي في السنن الكبرى: 7/ 340، وقال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني-بهامش السنن-: 4/ 4 (الحديث رواه البيهقي وابن مردويه من طريق عبد الواحد بن زياد مثله سنداً ومتناً)، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: 3/ 421: (وهو في المراسيل لأبي داود كذلك، قال عبد الحق: المرسل أصح، وقال ابن القطان: المسند أيضاً صحيح، ولا مانع أن يكون له في الحديث شيخان).
(8)
الفتح: 9/ 278.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4796): ص 4/ 546.-547.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4797)، و (4798): ص 4/ 547.
(11)
وانظر: النكت والعيون للماوردي: 1/ 294، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 263، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 105، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 127، وغيرها. وهو اختيار القاضي أبي حسين ابن أبي يعلى في التمام: 2/ 157، والرازي في مفاتيح الغيب: 6/ 105، والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 270، وغيرهم.
(12)
هو: أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بإلكيا الهراسي، علامة فقيه مفسر، شيخ الشافعية في عصره، ومدرس النظامية، أحد الفصحاء، اتهم بمذهب الباطنية وهو بريء، توفي عام: 504 هـ، له تصانيف حسنة منها: أحكام القرآن وشفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 286، سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 350، طبقات الشافعية للسبكي: 7/ 231، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 1/ 319.
(13)
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي: 1/ 249.
ثم قال الحافظ: "والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري (1) من حديث ابن عباس بسند صحيح، قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئاً""(2).
قلت: قول ابن عباس لا يدل على أكثر من أن التسريح يراد به التطليق، وهو أمر مسلم به إذ لا ذكر للآية في أثره، ولا يلزم منه كون المراد بالتسريح في الآية التطليق، ومرسل أبي رزين ضعيف للإِرسال فإن ثبت فهو القول ولا قول لأحد بعد قوله صلى الله عليه وسلم، ويحمل الطلاق في قوله-عز وجل:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} على أنه التسريح في قوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، ويكون المعنى: فإن سرحها التسريحة الثالثة فلا تحل له من بعده حتى تنكح زوجاً غيره، وإن لم يثبت فالقولان محتملان.
والراجح -والله أعلم- هو قول السدي والضحاك، وذلك لوجوه أربعة، ذكرها الرازي في تفسيره (3):
أحدها: أن الفاء في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله: فإن طلقها طلقة رابعة وذلك لا يجوز.
والثاني: أنه في حال حمل التسريح في الآية على ترك المراجعة في العدة تكون الآية متناولة لجميع الأحوال؛ لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] أو لا يراجعها وهو المراد بقوله: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] أو يطلقها الثالثة وهو المراد بقوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230].
والثالث: أن ظاهر لفظ التسريح يدل على الإرسال والإهمال مما يدل على أن حمل التسريح في الآية على عدم المراجعة أولى من حمله على التطليق.
والرابع: أنه قال بعد ذكر التسريح: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] والمراد به الحلغ، ولا يصح الخلع بعد الطلقة الثالثة.
قال الرازي بعد ذكره تلك الوجوه: "فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه"(4).
قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229]، أي:"لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما دفعتم إِليهن من المهور شيئاً ولو قليلاً"(5).
قال الطبري: " ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن - لطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم"(6).
قال الشوكاني: " وتنكير {شيئا} للتحقير أي شيئا نزرا فضلا عن الكثير وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك هو
(1) جامع البيان للطبري: 4/ 542 رقم: 4787، وهو عند ابن أبي حاتم في التفسير-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 755 رقم: 2170، وذكره السيوطي في الدر المنثور: 1/ 496 وزاد نسبته لابن المنذر.
(2)
الفتح: 9/ 278 - 279.
(3)
انظر: مفاتيح الغيب: 6/ 105.
(4)
مفاتيح الغيب: 6/ 105. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 263، التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام لابن أبي يعلى: 2/ 157، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 127، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 198 - 199، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 270، أحكام القرآن لإلكيا الهراسي: 2/ 249، وغيرها.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(6)
تفسير الطبري: 4/ 549.
الذي تتعلق به نفس الزوج وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحل له كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى" (1).
وقد اختلف أهل العلم في الخطاب الموجه في قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة: 229]، على قولين (2):
أحدهما: أن الخطاب للأزواج، أي لا يحل للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهن. وهذا قول الجمهور.
والثاني: أن الخطاب فيه للأئمة والحكام ليطابق قوله {فإن خفتم} ، فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك.
والقول الأول أولى، وذلك لقوله تعالى {مما آتيتموهن} ، "فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جدا لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم وقيل إن الثاني أولى لئلا يتشوش النظم"(3).
قوله تعالى: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229]، أي:"إِلا أن يخاف الزوجان سوء العشرة وألا يرعيا حقوق الزوجية التي أمر الله تعالى"(4).
قال الشوكاني: " أي لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا عدم إقامة حدود الله التي حدها للزوجين وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة"(5).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229]، على وجهين (6):
أحدهما: {يُخَافَآ} ، قراءة حمزة وحده.
على البناء للمجهول والفاعل محذوف، وهو الأئمة والحكام، واختاره أبو عبيد قال لقوله {فإن خفتم} فجعل الخوف لغير الزوجين، وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان وهو سعيد بن جبير (7)، والحسن وابن سيرين، وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور (8).
والثاني: {يَخَافَآ} ، بفتح (الياء)، وهي قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة.
وذلك بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب:{إِلَاّ أَن يظنا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} (9).
والعرب قد تضع (الظن) موضع (الخوف)، و (الخوف) موضع (الظن) في كلامها، لتقارب معنييهما، كما قال أبو الغول الطهوي (10):
(1) فتح القدير: 1/ 238.
(2)
انظر: فتح القدير: 1/ 238.
(3)
فتح القدير: 1/ 238.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(5)
فتح القدير: 1/ 238.
(6)
انظر: السبعة: 182.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4818): ص 4/ 558.
(8)
انظر: فتح القدير: 1/ 238.
(9)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 550. قال الطبري: " حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه:{إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} ". (تفسير الطبري: 4/ 550).
(10)
البيت في نوادر أبي زيد: 46 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 وتفسير الطبري: 4/ 550 و 5/ 40، وهو شاعر اسلامي عاش في الدولة المروانية، ولم أجد خبر " نصيب " و " سلام " وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد العزيز بن مروان. فإن أبا الغول، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية وهجا حمادا (الأغاني 5: 162) وقال له أيضًا فيما روى أبو زيد في نوادره ص: 46
ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب
أتاني كلام عن نصيب يقوله
…
وما خفت يا سلام أنك عائبي
بمعنى: ما ظننت.
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أَن يَخَافَا أَلَاّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 229]، وجوها (1):
أحدها: أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق، وهو قول ابن عباس (2) والضحاك (3).
والثاني: أن لا تطيع له أمراً، ولا تبرّ له قَسَماً، وهو قول ابن عباس (4)، والحسن (5)، والشعبي (6)، وإبراهيم (7)، والربيع (8)، والزهري (9)، وعروة (10)، وعامر (11)، والسدي (12)، ومقسم (13) ومجاهد (14).
والثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة، وهو قول عطاء (15).
والرابع: أن يكره كل واحد منهما صحبة الآخر، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه. وهو قول عامر (16)، طاووس (17)، وسعيد بن المسيب (18)، والقاسم بن محمد (19).
وأولى هذه الأقوال بالصواب: "قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله"(20).
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229]، أي "فإِن خفتم سوء العشرة بينهما وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلقها"(21).
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 195، وانظر: تفسير الطبري: 4/ 557 وما بعدها.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4807): ص 4/ 552 - 553.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4821): ص 4/ 559.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4812): ص 4/ 557.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4822): ص 4/ 559.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4824): ص 4/ 560.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4826): ص 4/ 560.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4819): ص 4/ 558.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4820): ص 4/ 559.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4813): ص 4/ 557.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4817): ص 4/ 558.
(12)
انظر: تفسير الطبري (4827): ص 4/ 560.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4828): ص 4/ 559 - 560.
(14)
انظر: تفسير الطبري (4829): ص 4/ 561.
(15)
انظر: تفسير الطبري (4830): ص 4/ 560.
(16)
انظر: تفسير الطبري (4831): ص 4/ 560 - 561.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4832): ص 4/ 562.
(18)
انظر: تفسير الطبري (4834): ص 4/ 562.
(19)
انظر: تفسير الطبري (4833): ص 4/ 562.
(20)
تفسير الطبري: 4/ 562. أما طلب الطلاق من أجل التزوج برجل أخرى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ". مسند الإمام أحمد (9094): 2/ 414. من حديث وهيب عن أيوب عن الحسن عن أبي هريرة .. يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره، وقوله " المنتزعات ": الظاهر أن معناها معنى " المختلعات ": كأنها تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ ".مسند الإمام أحمد (21874: 5/ 277) من حديث أيوب عن أبي قلابة عمن حدثه عن ثوبان.
(21)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
قال الشوكاني: " أي إذا خاف الأئمة والحكام أو المتوسطون بين الزوجين وإن لم يكونوا أئمة وحكاما عدم إقامة حدود الله من الزوجين وهي ما أوجبه عليهما"(1).
قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229]، أي:" فلا إثم على الزوجين فيما بذلته فداءً لنفسها عن المقام معه"(2).
قال الشوكاني: "أي لا جناح على الرجل في الأخذ وعلى المرأة في الإعطاء، بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شئ من المال يرضي به الزوج فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج وانه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف وهو الذي صرح به القرآن"(3).
قال الصابوني: "فلا إِثم على الزوج في أخذه ولا على الزوجة في بذله"(4).
قال القاسمي: "أي: لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به، ولا عليها في إعطائه. وهذه الآية أصل في الخلع"(5).
وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم: "انه لا يحل له ما أخذ ولا يجبر على رده وهذا في غاية السقوط"(6).
وإن قيل: "لماذا جاءت الآية بنفي الجناح عليهما؟ فالجواب أن طلب الفداء والطلاق حرام على الزوجة بدون سبب؛ وحرام على الزوج أيضاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها بدون سبب"(7).
وفي قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَليهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وجهان (8):
أحدهما: افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة، وهو قول عليّ (9)، وعطاء (10)، والربيع (11)، والزهري (12)، وعمرو بن شعيب (13)، وابن المسيب (14)، وطاوس (15)، والشعبي (16)، والحكم (17)، والحسن (18).
والقول الثاني: يجوز أن تُخَالِعَ زوجها بالصداق وبأكثر منه، وهذا قول عمر (19)، وعثمان (20)، وعبد الله بن عمر (21)، وابن عباس (22)، ومجاهد (23)، والنخعي (24)، وقبيصة بن ذؤيب (25)، والشافعي (26).
(1) فتح القدير: 1/ 238.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 108.
(3)
فتح القدير: 1/ 238.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 138.
(6)
فتح القدير: 1/ 238.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 108.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 295 - 296.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4852): ص 4/ 575.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4846) - (4848): ص 4/ 574.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4845): ص 4/ 5734.
(12)
انظر: تفسير الطبري (4846): ص 4/ 574.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4846): ص 4/ 574.
(14)
انظر: تفسير الطبري (4857): ص 4/ 575.
(15)
انظر: تفسير الطبري (4858): ص 4/ 575.
(16)
انظر: تفسير الطبري (4849) - (4851): ص 4/ 574 - 575.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4853): ص 4/ 575.
(18)
انظر: تفسير الطبري (4854): ص 4/ 575.
(19)
انظر: تفسير الطبري (4870): ص 4/ 578.
(20)
انظر: النكت والعيون: 1/ 295 - 296.
(21)
انظر: تفسير الطبري (4863) - (4865): ص 4/ 577.
(22)
انظر: تفسير الطبري (4871)، و (4873): ص 4/ 578، 579.
(23)
انظر: تفسير الطبري (4872): ص 4/ 579.
(24)
انظر: تفسير الطبري (4866) - (4870): ص 4/ 577 - 578.
(25)
انظر: تفسير الطبري (4865): ص 4/ 577.
(26)
انظر: النكت والعيون: 1/ 295 - 296.
وقد "احتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لهاقالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها"(1).
والقول الثاني هو الأفرب إلى الصواب، واختاره الشوكاني قائلا:"وظاهر القرآن الجواز، لعدم تقييده بمقدار معين وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين"(2).
وقد اختلف العلماء في نسخها، على قولين (3):
أحدهما: أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَآتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً} [النساء: 20]، وهذا قول بكر بن عبدالله (4).
قال الشوكاني: " وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الإثنين"(5).
والثاني: أن حكمها ثابت في جواز الخلع. وهذا قول الجمهور.
وقد روى أيوب، عن كثير مولى سَمُرة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة، فأمر بها إلى بيت كثير، فحبسها ثلاثاً، ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها"(6).
والراجح هو قول الجمهور، فـ"إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه - فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها"(7).
قال الطبري: " فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين:
أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.
والآخر: أن الآية التي في " سورة النساء " إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما
(1) تفسير الطبري: 4/ 575.
(2)
فتح القدير: 1/ 239.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 296.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4877)، و (4879): ص 4/ 580، وانظر الأثران في: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: 68 وأحكام القرآن للجصاص 1: 392 والقرطبي: 3: 139.
(5)
فتح القدير: 1/ 239.
(6)
كتاب السنن الكبرى: 7/ 315. وفي مصنف عبدالرزاق (11851): 6/ 505: " اخْلَعْهَا وَيْحَكَ وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا".
(7)
تفسير الطبري: 4/ 580 - 581.
على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا، وأما الآية التي في " سورة البقرة " فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في " سورة البقرة " ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في " سورة النساء "، كما الحظر في " سورة النساء "، غير الإطلاق والإباحة في " سورة البقرة "، فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة، وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل" (1).
وقد زعم الفراء أن في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وجهان (2):
أحدهما: أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في " سورة الرحمن ":{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]، وإنما الناسي صاحب موسى وحده، ومثله في الكلام أن تقول:" عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما "، وإنما تركب إحداهما، وتستقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.
والوجه الآخر: أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.
والقولان فيهما نظر، وقد اعترض عليهما الطبري في تفسيره (3).
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، أي:"تلك شرائعه فَلا تتجاوزوها بالمخالفة والرفض"(4).
قال الشوكاني: " أي أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها فلا تعتدوها بالمخالفة لها"(5).
قال الصابوني: أي "هذه الأحكام العظيمة من الطلاق والرجعة والخلع وغيرها هي شرائع الله وأحكامه فلا تخالفوها ولا تتجاوزوها إِلى غيرها ممّا لم يشرعه الله"(6).
قال السعدي: " {حُدُودُ اللَّهِ} أي، أحكامه التي شرعها لكم، وأمر بالوقوف معها"(7).
(1) تفسير الطبري: 4/ 581 - 582.
(2)
انظر: معاني القرآن 1/ 147 - 148. ونقله الطبري في تفسيره: 4/ 571 - 572.
(3)
اعترض الطبري على الوجهين اللتين ذكرهما الفراء قائلا: " فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، فأما قوله: {فلا جناح عليهما} فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول: " إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما "، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال: " إنما هو خبر عن أحدهما ". وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود". (تفسير الطبري: 4/ 572 - 573).
(4)
انظر: محاسن التأويل: 2/ 138.
(5)
فتح القدير: 1/ 239.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 102.
قال العلماء: "إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا}؛ وأما إذا كانت الحدود من المحرمات فإنه تعالى يقول: {فلا تقربوها} "(1).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وجهين:
أحدهما: أن المعنى: تلك طاعة الله فلا تعتدوها. قاله الضحاك (2).
والثاني: أن الطلاق من حدود الله فلا تعتدوها. قاله ابن شهاب (3).
قوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [البقرة: 229]، أي و"من خالف أحكام الله، فقد عرَّض نفسه لسخط الله وهو من الظالمين المستحقين للعقاب الشديد"(4).
قال الضحاك: "يقول: " من طلق على غير هذا فقد ظلم نفسه" (5).
قال القاسمي: " أي: [الظالمين] لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه. وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد"(6).
قال الشيخ السعدي: " وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال، وتعدى منه إلى الحرام، فلم يسعه ما أحل الله؟ والظلم ثلاثة أقسام: ظلم العبد فيما بينه وبين الله، وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك، وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة، وحقوق العباد، لا يترك الله منها شيئا، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك، تحت المشيئة والحكمة"(7).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: حكمة الله عز وجل ورحمته في حصر الطلاق بالثلاث بأنه لا رجعة بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يطلِّق الإنسان زوجته عدة طلقات؛ فإذا قاربت انتهاء العدة راجع، ثم طلق، فتستأنف العدة؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع، ثم طلق؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع ثم طلق
…
وهكذا؛ فتبقى المرأة معذبة: لا مزوجة، ولا مطلقة؛ فتبقى معلقة؛ فجعل الله الأمر في ثلاث طلقات فقط.
2 -
ومنها: اعتبار التكرار بالثلاث؛ وهذه لها نظائر كثيرة؛ فالسلام ثلاث؛ والاستئذان ثلاث؛ ورد الكلام إذا لم يفهم من أول مرة ثلاث؛ وفي الوضوء والعبادات أيضاً تكرار الثلاث كثير؛ فإذاً الثلاث تعتبر تكراراً يكتفى به في كثير من الأمور.
3 -
ومنها: الإشارة إلى أن الطلاق المكرر بلفظ واحد ليس بطلاق؛ بمعنى أنه لا يتكرر به الطلاق؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} وصف يجب أن يكون معتبراً؛ فإذا طلقت امرأتك؛ فقلت: أنت طالق؛ فقد طلقت؛ فإذا قلت ثانية: «أنت طالق» فكيف تورد طلاقاً على مطلقة؛ لأن الطلاق لا يرد إلا على من كانت غير مطلقة حتى يقال: طلقت؛ وهنا قال تعالى: {الطلاق مرتان} ؛ ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله: لو أن الرجل طلق امرأته، وحاضت مرتين، ثم طلقها بعد الحيضة الثانية لا تستأنف عدة جديدة للطلقة الثانية؛ بل تبني على ما مضى؛ وإذا حاضت الثالثة، وطهرت انقضت عدتها؛ لأن الطلاق الثاني ليس له عدة؛ وهذا مما يؤيد اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الطلاق المكرر لا عبرة به إلا أن يصادف زوجة غير مطلقة؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: {فطلقوهن لعدتهن} ؛ والفقهاء الذين خالفوا في ذلك يقولون: إنه إذا كرر الطلاق في المرة الثانية لا تستأنف العدة؛ فإذاً هي مطلقة لغير عدة فلا يقع الطلاق؛ لأنه سيكون على خلاف ما أمر الله
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 109.
(2)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2226): ص 2/ 422.
(3)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2227): ص 2/ 422.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (2229): ص 2/ 422.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 138.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 102 - 103.
به؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1)؛ وقد قال شيخنا عن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن من تأمله تبين له أنه لا يسوغ القول بخلافه» ؛ لأنك إذا تأملت كلامه في أنه لا يقع طلاق على طلاق، وأنه لا يتكرر إلا على زوجة غير مطلقة فلا يمكن أن يتكرر الطلاق إلا إذا راجعها، أو عقد عليها عقداً جديداً؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو الذي أفتي به؛ وهو أنه لا طلاق على طلاق حتى لو قال ألف مرة: أنت طالق؛ فليس إلا مرة واحدة فقط؛ ويدل على هذا قول تعالى: {الطلاق مرتان} أي مرة بعد مرة؛ فلا بد أن يقع على زوجة غير مطلقة.
4 -
ومن فوائد الآية: أن الواجب على المرء الذي طلق زوجته أحد أمرين؛ إما إمساك بمعروف؛ أو تسريح بإحسان؛ وأما أن يردها مع الإيذاء، والمنة، والتقصير، أو يسرحها بجفوة وعدم إحسان فلا يجوز.
5 -
ومنها: بيان حكمة الله في تشريعه سبحانه وتعالى؛ إذ قال تعالى في الإمساك: {بمعروف} ؛ لأنه إذا ردها جبر قلبها بالرد؛ وقال تعالى في التسريح: {بإحسان} ؛ لأنه سيفارقها، فيحتاج إلى زيادة في معاملتها بالتي هي أحسن حتى ينضم إلى الفراق الإحسانُ - والله أعلم -.
6 -
ومنها: تحريم أخذ الزوج شيئاً مما أعطى زوجته من مهر، أو غيره؛ إلا أن يطلقها قبل الدخول والخلوة فله نصف المهر؛ لقوله تعالى:{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237].
7 -
ومنها: جواز افتداء المرأة نفسها من زوجها بعوض؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} .
8 -
ومنها: أن ذلك إنما يكون إذا خافا ألا يقيما حدود الله؛ أما مع استقامة الحال فلا يجوز طلب الخلع؛ وفي الحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» (2).
9 -
ومنها: أهمية النكاح، وبيان أنه راجع إلى الأسرة كلها؛ لقوله تعالى:{فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} .
10 -
ومنها: أن للوسائل أحكام المقاصد؛ يؤخذ ذلك من جواز أخذ الإنسان من امرأته ما آتاها، أو بعضه إذا خيفت المفسدة في البقاء على الزوجية.
11 -
ومنها: اعتبار المفاسد، وسلوك الأهون لدفع الأشد؛ لأن الأخذ من مال الزوجة محرم بلا شك - كما قال تعالى -؛ لكن إذا أريد به دفع ما هو أعظم من تضييع حدود الله عز وجل صار ذلك جائزاً؛ وهذه القاعدة لها أصل في الشريعة؛ منه قوله تعالى:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام: 108]؛ فإنّ سبّ آلهة المشركين واجب؛ ولكن إذا كان يخشى من ذلك أن يسبوا الله عدواً بغير علم صار سبّ آلهتهم ممنوعاً.
12 -
ومنها: جواز الخلع بأكثر مما أعطاها؛ لعموم قوله تعالى: {فيما افتدت به} ؛ فهو يشمل ما افتدت به من كثير، أو قليل؛ وقيل: إن هذا العموم عائد على قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} ؛ فيكون المعنى: فيما افتدت به مما آتيتموهن؛ وعلى هذا فلا يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ ويمكن أن يقال: إن كانت هي التي أساءت، وطلبت الخلع فلا بأس أن يأخذ أكثر مما أعطاها؛ وإلا فلا.
(1) أخرجه البخاري ص 214، كتاب الصلح، باب 5: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2697؛ وأخرجه مسلم ص 982 - 983، كتاب الأقضية، باب 8: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم 4493 [18] 1718، واللفظ لمسلم.
(2)
أخرجه أحمد 5/ 277، حديث رقم 22738، وأخرجه أبو داود ص 1387، كتاب الطلاق، باب 17: في الخلع، حديث رقم 2226، وأخرجه الترمذي ص 1769، كتاب الطلاق واللعان، باب 11: ما جاء في المختلعات، حديث رقم 1187، وأخرجه ابن ماجة ص 2600، كتاب الطلاق، باب 21: كراهية الخلع للمرأة، حديث رقم 2055، وأخرجه الدارمي 20/ 216، كتاب الطلاق، باب 6: النهي عن أن تسأل المرأة زوجها طلاقها، حديث رقم 2270، وأخرجه ابن حبان 6/ 191، ذكر تحريم الله الجنة على السائلة طلاقها
…
، حديث رقم 4172، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 200 قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 17: صحيح.
13 -
ومن فوائد الآية: أن المخالَعة ليست رجعية؛ بمعنى أن الفراق في الخلع فراق بائن فلا سبيل لإرجاعها إلا بعقد جديد؛ لقوله تعالى: {افتدت به} ؛ فإذا كان فداءً فالفداء فيه عوض عن شيء؛ وإذا استلم الفداء لا يمكن أن يرجع المفدى عنه - وهو الزوجة - إلا بعقد جديد.
14 -
ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها؛ لقوله تعالى: {فيما افتدت به} ؛ فإن الزوجة تتصرف في مالها كما تشاء في الحدود الشرعية سواء وافق زوجها على هذا التصرف، أم لم يوافق؛ ما دامت امرأة حرة رشيدة فلا اعتراض للزوج عليها؛ وهذه الفائدة قد ينازع فيها.
15 -
ومنها: عظم شأن النكاح، وما يتعلق به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} ؛ فبين أن هذا من حدود الله، ونهى عن تعديه؛ وقد سبق الفرق بين قوله تعالى:{فلا تعتدوها} ، وقوله تعالى:{فلا تقربوها} .
16 -
ومنها: أن لله عز وجل أن يحكم في عباده بما شاء؛ لقوله تعالى: {تلك حدود الله} .
17 -
ومنها: أنه لا حاكم للخلق، ولا مشرِّع، إلا الله عز وجل؛ لقوله تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} ؛ ولو كان مشرع غيره لكان يمكن لكل إنسان أن يشرع لنفسه - ولو كان في ذلك تعدي حدود الله سبحانه وتعالى.
18 -
ومنها: أن الخلع لا بد فيه من رضا الزوجة؛ لقوله تعالى: {فيما افتدت به} ؛ فإذا كانت الفدية منها فلا بد من رضاها؛ وأما إذا كانت الفدية من غيرها فإنه لا يشترط رضاها، كما لو أن أحداً من الناس رأى أن بقاء هذه المرأة مع زوجها فيه ضرر عليه في دينه؛ فذهب إليه، وأعطاه فدية ليخلع هذه المرأة، ويسلم من شرها؛ فهذا جائز - حتى وإن لم ترض بذلك -.
19 -
ومنها: تحريم تعدي حدود الله؛ لقوله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} ؛ والظلم حرام.
20 -
ومنها: أن التعدي لحدود الله ظلم عظيم؛ يؤخذ من حصر الظلم في تعديها، ومن الإتيان به في الجملة الاسمية الخبرية:{فأولئك هم الظالمون} .
21 -
ومنها: جواز الطلاق الثلاث المتفرق؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان} إلى أن قال: {فإن طلقها} يعني الثالثة؛ فهنا لا شك أن الطلاق متفرق؛ لأنه تعالى قال: {الطلاق مرتان} ؛ ثم أدخل الفداء بينهما، وبين الطلاق الثالث؛ فدل هذا على أنه طلاق متفرق؛ وهذا جائز بالإجماع؛ أما إذا جمع الثلاث جميعاً في دفعة واحدة، مثل أن يقول:«أنت طالق ثلاثاً» ، أو «أنت طالق طالق طالق» يريد الثلاث؛ أو «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» ؛ فقد اختلف أهل العلم في جواز ذلك؛ فمنهم من قال بإباحته، ونفوذه - فتبين به المرأة بينونة كبرى -؛ ومنهم من قال بتحريمه، ونفوذه؛ ومنهم من قال بتحريمه، ويقع واحدة؛ ومنهم من قال بتحريمه، وأنه لا يقع لا واحدة، ولا أكثر؛ فإذاً الأقوال أربعة؛ والصحيح أنه حرام، وأنه لا يقع إلا واحدة (1)؛ وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وعليه يدل الكتاب، والسنة؛ لأنه لا تقع البينونة إلا إذا طلقها بعد طلاق مرتين؛ والطلاق مرتين لا يكون إلا إذا كان بينهما رجعة، أو عقد؛ أما أن يرسل طلاقاً بعد طلاق فهذا ليس بشيء.
22 -
هناك من أفتى بأن الطلاق الشفوى للمتزوجات رسميًا لا يترتب عليه أثرًا شرعيًا حتى يوثق لدا الجهات المتختصة وقالوا: بل تظل هذه المطلقة شفويًا مرهونة على ذمة زوجها حتى يصدر لها وثيقة الطلاق الرسمية التى من تاريخها تبدأ المطلقة السير فى آثار الطلاق الشرعية مما يجعل الحكم بوقوع الطلاق الشفوى محل نظر، وفيما يأتي ذكر أدلتهم ومناقشتها:
(1) هذا اختيار الشيخ ابن عثيمين، انظر: تفسيره: 1/ 109.
أ- أن الطلاق لا يقع بمجرد التلفظ به فى بعض الأحوال " كوجود الحيض أو المس فى الطهر الذى يراه الظاهرية وابن تيمية وابن القيم مانعًا من إيقاع الطلاق، وهو المعروف بالطلاق البدعى، حيث يلزم من وجود هذا المانع فى نظرهم عدم الطلاق، ولا يلزم من عدمه وجود الطلاق ولا عدمه.
قالوا: ومن أمثلة موانع الطلاق أيضًا وجود حال الغضب المغيرة لوضع الزوج عن عادته بحيث لو كان فى حال اعتداله لما طلق، وهذا عند ابن تيمية وابن القيم، واشترط الجمهور لعدم وقوع طلاق الغضبان شدة الغضب لدرجة الهذيان واختلاط الكلام. وبهذا يتضح أكذوبة الحكم بوقوع كل ألفاظ الطلاق، استنادًا إلى حديث ما يمكن تسميته بعد توسع الفقهاء فى تطبيقه بأنه «سيف الأسر» ، وهو ما أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى بإسناد حسن وصححه الحاكم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة"(1).
فهل يهدم هذا الحديث أصول العقود والتصرفات التى تقوم على أسبابها وشروطها وانعدام موانعها، أم يجب عند تطبيق هذا الحديث أن يكون فى ظل تلك الأصول الثلاثة «وجود السبب، وتحقق الشرط، وانعدام المانع؟ » إذا أردنا الانتصار لأصول المعاملات فليس أمامنا فى تفسير هذا الحديث إلا أن نقول إنه إذا وقع أى عقد من «النكاح أو الطلاق أو الرجعة» على وجهه المعتبر عند الناس بوجود سببه وتحقق شرطه وانعدام موانعه فإننا نحكم بصحته حتى لو كان على وجه اللعب أو الهزل، كمن يريد مفاجأة زوجته فقدم لها مظروفًا بداخله وثيقة رسمية بطلاقها معتمدة من الجهات المعنية وبتوقيعه، فهنا نحكم بوقوع الطلاق حتى ولو كان تصرف هذا الزوج على وجه اللعب أو الهزل. أما إذا انعدم سبب الطلاق، أو تخلف شرط من شروط صحته، أو وجد مانع من موانع الحكم بصحته فهو والعدم سواء حتى ولو وقع لفظه بالجد لا بالهزل. وهذا هو الفقه الذى يحفظ الأسر من الضياع الذى يسببه أصحاب الفتاوى الطائشة الموهومون بحاكمية حديث «ثلاث جدهن جد» على الأصول المرعية فى العقود والتصرفات من ضرورة انضباطها بالأحكام الجعلية الثلاثة "السببية والشرطية والمانعية"(2).
الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا كله خارج محل النزاع وهذه المسائل – التى قاسوا عليها - معتبرة فى الشرع وهى قديمة ولها أدلتها فى الكتاب والسنة وهى مؤصلة فى كتب الفقه والدواوين. فلا نزاع معهم فى عدم وقوع طلاق المكره ولا طلاق السكران ولا طلاق الغضبان الذى أغلق عليه غضبه.
(1) الحديث رواه أبو داود (2194) والترمذي (1186) وقال: حديث حسن غريب والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم. ورواه ابن ماجه (2039) والدارقطني (3593). ورواه الطحاوي في معاني الآثار (11/ 275) كلهم من حديث عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ورواه الحاكم (2854) في مستدركه في أول كتاب الطلاق وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وعبد الرحمن بن أردك من ثقات المدنيين وتعقبه الذهبي وضعفه
وقال ابن حجر في التلخيص (3/ 210): عبدالرحمن بن حبيب مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا حسن الحديث.
وقال العيني في نخب الأفكار (11/ 277): حسن
وحسنه الألباني رحمه الله في الإرواء (6/ 228) وقال:
والذي يتلخص عندي مما سبق أن الحديث حسن بمجموع طريق أبي هريرة الأولى التي حسنها الترمذي وطريق الحسن البصري المرسلة وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت والآثار المذكورة عن الصحابة فإنها ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم عن كل واحد منهم تدل على أن معنى الحديث كان معروفاً عندهم. اهـ
وقال ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب (10/ 371): حديث صحيح
ورواه ابن عدي (2/ 261) من طريق غالب عن الحسن عن أبي هريرة بلفظ (الطلاق والعتاق والنكاح)
قال الملا علي القارئ في كتابه مرقاة المصابيح ،نقلا عن ابن المنذر
…
قال أبو بكر الغفاري: وروي " والعتق " ولم يصح شيء منه، قال المنذري: إن أراد أنه ليس شيء منه على شرط الصحيح فكلامه صحيح، وإن أراد به أنه ضعيف ففيه نظر فإنه حسن كما قال الترمذي أهـ
(2)
الطلاق الشفهي مقال رقم (5) د سعد الدين الهلالى 12 يناير 2015
إنما النزاع هنا فى رجل قال لامرأته: أنت طالق ولم يلحق به أو بها مانع من هذه الموانع يبطل تلفظه بالطلاق. فلا هى حائض ولا هو قد جامعها فى مدة طهرها ولا هو متلبس بغضب أو سكر أو إكراه.
فإن كانوا يقصدون عدم وقوع الطلاق بهذه الصور بحيث يدور مذهبهم فى فلكها ولا يخرج عنها وحاله التقييد بما جاءت به النصوص فى الكتاب والسنة فاللهم نعم وأيدينا على أيديهم. فهذا هو الذى عليه فقهاء السلف من الصحابة رضوان الله عليهم وممن تبعهم بأحسان.
أما إطلاق القول بعدم وقوع الطلاق دون توثيق فهو قول ظاهر البطلان، عار من البرهان ولا تقوم به حجة ولا تصلح معه محجة.
الثاني: فوقوع الطلاق بالقول الصريح هو حكم الله وحكم رسوله وعليه أجمعت الأمة وهو ظاهر بيّن ليس دونه سحاب، وعليه جماهير أهل العلم وعليه استقرت الفتوي وانتشر في الأفاق أنتشار الهواء في جو السماء، وحضوره في دواوين أهل العلم لا يخفى على بصير.
فالله تعالى يقول {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] نص عام لم يشترط الله تعالى لإيقاع الطلاق به كتابةً أو إشهاداً أو توثيقاً. فمن اشترط لإيقاع الطلاق شيئا من ذلك فقد تعدى وأدخل فى الدين ما ليس فيه لقوله صلى الله عليه وسلم "ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرطه مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق"(1).
ب- قالوا أن الحكم بإيقاع الطلاق اللفظى دون توثيق هو فى الحقيقة دعوة للزنا صراحة، لإنه لو طلق رجل امرأته وسافر إلى بلد أخرى وتركها، لن تسطيع أخذ حقها قانونا -لأن المحاكم مكدسة بالقضايا – فلن تستطيع إثبات الطلاق والبتالى لو غاب عنها مدة طويلة لن تستطيع الزواج من آخر ومعظمهم يصبرون على هذا الأمر، والبعض الآخر ينحرف عن الطريق السليم.
والجواب عنه:
أن هذا استدلالٌ باطل وحجةٌ واهية وتعاطف مذموم وليس في محله، لقد جعل الشرع الحكيم مخارجاً وسبلاً شرعية ومحكمة تكفل معالجة هذه المشكلات التي يصنعها إهمال الزوج تارة وغضبه تارة أخرى، كإقامة البينة على أن زوجها طلقها أو الاختلاع منه أو غير ذلك من السبل، فالشاهد أن الله تعالى لم يترك لأحد من خلقه التشريع لعباده ولا التبديل فى دينه بل أختص به دون خلقه فلا تجد أية تضرب أية ولا حديثا يخالف حديثا ولا إجماعا يضاد مصلحةً للمسلمين ولا نقصا يخل دينا، يقول الله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ويقول تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في المستصفى: " لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب أو السنة أو الإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع "(2).
(1) أخرجه البخاري (2561)، ومسلم (1504)(6)، وأبو داود (3929)، والترمذي (2124) من حديث أم المؤمنين عائشة.
وقد اتفق الفقهاء على أن صريح الطلاق هو لفظ الطلاق ومشتقاته، وكذلك ترجمته إلى اللغات الأعجمية؛ لأن الطلاق وضع لحل قيد النكاح خصيصا، ولا يحتمل غيره.
فيقع الطلاق باللفظ الصريح بدون حاجة إلى نية أو دلالة حال، فإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق وكان قاصدا للفظ ولم يكن به مانع يبطل إعمال هذا اللفظ من سكر أو جنون أو إكراه أو غير ذلك من الموانع المعتبرة عند الفقهاء وقع طلاقه (حتى وإن كان مازحا).
(2)
المستصفى 1/ 310 - 311
ج- ومن استدلالاتهم أن الذمم والمقاييس الشرعية اختلفت في هذا العصر، فكان لا بد من الذهاب إلى هذا القول مخافةً أن يدعي الزوج عدم طلاقه زوجته أو تدعي هي العكس. جدير بالذكر أن الزواج قديمًا لم يكن بعقد رسمي وكان بإيجاب وقبول وشهادين، وقول «زوجتك وقبلت» ، واستحدث بعد ذلك الوثائق والتسجيل في المحكمة وذلك لما خربت الذمم.
الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن ما قُطِعَ بالشّرعِ ثبوتُهُ، أو كان على غلبة الظَّنِّ حكمًا شرعيًّا؛ فإنهُ لا يتغيّر بتغير الأزمان ولا يتبدّل بتبدل الذمم والطباع، وهذا من جملة الأحكام الشّرعيّة الثّابتة بالكتاب والسُّنَّة ومنها حكم الطلاق الذي ملّكه اللهُ تعالى للزوج. فالشّريعة لا تدور مَعَ دَوَرانِ شهواتِ النّاس واحتياجاتِهم المحضةِ، وإنّما تتجدّد بتجدّدِ النّظرِ في النّصوص الشّرعيّة والاستنباطِ منها.
فتثبت بذلك الفتوى حينئذ؛ لأن مبناها ليس على زمانٍ أو مكانٍ أو عرفٍ أو حالٍ معين، وهناك من الفتاوى ما تكون مبنية على عرفٍ معين أو معنى معين، أو في حالٍ معينة، فإذا تغيرت هذه الأحوال والأعراف، تغيرت الأحكام، وبالتالي تتغير الفتوى إلى ما يناسب حال الناس واحتياجهم، وأعرافهم، وزمانهم ومكانهم بما لا يخالف النصوص الشرعية.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "فاعلم أنّ ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد؛ فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأنّ الشّرع موضوع على أنّه دائم أبدي لو فُرض بقاء الدّنيا من غير نهاية، والتّكليف كذلك؛ لم يحتج في الشّرع على مزيد، وإنّما معنى الاختلاف أنّ العوائد إذا اختلفت رَجَعَت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يحكم به عليها؛ كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التّكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف. فسقوط التّكليف قبل البلوغ، ثمّ ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنّما وقع الاختلاف في العوائد والشّواهد"(1).
الثاني: أنه لا يجوز ترك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة وإجماعات السلف قرنا بعد قرن، قولاً وعملاً وفُتيا لمجرد احتمالات ومخاوف من تصرف بعض الأفراد الذين يتجرؤون على الشريعة وأحكامها وعلى هدم زيجاتهم وبيوتهم.
قال ابن القيم رحمه الله: "فصل: في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا). [الأحزاب: 36]. وذكر رحمه الله جملة من الأدلة من الكتاب والسنة والأقوال الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم"(2).
الثالث: لا ينبغى للزوجين أن يتغافلا عن عظم جناية الكذب في هذا الباب، لأن كذب الزوج يعني استمتاعه بالفرج الحرام، وكذب الزوجة فيه استحلال مال زوجها بغير حق والله تعالى يقول {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].
الرابع: إذا كانت الذمم قد خربت فى هذا الزمان فهل يأمنون التلاعب في الأوراق الموثقة والتزوير فيها، وهل يأمنون الكذب عند القاضي وإحضار رجالٍ لا يتورعون عن شهادة الزور؟ ومن تتبع مثل هذا في زماننا سيجد ما تشيب منه الرؤوس.
(1) الموافقات للشاطبي
(2)
إعلام الموقعين 2/ 199
د- إكثار الأزواج ألفاظ الطلاق الشفوية التي يندفعون إليها بسبب ضغوط الحياة بدون إرادة الطلاق الحقيقي، وقبول كثير منهم أدنى المبررات الفقهية التي تقضي بعدم احتساب لفظ الطلاق الشفوي طلاقاً شرعياً. فهل يعقل أن ينهدم هذا البنيان بكلمة في ساعة غضب أو حتى مزاح.
الجواب عنه: أنه استدلال ساقط، عارٍ عن البرهان، فإن الزوج الذى يطلّق إما أنه مالك للفظ الطلاق، قادر على منعه، كامل الأهلية عند النطق به، وإما أن يكون مغلوباً عليه بإكراه (1) أو غضب شديد أو ذهاب عقل، أو غير ذلك.
ولا ثالث لهاتين الحالتين، فإن كانت الأولى وقع طلاقه وتحمل تبيعات فعله كباقى التصرفات التى تصدر منه كالبيع والهبة والزواج، فالشّرع لا يدور مَعَ دَوَرانِ أهواء النّاس وأمزجتهم وشهواتهم، ولا يتنزّل على كل ما تركن إليهم نفوسهم. أما إن كانت الثانية فهذا لا يقع طلاقه فى أصح قولى العلماء.
هذا وينبغي أن يعلم أن العجلة في تسرُّع بعض الناس في الطلاق، واستعجال بعض الرجال في إطلاق لفظ الطلاق على امرأته من غير أناءة في الأمور، لمجرَّد خصام، أو َ نزاع، أو اختلافٍ فى وجهة نظر، أوعدم قيام المرأة بشيء من الواجبات، أو تقصيرها في بعض الأمور، يؤدِّي ببعض الحمقى إلى أن يتسرَّع فيطلِّق المرأة لأتفه الأسباب وأحقرها، ولسبب لا يستحق شيئاً من ذلك، فيهدم بيته، ويفرِّق أسرته، ويشتِّت أولادَه، لماذا؟ لبعض الأمور التي يمكن تلافيها والصبر عليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا"(2)، وقال:" لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(3)، وقال:" ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ"(4) " (5)
هـ-أن الإسلام يعمل دوما على حفظ تماسك الأسرة واستمرارها وتماسكها إلى أقصى درجة ممكنة حتى تتحقق الغاية من الزواج الذى جعله الله آية من آياته.
وجوابه من وجهين:
الأول: لا يختلف مسلمان على أن هذا المقصد محمود، مرغب فيه، بل تحصيله واجب في الجملة، مجمع عليه من الأمة سلفاً وخلفا. لأن القرآن الكريم والسنة المطهرة كلاهما حث الزوج على إمساك الزوجة والصبر على أذاها وتحمل ذلك منها؛ والطلاق رغم كونه حلالاً إلا أنه بغيض إلى الله تعالى لما فيه من تشريد أسرةٍ وتشتيت شملٍ وتعريض لفتنةٍ، وما شرعه الله عز وجل إلا رحمة بعباده وتوسعة علهم حين تستعصي الحياة الزوجية ويستحيل دوامها على ما يحبه الله ويرضاه.
(1) طلاق المكره لا يقع في قول جماهير أهل العلم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظٌ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصلٌ في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحدٍ من العلماء:(إن الله وضع لأمتي)، وفي روايةٍ:(رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا طلاق في إغلاق)، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن.
(2)
صحيح مسلم: (1468). من حديث ابي هريرة.
(3)
صحيح مسلم (1469).
(4)
صحيح مسلم (1184) من حديث أبي هريرة.
(5)
من خطبة للشيخ عبد العزيز آل الشيخ سنة 1423 هـ
الثاني: لا يتعارض هذا المقصد مع تشريع الطلاق وإعطاء الزوج الحق في إنهاء العلاقة الزوجية، وهذا الحق له وحده لا يشاركه فيه غيره إلا في مواضع محصورة ومستثناه تقدم ذكرها.
يقول ابن عاشور رحمه الله: "وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذه العلاقة فاحتيج إلى الطلاق للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين"(1).
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه "الموافقات": "أدلة الشريعة لا تتعارض في نفس الأمر، ولذلك لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن قد يقع التعارض في فهم الناظرين"(2).
و- أن الإشهاد على الطلاق ضروري، يقول الله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ولا يتم الطلاق إلا به لحماية الأسرة من الانهيار بفعل بعض الأهواء والنزوات الشخصية التى لا تستند إلى العقل.
وجواب ذلك من وجهين:
الأول: أنه أجمع العلماء على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق (3).
(1) التحرير والتنوير: 2/ 379.
(2)
الموافقات في أصول الشريعة، 4/ 217.
(3)
علم أن جمهور أهل العلم يذهبون إلى عدم اشتراط الإشهاد على الطلاق لوقوعه، بل وينقلون الإجماع على هذا كما فعل الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى وغيره، وإن اختلفوا في استحبابه من عدمه على قولين.
وذهب آخرون منهم ابن عباس وعمران بن حصين وعطاء والضحاك والسدي وابن حزم ومن المعاصرين العلامة أحمد شاكر والإمام الألباني وغيرهم من العلماء إلى اشتراط الإشهاد في الطلاق ووجوبه.
وعمدة القائلين بهذا القول – الثاني - هو قول الله عز وجل في سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 1 - 2].
فقالوا أن الأمر بالإشهاد في هذه الآية عائد على الطلاق والرجعة معاً، وقال غيرهم بل هو عائد على الأمر بالرجعة، ومن ثم اختلفوا في دلالة هذا الأمر فمن قائل أنه للوجوب، ومن أو للندب، أو للإرشاد.
قال السمعاني في تفسيره (5/ 461): " قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الإشهاد واجب في الطلاق والرجعة بظاهر الآية.
والقول الثاني: أن الإشهاد يجب في الرجعة ولا يجب في المفارقة وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه وهو قول طاوس من التابعين.
والقول (الثالث): أنه يندب إلى الإشهاد في الرجعة، ولا يجب، وعليه أكثر أهل العلم، وهو قول آخر الشافعي رحمه الله عليه " ا. هـ
وقال القنوجي في نيل المرام من تفسير آيات الأحكام (451): " وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ: على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة. والأمر للندب كما في قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
وقيل: إنه للوجوب. وإليه ذهب الشافعي. قال: الإشهاد واجب للرجعة مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وفي قول للشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق. وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد" ا. هـ
والظاهر من سياق الآيات أن الأمر عائد على الطلاق والرجعة معاً، بل إن السورة بأكملها باسم الطلاق، فهي بيان لأحكامه ومسائله. ولا يضر أن يكون الأمر بالإشهاد عائد على الأمرين معاً.
قال في التحرير والتنوير (28/ 309): " {وأشهدوا ذوي عدل} منكم ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإمساك أو الفراق، أنه راجع إلى كليهما لأن الإشهاد جعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيدا وشأن الشروط الواردة بعد جمل أن تعود إلى جميعها.
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور: "الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بت الطلاق ".
واختار هذا القول – أي أن الأمر بالإشهاد عائد على الطلاق والرجعة – كثير من المفسرين، وإليك بعضاً من أقوالهم في هذه المسألة – وأنا أنقل كلامهم أن الأمر هنا عائد على الطلاق والرجعة معاً، وأعرف أن منهم من يقول بأن دلالة الأمر هنا ليست للوجوب ولهم قول آخر في حكم التطليق بدون الإشهاد، فاعرف هذا، لأن المراد من نقل أقوالهم تأييد القول بأن الأمر عائد على الطلاق والرجعة معاً -:
قال الجصاص في أحكام القرآن (5/ 350): " أمر بالإشهاد على الرجعة والفرقة أيتهما اختار الزوج ".
وقال ابن أبي زمنين في تفسيره (4/ 402): " قَوْله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} يَعْنِي: على الطَّلَاق والمراجعة".
قال الثعلبي في تفسيره (9/ 335): " {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الرجعة والفراق ".
قال الواحدي في تفسيره (1107): " على الرَّجعة أو الفراق ".
قال البغوي في تفسيره (8/ 150): " على الرجعة والفراق. أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق ".
قال في الكشاف (4/ 555): " {وَأَشْهِدُوا}: يعنى عند الرجعة والفرقة جميعا ".
قال ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 297): " قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة ".
قال البقاعي في نظم الدرر (20/ 148): " {وأشهدوا} أي على المراجعة أو المفارقة {ذوي عدل} أي مكلفين حرين ثقتين يقظين {منكم} أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه ".
قال السيوطي: (8/ 193)" عند الطلاق وعند المراجعة ".
قال الشوكاني: (6/ 300) في مسألة الإشهاد على الرجعة: " ومن الأدلة على عدم الوجوب: أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، كما حكاه الموزعي في تيسير البيان، والرجعة قرينته، فلا يجب فيها، كما لا يجب فيه " انتهى من "نيل الأوطار".
قال أبو السعود في تفسيره (8/ 261): "عند الرجعةِ والفرقة قطعا للتنازع وهذ أمرُ ندبٍ ".
قال الألوسي في روح المعاني (14/ 330): " وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعا للنزاع، وهذا أمر ندب ".
قال السعدي (869): " {وَأَشْهِدُوا} على طلاقها ورجعتها {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدًا لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه".
قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى – في كتابه " نظام الطلاق في الإسلام "(صفحة: 80): الظاهر من سياق الآيتين أن قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا} راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معا والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب- إلا بقرينة، ولاقرينة هنا تصرفه عن الوجوب. بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل - وهو أحد طرفي العقد – وحده، سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قبل المرأة، وحقوق للمرأة قبل الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر. فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له فوقع عمله باطلا لا يترتب عليه أي أثر من آثاره. وهذا الذي اخترناه هو قول ابن عباس. فقد روى عنه الطبري في التفسير (ج 28 ص 8)، قال:" إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عند الطلاق وعند الرجعة ". وهو قول عطاء أيضا. فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: " النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود " نقله السيوطي في الدر المنثور (ج 6 ص 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (ج 3 ص 456). وكذلك هو قول السدي. فقد روى عنه الطبري قال في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} : " على الطلاق والرجعة ". انتهى.
وقال ابن حزم في المحلى (ج 10 ص 251 بواسطة كتاب الشيخ أحمد شاكر): " فإن راجع ولم يشهد فليس مراجعا لقول الله تعالى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ولم يُفرق عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكل من طلق ولم يشهد ذوى عدل، أو رجع ولم يشهد ذوى عدل: - متعديا لحدود الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
فإن قال قائل أن الإجماع قد نقل على خلاف هذا؟
يقال: هذا إجماع مدعى! وكم من إجماع سيق بدون بينة ولا برهان، وبرهان ذلك ما رواه أبو داود (2186) وكذا ابن ماجه (2025) عن جعفر بن سليمان الضبعى عن يزيد الرشك عن مطرف بن عبد الله بن الشخير:" أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: " طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة ، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد ".
قال الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (207): قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وله طريق أخرى ، فقال ابن أبى شيبة (7/ 77/2): أخبرنا الثقفى عن أيوب عن محمد عن عمران بن حصين به.
وأخرجه البيهقى (7/ 373) من طريق قتادة ويونس عن الحسن وأيوب عن ابن سيرين به.
قلت: وهو منقطع لأن محمد بن سيرين لم يسمع من عمران بن حصين " انتهى
وما في تفسير الطبري (23/ 444): "حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: (إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها، أشهد رجلين كما قال الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الطلاق وعند المراجعة ".
وما في مصنف ابن أبي شيبة (19004) حدثنا أبو بكر قال: نا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن ابن الزبير طلق امرأته فلم يعلنها [3] سَنَةً، فقال ابن عمر:" بئس ما صنع".
وما فيه أيضاً (17779)"حدثنا أبو بكر قال: نا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنِيَّةَ عن جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: (أُمِرُوا أن يُشْهِدُوا عند الطلاق والرجعة".
وفيه (17781) حدثنا أبو بكر قال: نا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: "الفرقة، والرجعة بالشهود ".
وفيه (19005) حدثنا أبو بكر قال: نا وكيع، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن محمد بن المنتشر، " أن شريحا طلق امرأته، فكتمها الطلاق حتى انقضت عدتها، فعابوا ذلك عليه".
وما في تفسير الطبري (23/ 444): حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال: " على الطلاق والرجعة"، في تفسير ابن كثير (8/ 145):" وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} قال: " لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله، عز وجل، إلا أن يكون من عذر".
ومما يؤيد هذا الرأي أيضاً ويدل عليه: خطورة الطلاق والمترتب عليه فلإن كان بناء هذه الأسرة مفتقر إلى الإشهاد فإن افتقار هدمها إلى هذا أولى وأجدر: قال الإمام الألباني في الشريط الثامن من سلسلة الهدى والنور: "لا يرتاب عاقل في أن الطلاق بالنسبة للنكاح هو كالهدِم بالنسبة للبناء، فإنسان يبني دارا ثم يهدمها، يبني دارا ينفق عليها أموال طائلة وأوقات عديدة وو تكاليف ثم ما إذا أراد هدمها، هدمها بساعة من نهار، الهدِم أصعب من البناء، لأنه يضيع على الإنسان جهود كثيرة وكثيرة جداً، النِكاح هو بناء لأسرة حينما يتزوج المسلم فإنما يضع الأساس لإقامة أسرة مسلمة، وكلنا يعلم قول الرسول –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (لا نكاح إلا بولي وشاهِدَيْ عدل) فأي نكاح لم يتحقق فيه الشهود العدول فلا يعتبر نكاحاً شرعياً، وهو بناء، فالطلاق الذي قلنا إنه أخطر من هذا النكاح فهو كالهدم بالنسبة للبناء، العقل والنظر السليم يؤيد أن يشترط فيه الإشهاد، ومعنى ذلك أن إنساناً ما قرر وعزم كما قال –عز وجل: ) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (، عزم على الطلاق، ولكن هذا الطلاق وضع له الشارع الحكيم شروطاً وهذه الشروط هي في الواقع كالعرقلة لمنع وقوع هذا الطلاق، لأن الطلاق –كما قلنا- يترتب من وراءه هدم الأسرة، فقال أن السُّنّة الإشهاد، فكأن الشارع الحكيم يقول للمطلق: لو عزمت على الطلاق وأردت تنفيذه فأتي بشاهدين، كما إذا أردت أن تنكح فخذ [ .. ] الولي وأتي بشاهدين، وإلا فلا نكاح لك" انتهى.
إذن فإن الإشهاد على الطلاق فيه سد باب على المتلاعبين بحقوق زوجاتهم، وفيه سد لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه، كما سبق من كلام العلامة السعدي. وفيه الابتعاد عن الريبة وقطع للمنازعة، كما سبق من كلام الألوسي وغيره.
ورجح الشيخ عمرو سليم في كتابه (الجامع في أحكام الطلاق)(ص 161) استحباب الإشهاد، وناقش من قال بوجوبه، ثم أبطل القول باشتراطه، وقال: القول ببطلان الطلاق والرجعة بترك الإشهاد باطل لا دليل عليه، وعلى تقدير أن الأمر في الآية يقتضي الوجوب، فمخالفته لا تبطل أثر الطلاق ولا المراجعة، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه قد أمرنا في الطلاق باستقبال النساء في عدتهن في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فلما خالف ابن عمر رضي الله عنهما هذا الأمر وطلق امرأته وهي حائض، أجازه النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم تقريره، فهو قد خالف الأمر الوارد في آية الطلاق، ولم يمنع هذا من أن يحسب عليه طلقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لمن خالف الأمر في الإشهاد. اهـ.
وهذا هو الصواب-والله أعلم-؛ فإنه على افتراض وجوب الإشهاد، فإن هذا لا يعني اشتراطه بحيث لا يقع الطلاق إلا به! قال أبو الوليد ابن رشد في (المقدمات الممهدات) (ص 2/ 280): فإذا قلنا: إنه واجب، فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج وما يتعلق بذلك، من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الطلاق والرجعة. اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير)(ص: 28/ 309) بعد أن تعرض للخلاف في الوجوب أو الاستحباب، قال: واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة؛ لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما، وتجنبا لنوازل الخصومات؛ خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور، على أن جعل الشيء شرطا لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب؛ لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه، مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وبالثوب المغصوب. اهـ.
الثاني: وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض قضايا الطلاق ولم يثبت ولو في واحدة منها الأمر بالإشهاد وفيما يلى نورد بعضاً منها:
- أخرج الإمام أحمد (1)، عن ابن عباس، قال:" طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف طلقتها؟ " قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: " في مجلس واحد؟ " قال: نعم قال: " فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت " فلو كان الإشهاد واجبا لسأل رسول الله ركانة: هل أشهدت على طلاق امرأتك؟ . إذ إنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
(1) المسند (2387).
- وأخرج مسلم (1)، وغيره من حديث عبد الله بن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا "
- والحديث روى بألفاظ وروايات كثيرة ولم يثبت فيها أمره لابن عمر بالإشهاد
- وفي الموطأ، وغيره:" أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا فَنَكَحَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ فَاعْتَرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَقَالَ لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ "(2).
- وأخرج أحمد (3)، وغيره أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء، فنكحها رجل، فطلقها قبل أن يمسها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال:"حتى يذوق الآخر من عسيلتها".
- وأخرج البخاري (4)، وغيره أن ابنة الجون، لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها:"لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك" فطلقها رسول الله ولم يشهد.
- وأخرج أحمد (5)، وغيره عن عبد الله بن عمر، قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأبيت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن عند عبد الله بن عمر امرأة كرهتها له، فأمرته أن يطلقها فأبى، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عبد الله طلق امرأتك " فطلقتها " وهذا صريح في أنه لم يأمره بالإشهاد على طلاقه.
وهنا يجب على الأزواج والزوجات الحذر وعدم التساعل في مسائل الطلاق، فقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: تساهل الناس بلفظ الطلاق، ثم يأتون إلى العلماء يستفتونهم في هذا، هل من كلمة توجيهية عن هذا؟
فأجاب رحمه الله: نعم، نوصي إخواننا جميعاً بالحذر من التساهل في الطلاق، لأنه يفرق بين الرجل وأهله، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"(6)، هكذا جاء عنه عليه الصلاة والسلام بإسناد حسن، فالمشروع للمؤمن أن يتحفظ وأن يحذر ما يفرق بينه وبين أهله، وأن يعالج الأمور والمشاكل التي بينه وبين أهله بالحكمة والكلام الطيب وبالأسلوب الحسن، لا بالطلاق، فالطلاق يفرق بين الزوجين، فينبغي للمؤمن أن يحذر الطلاق إلا عن وطر عن قصد عن رغبة في الطلاق فلا بأس، وإلا فليحذر أن يقع الطلاق بسبب المشاكل والغضب، بل يتحرى حل المشاكل بالكلام الطيب والأسلوب الحسن الذي تنهى به المشاكل من دون وقوع في الطلاق، أما إذا كان يرغب بالطلاق لسوء خلقها أو لأسباب أخرى فلا بأس، الله شرع الطلاق، يطلق واحدة لا يزيد عليها، يطلق واحدة، والحمد لله، طلقة واحدة" (7).
ويقول د حسام عفانة: التساهل في الطلاق واقعٌ من كثيرٍ من الأزواج، فيطلقون زوجاتهم لأتفه الأسباب، كالخلافات البسيطة على الطعام أو الشراب أو الخروج من البيت ونحوها من الأسباب التافهة، فيخربون بيوتهم بأيديهم بانفعالاتٍ وقتيةٍ، ومن ثمَّ يندمون على ما فعلوا، ويصير الواحد منهم يتنقل من شيخٍ
(1) صحيح مسلم (1471).
(2)
موطأ مالك (1126): 1/ 399.
(3)
المسند (1837).
(4)
صحيح البخاري (5254).
(5)
المسند (5011).
(6)
رواه أبو داود (2178) وابن ماجة (2018).
(7)
تفريع لفتوى صوتية من موقع الشيخ رحمه الله
إلى آخر ليحصل على فتوى تعيدُ له زوجته، وكأن ورقة المفتي أو الشيخ هي التي تسمح له باستمرار زواجه، ولا يدرك هؤلاء الإثم الذي وقعوا فيه، فمن طلق زوجته بدعياً فهو آثمٌ لوقوعه في الحرام، وكذلك فإنهم يتحملون تبعات الطلاق المالية والاجتماعية كتفكك الأسرة وتشريد الأطفال. ومن أوضح الأمثلة على تساهل بعض الأزواج في الطلاق تلاعبهم بألفاظ الطلاق وادعاؤهم أنهم لا يقصدون الطلاق، ومن المعلوم أن جماهير أهل العلم قد اتفقوا على وقوع الطلاق عند صدور لفظ الطلاق عن الزوج، وإن لم يكن قاصداً للطلاق، كأن يكون هازلاً، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثٌ جِدُهنَّ جِدٌ وهزلهُنَّ جِد، النكاحُ والطلاقُ والرجعةُ"(1).
ومن أمثلة التساهل في الطلاق الحلفُ بالطلاق، فإن هذه الصيغة ليست طلاقاً عند جماعة من الفقهاء واعتبروها من لغو الكلام، ومن الفقهاء من اعتبرها يميناً، فإذا وقع الحنث فيه تلزم كفارةُ يمينٍ، وقد اعتبر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاقٌ، إذا كان يُقصد به الحملُ على فعل شيءٍ أو تركه، وأما جمهور الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة في المعتمد عندهم، فقالوا إن الحلف بالطلاق يُعتبر طلاقاً. وعلى كل حالٍ فإن صور التساهل في الطلاق من الأزواج كثيرة، سواء كانت في العدد أو في الأحوال وغيرها، ومعلوم أن الطلاق مبغوضٌ كما روي في الحديث " أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ"(2).
كما ويجب على المفتين الحذر من التساهل في مسائل الطلاق، وللإمام الشاطبي كلام نفيس فذا الموضوع، إذ يقول: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة
…
بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين
…
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه التبتل، وقال لمعاذ رضي الله عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟
…
ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا
…
ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة
…
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة" (3).
وقال العلامة ابن القيم: "من أفتى الناس، وليس بأهلٍ للفتوى، فهو آثمٌ عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك؛ فهو آثمٌ أيضاً. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علمٌ بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب، وهو يَطبُّ الناس، بل هو أسوأُ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين. وكان شيخنا -ابن تيمية- رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء أَجُعلت محتسباً على الفتوى، فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسب"(4).
القرآن
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/ 228.
(2)
رواه أبو داود (2178) وابن ماجة (2018)
(3)
الموافقات في أصول الشريعة، 4/ 607 - 608.
(4)
إعلام الموقعين 4/ 217
التفسير:
فإن طلَّق الرجل زوجته الطلقة الثالثة، فلا تحلُّ له إلا إذا تزوجت رجلا غيره زواجًا صحيحًا وجامعها فيه ويكون الزواج عن رغبة، لا بنية تحليل المرأة لزوجها الأول، فإن طلقها الزوج الآخر أو مات عنها وانقضت عدتها، فلا إثم على المرأة وزوجها الأول أن يتزوجا بعقد جديد، ومهر جديد، إن غلب على ظنهما أن يقيما أحكام الله التي شرعها للزوجين. وتلك أحكام الله المحددة يبينها لقوم يعلمون أحكامه وحدوده؛ لأنهم المنتفعون بها.
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230]، أي: فإن طلقها "المرة الثالثة بعد المرتين"(1).
قال ابن كثير: " أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين"(2).
قال الشوكاني: " أي فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث"(3).
وفي قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} [البقرة: 230]، وجهان (4):
أحدهما: أنها الطلقة الثالثة. وهو قول السدي (5)، وقتادة (6)، وابن عباس (7)، والضحاك (8)، وبه قال جمهور أهل التفسير.
والثاني: أن ذلك تخيير لقوله تعالى: {أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وهو قول مجاهد (9). واختاره الطبري (10).
قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ} [القرة: 230]، أي: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (11).
قال ابن عباس: " يقول: إن طلقها ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره"(12). وروي عن السدي (13) نحوه.
قال القرطبي: "وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه"(14).
وقد اختلف العلماء فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فذكروا فيه وجهان (15):
أحدهما: أن مجرد العقد كاف.
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 116.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 621.
(3)
فتح القدير: 1/ 239.
(4)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 586 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 296.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4885): ص 4/ 586.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4881): ص 4/ 585 - 586 ..
(7)
انظر: تفسير الطبري (4882): ص 4/ 586.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4883): ص 4/ 586.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4886)، و (4887): ص 4/ 587.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 4/ 587. قال الطبري: " والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال - أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره: " الطلاق مرتان " فأين الثالثة؟ قال: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ". فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله:" أو تسريح بإحسان " فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله:" فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره " من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته".
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 147.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2230): ص 2/ 422.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 422.
(14)
تفسير القرطبي: 3/ 147.
(15)
انظر: تفسير القطرطبي: 3/ 147 - 148.
أي: أن نكاح الثاني إذا طلقها منه، أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل، وهو قول سعيد بن المسيب ومن وافقه (1).
قال الشوكاني: " وقد أخذ بظاهر الآية سعيد ابن المسيب ومن وافقه، قالوا: يكفي مجرد العقد لأنه المراد بقوله {حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ} "(2).
وقد اعترض عليه ابن المنذر قائلا: " ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال: أما الناس فيقولون: لا تحل، للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها"(3).
قال القرطبي -بعد أن ذكر قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير-: " وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والله أعلم"(4).
وقد قال بعض علماء الحنفية: "من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء"(5).
والثاني: أنه لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال.
أي: أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني، حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، للسنّة المروية فيه، وهو قول الجمهور (6).
قال الشيخ السعدي: " ويشترط أن يكون نكاح الثاني، نكاح رغبة، فإن قصد به تحليلها للأول، فليس بنكاح، ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد، لأنه ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها، ثم فارقها وانقضت عدتها"(7).
قال القرطبي: " وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب"(8).
(1) انظر: الاستذكار: 16/ 156 - 157، والتمهيد: 3/ 230.
(2)
فتح القدير: 1/ 239.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 148.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 148.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 148.
(6)
قال الشوكاني: " وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى انه لا بد مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار ذلك وهو زيادة يتعين قبولها ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه وفي الآية دليل على انه لابد من ان يكون ذلك نكاحا شرعيا مقصودا لذاته لا نكاحا غير مقصود لذاته بل حيلة للتحليل وذريعة إلى ردها إلى زوج الأول فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذم فاعله وانه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ولعن من اتخذه لذلك". (فتح القدير: 1/ 239).
(7)
تفسير السعدي: 1/ 102.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 148.
والراجح هو قول الجمهور، والدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه، ويؤيده حديث عائشة، قالت:" جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ (1) الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ. فَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " (2).
(1) هو: رفاعة بن سموال القرظي، من بني قريظة وهو خال صفية بنت حييّ بن أخطب-أم المؤمنين- وج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمها برّة بنت سموال. انظر: الإصابة: 2/ 408. وأسد الغابة لابن الأثير: 2/ 271.
(2)
رواه البخاري (2639) ومسلم (1433). وروايات الحديث تدل على أنه تزوجها وهو راغب في التمسك بها، ولم يطلقها بمجرد طلبها الطلاق، وإنما هي أرادت أن تعود لزوجها الأول، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا يحل لها ذلك حتى يدخل بها الزوج الثاني، وهي كانت قد ذكرت أنه لم يدخل بها.
وروى مسلم (1433): عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ ".
وهذا الحديث له عشرة اسانيد في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى تحل لزوجها الأول، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة. ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها، مما هو القصد الصحيح للزواج. أما إذا تزوجها ودخل بها قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال - فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن المحلل له. وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به المعاشرة.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: " وفي قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) دليل على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضر العاقد عليها، وأنها ليست بذلك في معنى التحليل المستحق صاحبه اللعنة " انتهى."التمهيد"(13/ 227).
وقال ابن القيم رحمه الله: " لا أثر لنية الزوجة ولا الولي وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى التحليل كان محللا فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك العقد شيئا. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه ولم يجعل ذلك مانعا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" " انتهى. إعلام الموقعين" (4/ 45 - 46).
و(العسيلة): مصغر عسل؛ وأُنِّث لأنَّ العسلَ مؤنث، وقيل: إنه يذكَّر ويؤنث، وقد اختلف في المرادِ بذلك:
أ- فقيل: إنزال المني، وأنَّ التحليل لا يكون إلا بذلك. والعسيلة في اللغة تطلق على النطفة أو ماء الرجل.
ب- وقيل: ذوق العسيلةِ كناية عن المجامعة؛ وهو تغيب الحشفة من الرجل في فرج المرأة، ويكفي منه ما يوجب الحد والصداق.
ج- وقيل: إنَّ العسيلة هي لذة الجماع، وقد شبهت بالعسل للذته، والعرب تسمي كلَّ شيء تستلذه: عسلاً.
(انظر: النهاية في غريب الحديث: 603، والمغني لابن باطيش 1/ 526، وفتح الباري (مقدمة) ص 165، وعارضة الأحوذي لابن العربي: 5/ 47، والموسوعة الفقهية الكويتية (عسيلة): 30/ 99، وسبل السلام، محمد بن إسماعيل الكحلاني؛ الجزء الثالث، كتاب النكاح، مكتبة الحلبي، الطبعة الرابعة، 1960 ص: 128).
فهذا الحديث يدل على أنه لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثاً ثم تزوجها زوج آخر من الوطء فلا تحل للأول إلا بعده، فقد يجوز رجوعها إلى زوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني ويعقبه الطلاق منه لكن شرط أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة تحليلها للأول، فالمُحلل مرفوض في الشرع.
ونكاح التحليل: هو أن ينكحها من أجل أن يحلها لزوجها الأول، ثم يطلقها، وهو محرم وفاسد في قول عامة أهل العلم، ولا تحل به المرأة لزوجها الأول. وسواء في ذلك إذا صرح بقصده عند العقد، واشترطوا عليه أنه متى أحلها لزوجها طلقها، أو لم يشترطوا ذلك وإنما نواه في نفسه فقط. وانظر:"المغني"(7/ 574).
وقد روى أبو داود (2076) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ). وصححه الألباني في " صحيح أبي داوود " .. والْمُحَلِّلَ هو من تزوجها ليحلها لزوجها الأول. وَالْمُحَلَّلَ له هو زوجها الأول.
وروى ابن ماجة (1936) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ )، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:(هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) وحسنه الألباني في " صحيح سنن ابن ماجة ".
وروى عبد الرزاق (6/ 265) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب الناس: " والله لا أوتى بمحلٍّ ومحلَّل له إلا رجمتهما ".
قال ابن قدامة رحمه الله: " ونكاح المحلل فاسد، ، يثبت فيه سائر أحكام العقود الفاسدة، ولا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول، كما لا يثبت في سائر العقود الفاسدة ". انتهى من "المغني"(7/ 574).
قلت: ولا بد أن يكون نكاح الزوج الثاني نكاح رغبة في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها، فأما إذا كان الثاني إنما قصد أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بلعنه، فقال صلى الله عليه وسلم: لعن الله المحلل والمحلل له. رواه أبوداود (2076) وابن ماجة (1936)، وروى الحاكم أن رجلاً جاء ابن عمر رضي الله عنهما، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه، ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ فقال: لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله". (السنن الكبرى: 7/ 208) وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ المُحَلِّلِ قَالَ:" لَا نِكَاحَ إِلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، لَا نِكَاحُ دَلْسَةٍ، وَلَا مُسْتَهْزِئٌ بِكِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَذُقِ الْعُسَيْلَةَ ". المعجم الكبير: (11567): 11/ 226).
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أي: "الزوج الثاني"(1).
قال مقاتل: " {فإن طلقها}: هذا الذي نكحها بعد ما جامعها"(2).
قال الطبري: أي: " فإن طلق المرأة - التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني"(3).
قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، أي" فلا بأس أن تعود إِلى زوجها الأول بعد انقضاء العدّة"(4).
قال ابن عباس: " يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له "(5).
قال علي: "أشكل علي قوله: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}، فدرست القرآن، فعرضت أنه يعني: إذا طلق الزوج الأخير، رجعت إلى زوجها الأول المطلق ثلاثا"(6).
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات"(7).
قال القرطبي: " فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 476.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2233): ص 2/ 423.
(3)
تفسير الطبري: 4/ 597.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(5)
تفسير الطبري (4905): ص 4/ 597.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2234) /ص 2/ 423.
(7)
تفسير القرطبي: 3/ 152.
قال القرطبي: " واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو "أن النكاح جديد والطلاق جديد"، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبدالله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال: وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي". (تفسير القرطبي: 3/ 152 - 153).
لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال:"دلستم علي"(1) " (2).
قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، أي:" إِن كان ثمة دلائل تشير إِلى الوفاق وحسن العشرة"(3).
قال الطبري: أي: "إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله، وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما"(4).
قال النسفي: " إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله"(5).
قال الراغب: " وعلق بالظن، لأن ما يكون من الإنسان في المستقبل من الممكنات لا سبيل إلى معرفته إلا بالظن، وليس شرطاً في صحة النكاح، بل في إباحته ورفع المآثم، لأن العقد صحيح، فإن ظنا أن لا يقيما حدود الله، وبين أن تلك الحدود بينها لقوم يعلمون- تنبيهاً أنهم هم الذين يتبينونها، لقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} "(6).
قال ابن عثيمين: {حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، أي" ما أوجبه الله على كل منهما من المعاشرة بالمعروف"(7).
قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} [البقرة: 230]، أي و"تلك شرائع الله وأحكامه"(8).
قال مقاتل بن حيان: "تلك طاعته"(9).
و{حُدُودَ اللَّهِ} : " أي: أحكامه المحميّة من التغيير والمخالفة"(10).
قوله تعالى: {يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]، أي:" يوضحها ويبينها لذوي العلم والفهم الذين ينظرون في عواقب الأمور"(11).
قال القرطبي: " لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال"(12).
قال ابن عثيمين: " أي لقوم ذوي استعداد، وقبول للعلم"(13).
(1) كتاب السنن الكبرى: 7/ 214، وومجمع الزوائد (7607): 4/ 300. من حديث حميل بن زيد: عن عبدالله بن عمر. وجميل ضعيف فيه اضطراب كثير.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 153.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(4)
تفسير الطبري: 4/ 598.
(5)
تفسير النسفي: 1/ 123.
(6)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 476.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 116.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(9)
تفسير ابن أبي حاتم (2237): ص 2/ 423.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 152.
(11)
صفوة التفاسير: 1/ 131.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 154.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 116. ثم قال: " {يبينها}، أي يوضحها الله عز وجل، ويظهرها؛ فكل الحدود التي يريدها الله من العباد قد بينها بياناً كاملاً؛ والبيان يكون بالكتاب، ويكون بالسنة؛ فما لا يوجد في كلام الله يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وما لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً بعينه فإنه يوجد بمعناه؛ وذلك بالقياس الصحيح الذي يتساوى فيه الأصل، والفرع في العلة فيلحق هذا بهذا؛ فبيان الله تعالى للحدود متنوع.
قال القاسمي: "أي: يكشف اللبس عنها لقوم فيهم نهضة وجدّ في الاجتهاد فيجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت، فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29]، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282] "(1).
قال ابن عاشور: "وإقحام كلمة (لقوم) للإيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون [البقرة: 164] "(2).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: تحريم المطلقة ثلاثاً على مطلقها حتى تتزوج؛ لقوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} .
2 -
ومنها: أن نكاح الزوج الثاني على وجه لا يصح لا تحل به للأول؛ لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} ؛ ولا يكون زوجاً إلا بعقد صحيح؛ ولذلك لو تزوجها الثاني بنية تحليلها للأول فنكاحه غير صحيح؛ فلا تحل به للأول.
3 -
ومنها: حلها للزوج الأول بعد مفارقة الثاني لها؛ لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} ؛ وظاهر الآية الكريمة أنها تحل للأول بمجرد عقد الثاني عليها، ومفارقته لها؛ لكن السنة بينت أنه لا بد من وطء الثاني وطأً تاماً بانتشار؛ وذلك أن امرأة رفاعة القرظي بانت منه بالثلاث؛ فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير - بفتح الزاي، وكسر الباء -؛ ولم يكن يقدر على الجماع؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني، فَبَتَّ طلاقي، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ولم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب، وقالت بثوبها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ! لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» (3).
4 -
ومن فوائد الآية: أن الزوجة المطلقة ثلاثاً لو وطئت بملك اليمين فإنها لا تحل للزوج الأول؛ لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} ؛ مثال ذلك: امرأة مملوكة لشخص وقد تزوجها شخص آخر، فطلقها الزوج الآخر، ثم انقضت عدتها، وجامعها سيدها بحكم ملك اليمين، ثم أراد زوجها الأول أن يتزوجها فلا يمكن أن يتزوجها؛ لقوله تعالى:{حتى تنكح زوجاً غيره} .
5 -
ومنها: إطلاق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} ؛ والمعروف عند الفقهاء أن الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى عصمة زوجها؛ هذه هي الرجعة عندهم؛ لكن هذا اصطلاح خاص؛ أما في القرآن فتطلق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} ؛ هذا وقد قسم بعض أهل العلم المراجعة شرعاً إلى ثلاثة أقسام؛ فقالوا: قد يراد بها العقد؛ وقد يراد بها إعادة المطلقة رجعياً إلى عصمة زوجها، كما في اصطلاح الفقهاء؛ وقد يراد بالمراجعة أن تعاد المرأة إلى عصمة زوجها بدون طلاق، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حين طلق امرأته وهي حائض؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:«مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس» (4)؛ فالمراد بقوله (ص): «فليراجعها» أن يردها إلى عصمته، ويلغي الطلاق، كما لو تبايع رجلان على عقد فاسد، وقلت لهما:«تراجعا» أي راجعا العقد، أو ألغياه؛ فالمراد بالمراجعة في
(1) محاسن التأويل: 2/ 152.
(2)
التحرير والتنوير: 2/ 421.
(3)
أخرجه البخاري ص 208، كتاب الشهادات، باب 3: شهادة المختبئ، حديث رقم 2639، وأخرجه مسلم ص 918، كتاب النكاح، باب 17: لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى
…
، حديث رقم 3526 [111]1433.
(4)
أخرجه البخاري ص 453، كتاب الطلاق، باب 1: وقول الله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)، حديث رقم 5251، وأخرجه مسلم ص 926 – 927، كتاب الطلاق، باب 1: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها
…
، حديث رقم (3652).
حديث ابن عمر إلغاء الطلاق على القول الصحيح - وإن كان الجمهور على أنها مراجعة مطلقة حسب اصطلاح الفقهاء -.
6 -
ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز أن يتراجع الزوجان حتى يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله؛ أي أن يقوم كل منهما بمعاشرة الآخر بما يجب عليه؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} وجه ذلك: أنهما إذا تراجعا بغير هذا الشرط صار هذا العقد عبئاً، وعناءً، وتعباً، وخسارة مالية؛ لأنهما لا يضمنان أن يرجعا إلى الحال الأولى.
7 -
ومنها: الاكتفاء بالظن في الأمور المستقبلة؛ لأن طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يطاق؛ لقوله تعالى: {إن ظنا أن يقيما حدود الله} ؛ وقد قال الله تبارك وتعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286]، فقال:«قد فعلت» (1).
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة مهمة: وهي إذا حلف الإنسان على المستقبل بناءً على غلبة الظن، فتبين بخلافه فلا كفارة فيه؛ لأنه يحلف على ما في نفسه، وعلى ظنه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
8 -
ومن فوائد الآية: عناية الله سبحانه وتعالى بعباده في بيان ما يجب عليهم في عبادتهم، وفي معاملة بعضهم لبعض حتى لا تحصل الفوضى المؤدية إلى النزاع الذي قد يصل إلى القتال.
9 -
ومنها: أنه إذا لزم من فعل المباح شيء محرم صار الشيء المباح حراماً؛ لأن رجوع الزوجة حلال في الأصل؛ فإذا لم يظن الإنسان أنه يقوم بالحدود صار حراماً؛ وهو في الأصل حلال؛ وعلى هذا فنقول: إذا استلزم العقد إبطالاً لواجب، أو وقوعاً في محرم صار ذلك حراماً؛ وهي في مسائل كثيرة؛ منها: لو تبايع رجلان تلزمهما الجمعة بعد ندائها الثاني: فالبيع حرام، والعقد باطل؛ لأنه وقوع فيما حرم الله عز وجل.
10 -
ومنها: أنه لا يعرف هذه الحدود، ويتبينها إلا من كان من ذوي العلم؛ فكلما كان أعلم كانت الحدود في حقه أبين وأظهر؛ فطالب العلم يتعلم من اللفظ مسائل أخرى؛ فالعلم يغذي بعضه بعضاً؛ وطالب العلم رابح بكل حال؛ فهو ليس كطالب المال قد يشتري السلعة وهو يظن الربح، ثم يخسر؛ فطالب العلم أيّ مسألة يعلمها فإنها مفتاح له؛ ولهذا قال تعالى:{يبينها لقوم يعلمون} .
11 -
ومن فوائد الآية: أنه لا شيء في دين الله يكون مجهولاً لكل أحد؛ لا من العبادات، ولا من المعاملات؛ فكل شيء مبيَّن؛ فإن قيل: هناك أشياء تشكل على أهل العلم، ولا يعرفون حكمها؟
فالجواب: أن الخلل هنا ليس في النص؛ ولكنه فيمن يستنبط الأحكام من النص؛ فقد يكون لنقص في علمه، أو قصور في فهمه، أو عدوان في قصده؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«رُبَّ مبلغ أوعى من سامع» (2)؛ وقد يكون الخلل في إعراض الإنسان عن التدبر، وبذْل الاجتهاد، وطلبِ الحق؛ وقد يكون عند الإنسان علم، وفهم، وجلد، وتدبر؛ لكن هناك ذنوباً تحول بينه، وبين وصوله للحق، كما في قوله تعالى:{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 13، 14]؛ لأن المعاصي تُظلم القلب؛ وإذا أظلم القلب لا يستنير؛ وكيف يتبين له الحق وهو مظلم؟ ! ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء: 105]، ثم قال تعالى:{واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 106 أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أنه ينبغي لمن سئل عن علم أن يستغفر الله عز وجل حتى تزول عنه الذنوب باستغفاره، ويتبين له الحق؛ وعلى هذا فنقول: إن جميع الأحكام التي تتعلق بالعبادات، أو المعاملات قد بينها
(1) أخرجه مسلم ص 699، كتاب الإيمان، باب 57، بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس.
(2)
أخرجه البخاري ص 136 كتاب الحج، باب 132: الخطبة أيام منى، حديث رقم 1741.
الله لكن العيب عيب المستدل؛ فالأدلة واضحة كافية؛ لكن المستدل قد تخفى عليه الأحكام للأسباب التي ذكرناها، وغيرها.
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي غلط من قال: «إن النصوص لم تستوعب جميع الأحكام، وأننا محتاجون إلى العقول في الأحكام» ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {يبينها لقوم يعلمون} ؛ فالنصوص كافية من كل ناحية.
12 -
ومن فوائد الآية: أن كل ما خالف شريعة الله فليس من أحكام الله؛ لقوله تعالى: {يبينها} .
13 -
ومنها: أن الخلع ليس بطلاق؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]، ثم قال تعالى:{فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]، ثم قال تعالى:{فإن طلقها فلا تحل له} الآية؛ ولو كان الخلع طلاقاً لكان قوله تعالى: {فإن طلقها} هي الطلقة الرابعة؛ وهذا خلاف إجماع المسلمين؛ لأن المرأة تبين بالطلاق الثلاث بإجماعهم؛ وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخلع فسخ بأي لفظ كان - ولو بلفظ الطلاق -، وقال: إن هذا هو ظاهر الآية؛ لأنه تعالى قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت} ؛ ولم يذكر صيغة معينة؛ لأنه إنما يعتبر في العقود بمعانيها لا بألفاظها؛ فما دام هذا الطلاق الذي وقع من الزوج إنما وقع بفداء من المرأة افتدت نفسها به - فهذا لا يمكن أن نعده طلاقاً ولو وقع بلفظ الطلاق؛ وما ذكره رحمه الله فإنه منظور فيه إلى المعنى؛ وما قاله غيره - من أنه إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقاً - فقد نظر فيه إلى اللفظ؛ ولا ريب أن من تأمل الشريعة وجد أنها تعتني بالمعنى أكثر من الاعتناء باللفظ؛ أما الألفاظ فهي قوالب للمعاني؛ وأنت إذا ألبست المرأة ثوب رجل لا تكون رجلاً؛ كما أنك إذا ألبست رجلاً ثوب امرأة لم يكن امرأة؛ فالألفاظ عبارة عن قوالب تدل على ما وراءها؛ فإذا صار المعنى هو التخلص من الزوج بهذا الفداء فكيف يحسب طلاقاً؟ !
14 -
ومن فوائد الآية: تعظيم شأن النكاح بأن الله ذكر له حدوداً في عقده، وفي حله؛ لأنه يترتب عليه مسائل كثيرة من المحرمية، والنسب، والميراث، وغير ذلك - كحقوق الزوجية -؛ ولهذا اشترط فيه أن يكون بِوَلي؛ فالمرأة تستطيع أن تبيع كل مالها؛ لكن لا تستطيع أن تزوج نفسها، كما اشترط فيه الإشهاد على رأي كثير من أهل العلم؛ وكل العقود لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً اشترط فيه الإعلان على رأي بعض أهل العلم؛ والعقود الأخرى لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً أنه لا يصلح العقد في بعض الأحوال، والأزمان؛ وهذا يشاركه فيه بعض العقود؛ وكل ذلك من باب الأهمية في هذا العقد العظيم الذي تترتب عليه هذه الأمور الكبيرة.
القرآن
التفسير:
وإذا طَلَّقتم النساء فقاربن انتهاء عدتهن، فراجعوهن، ونيتكم القيام بحقوقهن على الوجه المستحسن شرعًا وعرفًا، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن. واحذروا أن تكون مراجعتهن بقصد الإضرار بهن لأجل الاعتداء على حقوقهن. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه باستحقاقه العقوبة، ولا تتخذوا آيات الله وأحكامه لعبًا ولهوًا. واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وتفصيل الأحكام. واذكروا ما أنزل الله عليكم من القرآن والسنة، واشكروا له سبحانه على هذه النعم الجليلة، يُذكِّركم الله بهذا، ويخوفكم من المخالفة، فخافوا الله وراقبوه، واعلموا أن الله عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، وسيجازي كلا بما يستحق.
في سبب نزول الآية، قال ابن عباس:" كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية "(1).
قال ابن كثير: "هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح"(2).
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231]، " أي إِذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً"(3).
والخطاب هنا لعامة الناس؛ أي إذا طلق الأزواج نساءهم (4).
قال القاسمي: " أي: طلاقا رجعيا"(5).
قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231]، أي" أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها"(6).
قال الصابوني: "وقاربن انقضاء العدة"(7).
قال القرطبي: " معنى {بَلَغْنَ} قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى"(8).
قال الشوكاني: " البلوغ إلى الشئ، معناه الحقيقي الوصول إليه ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازا لعلاقة مع قرينة كما هنا فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأن المرأة إذا قد بلغت آخر جزء من مدة العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للأنقضاء فقد خرجت من العدة ولم يبق للزوج عليها سبيل"(9).
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، " أي: فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى" (10).
قال القرطبي: " الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر"(11).
قوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، أي:" أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل العدّة عليهن"(12).
(1) تفسير الطبري (4913): ص 5/ 9.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 629.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(4)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 123.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 152.
(6)
فتح القدير: 5/ 241، وانظر: محاسن التأويل: 2/ 152.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(8)
افسير القرطبي: 3/ 155.
(9)
فحت القدير: 1/ 242.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 155 - 156.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
قال القاسمي: "بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن"(1).
قال القرطبي: يعني "فطلقوهن"(2).
قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231]؛ " أي: ولا تراجعوهن إِرادة الإِضرار بهنّ"(3).
قال القاسمي: " أي: بالرجعة ضِراراً، أي: مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة"(4).
قال ابن عثيمين: "أي"لا تمسكوهن لأجل الإضرار بهن؛ وقد مر أنهم كانوا في الجاهلية يراجعون الزوجات في العدة من أجل المضايقة؛ فحدد الله المراجعة باثنتين، وأنه بعد الثالثة لا رجوع حتى تنكح زوجاً غيره" (5).
قال الصابوني: " أي بقصد الإِضرار، قال القفال: الضرّار هو المضارّة كقوله: {مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة: 107] أي ليضاروا المؤمنين"(6).
قوله تعالى: {لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، " أي: لتكون عاقبة أمركم الاعتداء أو للتعليل" (7).
قال الطبري: أي": لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم"(8).
قال الصابوني: " لتظلموهن بالإِلجاء إِلى الافتداء، وفيه زجرٌ لما كان عليه الناس حيث كان الزوج يترك المعتدة حتى إِذا شارفت انقضاء العدّة يراجعها للإِضرار بها ليطوّل عليها العدّة لا للرغبة فيها"(9).
أخرج الطبري بسنده "عن مسروق: {ولا تمسكوهن ضرارا}، قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا"(10)، وروي نحوه عن ابن عباس (11)، ومجاهد (12)، والحسن (13)، وقتادة (14)، والضحاك (15)، والربيع (16)، والسدي (17)، ومقاتل بن حيان (18)، وابن شهاب (19)، وعطية (20).
و(اللام) في قوله تعالى {لِتَعْتَدُوا} للعاقبة؛ والمعنى: لتقعوا في الاعتداء؛ أي أن عاقبة أمركم إذا أمسكتموهن ضراراً هي الاعتداء؛ واللام التي تعرف عند بعض النحويين بـ «لام كي» تارة يراد بها التعليل؛ وتارة تكون زائدة؛ وتارة تكون للعاقبة؛ فتكون للتعليل، كما في قوله تعالى:{ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} [العنكبوت: 66]؛ وتكون زائدة، كما في قوله تعالى:{يريد الله ليبين لكم} [النساء: 26]؛ فإذا جاءت بعد
(1) محاسن التأويل: 2/ 152.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 156.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 152.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 124.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 132.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 152.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 8.
(9)
صفوة التفاسبر: 1/ 133.
(10)
تفسير الطبري (4909): ص 5/ 8.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4913): ص 5/ 9.
(12)
انظر: تفسير الطبري (4911)، و (4912): ص 5/ 8.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4910): ص 5/ 8.
(14)
انظر: تفسير الطبري (4916): ص 5/ 9 - 10.
(15)
انظر: تفسير الطبري (4918): ص 5/ 10.
(16)
انظر: تفسير الطبري (4914): ص 5/ 9.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4920): ص 5/ 10.
(18)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 8 وما بعدها، وتفسير ابن كثير: 1/ 629.
(19)
انظر: تفسير الطبري (4915): ص 5/ 9.
(20)
انظر: تفسير الطبري (4922): ص 5/ 11.
الإرادة فهي زائدة؛ لأن فعل الإرادة يتعدى بنفسه؛ وتأتي للعاقبة: وهي إذا علم بأن ما بعدها غير مقصود، مثل قوله تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8](1).
قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} [البقرة: 231]، " أي: من يمسكها للإِضرار بها أو ليكرهها على الافتداء" (2).
قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، أي:" فقد ظلم بذلك العمل نفسه لأنه عرّضها لعذاب الله"(3).
قال الزجاج: "يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله"(4).
قال النسفي: " بتعريضها لعقاب الله"(5).
قال القاسمي: " أي: بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه"(6).
قال ابن عثيمين: " وأضاف الظلم إلى نفسه - وإن كان ظلمه واقعاً على غيره -؛ لأنه جلب على نفسه الإثم، والعقوبة"(7).
قوله تعالى: {وَلا تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} [البقرة: 231]، "أي: لا تهزءوا بأحكام الله وأوامره ونواهيه فتجعلوا شريعته مهزوءاً بها بمخالفتكم لها" (8).
قال القرطبي: "لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته"(9).
قال ابن عثيمين: "أي لا تجعلوها مهزوءاً بها؛ أي موضع استهزاء بحيث لا تعملون بها استخفافاً بها"(10).
قال النسفي: " أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً"(11).
قال القاسمي: " أي: أوامره ونواهيه مهزوّا، بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها"(12).
وأخرج ابن كثير بسنده "عن عبادة بن الصامت، في قول الله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبًا. ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح" (13).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"(14).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 124.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 156.
(5)
تفسير النسفي: 1/ 123.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 152.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 124.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 156.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 124.
(11)
تفسير النسفي: 1/ 123.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 153.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 630. ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (501) "زوائده" من طريق آخر، فرواه من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبادة بن الصامت به مرفوعا.
(14)
سنن أبي داود برقم (2194) وسنن الترمذي برقم (1184) قال حسن غريب. وسنن ابن ماجة برقم (2039).
وقيل: "المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين، ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه"(1).
قال القرطبي: " ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه"(2).
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُم} [البقرة: 231]، " أي: واذكروا فضل الله عليكم بهدايتكم للإِسلام" (3).
قال ابن كثير: " أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم"(4).
قال القرطبي: " أي بالإسلام وبيان الأحكام"(5).
قال النسفي: " بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام"(6).
قال القاسمي: " أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم"(7).
قال الشوكاني: "أي النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء وظلمات بعضها فوق بعض"(8).
قال ابن عثيمين: "أي اذكروا باللسان، وبالقلب، وبالجوارح، نعمة الله عليكم حتى تقوموا بشكرها؛ فإن الغفلة عن ذكر النعم سبب لعدم الشكر، وقوله تعالى: {نعمة الله} مفرد مضاف؛ والمفرد المضاف يدل على العموم، كما في قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]؛ ولو كان المراد بالنعمة مدلولها الإفرادي لكان إحصاؤها ممكناً؛ المهم أن نعمة الله هنا عامة؛ ونعم الله لا تحصى أجناسها فضلاً عن أفرادها؛ فقوله تعالى: {نعمة الله عليكم} يشمل كل النعم - وإن دقت؛ لأن الله عز وجل يقول: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] "(9).
قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231]، ؛ أي:" وما أنعم به عليكم من القرآن العظيم والسنّة المطهّرة"(10).
قال النسفي: " من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها"(11).
قال القرطبي: " {والحكمة} هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب"(12).
قال ابن عثيمين: "والمراد بـ {الكتاب} القرآن؛ {والحكمة} أي السنة النبوية"(13).
قال الشوكاني: "أفرد الكتاب والحكة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولا أوليا تنبيها على خطرهما وعظم شأنهما"(14).
قوله تعالى: {يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، أي "يذكِّركم به ترغيباً، وترهيباً"(15).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 148.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 156.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 631.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 156.
(6)
تفسير النسفي: 1/ 124.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 153.
(8)
فتح القدير: 1/ 242.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 125.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(11)
تفسير النسفي: 1/ 124.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 157.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 125.
(14)
فتح القدير: 1/ 242.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 125.
قال ابن كثير: " أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم"(1).
قال الصابوني: " أي يرشدكم ويذكّركم وهدي رسوله إِلى سعادتكم في الدارين"(2).
قال القرطبي: " أي يخوفكم"(3).
قال القاسمي: " أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة"(4).
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 231]، "أي: خافوا الله وراقبوه في أعمالكم" (5).
قال ابن كثير: " أي: فيما تأتون وفيما تذرون"(6).
قال النسفي: " فيما امتحنكم به"(7).
قال ابن عثيمين: " ما أكثر ما يأمر الله عز وجل بالتقوى؛ لأن بالتقوى صلاح القلوب، والأعمال؛ و (التقوى) فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه تقرباً إليه، وخوفاً منه"(8).
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]، أي:" واعلموا أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالكم"(9).
قال ابن كثير: أي ": فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك"(10).
قال ابن عثيمين: " أمر بالعلم بأن الله بكل شيء عليم؛ فلا يخفى عليه شيء، كما قال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5] "(11).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن لكل طلاق أجلاً؛ لقوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} ؛ الأجل هنا مجمل؛ ولكنه مبين في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]؛ وغيرها من الآيات الدالة على العدة.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن يأتي مجملاً أحياناً، ومفصلاً أحياناً؛ ويدل لذلك قوله تعالى:{الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: 1]؛ وفائدة الإتيان بالإجمال، ثم التفصيل: أنه إذا ورد النص مجملاً فإن النفس تتطلع إلى معرفة ذلك المجمل، وبيان ذلك المبهم؛ فيكون في ذلك شدة الاشتياق إلى العلم.
2 -
ومن فوائد الآية: جواز المراجعة بعد تمام العدة قبل أن تغتسل؛ لقوله تعالى: {فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن} ؛ وجه الدلالة أن قوله تعالى: {فأمسكوهن} جواب للشرط في قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} ؛ وهذا يقتضي أن يكون الإمساك، أو التسريح، بعد بلوغ الأجل ضرورة أن المشروط يقع بعد الشرط؛ وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن للزوج أن يراجع زوجته بعد طهرها من الحيضة الثالثة حتى تغتسل؛ فلو طهرت في الصباح بعد الفجر، ثم لم تغتسل إلا لصلاة الظهر، وراجعها زوجها فيما بين طهارتها، واغتسالها صحت المراجعة؛
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 631.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 157.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 153.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 631.
(7)
تفسير النسفي: 1/ 124.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 125.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 631.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 125.
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه ينتهي وقت المراجعة بالطهارة من الحيضة الثالثة؛ وأوَّلوا قوله تعالى: {فبلغن أجلهن} أن المعنى: قاربن بلوغ أجلهن؛ وأنه لا رجعة بعد الطهر من الثالثة؛ والقول الأول أصح؛ لأنه هو ظاهر الآية؛ وهو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم؛ ويكون هذا من باب التوسعة على الزوج؛ لأنه قد يندم فيرجع؛ وهو نظير ثبوت الخيار بين المتبايعين ما داما في المجلس؛ وإلا فالعقد قد تم بالإيجاب، والقبول؛ لكن لهما الخيار ما داما في المجلس توسعة عليهما؛ وهذا شيء معلوم في غريزة الإنسان، وطبيعته: إنه إذا منع من الشيء صار في شوق إليه؛ فإذا حصله فقد يزهد فيه.
3 -
ومن فوائد الآية: أن الإمساك بمعروف، أو التسريح بمعروف واجب؛ لقوله تعالى:{فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} .
4 -
ومنها: وجوب المعاشرة بالمعروف حتى بعد الطلاق؛ لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} لئلا يؤذي الإنسان زوجته بالقول؛ أو بالفعل، أو بمنع الحقوق، أو ما أشبه ذلك؛ ومما هو معروف أن ما يجري بين الأزواج أحياناً من المشاحنة، وادعاء الزوج ما يكون لزوجته من الأمتعة التي أعطاها إياها في المهر، أو فيما بعد ذلك حتى يطالبها بالحلي الذي أعطاها؛ خلاف المعروف الذي أمر الله به.
5 -
ومنها: عناية الله عز وجل بعباده في أن يتعاملوا بينهم بالمعروف سواء في حال الاتفاق، أو في حال الاختلاف؛ لأن ذلك هو الذي يقيم وحدة الأمة؛ فإن الأمة إذا لم تتعامل بالمعروف - بل بالمنكر، والإساءة - تفرقت، واختلفت؛ فالأمة الإسلامية أمة واحدة، كما قال الله تعالى:{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران: 103].
6 -
ومنها: تحريم إمساك المطلقة - أي مراجعتها - للإضرار بها؛ لقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} .
7 -
ومنها: أن كل من عامل أخاه ضراراً فهو معتدٍ؛ فلا يحل لأحد أن يعامل أخاه المسلم على وجه المضارة؛ وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضار ضار الله به، ومن شاق شق الله عليه"(1)؛ وجاء في حديث آخر: "لا ضرر ولا ضرار"(2)؛ فالمضارة بين المسلمين محرمة؛ لذلك قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} .
8 -
ومنها: أن المضارة عدوان؛ لقوله تعالى: {لتعتدوا} سواء كانت اللام للعاقبة، أو للتعليل - أي سواء كان المقصود من المضارة الاعتداء؛ أو لم يقصد الاعتداء لكن حصل.
9 -
ومنها: تحريم ظلم الإنسان لنفسه؛ لأن الله تعالى نهى عن هذه الأشياء، ثم قال تعالى:{ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} .
11 -
ومنها: أن فعل المعاصي ظلم للنفس؛ فلا يقول الإنسان: «أنا حر أفعل ما أشاء، وأصبر على العذاب» ؛ هذا خطأ؛ فأنت لا يحل لك أن تظلم نفسك؛ فظلم الغير عدوان، وحرام؛ وظلم النفس أيضاً عدوان، وحرام؛ وفي الحديث:«ولنفسك عليك حقاً» (3).
(1) أخرجه أحمد 3/ 453، حديث 15847، وأخرجه الترمذي ص 1847، كتاب البر والصلة، باب 27: ما جاء في الخيانة والغش، حديث رقم 1940؛ وأخرجه أبو داود ص 1492، كتاب القضاء باب 31: في القضاء، حديث رقم 3635، وأخرجه ابن ماجة ص 2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بنى في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2342، قال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 404: حسن.
(2)
أخرجه أحمد 1/ 313، حديث رقم 2867 من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن ماجة ص 2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بني في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2340؛ وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً 2/ 571، كتاب الأقضية، باب 26، القضاء في المرفق، وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي سعيد الخدري 2/ 57 – 58، وقال حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 443، حديث رقم 250، صحيح.
(3)
أخرجه البخاري ص 154، كتاب الصوم، باب 51: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع
…
، حديث رقم 1968.
12 -
ومنها: أن من ظلم غيره بعدوانه عليه فقد ظلم نفسه في الحقيقة؛ لأن المظلوم إذا لم يتخلص الظالم من مظلمته في الدنيا فسوف يؤخذ من حسناته للمظلوم في الآخرة؛ فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المظلوم؛ فطرحت عليه، ثم طرح في النار؛ ولذلك عبر الله عن الإضرار بالزوجة في إمساكها بقوله تعالى:{فقد ظلم نفسه} مع أنه ظالم للزوجة أيضاً.
13 -
ومنها: إغراء المخاطب باجتناب ظلم غيره؛ لأن الظالم قد يظن أنه منتصر على المظلوم؛ فإذا علم أنه ظالم لنفسه تهيب ذلك، واستقام على العدل.
14 -
ومنها: أن آيات الله تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية؛ وهي ما جاءت به الرسل من الشرع؛ وآيات كونية؛ وهي هذه الكائنات التي نشاهدها في السموات، والأرض، والشمس، والقمر؛ أما كون ما جاءت به الرسل من الشرع آية فلأنها أمور لا يمكن أن يأتي البشر بمثلها - ولا سيما القرآن الكريم -؛ وأما كون هذه الكائنات آيات كونية فإن هذه المخلوقات لا يمكن لأحد أن يخلق مثلها؛ وقد تحدى الله عز وجل أولئك العابدين أن تخلق معبوداتهم شيئاً من هذه الكائنات، فقال عز وجل:{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73]؛ فهذه المخلوقات في انتظامها وحسنها، كلها آيات تدل على أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق؛ وعلى وحدانيته، وعلى قدرته، وتمام حكمته، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
15 -
ومن فوائد الآية: تحريم اتخاذ آيات الله هزواً سواء اتخذ الكل أم البعض؛ فمثال اتخاذ آيات الله الشرعية هزواً أن يهزأ الإنسان ويسخر من شرع الله عز وجل، سواء سخر بالشرع كله، أو بجزء منه؛ لأن الاستهزاء ببعض الشريعة استهزاء بجميع الشريعة؛ وهناك فرق بين من يدع العمل مع تعظيمه لشرع الله عز وجل؛ وبين من يسخر بالشرع، ويستهزئ به، ويرى أنه عبث، وأنه باطل، وما أشبه ذلك؛ فالأول له حكم العصاة؛ فإن كانت معصيته كبيرة تبلغ به الكفر فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق؛ وإلا فهو دون الفاسق - كما لو كانت من صغائر الذنوب، ولم يصر عليها -؛ وأما الثاني المستهزئ الذي يرى أن الشرع عبث، أو أنه لأناس انقرضوا، ومضوا، وأن هذا العصر لا يصلح للعمل بهذا الشرع؛ فهذا لا شك أنه كافر؛ وإذا استهزأ مستهزئ بحامل الشريعة، أو العامل بها من أجل حمله الشريعة، أو عمله بها فهو كافر؛ لأنه استهزأ بشريعة من شرائع الله؛ ولهذا قال عز وجل في أولئك النفر الذين قالوا:«ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول، وأصحابه - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء» ؛ قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66]؛ أما الذين يقولون عن حملة الشرع، والعاملين به:«هؤلاء دراويش لا يعرفون المجتمع ولا الدنيا» ، وما أشبه ذلك من الكلمات؛ فهؤلاء أيضاً كفار؛ لأن الله تعالى يقول:{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 29 - 32]؛ وفي معنى ذلك قولهم: «هؤلاء رجعيون» ، وقد ذكر الله في آخر الآيات ما يدل على كفرهم في قوله تعالى:{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34]؛ فدل هذا على أن أولئك الذين يسخرون بالمؤمنين من أجل إيمانهم كفار.
ومثال اتخاذ الآيات الكونية هزواً: لو نزل المطر في أيام الصيف - وهذا لم تجر به العادة - فقال: «ما هذا التبديل! يوم أن يكون الناس محتاجين إلى المطر في الشتاء لا يجيء؛ والآن يأتي! » وهذا يمكن أن يوجد من بعض الفجرة الذين يقولون مثل هذا الكلام؛ أو مثلاً يُغْلَبُ قوميون من العرب - تغلبهم اليهود مثلاً، فيقول المستهزئ بآيات الله الكونية -:«ما هذا؟ كيف يكون النصر لليهود على العرب - على بني كنعان، وعدنان، وقحطان؛ كيف هذا وهم بنو إسرائيل؟ ! » وما أشبه ذلك؛ لكن المؤمن يستسلم لأمر الله عز وجل الكوني كما
يستسلم لأمره الشرعي؛ ويرى أنه في غاية الحكمة، وفي غاية الإتقان، وأنه في مكانه، وأن ما حدث فهو واقع موقعه، وأن الحكمة تقتضي ذلك؛ لأن الله عز وجل حكيم؛ لا يصنع شيئاً إلا لحكمة؛ فالمهم أن الاستهزاء بالآية الكونية يمكن أن يكون؛ وقد نهى الله تعالى أن تتخذ آياته هزواً؛ وهو عام للكونية، والشرعية؛ لكن بما أن الآية في سياق الآية الشرعية تكون أخص بالآيات الشرعية منها بالآيات الكونية.
16 -
ومن فوائد الآية: أن المخالفة نوع من الاستهزاء؛ لأنك إذا آمنت بأن الله عز وجل هو الرب العظيم الذي له الحكم، وإليه الحكم، ثم عصيته فكأنك تستهزئ بهذه العظمة؛ فلو أن ملكاً من الملوك - ولله المثل الأعلى - نهاك عن شيء، ثم إنك أمامه، وعلى عينه تخالف هذا الأمر، فسيقول لك:«أنت تستهزئ بي؛ لأني نهيتك، ففعلتَ ما نهيتك عنه أمامي» ؛ فالمعصية نوع من الاستهزاء بالله عز وجل وإن كانت ليست من النوع الذي يخرج به الإنسان من الإسلام -.
17 -
ومن فوائد الآية: وجوب ذكر نعمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم} ؛ والذكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح؛ فذكرها باللسان أن تقول: أنعم الله عليّ بكذا، كما قال تعالى:{وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11]؛ فتثني على الله عز وجل بها تقول: اللهم لك الحمد على ما أنعمت عليّ به من المال، أو الزوجة، أو الأولاد، أو ما أشبه ذلك؛ وذكرها بالقلب أن تستحضرها بقلبك معترفاً بأنها نعمة من الله؛ وذكرها بالجوارح أن تعمل بطاعة الله، وأن يُرى أثر نعمته عليك.
18 -
ومن فوائد الآية: أن منة الله علينا بإنزال الكتاب والحكمة أعظم من كل منة؛ يؤخذ ذلك من تخصيصها بعد التعميم؛ لأن التخصيص بعد التعميم يدل على أهميتها.
19 -
ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: {وما أنزل عليكم من الكتاب} ؛ لأن ما أنزل الله إما أن يكون عيناً قائمة بنفسها؛ أو صفة قائمة بموصوفها؛ فأما الأول فمخلوق، كما في قوله تعالى:{أنزل من السماء ماءً} [الأنعام: 99]، وقوله تعالى:{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6]، وقوله تعالى:{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} [الحديد: 25]؛ وأما الثاني فكقوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1]، وكما في هذه الآية:{وما أنزل عليكم من الكتاب} ؛ وهذا يكون صفة لله عز وجل غير مخلوقة.
20 -
ومن فوائد الآية: أن شريعة الله عز وجل كلها حكمة؛ لقوله تعالى: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} .
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أنه لا حاجة إلى أن نتعب أنفسنا في طلب الحكمة، أو أن نتمحل حكمة بعيدة قد تكون مرادة لله، أو غير مرادة؛ لأننا نعلم أن كل ما شرعه الله فهو لحكمة؛ ومن الحكمة امتحان العبد بالامتثال فيما لا يعلم حكمته؛ ولهذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نقضي الصلاة» (1)؛ فجعلت الحكمة أمر الله، ورسوله؛ أما السؤال عن الحكمة من باب الاسترشاد فإن هذا لا بأس به؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكمة بعض الأشياء، كما في قوله تعالى:{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189]؛ والسؤال على هذا الوجه من باب طلب العلم الذي يزداد به المؤمن إيماناً، وعلماً؛ وأما السؤال عن الحكمة بحيث لا يستسلم الإنسان للحكم، ولا ينقاد إلا بمعرفتها فهذا ضلال، واستكبار عن الحق، واتباع للهوى، وجعل الشريعة تابعة لا متبوعة.
(1) أخرجه البخاري ص 27، كتاب الحيض، باب 20: لا تقضي الحائض الصلاة، حديث رقم 321، وأخرجه مسلم ص 733، كتاب الحيض، باب 15: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، حديث رقم 763 [69]335.
21 -
ومن فوائد الآية: أن ما جاء في كتاب الله موعظة يتعظ بها العبد؛ و «الاتعاظ» معناه أن الإنسان يجتنب ما فيه مضرة إلى ما فيه منفعة؛ يقال: وعظته فاتعظ - أي انتفع، وترك ما فيه مضرته إلى ما فيه مصلحته؛ لقوله تعالى:{يعظكم به} [البقرة: 231].
22 -
ومنها: ثبوت رحمة الله عز وجل، وأن الله تعالى ذو رحمة واسعة؛ لقوله تعالى:{وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} ؛ فرحمة الله تعرف بآثارها.
23 -
ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: {واتقوا الله} .
24 -
ومنها: عموم علم الله لكل شيء؛ لقوله تعالى: {أن الله بكل شيء عليم} .
25 -
ومنها: تحذير المرء من المخالفة؛ لأنه إذا علم أن الله بكل شيء عليم حذر من مخالفته؛ ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، وقال تعالى:{واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} .
26 -
ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى تقع منهم؛ وهذا كان الغلاة يقولونه قديماً؛ قال شيخ الإسلام: «ومنكروه اليوم قليل» ؛ والقدرية هم الذين يقولون: إن للعبد مشيئة، وقدرة مستقلتين عن الله عز وجل.
القرآن
في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال:
احدها: أخرج الواحدي عن الحسن أنه قال في قول الله عز وجل {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا} الآية، قال:"حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه قال: كنت زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها؟ لا والله لا تعود إليها أبدا قال: وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجتها إياه"(1).
والثاني: قال السدي: "نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته. فنزلت هذه الآية"(2).
(1) اسباب النزول: 80 - 81، وأخرجه البخاري (فتح الباري: 9/ 183 - ح: 5130) وأبو داود (2/ 569 - ح: 2087) وابن جرير (2/ 297) والحاكم (المستدرك: 2/ 280) وابن أبي حاتم وابن مردويه (تفسير ابن كثير: 1/ 282) والدارقطني (الصحيح المسند للوادعي: 19) من طريق يونس بن عبيد عن الحسن به.
وفي رواية أخرى أخرج الواحدي عن معقل بن يسار أنه قال: "كانت لي أخت فخطبت إلي وكنت أمنعها الناس، فأتاني ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله، ثم طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها، ثم طلقتها طلاقا له رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها، لا أزوجك أبدا فأنزل الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه". [أسباب النزول: 81، وأخرجه الطبراني (المعجم الكبير: 20/ 205 - ح: 468) وابن جرير (2/ 298) والطيالسي (منحة المعبود: 2/ 14 - ح: 1934) من طريق عباد به. وإسناده حسن].
(2)
تفسير الطبري (4939): ص 5/ 21 - 22. وأخرجه الواحدي في أسباب النزول: 82، ووابن المنذر (فتح القدير: 1/ 244) وابن مردويه (لباب النقول: 47) من طريق عمرو بن حماد به.
وقد سبق تضعيف هذا السند، ولذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - "والصحيح الأول" (تفسير ابن كثير: 1/ 282) - يعني حديث معقل بن يسار - وتبعه الإمام السيوطي (لباب النقول: 47).
والثالث: أنها نزلت عموماً في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح، وهذا قول ابن عباس (1)، والضحاك (2)، والزهري (3)، ومسروق (4)، وإبراهيم (5).
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 232]، " أي إِذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن "(6).
قال الشافعي: " خاطب الأولياء، وأن هذا انقضاء الأجل، لا الأشراف على انقضائه"(7).
قال الزجاج: " هذا مخاطبة للأولياء، وفي هذا دليل أن أمر الأولياء بين، لأن المطلقة التي تراجع إنما هي مالكة بضعها إلا أن الولي لا بد منه"(8).
قا الماوردي: " بلوغ الأجل ها هنا [تناهيه]، بخلاف بلوغ الأجل في الآية التي قبلها، لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها، قال الشافعي: فدخل اختلاف المعنيين على افتراق البلوغين "(9).
قال الزجّاج: "الأجل آخر المدة وعاقبة الأمور، قال لبيد (10):
وَاخْزُها بالبرِّ للهِ الأجَلّ.
يريد عاقبة الأمور" (11).
قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بالمعروف} [البقرة: 232]، "أي: فلا تمنعوهن يا معشر الأولياء من العودة لأزواجهن إِذا صلحت الأحوال بين الزوجين وظهرت أمارات الندم ورضي كل منهما إِلى العودة لصاحبه والسير بما يرضي الله" (12).
قال الزجاج: أي فلا" تمنعوهن وتحبسوهن، من أن ينكحن أزواجهن"(13).
قال الشافعي: " قال للولي: لا يعضلها عن النكاح إن أرادته كنعها منه"(14).
قال الماوردي: " فنهى الله عز وجل أولياء المرأة عن عضلها ومنعها من نكاح مَنْ رضيته من الأزواج"(15).
وفي معنى (العضل)، قولان (16):
أحدهما: أنه المنع، ومنه قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يُداوَى، وفلان عُضَلَةٌ أي داهية، لأنه امتنع بدهائه.
(1) انظر: تفسير الطبري (4941): ص 5/ 22.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4945): ص 5/ 23.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4944): ص 5/ 23.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4942): ص 5/ 22 - 23.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4943): ص 5/ 23.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(7)
تفسير الإمام الشافعي: 1/ 380.
(8)
معاني القرآن: 1/ 310.
(9)
النكت والعيون: 1/ 298.
(10)
ديوانه ط بيروت 141 برواية: " واخزها، وانظر: اللسان (كذب، جلل، خزا)، وأساس البلاغة (خزى)، وكتاب العين: 4/ 291، وصدره:
"غيرَ أن لا تكذبِنْها في التُّقَى"
(11)
حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 2/ 179، ولم اجده في معاني القرآن.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(13)
معاني القرآن: 1/ 310.
(14)
تفسير الإمام الشافعي: 1/ 380.
(15)
النكت والعيون: 1/ 298.
(16)
النكت والعيون: 1/ 298.
والقول الثاني: أن العضل الضيق، ومنه قولهم: قد أعضل بالجيش الفضاء، إذا ضاق بهم، ومنه أيضا " الداء العضال " وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج، ومنه قول ذي الرمة (1):
ولم أقذف لمؤمنة حصان
…
بإذن الله موجبة عضالا
وفي قوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوا بَينَهُم بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، وجهان من التفسير (2):
أحدهما: إذا تراضى الزوجان.
والثاني: إذا رضيت المرأة بالزوج الكافي.
قال الشافعي: " وهذه أبين آية في كتاب اللَّه تعالى دلالة على: أن ليس للمرأة أن تتزوج بغير ولي "(3).
قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 232]، "أي ما نهيتكم عنه من الإِضرار والعضل يُنصح به ويوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لأنه هو المنتفع بالمواعظ الشرعية"(4).
قال الطبري: أي: " فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها الناس يصدق بالله، فيوحده، ويقر بربوبيته، ومن يؤمن باليوم الآخر، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب"(5).
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232]، أي الاتعاظ بما ذكر والتمسك بأوامر الله خير وأنفع لكم وأطهر من الآثام وأوضار الذنوب" (6).
قال الطبري: أي: " نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن، بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد " أزكى لكم "، أيها الأولياء والأزواج والزوجات"(7).
قال الثعلبي: " وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حبّ لم يؤمن بأن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما، ولم يؤمن من أوليائهما إن سبق إلى قلوبهم منهما لعلّهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون"(8).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]، " أي والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشرائع وأنتم لا تعلمون ذلك"(9).
قال الزجاج: " أي: الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم"(10).
قال البيضاوي: " {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه من النفع والصلاح، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لقصور علمكم"(11).
قال ابن عثيمين: " {والله يعلم} ما فيه مصلحتكم، ونقاؤكم، وطهركم، وأنتم لا تعلمون ذلك"(12).
(1) ديوانه 441، من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال:
وشعر قد أرقت له غريب
…
أجنبه المساند والمحالا
غرائب قد عرفن بكل أفق
…
من الآفاق تفتعل افتعالا
فبت أقيمه، وأقد منه
…
قوافي لا أعد لها مثالا
غرائب قد عرفن بكل أفق
…
من الآفاق تفتعل افتعالا
(2)
النكت والعيون: 1/ 298.
(3)
تفسير الإمام الشافعي: 1/ 379.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 27.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 29.
(8)
تفسير الثعلبي: 2/ 180.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 133.
(10)
معاني القرآن: 1/ 311.
(11)
تفسير البيضاوي: 1/ 144.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 137.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أنه لا يحل عقد النكاح قبل انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: {فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} ؛ فإن النكاح في العدة باطل إلا ممن كانت العدة له إذا لم يكن طلاقه بينونة كبرى.
2 -
ومنها: تحريم منع الولي موليته أن تنكح من رضيته؛ لقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} .
3 -
ومنها: أن النكاح لا بد فيه من ولي؛ وأن المرأة لا تزوج نفسها؛ وجه ذلك أنه لو كانت تملك العقد لنفسها ما كان للعضل تأثير؛ فلولا أن عضلهم مؤثر ما قال الله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ؛ لأنهم لو عضلوا، ولم يكن الولي شرطاً لزوجن أنفسهن؛ وربما ينازع منازع في دلالتها على ذلك؛ لأنه قد يقول: إن الله نهى عن منعهن؛ والإنسان قد يمنع بحسب العادة، أو العرف ابنته، أو موليته من أن تنكح زوجاً - وإن كان يمكنها أن تتزوج هي بنفسها -؛ لأنها لا تريد أن تخالفهم مخافة المعرة، واللوم من الناس؛ بمعنى أن الآية ليست صريحة واضحة في أنه لا يمكن النكاح إلا بولي؛ لأنه ممكن أن يكون لها حق تزويج نفسها لكن يمنعها أبوها، ويقول: إذا زوجتِ نفسك قاطعتك، أو هجرتك؛ وعلى فرض أنها لا تدل على ذلك فهناك أدلة أخرى تدل على اشتراط الولي، مثل قوله تعالى:{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلا بولي» (1).
4 -
ومن فوائد الآية: إطلاق الشيء على ما مضى، أو ما يستقبل مع أنه في الحال لا يتصف به؛ وذلك قوله تعالى:{أن ينكحن أزواجهن} ؛ لأنه إذا كان المراد من طلقت، ثم أراد زوجها أن يعود إليها، فهم أزواجهن باعتبار ما مضى؛ وإن كان المراد الخطّاب الذين يخطبونهن بعد انقضاء العدة فهم أزواجهن باعتبار المستقبل؛ وقد جاء التعبير عن الماضي، والمستقبل في القرآن، كقوله تعالى:{وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] مع أنهم حين إتيان المال قد بلغوا؛ فهذا تعبير عن الماضي؛ وقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] وهو لا يعصر الخمر؛ ولكن يعصر عنباً يكون خمراً؛ فهذا تعبير عن المستقبل.
5 -
ومن فوائد الآية: اعتبار الرضا في عقد النكاح سواء كان من الزوج، أو من الزوجة؛ لقوله تعالى:{إذا تراضوا بينهم بالمعروف} ؛ فالرضا شرط لصحة النكاح سواء أكانت المرأة بكراً، أم ثيباً؛ وسواء أكان الولي أباها، أم غيره - على القول الراجح -؛ وأنه ليس للأب، ولا لغيره أن يجبر المرأة على النكاح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تنكح الأيم حتى تستأمر؛ ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: كيف إذنها يا رسول الله؟ قال: أن تسكت» (2)؛ وورد في صحيح مسلم: «البكر يستأذنها أبوها» (3)؛ وهذا صريح في أنه لا يحل لأحد أن يزوج ابنته وهي كارهة؛ بل لا بد من رضاها؛ والمعنى يقتضيه أيضاً؛ لأنه إذا كان الأب لا يملك أن يبيع شيئاً من مالها إلا برضاها، فكيف يملك أن يزوجها بدون رضاها؟ ! فلو أن رجلاً أكره ابنته أن تشتري هذا البيت فالعقد غير صحيح مع أنه بإمكانها إذا اشترت البيت وهي كارهة أن تبيعه بعد يوم، أو
(1) أخرجه أحمد 4/ 394، حديث رقم 19747، وأخرجه أبو داود ص 1376، كتاب النكاح، باب 18: في الولي، حديث رقم 2085، وأخرجه الترمذي ص 1757، كتاب النكاح، باب 14: ما جاء لا نكاح إلا بولي، حديث رقم 1101، وأخرجه ابن ماجة ص 2589، كتاب النكاح، باب 15: لا نكاح إلا بولي، حديث رقم 1881؛ كما أخرجه الحاكم في مستدركه 2/ 169 - 170) وأقره الذهبي على تصحيحه؛ وقال الألباني في الإرواء 6/ 235: صحيح.
(2)
أخرجه البخاري ص 444، كتاب النكاح، باب 42: لا ينكح الأب وغيره البكر
…
، حديث رقم 5136؛ وأخرجه مسلم ص 914، كتاب النكاح، باب 9: استئذان الثيب
…
، حديث رقم 3473 [64]1419.
(3)
أخرجه مسلم ص 914، كتاب النكاح، باب 9: استئذان الثيب
…
، حديث رقم 3477 [67]1421.
يومين؛ فكيف يملك أن يكرهها على أن تتزوج برجل لا تريده؟ ! فالشريعة جاءت من لدن حكيم خبير؛ فالصواب بلا شك أنه لا يحل للإنسان أن يجبر ابنته على نكاح من لا تريد مهما كان؛ لكن إذا أرادت إنساناً ليس مرضياً في دينه، وخلقه فللولي أن يأبى - ولو بقيت لا تتزوج طوال عمرها -؛ فليس عليه شيء؛ لأنه مأمور بذلك؛ وما يترتب على المأمور فغير محظور؛ فإن قيل: يرد على ذلك تزويج أبي بكر عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين؟
فالجواب: أن يقال: لن يرد مثل هذه الصورة؛ لأننا نعلم علم اليقين أن عائشة سترضى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تبغي به بديلاً؛ ولذلك لما أمره الله عز وجل أن يخير نساءه فبدأ بها رضي الله عنها، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك؛ قالت: يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبوي؟ ! إنني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» (1)؛ وعلى هذا لا يتم الاستدلال بها على تزويج المرأة بغير إذنها.
6 -
ومن فوائد الآية: أن المرأة لو رضيت الزوج على وجه غير معروف - بل على وجه منكر لا يقره الشرع - فإنها لا تمكن من ذلك؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} ؛ فلو أن المرأة رضيت هذا الخاطب لفسقه، وانسلاخه من الدين - وإن لم يصل إلى حد الكفر - فلوليها أن يمنعها؛ لقوله تعالى:{إذا تراضوا بينهم بالمعروف} .
7 -
ومنها: إثبات اليوم الآخر - وهو يوم القيامة -؛ لقوله تعالى: {من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما ذكر في ذلك اليوم من البعث، والحساب، والصراط، ودنوّ الشمس، والعرق، وغير ذلك مما ذكر في الكتاب والسنة مجملاً أحياناً، ومفصلاً أحياناً؛ بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: يدخل فيه الإيمان بكل ما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وغير ذلك.
8 -
ومنها: أن الاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله تعالى: {ذلكم أزكى لكم} ؛ فهو ينمي النفس، وينمي الإيمان، وينمي الأخلاق، وينمي الآداب؛ فكلما كان الإنسان أشد تطبيقاً لأحكام الله كان ذلك أزكى له.
9 -
ومنها: أن تطبيق الأحكام أطهر للإنسان؛ يعني أطهر للقلب؛ لأن الأعمال الصالحة تطهر القلب من أرجاس المعاصي؛ ولذلك تجد عند الإنسان المؤمن من الحيوية، والنشاط، والسرور، والفرح ما ليس عند غيره؛ ويعرف ذلك في وجهه؛ فالإنسان صاحب المعاصي مظلم الوجه كاسف البال؛ ولو فرح بما فرح من زهرة الدنيا فهو فرح خاسر؛ لكن المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام، وامتلأ قلبه بنور الله وهدايته، ليس كذلك؛ وأسعد الناس في الدنيا أطهرهم قلباً.
10 -
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى نقص الإنسان في علمه؛ لقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فنفى عن الإنسان العلم - والمراد نفي كماله؛ لأن الإنسان له علم، كما قال الله تعالى:{فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10]، وقال تعالى:{فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33] لكن لنقصان علمه نفى الله عنه العلم؛ وهنا قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ؛ فإذا كان الله يعلم، ونحن لا نعلم فإن مقتضى ذلك أن نستسلم غاية الاستسلام لأحكامه سبحانه وتعالى، وأن لا نعارضها بعقولنا مهما كانت؛ ولهذا ينعى الله عز وجل على الكفار والمشركين عدم العقل؛ وكل ما خالف الشرع فليس بعقل.
القرآن
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
(1) أخرجه البخاري ص 194، كتاب المظالم، باب 25: الغرفة والعلية المشرفة
…
، حديث رقم 2468؛ وأخرجه مسلم ص 939، كتاب الطلاق، باب 4: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية، حديث رقم 3681 [22]1475.
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]
التفسير:
وعلى الوالدات إرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين لمن أراد إتمام الرضاعة، ويجب على الآباء أن يكفُلوا للمرضعات المطلقات طعامهن وكسوتهن، على الوجه المستحسن شرعًا وعرفًا؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا قدر طاقتها، ولا يحل للوالدين أن يجعلوا المولود وسيلة للمضارة بينهما، ويجب على الوارث عند موت الوالد مثل ما يجب على الوالد قبل موته من النفقة والكسوة. فإن أراد الوالدان فطام المولود قبل انتهاء السنتين فلا حرج عليهما إذا تراضيا وتشاورا في ذلك؛ ليصلا إلى ما فيه مصلحة المولود. وإن اتفق الوالدان على إرضاع المولود من مرضعة أخرى غير والدته فلا حرج عليهما، إذا سلَّم الوالد للأم حقَّها، وسلَّم للمرضعة أجرها بما يتعارفه الناس. وخافوا الله في جميع أحوالكم، واعلموا أن الله بما تعملون بصير، وسيجازيكم على ذلك.
قال الشوكاني: "لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الرضاع لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد ولهذا قيل إن هذا خاص بالمطلقات وقيل هو عام"(1).
قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ} [البقرة: 233]، أي:"واللاتي ولدن من المطلقات"(2).
قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، " أي: على جميع الوالدات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما" (3).
قال القاسمي: أي: "أنهن أحق برضاعهم من غيرهم"(4).
قال السدي: " فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها"(5)، وروي ونحوه عن الضحاك (6).
قال الصابوني: "أي الواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهن"(7).
قال الطبري: " وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له ولد، حيا موسرا، لأن الله تعالى ذكره قال في " سورة النساء القصرى " {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [سورة الطلاق: 6]، فأخبر تعالى ذكره: أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها"(8).
و(الأولاد) يشمل الذكور، والإناث، كما في قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]؛ والجملة خبرية بمعنى الأمر؛ وإتيان الأمر بصيغة الخبر أبلغ من الأمر المحض؛ كأنه حين يأتي بصيغة الخبر أمر مستقر يتحدث عنه (9)، وقيل "هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله {يتربصن} "(10).
(1) فتح القدير: 1/ 244. وانظر: تفسير القرطبي: 3/ 160.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(3)
تفسير المراغي: 2/ 185.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 31.
(5)
تفسير الطبري (4967): ص 5/ 38 ..
(6)
انظر: تفسير الطبري (4968): ص 5/ 38 - 39.
(7)
صفوة التفاسير: 1/! 35.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 31.
(9)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 143.
(10)
فتح القدير: 1/ 244.
قال الراغب: " وذكر جماعة من الفقهاء أن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} أمر وإن كان لفظه خبراً، لأنه لو كان خبراً لم يقع مخبره بخلافه، وهذه قضية إنما تصح في كل خبر لفظه لا يحتمل التخصيص، فأما إذا كان عاما يمكن أن يخصص على وجه يخرج من كونه كذباً، فادعاء ذلك فيه ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن ذلك فيه، ثم ذلك لو كان أمرا لكان أمراً للوالدات، وقد علم أن الأم وإن لم تكن مكلفة فهي أحق برضاعها، فإن قيل: فإذا لم يكن أمرا فما وجهه؟
قيل أخبر الله تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا قال عليه السلام: في الأمر إنها أحق بالولد ما لم تتزوج" (1).
ثم أكد الله هذين الحولين بقوله تعالى: {كاملين} أي بدون نقص (2).
قال الطبري: "وإنما ذكر {كاملين}، لأنه قد يقال: فلان فعل كذا سنتين " وإن كان ذلك في سنة وبعض الأخرى، وكذا يقال: شهرين ويومين، فأريد إزالة هذه الشبهة، وقال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين وقال في موضع: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، نبه على أن الولد قد يولد لستة أشهر، وفيه تنبيه على لطيفة، وهو أن الولد متى كان زمان حمله وفاصله أقل ثلاثين شهرا أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين، وجعل ابن عباس ذلك حكما شرعياً، وقال: يجب أن يكون الحمل والرضاع هذا القدر" (3).
والحول السنة، قاله مجاهد (4)، وفي أصله قولان (5):
أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم: حال الشيء إذا انقلب عن الوقت الأول ومنه قيل: تحول فلان من مكان كذا، إذا انتقل عنه.
والثاني: أنه مأخوذ من التحول عن المكان، وهو الانتقال منه إلى المكان الأول.
قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، " أي: إِذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ولا زيادة عليه" (6).
قال الراغب: "أي: هذا التوقيت ليس بفرض، لكن لمن أراد إتمام الرضاعة، وفيه تنبيه أنه لا وفيه تنبيه أنه لا يجوز تجاوز ذلك وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ويقويه ما روي جابر أنه قال عليه السلام: " لا رضاع بعد حولين كاملين" (7)(8).
قال ابن عثيمين: لمن أراد" أن يأتي بها على وجه التمام؛ فإنها لا تنقص عن حولين"(9).
واختلف أهل التفسير فيما دلت عليه هذه الآية من رضاع حولين كاملين، على قولين (10):
أحدهما: أن ذلك في التي تضع لستة أشهر فإن وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرين شهراً، استكمالاً لثلاثين شهراً، لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15]، وهذا قول ابن عباس (11).
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 481.
(2)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 143.
(3)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 481.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4948): ص 5/ 31.
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 32 والنكت والعيون: 1/ 299.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 135.
(7)
سنن الدارقطني: (4283) /9: ص 3/ 408. من حديث ابن عباس.
(8)
1 تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 481 - 482.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 143.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 33 - 38، والنكث والعيون: 1/ 299 - 300.
(11)
انظر: تفسير الطبري (4950) - (4952): ص 5/ 34.
والثاني: أن ذلك أمر برضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه أن يرضع حولين كاملين، وهذا قول عطاء (1)، والثوري (2)، وأحد قولي ابن عباس (3).
والثالث: أن المراد: أنه لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين. قاله عبدالله ابن مسعود (4)، وابن عمر، (5) وابن عباس (6)، والعلقمة (7)، والشعبي (8).
والرابع: أن في قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} ، دلالة من الله تعالى ذكره عباده، على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله:{لمن أراد أن يتم الرضاعة} ، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود. قاله قتادة (9)، والربيع (10).
والراجح هو القول الثاني، أما "الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه، وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة" (11).
وفي قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، قراءتان (12):
إحداهما: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، بـ (الياء) في قوله {يتم} ، ونصب رالرضاعة}، بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده. وهي قراءة عامة أهل المدينة والعراق والشام.
والثانية: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تُتِمَّ الرَّضَاعَةُ} ، بـ (التاء) في (تتم)، ورفع {الرضاعة} بصفتها. وهي قراءة بعض أهل الحجاز.
والصواب هو قراءة من قرأ ب ـ (الياء) في (يتم) ونصب {الرضاعة} ، "لأن الله تعالى ذكره قال:" والوالدات يرضعن أولادهن "، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها وأنها القراءة التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى" (13).
قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233]، " أي: على والد الطفل نفقة أمّه المطلقة مدّة الإرضاع" (14).
قال القاسمي: " أي: طعامهنّ ولباسهنّ"(15).
قال سفيان: "على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف"(16). وروي نحوه عن الربيع (17).
(1) انظر: تفسير الطبري (4954): ص 5/ 35.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4955): ص 5/ 35.
(3)
انظر: تفسير الطبري (4953): ص 5/ 35.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4953): ص 5/ 35.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4956): ص 5/ 36.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4956): ص 5/ 36.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4959): ص 5/ 36.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4960): ص 5/ 36.
(9)
انظر: تفسير الطبري (4965): ص 5/ 38.
(10)
انظر: تفسير الطبري (4966): ص 5/ 38.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 39.
(12)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 42 - 43.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 43.
(14)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(15)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(16)
تفسير الطبري (4971): ص 5/ 44.
(17)
انظر: تفسير الطبري (4972): ص 5/ 44.
قال القرطبي: " في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط"(1).
قال الطبري: " ويعني بـ (الرزق): ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم، و {كسوتهن}، ويعني: بـ (الكسوة): الملبس"(2).
قال ابن عاشور: " والمراد بالرزق والكسوة هنا ما تأخذه المرضع أجرا عن إرضاعها، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة، وكذلك غالب إجاراتهم إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة، بل كانوا يتعاملون بالأشياء، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم، وهي الطعام والكسوة، ولذلك أحال الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم، وعقبه بقوله: لا تكلف نفس إلا وسعها"(3).
ثم ذكر أهل العلم في قوله: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] وجهين (4):
أحدهما: أن ذلك في الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها فلها رزقها من الغذاء، وكسوتها من اللباس، ومعنى بالمعروف أجرة المثل، وهذا قول الضحاك (5).
والثاني: أنه يعني به الأم ذات النكاح، لها نفقتها وكسوتها بالمعروف في مثلها، على مثله من يسار، وإعسار.
قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، أي "بما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب"(6).
قال القاسمي: " وهو قدر الميسرة كما فسّره قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها}، يعني طاقتها"(7).
قال الضحاك: "إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا نكلف نفسا إلا وسعها"(8).
قال الطبري: " فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [سورة الطلاق: 7] "(9).
قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، " أي: لا تلزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهى إلى الضيق" (10).
قال الطبري: "لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت"(11).
قال سعيد بن جبير: "يقول لا يكلف الله نفسا في نفقة المراضع إلا ما أطاقت"(12). وروي عن أبي مالك وقتادة، ومقاتل بن حيان والثوري، نحو ذلك (13).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 160.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 43 - 44.
(3)
التحرير والتنوير: 2/ 432.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 300.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4979): ص 5/ 44.
(6)
التحرير والتنوير: 2/ 432.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(8)
تفسير الطبري (4970): ص 5/ 44.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 44.
(10)
تفسير المراغي: 1/ 430.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 45.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2276): ص 2/ 430.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 430.
قال سفيان: " إلا ما أطاقت"(1).
قال النسفي: أي: "وجدها أو قدر إمكانها"(2).
قال الصابوني: " أي تكون النفقة بقدر الطاقة لأنه تعالى لا يكلّف نفساً إِلا وسعها"(3).
قال البيضاوي: " تعليل لإيجاب المؤمن والتقييد بالمعروف، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه"(4).
قال الشوكاني: " أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه وقيل المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الاجرة ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد"(5).
قال ابن عثيمين: "التكليف معناه إلزام ما فيه مشقة؛ أي لا يلزم الله عز وجل نفساً إلا ما تقدر عليه"(6)، والوسع، بتثليث الواو: الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة .. فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوى، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلا عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة (7).
قال القاسمي: " والمعنى: أنّ أبا الولد لا يكلّف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته، ولا يبلغ إسراف القدرة"(8).
قال صاحب الكشاف: " وقرئ (لا تكلف) بفتح التاء و (لا نكلف) بالنون"(9).
قوله تعالى: {لا تُضَار وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، " أي لا تمتنع الأم من إرضاعه إضراراً بالأب، ولا ينزع الأب الولد من أمه إضراراً بها"(10).
قال البيضاوي: أي: لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه، ولا يضاره بسبب الولد" (11).
قال الثعلبي: " فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي، ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك"(12).
قال القاسمي: " أي: يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له، ولا الأب بطرح الولد عليه"(13).
قال الصابوني: " أي: لا يضرَّ الوالدان بالولد فيفرِّطا في تعهده ويقصّرا في ما ينبغي له، أو يضارَّ أحدهما الآخر بسبب الولد فترفض الأم إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، وينتزع الأب الولد منها إِضراراً بها مع رغبتها في إِرضاعه ليغيط أحدهما صاحبه"(14).
(1) تفسير الطبري (4973): ص 5/ 45.
(2)
تفسير النسفي: 1/ 125.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 135.
(4)
تفسير البيضاوي: 1/ 144.
(5)
فتح القدير: 1/ 245.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 144.
(7)
انظر: التحرير والتنوير: 2/ 432 - 433.
(8)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(9)
تفسير الكشاف: 1/ 279.
(10)
النكت والعيون: 300.
(11)
تفسير البيضاوي: 1/ 144.
(12)
تفسير الثعلبي: 2/ 182.
(13)
محاسن التأويل: 2/ 154.
(14)
صفوة التفاسير: 1/ 135 - 136.
قال الزمخشري: أي: "لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبى: اطلب له ظئراً، وما أشبه ذلك ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد: ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أى لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد"(1).
وقد اختلفت القراءة في قوله تعالى {لا تُضَارَّ} [البقرة: 233]، على وجوه (2):
أحدها: {لا تُضَارُّ} ، بالرفع على الإخبار، قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، وتضارر بفتحها.
والثاني: رلا تُضَارَّ}، بالفتح. قراءة الجمهور.
والثالث: {لا تُضَارِّ} ، بالكسر على النهى، قرأ بها الحسن،
قال الرازي: "وهو جائز في اللغة"(3)، وهو محتمل للبناءين أيضاً.
ويبين ذلك أنه قرئ {لا تضارَرْ} ، و {لا تضارِرْ} ، بالجزم وفتح (الراء) الأولى وكسرها.
والرابع: {لا تضارّْ} ، بالسكون مع التشديد على نية الوقف. قراءة أبي جعفر.
والخامس: (لا تضارْ) بالسكون والتخفيف، قرأ بها الأعرج، وهو من ضاره يصيره. ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا.
والسادس: وعن كاتب عمر بن الخطاب: {لا تضرر} .
قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، " أي وعلى الوارث مثلُ ما على والد الطفل من الإِنفاق على الأم والقيام بحقوقها وعدم الإِضرار بها"(4).
واختلف أهل التفسير في {الْوَارِثِ} الذي عناه الله تعالى، فذكروا فيه وجوها (5):
أحدها: أن الوارث هو المولود نفسه، وهذا قول قبيصة بن ذؤيب (6)(7)، وبشير بن نصر المزني (8)، والضحاك (9).
ومعنى الآية على هذا الوجه: وعلى الوارث المولود، مثل ما كان على المولود له.
والثاني: أنه الباقي من والدي بعد وفاة الآخر منهما، وهو قول سفيان (10).
والثالث: أنه وارث الولد، وهذا قول الحسن (11)، والسدي (12)، وقتادة (13).
(1) تفسير الكشاف: 1/ 280.
(2)
انظر: السبعة: 183، وتفسير الكشاف: 1/ 279 - 280.
(3)
مفاتيح الغيب: 6/ 104.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 54 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 299، ومفاتيح الغيب: 6/ 104 - 105.
(6)
هو: أبو سعيد قبيصة بن ذؤيب بن حَلْحَلَة الخزاعي المدني الوزير من أولاد الصحابة، له رؤية، إمام كبير، فقيه محدث، توفي عام: 86 هـ، وقيل: بعدها. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 282، الإصابة لابن حجر: 3/ 254، تهذيب التهذيب لابن حجر: 3/ 154، طبقات الحفاظ للسيوطي:21.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5006): ص 5/ 59.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5005): ص 5/ 58.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5008): ص 5/ 58.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5009): ص 5/ 59 - 60.
(11)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2290): ص 2/ 433.
(12)
انظر: تفسير الطبري (4987): ص 5/ 54 - 55.
(13)
انظر: تفسير الطبري (4986): ص 5/ 54.
ومعنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان أبوه ميتا، مثل الذي كان على أبيه في حياته.
واعترض عليه ابن حجر قائلا: " وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فلما وجب على الأب الإِنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي، فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما يغذيه بالرضاع مادام صغيراً، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإِنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم (1).
ثم اختلف قائلوا هذه المقالة (2) في وارث المولود، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف، فذكروا أربعة أقاويل (3):
أحدها: أن وارثه من عصبته إذا كان أبوه ميتاً سواء كان عماً أو أخاً أو ابن أخ أو ابن عم دون النساء من الورثة، وهذا قول عمر بن الخطاب (4)، ومجاهد (5)، والحسن (6)، وعبدالله بن عتبة (7)، وإبراهيم (8)، وعطاء (9)، والضحاك (10).
والثاني: أن ورثته من الرجال والنساء، وهو قول قتادة (11)، وأحمد وإسحاق (12).
والثالث: أنهم مِنْ ورثته من كان منهم ذا رحم محرم (13)، كابن العم والمولى ومن أشبههما، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه (14).
(1) استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين-كما أفاد ذلك الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: 2/ 429 - إذ تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات فاحتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحدٍ من هؤلاء، والعلماء لم يَدَعُوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم. انظر: مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 131، ولذا وصلت الأقوال في قول الله تعالى:(وَعَلَى الْوَارِثْ) إلى عشرة كما في البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 217، وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 63 - 69، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 168 - 171، فتح القدير للشوكاني: 1/ 365 - 366. والأظهر-والله أعلم-أن المراد بالوارث: وارث الأب؛ لأنه الوارث على الحقيقة، أما وارث الصبي أو الوالدة فليسا بوارثين إلا على سبيل المجاز، لأن الصبي والوالدة حيين وحمل الكلام على الحقيقة أولى. والأظهر أيضاً-والله أعلم-أنها تجب على كل وارث على مقدار إرثه سواء أكان إرثه بفرض أم تعصيب أم برحم، للعموم في الآية وعدم التقييد فيها بمحرم أو بغير محرم، وأيضاً ليكون الغرم بمقدار الغنم. وهذا القول هو اختيار ابن أبي ليلى وابن تيمية ود. زيدان، ولكن ينبغي أن يكون هذا الوجوب بشروط أهمها: أن يكون المنفق عليه معسراً غير قادر على الكسب حقيقة أو حكماً، وأن يكون من تجب عليه النفقة واجداً لنفقة نفسه ومن هو أقرب إليه منه. انظر: المبسوط للسرخسي: 5/ 223، كشاف القناع للبهوتي: 3/ 314، فتح القدير للشوكاني: 1/ 366، المفصل في أحكام المرأة لـ د. عبد الكريم زيدان: 10/ 199 - 206.
(2)
وهو قول: قول الحسن، والسدي، وقتادة.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 55 - 65.
(4)
انظر: تفسير الطبري (4989): ص 5/ 55.
(5)
انظر: تفسير الطبري (4997) - (4999): ص 5/ 55.
(6)
انظر: تفسير الطبري (4990): ص 5/ 55.
(7)
انظر: تفسير الطبري (4995): ص 5/ 56.
(8)
انظر: تفسير الطبري (4996): ص 5/ 56.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5000): ص 5/ 57.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5001): ص 5/ 57.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5002): ص 5/ 57 - 58.
(12)
انظر: الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 117 أ، البسيط للواحدي: 1/ 143 أ. زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 272، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 168.
(13)
المقصود بـ (ذي رحم محرم): من لا يحل النكاح فيما بينه وبين من تجمعهما هذه القرابة المحرمية كالأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولابد أن تكون المحرمية بجهة القرابة، فإن لم تكن بجهة القرابة كما لو كانت بجهة الرضاع كالأخ من الرضاع، فلا نفقة له. انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 627، المفصل في أحكام المرأة لعبد الكريم زيدان: 10/ 198.
(14)
نظر قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في: جامع البيان للطبري: 5/ 58، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 117 ب، البسيط للواحدي: 1/ 143 أ، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 131، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 217، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 555، المبسوط للسرخسي: 5/ 223 - 224، حاشية ابن عابدين: 3/ 627، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 273، معاني القرآن للنحاس: 1/ 220، فتح القدير لابن الهمام: 4/ 419، الإفصاح لابن هبيرة: 2/ 183، تبيين الحقائق للزيلعي: 3/ 64، الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 66 - 67، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 168، روح المعاني للألوسي: 2/ 147، وغيرها.
اعترض علي هذا القول ابن حجر، قائلا:"وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته، ولا تجب على العم لابن أخيه (1)، وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس، قاله إسماعيل القاضي (2) (3) "(4).
والثالث: أنهم الأجداد ثم الأمهات، وهذا قول الشافعي.
والراجح هو القول الأول، وهو قول قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن قال بقولهم، من أنه معني بالوارث: المولود وفي قوله: {مثل ذلك} ، أن يكون معنيا به: مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت من أهل الحاجة، ومن هي ذات زمانة وعاهة، ومن لا احتراف فيها، ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه (5)(6).
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، على أقوال (7):
(1) الأظهر أن الجملة: ولا تجب على ابن العم لابن عمه، أي: الوارث؛ لأن العم ذو رحم محرم لابن أخيه. انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 68 - 69، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 212، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 168، حاشية ابن عابدين: 3/ 627.
(2)
هو: أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي مولاهم البصري الجهضمي المالكي، قاضي بغداد، شيخ الإسلام، إمام حافظ، فقيه مفسر، كان شديداً على أهل البدع، توفي عام: 282 هـ، له تصانيف شهيرة منها: أحكام القرآن لم يسبق إلى مثله، ومعاني القرآن وإعرابه، وكتاب في القراءات. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 339، طبقات المفسرين للداودي: 1/ 106، طبقات المفسرين للأدنه وي:41.
(3)
في كتابه معاني القرآن، كما أفاد ذلك القرطبي في تفسيره: 3/ 168، ونقْل الحافظ عنه هنا بتصرف.
(4)
الفتح: 9/ 425.
(5)
وهو اختيار الطبري، انظر: تفسير الطبري: 5/ 65 - 66. وعلّل اختياره بقوله: " وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا، وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: " وعلى الوارث مثل ذلك "، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا ذكرها وكان الجميع من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه، وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه، في حكمه، في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني حكمه، وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا - من أنه معني به ورثة المولود - فبطول القول الآخر وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه، فالذي هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه".
(6)
قال ابن حجر: "وسبب الاختلاف: حمل المثلية في قوله: (مِثلُ ذَلِك) على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإِرضاع والإِنفاق والكسوة وعدم الإِضرار، قال ابن العربي: "قالت طائفة: لا يرجع الجميع بل إلى الأخير وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل؛ لأن الإِشارة بالإِفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإِضرار فرجح الحمل عليه". [أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 205 والنقل عنه بتصرف، وقد صحح هذا القول القرطبي في تفسيره: 3/ 170 وتعقبه الشوكاني في فتح القدير: 1/ 366 فقال: "
…
فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه"].
وبن العربي: هو: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، إمام حافظ، فقيه مفسر، توفي عام: 543 هـ. له تصانيف بديعة منها: أحكام القرآن وعارضة الأحوذي وقانون التأويل وغيرها. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/ 197، الصلة لابن بشكوال: 2/ 590، طبقات المفسرين للداودي: 2/ 162، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف: 1/ 136.
() أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 205 والنقل عنه بتصرف، وقد صحح هذا القول القرطبي في تفسيره: 3/ 170 وتعقبه الشوكاني في فتح القدير: 1/ 366 فقال: (
…
فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه).
(7)
اظر: تفسير الطبري: 5/ 60 - 66.
أحدها: أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته، وهو قول الحسن (1)، وابن عباس (2)، وقتادة (3)، وإبراهيم (4)، وعبدالله بن عتبة (5)، والشعبي (6)، ومجاهد (7).
والثاني: أن على الوارث مثل ذلك في ألَاّ تضار والدة بولدها، وهذا قول ابن عباس (8)، والشعبي (9) والضحاك (10)، والزهري (11)، ومجاهد (12) والجمهور (13).
الثالث: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، مثل الذي كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف. قاله الضحاك (14)، والسدي (15) وآخرون (16).
الرابع: أن معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره. وهو قول عطاء (17).
قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} [البقرة: 233]، أي:"فإن أراد والد المولود ووالدته فصال ولدهما من اللبن"(18).
قال السدي: " يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين"(19)، وروي ونحوه عن ابن عباس (20)، والضحاك (21).
قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233]، أي:"بتراضي الأب والأم وبمشاورتهما"(22).
(1) انظر: تفسير الطبري (5024): ص 5/ 62.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5029): ص 5/ 62 - 63.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5030): ص 5/ 63.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5010) - (5013): ص 5/ 60.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5014): ص 5/ 61.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5019): ص 5/ 61
(7)
انظر: تفسير الطبري (5026): ص 5/ 62.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5033): ص 5/ 63، وتفسير ابن أبي حاتم (2291): ص 2/ 433، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 478، المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 167، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 273، معاني القرآن للنحاس: 1/ 218، الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 64، وأورده السيوطي في الدر المنثور: 1/ 514 وزاد نسبته لابن المنذر.
(9)
تفسير الطبري (5034): ص 5/ 63، وتفسير ابن أبي حاتم (2291): ص 2/ 433، والكشف والبيان للثعلبي: 1/ 118 أ، البسيط للواحدي: 1/ 143 أ، معاني القرآن للنحاس: 1/ 218، الناسخ والمنسوخ له أيضاً: 2/ 64، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 273، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 352، وغيرهم.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5033): ص 5/ 63
(11)
انظر: تفسير الطبري (5036): ص 5/ 64
(12)
انظر: تفسير الطبري (5035): ص 5/ 63، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 478، وتفسير وتفسير ابن أبي حاتم (2291): ص 2/ 433، والناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 64، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 352، وغيرهم.
(13)
هو أيضاً قول الزهري والضحاك، واختيار الزجاج وابن العربي والقرطبي، ونسبه ابن عطية لمالك وجميع أصحابه وجماعة من العلماء. انظر: المدونة لسحنون: 2/ 266، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 313، معاني القرآن للنحاس: 1/ 218، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 118 أ، جامع البيان للطبري: 5/ 63 - 64 رقم: 5033 - 5036، النكت والعيون للماوردي: 1/ 301، المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 167، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 273، البسيط للوا حدي: 1/ 143 أ، أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 205، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 212، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 170، وغيرها.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5038): ص 5/ 64
(15)
انظر: تفسير الطبري (5039): ص 4/ 64 - 65.
(16)
انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 61 - 63، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 798 - 800، معاني القرآن للنحاس: 1/ 218، المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 166 - 167، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 117 ب و 118 أ، فتح القدير للشوكاني: 1/ 365، وغيرها.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5040): ص 5/ 65.
(18)
تفسير الطبري: 5/ 67.
(19)
تفسير الطبري (5041): ص 5/ 67.
(20)
انظر: تفسير الطبري (5042): ص 5/ 67.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5043): ص 5/ 67.
(22)
محاسن التأويل: 2/ 155.
قال مجاهد: "غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما {فلا جناح عليهما} "(1).
قال الطبري: "عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه"(2).
قال الشوكاني: " أي صادرا عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين"(3).
قال الصابوني: " أي فإِذا اتفق الوالدان على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له بعد التشاور"(4).
قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} [البقرة: 233]، أي:" فلا إِثم عليهما"(5)، "إن لم يرضعا ولدهما سنتين"(6).
قال الماوردي: " والفصال: الفصام، سمي فصالاً لانفصال المولود عن ثدي أمه، من قولهم قد فاصل فلان فلاناً إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. والتشاور: استخراج الرأي بالمشاورة (7).
وفي زمان هذا الفِصال عن تراض قولان (8):
أحدهما: أنه قبل الحولين إذا تراضى الوالدان بفطام المولود فيه جاز، وإن رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجز، وهذا قول مجاهد (9)، وقتادة (10)، والزهري (11)، والسدي (12)، وسفيان (13) وابن زيد (14).
والقول الثاني: أنه قبل الحولين وبعده، وهذا قول ابن عباس (15).
والراجح هو القول الأول، يعني: فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته. وهو اختيار الإام الطبري (16).
قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُم} [البقرة: 233]، " أي: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات" (17).
قال مجاهد: خيفة الضيعة على الصبي" (18).
(1) تفسير الطبري (5053): ص 5/ 69 - 70.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 69.
(3)
فتح القدير: 1/ 246.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 155.
(7)
النكت والعيون: 1/ 301.
(8)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 67 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 301.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5046): ص 5/ 68.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5045): ص 5/ 68.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5049): ص 5/ 68.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5044): ص 5/ 68.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5050): ص 5/ 68.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5051): ص 5/ 68.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5052): ص 5/ 69.
(16)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 70. وقال بعد ترجيحه القول الأول: "فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج، كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع، فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء آخر مدته، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل".
(17)
تفسير المراغي: 1/ 432.
(18)
تفسير الطبري (5056): ص 5/ 71.
قال السدي: " إن قالت المرأة: " لا طاقة لي به فقد ذهب لبني " فتُسترْضَع له أخرى"(1).
قال القاسمي: " يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج"(2).
قال البغوي: أي: إذا اردتم ان تسترضعوا" لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم يرضعنهم أو تعذر لعلة بهن، أي: انقطاع لبن أو أردن النكاح"(3).
قال الشنقيطي: " ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك إذا سلم الأجرة المعينة في العقد ولم يبين هنا الوجه الموجب لذلك ولكنه بينه في سورة (الطلاق) بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} ل [الطلاق: 6] والمراد بتعاسرهم: امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما يبذله الرجل ويرضى به"(4).
قال الشوكاني: " قال الزجاج التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة وعن سبيويه أنه حذف اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين والمفعول الأول محذوف والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم"(5).
قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ} [البقرة: 233]، يعني:"فلا إثم عليكم شريطة أن تدفعوا لها ما اتفقتم عليه من الأجر"(6).
قال الطبري: "الجناح: فالحرج"(7)، وأخرج بسنده عن ابن عباس:" {فلا جناح عليهما}، فلا حرج عليهما"(8).
قال القاسمي: يعني إذا" سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور. والمقصود ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع حتى يؤمن من تفريطهنّ بمصالح الرضيع، والمقصود ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع حتى يؤمن من تفريطهنّ بمصالح الرضيع"(9).
وقوله تعالى {ما آتيتم} بالمد، أي: أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر أي: فعلتم، ومنه قول زهير (10):
وما كان من خير أتوه فإنما
…
توارثه آباء آبائهم قبل (11)
وفي قوله تعالى: {إذا سَلَّمْتُم مَّا آتَيتُم بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، للعلماء فيه ثلاثة تأويلات (12):
أحدها: إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل امتناعهن، وهذا قول مجاهد (13)، والسدي (14)، ونقله الربيع عن عطاء (15).
(1) تفسير الطبري (5059): ص 5/ 72.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 155.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 279.
(4)
أضواء البيان: 1/ 149 - 150.
(5)
فتح القدير: 1/ 246.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 70.
(8)
تفسير الطبري (5055): ص 5/ 71.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 155.
(10)
ديوانه: 115، وانظر: فتح القدير: 1/ 246، والحجة للقراء السبعة: 2/ 335، والبحر المحيط: 2/ 218.
(11)
انظر: فتح القدير: 1/ 246.
(12)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 72 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 301.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5063): ص 5/ 73.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5065): ص 5/ 73.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5066): ص 5/ 73.
والثاني: إذا سلّمتم الأولاد عن مشورة أمهاتهم إلى من يتراضى به الوالدان في إرضاعه، وهذا قول قتادة (1)، والزهري (2) والربيع (3).
والثالث: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف. قاله سفيان (4).
والراجح من التفسير هو "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، ولم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف، يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم، وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع، ووقت عقد الإجارة.
وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك" (5).
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 233]، أي:"اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره"(6).
قال المراغي: " أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شاء من هذه الأحكام مع توخّى الحكمة فيها"(7).
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]، واعلموا أن الله " لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها"(8).
قال القاسمي: " فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى"(9).
قال الصابوني: " أي راقبوا الله في جميع أفعالكم فإِنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأحوالكم"(10).
قال المراغي: " واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارّة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة، فما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر، وأدوات الصانع، وماشية الزارع، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه، ولله الأمر من قبل ومن بعد"(11).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب الإرضاع على الأم؛ لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن} .
(1) انظر: تفسير الطبري (5067): ص 5/ 73.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5068): ص 5/ 73.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5069): 5/ 73 - 74.
(4)
انظر: تفسير الطبري (7070): ص 5/ 74.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 74.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 146.
(7)
تفسير المراغي: 1/ 432.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 126.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 155.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(11)
تفسير المراغي: 1/ 432.
2 -
ومنها: أن الله عز وجل أرحم بخلقه من الوالدة بولدها؛ لأنه أمرها أن ترضع مع أن فطرتها، وما جبلت عليه تستلزم الإرضاع؛ وهذا؛ لأن رحمة الله أعظم من رحمة الأم بولدها؛ ومثله قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]؛ فلأن الله أرحم بأولادنا منا أوصانا فيهم.
3 -
ومنها: أن الرضاع التام يكون حولين كاملين؛ لقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة
4 -
ومنها: توكيد اللفظ لينتفي احتمال النقص؛ لقوله تعالى: {كاملين} ؛ ومثله قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]: فأكدها بـ {كاملة} ؛ لئلا يتوهم واهم في تلك العشرة الكاملة أن تفريق الثلاثة والسبعة يقتضي أن يكون كل عدد منفرداً عن الآخر.
5 -
ومنها: أنه ينبغي استعطاف المخاطب بما يقتضي عطفه على الشيء؛ لقوله تعالى: {يرضعن أولادهن حيث أضاف الأولاد إلى المرضعات.
6 -
ومنها: أنه يجوز النقص عن الحولين؛ لكن ذلك بالتشاور، والتراضي؛ لقوله تعالى:{لمن أراد أن يتم الرضاعة} ؛ لكن يجب أن نعلم أن الإتمام تارة يكون واجباً إذا ترتب على تركه إخلال بواجب، كقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (1)؛ وتارة يكون من باب الكمال، كما في هذه الآية:{لمن أراد أن يتم الرضاعة} ؛ لأن الله تعالى قال: {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما
…
} إلخ؛ ولو كان الإتمام إتمام واجب لم يكن فيه خيار؛ فإن قيل: هل تجوز الزيادة على الحولين؟
فالجواب: أنه ينظر في حال الطفل إن بقي محتاجاً إلى اللبن زيد بقدره؛ وإن لم يكن محتاجاً فقد انتهت مدة رضاعته؛ وقوله تعالى: {الرضاعة} هي اسم مصدر بمعنى الإرضاع الذي يحتاجه الطفل.
7 -
ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية في قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} ؛ والجبرية يسلبون الإنسان إرادته، وقدرته، واختياره، ويقولون:«الإنسان ليس له إرادة، ولا قدرة؛ إنما هو مجبر على عمله» ؛ فلا يرون فرقاً بين الذي يتحرك ارتعاشاً، والذي يتحرك اختياراً.
8 -
ومنها: أن الولد هبة للوالد؛ لقوله تعالى: {وعلى المولود له} ؛ فبعض العلماء استنبط أن هذه الآية تدل على أن الوالد موهوب له؛ وعلى كل حال هذا شبيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» (2).
9 -
ومنها: أنه قد يكون للشيء الواحد سببان؛ فالرزق، والكسوة هنا لهما سببان، كفقير غارم؛ وإذا تخلف أحد السببين بقي حكم السبب الآخر؛ فلو فرض أن امرأة ناشز لا تطيع زوجها فيما يجب عليها، وهي ترضع ولده كان لها الرزق، والكسوة لا بالزوجية - لأنها ناشز - ولكن بالرضاعة.
فإن قيل: إذا كان سبب الرزق، والكسوة الزوجية أصبح الرضاع عديم التأثير.
قلنا: لا؛ لأننا إذا قلنا: إن تخلف الإنفاق بالزوجية، وجب بالرضاع - هذه واحدة؛ ثانياً: أنه ربما يترتب لها من الطعام والكسوة إذا كانت ترضع ما لا يترتب لو كانت لا ترضع؛ فالمرضع ربما تحتاج إلى غسل ثيابها دائماً من الرضاعة، وتحتاج إلى زيادة طعام، وشراب.
10 -
ومن فوائد الآية: اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} ؛ وهذا ما لم يخالف الشرع؛ فإن خالفه رد إلى الشرع.
(1) أخرجه البخاري ص 51: كتاب الأذان، باب 20: قول الرجل فاتتنا الصلاة، حديث رقم 635، وأخرجه مسلم ص 771، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 28: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة
…
، حديث رقم 1359 [151]602.
(2)
أخرجه أحمد 2/ 204، حديث رقم 6902، وأخرجه ابن ماجة ص 2614، كتاب التجارات، باب 64، ما للوالد من مال ولده، حديث رقم 2291.
11 -
ومنها: أنه يجب على المولود له رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ فيرجع إلى العرف في نوع الرزق، وكميته، وكيفيته؛ وكذلك الكسوة.
12 -
ومنها: وجوب الإنفاق على المولود له من زوج، أو غيره للمرضع؛ وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله، أو بائناً منه؛ فإن كانت في حباله فلوجوب الإنفاق عليها سببان: الزوجية، والإرضاع؛ وإن لم تكن في حباله فلها سبب واحد - وهو الإرضاع؛ ولا يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان - كما سبق - كما في الزوج يكون ابن عم، فيرث بالزوجية، والقرابة.
13 -
ومنها: أن المعتبر حال الزوجة؛ لا حال الزوج؛ فيرجع تقدير الرزق والكسوة إلى حال الزوجة، فكأنه قال: الرزق الذي يصلح لمثلها، والكسوة التي تصلح لمثلها؛ وعلى هذا فإذا كان الزوج فقيراً وهي غنية يُلزَم بنفقة غني، وكسوة غني؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن المعتبر حال الزوج، واستدل بقوله تعالى:{لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق: 7]؛ وأجيب عن الآية بأن المراد: رزقهن من أمثالكم، وكسوتهن من أمثالكم؛ وبهذا تجتمع الآيتان؛ وقال بعض أهل العلم: بل نعمل بالآيتين جميعاً، فنقول: المعتبر حال الزوج، والزوجة جميعاً: إن كانا موسرين فنفقة الموسر؛ وإن كانا معسرين فنفقة المعسر؛ وإن كان أحدهما فقيراً، والآخر غنياً فنفقة المتوسط؛ والراجح أن المعتبر حال الزوج - وهو مذهب الشافعي -.
14 -
- قال القرطبي: "في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية (1).
15 -
ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل لا يكلف نفساً ما لا تطيق؛ لقوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها، أي طاقتها.
ويتفرع على هذه الفائدة: بيان رحمة الله عز وجل بعباده، وأن الله سبحانه وتعالى لا يكلفهم إلا ما يطيقون.
16 -
ومن فوائد الآية: تحريم المضارة؛ لقوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"من ضار ضار الله به"(3)؛ ولا فرق بين أن تكون المضارة من الوالدة للمولود له، أو بالعكس؛ لأن الآية تحتمل هذا، وهذا.
17 -
ومنها: وجوب النفقة للمولود على الوارث؛ لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} ؛ وإيجاب النفقة للمرضع من أجل الرضيع دليل على وجوب الإنفاق على الرضيع نفسه.
18 -
ومنها: أنه يجوز للأم أن تفطم الولد قبل تمام الحولين؛ لكن بشرط التراضي، والتشاور؛ لقوله تعالى:{فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} .
(1) تفسير القرطبي: 1/ 164.
(2)
أخرجه أحمد 1/ 313، حديث رقم 2867 من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن ماجة ص 2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بني في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2340؛ وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً 2/ 571، كتاب الأقضية، باب 26، القضاء في المرفق، وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي سعيد الخدري 2/ 57 - 58، وقال حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 443، حديث رقم 250، صحيح.
(3)
أخرجه أحمد 3/ 453، حديث 15847، وأخرجه الترمذي ص 1847، كتاب البر والصلة، باب 27: ما جاء في الخيانة والغش، حديث رقم 1940؛ وأخرجه أبو داود ص 1492، كتاب القضاء باب 31: في القضاء، حديث رقم 3635، وأخرجه ابن ماجة ص 2617، كتاب الأحكام، باب 17: من بنى في حقه ما يضر جاره، حديث رقم 2342، قال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 404: حسن.
19 -
ومنها: عناية الله عز وجل بالرضَّع؛ لأنه لم يبح فطامهم قبل الحولين إلا بعد التراضي بين الوالدة، والمولود له، والتشاور.
20 -
ومنها: أنه لا يكفي المراضاة بين الزوجين في الفطام؛ بل لا بد أن يكون هذا بعد التشاور، والمراجعة في الأمر حتى إذا تبينت مصلحة الطفل جاز ذلك.
21 -
ومنها: جواز استرضاع الإنسان لولده المراضع؛ لقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} ؛ ولو أن الأم طلبت أن ترضعه، وقال الأب: ترضعه غيرها أجبر الأب على موافقة الأم؛ لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} ؛ فبدأ بـ {الوالدات} ؛ لأن الأم أشفق، ولبنها لطفلها أطيب؛ ولأن ذلك أدعى إلى التعاطف بين الأم، وولدها.
فإن قيل: لو طلبت عليه أجرة أكثر من غيرها فهل يلزمه إجابتها؟
فالجواب: إن كانت الزيادة يسيرة وجبت إجابتها؛ وإن كانت كثيرة لم تلزم إجابتها.
فإن قيل: هل للأم أن تطلب الأجرة إذا كانت مع المولود له؟
فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم؛ والراجح أنه ليس لها ذلك اكتفاءً بإنفاق الزوج عليها بالزوجية.
22 -
ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان تسليم العوض بالمعروف - أي بدون مماطلة، وبدون نقص -؛ لقوله تعالى:{إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} .
23 -
ومنها: أنه لا يجب للأجير إلا ما اتفق عليه في العقد؛ لقوله تعالى: {إذا سلمتم ما آتيتم} ؛ فلو أن المستأجر طلب منه أن يزيد في الأجرة فإنه لا يلزمه؛ حتى ولو زادت المؤن فلا يلزمه شيء سوى ما اتفقا عليه.
24 -
ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: {واتقوا الله} .
25 -
ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من الصفات؛ لقوله تعالى:{واعلموا أن الله بما تعملون بصير} .
26 -
ومنها: التحذير من مخالفة أمر الله؛ لأنه سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالتقوى قال: {واعلموا أن الله بما تعملون بصير} يحذرنا من مخالفة أمره بذلك.
27 -
ومنها: عموم علم الله بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: {بما تعملون} ؛ و {ما} اسم موصول عام.
28 -
ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {بما تعملون} ، وقوله تعالى:{آتيتم} ، وقوله تعالى:{وإن أردتم} ؛ فهذه عدة شواهد تردّ على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله ليس له إرادة فيه.
29 -
ومنها: إثبات بصر الله، وعلمه بما نعمل؛ لقوله تعالى:{بما تعملون بصير} .
30 -
ومنها: أن وساوس القلوب لا يؤاخذ بها؛ لأنها ليست من الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم (1).
القرآن
التفسير:
والذين يموتون منكم، ويتركون زوجات بعدهم، يجب عليهن الانتظار بأنفسهن مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، لا يخرجن من منزل الزوجية، ولا يتزيَّنَّ، ولا يتزوجن، فإذا انتهت المدة المذكورة فلا إثم عليكم يا أولياء النساء فيما يفعلن في أنفسهن من الخروج، والتزين، والزواج على الوجه المقرر شرعًا. والله سبحانه وتعالى خبير بأعمالكم ظاهرها وباطنها، وسيجازيكم عليها.
(1) أخرجه البخاري (6664).
في سبب نزول الآية: أخرج الواحدي عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: حدثت عن مقاتل بن حيان في هذه الآية: أن رجلا من أهل الطائف قدم المدينة وله أولاد رجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى الوالدين وأعطى أولاده بالمعروف ولم يعط امرأته شيئا، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول" (1).
قال الشوكاني: " لما ذكر سبحانه عدة الطلاق واتصل بذكر ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق"(2).
واختلف في حكم الآيتين [البقرة: 240، والبقرة: 234]، على قولين (3):
أحدهما: أن الآية الأولى (4) منسوخة بالآية الثانية، حيث كانت العدة في الجاهليَّة وأول الإسلام حولاً، ثُمَّ نسخت بأربعة أشهر وعشراً. وهذا قول الجمهور.
قال النحاس: قال أكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله جل وعز: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240]، لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفي الرجل، وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث" (5).
والثاني: أن الآية غير منسوخة، لأن النص القرآني لم يصرح بالعدة، وإنَّما قال ذلك متاع لها إن أرادت سبعة أشهر وعشرين ليلة تقضيها في البيت، فالواجب في العدة أربعة أشهر وعشراً، وما زاد إلى الحول فهو وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت. وهذا قول مجاهد (6)، وابن عباس (7) في رواية عطاء عنه.
قال ابن حجر: " فالتحقيق: أن لا نسخ هناك بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق"(8).
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، أي: والذين"يموتون وتتوفى آجالهم"(9).
قال القرطبي: " أي والرجال الذين يموتون منكم، ولهم زوجات"(10).
قال القاسمي: والذين"يموتون من رجالكم"(11).
قال البغوي: " وتوفى واستوفى بمعنى واحد، ومعنى التوفي أخذ الشيء وافيا"(12).
(1) أسباب النزول: 83 - 84.
(2)
فتح القدير: 1/ 248.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: 239 - 240 وأحكام القرآن للجصاص: 1/ 565، البسيط للواحدي: 1/ 144 ب، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 215، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 281، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب: 184، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 275، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 353، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 222 - 223، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 175، فتح القدير للشوكاني: 1/ 369، المغني لابن قدامة: 11/ 228، أضواء البيان للشنقيطي: 1/ 217، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 444، أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية للخطيب:94.
(4)
(5)
الناسخ والمنسوخ: 239.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5586): ص 5/ 257.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5587): ص 5/ 258 - 259.
(8)
الفتح: 8/ 524.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 279.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 174.
(11)
تفسير القاسمي: 2/ 155.
(12)
تفسير البغوي: 1/ 279.
قال الرازي: " وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا، فمن مات فقد وجد عمره وافيا كاملا، ويقال: توفي فلان، وتوفي إذا مات، فمن قال: توفي، كان معناه قبض وأخذ ومن قال: توفى، كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره"(1).
وقوله تعالى: {يتوفون} بضم الياء - أي يتوفاهم الله -؛ وذلك بقبض أرواحهم عند الموت؛ وقد أضاف الله التوفي إليه تارة، كما في قوله تعالى:{الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42]؛ وإلى ملك الموت تارة، كما في قوله تعالى:{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11]؛ وإلى رسله - وهم الملائكة - تارة، كما في قوله تعالى:{حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61]، فإضافتها إلى الله؛ لأنها بأمره؛ وإلى ملك الموت؛ لأنه الذي يقبض الروح؛ وإلى الرسل؛ لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء؛ ولذلك بني الفعل في الآية لما لم يسم فاعله؛ ليشمل كل ذلك (2).
وقرأ علي رضي الله عنه {يَتوفون} بفتح الياء" (3)، أي" أى يستوفون آجالهم" (4).
قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]، أي: و"يتركون أزواجا"(5) بعدهم.
و(الأزواج): جمع زوج - وهو من عقد له النكاح من رجل، أو امرأة -؛ إلا أن الفرضيين رحمهم الله اصطلحوا على أن الرجل يقال له: زوج؛ والمرأة يقال لها زوجة من أجل التمييز بينهما في قسمة الميراث (6).
قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، أي "ينتظرن، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج"(7) لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام، حداداً على أزواجهنَّ.
قال السعدي: " والحكمة في ذلك، ليتبين الحمل في مدة الأربعة، ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس، وهذا العام مخصوص بالحوامل، فإن عدتهن بوضع الحمل (8)، وكذلك الأمة، عدتها على النصف من عدة الحرة، شهران وخمسة أيام"(9).
قال القرطبي: " التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا"(10).
وقال ابن العربي رحمه الله: "هو الانتظار"(11).
وقال الحافظ بن كثير رحمه الله: "هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال"(12).
(1) مفاتيح الغيب: 6/ 108.
(2)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 153 - 154.
(3)
مفاتيح الغيب: 6/ 108.
(4)
تفسير الكشاف: 1/ 282.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 279.
(6)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 154.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 154.
(8)
إن عدة المرأة الحامل: أجلها أن تضع حملها، ولو بعد الوفاة بوقت يسير، قال ابن المنذر رحمه الله:" وأجمعوا أنها لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه فوضعت حملها أن عدتها منقضية "[الإجماع 122]، وقال ابن قدامة رحمه الله:" وأجمعوا أيضاً على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً أجلها وضع حملها، إلا ابن عباس، وروي عن علي من وجه منقطع أنها تعتد بأقصى الأجلين، وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه النبي قوله، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة "[المغني 11/ 227].
(9)
تفسير السعدي: 1/ 104.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 176.
(11)
أحكام القرآن 1/ 208.
(12)
تفسير القرآن العظيم 1/ 419.
قال الصابوني: " أي على النساء اللواتي يموت أزواجهن أن يمكثن في العدّة أربعة أشهر وعشرة أيام حداداً على أزواجهنَّ"(1).
قال ابن عثيمين: " لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن «أنفسهن» توكيد للفاعل في {يتربصن} زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن"(2).
وللعلماء في تفسير قوله تعالى: {وَعَشْراً} [البقرة: 234]، قولان (3):
القول الأول: ذهب جمهور العلماء من الحنفية (4) والمالكية (5) والشافعية (6) والحنابلة (7) إلى أن المراد بالآية عشر ليال بأيامها، فلا تحل حتى تدخل اليلة الحادية عشرة.
قال ابن عطية رحمه الله: "قال جمهور أهل العلم: ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي"(8).
وقال ابن المنذر رحمه الله: "والعشرة التي مع الأربعة الأشهر عشرة أيام بلياليها"(9).
والتمسوا لتذكير العدد في الآية عللاً فقالوا: إن المعنى وعشر مدد كل مدة يوم وليلة، وقالوا: ذكر العدد في الآية تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال فلما كان أول الشهر الليلة غلّب الليل، وقالوا أيضاً إن التذكير أخف في اللفظ من التأنيث (10).
وأورد بعضهم فقال: إن تذكير اللفظ وإرادة الأيام والليالي غير جائز في اللغة. قال الطبري رحمه الله: " فإن جاز ذلك المعنى فيه ما قلت – أي التذكير وإرادة الأيام والليالي جميعاً -. فهل تجيز: (عندي عشر) وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟ قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام غير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال والنساء وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة إذا أبهمت العدد غلبت في الليالي حتى إنهم فيما روي لنا يقولون: (صمنا عشراً من شهر رمضان) لتغليبهم الليالي على الأيام وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك فإن أظهروا مع العدد مفسرة أسقطوا من عدد المؤنث (الهاء) وأثبتوها في عدد المذكر كما قال تعالى ذكره: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7]، فأسقط الهاء من سبع وأثبتها في
(1) صفوة التفاسير: 1/ 136.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 154.
(3)
انظر: أحكام الإحداد: 80 - 87.
(4)
انظر: حاشية رد المحتار 9/ 275، شرح فتح القدير 3/ 313.
(5)
الكافي للمالكية ص 294.
(6)
زاد المحتاج 3/ 512.
(7)
الإنصاف 9/ 275.
(8)
المحرر الوجيز 2/ 216.
(9)
الإقناع 2/ 324.
(10)
انظر: الجامع لأحكام القرآن، 3/ 186 المحرر الوجيز 2/ 216، الفتوحات الإلهية 1/ 190.
الثمانية. وأما بنو آدم فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث (1)، وذكر نحوه النووي رحمه الله (2).
القول الثاني: اختار الأوزاعي ويحي بن أبي كثير وبعض السلف وابن حزم رحمه الله اقتصار الحكم على الليالي فتخرج المرأة من العدة في يوم العاشر فليس من العدة بل انقضت عدتها بانقضاء عشر ليال واستندوا إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ {وعشر ليال} (3).
والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو اختيار الشيخ محمد العثيمين (4)، ومهما يكن من أمر فإن المسلم إذا اختلطت عليه الأمور واشتبه الحلال بالحرام وجب عليه الأخذ بالأحوط، والاحتياط هنا أن لا تخرج من عدتها إلا بتمام يوم العاشر والفارق بين القولين من حيث المدة لا يكاد يذكر فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه والله أعلم.
قال الصابوني: " وهذا الحكم [أي التربص أربعة أشهر وعشر أيام]، لغير الحامل (5) أما الحامل فعدتها، وضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] "(6).
(1) تفسير الطبري 2/ 2/515.
(2)
انظر: شرح مسلم 10/ 112.
(3)
انظر: احكام الحداد: 87.
(4)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 155.
(5)
عدة الحائل هي غير الحامل. وهي إما أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها وكلا الصنفين عدته من الوفاة أربعة أشهر وعشر. لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، ولما أخرجه الشيخان مرفوعاً "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً [رواه البخاري في مواضع، وهو بهذا السياق في كتاب الطلاق باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً 3/ 420 برقم (5334، 5335، 5336، 5337). ورواه مسلم (2/ 1123 ـ 1125) برقم (1486) وفي رواية له (2/ 1127) برقم (1490) عن حفصة رضي الله عنها زاد: " فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً "].
فظاهر الآية والحديث يشملهما فلا فرق بين مدخول بها وغير مدخول بها. قال الزركشي رحمه الله: "ولا فرق بين قبل الدخول وبعده إعمالاً لعموم الآية والخبر ". [شرح الزركشي 5/ 552] ..
وقال ابن القيم رحمه الله: وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة" [زاد المعاد/ 664. وانظر: الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 195 – 199).].
ولما كانت غير المدخول بها تفارق المدخول بها في عدة المفارقة حال الحياة ورد النص الدال لى استوائهما في المفارقة بالوفاة.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود رضي الله عنه:" لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث " فقام معقل بن سنان رضي الله عنه فقال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت " ففرح بها ابن مسعود. [رواه النسائي واللفظ له (6/ 121) برقم (3354)، وأبو داود (2/ 588) والترمذي (3/ 441)، وابن ماجه (1/ 60) برقم (1891)، والإمام أحمد (3/ 480). وابن حبان (الإحسان) (9/ 409) برقم (4100) والحاكم في المستدرك (2/ 180) وقال بعد سرد رواياته 2/ 181: " فصار الحديث صحيحاً على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي وقال الألباني في إرواء الغليل 6/ 359: " هو كما قالا". قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 3/ 191: " وصححه ابن مهدي والترمذي وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده والبيهقي في الخلافيات ". وقال شيخنا عبد العزيز بن باز أثابه الله: " إسناده لا بأس به "].
وهذا قد أجمع عليه العلماء رحمهم الله.
قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولاً بها أو غير مدخول، صغيرة لم تبلغ أو كبيرة قد بلغت ". [الإجماع ص 108] وحكاه أيضاً في الإشراف [الإشراف على مذاهب العلماء ص 274].
وإذا ثبت لزوم العدة للحائل مدخولاً بها أو غير مدخول فإن النصوص دلت على أن مدة الإحداد هي مدة العدة كما تقدم، فتحد الحائل المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً. قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن قيل: ألا حملتم الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} لعلى المدخول بها. كما قلتم في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} [البقرة: 228]، قلنا إنما خصصنا هذه بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص لوجهين.
أحدهما: أن النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشيء إذا انتهى تقرت أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل، وأحكام الإجارة بانقضائها، والعدة من أحكامه.
الثاني: أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يؤمن أن تأتي بولد فيلحق الميت نسبه ومماله من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها من التصرف والمبيت في غير منزلها حفظاً لها. [المغني 11/ (223 – 224)].
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
وقد أختلف أهل العلم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين (1).
القول الأول: أن الحامل أجلها أن تضع حملها ولو بعد الوفاة بوقت يسير ولو قبل دفنه. وهو مذهب أكثر العلماء (2)، ومنهم الأئمة الأربعة (3).
وحكى ابن قدامة الإجماع عليه فقال: " وأجمعوا أيضاً على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً وضع حملها إلا ابن عباس. وروي عن علي من وجه منقطع أنها تعتد بأقصى الأجلين (4)، وحكاه أيضاً ابن عبدالبر رحمه الله.
واحتجوا في قولهم بالأدلة الآتية:
أولا: قال الله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فالآية دالة على أن كل حامل أجلها وضع الحمل ومعلوم عند جمهور المفسرين أن آية الطلاق متأخرة عن آية البقرة، قال ابن مسعود رضي الله عنه:" نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى "(5) وهو قال جمهور الصحابة رضي الله عنهم (6) ومن بعدهم، قال ابن النحاس: وهذا أعني أن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَال} ناسخة للتي في البقرة أو مبينة لها – قول أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء (7)، والذي جعلهم يقولون هذا هو تعارض العمومين فإن عموم البقرة يشمل الحامل والحائل وعموم آية الطلاق يشمل المطلقة والمتوفى عنها فلا بد من حمل أحد العمومين لآية البقرة وبهذا نعمل بالآيتين فنقول: كل متوفى عنها تعتد أربعة أشهر وعشراً إلا الحامل فإن أجلها وضع حملها (8).
واستدل بعضهم على شمول آية {وَأُولاتُ الْأَحْمَال} للمتوفى عنها بما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وَأُولاتُ الْأَحْمَال} للمطلقة ثلاثاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم " هي للمطلقة ثلاثاً وللمتوفى عنها زوجها " إلا أن الحديث لا يصح عند التحقيق ولو صح لكان نصاً في محل النزاع.
(1) انظر: أحكام الإحداد: 70 وما بعدها.
(2)
الإشراف على مذاهب العلماء ص 281.
(3)
انظر: شرح فتح القدير 4/ 310، المدونة 2/ 420، الأم 5/ 220، الكافي 3/ 302.
(4)
المغني 11/ 227.
(5)
رواه البخاري 3/ 313.
(6)
الناسخ والمنسوخ في القرآن ص 90.
(7)
المصدر السابق.
(8)
انظر: المغني (11/ 227 – 228)، فتح الباري 9/ 474.
ثانيا: عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قريباً من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انكحي " رواه الجماعة (1).
وروايات هذا الحديث متعددة كلها فيها إذن النبي صلى الله عليه وسلم لسبيعة في النكاح إذا وضعت حملها ورده لما قال أبو السنابل رضي الله عنه. وهذا الحديث متأخر عن آية البقرة فإن القصة إنما وقعت في حجة الوداع فإن زوجها الذي توفي عنها هو سعد بن خولة رضي الله عنها وقد توفي في حجة الوداع كما في الصحيحين ولفظه: فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل. فتبين بهذا أن عموم آية البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} مخصوص بآية الطلاق: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
قال القرطبي رحمه الله: " فبين الحديث – أي حديث سبيعة الأسلمية – أن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين"(2).
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "لما كان عموم الآيتين معارضاً – أعني قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقوله {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُن} - لم يكن بد من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمراد الله منهما على ما أمره الله عز وجل بقوله {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله من ذلك بما أفتى به سبيعة الأسلمية، فكل ما خالف لك فلا معنى له من جهة الحجة وبالله التوفيق (3).
وقال البغوي رحمه الله: " وعامة الفقهاء خصوا الآية بخبر سبيعة (4).
وعلل الجمهور لهذا القول بتعليلين، قال ابن قدامة رحمه الله: " ويحقق أن العدة إنما شرعت لمعرفة براءتها من الحمل، ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي به العدة ولأنه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة (5).
القول الثاني: أن الحامل تعتد بأطول الأجلين، روي هذا عن علي وابن عباس رضي الله عنهم (6)، واختاره ابن سحنون رحمه الله (7)(8).
(1) تقدم تخريجه ص 10 – 11.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 3/ 175.
(3)
التمهيد 20/ 37.
(4)
شرح السنة 9/ 306.
(5)
المغني 11/ 228.
(6)
الإشراف على مذاهب العلماء ص 281.
(7)
فتح الباري: 9/ 474.
(8)
وعلة قولهم هذا هو تعارض العمومين، عموم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ} وعموم قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
قال ابن حجر: " وهو شذود مردود (1)؛ لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع (2)، والسبب الحامل له الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} عام في كل من مات عنها زوجها يشمل الحامل وغيرها، وقوله تعالى:{وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] عام أيضاً يشمل المطلقة والمتوفى عنها، فجمع أولئك بين العمومين بقصر الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عِدَد المطلقات، كالآيسة والصغيرة قبلهما، ثم لم يهملوا ما تناولته الآية الثانية من العموم لكن قصروه على من مضت عليها العدة ولم تضع، فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم (3).
ويترجح قول الجمهور أيضاً بأن الآيتين، وإن كانتا عامتين من وجه خاصتين من وجه فكان الاحتياط أن لا تنقضي العدة إلا بآخر الأجلين، لكن لما كان المعنى المقصود الأصلي من العدة براءة الرحم-ولا سيما فيمن تحيض-يحصل المطلوب بالوضع، ووافق ما دل عليه حديث (4)(5) ويقويه قول ابن مسعود في تأخر نزول آية الطلاق عن آية البقرة (6) " (7).
قال ابن عبدالبر رحمه الله: " وأما مذهب علي وابن عباس – في هذه المسألة – فمعناه الأخذ باليقين.
وجملة {يَتَرَبَّصْن} خبر {َالَّذِينَ} ؛ وفيها أشكال، حيث لم يوجد رابط يربطها بالمبتدأ؛ لأن قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ليس فيها ضمير يعود على {َالَّذِينَ} ؛ فاختلف الناس في كيفية الربط بين المبتدأ، والخبر على قولين (8):
أحدهما: أن التقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم؛ وعلى هذا يكون الضمير: في (بعدهم) هو الرابط الذي يربط بين المبتدأ، والخبر.
والثاني: أن التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن؛ فقدر المبتدأ.
قال ابن عثيمين: "هذان وجهان؛ ولكن الأول أيسر من الثاني، وأقرب. والله أعلم"(9).
قال الماوردي: "والإِحْدَادُ: الامتناع من الزينة، والطيب، والترجل، والنُّقْلة"(10).
(1) أي: موافقة سحنون من المالكية لعلي-رضي الله عنه-كما نقله المازري وغيره بأن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد آخر الأجلين خلافاً لقول جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار الذين يقولون بأنها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة بذلك. انظر: فتح الباري: 9/ 384، المعلم بفوائد مسلم للمازري: 2/ 136، إكمال المعلم للأبي: 5/ 237.
(2)
ذكر الإجماع واستقراره غير واحد من أهل العلم، انظر: أحكام القرآن للجصاص: 1/ 566، الأم للشافعي: 5/ 223، الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 4/ 281، الاستذكار لابن عبد البر: 18/ 177 - 178، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 353، المغني لابن قدامة: 11/ 227، الإفصاح لابن هبيرة: 2/ 174، إعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 86، الروضة الندية لصديق خان: 2/ 145، روح المعاني للألوسي: 2/ 149، أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية للخطيب:94.
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 75، الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 4/ 281، الاستذكار لابن عبد البر: 18/ 177، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 566، المبسوط للسرخسي: 6/ 31، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 175، فتح القدير للشوكاني: 1/ 369، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 444 - 445، أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية للخطيب: 89 - 90.
(4)
هي: سبيعة بنت الحارث الأسلمية، صحابية، زوج سعد بن خولة، لها رواية في الصحيحين. انظر: الإصابة لابن حجر: 4/ 317، تقريب التهذيب لابن حجر:1357.
(5)
رواه البخاري في صحيحه-فتح-: 9/ 379 رقم: 5318 عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة من أسلم-يقال لها: سبيعة-كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بَعْكَك فأبت أن تنكحه فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثت قريباً من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انكحي).
(6)
البخاري-فتح-: 8/ 522 رقم: (4910).
(7)
الفتح: 9/ 384 - 385.
(8)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 153.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 153.
(10)
النكت والعيون: 1/ 302.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الإِحْدَادِ فيها على قولين (1):
أحدهما: أن الإِحْدَاد فيها واجب، وهو قول ابن عباس (2)، وابن عمر (3)، والزهري (4).
والثاني: ليس بواجب، وقالوا:": إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه"(5). وهو قول الحسن (6)، وابن عباس (7) في أحد قوليه.
واستدلوا بدليلين:
الأول: حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها: روى عبد الله ابن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عُمَيس قالت: لمّا أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تَسَلَّبي ثَلاثاً ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ"(8).
قال ابن القيم رحمه الله في بيان وجه استدلالهم بهذا الحديث: " قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد لأنه بعدها، فإن أم سلمة رضي الله عنها روت حديث الإحداد وأنه صلى الله عليه وسلم أمرها به إثر موت أبي سلمة لا خلاف أن موت أبي سلمة كان قبل موت جعفر رضي الله عنهما (9).
ثانياً: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: "لا إحداد فوق ثلاث"(10).
والراجح هو قول الجمهور، وقد أجابوا عما استدل به أصحاب القول الثاني بما يلي:
أولا: - أما حديث أسماء بنت عميس:
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 302.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5083): ص 5/ 86.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5082): ص 5/ 85.
(4)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 85 - 86.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 86.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5085): ص 5/ 86.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5086): ص 5/ 85.
(8)
رواه الإمام أحمد (6/ 369، 438)، ولفظه [أي أحمد]: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال: " لا تحدي بعد يومك هذا"، وروا ابن حبان (الإحسان) واللفظ له (7/ 418)، برقم (3148) والبيهقي (7/ 438)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 75) والطبراني في الكبير (24/ 193) برقم (369) بلفظ " تسكني ثلاثاً " وقد ذكر أهل العلم لهذا الحديث ثلاثة علل: 1 - لانقطاع بين عبد الله بن شداد وأسماء، 2 - الكلام في محمد بن طلحة، 3 - شذوذ في لفظ الحديث.
أما الإسناد: قال البيهقي: "لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه: عن أسماء، فهو مرسل، ومحمد بن طلحة ليس بالقوي، والأحاديث قبله أثبت فالمصير إليها أولى".
لكن تعقبه ابن التركماني بقوله: قلت: "ابن شداد لم يُذكر من المدلسين والعنعنة من غير المدلس محمولة على الاتصال إذا ثبت اللقاء أو أمكن". (سنن البيهقي مع الجوهر النقي)(7/ 438).
وقال الحافظ: "وهذا تعليل مدفوع؛ فقد صححه أحمد". (الفتح: 12/ 233).
وقال الألباني: "أما الانقطاع فدعوى باطلة؛ فإن عبد الله من كبار التابعين الثقات، ولد على عهد النبي r، وأسماء خالته، ولم يُرمَ بتدليس". (السلسلة الصحيحة)(7/ 684).
وبهذا يتبين أن هذه العلة مردودة.
(9)
زاد المعاد 5/ 697.
(10)
قال الحافظ فى " الفتح " 9/ 487: ذكر الأثرم أن أحمد سئل عن حديث حنظلة عن سالم عن ابن عمر رفعه " لا إحداد فوق ثلاث " فقال: هذا منكر، والمعروف عن ابن عمر من رأيه أ. هـ. ويحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدة فلا نكارة فيه، بخلاف حديث أسماء والله أعلم.
أ- أن الحديث شاذ، وبهذا قال أحمد وإسحاق رحمهما الله (1) وأشار إلى هذه العلة البيهقي رحمه الله فقال: والأحاديث قبله أثبت والمصير إليها أولى وبالله التوفيق (2).
وقال في معرفة السنن والآثار: " والحديث في إحدادها ثابت فالمصير إليه أولى وبالله التوفيق (3).
وحكى الحافظ ابن حجر رحمه الله عن شيخه العراقي القول بشذوذه، قال رحمه الله: " وأجاب – يعني شيخه – بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة وأجمعوا على خلافه (4).
وقال ابن القيم رحمه الله عن رواية من روايات حديث أسماء رضي الله عنها: " وفي الحديث الثاني حجاج بن أرطأة ولا يعارض بحديثه حديث الأئمة الأثبات الذين هم فرسان الحديث (5).
ب- أن الحديث منقطع الإسناد، قال البيهقي رحمه الله: " فلم يثبت سماع عبدالله من أسماء وقد قيل فيه: عن أسماء فهو مرسل (6).
وقد قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: " هذا منقطع لا حجة فيه لأن عبدالله بن شداد لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً "(7).
وقد أجاب عن هذه العلة الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال " وهذا تعليل مدفوع فقد صححه أحمد ولكنه قال: إنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد، قلت وهو مصير منه إلى أنه يعله بالشذوذ "(8).
وأعله البيهقي أيضاً بأن فيه محمد بن طلحة ليس بالقوي (9).
قال الألباني أثابه الله معلقاً على كلام البيهقي رحمه الله: " ورجال أحمد رجال الصحيح"(10).
ج- أن الحديث منسوخ، قال الطحاوي رحمه الله في كلامه على حديث أسماء: ففي هذا الحديث أن الإحداد لم يكن على المعتدة في كل عدتها وإنما في وقت منها ثم نسخ ذلك وأمرت بأن تحد عليه أربعة أشهر وعشراً (11)، وساق بعد هذا الكلام الأحاديث الناسخة. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وليس فيها ما يدل على النسخ لكنه يكثر من ادعاء النسخ بالاحتمال فجرى على عادته (12).
(1) الجامع لأحكام القرآن 2/ 180.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي 7/ 438.
(3)
معرفة السنن والآثار 11/ 222.
(4)
فتح الباري 9/ 487.
(5)
زاد المعاد 5/ 697.
(6)
السنن الكبرى للبيهقي 7/ 438.
(7)
المحلي 10/ 280.
(8)
فتح الباري 9/ 487.
(9)
السنن الكبرى للبيهقي 7/ 438.
(10)
مجمع الزوائد 3/ 17.
(11)
شرح معاني الآثار 2/ 75.
(12)
فتح الباري 9/ 487.
د- أن يكون المراد بالإحداد المقيد بالثلاث قدراً زائداً على الإحداد المعروف الذي فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث، أو لكونها كانت حاملاً فوضعت بعد ثلاث فانقضت عدتها فنهاها بعدها عن الإحداد ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى:" ثلاثاً" لأنه يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أُطلع على أن عدتها تنقضي عند الثلاث، ولعله كان أبانها بالطلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد (1).
ولا تخلو هذه الأجوبة من نقاش وأصح ما أجاب به العلماء على هذا الحديث القول بشذوذه كما قال أحمد واسحاق والبيهقي رحمهم الله تعالى.
ثانياً: الجواب على حديث ابن عمر.
أجاب الإمام أحمد لما سئل عن هذا الحديث قائلا: " هذا منكر والمعروف عن ابن عمر من رأيه (2).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وهذا – أي حديث ابن عمر – يحتمل أن يكون لغير المعتدة، فلا نكارة فيه بخلاف حديث أسماء والله أعلم (3).
نستنتج مما سبق بأن ما ذهب إليه عامة أهل العلم هو الموافق للنصوص وأنه ليس مع المخالف ما يقاوم أدلة الجمهور والله أعلم (4)(5).
(1) فتح الباري: 9/ 487.
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
جاء في موسوعة الفقه الاسلامي:
حكمة مشروعية العدة (موسوعة الفقه الإسلامي: 4/ 241 - 242):
شرع الله عز وجل العدة لتحقيق المصالح الآتية:
1 -
التأكد من براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب.
2 -
إتاحة الفرصة للمطلق أن يراجع زوجته إذا ندم، كما في الطلاق الرجعي.
3 -
تعظيم شأن النكاح، وأنه لا ينعقد إلا بشروط، ولا ينفك إلا بتريث وانتظار.
4 -
رعاية حق الزوج وأقاربه، وإظهار التأثر لفقده، وإبداء وفاء الزوجة لزوجها بعدم انتقالها لغيره إلا بعد مدة محددة.
5 -
صيانة حق الحمل إن كانت المفارقة حاملاً.
والعدة واجبة على كل امرأة مات عنها زوجها قبل الدخول أو بعده، أو فارقها زوجها بعد الدخول بطلاق، أو خلع، أو فسخ.
1 -
…
[البقرة: 234].
2 -
…
[البقرة: 228].
3 -
وقال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].
4 -
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].
(5)
قد كانت المرأة في الجاهلية تحدّ على زوجها شر حداد وأقبحه، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمسّ طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج بعد ذلك، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة.
حتى إذا حال عليها الحول خرجت بأقبح منظر وأفظع مرأى، فتؤتى بدابة – حمار أو شاة أو طائر – فتمسح به جلدها فلا يكاد يعيش بعدما تتمسح به مما يجد من أوساخها وروائحها. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض النساء لما أرادت أن تترخص لابنتها في الكحل فقال صلى الله عليه وسلم:"إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالعرة على رأس الحول". وقد سئلت زينب – راوية الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها – وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت: " كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حشفاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً حتى تمر السنة ثم تؤتى بدابة – حمار أو شاة أو طائر – فتفتض به فقلما بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. [رواه البخاري في مواضع، وهو بهذا السياق في كتاب الطلاق باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً 3/ 420 برقم (5334، 5335، 5336، 5337)، ورواه مسلم (2/ 1123 ـ 1125) برقم (1486) وفي رواية له (2/ 1127) برقم (1490) عن حفصة رضي الله عنها زاد: "فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً "].
إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدى الزواج، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال، والكحل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم هو كحل الزينة لا كحل التداوى بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار". (التمهيد لما في الموطا من المعاني والأسانيد: 17/ 310)، والمسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النّوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين، فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة، وما ينجم عن ذلك من الأمراض، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة. (انظر: تفسير المراغي: 1/ 436 - 437).
أما حداد المرأة على القريب، فقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز إحداد المرأة على غير زوجها ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "(1).
ولا يجوز للمرأة أن تزيد على ثلاثة أيام على غير الزوج، وللزّوج منعها من الإحداد على القريب، لأن حقه عليها أعظم من حق القريب.
قال ابن القيم رحمه الله: " فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز "(2).
وقال العيني رحمه الله: " قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن من مات أبوها أو ابنها، وكانت ذات زوج وطالبها زوجها في الثلاثة أيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يُقضى له عليها بالجماع فيها "(3).
واختار جوازه على كل ميت الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد العثيمين أثابهما الله عملاً بعموم الحديث (4).
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جوازه على الأجنبي مطلقاً، وخصه بعضهم بما إذا وجدت الريبة قال الهيثمي رحمه الله:" وبحث الأذرعي حرمته من أجنبية على أجنبي ولو بعض يوم، وهو متجه حيث وجدت ريبة وإلا كأن حزنت عليه لنحو علمه وصلاحه وصداقته لنحو والدها وإحسانه إليها ولا ريبة بوجه فلا حرمة كما هو ظاهر"(5).
وما قاله متوجه إلا أنه لا يخالف ما تقدم عن جمهور العلماء إذ إن كلامهم رحمهم الله على المسألة من حيث الأصل دون ما قد يعرض لها مما يؤدي إلى تحريمه. وأما ما ذكره عن الأذرعي فلا وجه له وظاهر السنة يرده والله أعلم.
قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234]، " أي: فإذا انقضت عدتهن" (6).
قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، أي: فلا إِثم عليكم أَيها الأولياء في الإذن لهنّ بالزواج وفعل ما أباحه لهنّ الشرع من الزينة والتعرض للخطّاب" (7).
قال السعدي: أي: "من مراجعتها للزينة والطيب، على وجه غير محرم ولا مكروه"(8).
(1) صحيح البخاري (1221): ص 1/ 430. من حديث زينب بنت أبي سلمة.
(2)
زاد المعاد: 5/ 696.
(3)
عمدة القارئ: 8/ 64.
(4)
انظر: أحكام الإحداد، الشيخ خالد المصلح:43.
(5)
فتح الجواد 2/ 203.
(6)
تفسير السعدي: 1/ 104.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 104.
قال مجاهد: " {المعروف}: النكاح الحلال الطيب"(1)، وروي نحوه عن السدي (2) والزهري (3).
قال النسفي: : أي: "بالوجه الذي لا ينكره الشرع"(4).
قال الزمخشري: " والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ"(5).
قال الشيخ السعدي: " وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة، على المتوفى عنها زوجها، دون غيرها من المطلقات والمفارقات، وهو مجمع عليه بين العلماء .. وفي خطابه للأولياء بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] دليل على أن الولي ينظر على المرأة، ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب، وأنه مخاطب بذلك، واجب عليه"(6).
قال ابن عثيمين: " فلو أرادت المرأة أن تعمل شيئاً محرماً عليها في هذه العدة لزم وليها أن يمنعها؛ وإذا تمت العدة فلا جناح على وليها أن يمكنها من أن تفعل في نفسها ما تشاء - لكن بالمعروف"(7).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234]، أي: والله" عليم بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها"(8).
قال السعدي: أي: "عالم بأعمالكم، ظاهرها وباطنها، جليلها وخفيها، فمجازيكم عليها"(9).
قال ابن عثيمين: "أي عليم ببواطن الأمور؛ فالخبير أخص من العليم"(10).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن} ؛ لأنها خبر بمعنى الأمر.
2 -
ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء كانت صغيرة، أم كبيرة؛ لقوله تعالى:{أزواجاً} ، وأطلق؛ فأما الكبيرة فتقوم بما يلزمها من الإحداد؛ وأما الصغيرة فالمخاطب بذلك وليها يجنبها ما تتجنبه المحادة الكبيرة.
3 -
ومنها: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء دخل بها، أم لم يدخل؛ لقوله تعالى:{أزواجاً} ؛ لأن الزوجة تكون زوجة بمجرد العقد بخلاف الطلاق؛ فإن الطلاق قبل الدخول، والخلوة لا عدة فيه؛ لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49].
4 -
ومنها: وجوب انتظار المرأة بنفسها مدة العدة بحيث لا تتزوج، ولا تتعرض للزواج؛ لقوله تعالى:{يتربصن بأنفسهن} ، كما تقول: تربص بكذا، وكذا - يعني لا تتعجل.
5 -
ومنها: أن السرية لا تلزمها عدة الوفاة؛ لأنها ليست بزوجة.
6 -
ومنها: أنه لو تبين عند الوفاة أن النكاح باطل لم تعتد بالوفاة، مثل أن يتبين عند وفاته أنها أخته من الرضاع؛ لأنه تبين أن النكاح باطل - وجوده كالعدم -.
(1) تفسير الطبري (5093): ص 5/ 93.
(2)
تفسير الطبري (5096): ص 5/ 94.
(3)
تفسير الطبري (5097): ص 5/ 94.
(4)
تفسير النسفي: 1/ 126.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 282.
(6)
تفسير السعدي: 1/ 104 - 105.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 155.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 104.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 155.
7 -
ومنها: أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت تحيض، أو لا تحيض؛ ويستثنى من ذلك الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]؛ ولا عدة للمتوفى عنها زوجها سوى هاتين.
8 -
ومنها: حكمة الله بتقدير عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر؛ وعلق الحكم بهذا العدد، ولم يعلقه بالأقراء - كما في المطلقات -؛ لأن أقل ما يمكن أن يتحرك فيه الجنين أربعة أشهر؛ وزيدت العشرة للاستثبات؛ هكذا قال بعض أهل العلم؛ ولكن عند التأمل يتبين لك ضعف هذا التعليل؛ لأن المرأة المتوفى عنها زوجها قد لا يدخل بها؛ وقد تكون صغيرة لا يمكن أن تحمل؛ وقد تكون كبيرة آيسة من الحمل؛ ثم الاحتياط بأربعة أشهر وعشر: يمكن العلم ببراءة الرحم قبل هذه المدة؛ فتبين بهذا أن الحكمة شيء آخر؛ وعندي - والله أعلم - أن الحكمة أنهم لما كانوا في الجاهلية تبقى المرأة حولاً كاملاً في العدة بعد موت زوجها، وتبقى في بيت صغير، كالخباء لها، ولا تمس الماء أبداً؛ تأكل، وتشرب حتى لا تموت؛ وتبقى بعرقها، ورائحتها، وحيضها، ونتنها لمدة سنة كاملة؛ فإذا تمت السنة أتوا لها بفأرة، أو عصفور، فقالوا لها:«امحشي به فرجك» ؛ فقلّ ما تتمسح بشيء إلا مات من الرائحة الكريهة؛ مدة سنة ربما يأتيها الحيض اثنتي عشرة مرة وهي في هذا المكان؛ ثم إذا تم الحول أتوا لها ببعرة؛ فأخذت البعرة، ورمت بها، كأنها تقول: كل ما مر عليّ فهو أهون من رمي هذه البعرة؛ فجاء الإسلام، وأبدل الحول بأربعة أشهر؛ لأن أربعة أشهر: ثلث حول؛ وعشرة أيام: ثلث شهر؛ والثلث كثير؛ فأُتي من الحول بثلثه، ومن الشهر بثلثه؛ فإن تبينت هذه الحكمة، وكانت هي مراد الله فهذا من فضل الله؛ وإن لم تتبين فإننا نقول: الله أعلم بما أراد؛ وهذا كغيرها من العبادات ذوات العدد التي لا نعلم ما الحكمة فيها.
9 -
ومن فوائد الآية: أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل كل ما كان معروفاً من تجمل، وخروج من البيت، وغير ذلك؛ لقوله تعالى:{فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم} .
10 -
ومنها: أن الأولياء مسؤولون عن مولياتهم؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليكم} إشارة إلى أن الرجال لهم ولاية على النساء؛ فيكونون مسؤولين عنهن.
11 -
ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} ؛ والعرف معتبر إذا لم يخالف الشرع؛ فإن خالف الشرع فلا يعتبر.
12 -
ومنها: إثبات علم الله عز وجل بالظاهر، والخفي؛ لقوله تعالى:{والله بما تعملون خبير} ؛ والخبير هو العليم ببواطن الأمور؛ ومن كان عليماً ببواطن الأمور كان عليماً بظواهرها من باب أولى.
13 -
ومنها: التحذير من مخالفة هذا الحكم؛ لقوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} أي احذروا من مخالفته؛ فإن الله بما تعملون خبير.
القرآن
التفسير:
ولا إثم عليكم -أيها الرجال- فيما تُلَمِّحون به مِن طلب الزواج بالنساء المتوفَّى عنهنَّ أزواجهن، أو المطلقات طلاقًا بائنًا في أثناء عدتهن، ولا ذنب عليكم أيضًا فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء عدتهن. علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدَّات، ولن تصبروا على السكوت عنهن، لضعفكم؛ لذلك أباح لكم أن تذكروهن تلميحًا أو إضمارًا في النفس، واحذروا أن تواعدوهن على النكاح سرًا بالزنى أو الاتفاق على الزواج في أثناء العدة، إلا أن تقولوا قولا يُفْهَم منه أن مثلها يُرْغَبُ فيها الأزواج، ولا تعزموا
على عقد النكاح في زمان العدة حتى تنقضي مدتها. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فخافوه، واعلموا أن الله غفور لمن تاب من ذنوبه، حليم على عباده لا يعجل عليهم بالعقوبة.
قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيكُم} [البقرة: 235]، "أي: لا إثم عليكم" (1).
و(الجناح): "الإثم، وهو أصح في الشرع وقيل: بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشاعر (2):
إذا تعلو براكبها خليجا
…
تذكر ما لديه من الجناح
والمخاطبة لجميع الناس؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة" (3).
قوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، أي:" بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح"(4).
قال الصابوني: أي: "بخطبة النساء المتوفّى عنهن أزواجهن في العدّة، بطريق التلميح لا التصريح"(5).
قال الخازن: اي: من طلب نكاح "المعتدات في عدتهم"(6).
قال القاسمي: " في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهنّ قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها"(7).
قال الخازن: " و (التعريض): ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وقيل هو الإشارة إلى الشيء بما يفهم السامع مقصوده من غير تصريح به وقيل التعريض من الكلام ما له ظاهر وباطن"(8).
قال القاسمي: " و (التعريض): إفهام المقصود بما لم يوضع له، حقيقة ولا مجازا. كأن يقال لها: إنك جميلة أو صالحة، أو ربّ راغب فيك، أو من يجد مثلك"(9).
قال ابن عثيمين: و (التعريض) هو أن يأتي الإنسان بكلام لا يصرح فيه بمراده؛ لكنه مقارب، كنا قال الماروردي:" فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر النكاح"(10)، مثل أن يقول للمرأة:(إني في مثلكِ لراغب)؛ (إنكِ امرأة يرغب فيكِ الرجال)؛ (إذا انقضت العدة فأخبريني)؛ وعلى هذا فقس؛ فهذا ليس فيه تصريح أن يخطبها لا لنفسه، ولا لغيره؛ لكنه يسمى تعريضاً؛ والتعريض، والتلويح بمعنًى واحد" (11).
وأما (الخطِبة) فمعناها: "أن يعرض الإنسان نفسه على المرأة ليتزوجها، ويطلبها إليه؛ فهي"طلب النكاح" (12)، وسميت خطبة إما من الخَطْب بمعنى الشأن؛ لأن هذا شأنه عظيم؛ وإما من الخطابة؛ لأنها مقرونة بالقول - حتى إنه كان فيما سلف يأتي الخاطب إلى المرأة، وأهلها، ويخطب فيهم - يعني يتكلم بخطبة،
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 159.
(2)
البيت نسبه القرطبي في تفسيره: 3/ 187 إلى الشماخ، والصواب أنه لبشر بن أبي خازم، وهو في ديوانه: 90، الرواية فيه: إذا ركبت بصاحبها ....
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 188.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 638.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(6)
تفسير الخازن: 1/ 169.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 158.
(8)
تفسير الخازن: 1/ 169.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 158.
(10)
النكت والعيون: 1/ 304.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 159.
(12)
النكت والعيون: 1/ 304.
ثم يبدي أنه يرغبها؛ ومع ذلك يفرقون بين الخِطبة بالكسر؛ وبين الخُطبة بالضم؛ فيقول: الخُطبة بالضم: " وأما الخُطبة بالضَّمِ فهي كلام يتضمن وعْظاً أو بلاغاً"(1)، وما أشبه ذلك؛ والخِطبة بالكسر: هي طلب المرأة لتكون زوجة للطالب؛ والمراد بـ {النساء} من مات عنهن أزواجهن" (2).
قال البغوي: " روي أن سكينة بنت حنظلة بانت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها وقال: يا بنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام فقالت سكينة أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ العلم عنك؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده"(3) " (4).
قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، أي: أو " أضمرتم في أنفسكم خطْبَتَهُنّ"(5).
قال النسفي: " أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين"(6).
قال ابن عثيمين: أي "أخفيتم، وأضمرتم في أنفسكم"(7)، وهذا كقوله تعالى:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] وكقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [المتحنة: 1]
قال البيضاوي: " أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً"(8).
قال الماوردي: " يعني ما أسررتموه من عقدة النكاح"(9).
قال الطبري: " أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"(10).
قال مجاهد: "الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف"(11).
وروي نحوه عن السدي (12)، القاسم بن محمد (13)، وابن زيد (14)، وسفيان (15)، والحسن (16).
يقال: كننته في البيت أو في الأرض، إذا خبأته فيه، ومنه قوله تعالى ذكره:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [سورة الصافات: 49]، أي مخبوء، ومنه قول الشاعر (17):
(1) النكت والعيون: 1/ 304.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 159.
(3)
أخرجه ابن المبارك في كتاب النكاح، راه الدارقطني من رواية محمد بن الصلت عن عبد الرحمن بن سليمان، وهو ابن الغسيل انظر: الكافي الشاف لابن حجر ص 21.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 282.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 639.
(6)
تفسير النسفي: 1/ 127.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 159.
(8)
تفسير البيضاوي: 1/ 146.
(9)
النكت والعيون: 1/ 304.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 102.
(11)
تفسير الطبري (5126): ص 5/ 103.
(12)
تفسير الطبري (5128): ص 5/ 103.
(13)
تفسير الطبري (5129): ص 5/ 103.
(14)
تفسير الطبري (5130): ص 5/ 103.
(15)
تفسير الطبري (5131): ص 5/ 104.
(16)
تفسير الطبري (5132): ص 5/ 104.
(17)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري: 5/ 102، ومعاني الفراء 1: 152، واللسان (كنن). قداميات جمع قدامى، والقدامى واحد. وجمع، وهو هنا واحد. والقدامى والقوادم في الطير: عشر ريشات في كل جناح. وقوله: " ثلاث من ثلاث قداميات "، كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير، ثلاث ريشات من ريشه، وكأنه يريد ذلك لأسهمه، يريش الأسهم بها. والصقيع: الذي يسقط بالليل، شبيه بالثلج.
ثلاث من ثلاث قداميات
…
من اللائي تكن من الصقيع (1)
قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235]، "أي: قد علم الله أنكم ستذكرونهن: "إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم؛ فرخص في التعريض دون التصريح"(2).
قال الصابوني: " أي قد علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن فرفع عنكم الحرج"(3).
قال البيضاوي: " ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ"(4).
عن الحسن: {علم الله أنكم ستذكرونهن} ، قال: الخطبة" (5).
قال مجاهد: "ذكرك إياها في نفسك. قال: فهو قول الله: " علم الله أنكم ستذكرونهن " (6).
قوله تعالى: {وَلَكِن لَاّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235]، أي:"ولكنْ لا تواعدوهنَّ بالنكاح سرّا"(7).
قال المراغي: " فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنّة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه"(8).
وذكر العلماء في (السر) في قوله تعالى: {لَاّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235]، وجوها (9):
أحدها: أنه الزنى، قاله أبو مِجْلَز (10)، وأبو الشعثاء - جابر بن زيد - (11) والحسن البصري (12)، وإبراهيم النخعي وقتادة (13)، والضحاك (14)، والربيع بن أنس (15)، وسليمان التيمي (16)، والسدي (17)، وهو معنى رواية العَوفي عن ابن عباس (18).
واختاره قال الطبري قائلا: " وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال: السر، في هذا الموضع، (الزنا)، وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة (سرا)، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه (سرا)، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج (19):
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 102.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 190.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(4)
تفسير البيضاوي: 1/ 146.
(5)
تفسير اطبري (5133): ص 5/ 104.
(6)
تفسير الطبري (5134): ص 5/ 105.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 438.
(9)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 639، والنكت والعيون: 1/ 304.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5137): ص 5/ 105.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5136): ص 5/ 105.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5140) - (5143): ص 5/ 106.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5146): ص 5/ 106.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5149): ص 5/ 106.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5152): ص 5/ 107.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5151): ص 5/ 106.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5144): ص 5/ 106.
(18)
انظر: تفسير الطبري (5150): 5/ 107.
(19)
ديوانه: 104، واللسان (عسق)(عشق)(فرك)(سرر)، وفي اللسان في بعض مواده " إسرارها " بالكسر، وهو خطأ، وفي بعضها " الغسق "، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق، مصدر " عسق به يعسق ": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء). لا يحظى عند النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر " عشق يعشق ". والضمير في قوله:" فعف "، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه. والضمير في " أسرارها " عائد إلى الأتن.
فعف عن أسرارها بعد العسق
…
ولم يضعها بين فرك وعشق
يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول الحطيئة (1):
ويحرم سر جارتهم عليهم
…
ويأكل جارهم أنف القصاع
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه: (سرا)، ويقال: هو في سر قومه، يعني: في خيارهم وشرفهم.
ثم قال: فلما كان " السر " إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله:" ولكن لا تواعدوهن سرا "، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو " السر " الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين، و (السر) الذي بمعنى الغشيان والجماع، فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به، صح أن الآخر هو المعني به" (2).
الثاني: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عِددهن ألا ينكحن غيركم، وهذا قول ابن عباس (3)، وسعيد بن جبير (4)، والشعبي (5)، ومجاهد (6)، وعكرمة (7)، والسدي (8) وقتادة (9) وسفيان (10).
الثالث: ألا تنكحوهن في عِددهن سراً، وهو قول عبد الرحمن بن زيد (11).
الرابع: أن يقول لها: لا تفوتني نفسك، وهو قول مجاهد (12).
الخامس: الجماع، وهو قول الشافعي (13).
وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} [البقرة: 235]، " أي إلا وعدا معروفا، وهو التعريض الذي سبق"(14).
قال الشافعي: أي: " قولاً حسناً لا فحش فيه"(15).
قال المراغي: "أي لا تواعدوهن بالمستهجن، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك"(16).
(1) ديوانه: 93، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني يربوع. أنف كل شيء: طرفه وأوله. والقصاع جمع قصعة: وهي الجفنة الضخمة. يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة، واقتراف الإثم في حقها، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على أنفسهم، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما يكفيه. وقبل البيت: فليس الجار جار بني رياح
…
بمقصى في المحل ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم، وليست
…
يد الخرقاء مثل يد الصناع
(2)
تفسير الطبري: 5/ 110 - 111.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5154): ص 5/ 107.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5155): ص 5/ 107 - 108.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5157): ص 5/ 108.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5156): ص 5/ 108.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5156): ص 5/ 108.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5161): ص 5/ 108.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5162): ص 5/ 109.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5163): ص 5/ 109.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5171): ص 5/ 110.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5169): ص 5/ 109 - 110.
(13)
انظر: تفسير الشافعي: 1/ 391، ونقله الماوردي في النكت والعيون: 1/ 304.
(14)
التحرير والتنوير: 2/ 453.
(15)
تفسير الشافعي: 1/ 391.
(16)
تفسير المراغي: 1/ 438.
قال الصابوني: " إِلا بطريق التعريض والتلويح وبالمعروف الذي أقرّه لكم الشرع"(1).
قال البيضاوي: "وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف أي: لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة، أو إلا مواعدة بقول معروف. وقيل إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو غير موعود. وفيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة. واختلف في معتدة الفراق البائن والأظهر جوازه"(2).
قال الرازيّ: " لما أذن في أول الآية بالتعريض، ثم نهى عن المسارة معها دفعا للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض والله أعلم"(3).
قال ابن عاشور: " فإن القول المعروف من أنواع الوعد إلا أنه غير صريح، وإذا كان النهي عن المواعدة سرا، علم النهي عن لمواعدة جهرا بالأول"(4).
قال سعيد بن جبير: "يقول: إني فيك لراغب، وإني لأرجو أن نجتمع"(5).
قال ابن عباس: ": هو قوله: " إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك " (6).
قال مجاهد: "يعني التعريض"(7).
قال السدي: " هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول: " والله إنكم لأكفاء كرام، وإنكم لرغبة، وإنك لتعجبيني، وإن يقدر شيء يكن ". فهذا القول المعروف"(8).
قال الضحاك: "المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها، فيأتيها الرجل فيقول: " احبسي علي نفسك، فإن لي بك رغبة، فتقول:" وأنا مثل ذلك "، فتتوق نفسه لها. فذلك القول المعروف" (9).
قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 439]، أي "ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهى عدتها"(10).
قال النسفي: " ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح"(11).
قال الطبري: " ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} "(12).
قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، "حتى ينتهي ما كتب من العدة"(13).
قال مجاهد: "حتى تنقضي العدة"(14). وروي نحوه عن السدي (15) وقتادة (16) والربيع (17) وابن عباس (18) والضحاك (19) والشعبي (20) وسفيان (21).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 136.
(2)
تفسير البيضاوي: 1/ 146.
(3)
مفاتيح الغيب: 6/ 472.
(4)
التحرير والتنوير: 2/ 453 - 454.
(5)
تفسير الطبري (5172): ص 5/ 113 - 114.
(6)
تفسير الطبري (5173): ص 5/ 114.
(7)
تفسير الطبري (5174): ص 5/ 114.
(8)
تفسير الطبري (5176): ص 5/ 114.
(9)
تفسير الطبري (5179): ص 5/ 115.
(10)
تفسير المراغي: 1/ 439.
(11)
تفسير النسفي: 1/ 127.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 115.
(13)
تفسير البيضاوي: 1/ 146.
(14)
تفسير الطبري (5180): ص 5/ 115.
(15)
تفسير الطبري (5181): ص 5/ 115 - 116.
(16)
تفسير الطبري (5182): ص 5/ 116.
(17)
تفسير الطبري (5183): ص 5/ 116.
(18)
تفسير الطبري (5184): ص 5/ 116.
(19)
تفسير الطبري (5186): ص 5/ 116.
(20)
تفسير الطبري (5187): ص 5/ 116.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5189): ص 5/ 116.
قال أبو حيان: " وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن العقدة "(1).
وقد ذكر العلماء في لفظ العزم وجوها (2):
الأول: أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال، قال تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله [آل عمران: 159]
القول الثاني: أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب، يقال: عزمت عليكم، أي أوجبت عليكم ويقال: هذا من باب العزائم لا من باب الرخص، وقال عليه الصلاة والسلام:"عزمة من عزمات ربنا"(3)، وقال:"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"(4).
قال الرازي": "ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز، وعلى هذا فقوله:{ولا تعزموا عقدة النكاح} ، أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه، ولا تفرغوا منه فعلا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين" (5).
القول الثالث: قال القفال رحمه الله: "إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح، لأن المعنى: لا تعزموا عليهن عقدة النكاح، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح، كما تقول: عزمت عليك أن تفعل كذا"(6).
و(أجل) الشيء: "منتهاه، وغايته؛ أي حتى يبلغ غايته حسب ما فرض الله سبحانه وتعالى"(7).
وفي {الْكِتَابُ} [البقرة: 235]، قولان (8):
الأول: المراد منه: المكتوب، والمعنى: تبلغ العدة المفروضة آخرها، وصارت منقضية.
والثاني: أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض، كقوله:{كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]، فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته.
قال النسفي: " وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته"(9).
قال الرازي: "وإنما حسن أن يعبر عن معنى: فرض، بلفظ كتب، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد"(10).
(1) تفسير البحر المحيط: 2/ 238.
(2)
انظر: مفاتيح الغيب: 6/ 472.
(3)
مسند الإمام احمد (19514): ص 5/ 2، وسنن النسائي (2444): ص 5/ 16. من حديث بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عن لابيه عن جده. سنن ابي داود (1575): ص 2/ 101.
(4)
مصنف أبي شيبة: 6/ 234، والسنن الكبرى: 3/ 140. والمعجم الكبير: (10030): ص 10/ 85.
(5)
انظر: مفاتيح الغيب: 6/ 472.
(6)
مفاتيح الغيب: 6/ 473.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 161. وقال: والمراد بـ {الكتاب}، هنا - كما ذكره المفسرون - "العدة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرضها؛ فهي مفروضة؛ يعني حتى يبلغ المفروض أجله؛ والمفروض هي العدة؛ ويحتمل أن يكون المراد بـ {الكتاب} هنا ما يكتبونه عند ابتداء سبب العدة من موت، أو طلاق، أو نحوه، كأن يقال مثلاً: توفي في يوم كذا؛ ويكون هذا داخلاً في قوله تعالى: {وأحصوا العدة} يعني اضبطوها، وحرروها؛ وعلى هذا فيكون المعنى الكتاب المكتوب الذي فيه بيان متى كان سبب العدة من وفاة، أو طلاق". [تفسيره: 1/ 161].
(8)
انظر: مفاتيح الغيب: 6/ 473، والنكت والعيون: 1/ 304.
(9)
تفسير النسفي: 1/ 127.
(10)
مفاتيح الغيب: 6/ 473.
قال ابن كثير: " وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة"(1).
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، أي:"واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه فى قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل"(2).
قال البغوي: " أي فخافوا الله"(3).
قال السعدي: " أي: فانووا الخير، ولا تنووا الشر، خوفا من عقابه ورجاء لثوابه"(4).
قال ابن كثير: " توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر"(5).
قال الرازي: " وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالما بالسر والعلانية، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية"(6).
قال المراغي: "وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، ليكون ذلك آكد في المحافظة عليها والعناية بها"(7).
وقيل: "المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ، وقيل: من الوفاء والإخلاف"(8).
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا} فعل أمر؛ وأتى سبحانه وتعالى به للأهمية، والتحذير من المخالفة؛ وهذه الجملة يؤتى بها من أجل التنبيه (9).
واختلف في الضمير (الهاء) في قوله تعالى: {فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 234]، على وجهين:
أحدهما: أنها تعود على الله تعالى، أي: فاحذروا عقابه (10).
والثاني: ويحتمل أن تعود على ما لا يجوز من العزم، أي فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه. قاله الزمخشري (11).
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، أي: "واعلموا أن الله غفور رحيم لما فرط منكم من الذنب، حليم لا يعجل بالعقوبة (12).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 640. ثم قال: " واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب، وسليمان بن يسار: أن عمر، رضي الله عنه، قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا.
قالوا: ومأخذ هذا: أن الزوج لما استعجل ما أجل الله، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التأبيد، كالقاتل يحرم الميراثَ. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول علي: إنها تحل له. قلت: ثم هو (6) منقطع عن عمر. وقد روى الثوري، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق: أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان". [تفسير ابن كثير: 1/ 640 - 641].
(2)
تفسير المراغي: 1/ 439.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 283.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 105.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 642.
(6)
مفاتيح الغيب: 6/ 473.
(7)
تفسير المراغي: 1/ 439.
(8)
تفسيبر البحر المحيط: 2/ 239.
(9)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 161.
(10)
انظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 239.
(11)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 284.
(12)
التفسير الواضح: 1/ 153.
قال السعدي: غفور "لمن صدرت منه الذنوب، فتاب منها، ورجع إلى ربه، {حَلِيمٌ} حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم، مع قدرته عليهم"(1).
قال ابن كثير: " ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته، ولم يُقْنطهم من عائدته، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} "(2).
قال المراغي: " أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلّاتهم، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة، وتعملوا بما أمرتم به، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم"(3).
والـ {غفور} مأخوذ من: الـ (غَفْر) وهو الستر مع الوقاية؛ والمراد به ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ والـ (حليم) هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها" (4).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: جواز التعريض في خطبة المتوفى عنها زوجها؛ لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} .
2 -
ومنها: تحريم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة؛ لقوله تعالى: {فيما عرضتم به} فنفي الجناح عن التعريض - وهو دون التصريح - يدل على تحريم التصريح؛ ويؤيده قوله تعالى: {ولكن لا تواعدهن سراً} .
تكميلاً لهذه الفائدة نقول: إن خطبة المعتدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تحرم تصريحاً وتعريضاً؛ وتباح تصريحاً وتعريضاً؛ وتحرم تصريحاً لا تعريضاً؛ فالأول: في الرجعية لغير زوجها؛ فيحرم على الإنسان أن يخطب الرجعية لا تصريحاً، ولا تعريضاً؛ والرجعية هي المعتدة التي يجوز لزوجها أن يراجعها بغير عقد؛ لأنها زوجة، كما قال تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228]؛ والتي تحل تصريحاً وتعريضاً هي البائن من زوجها بغير الثلاث، كالمطلقة على عوض، والمختلعة، والفاسخة لنكاحها بسبب، وما أشبه ذلك؛ فيجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً، وتصريحاً، وأن يتزوجها؛ والتي تباح تعريضاً لا تصريحاً كل مبانة لغير زوجها؛ فيجوز لغير زوجها أن يعرض بخطبتها بدون تصريح، كالمتوفى عنها زوجها تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً.
3 -
ومن فوائد الآية: جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة لا يجوز له التصريح بخطبتها؛ لقوله تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} .
4 -
ومنها: جواز ذكر الإنسان المرأة المعتدة في نفسه، ولغيره؛ لقوله تعالى:{علم الله أنكم ستذكرونهن} ؛ فلو قال شخص: «إنني أريد أن أتزوج امرأة فلان المتوفى عنها زوجها» يحدث غيره: فلا بأس به.
5 -
ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يواعد المعتدة من الوفاة بالنكاح، فيقول:«إذا انتهت عدتك فإنني سأتزوجك» ؛ لقوله تعالى: {ولكن لا تواعدهن سراً} .
6 -
ومنها: أن التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها من القول المعروف غير المنكر؛ لقوله تعالى: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} .
7 -
ومنها: تحريم عقد النكاح في أثناء العدة إلا من زوجها؛ لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} .
(1) تفسير السعدي: 1/ 105.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 641.
(3)
تفسير المراغي: 1/ 439.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 162.
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أن النكاح باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فأيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل - وإن كان مائة شرط"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(2)؛ فلو عقد عليها في العدة فالعقد باطل؛ وهل له أن يتزوجها بعد انقضاء العدة؟ اختلف العلماء رحمهم الله هل تحل له لزوال المانع؛ وهو قول الجمهور؛ أو لا تحل له عقوبة له لتعجله الشيء قبل أوانه على وجه محرم؛ في المسألة قولان؛ وينبغي أن يرجع في ذلك إلى حكم الحاكم فيحكم بما يراه أصلح للعباد.
8 -
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى العناية بالعدة، وأنه ينبغي أن تكتب؛ لقوله تعالى:{حتى يبلغ الكتاب أجله} .
9 -
ومنها: المخاطبة بالمجمل، وأنها أسلوب من أساليب البلاغة؛ لقوله تعالى:{حتى يبلغ الكتاب أجله} ؛ ومن فوائد الإجمال أن النفس تتطلع إلى بيانه، وتحرص عليه حتى تدركه؛ فإذا أدركت البيان بعد الإجمال كان ذلك أحرى بأن يبقى العلم في نفس الإنسان، ولا ينساه.
10 -
ومنها: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} .
ويتفرع على هذا: أن لا يضمر الإنسان في نفسه ما لا يرضاه الله عز وجل.
11 -
ومنها: أن هذا القرآن العظيم مثاني - بمعنى تُثَنَّى فيه الأمور، والمواضيع؛ فإذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار؛ وإذا ذكر الرجاء ذكر معه الخوف
…
وهكذا؛ وقد نص الله على ذلك فقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} [الزمر: 23]- وهو هذا القرآن؛ ومثاله في هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما حذَّر قال: {واعلموا أن الله غفور حليم} .
12 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الحليم» ؛ وقد ذكرنا فيما سبق أن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن للصفة؛ فإذا كان متعدياً فهو يتضمن الحكم؛ وإن كان غير متعدٍّ لم يتضمنه؛ وربما يدل على أكثر من صفة بدلالة الالتزام؛ لأن أنواع الدلالة ثلاثة: مطابقة، وتضمن، والتزام؛ فـ «المطابقة» دلالة اللفظ على جميع معناه؛ و «التضمن» دلالته على بعض معناه؛ و «الالتزام» دلالته على لازم خارج؛ مثل «الخالق» من أسماء الله؛ دلالته على الذات، والخلق: مطابقة؛ ودلالته على الذات وحدها، أو على الخلق وحده: تضمن؛ ودلالته على العلم، والقدرة: التزام؛ فلا يمكن أن يكون خالقاً إلا أن يكون عالماً قادراً؛ لأنه لا يخلق من لا يقدر؛ ولا يخلق من لا يعلم؛ فلا بد أن يكون عالماً قادراً؛ ولهذا قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12]؛ فذكر العلم، والقدرة بعد أن ذكر أنه خلق؛ ولا يمكن أن يكون هناك خلق إلا أن يعلم كيف يخلق، ويقدر على ذلك.
القرآن
التفسير:
(1) أخرجه البخاري ص 201 - 202، كتاب المكاتب، باب 3: استعانة المكاتب وسؤاله الناس، حديث رقم 2563؛ وأخرجه مسلم ص 937، كتاب العتق، باب 1: ذكر سعاية العبد، حديث رقم 3779 [8]1504.
(2)
أخرجه البخاري ص 214، كتاب الصلح، باب 5: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم 2697؛ وأخرجه مسلم ص 982 - 983، كتاب الأقضية، باب 8: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم 4493 [18] 1718، واللفظ لمسلم.
لا إثم عليكم -أيها الأزواج- إن طلقتم النساء بعد العقد عليهن، وقبل أن تجامعوهن، أو تحددوا مهرًا لهن، ومتِّعوهن بشيء ينتفعن به جبرًا لهن، ودفعًا لوحشة الطلاق، وإزالة للأحقاد. وهذه المتعة تجب بحسب حال الرجل المطلِّق: على الغني قَدْر سَعَة رزقه، وعلى الفقير قَدْر ما يملكه، متاعًا على الوجه المعروف شرعًا، وهو حق ثابت على الذين يحسنون إلى المطلقات وإلى أنفسهم بطاعة الله.
في سبب نزول الآية قال مجاهد: "نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أطلقتها؟ " قال: نعم إني لم أجد نفقة. قال: "متعها بقلنسوتك أما إنها لا تساوي شيئا، ولكن أردت أن أحيي سنة" (1).
قوله تعالى: قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [القرة: 236]، أي:" لا يلزمكم شاء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء"(2).
قال الشوكاني: " أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة"(3).
قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، أي:" ما لم تجامعوهن"(4).
قال المراغي: أي: " قبل الدخول بهن"(5).
وقرأ ابن مسعود: {من قبل أن تجامعوهن} ، أخرجه عنه ابن جرير (6).
واختلف أهل العلم في إعراب {ما} [البقرة: 236]، على ثلاثة أقوال (7):
الأول: هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف، أي: مدة عدم مسيسكم.
والثاني: ونقل أبو البقاء: أنها شرطية، من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيدا للأول كما في قولك: إن تأتني أن تحسن إلي أكرمك، أي: إن تأتني محسنا إلي، والمعنى: إن طلقتموهن غير ماسين لهن، ومنها قوله تعالى:{فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} [الواقعة: 86، 87] فهنا شرط في شرط.
والثالث: وقيل إنها موصولة أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن.
قلت: المعنى واحد؛ ولكن الاختلاف في الإعراب. والله أعلم.
وفي قوله تعالى: {ما لم تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، قراءتان (8):
الأولى: قرأ حمزة والكسائي: {تُماسوهن} ، بالألف على المفاعلة، وكذلك في "الأحزاب"(9).
وحجتهم: أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعا وأيضا يدل على ذلك قوله تعالى: من قبل أن يتماسا [المجادلة: 3] وهو إجماع.
الثانية: {تَمَسُّوهُنَّ} بغير الألف. وهي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر.
(1) العجاب: 1/ 596، ربما كان هذا القول من تفسير ابن ظفر نقله عنه ابن حجر، ولم اجد الخبر في تفسير الطبري وابن كثير والسيوطي، ورأيت مثله غير منسوب لقائل في "تفسير مقاتل بن سليمان" "1/ 123" وفيه بدل قوله:"أطلقتها". وجوابه: "هل متعتها بشيء؟ " قال: لا قال: "متعها
…
" إلخ وقد نقله ابن الجوزي في زاده "1/ 279"، وانظر: تفسير الخازن: 1/ 170.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 441.
(3)
فتح القدير: 1/ 252.
(4)
فتح القدير: 1/ 252.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 441.
(6)
نقلا عن: فتح القدير: 1/ 252.
(7)
انظر: فتح القدير: 1/ 252.
(8)
انظر: السبعة: 183 - 184، وتفسير الطبري: 5/ 118 - 119، ومفاتيح الغيب: 6/ 474، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 167.
(9)
وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49].
واحتجوا بإجماعهم على قوله: {ولم يمسسني بشر} [آل عمران: 47]، فجعل المسّ من جانب واحد وهو الرجل، ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله:{لم يطمثهن} [الرحمن: 56] وكقوله: {فانكحوهن بإذن أهلهن} [النساء: 25] وأيضا المراد من هذا المس: الغشيان، وذلك فعل الرجل، ويدل في الآية الثانية على المراد من هذا المس الغشيان، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى:{من قبل أن يتماسا} فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار، وبعض من قرأ:{تماسوهن} قال: إنه بمعنى (تمسوهن)، لأن فاعل قد يراد به فعل، كقوله: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وهو كثير (1).
قلت: إن كلا القولين بمعنًى واحد؛ والمراد به الجماع؛ لكن جرت عادة العرب - والقرآن بلسان عربي مبين - أن يُكَنوا عما يستحيا من ذكره صريحاً بما يدل عليه؛ ولكل من القراءتين وجه كما سبق. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، أي:" أو توجبوا لهن صداقا واجبا"(2).
قال ابن عباس: "الفريضة: الصداق"(3).
قال الدكتور محمد الحجازي: أي: "وقبل أن تحددوا لهن صداقا"(4).
قال المراغي: " إلا إذا سميتم لهن مهرا"(5).
قال الزمخشري: " إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة تسمية المهر"(6).
قال السعدي: " وفرض المهر، وإن كان في ذلك كسر لها، فإنه ينجبر بالمتعة"(7).
قال النسفي: "وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة"(8).
وأصل (الفرض) في اللغة: الواجب، كما قال الشاعر (9):
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ، كَمَا
…
كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل: " فرض السلطان لفلان ألفين، يعني بذلك: أوجب له ذلك، ورزقه من الديوان (10).
وكما يقال: فرض السلطان لفلان في الفيء، يعني أوجب له ذلك (11).
وذكر العلماء في معنى {أو} في قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، وجوها (12):
أحدها: أنها بمعنى (الواو)، أي: ولم تفرضوا لهن فريضة.
قال الراغب: "و {أو} فى نحو هذا الموضع يفيد ما يفيد (الواو) على وجه، وذاك أنه إذا قيل: " افعل كذا إن جاءك زيد أو عمرو يقتضي أن يفعله إن جاء أحدهما، ولا شك أنه يحتاج أن يفعله إذا جاءا جميعاً، لأنه
(1) انظر: العجاب: 2/ 336 - 338.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 120.
(3)
تفسير الطبري (5192): ص 5/ 120.
(4)
تفسير الواضح: 1/ 153.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 441.
(6)
الكشاف: 1/ 284.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 105.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 127.
(9)
البيت للنابغة الجعدي، انظر: معاني القرآن للفراء 1: 99، 131، ومشكل القرآن: 153، والإنصاف: 165، وأمالي الشريف 1: 216، والصاحبي: 172، وسمط اللآلي: 368، واللسان (زنا).
(10)
تفسير الطبري: 5/ 120.
(11)
انظر: النكت والعيون: 1/ 305.
(12)
انظر: فتح القدير: 1/ 252، والنكت والعيون: 1/ 305.
قد جاء أحدهما وزيادة، وعلى هذا قال النحويون:" جالس الحسين وابن سيرين " يقتضي أنه إذا جالسهما، فقد امتثل، وعلى هذا قوله- عز وجل:{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24](1)، وقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43](2)، فظاهر الآية يقتضي أنه لم يكن مسيس أو لم يكن لها فرض أو لم يكن الأمران، فلها المتعة كالأمثلة المتقدمة" (3).
قال الرازي: " وذكر كثير من المفسرين أن (أو) هاهنا بمعنى الواو، ويريد: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف، بل خطأ قطعا والله أعلم"(4).
والثاني: أن في الكلام حذفاً وتقديره: فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة.
والثالث: أنها بمعنى (إلا)، والمعنى: إلا أن تفرضوا.
والرابع: أنها بمعنى (حتى)، أي: حتى تفرضوا.
قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، أي:"أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار"(5).
قال الطبري: أي " وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم، على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار"(6).
قال ابن كثير: "معناه: أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن"(7).
قال ابن حجر: " وهو (8) ما يعطي الزوج المطلقة بعد طلاقها إحساناً إليها، وأما غير المدخول بها فمتاعها ما فرض لها"(9).
وفي {قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، قراءتان (10):
إحداهما: {قَدَرُهُ} بفتح الدال؛ قرأ بها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم.
والثانية: {قَدْرُهُ} بسكونها؛ وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر.
قال ابن عثيمين: " فعلى القراءة الأولى يكون المعنى ما يقدِر عليه؛ وعلى الثانية يكون المعنى بقَدْره، أي بقدر سعته"(11).
و{الْمُوسِعِ} : " هو الغني الكثير المال؛ و {المُقْتِر} هو الفقير الذي ليس عنده شيء"(12).
قال ابن حجر: {الْمُوسِعِ} " أي: من يكون ذا سعة (13).
واختلف في قدر (المتعة) على ثلاثة أقاويل (14):
(1) أي: "وكفورا". [تفسير ابن القرطبي: 3/ 200].
(2)
معناه "وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون". [تفسير القرطبي: 3/ 200].
ومنه قوله: {إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] وما كان مثله.
(3)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 490.
(4)
مفاتيح الغيب: 6/ 476.
(5)
النكت والعيون: 1/ 305.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 120.
(7)
تفسير القرطبي: 3/ 200.
(8)
أي: متاع المطلقة.
(9)
الهدي: 195.
(10)
انظر: السبعة: 184.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 168.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 168.
(13)
الفتح: 8/ 465.
(14)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 121 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 305.
أحدها: أن المتعة الخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة، وهو قول ابن عباس والشعبي وعامر والربيع بن أنس وقتادة وعبدالرحمن بن عوف وابن سيرين وابن شهاب (1).
والثاني: أنه قدر نصف صداق مثلها، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه (2).
والثالث: أنه مُقَدَّر باجتهاد الحاكم، وهو قول الشافعي (3).
والراجح هو القول الأول، بأن "الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره: " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره "، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره: " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره "، معنى مفهوم ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن"(4).
واختلفوا في وجوب (المتعة) في قوله تعالى: {ومتعوهن} [البقرة: 236]، على أقوال (5):
أحدها: أنه تجب المتعة لكل مطلقة، لعموم قوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن. قاله سعيد بن جبير (6)، وأبو العالية (7)، والحسن (8). وانتصر له الطبري (9).
الثاني: أنها واجبة لكل مطلقة إلا غير المدخول بها، فلا متعة لها. وهو قول ابن عمر (10)، وسعيد بن المسيب (11)، ومجاهد (12)، ونافع (13)، وابن ابي نجيح (14)، وشريح (15).
الثالث: أنها حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضى به على المطلق، ومنها ما لا يقضى به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه. قاله الزهري (16).
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 121 - 123.
(2)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 124. قال ابن كثير: "ذهب أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها". [تفسير ابن كثير: 1/ 641].
وجاء في موسوعة الفقه الاسلامي [4/ 68 - 69]: " يجب على الزوج نصف المهر إذا طلق زوجته قبل الدخول بها، وكان قد فرض لها صداقاً.
وإن طلقها قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقاً، فلا مهر لها، لكن تجب عليه المتعة للمرأة حسب يُسْر الزوج وعُسْره، قال الله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة: 236 - 237] ".
(3)
وهو قول الشافعي في الجديد: "لا يجبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدرًا إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما". [تفسير ابن كثير: 1/ 641].
(4)
تفسير الطبري: 5/ 124.
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 125 وما بعدها، وتفسير ابن كثير: 1/ 641 - 642.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5211): ص 5/ 125.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5209): ص 5/ 125.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5209)، و (5210)، و (5214): ص 5/ 125 - 126.
(9)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 125 - 131.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5215): ص 5/ 126.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5217) - (5220): ص 5/ 126 - 127.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5221)، و (5222): ص 5/ 127.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5223): ص 5/ 127.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5224): ص 5/ 127.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5226)، و (5227): ص 5/ 127 - 128.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5229)، و (5230): ص 5/ 128 - 130.
الرابع: أنها غير واجبة، وإنما الأمر بها ندب وإرشاد، وهو قول شريح (1).
الخامس: أنها واجبة لغير المدخول بها إذا لم يُسمّ لها صداق، وهو قول الشافعي (2).
قال الطبري: " وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره: " حقا على المحسنين "، وقوله: " حقا على المتقين "، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس، وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال: " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين "، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال: " وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم "، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، فيما لها على الزوج من الحقوق"(3).
والراجح هو قول من قال: " لكل مطلقة متعة، لأن الله تعالى ذكره قال: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها"(4).
قوله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين} [البقرة: 236]، أي:" تمتيعاً بالمعروف حقّاً على المؤمنين المحسنين"(5).
قال المراغي: "وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم"(6).
قال البغوي: " أي: بما أمركم الله به من غير ظلم"(7).
قال القرطبي: " أي يحق ذلك عليهم حقا"(8).
قال ابن حجر: " المتاع: ما يتمتع به، أي: ينتفع"(9).
و{الْمُحْسِنِينَ} أي على فاعلي الإحسان، و (الإحسان) هنا ما كان موافقاً للشرع؛ فإذا قرن بـ (العدل) صار المراد بـ (الإحسان) الفضل الزائد على العدل، كما في قوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]؛ فـ (الإحسان) تارة يراد به موافقة الشرع - ولو كان شيئاً واجباً -؛ وتارة يراد به ما زاد على الواجب؛ وهذا إذا قُرن بـ «العدل» (10).
وذكر العلماء بأن " الحكمة في شرع هذه المتعة، أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شاء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبا، أو رابه من أمرها شاء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أثر عن الحسن السبط، أنه متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت:"متاع قليل من حبيب مفارق"(11).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: جواز طلاق الرجل امرأته قبل أن يمسها؛ لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} ؛ وربما يشعر قوله تعالى: {لا جناح} أن الأولى عدم ذلك؛ لأن طلاقه إياها قبل أن يمسها وقد خطبها، وقدم إليها الصداق فيه شيء على المرأة، وغضاضة، وإن كان الإنسان قد يتأمل في أمره، وتضطره الأمور إلى الطلاق فإنه لا ينبغي أن يكون متسرعاً متعجلاً.
(1) انظر: تفسير الطبري (5231) - (5233): ص 5/ 129.
(2)
انظر: تفسير الشافعي: 1/ 337 - 339.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 129 - 130.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 130.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(6)
تفسير المراغي: 1/ 441.
(7)
تفسير البغوي: 1/ 184.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 200.
(9)
الهدي: 195، وانظر: تهذيب اللغة للأزهري: 2/ 291، لسان العرب لابن منظور: 6/ 4127، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/ 293، القاموس المحيط للفيروزآبادي: 686، البسيط للواحدي: 1/ 121 أ، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 279، مفاتيح الغيب للرازي: 5/ 165، المفردات للراغب: 461، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي:633.
(10)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 168.
(11)
رواه الطبري بنحوه في تفسيره (5206): ص 5/ 123، من طريق عبد الرزاق به، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 641، وتفسير البغوي: 1/ 441. وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان كثير التزوج، كثير التطليق.
قال ابن كثير رحمه الله: " قالوا: وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقا، مصداقا، يقال إنه أحصن سبعين امرأة " انتهى من "البداية والنهاية"(8/ 42).
وذكرا نحوا من هذا الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء"(3/ 253)، وينظر أيضا:"تاريخ دمشق" لابن عساكر (13/ 251)، "تاريخ الإسلام" للذهبي (4/ 37)، "محاضرات الأدباء"، للراغب الأصفهاني (1/ 408).
ولكن لا بد لنا أن نعلم أن كثيرا من مرويات التاريخ لا تصح، ولذلك يجب علينا أن نكون منها على حذر، وخاصة إذا كانت تخص أحدا من أعلام الإسلام وسادات المسلمين.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في "ألفية السيرة"(ص: 1)" "وليعلمِ الطالبُ أنَّ السّيَرَا تَجمَعُ ما صحَّ وما قدْ أُنْكرَا".
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله: " على أن حاجة التاريخ إلى معرفة أحوال ناقلي الوقائع التاريخية، أشد من حاجة الحديث إلى ذلك؛ فإن الكذب والتساهل في التاريخ أكثر " انتهى. علم الرجال وأهميته" (ص: 24).
وما ورد من كون الحسن بن علي رضي الله عنهما كان قد تزوج بأكثر من سبعين امرأة، أو تسعين، ونحو ذلك من الروايات، لم نقف على إسناد تقوم به الحجة لشيء منها، فينبغي التوقف في قبولها، والتريث في التعويل عليها.
يقول الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه عن الحسن بن علي رضي الله عنه (ص: 27): " وقد ذكر المؤرخون أن من زوجاته، خولة الفزازية، وجعدة بنت الأشعث، وعائشة الخثعمية، وأم إسحاق بنت طلحة بنت عبيد الله التميمي، وأم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري، وهند بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وأم عبد الله وهي بنت الشليل بن عبد الله أخو جرير البجلي وامرأة من بني ثقيف وامرأة من بني عمرو بن أهيم المنقري، وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة. وربما تجاوز هذا العدد بقليل، وهو كما ترى لا يمتّ إلى الكثرة المزعومة بصلة، بعرف ذلك العصر.
وأما ما رواه رواة الأثر، في كونه تزوج سبعين، وفي بعض الروايات تسعين، والبعض الآخر مائتين وخمسين، والبعض الآخر ثلاثمائة، وروي غير هذا؛ إلا أنه من الشذوذ بمكان، وهذه الكثرة المزعومة موضوعة. وأما الروايات فهي كالتالي:
…
" ثم شرع في تخريج هذه المرويات وبيان ضعفها ووهائها، فانظره في المصدر السابق (ص 28 – 31). ثم قال حفظه الله (ص: 31): " إن الروايات التاريخية التي تشير إلى الأعداد الخيالية في زواج الحسن بن علي رضي الله عنه لا تثبت من حيث الإسناد، وبالتالي لا تصلح للاعتماد عليها نظراً للشبه والطعون التي حامت حولها".
إلى أن قال: "ومن هنا تتضح أهمية علم الجرح والتعديل والحكم على الروايات والدور العظيم الذي قام به علماء الحديث في بيان زيف مثل هذه الأخبار.
ولذلك ننصح الباحثين في تاريخ صدر الإسلام بالاهتمام بنقد مثل هذه الروايات، حتى يميزوا صحيحها من سقيمها، فيقدموا للأمة خدمة جليلة ولا يتورطوا مثل ما تورط فيه بعض السادة الذين لا نشك في نواياهم، بسبب اعتمادهم في بحوثهم على الروايات الضعيفة والموضوعة " انتهى.
ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله أشار إلى أن ما ورد في ذلك لم يصح بقوله: " يقال إنه أحصن سبعين امرأة " فتصديره الكلام بصيغة التمريض مشعر بعدم الثبوت، أو على الأقل بعدم الوقوف على إسناد تقوم به الحجة في ذلك. والله تعالى أعلم.
2 -
ومنها: إطلاق المس على الجماع؛ لقوله تعالى: {ما لم تمسوهن} .
3 -
ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بلا تسمية مهر؛ لقوله تعالى: {أو تفرضوا} يعني: ما لم تفرضوا لهن فريضة؛ وقد اختلف العلماء فيما إذا تزوج المرأة، وشرط ألا مهر لها؛ فمنهم من يرى أن النكاح غير صحيح - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وهو الراجح؛ لأن الله اشترط للحل المال؛ قال تعالى:{وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]؛ ولأن النكاح إذا شرط فيه عدم المهر صار بمعنى الهبة؛ والنكاح بالهبة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ والحال لا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يشترط المهر ويعيَّن؛ وإما أن يسكت عنه؛ وإما أن يشترط عدمه؛ ففي الحال الأولى يكون النكاح صحيحاً، ولا نزاع فيه؛ وفي الثانية النكاح صحيح، ولها مهر المثل؛ وفي الثالثة موضع خلاف بين أهل العلم؛ وسبق بيان الراجح.
4 -
ومن فوائد الآية: وجوب المتعة على من طلق قبل الدخول، ولم يسم لها مهراً؛ لقوله تعالى:{ومتعوهن} .
5 -
ومنها: أن ظاهر الآية الكريمة أنه إذا خلا بها، ولم يمسها لم يكن عليه إلا المتعة؛ لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة؛ وقياس ذلك وجوب مهر المثل إذا خلا بها، ولم يسم لها صداقاً.
6 -
ومنها: أن العبرة في المتعة حالُ الزوج: إن كان موسراً فعليه قدره؛ وإن كان معسراً فعليه قدره؛ لقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
7 -
ومنها: امتناع التكليف بما لا يطاق؛ لقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} ؛ وهذه القاعدة دل عليها القرآن في عدة مواضع؛ منها قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].
8 -
ومنها: مراعاة الأحوال في الأحكام؛ فيثبت في كل حال ما يناسبها؛ لقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
9 -
ومنها: أن للعرف اعتباراً شرعياً؛ لقوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} .
10 -
ومنها: أن الحق إما أن يكون في الأخبار، أو يكون في الأحكام؛ فإن كان في الأخبار فهو الصدق؛ وإن كان في الأحكام فهو العدل؛ وقد يجمع بين العدل وبين الصدق، فيحمل الصدق على الخبر؛ والعدل على الأحكام، مثل قوله تعالى:{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115].
القرآن
التفسير:
وإن طلَّقتم النساء بعد العقد عليهن، ولم تجامعوهن، ولكنكم ألزمتم أنفسكم بمهر محدد لهن، فيجب عليكم أن تعطوهن نصف المهر المتفق عليه، إلا أنْ تُسامِح المطلقات، فيتركن نصف المهر المستحق لهن، أو يسمح الزوج بأن يترك للمطلقة المهر كله، وتسامحكم أيها الرجال والنساء أقرب إلى خشية الله وطاعته، ولا تنسوا -أيها الناس- الفضل والإحسان بينكم، وهو إعطاء ما ليس بواجب عليكم، والتسامح في الحقوق. إن الله بما تعملون بصير، يُرغِّبكم في المعروف، ويحثُّكم على الفضل.
اختلف أهل العلم في هذه الآية على ثلاثة أقوال (1):
أحدها: قالت فرقة منها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع؛ إذ يتناولها قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} .
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 230، وتفسير القرطبي: 3/ 203.
والثاني: أنه نسخت هذه الآية الآية التي في (الأحزاب): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [سورة الأحزاب: 49]، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وهذا قول سعيد بن المسيب (1).
والثالث: أنه نسخت هذه الآية الآية التي قبلها، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها. وهذا قول قتادة (2).
قال القرطبي: "قول سعيد وقتادة فيه نظر؛ إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن"(3).
وقال ابن القاسم: "كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة "الأحزاب" فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض"(4).
قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، " أي: وإِذا طلقتموهن قبل الجماع" (5).
قال أبو مسلم: "وإنما كنى تعالى بقوله: {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة، تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به"(6).
وفي قراءة: {تماسوهن} ، وسبق توجيههما، ومعناهما، في الآية السابقة (7).
قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، أي "وقد كنتم ذكرتم لهنَّ مهراً معيناً"(8).
قال القاسمي: أي: "سميتم لهن مهرا مقدّرا"(9).
قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، أي:" فلهنّ نصف ما سميتم لهنّ من المهر"(10).
قال القرطبي: "أي: فالواجب نصف ما فرضتم من المهر، فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع "(11).
قال الشوكاني: "وهذا مجمع عليه"(12).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَنِصْفُ} [البقرة: 237] على وجوه (13):
الأول: قرأ الجمهور {فَنِصْفُ} بالرفع.
الثاني: وقرأت فرقة {فَنِصْفَ} بنصب (الفاء)؛ المعنى: فادفعوا نصف.
الثالث: وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت {فَنُصْفُ} بضم (النون) في جميع القرآن، وهي لغة.
(1) انظر: تفسير الطبري (5217) - (5220): ص 5/ 126 - 127.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5249): ص 5/ 142.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 203.
(4)
المدونة: 2/ 332، ونقله القرطبي بتماه، انظر: تفسير القرطبي: 3/ 203.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 161.
(7)
انظر: السبعة: 183 - 184، وتفسير الطبري: 5/ 118 - 119، ومفاتيح الغيب: 6/ 474، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 167.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 136.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 161.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 161.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 204.
(12)
فتح القدير: 1/ 253.
(13)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 204.
الرابع: وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال: (نصف ونصف ونصيف) لغات ثلاث في (النصف)؛ وفي الحديث: " لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(1)، أي نصفه. والنصيف أيضا القناع.
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، أي:" إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه"(2).
قال الضحاك: "المرأة تترك الذي لها"(3)، وروي نحوه عن عكرمة (4)، وابن عباس (5)، ومجاهد (6)، والربيع (7)، وشريح (8)، ونافع (9)، والسدي (10)، والزهري (11)، وأبي صالح (12)، والشعبي (13)، وابن المسيب (14)، وابن زيد (15)، وسفيان (16).
قال البغوي: " إلا أن تترك المرأة نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج"(17).
قال الصابوني: " إِلا إِذا أسقطت المطلّقة حقها"(18).
قال القاسمي: أي: "المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، تقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا .. ؟ "(19).
قا المراغي: " وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة"(20).
وقد اختلف أهل التفسير فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وذكروا فيه ثلاثة أقاويل (21):
أحدها: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وهو قول ابن عباس (22)، ومجاهد (23)، وطاووس، والحسن (24)، وعكرمة (25)، ومعمر (26)، والسدي (27)، وعلقمة (28) وإبراهيم (29)، والأسود بن زيد، وعطاء (30)، والشعبي (31)، وشريح في أحد قوليه وأبي صالح (32)، وزيد (33)، وربيعة (34)، ومالك (35) والزهري (36)(37).
(1) صحيح البخاري (3470): ص 3/ 1343، ومسند الإمام أحمد (11214): ص 3/ 64. من حديث ابي سعيد.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 442.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5253): ص 5/ 143.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5253): ص 5/ 143.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5254): ص 5/ 143.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5255): ص 5/ 143.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5257): ص 5/ 143.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5258): ص 5/ 143 - 144.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5260): ص 5/ 144.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5261): ص 5/ 144.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5262)، و (5263): ص 5/ 144.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5253): ص 5/ 144.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5265): ص 5/ 144.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5266): ص 5/ 145.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5271): ص 5/ 145.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5267): ص 5/ 145.
(17)
تفسير البغوي: 1/ 286.
(18)
صفوة التفاسير: 1/ 137.
(19)
محاسن التأويل: 2/ 161.
(20)
تفسير المراغي: 1/ 442.
(21)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 146 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 307.
(22)
انظر: تفسير الطبري (5274): ص 5/ 146.
(23)
انظر: تفسير الطبري (5305): ص 5/ 149.
(24)
انظر: تفسير الطبري (5290) - (5294): ص 5/ 148.
(25)
انظر: تفسير الطبري (5301)، و (5311)، و (5312): ص 5/ 149 - 150.
(26)
انظر: تفسير الطبري (5301): ص 5/ 149.
(27)
انظر: تفسير الطبري (5306): ص 5/ 149.
(28)
انظر: تفسير الطبري (5276) - (5279): ص 5/ 146.
(29)
انظر: تفسير الطبري (5295): ص 5/ 148.
(30)
انظر: تفسير الطبري (5298): ص 5/ 149.
(31)
انظر: تفسير الطبري (5297): ص 5/ 149.
(32)
انظر: تفسير الطبري (5299): ص 5/ 149.
(33)
انظر: تفسير الطبري (5307)، و (5308): ص 5/ 150.
(34)
انظر: تفسير الطبري (5308): ص 5/ 150.
(35)
انظر: تفسير الطبري (5309): ص 5/ 150.
(36)
انظر: تفسير الطبري (5310): ص 5/ 150.
(37)
وهو ما ذهب إليه النحاس والزمخشري وابن المنير وابن عطية. وفي هذا القول قوة وضعف، فقوته: أن معنى العفو فيه معقول؛ لأن الولي يتنازل ويتسامح للزوج عن النصف الذي دفعه من المهر، وأما ضعفه فمن جهتين: الأولى: أن عقدة النكاح ليست بيد الولي بل بيد الزوج، والثانية: أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج بما لا يملكه بل تملكه موليته. انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 155، جامع البيان للطبري: 5/ 158، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 842، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 125 - 126 أ، البسيط للواحدي: 1/ 146 ب، معاني القرآن للزجاج: 1/ 319، معاني القرآن للنحاس: 1/ 235، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 325، الكشاف للزمخشري: 1/ 375، الإنصاف بحاشية الكشاف-لابن المنير: 1/ 375، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 286 - 287 مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 153، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 281، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 206 - 207، النكت والعيون للماوردي: 1/ 307، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 358، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 236، الدر المصون للسمين: 1/ 586، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 126، إرشاد العقل السليم لأبي السعود: 1/ 234 - 235، فتح القدير للشوكاني: 1/ 379، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 463، وغيرها.
ومعنى الآية: " أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها"(1).
الثاني: هو الزوج، وبه قال: علي (2)، وشريح (3)، وابن عباس (4) -في احد قوليه-، وسعيد بن المسيب (5)، وجبير بن مطعم (6)، ومحمد بن سيرين (7)، ومجاهد (8)، وأيوب (9)، وعامر (10)، وأبو حذيفة، وطاوس (11)، ومحمد بن كعب القرظي (12)، والشعبي ونافع (13)، والربيع (14)، والضحاك (15)، وسفيان (16) وسعيد بن عبدالعزيز (17)(18).
(1) تفسير الطبري: 5/ 146.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5314): ص 5/ 151.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5316): ص 5/ 151 - 152، و (5328) - (5337): ص 5/ 153 - 154.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5317): ص 5/ 152.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5338): ص 5/ 154.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5322): ص 5/ 152.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5325): ص 5/ 153.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5340): ص 5/ 154.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5343): ص 5/ 155.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5327): ص 5/ 153.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5349): ص 5/ 156.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5350): ص 5/ 156.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5352): ص 5/ 156.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5353): ص 5/ 157.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5356): ص 5/ 157.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5357): ص 5/ 157.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5360): ص 5/ 158.
(18)
وهو اختيار الفراء وابن جرير والواحدي وابن الجوزي والبيضاوي والشوكاني. وفي هذا القول قوة وضعف أيضاً، فقوته: أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج؛ لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه: فلكون العفو منه غير معقول، وما ذكر من أن المراد بعفوه أن يعطيها بقية المهر ليكون كاملاً فغير ظاهر؛ لأن العفو لا يطلق على الزيادة والإحسان بل على التنازل والمسامحة. انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 155، جامع البيان للطبري: 5/ 158، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 842، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 125 - 126 أ، البسيط للواحدي: 1/ 146 ب، معاني القرآن للزجاج: 1/ 319، معاني القرآن للنحاس: 1/ 235، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 325، الكشاف للزمخشري: 1/ 375، الإنصاف بحاشية الكشاف-لابن المنير: 1/ 375، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 286 - 287 مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 153، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 281، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 206 - 207، النكت والعيون للماوردي: 1/ 307، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 358، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 236، الدر المصون للسمين: 1/ 586، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 126، إرشاد العقل السليم لأبي السعود: 1/ 234 - 235، فتح القدير للشوكاني: 1/ 379، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 463، وغيرها. وقد نص على أن الآية من المجمل المركب جماعة من أهل العلم، انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار: 3/ 416، المستصفى للغزالي: 1/ 362، روضة الناظر لابن قدامة:181.
قالوا: " ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا"(1).
وروي عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الذي بيده عقدة النكاح "، الزوج، يعفو أو تعفو " (2).
والثالث: هو أبو بكر، والسيد في أمته، وهو قول مالك (3).
والراجح هو القول الأول، أي: أن المقصود به هو (الزوج)، وذلك لأمور منها:
أولا: أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة.
والثاني: أن عفوه بإكمال المهر صادر عن مالك مطلق التصرف في ماله بخلاف الولي.
والثالث: بخصوص تسمية الزيادة عفواً وإن كان بخلاف الظاهر لكن لما كان الغالب على الأزواج أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً؛ لأن الزوج على هذه الحال ترك النصف لها بعدم مطالبتها بالنصف واسترجاعه منها.
والرابع: أن قوله تعالى في آخر الآية: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} يدل على أنه الزوج؛ لأن الفضل يكون في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره (4).
قال ابن عثيمين: "وفي قوله تعالى: {عُقْدَةُ النِّكاحِ} إشارة إلى أن النكاح ربط بين الزوجين، كما تربط العقدة بين طرفي الحبل"(5).
قوله تعالى: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، أي:"وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى"(6).
قال الخازن: " وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى"(7).
(1) تفسير الطبري: 5/ 151.
(2)
أخرجه الطبري (5355): ص 5/ 157، قال ابن كثير في تفسيره 1: 573 - 574: " قال ابن أبي حاتم: ذكر ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولى عقدة النكاح، الزوج - وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله. . . - فذكره، ولم يقل عن أبيه عن جده ".
وقال البيهقي في السنن 8: 251 - 252: " وروي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولى عقدة النكاح الزوج. قال البيهقي: " وهذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به، والله أعلم ".
والحديث في تفسير الطبري: 5/ 157، أخرجه عن المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 307.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 105. واختاره ابن عثيمين قائلا: " ولأنه إذا قيل: هو الزوج صار العفو من جانبين؛ إما من الزوجة، كما يفيده قوله تعالى: {إلا أن يعفون}؛ أو من الزوج، كما يفيده قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}؛ وإذا قيل: إنه وليّ المرأة صار العفو من جانب واحد؛ وهو الزوجة، أو وليها؛ ويؤيد الترجيح قوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}؛ ولو كان المراد وليّ المرأة لقال تعالى: «وأن يعفوَ» بالياء، وفتح الواو؛ فإن قيل: كيف يكون الزوج عافياً وهو الباذل؟ فالجواب أن هذا مبني على الغالب؛ وهو أن الزوج قد سلم المهر؛ فإذا طلقها قبل الدخول صار له عند المرأة نصف المهر؛ فإذا عفا عن مطالبتها به صار أقرب للتقوى". [تفسير ابن عثيمين: 3/ 172].
(5)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 172.
(6)
تفسير البغوي: 1/ 287.
(7)
تفسير الخازن: 1/ 172.
قال النسفي: " أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج"(1).
قال المراغي: " أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقى، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها، وقد يكون بالعكس، والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب"(2).
واختلف أهل التفسير فيمن خوطب بقوله تعالى: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وذكروا فيه قولين (3):
أحدهما: أنه خطاب للزوج وحده، وهو قول الشعبي (4).
وتفسير الآية على هذا القول: "وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن، أو تتموا لهن، بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن أقرب لكم إلى تقوى الله"(5).
والثاني: أنه خطاب للزوج والزوجة، وهو قول ابن عباس (6)، وسعيد بن عبدالعزيز (7).
ومعنى الآية على هذا القول: " وأن يعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق، أقرب له إلى تقوى الله"(8).
والراجح هو قول القول الأول، أي أن معنى ذلك:"وأن يعفو بعضكم لبعض أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له، فبأن يوفيه بتمامه أقرب لكم إلى تقوى الله"(9).
وفي قوله تعالى {تَعْفُوا} [البقرة: 237]، وجهان من القراءة (10):
الأول: {تَعْفُوا} بالتاء باثنتين من فوق. قراءة الجمهور.
الثاني: {وأن يعفوا} بالياء، قرأ بها أبو نهيك والشعبي، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح.
قال القرطبي: "ولم يقرأ (وأن تعفون) بالتاء فيكون للنساء"(11).
وفي قوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقوَى} [البقرة: 237]، تأويلان (12):
أحدهما: أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظُلْمَ صاحبه.
والثاني: أقرب إلى اتقاء معاصي الله.
(1) تفسير النسفي: 1/ 128.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 442 - 443.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 162 - 163، والنكت والعيون: 1/ 307.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5363): ص 5/ 163.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 163.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5361): ص 5/ 163.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5362): ص 5/ 163.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 163.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 163.
(10)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 208.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 208.
(12)
النكت والعيون: 1/ 307.
قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، أي "ولا تتركوا الإفضال بينكم بالتسامح، والعفو"(1).
قال الطبري: أي: " ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه"(2).
قال النسفي: " أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض"(3).
قال البغوي: "أي إفضال بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو ترك المرأة نصيبها، حثهما جميعا على الإحسان"(4).
قال الصابوني: " أي لا تنسوا أيها المؤمنون الجميل والإِحسان بينكم، فقد ختم تعالى الآيات بالتذكير بعدم نسيان المودّة والإِحسان والجميل بين الزوجين، فإِذا كان الطلاق قد تمَّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى"(5).
قال الثعلبي: " ومعنى (الفضل): إتمام الرجل الصداق أو ترك المرأة النصف، حثّ الله تعالى الزوج والمرأة على الفضل والإحسان وأمرهما جميعا أن يسبقا إلى العفو"(6).
قال السعدي: "ثم رغب في العفو، وأن من عفا، كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو: أخذ الواجب، وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة، أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم"(7).
قال المراغي: " أي ينبغى لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة، وإنك لو رأيت ما يجرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن أحيانا إلى بيع أعراضهن، أو يذرونهن كالمعلقات، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال، والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن، فتمضى السنة أو أكثر منها ولا تنقضى عدتهن بزعمهن، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية (354 يوما)، وإذا حدث طلاق - كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوى الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شاء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"(8).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 173.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 164.
(3)
تفسير النسفي: 1/ 128.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 287.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 137.
(6)
تفسير الثعلبي: 2/ 194.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 105 - 106.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 442 - 443.
روي عن مجاهد: في قوله تعالى " {ولا تنسوا الفضل بينكم}، قال: "إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر" (1).
وعن الربيع في قوله: " {ولا تنسوا الفضل بينكم}، قال: يقول ليتعاطفا"(2).
وعن قتادة: " {ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير}، يرغبكم الله في المعروف، ويحثكم على الفضل"(3).
وعن الضحاك في قوله: " {ولا تنسوا الفضل بينكم}، قال: المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها، فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها، وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله: " ولا تنسوا الفضل بينكم " (4).
وعن السدى: " {ولا تنسوا الفضل بينكم}، حض كل واحد على الصلة - يعني الزوج والمرأة، على الصلة"(5).
وعن أبي وائل في قوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} ، قال:"هو الرجل يتزوج فيعينه أو المكاتب فيعينه وأشباه هذا من العطية"(6).
وفي قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} [البقرة: 237]، قراءتان (7):
إحداهما: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} بضم (الواو). قراءة الجمهور:
والثانية: {وَلا تَنْسَوِا الْفَضْلَ} ، بكسر (الواو). قرأ بها يحيى بن يعمر.
والثالث: {ولا تناسوا الْفَضْلَ} . قرأ بها علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة.
قال القرطبي: " وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. قال مجاهد: الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها"(8).
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، " أي إن الله بكل ما تعملون من خير وشر عليم"(9).
قال البيضاوي: أي: " لا يضيع تفضلكم وإحسانكم"(10).
قال القرطبي: "خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم"(11).
قال المراغي: " ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في المحاسنة والفضل، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّى الإيمان وتبعث على الامتثال"(12).
الفوائد:
(1) تفسير الطبري (5365): ص 5/ 165.
(2)
تفسير الطبري (5369): ص 5/ 165.
(3)
تفسير الطبري (5370): ص 5/ 165.
(4)
تفسير الطبري (5371): ص 5/ 165 - 166.
(5)
تفسير الطبري (5372): ص 5/ 166.
(6)
تفسير ابن أبي حاتم (2367): ص 2/ 446.
(7)
انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 194، وتفسير القرطبي: 3/ 208.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 208.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 173.
(10)
تفسير البيضاوي: 1/ 147.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 208.
(12)
تفسير المراغي: 1/ 443.
1 -
من فوائد الآية: أنه إذا طلقها قبل المسيس وقد سمى لها صداقاً وجب لها نصف المهر.
2 -
ومنها: أنه إذا خلا بها، ولم يمسها لم يكن عليه إلا نصف المهر؛ لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة؛ وقياس ذلك وجوب المهر كاملاً إذا خلا بها.
3 -
ومنها: جواز الطلاق قبل المسيس مع تعيين المهر؛ وجهه أن الله أقر هذه الحال، ورتب عليها أحكاماً؛ ولو كانت حراماً ما أقرها، ولا رتب عليها أحكاماً؛ وعلى هذا فيكون ارتباط الآية بما قبلها ظاهراً؛ لأن الآية قبلها فيما إذا طلِّقت قبل المسيس ولم يسمَّ لها مهر؛ وهذه الآية فيما إذا طلقت قبل المسيس وسُمي لها مهر؛ وإن طلقت بعد المسيس؛ إن سُمي لها مهر فلها المهر كاملاً؛ وإن لم يسمَّ لها مهر فلها مهر المثل.
4 -
ومن فوائد الآية: أن تعيين المهر إلى الزوج لا إلى الزوجة؛ لقوله تعالى: {وقد فرضتم} .
5 -
ومنها: جواز إسقاط المرأة ما وجب لها من المهر عن الزوج، أو بعضه؛ لقوله تعالى:{إلا أن يعفون} ؛ ويشترط لذلك أن تكون حرة بالغة عاقلة رشيدة.
6 -
ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها - ولو على سبيل التبرع - لقوله تعالى: {إلا أن يعفون} ؛ وهل نقول: عمومه يقتضي جواز عفوها - وإن كان عليها دين يستغرق؛ أو نقول: إن كان عليها دين يستغرق فليس لها أن تعفو؟ يحتمل هذا، وهذا؛ وظاهر الآية العموم؛ لكن تبرع المدين لا ينفذ على القول الراجح إذا كان يضر بالغرماء؛ لكن قد يقال: هذا ليس تبرعاً محضاً؛ وإنما هو إسقاط ما وجب على الغير؛ وليس كالتبرع المحض الذي ينتزع من مال المدين.
7 -
ومنها: جواز عفو الزوج عما يبقى له من المهر إذا طلق قبل الدخول؛ لقوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} ؛ ويقال فيما إذا كان مديناً كما قيل في عفو الزوجة.
8 -
ومنها: أن النكاح من العقود؛ لقوله تعالى: {عقدة النكاح} ويترتب على هذه الفائدة جواز التوكيل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل في العقود؛ فيجوز أن يوكل الإنسان من يعقد النكاح له؛ وحينئذٍ يقول وليّ المرأة لوكيل الزوج: زوجت موكِّلَك فلاناً بنتي فلانة؛ ولا يصح أن يقول: زوجتك بنتي فلانة؛ ويقول وكيل الولي للزوج: زوجتك بنت موكلي فلانٍ فلانة؛ ولا يصح أن يقول: زوجتك فلانة بنت فلان؛ لأن لا بد من النص على الوكالة، حيث إنه لا بد من الشهادة على عقد النكاح؛ وإذا لم يصرح بما يدل على الوكالة أوهم أن العقد للوكيل؛ وقال بعض العلماء: إنه إذا كان معلوماً عند الجميع أن العقد بوكالة لم يحتج إلى ذكر موكل؛ والأول أحوط سداً للباب؛ لئلا يدعي الوكيل أنه فسخ الوكالة، ونوى العقد لنفسه.
وهل يثبت لعقد النكاح ما يثبت لعقد البيع من خيار المجلس، أو خيار الشرط؟ أما خيار المجلس فلا يثبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«البيعان بالخيار» (1)؛ ولا يصح قياس النكاح على البيع؛ لأن النكاح غالباً إنما يصدر بعد تروٍّ دقيق، ونظر، وبحث؛ بخلاف البيع فقد يصدر عن عجلة، وعن حرص على الربح بدون أن يتروى الإنسان؛ واحتياط الإنسان لعقد النكاح أشد من احتياطه للبيع.
لكن هل يثبت فيه خيار الشرط فالمذهب أنه لا يثبت فيه خيار الشرط؛ واختار شيخ الإسلام أنه يجوز خيار الشرط في النكاح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (2)، وقوله (ص):«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» (3)؛ وهذا القول قد تحتاج إليه المرأة فيما إذا أراد الزوج أن يسكنها مع أهله؛ فتشترط عليه الخيار؛ وهذا له حالان:
(1) أخرجه البخاري ص 162، كتاب البيوع، باب 19: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، حديث رقم 2079، وأخرجه مسلم ص 942، كتاب البيوع، باب 11، الصدق في البيع والبيان، حديث رقم 3858 [47]1532.
(2)
أخرجه البخاري ص 216، كتاب الشروط، باب 6: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم 2721، وأخرجه مسلم ص 914، كتاب النكاح، باب 8: الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم 3472 [63]1418.
(3)
أخرجه أبو داود ص 1489، كتاب الأقضية، باب 12، في الصلح، حديث رقم 3594، وفي سنده كثير بن زيد؛ قال الحافظ فيه: صدوق يخطئ؛ وقال الألباني: فمثله حسن الحديث إن شاء الله ما لم يتبين خطؤه، كيف وهو لم يتفرد به (الإرواء 5/ 143)، حديث 1303، وقال في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/ 395.
الحال الأولى: أن تشترط عليه الخيار في أصل العقد: فَتَفسَخ النكاح إذا لم يمكن المقام معهم.
الحال الثانية: أن تشترط عليه الخيار في البقاء مع أهله - يعني إن استقامت الحال؛ وإلا أنزلها في بيت آخر.
9 -
ومن فوائد الآية: الترغيب في العفو؛ لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ؛ وقد حث الله على العفو، وبيَّن أن أجر العافي على الله عز وجل؛ ولكنه تعالى قيد ذلك بما إذا كان العفو إصلاحاً فقال تعالى:{فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40].
10 -
ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ لقوله تعالى: {أقرب للتقوى} .
11 -
ومنها: أن الناس يتفاضلون في الإيمان؛ لأن تفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ والأعمال من الإيمان، كما قد تقرر في غير هذا الموضع.
12 -
ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا ينسى الفضل مع إخوانه في معاملته؛ لقوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} ؛ وقد جاء في الحديث: «رحم الله عبداً سمحاً إذا باع؛ سمحاً إذا اشترى؛ سمحاً إذا اقتضى» (1)؛ فإن هذا فيه من حسن المعاملة ما هو ظاهر؛ والدين الإسلامي يحث على حسن المعاملة، وعلى حسن الخلق، وعلى البر كله.
13 -
ومنها: إحاطة علم الله سبحانه وتعالى، وبصره بكل شيء مما نعمله؛ لقوله تعالى:{إن الله بما تعملون بصير} .
14 -
ومنها: الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من العمل السيء؛ لأن ختم الآية بهذه الجملة مقتضاه: احرصوا على العمل الصالح؛ فإنه لن يضيع؛ واحذروا من العمل السيء؛ فإنكم تجازون عليه؛ لأن كلاً معلوم عند الله سبحانه وتعالى.
القرآن
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]
التفسير:
حافظوا -أيها المسلمون- على الصلوات الخمس المفروضة بالمداومة على أدائها في أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها، وحافظوا على الصلاة المتوسطة بينها وهي صلاة العصر، وقوموا في صلاتكم مطيعين لله، خاشعين ذليلين.
في سبب نزول الآية: أخرج الطبري عن إبراهيم، ومجاهد أنهما قالا:" كانوا يتكلمون في الصلاة، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة، فنزلت: {وقوموا لله قانتين}، قال: فقطعوا الكلام، و (القنوت): السكوت، و (القنوت) الطاعة"(2). وروي نحوه عن ابن مسعود (3)، وزيد بن أرقم (4)، والسدي (5)، وابن زيد (6).
(1) أخرجه البخاري ص 162، كتاب البيوع، باب 16: السهولة والسماحة في الشراء والبيع
…
، حديث رقم 2076، وأخرجه ابن ماجة واللفظ له ص 2608، باب 28: السماحة في البيع، حديث رقم 2203.
(2)
تفسير الطبري (5534): ص 5/ 236.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5522): ص 5/ 231 - 232.
(4)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2377): ص 2/ 449، وتفسير الطبري (5524): ص 5/ 231، والحديث رواه البخاري-فتح-: 3/ 88 رقم: 200، ومسلم: 1/ 383 رقم: 539، ونصه:"إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية، فأمرنا بالسكوت".
قال ابن حجر: " وحديث زيد بن أرقم ظاهر في أن المراد بالقنوت: السكوت". [الفتح: 3/ 90].
(5)
انظر: تفسير الطبري (5521): ص 5/ 231.
(6)
ذهب إلى أن القنوت في الآية السكوت، انظر: تفسير الطبري: 5/ 231 - 234، والنكت والعيون للماوردي: 1/ 310. واختاره من المفسرين ابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 227، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 242، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 214، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 384، وصديق خان في فتح البيان: 1/ 56 - 57 وذلك لحديث زيد بن أرقم المذكور قبل.
قوله تعالى: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ} [البقرة: 238]، أي:" واظبوا أيها المؤمنون وداوموا على أداء الصلوات في أوقاتها"(1).
قال مسروق: "المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، وعدم السهو عنها"(2).
قال الطبري: " واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن"(3).
قال البغوي: " أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وإتمام أركانها"(4).
قال القاسمي: أي"داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها"(5).
وفي معنى (المحافظة) في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، قولان (6):
أحدهما: ذكرها.
والثاني: تعجيلها.
قوله تعالى: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} [البقرة: 238]، أي:"وخاصة صلاة الوسطى "(7).
قال البيضاوي: " أي الوسطى بينها، أو الفضلى منها خصوصاً وهي صلاة العصر"(8).
وقد اختلف السلف والخلف في {الصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، على أقوال (9):
أحدها: أنها صلاة العصر، وهو قول عليّ (10)، وابن عباس (11)، وأبي هريرة (12)، وأبي سعيد الخدري (13)، وإبراهيم (14)، والحسن (15)، وزر بن حبيش (16)، وقتادة (17)، والضحاك (18)، وأبي أيوب (19)، وعائشة (20)، وأم سلمة (21)، وحفصة (22).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 138.
(2)
أخرجه الطبري: (5378): ص: 5/ 168 ..
(3)
تفسير الطبري: 5/ 167.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 287.
(5)
تفسير القاسمي: 2/ 163.
(6)
انظر: النكت والعيون: 1/ 307.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 138.
(8)
تفسير البيضاوي: 1/ 147.
(9)
في المسألة خلاف عريض بين أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، قال ابن المسيب:"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه"، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 365، كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى للدمياطي: 155، ولذا كتب فيها كل من الدمياطي والزبيدي رسالة، وبلغت الأقوال في تعيينها فوق أربعين قولاً كما في تاج العروس: 10/ 744.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5380): ص 5/ 168، وتفسير ابن أبي حاتم (2374): ص 2/ 448، ، والكشف والبيان للثعلبي: 1/ 138 ب، البسيط للواحدي: 1/ 147 أ، سنن سعيد ابن منصور: 3/ 901، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 234، النكت والعيون للماوردي: 1/ 307، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 605 وغيرها.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5412)، و (5413): ص 5/ 179.
(12)
انظر تفسير الطبري (5387): ص 5/ 170، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 138 ب، البسيط للواحدي: 1/ 147 أ، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 288، النكت والعيون للماوردي: 1/ 307، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 234، المحلى لابن حزم: 3/ 178، كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى للدمياطي: 40 وغيرها.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5391): ص 5/ 173.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5402): ص 5/ 177.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5399): ص 5/ 176.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5407): ص 5/ 179.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5408): ص 5/ 179.
(18)
انظر: تفسير الطبري (5409): ص 5/ 179.
(19)
انظر: تفسير الطبري (5418): ص 5/ 181.
(20)
انظر: تفسير الطبري (5393) - (5397): ص 5/ 173 - 176.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5398): ص 5/ 176.
(22)
انظر: تفسير الطبري (54052): ص 5/ 177 - 178.
وهذا القول هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة (1)، وقول أحمد (2)، والذي صار إليه معظم الشافعية (3) لصحة الحديث فيه.
قال الترمذي: "هو قول أكثر علماء الصحابة"(4).
قال الماوردي (5): "هو قول جمهور التابعين"(6).
قال ابن عبد البر: "هو قول أكثر أهل الأثر"(7).
قال ابن حجر: " وبه قال من المالكية: ابن حبيب (8) (9) وابن العربي (10) وابن عطية (11) (12)، ويؤيده أيضاً ما روى مسلم عن البراء بن عازب: "نزل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وصلاة
(1) انظر: الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 138 ب، البسيط للواحدي: 1/ 147 أ، شرح السنة للبغوي: 2/ 237، المحلى لابن حزم: 3/ 180، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 361، نيل الأوطار للشوكاني: 1/ 393، شرح مسلم للنووي: 5/ 179، المبسوط للسرخسي: 1/ 41، التمهيد لابن عبد البر: 4/ 289، وغيرها.
(2)
انظر: المحلى لابن حزم: 3/ 180، شرح مسلم للنووي: 5/ 179، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 361، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 282، نيل الأوطار للشوكاني: 1/ 393، التمهيد لابن عبد البر: 4/ 289، وغيرها.
(3)
كالماوردي في الحاوي: 2/ 8، والنووي في شرحه لمسلم: 5/ 179 - 180، وابن كثير في تفسيره: 1/ 365، وابن المنذر فيما نقله عنه النووي في شرح مسلم: 5/ 179، ونقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار: 1/ 393، وغيرهم.
(4)
سنن الترمذي: 1/ 342.
(5)
هو: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري القاضي الشافعي، إمام عظيم القدر، كان يوافق المعتزلة بالقول بالقدر، اشتغل بالفقه والحديث والتفسير والسير والأصول. توفي عام: 450 هـ له تصانيف شهيرة منها: النكت والعيون في التفسير، والحاوي الكبير، والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين. انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 102، طبقات الشافعية للسبكي: 5/ 267، البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 43، طبقات المفسرين للداودي: 1/ 427.
(6)
الحاوي الكبير: 2/ 7.
(7)
التمهيد: 4/ 289.
(8)
هو: أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون المالكي السلمي الأندلسي، من كبار المالكية، كان عالماً بالتاريخ والأدب، توفي عام: 238 هـ، له مصنفات منها: تفسير الموطأ والواضحة وأدب النساء. انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض: 4/ 122، سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 102، جذوة المقتبس لابن فتوح الحميدي:282.
(9)
كما في التمهيد لابن عبد البر: 4/ 289، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 361، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 210.
(10)
كذا نسب هنا ابن حجر لابن العربي بأن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ فإن لم يكن اطلع عليه في أحد كتبه فيغلب على ظني أنه نسبه له بواسطة القرطبي في جامعه: 3/ 210 فإنه قال: (وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب، واختاره ابن العربي في قبسه، وابن عطية في تفسيره
…
)، والذي جعل القرطبي يقول ذلك قول ابن العربي في القبس: 1/ 318 [ولحديث البخاري: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) وهذا نص] لكنه عاد بعد ذلك وقال في: 1/ 320 (
…
وإنما يكون مأزق الإشكال بين الصبح والعصر، والصبح أكثر فضائل منها
…
فقوي بذلك كله أنها صلاة الصبح حسب ما ذهب إليه مالك-رضي الله عنه، ولله دره فما كان أرحب ذراعه في النظر وأسرع حوصلته في الوعي، والله أعلم). على أن ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي: 1/ 295 بعد أن ساق الأقوال قال: (والصحيح أنها مخفية)، وقال في كتابه أحكام القرآن: 1/ 226 (وأما من قال إنها غير معينة فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح، وهذا هو الصحيح فإن الله أخبأها في الصلوات الخمس كما خبأ ليلة القدر في رمضان).
(11)
هو: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عبد الرؤوف الغرناطي الأندلسي إمام كبير، قاض فقيه، شيخ المفسرين، عالم بالحديث والنحو واللغة والأدب، توفي عام: 541 هـ، له مصنفات أشهرها: المحرر الوجيز في التفسير. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 587، الصلة لابن بشكوال: 1/ 367، طبقات المفسرين للداودي: 1/ 265.
(12)
المحرر الوجيز: 2/ 235.
العصر}، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت" (1)(2).
القول الثاني: أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت (3)، وأبي سعيد الخدري (4)، وابن عمر (5)، وحفصة (6).
القول الثالث: أنها صلاة المغرب، لأنها ليست بأقلها ولا بأكثرها ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها. وهذا قول قبيصة بن ذؤيب (7).
القول الرابع: أنها صلاة الصبح، وهو قول أنس بن مالك (8)، وأبي موسى الأشعري (9)، وأبي أمامة (10)، وجابر بن عبد الله (11)، وأبي العالية (12)، وعبيد بن عمير (13)، مجاهد (14)، وعطاء (15)، عكرمة (16)، والربيع (17)، وهو احد قولي ابن عباس (18)، وابن عمر (19).
واحتجوا بأنه " لا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح، فعلم بذلك أنها هي دون غيرها"(20).
القول الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها، ليكون أبعث لهم على المحافظة على جميعها، وهذا قول نافع (21)، وابن المسيب (22)، والربيع ابن خثيم (23).
القول السادس: أن الصلاة الوسطى: صلاة الجمعة خاصة.
القول السابع: أن الصلاة الوسطى صلاة الجماعة من جميع الصلوات.
القول الثامن: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا.
القول التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ والمعنى: حافظوا عليهن كلهن، لأن قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ؛ يعم الفرض والنفل ثم خص الفرض بالذكر. وهو قول عبدالله (24) في رواية ونافع عنه.
(1) صحيح مسلم: 1/ 438 رقم: 630، ولفظ مسلم:(نزلت).
(2)
انظر: الفتح: 8/ 44.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5446) - (5450): ص 199 - 202.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5451): ص 5/ 201 - 202.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5451)، و (5455) - (5457): ص 5/ 201 - 204.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5458): ص 5/ 205.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5471): ص 5/ 214.
(8)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5480): ص 5/ 219. وهو عبدالله بن قيس.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5483): ص 5/ 219.
(12)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5487): ص 5/ 219.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5484): ص 5/ 219.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5485): ص 5/ 219.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5489): ص 5/ 219.
(18)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(19)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2376): ص 2/ 448.
(20)
تفسير الطبري: 5/ 220.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5490): ص 5/ 220.
(22)
انظر: تفسير الطبري (5492): ص 5/ 221.
(23)
انظر: تفسير الطبري (5491): ص 5/ 220.
(24)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 448.
قلت: وجل هذه الأقوال ضعيفة لا يعول عليها، لعدم وجود النص الصحيح الذي يسندها، وأقواها قولان:
الأول: أنها العصر، وهو قول الجمهور (1).
الثاني: أنها الفجر، وهو قول جماعة من الصحابة، والتابعين، ومذهب مالك وقول الشافعي وبعض أصحابه (2).
وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه (3):
أحدها: لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
والثاني: لأنها أوسط الصلاة عدداً، لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان.
والثالث: لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله، وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى.
قال ابن حجر: "و (الأوسط): الأعدل من كل شيء، وليس المراد به التوسط بين الشيئين؛ لأن فُعلى معناها: التفضيل، ولا ينبني للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص (4)، والوسط: بمعنى الخيار، والعدل يقبلهما؛ بخلاف المتوسط فلا يقبلهما؛ فلا ينبني منه أفعل تفضيل (5)(6).
(1) وهو الذي اختاره سوى من ذكر من المصنفين في المعاني والتفسير: ابن جرير في جامع البيان: 5/ 221، والزجاج في معاني القرآن وإعرابه: 1/ 320، والنحاس في معاني القرآن: 1/ 238، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 91، والزمخشري في الكشاف: 1/ 736، والبيضاوي في أنوار التنزيل: 1/ 126، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: 1/ 235، وغيرهم. وعمدة هذا القول الأحاديث الصحيحة الصريحة، ومنها: حديث علي-رضي الله عنه-عند البخاري-فتح-: 8/ 43 رقم: 4533، ومسلم: 1/ 436 رقم: 627 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: (حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً)، وحديث ابن مسعود-رضي الله عنه-عند مسلم: 1/ 437 رقم: 628 قال: (حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر). ويشكل عليه ما أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 138 - 139 رقم: 25، وأحمد في المسند-تحقيق شاكر والزين-: 17/ 334 رقم: 24329، ومسلم في صحيحه: 1/ 437 - 438 رقم: 629، وأبو داود في سننه: 1/ 287 رقم: 410، والترمذي في جامعه: 5/ 217 رقم: 1982، والنسائي في سننه الصغرى: 1/ 236 وغيرهم عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: "أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلما بِلغتها آذنتها فأملت عليّ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وصلاة العصر {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بإثبات الواو في (وصلاة العصر) والواو عاطفة، والعطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الصلاة الوسطى. وقد أجاب عنها كثير من أهل العلم بأجوبة مختلفة، فمنهم من رده بزعمه أن القراءة الشاذة لا توجب علماً ولا عملاً كابن العربي في القبس: 1/ 319، والصحيح أنها متى صحت فإن لها حكم خبر الآحاد فلا تثبت بها القراءة ولكن يثبت بها الحكم. وأجاب آخرون بغير ذلك كابن حزم في المحلى: 3/ 175 - 178، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 213، والدمياطي في كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى: 93 - 97، والشوكاني في نيل الأوطار: 1/ 399، وفتح القدير: 1/ 382، وصديق خان في فتح البيان: 2/ 54 - 55، وغيرهم. وأوجز القوم عبارة مع الوفاء بالمقصود ابن حجر في الفتح: 8/ 45 إذ ذكر حجج من قال بأن الصلاة الوسطى غير العصر ومنها حديث عائشة هذا ثم قال: "فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسناداً وأصرح، وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها:(وهي العصر) فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيحع عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها:(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) بغير واو، أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات، وبأن قوله:(والصلاة الوسطى والعصر) لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولاً والعصر ثم نزلت ثانياً بدلها والصلاة الوسطى، فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدماً على النص الصريح بأنها صلاة العصر".
(2)
انظر: التمهيد لابن عبد البر: 4/ 284، شرح السنة للبغوي: 2/ 235، شرح مسلم للنووي: 5/ 179، القبس لابن العربي: 1/ 320، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 210 - 211 وغيرها. وهذا القول مع صحته عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تُقَاوَم بقولهم النصوص النبوية الصحيحة الصريحة التي إذا أشرق نورها غاب ما سواها، انظر: كشف المغطى للدمياطي: 155، شرح مسلم للنووي: 5/ 180، الحاوي للماوردي: 2/ 8 - 9، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 365، نيل الأوطار: 1/ 396، وفتح القدير: 1/ 381 كلاهما للشوكاني، فتح البيان لصديق خان: 2/ 56 وغيرها.
(3)
النكت والعيون: 1/ 309.
(4)
انظر: شرح ابن عقيل: 2/ 174 و: 2/ 154، وأوضح المسالك لابن هشام: 3/ 286 و: 3/ 267، والتطبيق الصرفي للراجحي:94.
(5)
انظر نحو من هذا الكلام في: الدر المصون للسمين: 1/ 589، والبحر المحيط لأبي حيان: 2/ 240، وقد ذهب إلى ذلك الشوكاني في فتح القدير: 1/ 380، وصديق خان في فتح البيان: 2/ 52. والأمر فيه اختلاف كما أبان ذلك أبو حيان في البحر: 2/ 240 إذ قال: (وهل سميت الوسطى لكونها بين شيئين من وسط فلان يَسِط إذا كان وسطاً بين شيئين، أو من وسط قومه إذ فضلهم، فيه قولان
…
)، وقد ذهب إلى القول الأول ابن جرير في جامع البيان: 5/ 227، والنحاس في معاني القرآن: 1/ 238، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 91، كما أجاز الأمرين الزمخشري في الكشاف: 1/ 376، والبيضاوي في أنوار التنزيل: 1/ 126، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم: 1/ 235.
(6)
الفتح: 8/ 43.
قوله تعالى: {{وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، أي "قوموا لله في صلاتكم خاشعين"(1).
قال السعدي: ": ذليلين خاشعين، ففيه الأمر بالقيام والقنوت والنهي عن الكلام، والأمر بالخشوع، هذا مع الأمن والطمأنينة"(2).
وقد تعددت عبارات أهل التفسير في معنى (القنوت) في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، على أقوال (3):
أحدها: يعني مطيعين، قاله ابن عباس (4)، ومجاهد (5)، والحسن والشعبي (6)، وجابر بن زيد (7)، وعطاء (8)، وسعيد بن جبير (9)، وسعيد بن عبدالعزيز (10)، والضحاك (11)، وقتادة (12)، وعطية (13)، وعكرمة (14)، ومقاتل بن حيان (15)، وطاووس (16).
والثاني: ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم، وهو قول ابن مسعود (17)، وزيد بن أرقم (18)(19)، والسدي (20)، وابن زيد (21).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 138.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(3)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 860 - 864، تفسير الطبري: 5/ 228 - 236، البسيط للواحدي: 1/ 147 أ، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 164 - 165، النكت والعيون للماوردي: 1/ 309 - 310، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 284، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 242، وغيرها.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5508): ص 5/ 229.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5512): ص 5/ 230.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5498): ص 5/ 228.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5500): ص 5/ 228.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5501): ص 5/ 228.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5502): ص 5/ 228.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5519): ص 5/ 231.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5404): ص 5/ 229.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5514): ص 5/ 230.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5515): ص 5/ 230 - 231.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5404): ص 5/ 229.
(15)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2378): ص 2/ 449.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5520): ص 5/ 231.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5522): ص 5/ 231 - 232.
(18)
هو: أبو عمر أو أبو عامر زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان الأنصاري الخزرجي، صحابي شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر غزوة، استصغر يوم أحد وأول مشاهده الخندق، وأنزل الله في تصديقه سورة المنافقين. توفي عام: 66 هـ، وقيل: 68 هـ. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 109، أسد الغابة لابن الأثير: 2/ 342، سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 165، الإصابة لابن حجر: 1/ 542.
(19)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2377): ص 2/ 449، وتفسير الطبري (5524): ص 5/ 231، والحديث رواه البخاري-فتح-: 3/ 88 رقم: 200، ومسلم: 1/ 383 رقم: 539، ونصه:"إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية، فأمرنا بالسكوت".
قال ابن حجر: " وحديث زيد بن أرقم ظاهر في أن المراد بالقنوت: السكوت". [الفتح: 3/ 90].
(20)
انظر: تفسير الطبري (5521): ص 5/ 231.
(21)
ذهب إلى أن القنوت في الآية السكوت، انظر: تفسير الطبري: 5/ 231 - 234، والنكت والعيون للماوردي: 1/ 310. واختاره من المفسرين ابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 227، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 242، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 214، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 384، وصديق خان في فتح البيان: 1/ 56 - 57 وذلك لحديث زيد بن أرقم المذكور قبل.
والثالث: خاشعين، نهيأ عن العبث والتفلت، وهو قول مجاهد (1)، والربيع بن أنس (2).
والرابع: داعين، وهو مروي عن ابن عباس (3).
والخامس: طول القيام في الصلاة، وهو قول مجاهد (4)، أيضاً.
وإذا دققنا النظر في الأقوال السابقة نرى بأنه لا تعارض بينها، لأن أصل القنوت في اللغة الطاعة كما أفاد ذلك ابن فارس (5)، وابن سيدة وابن منظور (6)، وابن قتيبة (7)، والطبري، والذي قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِين) قول من قال: تأويله: مطيعين، وذلك أن أصل القنوت الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهاه عنه من الكلام فيها
…
وقد تكون الطاعة فيها بالخشوع وخفض الجناح وإطالة القيام وبالدعاء لأن كل ذلك غير خارج من أحد معنيين: من أن يكون مما أُمِر به المصلي أو مما ندب إليه، والعبد بكل ذلك لله مطيع وهو لربه فيه قانت" (8).
وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء (9)، وعليه يجوز أيضاً أن يسمى مديم الطاعة قانتاً، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلو القنوت (10).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب المحافظة على الصلوات؛ لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} ؛ والأصل في الأمر الوجوب.
فإن قيل: إن النوافل لا تجب المحافظة عليها؟
فالجواب أنه لا مانع من استعمال المشترك في معنييه؛ فتكون المحافظة على الفرائض واجبة؛ وعلى النوافل سنة.
2 -
ومنها: فضيلة صلاة العصر؛ لأن الله خصها بالذكر بعد التعميم؛ وهي أفضل الصلاتين المفضلتين - العصر، والفجر؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهما في أحاديث؛ منها قوله (ص): «من صلى
(1) انظر: تفسير الطبري (5528) - (5531): ص 5/ 234 - 235.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5532): ص 5/ 235.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5533): ص 5/ 235.
(4)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2381): ص 2/ 449.
(5)
معجم مقاييس اللغة 5/ 31.
(6)
اللسان: 5/ 3748.
(7)
تأويل مشكل القرآن: 452.
(8)
انظر تفسيره: 5/ 236.
(9)
واختلف في أصل (القنوت)، على ثلاثة أوجه [انظر: النكت والعيون: 1/ 310]:
أحدها: أن أصله الدوام على أمر واحد.
والثاني: أصله الطاعة.
والثالث: أصله الدعاء.
(10)
انظر: أحكام القرآن للجصاص: 1/ 605، أحكام القرآن لإلكيا الهراس: 1/ 321، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 214، فتح القدير للشوكاني: 1/ 384، فتح البيان لصديق خان: 1/ 56 - 57، وقال الرازي في مفاتيح الغيب: 6/ 165 "هو اختيار علي بن عيسى".
البردين دخل الجنة» (1)، وقوله (ص):«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» (2).
3 -
ومنها: وجوب القيام؛ لقوله تعالى: {وقوموا لله} .
4 -
ومنها: وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: {لله} .
5 -
ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا تعبد لله أن يستشعر أمر الله؛ لأنه أبلغ في الامتثال، والطاعة؛ وكذلك ينبغي أن يستحضر أنه متأسٍ برسول الله (ص) كأنما يشاهده رأي عين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي» (3) - فتتم له المتابعة.
6 -
ومنها: الأمر بالقنوت لله عز وجل؛ وهو خشوع القلب الذي يظهر منه سكون الجوارح؛ لقوله تعالى: {قانتين} .
7 -
ومنها: تحريم الكلام في الصلاة - بناءً على سبب النزول؛ وهو أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية؛ فأمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام.
8 -
ومنها: وجوب القيام في الصلاة؛ ويستثني من ذلك:
أ - صلاة النافلة؛ لدلالة السنة على جوازها من قاعد؛ هذا إذا جعلنا قوله تعالى: {الصلوات} عامة؛ وأما إذا جعلناها خاصة بالفرائض فلا استثناء.
ب - ويستثني أيضاً الخائف، مثل أن يصلي خلف الجدار إن قام علم به عدوه فمال عليه؛ وإن صلى جالساً سَلِم.
ج - ويستثني أيضاً العاجز؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
د - ويستثني أيضاً المأموم القادر على القيام إذا صلى إمامه العاجز عنه قاعداً من أول صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإمام: «إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون» (4)؛ أما إذا طرأ عليه العجز في أثناء الصلاة فإن المأمومين يتمونها قياماً؛ لقصة صلاة أبي بكر بالناس، حيث ابتدأ بهم الصلاة قائماً؛ فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة صلى جالساً، وأتموا خلفه قياماً (5).
القرآن
التفسير:
فإن خفتم من عدو لكم فصلوا صلاة الخوف ماشين، أو راكبين، على أي هيئة تستطيعونها ولو بالإيماء، أو إلى غير جهة القبلة، فإذا زال خوفكم فصلُّوا صلاة الأمن، واذكروا الله فيها، ولا تنقصوها عن هيئتها الأصلية، واشكروا له على ما علَّمكم من أمور العبادات والأحكام ما لم تكونوا على علم به.
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 238]، " أي: فإِذا كنتم في خوفٍ من عدوٍ أو غيره" (6).
قال السعدي: " لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع، وغير ذلك من أنواع المخاوف، أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة"(7).
قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238]، أي:" فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب"(8).
قال السعدي: " أي: ماشين على أقدامكم أو على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنا خارج الوقت"(9).
قال القرطبي: " والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - "بضم الجيم" وهي لغة أهل الحجاز"(10).
واختلف في قدر صلاته على ثلاثة أقوال (11):
أحدها: أنها على عددها تُصَلَّى ركعتين. قاله إبراهيم (12)، والزهري (13)، والربيع (14)، وهو قول الجمهور (15).
والثاني: أن تُصَلَّى ركعة واحدة إذا كان خائفاً. وهذا قول الحسن (16)، والحكم (17)، وقتادة (18)، وحماد (19)، وجابر (20).
والثالث: إن استطاع صلى ركعتين وإلا فواحدة. قاله قتادة (21)، والحسن (22) في أحد قوليهما.
واختلفوا في وجوب الإِعادة عليه بعد أمنه، فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإِعادة عنه لعذره، وذهب أهل العراق إلى وجوب الإِعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها (23).
قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]، " أي: فإِذا زال الخوف وجاء الأمن، فأقيموا الصلاة مستوفية لجميع الأركان كما أمركم الله وعلى الوجه الذي شرعه لكم" (24).
قال مجاهد: "خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة"(25).
(1) أخرجه البخاري ص 47، كتاب مواقيت الصلاة، باب 26: فضل صلاة الفجر، حديث رقم 574، وأخرجه مسلم ص 776، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم 438 [215]635.
(2)
أخرجه البخاري ص 45: كتاب مواقيت الصلاة، باب 16: فضل صلاة العصر، حديث رقم 554، وأخرجه مسلم ص 776، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث رقم 1434 [211]633.
(3)
أخرجه البخاري ص 51، كتاب الأذان، باب 18، الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة
…
، حديث رقم 631.
(4)
أخرجه البخاري ص 55، كتاب الأذان، باب 51، إنما جعل الإمام ليؤتم به، حديث رقم 689، وأخرجه مسلم ص 743، كتاب الصلاة، باب 19: ائتمام المأموم بالإمام، حديث رقم 926 [82]412.
(5)
راجع صحيح البخاري ص 55، كتاب الأذان، باب 51: إنما جعل الإمام ليؤتم به، حديث رقم 687؛ وأخرجه مسلم ص 744، كتاب الصلاة، باب 21: استخلاف الإمام
…
، حديث رقم 936 [90]418.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 212.
(11)
انظر: النكت والعيون: 1/ 310.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5535) - (5538): ص 5/ 238 - 239.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5549): ص 5/ 241.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5550): ص 5/ 241.
(15)
انظر: النكت والعيون: 1/ 310.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5554): ص 5/ 242.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5554) - (5557): ص 5/ 242.
(18)
انظر: تفسير الطبري (5554) - (5557): ص 5/ 242.
(19)
انظر: تفسير الطبري (5554) - (5557): ص 5/ 242.
(20)
انظر: تفسير الطبري (5563): ص 5/ 243.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5552): ص 5/ 241.
(22)
انظر: تفسير الطبري (5553): ص 5/ 242.
(23)
انظر: النكت والعيون: 1/ 310.
(24)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(25)
أخرجه الطبري (5570): ص 5/ 247.
قال مقاتل بن حيان: " فإذا أمنتم من العدو"(1)، صلوا كما علمكم" (2).
قال السعدي: " أي: زال الخوف عنكم، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} "(3).
وذكر أهل العلم في قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]، تأويلان (4):
أحدهما: معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم.
قال ابن زيد: "فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم - إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة"(5).
قال القرطبي: " أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان"(6).
قال الصابوني: " وهذه كقوله: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُوا الصلاة} [النساء: 103] والذكرُ في الآية يراد به الصلاة الكاملة المستوفية للأركان، قال الزمخشري: المعنى اذكروه بالعبادة كام أحسن إِليكم بما علمكم من الشرائع وكيف تصلون في حال الخوف والأمن"(7).
قال السعدي: " وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها"(8).
والثاني: يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له، كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.
قال ابن عباس: " يعني: كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه"(9).
قال القرطبي: "وقيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه"(10).
الفوائد:
1 -
ومن فوائد الآية: سعة رحمة الله عز وجل، وأن هذا الدين يسر؛ لقوله تعالى:{فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} ؛ لأن هذا من التيسير على العباد.
2 -
ومنها: جواز الحركة الكثيرة في الصلاة للضرورة؛ لقوله تعالى: {فرجالاً} ؛ لأن الراجل - وهو الماشي - يتحرك حركة كثيرة.
3 -
ومنها: جواز الصلاة على الراحلة في حال الخوف؛ لقوله تعالى: {أو ركباناً} ؛ أما في حال الأمن فلا تجوز الصلاة على الراحلة إلا النافلة؛ إلا إذا تمكن من الإتيان بالصلاة على وجه التمام فإنه يجوز؛ ولهذا جوزنا الصلاة في السفينة، وفي القطار، وما أشبه ذلك؛ لأنه سيأتي بها على وجه التمام بخلاف الراحلة من بعير، وسيارة، وطائرة إلا أن يكون في الطائرة مكان متسع يتمكن فيه من الإتيان بالصلاة كاملة: فتصح؛ لكن إذا خاف الإنسان خروج الوقت يصلي على أي حال - ولو مضطجعاً - في أيّ مكان.
4 -
ومن فوائد الآية: أنه يجب على المرء القيام بالعبادة على التمام متى زال العذر؛ لقوله تعالى: {فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} .
5 -
ومنها: أن الصلاة من الذكر؛ لقوله تعالى: {فاذكروا الله} ؛ والكلام هنا في الصلاة.
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2386): ص 2/ 451.
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (2388): ص 2/ 451.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 310 - 311.
(5)
أخرجه الطبري (5571): ص 5/ 248.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 225.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(9)
تفسير ابن أبي حاتم (2389): ص 2/ 451.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 225.
6 -
ومنها: بيان منة الله علينا بالعلم؛ لقوله تعالى: {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} .
7 -
ومنها: بيان نقص الإنسان لكون الأصل فيه الجهل، حيث قال تعالى:{كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} ؛ فالأصل في الإنسان الجهل حتى يُعَلِّمَه الله عز وجل.
8 -
ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: «إن الإنسان مستقل بعمله» ؛ لقوله تعالى: {كما علمكم} ؛ والرد على الجبرية أيضاً؛ لتوجيه الأوامر إلى الإنسان؛ لقوله تعالى: {حافظوا} ، وقوله تعالى:{فاذكروا الله} ، وما أشبههما؛ لأننا لو قلنا بأن العبد مجبر صار توجيه الخطاب إليه نوعاً من العبث؛ لأنه أمر بما لا يطاق، ولا يمكن تطبيقه.
القرآن
التفسير:
والأزواج الذين يموتون ويتركون زوجات بعدهم، فعليهم وصيةً لهنَّ: أن يُمَتَّعن سنه تامة من يوم الوفاة، بالسكنى في منزل الزوج من غير إخراج الورثة لهن مدة السنة؛ جبرًا لخاطر الزوجة، وبرًا بالمتوفَّى. فإن خرجت الزوجات باختيارهن قبل انقضاء السنة فلا إثم عليكم -أيها الورثة- في ذلك، ولا حرج على الزوجات فيما فعلن في أنفسهن من أمور مباحة. والله عزيز في ملكه، حكيم في أمره ونهيه. وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا.
اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة (1):
القول الأول: يرى الجمهور بأن الآية منسوخة (2).
فالناسخ هو قوله-عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، حيث عدة المتوفى عنها زوجها فيها: أربعة أشهر وعشراً، والمنسوخ هذه الآية حيث عدة المتوفى عنها زوجها فيها: حولاً كاملاً.
الثاني: وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومنهم: ابن عباس (3)، والضحاك (4)، ومجاهد (5)، وعطاء (6)، وابن زيد (7)، وابن كثير (8)، والسعدي (9)، وابن عثيمين (10)، وغيرهم.
(1) انظر: الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة: 55، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 91، البسيط للواحدي: 1/ 147 ب، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 286، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 367، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 244، الدر المصون للسمين: 1/ 592، روح المعاني للألوسي: 2/ 159، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 471، وغيرها.
(2)
انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 91، والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة: 55، النكت والعيون للماوردي: 1/ 311، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 242 - 243، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 170، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 244، الدر المصون للسمين: 1/ 592، فتح القدير للشوكاني: 1/ 386، روح المعاني للألوسي: 2/ 159، معرفة الناسخ والمنسوخ لأبي عبد الله محمد بن حزم: 325، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب: 153 - 155، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 4/ 601، العدة لأبي يعلى: 3/ 780، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: 1/ 81، مناهل العرفان للزرقاني: 2/ 158 وغيرها.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5574): ص 5/ 255.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5575): ص 5/ 255.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5577): ص 5/ 255 - 256.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5577): ص 5/ 255 - 256.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5578): ص 5/ 256.
(8)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 638، و 1/ 658 - 660.
(9)
انظر: تفسير السعدي: 106.
(10)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 186.
والقول الثاني هو الأظهر، قال السعدي بعد ذكره القول بالنسخ:"وهذا القول لا دليل عليه، ومن تأمل الآيتين اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشراً على وجه التحتيم على المرأة، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولاً كاملاً جبراً لخاطرها وبرأ بميتهم، ولهذا قال: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} أي: وصية من الله لأهل الميت أن يستوصوا بزوجته ويمتعوها ولا يخرجوها"(1).
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 240]، "أي: يقبضون من رجالكم" (2).
قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 240]، أي:" ويتركون زوجاتهم"(3)، بعد الموت.
قوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ} [البقرة: 240]، أي:"كتب الله عليهم وصية"(4) لأزواجهم.
قال ابن كثير: " أي: يوصيكم الله بهن وصية كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآية [النساء: 11] "(5).
قال الزمخشري: " أن يوصوا قبل أن يحتضروا"(6).
قال المراغي: " أي وصية من الله لأزواجهم"(7).
قال ابن عثيمين: "أي عهداً لأزواجهم؛ ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن، وبه اهتمام"(8).
وفي قوله تعالى: {وَصِيَّةً} [البقرة: 240]، قراءتان (9):
الأولى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بالنصب، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو وحمزة، وحفص عن عاصم، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم، أو: عليهم أن يوصوا وصية لأزواجهم.
والثانية: {وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ} بالرفع؛ قرأ بها ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي، ثم اختلفوا في وجه رفعهاعلى قولين (10):
أحدها: أنها رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية، وواحتجوا في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله.
ومعنى الكلام على هذا الوجه: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم - ثم ترك ذكر " كتبت "، ورفعت " الوصية " بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره.
والثاني: أن (الوصية) مرفوعة بقوله: {لأزواجهم} ، فتأول: لأزواجهم وصية.
والراجح هو القول الأول، وهو أن تكون (الوصية) إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتبت عليكم وصية لأزواجكم. "لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول: جاءني رجل اليوم، وإذا قالوا: رجل جاءني اليوم، لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب (هذا)، أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو بحذف (هذا) وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره: (سورة أنزلناها) [سورة النور: 1] و {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة: 1]، فكذلك ذلك في قوله: {وصية لأزواجهم} "(11).
والصواب هو القراءة بالرفع {وَصِيِّةٌ} ، وذلك "لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة: 234]، وقبل نزول آية الميراث ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به" (12).
قوله تعالى: {مَّتَاعاً إِلَى الحول} [البقرة: 240]، أي:"بأن تمتَّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملا"(13).
قال الزمخشري: " بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أى ينفق عليهنّ من تركته"(14).
قال الشوكاني: "ن يمتعن بعدهم حولا كاملا بالنفقة والسكنى من تركتهم"(15).
وقرأ أبىّ: متاع لأزواجهم متاعا. وروى عنه: فمتاع لأزواجهم. ومتاعا نضب بالوصية، إلا إذا أضمرت يوصون، فإنه نصب بالفعل، وعلى قراءة أبىّ متاعا نصب بمتاع، لأنه في معنى التمتيع كقولك: الحمد للَّه حمد الشاكرين، وأعجبنى ضرب لك زيداً ضربا شديداً. وغَيْرَ إِخْراجٍ مصدر مؤكد، كقولك: هذا القول غير ما تقول. أو بدل من متاعاً. أو حال من الأزواج، أى غير مخرجات (16).
قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، أي:" لهن ذلك المتاع وهن مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه"(17).
قال ابن عثيمين: "أي: من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة"(18).
قال القرطبي: " معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها"(19).
قال الزمخشري: " ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقيل: نسخ ما زاد منه على هذا المقدار، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى، فعند أبى حنيفة وأصحابه: لا سكنى لهن فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للخطاب مِنْ مَعْرُوفٍ مما ليس بمنكر شرعاً. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} مع قوله: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} "(20).
قال المراغي: " وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا فى كثير من المندوبات"(21).
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 258 - 259، وتفسير ابن كثير: 1/ 368، وحاشية د. اللاحم على الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 88 - 90، وتفسير السعدي: 88، النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد: 2/ 781 رقم: 1165.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 170.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 170.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 659.
(6)
الكشاف: 1/ 289.
(7)
تفسير المراغي: 1/ 448.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 185.
(9)
انظر: السبعة: 184، وتفسير الطبري: 5/ 250، وتفسير القرطبي: 3/ 227.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 251 - 252.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 251 - 252.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 252.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(14)
الكشاف: 1/ 289.
(15)
فتح القدير: 1/ 260.
(16)
انظر: الكشاف: 1/ 289.
(17)
تفسير المراغي: 1/ 449.
(18)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 185.
(19)
تفسير القرطبي: 3/ 228.
(20)
الكشاف: 1/ 289.
(21)
تفسير المراغي: 1/ 449.
واختلف في نصب قوله {غَيْرَ} على أربعة أقوال (1):
الأول: نصب على المصدر، كأنه قال لا إخراجا. قاله الأخفش (2).
الثاني: وقيل: نصب، لأنه صفة المتاع.
الثالث: وقيل: نصب على الحال من الموصين، أي: متعوهن غير مخرجات.
الرابع: وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج. قاله الفراء (3).
قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240]، "أي: فإِن خرجن مختارات راضيات" (4).
قال الشوكاني: "يعني: باختيارهن قبل الحول"(5).
قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240]، أي:" أي لا حرج على الولي والحاكم وغيرهما"(6).
قال الصابوني: " فلا إِثم عليكم يا أولياء الميت"(7).
قوله تعالى: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 240]، أي:"في تركهن أن يفعلن ما لا ينكره الشرع، كالتزين والتطيب والتعرض للخُطّاب"(8).
قال الشوكاني: " من التعرض للخطاب والتزين لهم"(9).
قال السعدي: " أي: من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك"(10).
واختلف في تفسير قوله تعالى: {مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240]، على أربعة أقوال (11):
الأول: أي بما هو معروف في الشرع غير منكر.
قال الشوكاني: "وفيه دليل على أن النساء كن مخيرات في سكنى الحول وليس ذلك بحتم عليهن"(12).
قال القرطبي: {فَإِنْ خَرَجْنَ} " الآية: " أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا" (13).
الثاني: وقيل المعنى لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن.
ضعّفه الشوكاني، "لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله {فيما فعلن} "(14).
الثالث: وقيل: "لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول"(15).
(1) انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 232، ومفاتيح الغيب: 6/ 169، وتفسير القرطبي: 3/ 228.
(2)
انظر: معاني القرآن: 1/ 275.
(3)
انظر: معاني القرآن: 1/ 156.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(5)
فتح القدير: 1/ 260. وانظر: تفسير القرطبي: 3/ 228.
(6)
فتح القدير: 1/ 260.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(9)
فتح القدير: 1/ 260.
(10)
تفسير السعدي: 1/ 106،
(11)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 228، وفتح القدير: 1/ 260.
(12)
فتح القدير: 1/ 260.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 228.
(14)
فتح القدير: 1/ 260.
(15)
تفسير القرطبي: 3/ 228.
الرابع: وقيل: "لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال "من معروف" وهو ما يوافق الشرع"(1).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240]، أي "والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه، حكيم يراعى فى أحكامه مصالح عباده"(2).
قال الصابوني: "أي: هو سبحانه غالبٌ في ملكه حكيم في صنعه"(3).
قال ابن عثيمين: " أي: ذو عزة، وحُكم، وحِكمة"(4).
قال القرطبي: " {والله عزيز} صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. {حَكِيمٌ} أي محكم لما يريد من أمور عباده"(5).
قال المراغي: " ومن عزته وقدرته أن يحوّل الأمم من عادات ضارة، إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة مقهورة في عقر دارها سنة كاملة - إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه"(6).
قال الشيخ ابن عثيمين: "والخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] "(7).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؛ لقوله تعالى: {ويذرون أزواجاً} ؛ ولا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان؛ لأن هذا خلاف الأصل.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تحل لأحد بعده؟
قلنا: هي مقيدة بمدة العدة؛ ويدل على ذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تغسله؛ ولو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسِّل زوجها.
2 -
ومنها: أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل؛ هذا ما تفيده الآية؛ فهل هذا الحكم منسوخ، أو محكم؟ على قولين للعلماء؛ أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234]؛ ويؤيده ما في صحيح البخاري حينما سئل عثمان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة؛ ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة - وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب؟ فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئاً من مكانه (8)؛ وذلك لأن الترتيب بين الآيات توقيفي؛ فهذه الآية توفي رسول الله (ص) وهي تتلى في القرآن، وفي مكانها؛ ولا يمكن أن تغير؛ وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة للعدة؛ وأما بالنسبة لما يوصي به الزوج من المال فهو منسوخ بآية المواريث - وهي
(1) تفسير القرطبي: 3/ 228.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 449.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 185.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 228.
(6)
تفسير المراغي: 1/ 450.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 185.
(8)
راجع البخاري ص 371، كتاب التفسير، باب 40: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن
…
، )، حديث رقم 4530.
قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [النساء: 12]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث» (1).
والقول الثاني: أن الآية محكمة؛ فتحمل على معنًى لا يعارض الآية الأخرى؛ فيقال: إن الآية الأخرى يخاطَب بها الزوجة: تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً؛ والآية الثانية يخاطَب بها الزوج ليوصي لزوجته بما ذُكر.
3 -
ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال لله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21]؛ ورحمة الله عز وجل لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها.
4 -
ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى:{فإن خرجن فلا جناح عليكم} ؛ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.
ويتفرع عليه لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.
وكذلك يؤخذ منه قياساً كل من أوصى شخصاً بأمر يتعلق بالشخص الموصى له فإن الحق له في تنفيذ الوصية، وعدم تنفيذها.
5 -
ومن فوائد الآية: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليكم} .
6 -
ومنها: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} .
ويتفرع على هذا أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من منعه عن المنكر فإنه يمنعه؛ ولا يعارض هذا قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]؛ لأن الإنسان ما دام مسؤولاً فإنه إذا فرط في مسؤوليته كان وازراً، ووزره على نفسه.
7 -
ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها؛ و «المعروف» هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً؛ فلو خرجت في لباسها، أو مشيتها، أو صوتها، عن المعروف شرعاً فهي آثمة؛ وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه.
8 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة سواء كان ذلك عن طريق اللزوم، أو المطابقة، أو التضمن؛ وهي العزة، والحكمة، والحُكم؛ وقد سبق تفسير ذلك.
9 -
ومنها: إثبات العزة، والحكمة على سبيل الإطلاق، لأن الله سبحانه وتعالى أطلق: قال: {عزيز حكيم} ؛ فيكون عزيزاً في كل حال؛ وحكيماً حاكماً في كل حال.
القرآن
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241]
التفسير:
وللمطلقات متاع من كسوة ونفقة على الوجه المعروف المستحسن شرعًا، حقًا على الذين يخافون الله ويتقونه في أمره ونهيه.
(1) أخرجه أحمد 5/ 267، حديث رقم 22650، وأخرجه أبو داود ص 1437، كتاب الوصايا، باب 6: ما جاء في الوصية للوارث، حديث، رقم 2870، وأخرجه الترمذي ص 1864، كتاب الوصايا، باب 5: ما جاء لا وصية لوارث، حديث رقم 2120؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2640، كتاب الوصايا، باب 6: لا وصية لوارث، حديث رقم 2713، قال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 207، حسن صحيح، راجع الإرواء 6/ 87، حديث رقم 1655.
قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، " أي واجبٌ على الأزواج أن يُمتِّعوا المطلقات بقدر استطاعتهم جبراً لوحشة الفراق"(1).
قال الشنقيطي: وهذا" يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافا لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلا واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وقال:{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقا على كل أحد وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب
…
وهذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر؛ لأن قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيا مثلا؛ لوجوب التقوى على جميع الناس " (2).
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قوله:" {وللمطلقات متاع بالمعروف}، وهي المطلقة التي يطلقها بل أن يمسها، ولم يسم لها صداقا، فأمر الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فأما التي سمى لها الصداق فلها نصف الصداق"(3).
وقد اختلف أهل التفسير في المعنية بهذه الآية من المطلقات على أقوال (4):
الأول: قيل هي المتعة وأنها واجبة لكل مطلقة، وهو قول عن الشافعي (5)، رحمه الله، وإليه ذهب سعيد بن جبير (6)، والزهري (7)، وأبو العالية (8)، وأحد قولي عطاء (9)، واختاره ابن جرير (10).
قال ابن عثيمين: " وقوله تعالى: {وللمطلقات} من ألفاظ العموم؛ لأن «أل» فيها اسم موصول؛ فيشمل كل المطلقات بدون استثناء؛ وهن من فارقهن أزواجهن؛ وسمي طلاقاً؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان" (11) أي: أسيرات؛ وقال تعالى عن امرأة العزيز: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]؛ و {سَيِّدَهَا}: زوجها"(12).
قال ابن كثير: " وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا قبل المسيس أو مدخولا بها"(13).
الثاني: وقيل إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن، لأنه قد تقدم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن الأزواج، وهذا قول عطاء ومجاهد (14).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 139.
(2)
أضواء البيان: 1/ 152.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (2399): ص 2/ 453.
(4)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 262 - 263، وفتح القدير: 1/ 260.
(5)
انظر: تفسير الشافعي: 1/ 422، وتفسير القرطبي: 3/ 228.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5592): ص 5/ 263.
(7)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2402): ص 2/ 454.
(8)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2402): ص 2/ 454.
(9)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 263 - 264.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 264 - 265، وتفسير ابن أبي حاتم (2402): ص 2/ 454.
(11)
أخرجه أحمد 5/ 73، حديث رقم 20971؛ واللفظ له وأخرجه من طريق أبي حرة 5/ 72 – 73، حديث رقم 20971، وأخرجه الترمذي ص 1766، كتاب الرضاع، باب 11: ما جاء في حق المرأة على زوجها حديث رقم 1163، وأخرجه ابن ماجة ص 2588، كتاب النكاح، باب 3: حق المرأة على الزوج، حديث رقم 1851، وفي سنده سليمان بن عمرو بن الأحوص؛ قال عبد القادر الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول لابن الأثير 5/ 504، حاشية رقم _1): (لم يوثقه غير ابن حبان، وللحديث شواهد في الصحيحين منها حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث صحيح. أهـ. وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 1/ 311: حسن، وقال في الإرواء: في إسناده جهالة لكن له شاهد يتوقى به من حديث عم أبي حرة الرقاش، فالحديث بمجموع الطريقين حسن إن شاء الله تعالى 7/ 54، 96، 97. أهـ. باختصار.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 190.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 660.
(14)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 263، والمحرر الوجيز: 1/ 327.
الثالث: وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [سورة البقرة: 236]، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} ، فوجب ذلك عليهم. وبهذا فإن الآية نسخ محض، وهو قول ابن زيد (1).
وأخرج ابن أبي حام بسنده "عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي بعدها: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، نسخت {وللمطلقات متاع بالمعروف} "(2).
وأخرج أيضا "عن عتاب بن خصيف، في قوله: {وللمطلقات متاع بالمعروف}، قال: كان ذلك قبل الفرائض"(3).
الرابع: وقيل المراد بالمتعة هنا نفقة العدة (4).
والراجح هو القول الأول، وهو: أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة، "لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء، فبين في الآية التي قال فيها: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [سورة البقرة: 236]، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [سورة الأحزاب: 49]، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس، وبقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [سورة الأحزاب: 28]، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله: " وللمطلقات متاع بالمعروف " ذكر جميعهن، وأخبر بأن لهن المتاع، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية"(5)(6).
وقوله تعالى: {مَتَاعٌ} [البقرة: 241]، أي:" أي نفقة العدة"(7).
والمتاع: هو "ما تتمتع به من لباس، وغيره"(8).
قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، يعني "بقدر الإمكان، جبرا لوحشة الفراق"(9).
قال ابن عثيمين: "يعني: هذا المتاع مقيد بالمعروف - أي ما يعرفه الناس -؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236]، أي: المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره"(10).
(1) انظر: تفسير الطبري (5595): ص 5/ 264.
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (2400): ص 2/ 454.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم: (2401): ص 2/ 454.
(4)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 289،
(5)
تفسير الطبري: 5/ 264 - 265.
(6)
قال الشنقيطي: " وقوله {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} ، يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافا لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلا واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال: (حقا على المحسنين (وقال: (حقا على المتقين (قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقا على كل أحد وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب.
قال مقيده عفا الله عنه هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر؛ لأن قوله: (على المحسنين (و) على المتقين (تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيا مثلا؛ لوجوب التقوى على جميع الناس ". [أضواء البيان: 1/ 152].
(7)
تفسير النسفي: 1/ 129.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 190.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 172، وانظر: صفوة التفاسير: 1/ 139.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 190.
قوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، أي:" وهذه المتعة حقٌّ لازم على المؤمنين المتقين لله"(1).
قال المراغي: " والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن"(2).
قال الطبري: "فأما (المتقون)، فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له، ووجلا منهم من عقابه"(3).
و(التقوى): هي القيام بطاعة الله على علم وبصيرة؛ وما أحسن ما قاله بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله (4).
روي "عن ابن عباس: {المتقين}، أي: الذين يحذرون من الله عقوبته وترك ما يعرفون من الهوى، ويرجون رحمته، بتصديق ما جاء منه"(5).
وقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فأنه لا يعني أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عز وجل؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه (6).
قال الماوردي: " وإنما خص المتقين بالذكر - وإن كان عاماً - تشريفاً لهم"(7).
وقد أخرج ابن ابي حاتم بسنده عن "يعلي ابن حكيم، قال: سمعت رجلا سأل سعيد بن جبير عن المتعة، على كل أحد هي؟ قال: لا. قال: فعلى من؟ قال: على المتقين"(8).
وعنه أيضا بسنده عن حسين بن حفص، قال: قال سفيان وإن طلقها وقد دخل بها، فسمى لها مهرا، فعليه المتعة ولا يجبر على ذلك، ولكن يقال له: متع إن كنت من المتقين، من غير أن يجبر عليه" (9).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب المتعة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: {وللمطلقات} ؛ ويستثنى من ذلك:
أ - من طلقت قبل الدخول وقد فرض لها المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237].
ب - من طلقت بعد الدخول فلها المهر: إن كان مسمًّى فهو ما سمي؛ وإن لم يكن مسمًّى فمهر المثل؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من طلقت بعد الدخول فلها المتعة على زوجها مطلقاً؛ لعموم الآية.
2 -
ومن فوائد الآية: أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها؛ لقوله تعالى: {حقًّا على المتقين} .
3 -
ومنها: أنه ينبغي ذكر الأوصاف التي تحمل الإنسان على الامتثال فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور؛ لقوله تعالى:{حقًّا للمتقين} ؛ لأن عدم القيام به مخالف للتقوى؛ والقيام به من التقوى.
(1) صفوة التفاسير: 1/ 139.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 450.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 265.
(4)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 190.
(5)
تفسير ابن ابي حاتم (2406): ص 2/ 455.
(6)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 190 - 191.
(7)
النكت والعيون: 1/ 311.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2404): ص 2/ 454.
(9)
تفسير ابن ابي حاتم (2405): ص 2/ 454.
4 -
ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236]؛ وهذا ما لم يكن العرف مخالفاً للشرع؛ فإن كان مخالفاً له وجب رده إلى الشرع.
5 -
ومنها: أن التقوى تحمل على طاعة الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
القرآن
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} [البقرة: 242]
التفسير:
مثل ذلك البيان الواضح في أحكام الأولاد والنساء، يبيِّن الله لكم آياته وأحكامه في كل ما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم؛ لكي تعقلوها وتعملوا بها.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: 242]، أي مثلَ ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن "سعيد بن جبير، في قول الله: {كذلك} [البقرة: 242]، يعني: هكذا يبين الله لكم آياته"(1).
قال ابن عثيمين: " أي يبين الآيات لأجلكم حتى تتبين لكم، وتتضح"(2).
قال القاسمي: "أي: مثل ذلك البيان الشافي يبين الله لكم، في جميع المواضع آياته الدالة على أحكامه"(3).
قال الراغب: " نبه أنه كما بين لكم هذه الأحكام يبين لكم سائر الآيات العقلية والسمعية لتكونوا أقرب إلى استعادة العمل المكتسب"(4).
ومعنى (البيان) التوضيح؛ أي "أن الله يوضحه حتى لا يبقى فيه خفاء"(5).
و{آيَاتِهِ] [البقرة: 242]، أي:"حدوده، وحلاله وحرامه والأحكام النافعة لكم"(6).
و(الآيات): جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ وتشمل الآيات الكونية والشرعية؛ فإن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا من آياته الكونية والشرعية ما لا يبقى معه أدنى شبهة في أن هذه الآيات علامات واضحة على وجود الله عز وجل، وعلى ما له من حكمة، ورحمة، وقدرة (7).
وفي إعراب قوله {لَكُمْ} [البقرة: 242]، وجهان (8):
الأول: يحتمل أن تكون اللام لتعدية الفعل: {يُبَيِّنُ} .
والثاني: ويحتمل أن تكون اللام للتعليل؛ أي يبين الآيات لأجلكم حتى تتبين لكم، وتتضح.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]؛ "أي لتكونوا من ذوي العقول الرشيدة"(9).
روي عن "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قول الله: {يعقلون} [البقرة: 242]، قال: يتفكرون"(10).
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2407): ص 2/ 455، عن أبي زرعة، ثنا نحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 192.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 173.
(4)
تفسير الراغب: 1/ 498.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 192.
(6)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(7)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 192.
(8)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 192.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 192.
(10)
تفسير ابن أبي حاتم: (2408): 2/ 455.
قال السعدي: " لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون المقصود منها، فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها"(1).
قال الصابوني: "لتعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها"(2).
قال القاسمي: "لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها"(3).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: منة الله على عباده بتبيين الآيات؛ لقوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} .
2 -
ومنها: أن مسائل النكاح والطلاق، قد يخفى على الإنسان حكمتها؛ لأن الله جعل بيان ذلك إليه، فقال تعالى:{كذلك يبين الله لكم} .
3 -
ومنها: الرد على المفوضة - أهل التجهيل؛ وعلى أهل التحريف - الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لقوله تعالى: {يبين الله لكم آياته} ؛ لأن أهل التفويض يقولون: إن الله لم يبين ما أراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وأنها بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم معناها؛ وأهل التحريف يقولون: إن الله لم يبين المعنى المراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وإنما وكل ذلك إلى عقولنا؛ وإنما البيان بما ندركه نحن بعقولنا؛ فنقول: لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله سبحانه وتعالى يبيّنه؛ فلما لم يبين ما قلتم علم أنه ليس بمراد.
4 -
ومن فوائد الآية: الثناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود - وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات - أي الإرادات السيئة.
5 -
ومنها: إثبات العلة لأفعال الله؛ لقوله تعالى: {لعلكم تعقلون} .
6 -
ومنها: أنه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكم غير مبين؛ لقوله تعالى: {يبين الله لكم آياته} ؛ والآيات هنا جمع مضاف؛ فيعم.
فإن قال قائل: إننا نجد بعض النصوص تخفى علينا؟
فالجواب: أن ذلك إما لقصور في فهمنا؛ وإما لتقصير في تدبرنا؛ وإما لنقص في علومنا؛ أما أن النص نفسه لم يبين فهذا شيء مستحيل.
القرآن
التفسير:
ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الذين فرُّوا من أرضهم ومنازلهم، وهم ألوف كثيرة؛ خشية الموت من الطاعون أو القتال، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا دفعة واحدة عقوبة على فرارهم من قدر الله، ثم أحياهم الله تعالى بعد مدة؛ ليستوفوا آجالهم، وليتعظوا ويتوبوا؟ إن الله لذو فضل عظيم على الناس بنعمه الكثيرة، ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل الله عليهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243]، " أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم"(4).
(1) تفسير السعدي: 1/ 106.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 139.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 173.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
قال القاسمي: " أي: ممن تقدمكم من الأمم من ديارهم، التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت"(1).
والخطاب هنا إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ والأخير أحسن؛ لأنه أعم؛ و (الرؤية) هنا رؤية الفكر؛ لا رؤية البصر (2).
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي "ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب"(3).
قال القرطبي: "وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي {ألم ترْ} بجزم (الراء)، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة، لأن الأصل ألم ترء"(4).
قال الزمخشري: قوله تعالى" {أَلَمْ تَرَ}، تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب"(5).
وفي قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243]، وجهان (6):
أحدهما: يعني مُؤْتَلِفِي القلوب، وهو قول ابن زياد (7).
أي "لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم"(8).
والثاني: يعني ألوفاً في العدد. قاله ابن عباس (9)، ووهب بن منبه (10)، والحجاج بن أرطأة (11)، والسدي (12) ومجاهد (13) وعطاء (14) ومحمد بن إسحاق (15)، وهو قول الجمهور وهو الصحيح.
واختلف قائلوا هذا في عددهم على أربعة أقاويل (16):
أحدها: كانوا أربعة آلاف، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس (17).
والثاني: كانوا ثمانية آلاف.
والثالث: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، وهو قول السدي (18).
والرابع: كانوا أربعين ألفاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً (19).
قال الماوردي: "والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف"(20).
(1) محاسن التأويل: 2/ 173.
(2)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 194.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 294، وانظر: تفسير القرطبي: 3/ 230.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 230.
(5)
الكشاف: 1/ 290.
(6)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 266 وما بعدها، وتفسير القرطبي: 3/ 330، والنكت والعيون: 1/ 312.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5608): ص 5/ 273 - 274.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 231.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5596): ص 5/ 266.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5598): ص 5/ 267 - 268.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5601): ص 5/ 269.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5602): ص 5/ 270.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5603): ص 5/ 270 - 271.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5604): ص 5/ 271.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5607): ص 5/ 271.
(16)
انظر: النكت والعيون: 1/ 312.
(17)
اخرجه الطبري (5596): ص 5/ 266.
(18)
أخرجه الطبري (5602): ص 5/ 270.
(19)
أخرجه الطبري (5605): ص 5/ 271.
(20)
النطت والعيون: 1/ 312.
والصواب أن عدد القوم، كان أكثر من عشرة آلاف، "دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم: " ألوف ". وإنما يقال " هم آلاف "، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف"(1).
قوله تعالى: {حَذَرَ الموت} [البقرة: 243]، "أي خوفاً من الموت وفراراً منه"(2).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {حَذَرَ الْمَوتِ} [البقرة: 243]، وجهين (3):
أحدهما: أنهم فرّوا من الطاعون، وهذا قول ابن عباس (4)، والحسن (5)، وعمرو بن دينار (6)، وقتادة (7)، وهلال بن يساف (8).
أخرج الطبري بسنده "عن ابن عباس في قوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا: نأتي أرضا ليس فيها موت! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: رموتوا}، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية: {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} "(9).
والثاني: أنهم فروا من الجهاد، وهذا قول الضحاك (10)، ومطر (11)، وهو وأحد قولي ابن عباس (12).
وأصح الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء، وهو اختيار جمهور أهل التفسير (13). والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، " أي: قال الله لهم موتوا فماتوا ثم أحياهم" (14).
قال النسفي: " أي فأماتهم الله، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه"(15).
(1) تفسير الطبري: 5/ 276.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 274 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 312.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5596): ص 5/ 266.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5609): ص 5/ 274.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5611): ص 5/ 274.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5613): ص 5/ 275.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5614): ص 5/ 275.
(9)
تفسير الطبري (5596): ص 5/ 266، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 281، وقال:" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وقال الذهبي " ميسرة، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد. وانظر ابن كثير 1: 590، والدر المنثور 1: 310. و " ميسرة "، هو: " ميسرة بن حبيب النهدي "، مترجم في التهذيب.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2417): ص 2/ 456.
(11)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2417): ص 2/ 456.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5569): ص 5/ 268، وتفسير ابن أبي حاتم (2417): ص 2/ 456.
(13)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 232.
(14)
فتح القدير: 1/ 261.
(15)
تفسير النسفي: 1/ 129.
قال الشوكاني: " هو أمر تكوين عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة كأنهم أمروا فأطاعوا قوله ثم أحياهم"(1).
قال البغوي: " أمر تحويل كقوله {كونوا قردة خاسئين"} [البقرة: 65] " (2).
قال ابن العربي: "أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها"(3).
قال الماوردي: و"إنما فعل ذلك معجزة لنبي من أنبيائه كان اسمه شمعون من أنبياء بني إسرائيل، وأن مدة موتهم إلى أن أحياهم الله سبعة أيام "(4).
وقد ذكر العلماء في تفسير قوله تعالى {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]، قولان (5):
أحدهما: يعني فأماتهم الله، كما يقال: قالت السماء فمطرت، لأن القول مقدمة الأفعال، فعبر به عنها.
والثاني: أنه تعالى قال قولاً سمعته الملائكة.
قال القرطبي: " و {موتوا} أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين "موتوا"، والله أعلم"(6).
قال السعدي: ثم إن الله تعالى أحياهم" إما بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى"(7).
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243]، " أي: ذو إِنعام وإِحسان على الناس حيث يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ما يبصّرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة" (8).
قال البغوي: قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين" (9).
قال النسفي: " حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور"(10).
قال الشوكاني: " التنكير في قوله {فضل} للتعظيم أي لذو فضل عظيم على الناس جميعا، أما هؤلاء الذين خرجوا فلكونه أحياهم ليعتبروا وأما المخاطبون فلكونه قد أرشدهم إلى الإعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء"(11).
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، أي: ولكن أكثر الناس لا يقومون بشكر الله عز وجل حين يتفضل عليهم" (12).
قال ابن كثير: " أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم"(13).
(1) فتح القدير: 1/ 261.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 294.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 232.
(4)
النكت والعيون: 1/ 313.
(5)
انظر: تفسير االقرطبي: 3/ 231، والنكت والعيون: 1/ 312.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 231.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 294.
(10)
تفسير النسفي: 1/ 129.
(11)
فتح القدير: 1/ 261.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 196.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 661.
قال الصابوني: " أي لا يشكرون الله على نعمه بل ينكرون ويجحدون"(1).
قال السعدي: " فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم"(2).
و«الشكر» : "طاعة المتفضل"(3).
الفوائد
1 -
من فوائد الآية: أنه لا فرار من قدر الله؛ لقوله تعالى: {حذر الموت فقال لهم الله موتوا} ؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه"(4).
قال ابن كثير: " وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه، لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء فروا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد"(5).
2 -
ومنها: تمام قدرة الله عز وجل بإماتة الحيّ، وإحياء الميت؛ لقوله تعالى:{موتوا} ؛ فماتوا بدليل قوله تعالى: {ثم أحياهم} .
3 -
ومنها: أن فيها دلالة على البعث؛ وجهه: أن الله أحياهم بعد أن أماتهم.
4 -
ومنها: أن بيان الله عز وجل آياته للناس، وإنقاذهم من الهلاك من فضله؛ لقوله تعالى:{إن الله لذو فضل على الناس} .
5 -
ومنها: أن لله نعمة على الكافر؛ لعموم قوله تعالى: {على الناس} ؛ ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن؛ لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة؛ وأما على الكافر فنعمة في الدنيا فقط.
6 -
ومنها: أن الشاكر من الناس قليل؛ لقوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} .
7 -
ومنها: أن العقل يدل على وجوب شكر المنعم؛ لقوله تعالى: {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} ؛ وهذا على سبيل الذم؛ فيكون من لا يشكر مذموماً عقلاً، وشرعاً.
8 -
ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: {موتوا} ؛ فيكون فيه رد على من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.
9 -
ومنها: أن معنى قوله تعالى: {إذا أراد شيئاً أن يقول له كن} [يس: 82] أن الله عز وجل يتكلم بما أراد؛ لا أن يقول: {كن} فقط؛ بل يتكلم بما أراد: كن كذا؛ كن كذا؛ لأن الكلام بكلمة {كن} مجمل؛ ولما قال الله للقلم: «اكتب قال: رب ماذا أكتب؟ » (6)؛ فيصير معنى {كن} أي الأمر المستفاد من هذه الصيغة؛ ولكنه يكون
(1) صفوة التفاسير: 1/ 141.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 196.
(4)
أخرجه البخاري ص 284، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54: حديث رقم 3473، وأخرجه مسلم ص 1071، كتاب السلام، باب 32: الطاعون والطيرة، والكهانة
…
، حديث رقم 5772 [92]2218.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 661.
(6)
أخرجه الترمذي ص 1868، كتاب القدر، باب 17: إعظام أمر الإيمان بالقدر، حديث رقم 2155؛ وأبو داود ص 1568، كتاب السنة، باب 16: في القدر، حديث رقم 4700؛ والحاكم 2/ 498، كتاب التفسير، تفسير سورة (ن والقلم)؛ وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي؛ وأخرجه ابن أبي عاصم من عدة طرق في كتاب السنة 1/ 48 – 49، باب ذكر القلم، وصحهها الألباني، وذكر الحديث في صحيح أبي داود، وقال:"صحيح"(3/ 148، حديث رقم 4700)؛ وقال عبد القار الأرناؤوط في جامع الأصول: "وهو حديث صحسح بطرقه"(4/ 18، حاشية رقم 1).
أمراً خاصاً؛ فلو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن ينزل مطراً؛ لا يقول: {كن} فقط؛ بل يكون بالصيغة التي أراد الله عز وجل.
10 -
ومن فوائد الآية: جواز حذف ما كان معلوماً، وأنه لا ينافي البلاغة؛ وهو ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف؛ لقوله تعالى:{موتوا ثم أحياهم} ؛ والتقدير: «فماتوا ثم أحياهم» ؛ وهذا كثير في القرآن، وكلام العرب.
11 -
ومنها: أنه سبحانه وتعالى يمدح نفسه بما أنعم به على عباده؛ لقوله تعالى: {إن الله لذو فضل على الناس} ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أحب إليه المدح من الله» (1)؛ فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُمدح، ويُحمد؛ لأن ذلك صدق، وحق؛ فإنه سبحانه وتعالى أحق من يُثنى عليه، وأحق من يُحمَد؛ وهو سبحانه وتعالى يحب الحق.
12 -
ومنها: أن من طبيعة البشر الفرار من الموت؛ لقوله تعالى: {خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} .
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يستعد للذي يحذر منه وهو لا يدري متى يفجؤه.
القرآن
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)} [البقرة: 244]
التفسير:
وقاتلوا -أيها المسلمون- الكفار لنصرة دين الله، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم، عليم بنيَّاتكم وأعمالكم
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244]، أي وقاتلوا "لإعلاء دينه"(2).
قال البغوي: " أي في طاعة الله أعداء الله"(3).
قال الطبري: " {وقاتلوا} أيها المؤمنون في دينه الذي هداكم له، لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم"(4).
قال ابن عثيمين: " أي في الطريقة الموصلة إليه - وهي شريعته -؛ وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (5)؛ وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع"(6).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده "عن سعيد بن جبير، في قول الله عز وجل: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244]، يعني: في طاعة الله"(7).
قال الصابوني: " أي قاتلوا الكفار لإِعلاء دين الله، لا لحظوظ النفس وأهوائها"(8).
(1) أخرجه البخاري ص 383، كتاب تفسير القرآن سورة الأعراف، باب 1: قول الله عز وجل: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منا وما بطن)، حديث رقم 4673، وأخرجه مسلم ص 1156، كتاب التوبة، باب 6: غيرة الله تعالة وتحريم الفواحش، حديث رقم 6992 [33]2760.
(2)
تفسير الجلالين: 1/ 53.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 294.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 280.
(5)
أخرجه البخاري ص 251 - 252، كتاب فرض الخمس، باب 10: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، حديث رقم 3126، وأخرجه مسلم ص 1018، كتاب الإمارة، باب 42: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حديث رقم 4920 [150] 1904، واللفظ لمسلم.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 199.
(7)
تفسير ابن ابي حاتم (2427): 2/ 459.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
قال الطبري: أي: " وقاتلوا أيها المؤمنون في دينية الذي هداكم، لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم، الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله"(1).
قال المراغي: " لقتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الحق، وتأمين الدعوة، ونشر الدين، حتى لا يغلب أهله، ولا يصدهم صادّ عن إقامة شعائره، وتلقين أوامره، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا همّ الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها، وإرادة إذلالها، والعدوان على استقلالها، فهذا أمر لنا بأن نتحلّى بالشجاعة، ونلبس سرابيل القوة، ليخشى العدو بأسنا، ويرهب جانبنا، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا"(2).
قال القاسمي: " وأصل السبيل هو الطريق. وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى، ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله. فالقتال دفاع في سبيل الله لإزالة الضرر العام. وهو منع الحق وتأييد الشرك. وذلك بتربية الذين يفتنون الناس عن دينهم وينكثون عهودهم لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب"(3).
قال الراغب: " وأقرب الأعداء إلى الإنسان وأصعبها دفاعاً وأكثرهم أذى الهوى المدلول عليه بقوله: " جهادك هواك" (4)، وقوله: "أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك" (5)، وقوله لما رجعوا من تبوك: " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" (6)
…
وصعوبة مجاهدته أنه عدو يخفي وتخفى مكائده، ونحو هذا نظر الشاعر حيث قال (7):
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
…
فكيف بمن يرمي وليس برامي
وعلى هذا قوله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، وقوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} " (8).
واختلف أهل التفسير في من عنى الله تعالى بهذا الخطاب، على قولين (9):
الأول: قال الجمهور: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله.
قال القرطبي: "وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا"(10).
وعلى هذا القول فإن (الواو) في قوله {وَقَاتِلُوا} ، عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام، قال النحاس:" {وَقَاتِلُوا}، أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء"(11)، وقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به (12).
القول الثاني: وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل. قاله الضحاك (13).
و(الواو) على هذا في قوله {وَقَاتِلُوا} عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا (14).
قال الطبري: "ولا وجه لقول من زعم أن قوله: {وقاتلوا في سبيل الله}، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم"(15).
والظاهر-والله أعلم- هو القول الأول، بأن هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا. وبه قال أكثر أهل التفسير.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244]، " واعلموا أنّ الله سميع لأقوالكم، عليم بنيّاتكم وأحوالكم فيجازيكم عليها"(16).
قال محمد بن إسحاق: "أي: سميع لما يقولون، عليم بما يخفون"(17).
(1) تفسير الطبري: 5/ 280.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 455.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 175.
(4)
لم نقف عليه بهذا اللفظ إلا عند الراغب في تفسيره: 1/ 502، وفي الذريعة إلى مكارم الشريعة: 103، وقد روي ذلك عن الحسن البصري، انظر: ذم الهوى لابن الجوزي حديث رقم (28).
(5)
رواه البيهقي في الزهد باسناد ضعيف وله شاهد من حديث أنس .. والمشهور على الالسنة: اعدى عدوك .. إهـ (كشف الخفاء 1/ 143) قال العراقي في تخريج الاحياء (كتاب عجائب القلب): اخرجه البيهقي في كتاب الزهد من حديث ابن عباس، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان احد الوضاعين. إهـ وقال الزبيدي في شرح الاحياء 7/ 206 تعقيباً على العراقي: ووجدتُ بخط ابن حجر ما نصّه: وللحديث طرق اخرى غير هذه من حديث أنس.
(6)
ورد بلفظ" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، قال الألباني في " السلسلة الضعيفة والموضوعة "(5/ 478)، منكر، رواه البيهقي بسند ضعيف في الزهد الكبير (374): ص 198، قاله الحافظ العراقي في تحقيق أحاديث الإحياء، نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء (1/ 511)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو كلام إبراهيم بن أبي عبلة وليس بحديث، نقله أيضا العجلوني عن الحافظ في الكشف، وهذا ملخص ما ذكره العجلوني، وفي رواية البيهقي:(قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب)، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ:(رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه)، وقد روياه جميعا عن جابر، كذا في كشف الخفاء، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (11/ 197): أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في عزوة تبوك: (رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر، فلا أصل له)، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله" انتهى."مجموع فتاوى ابن باز" (26/ 381).
(7)
البيت لعمرو بن قميئة، انظر: ديوانه: 46، وغريب أبي عبيد: 2/ 146، وتفسير الراغب: 1/ 502.
وبنات الدهر: أحداثه، خطوبه ومصائبه. ليس برام: ليس من شأنه أن يرمي، عاجز عن الرماية.
(8)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 501 - 502.
(9)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 236.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 236.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 236.
(12)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 236.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2426): ص 2/ 459.
(14)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 236.
(15)
انظر: تفسيره: 5/ 281 - 282. وعلّل قائلا: "لأن قوله: {وقاتلوا في سبيل الله}، لا يخلو - إن كان الأمر على ما تأولوه - من أحد أمور ثلاثة:
1 -
إما أن يكون عطفا على قوله: " فقال لهم الله موتوا "، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
2 -
أو يكون عطفا على قوله: " ثم أحياهم "، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله:" وقاتلوا في سبيل الله "، أمر من الله بالقتال، وقوله:" ثم أحياهم "، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
3 -
أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط " القول "، كما قال تعالى ذكره:{إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [سورة السجدة: 12]، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها". [تفسير الطبري: 5/ 281 - 282].
(16)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(17)
تفسير ابن ابي حاتم (2428): ص 2/ 46 - . عن محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو زنيج، ثنا سلمة ثنا محمد بن إسحاق.
قال القاسمي: " وفي قوله تعالى: واعلموا أن الله سميع عليم بعث على صدق النية والإخلاص، كما في الصحيحين: "عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(1) " (2).
قال الزمخشري: أي" يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون عَلِيمٌ بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء"(3).
قال السعدي: " أي: فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك"(4).
قال ابن عثيمين: " وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن الله سميع عليم تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة؛ فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا"(5).
قال الدكتور محمد حجازي: " وتشير الآية الكريمة إلى أن موت الأمم غالبا له سببان:
الأول: الجبن وضعف العزيمة.
والثاني: البخل وعدم الإنفاق، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى الآية السابقة بقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ، ولقد رغب الله في الإنفاق، إذ عبر بالقرض عن الإنفاق، من يقرض الله الذي له خزائن السموات والأرض والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يضاعف له في ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله ومن أصدق من الله حديثا" (6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الأمر بقتال الكافرين؛ وهو إما فرض عين، أو فرض كفاية، أو مستحب على حسب ما قرره العلماء؛ وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى:{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190].
2 -
ومنها: الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله تعالى بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} .
3 -
ومنها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياءً؛ لأن إيجاب الإخلاص في القتال يقتضي تحريم القتال لغير ذلك؛ اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس فهو مباح؛ بل قد يجب.
فإن قيل: لو قاتل دفاعاً عن وطنه لأنه بلد إسلامي؛ فيقاتل دفاعاً عنه لهذا الغرض؛ فهل يكون قتالاً في سبيل الله؟
(1) أخرجه البخاري في: العلم، 45 - باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، حديث 105 ونصه: عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه (وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما)، فقال «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل» .
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث 150.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 175 - 176.
(3)
الكشاف: 1/ 290.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 199.
(6)
التفسير الواضح: 1/ 157.
فالجواب: نعم؛ لأن نيته أن لا يفرق بين وطنه وغيره إذا كان ذلك لحماية الإسلام.
4 -
ومن فوائد الآية: وجوب التمشي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة من طاعة الأمير، والصبر عند اللقاء، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك.
5 -
ومنها: التحذير من مخالفة الشريعة؛ لقوله تعالى: {واعلموا أن الله سميع عليم} ؛ فإن مقتضى ذلك أن نحذر من مخالفته؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
6 -
ومنها: الترغيب في موافقة الشرع؛ فإن ذلك لا يضيع عند الله؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
7 -
ومنها: إثبات هذين الاسمين لله تعالى؛ وهما «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وحُكم؛ وقد سبق تفصيل «السمع» الذي وصف الله عز وجل به نفسه.
القرآن
التفسير:
من ذا الذي ينفق في سبيل الله إنفاقًا حسنًا احتسابًا للأجر، فيضاعفه له أضعافا كثيرة لا تحصى من الثواب وحسن الجزاء؟ والله يقبض ويبسط، فأنفقوا ولا تبالوا؛ فإنه هو الرزاق، يُضيِّق على مَن يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك، وإليه وحده ترجعون بعد الموت، فيجازيكم على أعمالكم.
في سبب نزول الآية: أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن ابن عباس، قال: أتت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله إليه من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فقالوا: يا محمد افتقر ربك، يسأل عباده؟ فأنزل الله عز وجل: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء"(1).
وروي "عن ابن عمر قال: لما نزلت مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب زد أمتي، فنزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال: رب زد أمتي فنزل {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 100] "(2).
قال السعدي: " ولما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه، وسماه قرضا فقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى"(3).
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهُ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245]، " أي من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله، ولإِعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير"(4).
قال ابن عطية: " وقوله {حسنا}، معناه تطيب فيه النية ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته"(5).
قال النسفي: " بطيبة النفس من المال الطيب"(6).
وقد ذكر العلماء في قوله عز وجل: {قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245]، تفسيران (7):
(1) تفسير ابن ابي حاتم (2429): 2/ 460.
(2)
اخرجه ابن ابي حاتم (2435): ص 2/ 461.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(5)
المحرر الوجي: 1/ 330.
(6)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 313.
أحدهما: أنه النفقة في الجهاد، وهو عمر بن الخطاب (1) وابن زيد (2).
والثاني: النفقة في الأهل. وهو قول زيد بن أسم (3).
والثالث: وقيل: أن القرض الحسن هو: ذكر: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"(4).
والرابع: أنة: أبواب البر، وهو قول الحسن (5)، ومنه قول لبيد (6):
فإذا جُوزِيتَ قَرْضاً فاجْزِهِ
…
إنّما يَجْزي الفَتَى لَيسَ الجَمَلْ
قال الحسن: وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا: إن الله يستقرض منا، فنحن أغنياء، وهو فقير، فأنزل الله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحَنْ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
والراجح-والله أعلم- أن (القرض الحسن) في هذه الآية، هو النفقة في سبيل الله، إذ "يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله"(7)، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، وتعددت المعاني حسب السياق (8).
(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2431): ص 2/ 460.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5624): ص 5/ 290.
(3)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2432): ص 2/ 460.
(4)
أخرجه ابن ابي حاتم (2433): ص 2/ 461: " حدثنا أبو سعيد بن نحيى بن سعيد القطان، ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن أبي حيان، عن أبيه، عن شيخ لهم أنه كان إذا سمع السائل يقول: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، هذا القرض".
(5)
انظر: النكت والعيون: 1/ 313.
(6)
ديوانه: 91.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 662.
(8)
تكرر لفظ (القرض الحسن) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، ورغم هذا التعدد في الذكر لم يختلف المعنى المراد في آية من الآيات، بل كان المقصود دائما هو الترغيب في الانفاق العام في وجوه الخير والبر، كالجهاد في سبيل الله وإطعام الجائعين وكسوة العارين وتعليم الجاهلين وتطبيب المصابين.
إذ أورد القرآن الكريم فى القرض ست آيات فى خمس سور جميعها مدنية أية واحدة فى أربع سور؛ وهي [المائدة: 12] و [التغابن: 17] و [البقرة: 245] و [المزمل: 20] وآيتين فى سورة [الحديد 18 و 11]. وقد عبر القرآن الكريم عن القرض وهو اسم بألفاظ مختلفة مشتقة من الفعل الماضي الثلاثى (قرض) بصيغة الفعل المضارع والأمر كذلك المصدر كما يلى: - أقرضتم: {وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12]- وأقرضوا: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ([الحديد: 11]- وأقرضوا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20]- تقرضوا: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن: 17]- يقرض: وقد ورد مرتين فى آيتين فى سورتين كالتالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد: 11]- قرضا: ورد لفظ قرضا ست مرات فى سورة البقرة والمائدة والحديد والتغابن والمزمل كما يلى: - {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} البقرة: 245} - {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]- {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]- {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18]- {إنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]- {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20].
والقرض فى الإسلام هو أنسب الطرق وأهم الوسائل التى تؤدى إلى نهضة المجتمع وإشاعة الأمن والسلام فى ربوعه وتؤدى إلى الرواج الاقتصادى وحل المشكلات الاجتماعية وذلك لما نستخلصه مما سبق ذكره:
أولا: أن القرض يحفظ كرامة الإنسان المقترض من ذل السؤال ويفتح له باب الأمل فى عمل يعيش منه أولاً ورد القرض للمقرض فضلاً على أن المقرض لا يحب أن يمن بما قدمه وأن يخفى القرض ولا يفصح عنه.
ثانياً: أن رد القرض مضمون وواجب على المقترض رده فإن تعثر: {"فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى يرد القرض على المقرض أضعافاً مضاعفه وأضعافاً كثيرة فثوابه أعظم من الصدقة ونهيب بالجهات الرسمية والمعنية بالدعوة إلى الله كالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والعلماء والداعين إلى الله أن يبينوا لعموم المسلمين معنى القرض الحسن وأثره على أمن المجتمع وشيوع المحبة فى ربوعه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: "واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب والله هو الغني الحميد لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء وقد ذهبت اليهود في مدة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم محتاج يستقرض وهذا بين الفساد"(1).
قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، يعني:"فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافاً كثيرة"(2).
قال الصابوني: "لأنه قرضٌ لأغنى الأغنياء ربّ العالمين جل جلاله وفي الحديث"مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيم وَلا ظَلُومٍ" (3) "(4).
روي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} ، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟ ! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة" (5).
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، على قولين (6):
أحدهما: بالواحد سبعمائة ضعف، وهو قول ابن زيد (7).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 330.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(3)
صحيح مسلم (758): ص 1/ 522، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(5)
أخرجه الطبري (5620): ص: 5/ 284 - 285. باسناد ضعيف. وأخرجه ابن ابي حاتم (2430): ص 2/ 460.
وجزء الحسن بن عرفة برقم (87) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (417) تحقيق الدكتور الحميد، ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 301) عن خلف به نحوه، وحميد الأعرج ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما.
ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح. من حديث أنس، رواه أحمد في المسند: 12509 (3: 146 حلبي)، بإسناد صحيح:" عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي! ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، . فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح، لأبي الدحداح، في الجنة. قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها ".
وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد 9: 323 - 324. وقال: " رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح ". ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث، يصحح من هذا الموضع.
وله أصل ثان صحيح. فروى مسلم في صحيحه 1: 264، عن جابر بن سمرة، قال:" صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نتبعه نسعى خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن لنبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح ". " أو قال شعبة: لأبي الدحداح ".
و(أبو الدحداح): هو ثابت بن الدحداح، أو ابن الدحداحة. ويكنى " أبا الدحداح " أو " أبا الدحداحة "، مترجم في الإصابة 1:199. ثم ترجمه في الكنى 7: 57 - 58، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان. ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف، وأن في إسناده رجلا " واهى الحديث "! ! فسقط الاستدلال به دون ريب. الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به، فإن لم يكن عليه الحائط فهو " ضاحية ".
(6)
النكت والعيون: 1/ 313.
(7)
أخرجه الطبري (5617): ص 5/ 283. عن يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد.
والثاني: لا يعلمه أحد إلا الله، وهو قول السدي (1).
قال الشنقيطي: "لم يبين هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة ولكنه بين في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد عن ذلك. وذلك في قوله تعالى: {{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] "(2).
وقد اختلف القراء في قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ} [البقرة: 245] على أربع قراءات:
الأولى: قراءة عاصم بالألف والنصب، أي:{فَيُضَاعِفَهُ} .
والثانية: قراءة ابن عامر بالتشديد والنصب أي: {فيضعَّفَه} .
والثالثة: قراءة ابن كثير بالتشديد والرفع أي: {فيضعَّفُه} .
والرابعة: قراءة الباقين بالألف والرفع أي: {فيضاعفُه} .
والقراءتان بمعنى واحد، كما نص على ذلك الأزهري (3)، والمهدوي (4)، وغيرهما.
وقال أبو حيان "وفرق بعضهم بين يضاعف ويضعف، فقال: التضعيف لما جعل مثلين، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك"(5).
وقد وجه الحافظ ابن حجر (6) قراءة النصب على أن الفعل منصوب بأن مضمرة في جواب الاستفهام، وهو جواب له على المعنى لا على اللفظ؛ لأن الاستفهام وإن وقع عن المقرض لفظاً فهو عن الإقراض معنى، كأنه قال: أيقرض الله أحد قرضاً، فيضاعفَه له. وهناك توجيه آخر، وهو أن الفعل منصوب بإضمار أَنْ عطفاً على المصدر المفهوم من (يُقْرضُ) في المعنى، فيكون مصدراً معطوفاً على مصدر، والتقدير: من ذا الذي يكون منه إقراض فمضاعفة من الله. كما وجه-رحمه الله-قراءة الرفع بأنه رفع على الاستئناف، والتقدير: فهو يضاعفه، وهناك توجيه آخر وهو أن (فَيُضَاعِفَهُ) معطوف على صلة الذي، أي:{يُقْرِضُ} (7).
وكان أبو عمرو لا يسقط (الألف) من ذلك كله إلا من سورة الأحزاب قوله تعالى: {يضعف لها العذاب} [الأحزاب: 30]، فإنه بغير (ألف) كان يقرأه، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله بـ (الألف) ورفع (الفاء)، فالرفع في (الفاء) يتخرج على وجهين:
أحدهما: العطف على ما في الصلة، وهو {يقرض} .
والآخر: أن يستأنف الفعل ويقطعه.
قال أبو علي: والرفع في هذا الفعل أحسن، وقال القاضي أبو محمد، لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب الاستفهام وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل الأول ثم يجيء الثاني مخالفا له،
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2436): ص 2/ 462. عن أبي زرعة ثنا عمرو بن حماد ثنا أسباط، عن السدي.
(2)
أضواء البيان: 1/ 153 - 154.
(3)
انظر: القراءت وعلل النحويين فيها: 1/ 85.
(4)
انظر: شرح الهداية: 1/ 201.
(5)
تفسير البحر الحيط: 2/ 248. وانظر في نسبة القراءات: الإقناع لابن الباذش: 2/ 609، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 300 - 301، التبصرة لمكي: 441، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 1/ 443، الوافي للقاضي: 221.
(6)
انظر: الفتح: 13/ 407.
(7)
معاني القرآن للفراء: 1/ 157، معاني القرآن للزجاج: 1/ 324 - 325، القراءات وعلل النحويين فيها للأزهري: 1/ 85، شرح الهداية للمهدوي: 1/ 201، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 102، البسيط للواحدي: 1/ 149 أ، مفاتيح الغيب للرازي: 6/ 181 مشكل إعراب القرآن لمكي: 1/ 133، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي: 1/ 300 - 301، البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات ابن الأنباري: 1/ 164، إعراب القرآن للنحاس: 1/ 324، المحرر الوجيز لابن عطية 2/ 250، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 252، الدر المصون للسمين: 1/ 595، وغيرها
تقول: أتقرضني فأشكرك، وها هنا إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض ولكن تحمل قراءة ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى لأنه لم يستفهم عن فاعل الإقراض إلا من أجل الإقراض فكأن الكلام أيقرض أحد الله فيضاعفه له ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ {من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم} [الأعراف: 186]، بجزم {نذرهم} لما كان معنى قوله {فلا هادي له} [الأعراف: 186]، فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة (1).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 244]، " أي يقتّر على من يشاء ويوسّع على من يشاء ابتلاءً وامتحاناً"(2).
قال السعدي: " أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا"(3).
قال ابن كثير: " أي: أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك"(4).
قال النسفي: " يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة"(5).
قال الطبري: " أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه"(6).
قال الحافظ ابن حجر: " البسط: كناية عن سعة رحمته"(7).
واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 244]، وذكروا فيه وجهان (8):
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 330 - 331.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 106.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 664.
(5)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 288.
(7)
الهدي: 92، ومعنى (يَبْصُطُ) في الآية يوسع، والبسط في اللغة: السعة، انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 247، لسان العرب لابن منظور: 1/ 282، معاني القرآن للنحاس: 1/ 248، معاني القرآن للزجاج: 1/ 325، جامع البيان للطبري: 5/ 289، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 295، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 128، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 372، فتح القدير للشوكاني: 1/ 389، محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 201، وغيرها. والبسط والسعة نوع من الرحمة لا كناية عنها إذ للبسط معنى معلوم في اللغة، ومعنى الفعل في حق الله-عز وجل-جلي يعرفه كل من قرأ النص من العالمين بلغة العرب، انظر: كتاب التوحيد لابن منده: 2/ 93، التدمرية لابن تيمية: 29 - 30، صفات الله-عز وجل-للسقاف: 65 - 67.
(8)
النكت والعيون: 1/ 313. القبض لغةً من مصدر: قبضه يقبضه قبضًا، وهو خلاف البسط، وفي أسماء الله تعالى: "القابض" أي هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد وبلطفه وحكمته، ويقبض الأرواح عند الممات، ويقال: قبض المريض إذا توفي، وإذا أشرف على الموت، والقبض بمعنى الأخذ فيقال: قبضت مالي قبضًا، أي أخذته، وقال ابن منظور: وأصله في جناح الطائر، قال الله تعالى {وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [سورة الملك: الآية 19]. [انظر: القاموس المحيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب: مادة "قبض].
والقُبْضة بالضم: ما قبضت عليه من شيء، يقال: أعطاه قُبضة من سويق أو تمر، أي كفًّا منه، وربما جاء بالفتح، ثم نقل عن الليث أن القبضة: ما أخذته بجمع كفك كله، فإذا كان بأصابعك فهي القبصة بالصاد، وقال ابن الأعرابي: القبض قبولك المتاع وإن لم تحوله، ثم قال ابن منظور: والقبض تحويلك المتاع إلى حيزك، والقبض: التناول للشيء بيدك ملامسة
…
، وصار الشيء في قبضي وقبضتي أي في ملكي. [لسان العرب: ص 3513. ونحن حقًّا لسنا مع التأويل في مثل هذه الآيات، وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لذاته العلية مع التنزيه، وعدم التشبيه].
ذا كان القبض في اللغة هو أخذ أي شيء، أو التمكن منه فإنه في الاصطلاح الفقهي أخص منه حيث هو مخصص بالمعقود عليه، لكنه ثار الخلاف بين الفقهاء في تحديد مفهومه تبعًا لوجهات نظرهم المختلفة في كيفية تمام القبض. ثم إن أكثر الفقهاء لم يريدوا أن يضعوا تعريفًا جامعًا لجميع أقسام القبض، وإنما بينوه من خلال أنواعه، كما أنهم أرجعوا أمره كقاعدة أساسية إلى العرف، ولذلك ننقل نصوص الفقهاء بشيء من الإِيجاز للوصول إلى حقيقة القبض.
فعند الحنفية – كما يقول الكاساني -: "التسليم والقبض عندنا هو التخلية، والتخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع، والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع"، وذكر ابن عابدين أن من شروط التخلية التمكن من القبض بلا حائل، ولا مانع، ولكن صاحب "الأجناس" اشترط شرطًا ثالثًا، وهو أن يقول "خليت بينك وبين المبيع". [بدائع الصنائع، ط. الإِمام بالقاهرة: 7/ 3248، ورد المحتار على الدر المختار، ط. دار إحياء التراث العربي: 4/ 42، والفتاوى الهندية، ط. دار إحياء التراث العربي: 3/ 15].
أحدهما: يعني في الرزق (1)، وهو قول الحسن (2) وابن زيد (3).
والثاني: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء، وهو قول الزجاج.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن قتادة، في قوله: {يقبض ويبصط}، قال: يقبض الصدقة ويبسط ويخلف"(4).
قال ابن عطية: "قرأ ابن كثير {يبسط} بالسين ونافع بالصاد {يبصط} في المشهور عنه، وقال الحلواني عن قالون عن نافع إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو بالصاد، وروى أبو قرة عن نافع {يبسط} بالسين"(5).
قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، أي "يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم"(6).
قال المراغي: " والرجوع إلى الله ضربان:
الأول: رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.
والثاني: رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] " (7).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الأمر بقتال الكافرين؛ وهو إما فرض عين، أو فرض كفاية، أو مستحب على حسب ما قرره العلماء؛ وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى:{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190].
2 -
ومنها: الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله تعالى بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} .
(1) انظر تفسير القبض في الآية بالمنع والتقتير والتضييق في: معاني القرآن للنحاس: 1/ 248، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 325، جامع البيان للطبري: 5/ 289، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 295، المفردات للراغب: 391، فتح القدير للشوكاني: 1/ 389، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 372، محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 201 وغيرها.
(2)
انظر: النكت والعيون: 1/ 313.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 290.
(4)
تفسير ابن ابي حاتم (2438): ص 2/ 462.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 331.
(6)
صفوة التفااسير: 1/ 141.
(7)
تفسير المراغي: 1/ 458.
3 -
ومنها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياءً؛ لأن إيجاب الإخلاص في القتال يقتضي تحريم القتال لغير ذلك؛ اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس فهو مباح؛ بل قد يجب.
فإن قيل: لو قاتل دفاعاً عن وطنه لأنه بلد إسلامي؛ فيقاتل دفاعاً عنه لهذا الغرض؛ فهل يكون قتالاً في سبيل الله؟
فالجواب: نعم؛ لأن نيته أن لا يفرق بين وطنه وغيره إذا كان ذلك لحماية الإسلام.
4 -
ومن فوائد الآية: وجوب التمشي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة من طاعة الأمير، والصبر عند اللقاء، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك.
5 -
ومنها: التحذير من مخالفة الشريعة؛ لقوله تعالى: {واعلموا أن الله سميع عليم} ؛ فإن مقتضى ذلك أن نحذر من مخالفته؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
6 -
ومنها: الترغيب في موافقة الشرع؛ فإن ذلك لا يضيع عند الله؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
7 -
ومنها: إثبات هذين الاسمين لله تعالى؛ وهما «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وحُكم؛ وقد سبق تفصيل «السمع» الذي وصف الله عز وجل به نفسه.
القرآن
التفسير:
ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الأشراف والوجهاء من بني إسرائيل من بعد زمان موسى؛ حين طلبوا من نبيهم أن يولي عليهم ملكا، يجتمعون تحت قيادته، ويقاتلون أعداءهم في سبيل الله. قال لهم نبيهم: هل الأمر كما أتوقعه إنْ فُرِض عليكم القتال في سبيل الله أنكم لا تقاتلون؛ فإني أتوقع جبنكم وفراركم من القتال، قالوا مستنكرين توقع نبيهم: وأي مانع يمنعنا عن القتال في سبيل الله، وقد أَخْرَجَنَا عدوُّنا من ديارنا، وأبعدنا عن أولادنا بالقتل والأسر؟ فلما فرض الله عليهم القتال مع الملِك الذي عيَّنه لهم جَبُنوا وفرُّوا عن القتال، إلا قليلا منهم ثبتوا بفضل الله. والله عليم بالظالمين الناكثين عهودهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 246]، " أي: ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل" (1).
قال الصابوني: " أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم"(2).
قال البغوي: " والملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش وجمعه أملاء"(3).
قال الرازي: " (الملأ): الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، قال الشاعر (4):
وقال لها الأملاء من كل معشر
…
وخير أقاويل الرجال سديدها
(1) تفسير المراغي: 1/ 461.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 296.
(4)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الرازي في مفاتيح الغيب: 6/ 501، وأساس البلاغة: 2/ 224، والعين: 8/ 346.
وأصلها من الملء، وهم الذين يملؤون العيون هيبة ورواء، وقيل: هم الذين يملؤون المكان إذا حضروا، وقال الزجاج: الملأ الرؤساء، سموا بذلك لأنهم يملؤون القلوب بما يحتاج إليه، من قولهم: ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملئ" (1).
والخطاب في الآية إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وخطاب زعيم الأمة خطاب له، وللأمة؛ لأنها تبع له؛ وإما أنه خطاب لكل من يتوجه له الخطاب؛ فيكون عاماً في أصل وضعه؛ الفرق بين المعنيين أن الأول عام باعتبار التبعية للمخاطب به أولاً - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والثاني عام باعتبار وضعه - يعني: ألم تر أيها المخاطب (2).
كما أن الاستفهام هنا الظاهر أنه للتشويق - يعني يشوقنا أن ننظر إلى هذه القصة لنعتبر بها -؛ لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب؛ فيُقَرَّر به، كقوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1]؛ وأما هذا فهو أمر ليس معلوماً للمخاطب إلا بعد أن يخبر به؛ فيكون هنا للتشويق، مثل قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10]، وقوله تعالى:{هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]، وما أشبهها؛ أما لو كان يخاطب من كان عالماً بها لقلنا: إن الاستفهام للتقرير (3).
قال النسفي: الملأ: " الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة"(4).
قال البغوي: " والملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش وجمعه أملاء"(5).
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مُوسَى} [البقرة: 246] يعني: "من بعد موته"(6).
قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِّيٍ لَهُم} [البقرة: 246]، "أي حين قالوا لنبيِّهم"(7).
واختلف أهل التفسير في ذلك النبي على أقاويل (8):
أحدها: أنه شمويل (9)، وهو قول وهب بن منبه (10).
والثاني: يوشع بن نون، وهو قول قتادة (11).
والثالث: شمعون، "وهو من نسل هارون"(12)، وهو قول السدي (13).وقال:"إنما سمي " شمعون "، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته " شمعون "، تقول: الله تعالى سمع دعائي"(14).
وروي عن مجاهد، قال: شمؤل" (15).
والرابع: وقيل: الشمول بن حنة بن العاقر. عن أبي عبيدة (16).
(1) مفاتيح الغيب: 6/ 501.
(2)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 205.
(3)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 206.
(4)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 296.
(6)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 314.
(9)
لم يرد له ذكر في نسب (شمويل) من كتاب القوم، بل هو عندهم (صموئيل) بن (القانة).
(10)
انظر: تفسير الطبري (5626)، و (5627): ص 5/ 292 ..
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2442): ص 2/ 463.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(13)
أخرجه الطبري (5628): ص 5/ 292.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 292 - 293.
(15)
أخرجه الطبري (5629): ص 5/ 293.
(16)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2441): ص 2/ 462.
الخامس: يوشع (1). قاله قتادة (2). وقال: "وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما"(3).
والأولى أن نقول بأن الله سبحانه وتعالى أبهمه؛ ولو كان في معرفة اسمه فائدة لكان الله عز وجل يبيّن اسمه لنا؛ لكن ليس لنا في ذكر اسمه فائدة؛ المهم أنه نبي من الأنبياء. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {ابْعَثْ لَنَا مَلَكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، "أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله"(4).
قال السعدي: " أي: عيِّن لنا ملكا، ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا"(5).
قال ابن عثيمين: " أي مُرْ لنا بملك، أو أقم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم، ويدبر شؤونهم؛ والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى .. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم (6) حتى لا تكون أمورهم فوضى"(7).
قال الزمخشري: أي "أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره"(8).
قال السعدي: "ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر"(9).
وقوله تعالى {نُقاتِلْ} [البقرة: 246]، "قرئ بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، أى ابعثه لنا مقدّرين القتال. أو استئناف كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: يقاتل بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لملكا، وخبر عسيتم"(10).
وقوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن تفسير، وهو "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(11).
وأخرج ابن ابي حاتم بسنده عن "سعيد في قوله: في سبيل الله يعني: في طاعة الله عز وجل"(12).
وفي سبب سؤالهم لذلك قولان (13):
(1) يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
(2)
اخرجه الطبري (5630): ص: 5/ 293.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 293. يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: 23] {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}، الآية.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(6)
راجع أبا داود ص 1416، كتاب الجهاد، باب 80: في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، حديث رقم 2608، 2609؛ وقال الشوكاني: رجالهما رجال الصحيح إلا علي بن بحر وهو ثقة (نيل الأوطار 8/ 256) < وقل الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح (2/ 125، حديث رقم 2608، 2609).
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 207.
(8)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(10)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(11)
أخرجه البخاري ص 251 - 252، كتاب فرض الخمس، باب 10: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره، حديث رقم 3126، وأخرجه مسلم ص 1018، كتاب الإمارة، باب 42: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حديث رقم 4920 [150] 1904، واللفظ لمسلم.
(12)
تفسير ابن أبي حاتم (2448): ص 2/ 464، عن أبي زرعة، ثنا نحيى، ثنا ابن لهيعة، حدثني عطاء عن سعيد.
(13)
انظر: النكت والعيون: 1/ 314.
أحدهما: أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة، وهو قول السدي (1).
والثاني: أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم، فسألوا قتالهم، وهو قول وهب بن منبه (2)، والربيع (3) وابن جريج (4) والضحاك (5).
قوله تعالى: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} [البقرة: 246]"أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره"(6).
قوله تعالى {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246]، أي:" أي قال لهم نبيّهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه"(7).
قال النسفي: أي: " هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون"(8).
قال البغوي: " {هَلْ عَسَيْتُمْ}: استفهام شك"(9).
قال الزمخشري: " بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أنّ المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ} معناه التقرير"(10).
قال الراغب: " أي: هل طمعتم في أنفسكم أن تقوم بذلك وأن لا تجن؟ "(11).
قال السعدي: " أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم"(12).
وقوله: {عَسَيْتُمْ} [البقرة: 246]، فيه قراءتان:
الأولى: قرأ نافع: {عسيتم} بكسر (السين) كل القرآن، والكسر لغة في (عسى) إا اتصل بمضر خاصة، وقد حكي في اسم الفاعل (عَسٍي)، فهذا يدل على كسر (السين) في الماضي (13).
قال صاحب الكشاف: " وقرئ (عسِيتم) بكسر السين وهي ضعيفة"(14).
وقال أبو حاتم: "ليس للكسر وجه"(15).
الثانية: وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى: {عسى ربكم} " (16)، وهي هنا للتوقع؛ فيكون المعنى: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟
(1) أخرجه الطبري (5635): ص 5/ 298 - 299.
(2)
أخرجه الطبري (5631): ص 5/ 294 - 295.
(3)
أخرجه الطبري: (5632: ص 5/ 296.
(4)
أخرجه الطبري: (5633): ص 5/ 297.
(5)
أخرجه الطبري (5634): ص 5/ 298.
(6)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 296.
(10)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(11)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 506.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(13)
انظر: كتاب سيبويه: 1/ 291، وتفسير النسفي: 1/ 124، والقاموس المحيط (بسط)، والكشف عن وجوه القراءات السبه لمكي بن ابي طالب: 1/ 303.
(14)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(15)
انظر: فتح القدير: 1/ 264، والكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي بن ابي طالب: 1/ 303.
(16)
تفسير البغوي: 1/ 296.
وتجدر الإشارة بأن الفتح في السين، هي اللغة الفاشية، وعليها اجمع القراء، ونافع معهم، إذا لم يتصل الفعل بضمير، وايضا إذا مساواة الفعل، مع المضمر والمظهر، أولى من المخالفة بينهما، لأن المضمر عقيب المظهر، فواجب أن يكون مثله، وهو الإختيار لأجماع القراء عليه مع المضمر والمظهر، وإنما خالفهم نافع وحده مع المضمر (1)، وبه قرأ الحسن وطلحة (2).
قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَآ أَلا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] يعني: "وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه"(3).
قال الزمخشري: "وأىّ داع لنا إلى ترك القتال، وأى غرض لنا فيه"(4).
قال الصابوني: " أي أيُّ سببٍ لنا في ألاّ نقاتل عدونا"(5).
قال السعدي: " أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه"(6).
واختلف في إعراب (أن) في قوله تعالى {ألّا} (7):
القول الأول: قال الأخفش (أن) في قوله (وما لنا ألا نقاتل) زائدة.
قال الرازي"وهذا ضعيف لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل"(8).
قال الطبري: وقال آخرون منهم: (أن) ها هنا زائدة بعد {ما لن} ، كما تزاد بعد (لما) و (لو)، وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل {أن} وهي زائدة، وقال الفرزدق (9):
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها
…
إذن للام ذوو أحسابها عمرا
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب (ولا) زائدة فأعملها.
(1) انظر: زاد المسير: 1/ 292، ومغني اللبيب:153.
(2)
انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي بن ابي طالب: 1/ 303.
(3)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(4)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(6)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(7)
انظر: فتح القدير: 1/ 264.
(8)
مفاتيح الغيب: 6/ 503.
(9)
ديوانه: 283، والخزانة 2: 87، والعيى (الخزانة) 2: 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في بابه، وقبل البيت أبيات منها:
يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم
…
يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم
…
سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا بصرا
ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان. . . . . . .
هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن " الذنوب " جمع " ذنب "، وهو عندي ليس بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على إعمال " لا " الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به. والذنوب (بفتح الذال): الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو بهذا المعنى في قوله تعالى:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، أي حظا من العذاب. قال الفراء:" الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب ". وقال الزمخشري: " ولهم ذنوب من كذا " أي نصيب، قال عمرو ابن شأس:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
…
فحق لشأس من نداك ذنوب.
أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة - " إذن للام ذوو أحسابها عمرا ". وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: 287 - 288 وقوله: فسد الزمان وبدلت أعلامه
…
حتى أمية عن فزارة تنزع
يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده.
وأنكر [ذلك] آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل (أن) زائدة في الكلام، وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة، قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل - فلا وجه لدعوى مدع أن {أن} زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها
فإن (لا) غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها، إثبات الذنوب لها، كما يقال: ما أخوك ليس يقوم، بمعنى: هو يقوم" (1).
القول الثاني: وقال الفراء هو محمول على المعنى، أي: وما منعنا، كما تقول: مالك ألا تصلي. وقيل المعنى واي شيء لنا في أن لا نقاتل.
قال النحاس "وهذا أجودها"(2).
الثالث: قال الكسائي: معنى وما لنا ألا نقاتل أي شيء لنا في ترك القتال؟ ثم سقطت كلمة (في).
قال الرازي: " ورجح أبو علي الفارسي، قول الكسائي على قول الفراء، قال: وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر، والتقدير: ما يمنعنا من أن نقاتل، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره، وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى"(3).
واختلف في اعراب {ما} في قوله تعالى: {وَمَا لَنَآ} [البقرة: 246] على وجهين (4):
الأول: وهو قول المبرد: أن (ما) في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه، قال: ما لنا نترك القتال، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.
الوجه الثاني: أن نسلم أن (ما) هاهنا بمعنى الاستفهام.
قال الطبري: "فإن قيل: وما وجه دخول (أن) في قوله: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله}، وحذفه من قوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} [سورة الحديد: 8]، قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف " أن " مرة مع قولها: " ما لك "، فتقول: " ما لك لا تفعل كذا "، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر (5):
ما لك ترغين ولا ترغو الخلف
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب، وتثبت (أن) فيه أخرى، توجيها لقولها:" ما لك " إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)[سورة الأعراف: 12]، ثم قال في سورة أخرى في نظيره:(مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)[سورة الحجر: 32]، فوضع " ما منعك " موضع " ما لك "، و " ما لك " موضع "
(1) تفسير الطبري: 5/ 300 - 304.
(2)
فتح القدير: 1/ 264.
(3)
مفاتيح الغيب: 6/ 503.
(4)
انظر/ كفاتيح الغيب: 6/ 503.
(5)
البيت من شواهد الطبري: 5/ 300، ولم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء 1: 163، واللسان (خلف). والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف، وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل " مخاض "، كقولهم:" امرأة، ونسوه "، وهذا الراجز يقول لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته: أرار الله مخك في السلامى
…
إلى من بالحنين تشوقينا! !
فإني مثل ما تجدين وجدي،
…
ولكني أسر وتعلنينا!
وبي مثل الذي بك، غير أني
…
أجل عن العقال، وتعقلينا!
ما منعك "، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر (1):
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت:
…
ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم؟
فأدخل في (دائم)(الباء) مع (هل)، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر (ما) التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد" (2).
قوله تعالى: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246]، " وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ "(3).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده " عن السدي قوله: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}: بأداء الجزية"(4).
قال الصابوني: " قال تعالى بياناً لما انطوت عليه نفوسهم من الهلع والجبن"(5).
قال الزمخشري: "وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين"(6).
قال السعدي: " بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل"(7).
قال ابن عثيمين: " والإنسان إذا أُخرج من داره، وبنيه فلا بد أن يقاتل لتحرير البلاد، وفكّ الأسرى"(8).
قال الراغب: " أنكروا أن يكون منهم تضجيع في قتال أعدائهم، فجعل حجتهم شيئين هما غاية ما يحنق، وهو انزعاجهم عن مقارهم الذي هو شريك القتل، وقيل الولد الذي هو أصعب على الإنسان من قتل نفسه، وفي حكاية ذلك إشارة إلى ذمهم من وجهين أحدهما أنهم قالوا: أن تكلفوا، وقد قيل: فلما قام الإنسان بواجب التزامه، ابتدأ ولهذا لما روجع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، فقيل: " ألعامنا هذا؟ أم للأبد؟ قال: بل للأبد" (9)، وذم الله (بني إسرائيل) في التزامهم الرهبانية، ثم قصروا فيها، والثاني: أنهم لم يلزموا القتال كما يجب أن يلزم، فإن المقاتلة في سبيل الله يجب أن لا يكون لها سمعة واجتلاب ثناء أو شفاء
(1) البيت للفرزدق، انظر: ديوانه: 963، ، والنقائض: 753، ومعاني القرآن للفراء 1: 164، واللسان (قرد)(قلا)(هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله، يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن:
وليس كليبي، إذا جن ليله
…
إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم
يقول - إذا اقلولي
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في " قرد "، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا إناث البشر! ! وقوله:" اقلولي " أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: " ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم "، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن " هل " هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل).
(2)
تفسير الطبري: 5/ 300 - 301.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم (2449): ص 2/ 464، عن أبي زرعة، ثنا عمرو بن حماد، ثنا أسباط، عن السدي.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 141.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 291.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 208.
(9)
صحيح البخاري (1216): ص 2/ 884. من حديث جابر بن عبدالله.
مغيطة وكذا يجب أن تكون سائر الأفعال المحمودة وهم لما قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} قصدوا شفاء الغيظ لا ائتمار الرب، فعلم أنهم لا يصبرون في مواطن الحق على ما يجب" (1).
قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 246]، " أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك"(2).
عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى {كتب} [البقرة: 246]، :"يعني فرض"(3).
قال القرطبي: "أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب"(4).
قوله تعالى: {تَوَلَّوْا} [البقرة: 246]، أي:"أعرضوا عنه"(5).
قال القرطبي: " أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم"(6).
قال ابن عثيمين: " أي أعرضوا عن هذا الغرض، ولم يقوموا به"(7).
قال المراغي: " أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدوّ وشوكته"(8).
قال السعدي: " لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم .. فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن"(9).
قوله تعالى: {إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} [البقرة: 246]، أي:" إِلا فئة قليلة منهم صبروا وثبتوا"(10).
و(القليل) ما دون الثلث؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير"(11)؛ وهي منصوبة على الاستثناء.
قال السعدي: " فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة"(12).
قال الشوكاني: " واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه وهم الذي اكتفوا بالغرفة"(13).
قال النسفي: "وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر"(14)، " وهم الذين عبروا النهر مع طالوت"(15).
قال القرطبي: "وهذا شأن الأمم المتنعِّمة المائلة إِلى الدَّعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإِذا حضرت الحرب جُبنت وانقادت لطبعها"(16).
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 506 - 507.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 462.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2450): ص 2/ 464.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 244 - 245.
(5)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 245.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 208.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 462.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(11)
أخرجه البخاري ص 101، كتاب الجنائز، باب 36: رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، حديث رقم 1295، وأخرجه مسلم ص 962، كتاب الوصية، باب 1: الوصية بالثلث، حديث رقم 4209 [5]1628.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(13)
فتح القدير: 1/ 264.
(14)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(15)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(16)
تفسير القرطبي: 3/ 245.
قال المراغي: " ذاك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوّتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة، فإذا أراد الله إحياءها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون"(1).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246]، " والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه"(2).
قال ابن كثير: " أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم"(3).
قال النسفي: "وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد"(4).
قال الصابوني: " وعيدٌ لهم على ظلمهم بترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى"(5).
قال ابن عثيمين: " ومقتضى علمه بهم أن يجازيهم على ظلمهم؛ والظلم هنا ليس لفعل محرم؛ ولكنه لترك واجب؛ لأن ترك الواجب كفعل المحرم؛ فيه ظلم للنفس، ونقص من حقها"(6).
قال المراغي: " أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى"(7).
قال الرازي: " أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك: وقاتلوا في سبيل الله فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجرا عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثا على الجهاد، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم"(8).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الحث على النظر، والاعتبار؛ لقوله تعالى:{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} .
2 -
ومنها: أن في هذه القصة عبراً لهذه الأمة، حيث إن هؤلاء القوم الذين كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم.
3 -
ومنها: تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.
4 -
ومنها: أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها؛ لقولهم: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} .
5 -
ومنها: أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك؛ لقولهم: {ابعث لنا ملكاً} يخاطبون النبي؛ فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم.
6 -
ومنها: إذا طلب الإنسان شيئاً من غيره أن يذكر ما يشجعه على إجابة الطلب؛ لقولهم: {نقاتل في سبيل الله} ؛ فإن هذا يبعث النبي ويشجعه على أن يبعث لهم الملك.
7 -
ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} .
8 -
ومنها: امتحان المخاطَب بما طلب فعله، أو إيجادَه من غيره: هل يقوم بما يجب عليه نحوه، أم لا؛ لقوله تعالى:{هل عسيتم إن كتب القتال ألا تقاتلوا} .
(1) تفسير المراغي: 1/ 462.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 305.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 665.
(4)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 208.
(7)
تفسير المراغي: 1/ 462.
(8)
مفاتيح الغيب: 6/ 503.
9 -
ومنها: أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله؛ لقولهم: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} ؛ ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة، ويكون عنده قوة للمدافعة.
10 -
ومنها: أن من مبيحات القتال إخراج الإنسان من بلده، وأهله ليرفع ظلم الظالمين؛ لقولهم:{وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} ؛ لكن لو كان إخراجهم بحق - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بني النضير (1) - فلا حق لهم في المقاتلة، أو المطالبة - ولو أسلموا -؛ لأن الله أورث المسلمين أرضهم، وديارهم، وأموالهم؛ والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين؛ قال الله تعالى:{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105].
11 -
ومن فوائد الآية: أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور، أو القيام بالمأمور؛ فإذا ابتُلي نكص؛ لقوله تعالى:{فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} مع أنهم كانوا في الأول متشجعين على القتال.
12 -
ومنها: الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (2)، وقوله (ص):«من سمع بالدجال فلينأ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات» (3)؛ ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به؛ ثم لا يوفون به، كما في قوله تعالى:{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين*فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 7، 76].
13 -
ومن فوائد الآية: أن البلاء موكل بالمنطق؛ لأنه قال لهم: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} ؛ فكان ما توقعه نبيهم واقعاً؛ فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا.
14 -
ومنها: أن بعض السؤال يكون نكبة على السائل، كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101].
15 -
ومنها: وجوب القتال دفاعاً عن النفس؛ لأنهم لما قالوا: {وقد أخرجنا} قال تعالى: {فلما كتب عليهم القتال} أي فرض عليهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم، ويحرروا بلادهم من عدوهم؛ وكذلك أبناءهم من السبي.
16 -
ومنها: تحذير الظالم من الظلم - أيَّ ظلم كان -؛ لقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} ؛ فإن هذه الجملة تفيد الوعيد والتهديد للظالم.
17 -
ومنها: تحريم الظلم لوقوع التهديد عليه.
18 -
ومنها: أن ترك الواجب من الظلم؛ لقوله تعالى: {تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين} أي المتولين الذين فرض عليهم القتال، ولم يقوموا به؛ فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم؛ وإما ترك واجب.
القرآن
(1) راجع البخاري ص 329، كتاب المغازي، باب 14: حديث بني النضير
…
، حديث رقم 4028؛ ومسلماً ص 991، كتاب الجهاد والسير، باب 20: إجلاء اليهو من الحجاز، حديث رقم 4592 [62]1766.
(2)
أخرجه البخاري ص 238، كتاب الجهاد والسير، باب 112: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أو ل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، حديث رقم 2966، وأخرجه مسلم ص 986، كتاب الجهاد والسير، باب 6: كراهة تمني لقاء العدو
…
، حديث رقم 4542 [20]1742.
(3)
أخرجه أحمد ج 4/ 431، حديث رقم 20116، وأخرجه أبو داود ص 1537، كتاب الملاحم، باب 14: خروج الدجال، حديث رقم 4319، واللفظ لأحمد، وقال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح 3/ 30.
التفسير:
وقال لهم نبيهم: إن الله قد أرسل إليكم طالوت مَلِكًا إجابة لطلبكم، يقودكم لقتال عدوكم كما طلبتم. قال كبراء بني إسرائيل: كيف يكون طالوت مَلِكًا علينا، وهو لا يستحق ذلك؟ لأنه ليس من سبط الملوك، ولا من بيت النبوة، ولم يُعْط كثرة في الأموال يستعين بها في ملكه، فنحن أحق بالملك منه؛ لأننا من سبط الملوك ومن بيت النبوة. قال لهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم وهو سبحانه أعلم بأمور عباده، وزاده سَعَة في العلم وقوة في الجسم ليجاهد العدو. والله مالك الملك يعطي ملكه مَن يشاء من عباده، والله واسع الفضل والعطاء، عليم بحقائق الأمور، لا يخفى عليه شيء.
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} [البقرة: 247]، " أي: أخبرهم نبيّهم" (1).
قال الطبري: " وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل"(2).
قال ابن عثيمين: " {نَبِيُّهُمْ} بتشديد (الياء)؛ وفي قراءة: {نبيئهم} بالهمز (3).
قوله تعالى: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة: 247]، "بأنَّ الله تعالى قد ملَّك عليهم طالوت ليكونوا تحت إِمرته في تدبير أمر الحرب واختاره ليكون أميراً عليهم"(4).
قال السعدي: " فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض"(5).
قال ابن كثير: " لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط"(6).
قال صاحب الكشاف: " طالُوتَ اسم أعجمى كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من الطول (فعلوت) منه، أصله طولوت، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق حنطا حنطة، وبشمالا لها رخمانا رخيما بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فهو من الطول كما لو كان عربيا، وكان أحد سببيه العجمة لكونه عبرانيا"(7).
قوله تعالى: {قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} [البقرة: 247]، " أي: كيف يكون ملكًا علينا" (8).
قال النسفي: " أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له"(9).
وقد قال مجاهد: "قوله: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا}، قال: كان أمير الجيش"(10).
قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247]، " والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك"(11).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 142.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 306.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 212.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(9)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(10)
أخرجه الطبري (5647): ص 5/ 311.
(11)
تفسير النسفي: 1/ 130.
جاء في تفسير الجلالين: " لأنه ليس من سبط المملكة ولا النبوة وكان دباغا أو راعيا"(1).
قال ابن كثير: " وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل: دباغًا"(2).
قال القاسمي: "أي لأن فينا من هو سبط الملوك دونه"(3).
قال ابن عثيمين: " كأنهم يرون أن الملِك لا يكون إلا كابراً عن كابر، وأن هذا لم يسبق لأحد من آبائه أنه تولى الملْك بخلافنا نحن؛ فإن الملوك كانوا منا؛ فكيف جاءه الملك؟ ! "(4).
أخرج ابن ابي حاتم "عن السدي، عن أبي مالك، قوله: {أنى} يعني: من أين؟ "(5).
وعن الربيع بن أنس: " {قالوا أنى يكون له الملك علينا}: كيف يكون له الملك علينا؟ "(6).
قال الزمخشري: " {أَنَّى}: كيف ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له"(7).
قوله تعالى: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، أي"وأنه فقير، لا بد للملك من مال يعتضد به"(8).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده "عن السدي وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قال القوم: ما كنت قد أكذب منك الساعة، ونحن سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفاه عليكم"(9).
وعن ابن عباس: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ، فإنهم لم يقولوا ذلك، إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان، كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك، فلا يبعث نبي إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحدا، إلا من كان من سبط الملك، وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من واحد من السبطين، فاختاره عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم، ومن أجل ذلك قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه وليس واحدا من السبطين قال:{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} ، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس ببعض ذلك" (10).
وري "عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء"(11).
قال النسفي: " وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً"(12).
روي عن السدي "قوله: {وزاده بسطة في العلم والجسم} قال: أتى بعصى مقدار الرجل الذي يبعث فيهم ملكا فقال: أن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء، يسقي على حمار له، فضل حماره، فانطلق يطلبه في الطريق فلما رأوه، دعوه وقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة، ونحن سبط المملكة،
(1) تفسير الجلالين: 1/ 54.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 179.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 212.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (2454): ص 2/ 46 ..
(6)
اخرجه ابن ابي حاتم (2455): ص 2/ 465.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 130.
(9)
تفسير ابن أبي حاتم (2452): ص 2/ 464.
(10)
اخرجه ابن ابي حاتم (2456): ص 2/ 465.
(11)
أخرجه الطبري في تفسيره (5639): ص 5/ 309. عن أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة.
(12)
تفسير النسفي: 1/ 130، وانظر: الكشاف: 1/ 292.
وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال، فنتبعه لذلك، فقال النبي: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم" (1).
وقال "عبد الصمد بن معقل: سمعت وهبا يقول وزاده بسطة في العلم والجسم قال: فاجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبه فصاعدا"(2).
قال الزمخشري: " وروى أنّ نبيهم دعا اللَّه تعالى حين طلبوا منه ملكا، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت"(3).
قال السعدي: " أي: كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه. ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال، وهذا بناء منهم على ظن فاسد، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها"(4).
قال ابن كثير: " وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف"(5).
قال الحرالي: "فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم. فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم: {أنا خير منه} [الأعراف: 12]، ولم يؤت سعة من المال، أي فصار له مانعان: أحدهما أنه ليس من بيت الملك. والثاني أنه مملق. والملك لا بد له من مال يعتضد به .. فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال وأنه مما يقام به ملك، وإنما الملك بإيتاء الله، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم"(6).
قال الزمخشري: " فإن قلت: ما الفرق بين الواوين في: (وَنَحْنُ أَحَقُّ)، (وَلَمْ يُؤْتَ)؟ قلت: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، قد انتظمتهما معا في حكم واو الحال. والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به"(7).
قوله تعالى: {قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 247]، أي:" إِنّ الله اختاره عليكم"(8).
عن الضحاك: " {إن الله اصطفاه عليكم}، قال: اختاره عليكم"(9). ونحوه عن ابن زيد (10).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده "عن عبد الله بن عباس قوله: {إن الله اصطفاه عليكم}: فاختاره عليكم. وروي عن أبي مالك مثل ذلك"(11).
قال ابن كثير: " أي: اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم، يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك"(12).
قال النسفي: " أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه"(13).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2461): ص 2/ 466.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2462) /ص 2/ 466.
(3)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 179.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(9)
أخرجه الطبري (5650): ص 5/ 312.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5651): ص 5/ 313.
(11)
تفسير ابن ابي حاتم (2457): ص 2/ 466. وكذا رواه الطبري (5649): ص 5/ 312.
(12)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(13)
تفسير النسفي: 1/ 130.
قوله تعالى: {وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247]، أي:" فضله عليكم بالعلم والجسم"(1).
قال ابن عباس: " {وزاده بسطة}، يقول: فضيلة"(2).
وعن وهب بن منبه: " {وزاده بسطة في العلم}، قال: العلم بالحرب"(3).
وقال الحافظ ابن حجر: " قوله: {بسطة} : أي: زيادة وفضلاً (4).
وعن ابن عباس: " {وزاده بسطة في العلم والجسم}، يقول: كان عظيما جسيما، يفضل بني إسرائيل بعنقه ورأسه"(5).
عن وهب بن منبه قال: "لما قالت بنو إسرائيل: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا"(6).
وقال ابن إسحاق: "وكان طالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم وقوة في البطش وشدة في الحرب، مذكور بذلك في الناس"(7).
وقال السدي: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها"(8).
وقال ابن زيد: " {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم}، بعد هذا"(9).
يعني: مع اصطفائه إياه، بسط له مع ذلك في العلم والجسم.
قال ابن كثير: " أي: أتم علمًا وقامة منكم، ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه"(10).
قال السعدي: "أي: بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب، حصل بذلك الكمال، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع، قوة على غير حكمة، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا"(11).
(1) تفسير السعدي: 1/ 107.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2458): ص 2/ 466.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2459): ص 2/ 466.
(4)
الهدي: 92. وهذه عبارة أبي عبيدة في المجاز: 1/ 77، وزاد: وكثرة، وعبارات أهل العلم في تفسيرها متقاربة. انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 313، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 92، وتفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 913، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 142 ب، البسيط للواحدي: 1/ 150 أ، المفردات للراغب: 46، الكشاف للزمخشري: 1/ 379، فتح البيان لصديق خان: 2/ 71، التحرير والتنوير لابن عاشور: 2/ 492، وغيرها.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (2460): ص 2/ 466.
(6)
أخرجه الطبري (5652): ص: 5/ 313.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2463): 2/ 466.
(8)
أخرجه الطبري (5653): ص 5/ 313.
(9)
أخرجه الطبري (5654): ص 5/ 313.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(11)
تفسير السعدي: 1/ 107.
قال النسفي: " قالوا: كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه .. والبسطة السعة والامتداد، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب."(1).
قال القاسمي: " لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره، رد عليهم ذلك:
أوّلا: بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم.
وثانيا: بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة. وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر قاله أبو السعود" (2).
قال الزمخشري: " والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحى إليه ونبئ، وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيما يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب"(3).
قوله تعالى: " {وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 247]، " أي: يعطي الملك لمن شاء من عباده من غير إِرثٍ أو مال" (4).
عن وهب بن منبه: " {والله يؤتي ملكه من يشاء}، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه"(5).
عن مجاهد، "قوله:{والله يؤتي ملكه من يشاء} ، قال: سلطانه" (6).
قال ابن كثير: " أي: هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] ورأفته بخلقه"(7).
قال النسفي: أي "الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة"(8).
قال ابن عثيمين: " أي يعطي ملكه من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26] "(9).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، " أي واسع الفضل عليمٌ بمن هو أهلٌ له فيعطيه إِياه"(10).
روي عن سعيد بن جبير، "في قوله:{عليم} ، يعني: عالم بها" (11).
(1) تفسير النسفي: 1/ 131.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 180.
(3)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(5)
أخرجه الطبري (5655): ص 5/ 314.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2464): ص 2/ 467، وانظر: تفسير مجاهد 1/ 114.
والطبري (5656): ص 5/ 314.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 131.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 213 - 214.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2465): ص 2/ 467.
قال ابن كثير: " أي: هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه"(1).
قال الزمخشري: " {واسِعٌ}: يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر {عَلِيمٌ} بمن يصطفيه للملك"(2).
قال الطبري: " {والله واسع} بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء {عليم} بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به"(3).
قال السعدي: " لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع، ولكنه مع ذلك {عَلِيمٌ} بمن يستحق الفضل فيضعه فيه، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ليس له راد، ولا لإحسانه صاد"(4).
قال النسفي: " أي واسع الفضل والعطاء يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر {عَلِيمٌ} بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت"(5).
قال ابن عثيمين: " أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته، وأفعاله؛ و {عليم} أي ذو علم بكل شيء؛ ومنه العلم بمن يستحق أن يكون ملكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء"(6).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَاسِعٌ} [البقرة: 247] ثلاثة أقاويل (7):
أحدها: واسع الفضل، فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ، كما يقال فلان كبير، بمعنى كبير القَدْر.
الثاني: أنه بمعنى مُوسِع النعمة على مَنْ يشاء من خلقه.
والثالث: أنه بمعنى ذو سعة.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن نبيهم وافقهم على أن يبعث إليهم ملِكاً ليقاتلوا في سبيل الله؛ فدعا الله عز وجل، فاستجاب له.
2 -
ومنها: كمال تعظيم الأنبياء لله تعالى، وحسن الأدب معه؛ لقول نبيهم:{إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} ؛ ولم يقل: إني بعثت.
3 -
ومنها: أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {إن الله قد بعث لكم} .
4 -
ومنها: إسناد الفضل إلى أهله؛ لقوله تعالى: {إن الله قد بعث لكم} .
5 -
ومنها: أن الله قد يعطي المُلك من لا يترقبه - لكونه غير وجيه، ولا من سلالة الملوك.
6 -
ومنها: اختيار الألفاظ التي يكون بها إقناع المخاطَب، وتسليمه للأمر الواقع؛ لقول نبيهم:{إن الله قد بعث لكم} ؛ فإنه أبلغ في الإقناع، والتسليم من قوله: إني بعثت لكم.
7 -
ومنها: أن المعترض يذكر وجه اعتراضه لمخاطبه؛ لقولهم: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} .
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(2)
تفسير الكشاف: 1/ 292.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 324 - 315.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 107.
(5)
تفسير النسفي: 1/ 131.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 214.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 315.
8 -
ومنها: أن استفهام هؤلاء القوم يحتمل أن يكون المراد به الاعتراض؛ ويحتمل أن يراد به الاستكشاف، والبحث عن السبب بدون اعتراض: كيف كان ملكاً ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ فإن كان الأول فإن حالهم تقتضي الذم؛ لأنهم كيف يعترضون وهم الذين طلبوا أن يبعث لهم ملكاً! ! ! وإن كان الثاني فلا اعتراض عليهم، ولا لوم عليهم.
9 -
ومنها: أن المجيب يختار ما يكون به الإقناع بادئاً بالأهم فالأهم؛ لقول نبيهم في جوابه: {إن الله اصطفاه عليكم
…
} إلخ؛ فبدأ بذكر ما لا جدال فيه - وهو اصطفاء الله عليهم -؛ ثم ذكر بقية المؤهلات: وهي أن الله زاده بسطة في العلم، وتدبير الأمة، والحروب، وغير ذلك، وأن الله زاده بسطة في الجسم: ويشمل القوة، والطول
…
؛ وأن الله عز وجل هو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وفعله هذا لابد وأن يكون مقروناً بالحكمة: فلولا أن الحكمة تقتضي أن يكون طالوت هو الملك ما أعطاه الله عز وجل الملك؛ وأن الله واسع عليم: فهو ذو الفضل الذي يمده إلى من يشاء من عباده؛ فله أن يتفضل على من يشاء؛ الله أعلم حيث يجعل رسالته؛ والله أعلم أيضاً حيث يجعل ولايته.
10 -
ومن فوائد الآية: أن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه، أو قوته؛ يؤخذ هذا أولاً من قولهم:{أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} ؛ وثانياً من قوله: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} .
11 -
ومنها: بيان أن تقدير الله عز وجل فوق كل تصور؛ لقوله تعالى: {إن الله اصطفاه عليكم} مع أنهم قَدَحوا فيه من وجهين: أنهم أحق بالملك منه، وأنه فقير؛ فبيّن نبيهم أن الله اصطفاه عليكم بما تقتضيه الحكمة.
12 -
ومنها: أنه كلما كان ولي الأمر ذا بسطة في العلم، وتدبير الأمور، والجسم، والقوة كان أقوَم لملكه، وأتم لإمرته؛ لقوله تعالى:{وزاده بسطة في العلم والجسم} .
13 -
ومنها: أن ملك بني آدم مُلك لله؛ لقوله تعالى: {والله يؤتي ملكه من يشاء} ؛ فهذا المَلِك في مملكته هو في الحقيقة ما مَلَكَ إلا بإذن الله عز وجل؛ فالمُلْك لله سبحانه وتعالى وحده يؤتيه من يشاء.
14 -
ومنها: أن ملكنا لما نملكه ليس ملكاً مطلقاً نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيد بما أذن الله به؛ ولهذا لا نتصرف فيما نملك إلا على حسب ما شرعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ملكه كما يشاء - يتلفه ويحرقه، ويعذبه إذا كان حيواناً - فليس له ذلك؛ لأن ملكه تابع لملك الله سبحانه وتعالى.
15 -
ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {من يشاء} ؛ ومشيئته تعالى تابعة لحكمته؛ لقوله عز وجل: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30].
16 -
ومنها: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تقع بمشيئته لا مكره له؛ لأنه المهيمن على كل شيء.
17 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما {واسع} ، و {عليم} ، وما تضمناه من وصف، أو حكم.
18 -
ومنها: إثبات سعة الله عز وجل في إحاطته، وصفاته، وأفعاله.
القرآن
التفسير:
وقال لهم نبيهم: إن علامة ملكه أن يأتيكم الصندوق الذي فيه التوراة -وكان أعداؤهم قد انتزعوه منهم- فيه طمأنينة من ربكم تثبت قلوب المخلصين، وفيه بقية من بعض أشياء تركها آل موسى وآل هارون، مثل العصا وفُتات الألواح تحمله الملائكة. إن في ذلك لأعظم برهان لكم على اختيار طالوت ملكًا عليكم بأمر الله، إن كنتم مصدقين بالله ورسله.
قوله تعالى: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة: 248]، أي: قال لهم نبيهم: إن" علامة ملكه"(1).
قال ابن كثير: " يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم"(2).
قال الصابوني: "أي علامة ملكه واصطفائه عليكم"(3).
قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248]، أي "يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة"(4).
عن ابن إسحاق: " {أن يأتيكم التابوت فيه} قال: فيرد عليكم"(5).
قال الزمخشري: "التَّابُوتُ: صندوق التوراة. وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرّون"(6).
قال: وهب بن منبه عن صفة تابوت موسى: "كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين"(7).
قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248]، أي " أي في التابوت السكون والطمأنينة والوقار"(8).
قال ابن كثير: " قيل: معناه فيه وقار، وجلالة"(9).
قال القرطبي: " أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه} [التوبة: 40] أي أنزل عليه ما سكن به قلبه"(10).
قال الزمخشري: "والسكينة: السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب"(11).
قال القاسمي: "أي: وقار وجلال وهيبة. أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل يتقوون به على الحرب"(12).
وذكر أهل العلم في معنى الـ {سَكِينَةٌ} أقوال (13):
أحدها: ريح هفَافة لها وجه كوجه الإِنسان، وهذا قول عليّ عليه السلام (14).
والثاني: أنها طست من ذهبٍ من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وهذا قول ابن عباس (15) والسدي (16)، ورجّحه الحافظ ابن حجر قائلا:" وأما التي (17) في قوله تعالى: (فِيهِ سَكينَة مِّن رَّبِّكُم) فيحتمل قول السدي وأبي مالك"(18)(19).
والثالث: وقيل: السكينة لها وجه كوجه الهر وجناحان. قاله مجاهد (20)(21) وابن عباس في أحد قوليه (22) وأبن مالك (23) نحوه في احدلى الروايات.
والرابع: وقيل: بل هي رأس هرة ميتة. قاله وهب بن منبه (24).
الخامس: أنها روح من الله تعالى يتكلم، وهذا قول وهب بن منبه (25).
والسادس: أنها ما يعرف من الآيات فيسكنون إليها، وهذا قول عطاء بن أبي رباح (26)، والحسن (27).
والسابع: أنها الرحمة، وهو قول الربيع ابن أنس (28)، وابن عباس (29).
والثامن: أنها الوقار، وهو قول قتادة (30).
والتاسع: أنها عصى موسى، قاله عكرمة (31).
والراجح-والله أعلم- هو تفسير (السكينة) بطمأنينة القلب وسكينته؛ إذ أن إتيان التابوت تحمله الملائكة إليهم وفيه بقية مما ترك آل موسى وال هارون فيه طمأنينة لقلوبهم وسكينة لنفوسهم، والله أعلم (32)، وهو ما قاله عطاء بن أبي رباح بأن السكينة: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها، وهو اختيار الطبري، إذ يقول: "وذلك أن (السكينة) في كلام العرب (الفعيلة)، من قول القائل: سكن فلان إلى كذا وكذا،
(1) محاسن التأويل: 2/ 180.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 180.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2471): ص 2/ 468.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 293.
(7)
أخرجه الطبري (5664) "ص 5/ 325.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 666.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 248 - 249.
(11)
تفسير الكشاف: 1/ 293.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 180.
(13)
انظر: النكت والعيون: 1/ 316.
(14)
أخرجه الطبري (5665): ص 5/ 326.
(15)
اخرجه الطبري (5678): ص 5/ 328.
(16)
أخرجه الطبري (5679): ص 5/ 328.
(17)
أي: السكينة.
(18)
هو: أبو مالك غزوان الغفاري الكوفي، تابعي ثقة، مشهور بكنيته، توفي بعد المائة. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 7/ 55، تهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 245، تقريب التهذيب له أيضاً:776.
(19)
الفتح: 8/ 675، يرى الحافظ أن لفظ السكينة مقولة بالاشتراك على المعاني التي ذكرها في الفتح: 8/ 675؛ فيحمل كل موضع وردت فيه على ما يليق به، والذي يليق بهذه الآية يحتمل أن يكون قول السدي وأبي مالك، بأن السكينة: طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء، وقال أبو مالك: هي التي ألقى فيها موسى الألواح والتوارة والعصا، انظر: الفتح: 8/ 675. وقول السدي انظره في: تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 921، جامع البيان للطبري: 5/ 328، سنن سعيد بن منصور-تحقيق: الحميد-: 3/ 942 رقم: 420، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 294 - 295، النكت والعيون للماوردي: 1/ 316. وأما قول أبي مالك فانظره في معاني القرآن للنحاس: 1/ 251، وعمدة القاري للعيني: 20/ 31 إذ قال: (طست من ذهب ألقى فيها موسى-عليه السلام-الألواح والتوراة والعصا). وهو عند ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 2/ 921 رقم: 2719 لكنه اقتصر على ذكر الألواح فقط.
ولا يخفى على أهل العلم بأن ما جعله الحافظ محتملاً في تأويل الآية يحتاج إلى نص نبوي صحيح، ولا يصح الاعتماد فيه على قول السدي وأبي مالك اللذين تلقفاه فيما يبدو عن مسلمي أهل الكتاب ككعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما.
(20)
أخرجه ابن ابي حاتم (2475): ص 2/ 469. وانظر: تفسير مجاهد: 1/ 114.
(21)
وأخرجه الطبري (5672): ص: 5/ 327: .
(22)
قال ابن أبي حاتم (2475): ص 2/ 468.
(23)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 469.
(24)
أخرجه الطبري (5677): ص 5/ 328.
(25)
أخرجه الطبري في تفسيره (5680): 5/ 329.
(26)
أخرج ابن ابي حاتم (2480): ص 2/ 469. وأخرجه الطبري في تفسيره (5682): 5/ 329.
(27)
أخرج ابن أبي حاتم (2480): ص 2/ 469.
(28)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 470. وأخرجه الطبري في تفسيره (5683): ص 5/ 329.
(29)
أخرجه ابن أبي حاتم (2481): ص 2/ 469.
(30)
أخرجه ابن ابي حاتم (2482): ص 2/ 470. وأخرجه الطبري (5684): ص: 5/ 329.
(31)
اخرجه ابن ابي حاتم (2483): ص 2/ 470.
(32)
أنظر معنى السكينة في اللغة في: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 329، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 259، لسان العرب لابن منظور: 3/ 2053، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 88، فتح القدير للشوكاني: 1/ 393 و 397، فتح البيان لصديق خان: 2/ 73، محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 305، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لأبي شهبة: 170 - 171، تعليق محققي معالم التنزيل للبغوي: 1/ 299.
إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه، فهو يسكن سكونا وسكينة، مثل قولك: عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة، وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية، ومنه قول الشاعر (1):
لله قبر غالها! ماذا يجن؟
…
لقد أجن سكينة ووقارا
وإذا كان معنى (السكينة) ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور، وإذا كان معنى (السكينة) ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، لدلالة الكلام عليه" (2)
ومما يعضد بأن السكينة أمر معنوي وتدل على ما تسكن إليها النفوس، ما رواه مسلم عن البراء قال:" كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ"(3).
وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: " تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ"(4).
قال القرطبي: فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم" (5).
وقرأ أبو السمال: سكينة، بفتح السين والتشديد، قال الزمخشري:"وهو غريب"(6).
قوله تعالى: {وَبَقِيِّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة: 248]، يعني:" وفيه أيضاً بقية من آثار آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة"(7).
قال ابن عباس: "فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت"(8).
وقال السدي: "فأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا الملك لطالوت"(9).
وقال الربيع: "وكان موسى فيما ذكر لنا، ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون، وهو في البرية، فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره"(10).
وتعددت أقوال أهل التفسير في معنى (البقية)، وذكروا فيها أوجها (11):
(1) البيت من شواهد الطبري: 5/ 330، وأنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 330.
(3)
صحيح مسلم (795): ص 1/ 548.
(4)
صحيح مسلم (796): ص 1/ 549.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 294.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 293.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(8)
أخرجه الطبري (5660): ص 5/ 321 - 322.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2469): ص 2/ 467.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2470): ص 2/ 467.
(11)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 470 - 471، والنكت والعيون: 1/ 316.
أحدها: أن البقية: رضاض (1) الألواح. قاله ابن عباس (2)(3)(4) وروي عن عكرمة (5) والسدي (6) وقتادة (7) نحو ذلك.
والثاني: أنها: العلم والتوراة، وهو قول عطاء (8).
والثالث: أنها: الجهاد في سبيل الله، وهو قول الضحاك (9)(10).
والرابع: أنها: التوراة وشيء من ثياب موسى، وهو قول الحسن.
والخامس: أنها: ثياب موسى وثياب هارون ولوحان من التوراة، والمن. قاله أبو صالح (11)(12)، والثوري (13)، وعطية بن سعد (14).
السادس: أنها: العصا والنعلان. قاله الثوري (15)(16).
السابع: أنها: العصا وحدها. قاله وهب بن منبه (17).
قال ابن عطية: " والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة"(18).
وقال الطبري: "وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول"(19).
واختلف في تفسير قوله تعالى: {آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ} [البقرة: 248] على قولين (20):
أحدهما: قالوا: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما، لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما.
والثاني: وقيل: مما تركه موسى وهرون. والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
(1) رضاض الشيء: فتاته تاج العروس 5/ 32.
(2)
أخرجه الطبري (5685): ص 5/ 331.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2484): ص 2/ 470.
(4)
وفي رواية اخرى اخرج الطبري (5698): ص/5/ 333.
(5)
أخرجه الطبري (5692): ص 5/ 331.
(6)
أخرجه الطبري (5690): ص 5/ 331.
(7)
أخرجه الطبري (5688)، و (5689): 5/ 331.
(8)
أخرجه الطبري (5699): ص: 5/ 334.
(9)
اخرجه ابن ابي حاتم (2487): ص 2/ 471.
(10)
واخرجه الطبري (5700): ص 5/ 334.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2485)، و (2486): : ص 2/ 470.
(12)
واخرجه الطبري (5694): ص 5/ 332.
(13)
اخرجه ابن ابي حاتم (2488): ص 2/ 471.
(14)
أخرجه الطبري (5695): ص 5/ 332.
(15)
أخرجه الطبري (5696): ص 5/ 333.
(16)
اخرجه ابن ابي حاتم (2488): ص 2/ 471.
(17)
أخرجه الطبري (5697): ص 5/ 333.
(18)
المحرر الوجيز: 1/ 334.
(19)
تفسير الطبري: 5/ 334.
(20)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 293 - 294.
وقوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الْمْلائِكَةُ} [البقرة: 248]، اختلف أهل التفسير في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت، على قولين (1):
الأول: قيل: تحمله الملائكة بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم. قاله ابن عباس (2)، وابن زيد (3)، والسدي (4)، وقتادة (5).
الثاني: وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله. قاله الثوري (6)، وقتادة (7)، ووهب بن منبه (8).
والراجح هو القول الأول، لأن ظاهر اللفظ يدل عليه، إذ قال تعالى:{تَحْمِلُهُ الْمْلائِكَةُ} ، ولو قال تأتي به الملائكة، لجاز القول الثاني، قال الطبري:"لأن " الحمل " المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال " حمله " بمعنى معونته الحامل، وبأن حمله كان عن سببه فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، ما وُجد إلى ذلك سبيل"(9).
واختلفوا أين كان قبل أن يرد إليهم على قولين (10):
الأول: قال ابن عباس (11)، ووهب بن منبه (12)، كان في أيدي العمالقة، غلبوا عليه بني إسرائيل.
الثاني: وقال قتادة (13)، والربيع (14): كان في بريّة التيه، خَلَّفَه هناك يوشع بن نون.
والراجح هو القول الاول، " وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:" إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت "، و " الألف واللام " لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم" (15).
قال الزمخشري: "وقرئ: {يحمله}، بالياء"(16).
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} [البقرة: 248]، " أي إِن في نزول التابوت لعلامة واضحة أنّ الله اختاره ليكون ملكاً عليكم"(17).
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 334 وما بعدها.
(2)
اخرجه الطبري (5701): ص 5/ 335.
(3)
أخرجه الطبري (5702): ص: 5/ 335.
(4)
أخرجه الطبري (5703): ص 5/ 335.
(5)
أخرجه الطبري (5704): ص 5/ 335 - 336.
(6)
أخرجه الطبري (5705): 5/ 336.
(7)
أخرجه في تفسيره (2490): ص 2/ 472.
(8)
أخرجه الطبري (5706): ص 5/ 336.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 336 - 337.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 316 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 316.
(11)
أخرجه الطبري (5660): ص: 5/ 321 - 322.
(12)
اخرجه الطبري (5658): ص 5/ 317 - 319.
(13)
أخرجه الطبري (5662): ص 5/ 324.
(14)
أخرجه الطبري (5663): ص 5/ 324.
(15)
تفسير الطبري: 5/ 324 - 325.
(16)
تفسير الكشاف: 1/ 293.
(17)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
عن سعيد بن جبير، "في قول الله:{ذلك} يعني: هذا" (1).
عن ابن عباس: " {إن في ذلك لآية} قال: علامة"(2).
وقال محمد بن إسحاق: " {إن في ذلك لآية لكم}، أي: رسول الله إليكم إن كنتم مؤمنين"(3).
قال ابن كثير: " أي: على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت"(4).
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248]، أي:"إِن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر"(5).
وروي عن سعيد في قول الله {مؤمنين} قال: "مصدقين"(6).
قال الطبري: " أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة " لآية لكم "، يعني: لعلامة لكم ودلالة، أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك " إن كنتم مؤمنين "، يعني بذلك: إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه"(7).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث يؤيد الأمور بالآيات لتقوم الحجة؛ لقوله تعالى:{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه} ؛ ولو شاء الله عز وجل لفعل ما يفعل بدون آية، وانتقم من المكذبين، والمستكبرين؛ ولكن من رحمته عز وجل أنه يبعث بالآيات حتى تطمئن القلوب، وحتى تقوم الحجة؛ ولهذا ما من رسول أرسل إلا أوتي ما على مثله يؤمن البشر؛ وحصول الآيات حكمة ظاهرة؛ لأنه لو خرج رجل من بيننا، وقال: أنا رسول الله إليكم: «افعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه؛ وإلا فإن دماءكم وأموالكم حلال لي» ؛ فإنه لا يطاع؛ ولكن من رحمة الله عز وجل، وحكمته أن جعل للرسل آيات حتى تقوم الحجة، ويستجيب الناس.
2 -
ومن فوائد الآية: ما في التابوت من الآيات العظيمة، حيث كان هذا التابوت مشتملاً على ما تركه آل موسى، وآل هارون من العلم، والحكمة من وجه؛ وكان أيضاً سكينة للقوم تسكن إليه نفوسهم، وقلوبهم، ويزدادون قوة في مطالبهم.
3 -
ومنها: أن للسكينة تأثيراً على القلوب؛ لقوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} ؛ وتأمل كيف أضافه إلى ربوبيته إشارة إلى أن في ذلك عناية خاصة لهؤلاء القوم؛ والسكينة إذا نزلت في القلب اطمأن الإنسان، وارتاح، وانشرح صدره لأوامر الشريعة، وقَبِلها قبولاً تاماً.
4 -
ومنها: إثبات الملائكة؛ لقوله تعالى: {تحمله الملائكة} ؛ وفي قوله تعالى: {الملائكة} دليل على أن التابوت كبير.
5 -
ومنها: أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمن؛ لقوله تعالى: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} .
6 -
ومنها: تأكيد الشيء بأدوات التأكيد، والتكرار؛ وهنا في هذه الآية اجتمع التكرار، والأدوات؛ فقوله تعالى:{إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} ، ثم قوله تعالى:{إن في ذلك لآية لكم} : فهذا أكد بالتكرار؛ وأكد أيضاً بـ {إن} ، واللام:{إن في ذلك لآية لكم} : فهذا أكد بالأدوات.
(1) أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2491): ص 2/ 472.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2492): ص 2/ 472.
(3)
اخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2493): ص: 2/ 472.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 667 - 668.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 142، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 668.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2494): ص: 2/ 472.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 337.
7 -
ومنها: فضيلة الإيمان، وأن الإيمان أكبر ما يكون تأثيراً في الانتفاع بآيات الله عز وجل؛ لقوله تعالى:{إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} .
8 -
ومنها: أن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم.
9 -
ومنها: أن الملائكة أجسام؛ لقوله تعالى: {تحمله الملائكة} ؛ وأما قول من يقول: إنهم عقول فقط؛ أو أنهم أرواح، وليس لهم أجسام فقول ضعيف؛ بل باطل؛ لأن الله تعالى يقول:{جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1]؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته - أو على صورته - التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق (1).
القرآن
التفسير:
فلما خرج طالوت بجنوده لقتال العمالقة قال لهم: إن الله ممتحنكم على الصبر بنهر أمامكم تعبرونه؛ ليتميَّز المؤمن من المنافق، فمن شرب منكم من ماء النهر فليس مني، ولا يصلح للجهاد معي، ومن لم يذق الماء فإنه مني؛ لأنه مطيع لأمري وصالح للجهاد، إلا مَن ترخَّص واغترف غُرْفة واحدة بيده فلا لوم عليه. فلما وصلوا إلى النهر انكبوا على الماء، وأفرطوا في الشرب منه، إلا عددًا قليلا منهم صبروا على العطش والحر، واكتفوا بغُرْفة اليد، وحينئذ تخلف العصاة. ولما عبر طالوت النهر هو والقلة المؤمنة معه -وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لملاقاة العدو، ورأوا كثرة عدوهم وعدَّتهم، قالوا: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده الأشداء، فأجاب الذين يوقنون بلقاء الله، يُذَكِّرون إخوانهم بالله وقدرته قائلين: كم من جماعة قليلة مؤمنة صابرة، غلبت بإذن الله وأمره جماعة كثيرة كافرة باغية. والله مع الصابرين بتوفيقه ونصره، وحسن مثوبته.
قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249]، أي:" أي فلما خرج طالوت من البلد يصحبه هؤلاء الجند"(2).
قال الزمخشري: فلما " انفصل عن بلده بالجنود"(3).
قال البغوي: "أي خرج بهم"(4).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده " عن محمد بن كعب القرظي، قال: فسار طالوت بالجنود إلى جالوت، يعني قوله: {فلما فصل طالوت بالجنود} "(5).
(1) راجع البخاري ص 415، كتاب التفسير، 53 سورة النجم، باب (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، حديث رقم 4858، وصحيح مسلم ص 708، كتاب الإيمان، باب 77: معنى قول الله عز وجل: (ولقد رءاه نزلة أخرى
…
)، حديث رقم 432 [280]174.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 469.
(3)
تفسير الكشاف: 1/ 294.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 301.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (2496): ص 2/ 472.
وقال السدي: " يعني قوله: {فلما فصل طالوت بالجنود} قال: فخرجوا معه، وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند فلا يجتمع إليه أصحابه، حتى يهزم هو، من لقي"(1).
وقوله {فَصَلَ} ، يعني:" شخص بالجند ورحل بهم"(2). قال القرطبي: " فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع"(3).
قال الراغب: " الجند: يقال للعسكر اعتباراً بالغلظة من الجند، أي الأرض الغليظة ثم يقال: لكل مجتمع جند، نحو: "الأرواح جنود مجندة .. " (4) "(5).
روي "عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها"(6).
وعن السدي قال: "لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا"(7).
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249]، أي:" أي مختبركم به"(8).
قال النسفي: أي: مختبركم ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر" (9).
قال البغوي: قال: إن الله "مختبركم ليرى طاعتكم - وهو أعلم -"(10).
عن قتادة في قول الله تعالى: " {إن الله مبتليكم بنهر}، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه"(11).
وعن ابن عباس: {إن الله مبتليكم بنهر} يقول: بالعطش" (12).
وقيل: إن طالوت قال ذلك، "لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله: {إن الله مبتليكم بنهر} "(13).
روي عن وهب بن منبه قال: "لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت: {إن الله مبتليكم بنهر} الآية"(14).
قال القرطبي: " استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله: {إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم. ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب"(15).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2495): ص 2/ 472.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 338.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 250.
(4)
صحيح مسلم (2638): ص 4/ 2031. من حديث أبي هريرة.
(5)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 511.
(6)
اخرجه الطبري (5707): ص 5/ 339.
(7)
أخرجه الطبري (5708): ص 5/ 339.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 221.
(9)
تفسير النسفي: 1/ 131.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 301.
(11)
أخرجه الطبري (5709): ص 5/ 339، واخرجه ابن ابي حاتم (2498): ص 2/ 473.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2497): ص 2/ 473.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 340.
(14)
أخرجه الطبري (5710): ص 5/ 340.
(15)
تفسير القرطبي: 3/ 251.
وقد اختلفوا في (النهر) على ثلاثة أقوال (1):
الأول: حُكِيَ عن ابن عباس (2) والربيع (3) وقتادة (4) وعكرمة (5): أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
قال ابن كثير: " وهو نهر الشريعة المشهور"(6)(7).
والثاني: وقيل إنه نهر فلسطين. وهو قول السدي (8) وأحد قولي ابن عباس (9).
والثالث: وقيل هو نهر الأردن. قاله ابن شوذب وهو أحد روايات ابن عباس (10).
وفي سبب ابتلاءهم بالنهر قيل: أنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، روي عن " وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت:{إن الله مبتليكم بنهر} الآية" (11).
قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي} [البقرة: 249]، "أي من شرب منه فلا يصحبني"(12).
قال القرطبي: " أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان"(13).
قال الماوردي: " أي: ليس من أهل ولايتي"(14).
قال البغوي: " أي ليس من أهل ديني وطاعتي"(15).
قال القرطبي: " {شرب}، قيل: معناه كرع"(16).
وقد ورد في الحديث "من غشنا فليس منا"(17) أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا، قال نابغة الذبياني (18):
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 339 وما بعدها.
(2)
أخرجه الطبري (5714): ص 5/ 340.
(3)
أخرجه الطبري (5712): ص 5/ 340.
(4)
أخرجه الطبري (5712): ص 5/ 340.
(5)
قال ابن ابي حاتم (2501): ص 2/ 473.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 668.
(7)
نهر يمر في بلاد الشام، يبلغ طوله حوالي 251 كم وطول سهله حوالي 360 كم ويتكون عند التقاء ثلاثة روافد هي بانياس القادم من سورياواللدان القادم من شمالي فلسطين والحاصباني القادم من لبنان مشكلا نهر الأردن العلوي، الذي يصب في بحيرة طبرية التي تكونت جراء حدوث الوادي المتصدع الكبير. وقد كون هذا الشق عدة بحار وبحيرات أخرى مهمة، وعند خروجه من بحرية طبرية يكون نهر الأردن السفلي ويصب فيه أيضا روافدنهر اليرموك ونهر الزرقاء ووادي كفرنجة وجالوت، ويفصل النهر بين فلسطين التاريخية والأردن إلى ان يصب في مياه البحر الميت المعروفة بملوحتها العالية.
وقد دارت في تلك المنطقة معارك كثيرة على ضفاف نهر الأردن مثل معركة اليرموك بين الروم والمسلمين في منطقة اليرموك شمال الأردن والتي أنتصر فيها المسلمين. وحديثا في الثلث الأخير من القرن العشرين أحداث كمعركة الكرامةبين الجيش الأردني والجيش الإسرائيلي وانتصر فيها الأردنيون.
وقد روى البزار بسند حسن والطبراني وابن مندة في كتاب معرفة الصحابة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 349) وقال: رجال البزار ثقات، عن نُهَيْك بن صريم السكوني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال، على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه» .
(8)
أخرجه الطبري (5716): ص: 5/ 341.
(9)
أخرجه الطبري (5715): ص 5/ 341.
وأخرجه ابن أبي حاتم (2499): ص 2/ 473.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2500): ص 2/ 473.
(11)
أخرجه الطبري (5710): ص 5/ 340.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 252.
(14)
النكت والعيون: 1/ 317.
(15)
تفسير البغوي: 1/ 301.
(16)
تفسير القرطبي: 3/ 252.
(17)
صحيح مسلم (101): ص: 1/ 99، من حديث أبي هريرة.
(18)
ديوانه: 199. والكتاب: 2/ 290، وتفسير القرطبي: 3/ 252.
إذا حاولت في أسد فجورا
…
فإني لست منك ولست مني
وقول الشاعر (1):
فإن شئت حرمت النساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
وهذا كثير في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست مني (2).
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، " أي: من لم يشرب منه ولم يذقه فإِنه من جندي الذين يقاتلون معي" (3).
قال الطبري: " ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني، يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه"(4).
قال القاسمي: " أي لم يذقه. من: طعم كعلم الشيء، إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا، وفي إيثاره على (لم يشربه) إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام"(5)(6).
قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه} [البقرة: 249]، " أي لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبلَّ عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك"(7).
قال الطبري: "ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني"(8).
عن ابن عباس: " {إلا من اغترف غرفة بيده} وأجزأ من اغترف غرفة بيده، وانقطع عنه العطش"(9). وروي عن السدي، نحو ذلك" (10).
وأخرج ابن ابي حاتم بسنده "عن الحسن، قوله: {إلا من اغترف غرفة بيده}، قال: في تلك الغرفة، ما شربوا وسقوا دوابهم"(11).
وقال أبو عمرو: (الغرفة): تكون من المرقة والغرفة باليد" (12).
وقد اختلفت القراءة في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه} [البقرة: 249](13):
الأولى: قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح {غَرْفَةً} .
الثانية: وقرأ الباقون {غُرْفَةً} بالضم.
(1) البيت للعرجي، وهو في ديوانه: 109، والأضداد: 64، وشواهد الكشاف: 4/ 369. والنقاخ: الماء العذب، والبرد: النوم.
(2)
انظر: تفسير القطربي: 3/ 252.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 342.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 182.
(6)
قال القرطبي: " دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب. قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا". [تفسير القرطبي: 3/ 252].
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 342.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2504): ص 2/ 474.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 474.
(11)
تفسير ابن ابي حاتم (2505): ص 2/ 474.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2507): ص 2/ 474.
(13)
انظر: النكت والعيون: 1/ 317.
والفرق بينهما أن (الغُرفة) بالضم اسم للماء المشروب، و (الغَرفة) بالفتح اسم للفعل، قال الكسائي:"الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف، والغرفة: بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر"(1).
قال الراغب: " والغرف تناول الماء، ويقال للمعترف غرفة، وللمرة غرفة، والغريف الماء المعرض للاغتراف، وتصور منه الرفع، فسمي العلية غرفة تشبيهاً بالمغترف، وبهذا النظر سمي مشربة، وسمي الغمام مادام عرفه كأنه لرطوبته معترف"(2).
قال القرطبي: " الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغَرف مثل الاغتراف .. وقال بعض المفسرين: الغَرفة بالكف الواحد والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد. وقال علي رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن (3):
لا يدلفون إلى ماء بآنية
…
إلا اغترافا من الغدران بالراح
الدليف: المشي الرويد" (4).
قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249]، " أي شرب الجيش منه إِلا فئة قليلة صبرت على العطش"(5).
قال القاسمي: أي: شربوا "إلى حد الارتواء"(6).
روي عن قتادة: " {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم}، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه"(7).
وعن الربيع: " {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم}، يعني المؤمنين منهم، وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه"(8).
واختلفوا في (القليل) الذين لم يشربوا على قولين:
الأول: فقال السدي: "كانوا أربعة آلاف"(9).
الثاني: وقال سعيد بن جبير: "ثلاثمائة وبضعة عشر"(10).
والقول الثاني هو الصحيح، يدل عليه ما روي "عن البراء قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة" (11).
(1) تفسير البغوي: 1/ 301.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 511.
(3)
هو أبو نواس، والبيت في ديوانه: 164، والبيت من شواهد المحرر الوجيز: 1/ 335.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 253.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 142.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 182.
(7)
أخرجه الطبري (5717): ص 5/ 343.
(8)
أخرجه الطبري (5719): ص 5/ 34.
وفي رواية ابن ابي حاتم (2509): ص 2/ 474.
(9)
أخرجه الطبري (5720): ص 5/ 344. وابن ابي حاتم (2502): ص 2/ 473.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2510): ص 2/ 475.
(11)
رواه البخاري في المغازي: باب: عدة أصحاب بدر: 7/ 290. وذكر ابن أبي حاتم وجهين آخرين: (2514): عن غنيم بن قيس، قال لنا الأشعري: أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت، يوم جالوت. قال: كم كنتم؟ قال: خمسين ومائتين، أو خمسين وثلاثمائة.
والوجه الثاني: (2515): "عن سعيد بن جبير، قال عدة أصحاب طالوت، عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
…
ثلاثمائة وستون". [انظر: تفسيره: 2/ 475].
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 249]، " أي: لما اجتاز النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب" (1).
روي عن ابن عباس: " {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه}، قال: فبرأ الذين شربوا من الإيمان، وأثبت الذين اغترفوا بأيديهم، فأثبت لهم الإيمان"(2).
قال القرطبي: " وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة"(3).
قال الراغب: " وجوز الطريق وسطه، و (جاز منه) كأنه عبر الجوز، فكثر حتى صار الجايز لما لا يكره، وعلى نحوه قيل سائغ، وهو من ساغ الطعام في الحلق، وجاوز، وتجاوز استعير له هذا البناء"(4).
قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249]، يعني: قال فريق منهم: "لا قدرة لنا على قتال الأعداء مع قائد جيشهم جالوت فنحن قلة وهم كثرة كاثرة"(5).
قال القاسمي: " لأنه سلبت شجاعتهم"(6).
روي " عن السدي قال: فنظروا إلى جالوت، رجعوا وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، فلا يجتمع إليه أصحابه، حتى يهزم هو من لقي"(7).
وعن الربيع، قال:"فجاء جالوت في عدد كثير وعدة"(8).
وقد اختلف أهل التفسير في الذين قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249](9):
أحدهما: أنه قال ذلك مَنْ قلّت بصيرته من المؤمنين، وهو قول الحسن (10)، وقتادة (11)، وابن زيد (12).
والثاني: وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر، وهو قول ابن عباس (13)، والسدي (14).
والراجح هو القول الثاني، وهو اختيار جمهور المفسرين (15). والله أعلم.
(1) صفوة التفاسير: 1/ 142 - 143.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2512): ص 2/ 475.
(3)
تفسير القطرطبي: 3/ 255.
(4)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 511.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 182.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2516): ص 2/ 476.
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2517): ص 2/ 476.
(9)
انظر: النكت والعيون: 1/ 318.
(10)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 318. ولم اجد الرواية عند الطبري وابن ابي حاتم.
(11)
أخرجه الطبري (5736): ص 5/ 351 ..
(12)
أخرجه الطبري (5438): ص: 5/ 351.
(13)
أخرجه الطبري (5722): ص: 5/ 345.
(14)
أخرجه الطبري (5734): ص 5/ 350.
(15)
قال الرازي: " لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، وفيه قولان:
الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، واحتج هذا القائل بأمور:
الأول: أن الله تعالى قال: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فالمراد بقوله: الذين آمنوا معه الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية: الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت فمن شرب منه فليس مني أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: ومعنى فشربوا منه أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.
الحجة الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني: أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق، وهذه الحجة ضعيفة، وبيان ضعفها من وجوه:
أحدها: يحتمل أن يقال: إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف، أقصى ما في الباب أن يقال: إن الفاء في قوله: فلما جاوزه تقتضي أن يكون قولهم: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت} إنما وقع بعد المجاوزة، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال: إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضا زائل.
والجواب الثاني: أنه يحتمل أن يقال: المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
فالقسم الأول: هم الذين قالوا: لا طاقة لنا اليوم.
والقسم الثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة.
والجواب الثالث: يحتمل أن يقال: القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا: / لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله، والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز الجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر". [مفاتيح الغيب: 6/ 512 - 513].
قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللهِ} [البقرة: 249]، " أي: قال الذين يعتقدون بلقاء الله وهم الصفوة الأخيار والعلماء الأبرار من أتباع طالوت" (1).
روي عن السدي: {الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} : الذين يستيقنون" (2).
قال البغوي: "" يستيقنون" (3).
وقد ذكر العلماء في (الظن) ها هنا وجوها (4):
أحدها: أنه بمعنى اليقين، ومعناه: الذين يستيقنون أنهم ملاقوا الله، " أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد"(5).
روي "عن سعيد: في قوله: الذين يظنون أنهم ملاقوا الله قال: الذين شروا أنفسهم لله، ووطنوها على الموت"(6).
ومن ذلك قول دريد بن الصُّمّة (7):
فقلت لهم ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجج
…
سَراتُهُمُ في الفارسيّ المسَرّدِ
أي تيقنوا.
والثاني: بمعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في الوقعة.
(1) صفوة التفاسير: 1/ 143.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2518): ص 2/ 476.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 302.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 318، ومفاتيح الغيب: 6/ 513.
(5)
مفاتيح الغيب: 6/ 513.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2519): ص 2/ 476.
(7)
ديوان دريد بن الصمة الجشمي: جمعه وحققه وشرحه محمد خير البقاعي، تقديم الدكتور شاكر الفخام منشورات دار قتيبة 1401 هـ: ص 47، وقد ورد البيت في: اللسان: 17/ 143، وتأويل مشكل القرآن:144.
قال القرطبي: " و (الظن) هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل"(1). وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"(2).
والثالث: قيل: معنى {الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} ، أي: ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأن أحدا لا يعلم عاقبة أمره، فلا بد أن يكون ظانا راجيا وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره.
قال الرازي: " وهذا قول أبي مسلم وهو حسن"(3).
والرابع: أن يكون المعنى: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعا بأن هذا العمل الذي عمله طاعة، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة، ولا يكون بنية خالصة فحينئذ لا يكون الفعل طاعة، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.
الخامس: وقيل: يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر (4)، وإنما جعله ظنا لا يقينا لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعا إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، أي كثيراً ما غلبت الجماعة القليلة الجماعة الكثيرة بإِرادة الله ومشيئته" (5).
قال الرازي: " وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت، لا جرم قيل في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله"(6).
عن ابن عباس" {بإذن الله}، يقول: بأمر الله"(7).
قال ابن كثير: " فشجعهم علماؤهم [وهم] العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد"(8).
قال الصابوني: " فليس النصر عن كثرة العدد وإِنما النصر من عند الله"(9).
قال البغوي: " بقضائه وإرادته"(10).
قال ابن حجر: " قوله: {فِئَةً} أي: جماعة"(11). من "فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته"(12).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 255.
(2)
صحيح البخاري (6142): ص 5/ 2386. من حديث عبادة بن الصامت.
(3)
مفاتيح الغيب: 6/ 513.
(4)
قال الرازي: فالمراد بالـ {سكينة} على قول بعض المفسرين "أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين، دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها، فقوله: الذين يظنون أنهم ملاقوا الله يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر". [مفاتيح الغيب: 6/ 513].
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(6)
مفاتيح الغيب: 6/ 513.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2523): ص 2/ 477.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 668.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 302.
(11)
الهدي: 178، وهذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 1/ 77، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 93، والثعلبي في الكشف والبيان: 1/ 147 أ، والواحدي في البسيط: 1/ 151 ب، وابن جرير في جامع البيان: 5/ 352، وابن عطية في المحرر الوجيز: 2/ 265، وابن منظور في لسان العرب: 5/ 3336، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 394، وغيرهم. والمراد بالجماعة: الجماعة المتظاهرة الذين يرجع بعضهم إلى بعض في التعاون والتعاضد. انظر: المفردات للراغب: 389. وفسر قوم الفئة: بالفرقة، انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 232، ومعاني القرآن للنحاس: 1/ 254، وتهذيب اللغة للأزهري: 15/ 580، والصحاح للجوهري: 6/ 3451، وزاد المسير لابن الجوزي: 1/ 299، والنكت والعيون للماوردي: 1/ 318، ولا فرق في المعنى إذ المراد واحد، والله أعلم.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 255.
وروي "عن قتادة: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، قال: تلقى المؤمنين، بعضهم أفضل من بعض جدا وعزما، وهم كلهم مؤمنون"(1).
وعن ابن عباس: " {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}: فأثبت الله الإيمان لهؤلاء الذين قالوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"(2). قال القرطبي: " وفي قولهم رضي الله عنهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.
قلت-أي القرطبي-: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم". فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم" (3).
قلت: إذا كان الإمام القرطبي يقول عن زمانه هذا الوصف، وهو قريب من الصدر الأول، فماذا نقول نحن عن زماننا! ! إنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، " أي معهم بالحفظ والرعاية والتأييد ومن كان الله معه فهو منصور بحول الله"(4).
قال الرازي: " يحتمل أن يكون هذا قولا للذين قالوا: {كم من فئة قليلة}، ويحتمل أن يكون قولا من الله تعالى، وإن كان الأول أظهر"(5).
وعن عطاء بن دينار، "أن سعيد بن جبير، قال: الصبر اعتراف العبد لله، بما أصاب منه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد، لا يرى منه إلا الصبر"(6).
وقال ابن زيد: "الصبر في بابين: فصبر على ما أحب الله وإن ثقل، وصبر على ما يكره وإن نازعت إليه الهوى. فمن كان هكذا فهو من الصابرين"(7).
وقد ذكر بعض من يتعاطى غوامض المعاني: أن "هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة"(8).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2520): ص 2/ 476.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2521): ص 2/ 476.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 255.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(5)
مفاتيح الغيب: 6/ 514.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2524): ص 2/ 477.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2525): ص 2/ 477.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 251.
قال القرطبي: "ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا"(1).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده؛ لقوله تعالى: {فصل طالوت بالجنود} أي مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم.
2 -
ومنها: أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً، أو مرجفاً، أو ملحداً؛ لقوله تعالى:{فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} ؛ والفرق بين المخذل، والمرجف، أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً
…
وما أشبه ذلك.
3 -
ومنها: أن من الحكمة اختيار الجند؛ ليظهر من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل؛ ويشبه هذا ما يصنع اليوم، ويسمى بالمناورات الحربية؛ فإنها عبارة عن تدريب، واختيار للجند، والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها؛ فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل، والثبات، والطاعة؛ والأساليب الحربية مأخوذة من هذا؛ ولكنها متطورة حسب الزمان.
4 -
ومنها: أن طالوت امتحنهم على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من شرب من النهر كثيراً؛ فهذا قد تبرأ منه.
الوجه الثاني: من لم يشرب شيئاً؛ فهذا من طالوت - أي من جنوده المقربين -.
الوجه الثالث: من شرب منه غرفة بيده؛ فهذا لم يتبرأ منه؛ وظاهر الآية أنه مثل الوجه الثاني.
وهذا الابتلاء: أولاً ليعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر؛ فهو كالترويض والتمرين على الصبر؛ ثانياً: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد، ومن لا يمتثل.
5 -
ومن فوائد الآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله؛ لقوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} ؛ وهذا أمر يشهد به الحال. قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]؛ وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف (2)؛ فالطائع قليل، والمعاند كثير.
6 -
ومنها: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يترتب عليه مفسدة؛ لأنهم قالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} ؛ وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية؛ وأن فيها دليلاً على أن الجبان في ذُعر دائم، ورعب؛ لقولهم:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} .
7 -
ومنها: أن الإيمان موجب للصبر، والتحمل؛ لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} .
8 -
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده إما بفوات محبوب؛ أو حصول مكروه؛ ليعلم سبحانه وتعالى صبرهم؛ ولهذا نظائر؛ منها ما قصه سبحانه عن بني إسرائيل حين حرم عليهم صيد الحوت في يوم السبت؛ فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً؛ وفي غير يوم السبت لا يرون شيئاً؛ فصنعوا حيلة؛ وهي أنهم وضعوا شباكاً في يوم الجمعة؛ فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك، ثم نشبت فيه؛ فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه؛ فكان في ذلك حيلة على محارم الله؛ ولهذا انتقم الله منهم؛ ووقع ذلك أيضاً للصحابة - رضوان الله عليهم - وهم في حال الإحرام: فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ ولكنهم
(1) تفسير القرطبي: 3/ 251.
(2)
أخرجه البخاري ص 271، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: 7، قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم 3348، وأخرجه مسلم ص 718، كتاب الإيمان، باب 96، قوله:"يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"، حديث رقم 532 [379]222.
رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك؛ وهؤلاء - أعني أصحاب طالوت - ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بهذا النهر، وكانوا عطاشاً، فقال لهم نبيهم:{فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} .
9 -
ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: {إلا من اغترف غرفة بيده} ؛ لأنهم لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت.
10 -
ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {فمن شرب} ، وقوله تعالى:{إلا من اغترف} ، حيث أضاف الفعل إليهم.
11 -
ومنها: أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} .
12 -
ومنها: أن من الناس من يكون مرجفاً، أو مخذِّلاً؛ لقوله تعالى:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} ؛ هؤلاء مخذِّلون؛ وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون.
13 -
ومنها: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر، والتحمل، والأمل، والرجاء؛ لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} ؛ مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} ؛ فردوا عليهم.
14 -
ومنها: إثبات ملاقاة الله؛ لقوله تعالى: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} ، كما قال تعالى:{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6].
15 -
ومنها: أن الظن يأتي في محل اليقين؛ بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين؛ لقوله تعالى: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} .
16 -
ومنها: أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله؛ وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم، ووقع في هذه الأمة مثل غزوة «بدر» ؛ وقد تُغلَب الفئة الكثيرة، وإن كان الحق معها، كما في غزوة «حنين» ؛ لكن لسبب.
17 -
ومنها: أن الوقائع، والحوادث لا تكون إلا بإذن الله؛ وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى؛ وفعل مخلوقاته؛ لقوله تعالى:{بإذن الله} .
18 -
ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى؛ وهو ينقسم إلى قسمين: إذن كوني؛ وإذن شرعي؛ ففي هذه الآية: إذن كوني؛ وفي قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59]: هذا شرعي؛ وفي قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] هذا شرعي أيضاً.
19 -
ومنها: فضيلة الصبر؛ لقوله تعالى: {والله مع الصابرين} .
20 -
ومنها: إثبات المعية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {والله مع الصابرين} ؛ فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس؛ فقال تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4]؛ هذا عام، وقال تعالى:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7]؛ فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة، والنصر، والتأييد؛ وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد؛ ومنها ما يقتضي التأييد؛ ومنها ما هو لبيان الإحاطة، والشمول؛ فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128]، وقوله تعالى لموسى، وهارون:{إني معكما أسمع وأرى} [طه: 46]، وقوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]؛ ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم
إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108]؛ ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4].
فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عز وجل، وإثبات العلوّ له؟ .
فالجواب: أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالًّا في الأمكنة التي نحن فيها؛ بل هو معنا وهو في السماء، كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك مع أنها في السماء.
21 -
ومن فوائد الآية: الترغيب في الصبر؛ لقوله تعالى: {والله مع الصابرين} ؛ والصبر ثلاثة أنواع:
الأول: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة، فيقوم بها من غير ملل، ولا ضجر.
الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول، أو عمل.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة، والخاصة.
وأعلاها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.
القرآن
التفسير:
ولما ظهروا لجالوت وجنوده، ورأوا الخطر رأي العين، فزعوا إلى الله بالدعاء والضراعة قائلين: ربنا أنزل على قلوبنا صبرًا عظيمًا، وثبت أقدامنا، واجعلها راسخة في قتال العدو، لا تفر مِن هول الحرب، وانصرنا بعونك وتأييدك على القوم الكافرين.
قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا ظهروا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 250]، أي:" ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد"(1).
قال القاسمي: " إذ دنوا منه"(2).
قال النسفي: " خرجوا لقتالهم"(3).
قال الصابوني: " أي ظهروا في الفضاء المتسع وجهاً لوجه أمام ذلك الجيش الجرار جيش جالوت المدرّب على الحروب"(4).
قال ابن عثيمين: " أي ظهر طالوت، وجنوده؛ مأخوذ من (البراز)، وهي الأرض الواسعة البارزة الظاهرة"(5)(6).
قال ابن كثير: " أي: لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل - من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت - وهم عدد كثير"(7).
(1) التفسير الواضح: 1/ 162.
(2)
محاسن التأويل/ 2/ 183.
(3)
تفسير النسفي: 1/ 132.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 228.
(6)
قال الطبري: " ومعنى قوله: {برزوا} صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته: " تبرز "، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: " تغوط "، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في " الغائط " من الأرض، وهو المطمئن منها، فقيل للرجال: " تغوط " أي صار إلى الغائط من الأرض". [تفسير الطبري: 5/ 354].
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
قال المراغي: " ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد والعدد"(1).
قال أبو حيان: " والمبارزة في الحرب، أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه"(2).
قال الراغب: " البرز: المكان المرتفع، وبرز " حصل فيه "، وصار عبارة عن الظهور، وقيل للمشهور بالفضل: برز، و " امرأة برزة " قيل عفيفة، لأن رفعة المرأة بالعفة، لأن لفظ البرزة اقتضى ذلك، والأكثر أن البرزة هي التي لا تستقر"(3).
قال القرطبي: " {بَرَزُوا} صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع. وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل. ويقال: إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس. وقال عكرمة: في تسعين ألفا "(4).
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن " وهب بن منبه يحدث، قال: لما برز طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله، أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله. قال: فألبسه طالوت سلاحه، فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغنني السلاح شيئا، فخرج إليه بالمقلاع وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ قال داود: نعم. قال: ويلك، ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة .. لأبددن لحمك ولأطعمنك اليوم الطير والسباع، فقال له داود: بل أنت عدو الله، شر من الكلب. فأخذ داود حجرا، فرماه بالمقلاع، فأصاب بين عينيه، حتى نفذت في دماغه، فصرخ جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه"(5).
قوله تعالى: {قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً} [البقرة: 250]، " أي: أنزل علينا صبرًا من عندك" (6).
قال القاسمي: "أي: أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولا لأنه ملاك الأمر"(7).
قال السعدي: " أي: قو قلوبنا، وأوزعنا الصبر"(8).
قال ابن عثيمين: " إفراغ الشيء على الشيء يدل على عمومه له؛ والمعنى املأ قلوبنا، وأجسادنا صبراً حتى نثبت"(9).
قال الصابوني: " ربنا أفضْ علينا صبراً يعمنا في جمعنا وفي خاصة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك"(10).
(1) تفسير المراغي: 1/ 471.
(2)
البحر المحيط: 2/ 198.
(3)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 513.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 256.
(5)
تفسير ابن ابي حاتم (2526)، و (2527): ص 2/ 477.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(7)
محاسن التأويل/ 2/ 183.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 228.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 143. قال الصابوني: دعوا الله ضارعين إِليه بثلاث دعوات تفيد إِدراك أسباب النصر، فقالوا:
أولاً: ربنا أفضْ علينا صبراً يعمنا في جمعنا وفي خاصة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك.
ثانيا: قالوا: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي ثبتنا في ميدان الحرب ولا تجعل للفرار سبيلاً إِلى قلوبنا.
ثالثا: وقالوا {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} أي انصرنا على من كفر بك وكذب رسلك وهم جالوت وجنوده. [انظر: صفوة التفاسير: 1/ 143].
قال الراغب: " والفرغ: خلو المكان لما فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء عنه، وضربه ضربة مفرغة لدم البدن"(1).
قال الشوكاني: " الإفراغ: الصب أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا"(2).
قال أبو حيان: " الصبر: هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية. وقولهم: أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه "(3).
قال القرطبي: " ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] إلى قوله {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَاّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147] الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال: "اللهم بك أصول وأجول" (4)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو: " اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" (5)، ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده "(6).
قوله تعالى: {وَثَبِّتْ أَقْدامَنا} [البقرة: 250]، " أي ثبتنا في ميدان الحرب ولا تجعل للفرار سبيلاً إِلى قلوبنا"(7).
اخرج ابن ابي حاتم بسنده عن محمد بن إسحاق أنه قال: " {وثبت أقدامنا}، قال: سألوه أن يثبت أقدامهم"(8).
قال ابن كثير: " أي: في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز"(9).
قال النسفي: " بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا"(10).
قال السعدي: " وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار"(11).
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 513.
(2)
فتح القدير: 2/ 235.
(3)
البحر المحيط: 2/ 198.
(4)
لم اجد الحديث بهذا اللفظ، وفي رواية:" كان إذا أراد سفرا قال: اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أسير". أخرجه أحمد (1/ 90 و 191)، والبزار (3126)، وابن جرير الطبري في "التهذيب"(رقم 7 - مسند علي) وصححه، عن أبي سلام عبدالملك ابن مسلم بن سلام، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: فذكره.
قلت-الألباني-: وهذا إسناد ضعيف؛ رجاله ثقات غير عمران بن ظبيان؛ فقال البخاري: " فيه نظر".
والحديث عزاه السيوطي لأحمد، فقال المناوي:"وكذا البزار - برقم (3126) لكن فيه "وبك أقاتل" مكان "وبك أسير" -، قال الهيثمي: "رجالهما ثقات" اهـ. فإشارة المصنف لحسنه تقصير، بل حقه الرمز لصحته. كذا قال، وكأنه لم يرجع بنفسه إلى إسناد الحديث ليتعرف على رجاله، وليتبين له تساهل الهيثمي في توثيقهم، وفيهم عمران هذا الذي ضعفه الأئمة، ولم يوثقه غير يعقوب بن سفيان ثم ابن حبان على تناقضه فيه.
والحديث قد صح من حديث أنس رضي الله عنه نحوه؛ لكن في الغزو، وقال:"وبك أقاتل" مكان "وبك أسير". وهو لفظ البزار. وهو مخرج في "الكلم الطيب"(126)، وفي "صحيح أبي داود" (2366). انظر: لسلسلة الضعيفة والموضوعة " 9/ 187.
(5)
رواه أحمد (19735) أبو داود (1537) والنسائي في الكبرى (10437) وابن حبان (4765) والحاكم (2629) والطبراني في الكبير والأوسط جميعهم من طريق معاذ بن هشام به، ورواه عن قتادة غير هشام وقد أعرضت عن ذكرهم طلباً للإختصار، وظاهر سنده الصحة إلى أنه منقطع. والله أعلم.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 256.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2529): ص 2/ 478.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(10)
تفسير النسفي: 1/ 132.
(11)
تفسير السعدي: 1/ 108.
قال ابن عثيمين: " يعني اجعلها ثابتة لا تزول: فلا نفر، ولا نهرب؛ وربما يراد بـ «الأقدام» ما هو أعم من ذلك؛ وهو تثبيت القلوب أيضاً"(1).
قال الشوكاني: " هذا عبارة عن القوة وعدم الفشل يقال ثبت قدم فلان على كذا إذا استقر له ولم يزل عنه وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له والنصر معه"(2).
قال أبو حيان: " قال أبو حيان: " وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها" (3).
قال الراغب: " الثبات: اللزوم في المكان، وعنه استعير قول ثابت، أي صحيح لا يبطل، وفلان ثبت المقام لمن لا يبرح موقفه في الحرب منهزماً"(4).
قوله تعالى: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، " أي انصرنا على من كفر بك وكذب رسلك وهم جالوت وجنوده"(5).
قال ابن عثيمين: " أي قوِّنا عليهم حتى نغلبهم"(6).
قال الشوكاني: " وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام لكون الثاني هو غاية الأول"(7).
قال أبو حيان: " أي: أعنا عليهم، وجاؤوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر، وكانوا يعبدون الأصنام، وفي قولهم: ربنا، إقرار لله تعالى بالوحدانية، وقرار له بالعبودية"(8).
قال المراغي: " ولقد راعوا الترتيب الطبيعي في الدعاء بحسب الأسباب الغالبة، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأولى الناس بنصر الله المؤمنون"(9).
قال القاسمي: " وهذه الآية تدل على أن من حزبه أمر فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله، والتوفيق، والانقطاع إليه تعالى"(10).
قال السعدي: " من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا"(11).
قال الراغب: " ونصر الله عنده قد يكون بزيادة قوته وجرأته، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، وغير ذلك، ولم يعن أنهم رغبوا إلى الله عز وجل في ذلك بالقول فقط، فالقول ليس بمغن ما لم يعاضده فعل، ولا الفعل بمغن ما لم تعاضده النية، فالمعنى لما برزوا رغبوا إلى الله بمقالهم واجتهادهم ونياتهم أن يمدهم بالصبر، وتثبيت القدم والنصرة على الكفرة"(12).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد؛ لقوله تعالى: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً} .
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 228.
(2)
فتح القدير: 1/ 265.
(3)
البحر المحيط: 2/ 198.
(4)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 513.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 143.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 228.
(7)
فتح القدير: 1/ 266.
(8)
البحر المحيط: 2/ 198.
(9)
تفسير المراغي: 1/ 471.
(10)
محاسن التأويل/ 2/ 183.
(11)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(12)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 513.
2 -
ومنها: أن التجاء الإنسان إلى الله عند الشدائد سبب لنجاته، وإجابة دعوته، لقوله تعالى بعد ذلك:{فهزموهم بإذن الله} [البقرة: 251]؛ وأما اعتماد الإنسان على نفسه، واعتداده بها فسبب لخذلانه، كما قال تعالى:{ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} [التوبة: 25]؛ وهذا مشهد عظيم في الواقع؛ فإن كثيراً من الناس إذا أعطاه الله سبحانه وتعالى نعمة في بدنه، أو ماله، أو أهله يرى أن ذلك من حوله، وقوته، وكسبه؛ وهذا خطأ عظيم؛ بل هو من عند الله؛ هو الذي منّ به عليك؛ فانظر إلى الأصل - لا إلى الفرع -؛ والنظر إلى الفرع، وإهمال الأصل سفه في العقل، وضلال في الدين؛ ولهذا يجب عليك إذا أنعم الله عليك بنعمة أن تثني على الله بها بلسانك، وتعترف له بها في قلبك، وتقوم بطاعته بجوارحك.
3 -
ومن فوائد الآية: اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه على طاعة الله؛ لقوله تعالى: {وثبت أقدامنا} .
4 -
ومنها: ذكر ما يكون سبباً للإباحة؛ لقوله تعالى: {وانصرنا على القوم الكافرين} ؛ لم يقولوا: على أعدائنا؛ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم؛ وهذا في غاية ما يكون من البعد عن العصبية، والحمية؛ يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.
القرآن
التفسير:
فهزموهم بإذن الله، وقتل داود عليه السلام جالوتَ قائدَ الجبابرة، وأعطى الله عز وجل داود بعد ذلك الملك والنبوة في بني إسرائيل، وعَلَّمه مما يشاء من العلوم. ولولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له والإيمان به- بعضًا، وهم أهل المعصية لله والشرك به، لفسدت الأرض بغلبة الكفر، وتمكُّن الطغيان، وأهل المعاصي، ولكن الله ذو فضل على المخلوقين جميعًا.
قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ} [البقرة: 251]، " أي: غلبوهم وقهروهم" (1).
قال القرطبي: " فكسروهم"(2).
قال الشوكاني: " الهزم الكسر ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف ومنه ما قيل في زمزم إنها هزمة جبريل أي هزمها برجله فخرج الماء والهزم ما يكسر من يابس الحطب وتقدير الكلام فأنزل الله عليهم النصر"(3).
قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 251]، ذكر أهل التفسير في (الهزيمة) قولان:
أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً.
والثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صاروا سبباً لها، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء.
قوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 251]، أي:"بنصر الله"(4).
قال البغوي: " أي بعلم الله تعالى"(5).
وقال الشوكاني: " أي بأمره وإرادته"(6).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 256.
(3)
فتح القدير: 1/ 266.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 302.
(6)
فتح القدير: 1/ 266.
قال النسفي: " بقضائه"(1).
قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 251]، ذكر أهل التفسير في (الهزيمة) قولان:
أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً.
والثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صاروا سبباً لها، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء.
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 251] وجهين:
أحدهما: بأمر الله لهم بقتالهم.
الثاني: بمعونة الله لهم على قتالهم.
قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251]، أي:"باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره"(2).
قال القرطبي: " وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود بن إيشى - بكسر الهمزة"(3).
قال البن كثير: " ذكروا في الإسرائيليات: أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة"(4)(5).
واختلفوا، هل كان داود عند قتله جالوت نبياً؟ (6):
الأول: ذهب بعضهم أنه كان نبياً، واحتجوا بأن هذا الفعل الخارج عن العادة، لا يكون إلا من نبي.
الثاني: وقال الحسن: "لم يكن نبياً"(7)، لأنه لا يجوز أن يُوَلي مَنْ ليس بنبي على نبي.
قال ابن السائب: "وإنما كان راعياً فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد"(8).
قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251]، " أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل والفهم والنبوة" (9).
وعن السدي: "قوله: {وآتاه} يقول: وأعطاه"(10). ونحوه عن سعيد بن جبير (11).
وعن السدي كذلك: "مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ، وجعله الله نبيًّا، وذلك قوله: " وآتاه الله الملك والحكمة "، قال: الحكمة هي النبوة، آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت"(12).
قال ابن كثير: " الملك الذي كان بيد طالوت {والحكمة} أي: النبوة بعد شمويل"(13).
(1) تفسير النسفي: 1/ 132.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 256.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(5)
اخرج الطبري (5745): ص 5/ 364.
(6)
انظر: النكت والعيوين: 1/ 320 - 321، ومفاتيح الغيب: 6/ 516 - 517.
(7)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 321،
(8)
النكت والعيون: 1/ 321،
(9)
محاسن التأويل: 2/ 183.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2531): ص 2/ 479.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2532): ص 2/ 480.
(12)
اخرجه الطبري (5748): ص: 5/ 371.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
وعن الربيع بن أنس في قوله: " {وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}، فصار هو الرئيس عليهم وأعطوه الطاعة"(1).
وروي "عن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال الحكمة: العقل في الدين"(2).
قال السعدي: "أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم"(3).
قال الزمخشري: " في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود"(4).
وقوله تعالى: {َعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} [البقرة: 251]، "أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم" (5).
قال الراغب: " إشارة إلى العلوم النبوية التي لا وصول إليها إلى بالوحي"(6).
قال السعدي: "من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك [ص 109] لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك"(7).
قال الزمخشري: " من صنعة الدروع وكلام الطير والدواب وغير ذلك"(8).
قوله تعالى: {مِمَّا يَشَاءُ} أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي" (9).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {َعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} [البقرة: 251]، أوجه (10):
أحدهما: صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
والثاني: كلام الطير وحكمة الزبور (11).
الثالث: وقيل: أنه فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي والنهي عنها (12).
الرابع: وقيل: أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل. وهو قول السدي (13).
قال القرطبي: " والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم"(14).
قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [البقرة: 251]، أي" ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم"(15).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2534): ص 2/ 480.
(2)
تفسير ابن ابي حاتم (2536): ص 2/ 480.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(4)
تفسير الكشاف: 1/ 296، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 132.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(6)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 514.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(8)
تفسير الكشاف: 1/ 296، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 132.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 259.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 370 - 371.
(11)
انظر: النكت والعيون: 1/ 321.
(12)
انظر: النكت والعيون: 1/ 321.
(13)
اخرجه الطبري (5748): ص: 5/ 371.
(14)
تفسير القرطبي: 3/ 258.
(15)
تفسير الكشاف: 1/ 296، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 132.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: " لولا القتال والجهاد"(1).
قال الطبري: " ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الطاعة له والإيمان به بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به - كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له"(2).
قال ابن كثير: " أي: لولاه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود"(3).
قال السعدي: " أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار"(4).
قال الراغب: وفي قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} ، تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قال الدين والملك مقترنان، وتوأمان لا يفترقان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، لأن الدين أس، والملك حارس، ومالا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع" (5).
واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد على أقوال (6):
أحدهما: أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر، قاله عليّ كرم الله وجهه (7)، ومجاهد (8).
والثاني: يدفع بالمجاهدين عن القاعدين. قاله الكلبي (9).
والثالث: قيل: "هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا"(10).
قال القرطبي: "وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله"(11).
وقد روي "عن ابن عباس، في قوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض قال: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي"(12).
وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة [251]، اختلفوا في كسر (الدال) وفتحها وإدخال (الألف) وإسقاطها، فذكروا وجوها (13):
الأول: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} بغير ألف هاهنا، وفي الحج:{إن الله يدفع} [الآية: 38](14).
الثاني: وقرأ نافع: {ولولا دفاع الله} {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ} بألف فيهما جميعاً.
الثالث: وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} بغير ألف، و {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ} بألف.
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2540): ص 2/ 281.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 371.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 669.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(5)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 514.
(6)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 260 - 261، والنكت والعيون: 1/ 321.
(7)
أخرجه الطبري في تفسيره (5751): ص 5/ 373.
(8)
اخرجه الطبري في تفسيره (5749) و (5750): ص 5/ 373. وابن ابي حاتم (2538): ص 2/ 480.
(9)
انظر: مفاتيح الغيب: 23/ 229.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 261.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 261.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2537): ص 2/ 480.
(13)
انظر: الحجة للقراء السبعة، أبو علي الفارسي: 2/ 352، وتفسير القرطبي: 3/ 259، وتفسير البغوي: 1/ 307، وبحر المحيط: 2/ 278.
(14)
في السبعة: وفي سورة الحج و: إن الله يدفع. يريد في مكانين من الحج: في الآية 40 وهي قوله سبحانه: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
…
الآية والآية الثانية 38 المذكورة هنا.
الرابع: وروى عبد الوهاب عن أبان عن عاصم: ولولا دفاع الله بألف (1).
قال أبو علي: " (دفاع) يحتمل أمرين: يجوز أن يكون مصدراً لفعل، كالكتاب واللّقاء، ونحو ذلك من المصادر لتي تجيء على فعال. كما يجيء على فعال نحو: الجمال والذّهاب. ويجوز أن يكون مصدراً لفاعل، يدلّ على ذلك قراءة من قرأ:{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، فالدفاع يجوز أن يكون مصدراً لهذا، كالقتال، ونظيره الكتاب في أنه جاء مصدراً لفاعل وفعل، فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ} [النور: 33] الكتاب فيه مصدر كاتب، كما أن المكاتبة كذلك، وقال تعالى:{كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فالكتاب مصدر لكتب الذي دلّ عليه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} [النساء: 23] لأن المعنى: كتب هذا التحريم عليكم كتاباً، وكذلك قوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] كأنّ معنى دفع ودافع سواء، ألا ترى أن قوله (2):
وَلَقَدْ حَرَصْتُ بِأَنْ أُدافِعَ عَنْهُم
…
فَإِذا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَع
فوضع أدافع موضع أدفع، كأن المعنى: حرصت بأن أدفع عنهم المنية، فإذا المنية لا تدفع، كأنّ المعنى: حرصت بأن أدفع عنهم المنيّة، فإذا المنيّة لا تدفع، وقال أمية (3):
لولا دفاع الله ضلّ ضلالنا
…
ولسرّنا أنّا نتلّ ونوأد
قال أبو علي الفارسي: "وإذا كان كذا فقوله: إن الله يدفع، ويدافع يتقاربان، وليس يدافع كيضارب، ومما يقوي ذلك قوله: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، وليس للمفاعلة التي تكون من اثنين هنا وجه"(4).
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} وأنكر أن يقرأ "دفاع" وقال: "لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم "الله" في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله"(5).
ويرى الطبري بأن القراءتين تحملان المعنى نفسه، فقال:" والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع، ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع، ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى " مدافعة الله " عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، وقراءة من قرأ: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض}، في التأويل والمعنى"(6).
قوله تعالى: {لَّفَسَدَتِ الأرْضُ} [البقرة: 251]، أي:" لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض"(7).
قال السعدي: أي: "لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه"(8).
(1) انظر: كتاب السبعة 187.
(2)
وهو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت من قصيدته المشهورة في رثاء بنيه الخمسة الذين ماتوا في يوم واحد. انظر ديوان الهذليين: 1/ 2.
(3)
اللسان (ضلل) وعنه في ديوانه 361 وروايته: لولا وثاق الله. ولا شاهد فيه. والوثاق: ما يوثق به من حبل أو سواه- ونتلّ: نصرع- ونوأد: ندفن أحياء.
(4)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 352 - 354.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 259.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 376.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 372.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 108.
قال الربيع: " لهلك من في الأرض "(1). وروي عن مجاهد نحو ذلك (2).
قال الزمخشري: " لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض"(3).
وللعلماء في قوله تعالى: {لَّفَسَدَتِ الأرْضُ} [البقرة: 251]، وجهان (4):
أحدهما: لفسد أهل الأرض.
والثاني: لعم الفساد في الأرض. وفي هذا (الفساد) وجهان (5):
أحدهما: الكفر: أي لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض.
والثاني: القتل: بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين.
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، " ولكن الله ذو فضل على الناس جميعا"(6).
قال ابن كثير: " أي: مَنٌّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله"(7).
قال السعدي: "حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها"(8).
قال النسفي: " بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح"(9).
قال القرطبي: " بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة"(10).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن مَنْ صَدَق اللجوء إلى الله، وأحسن الظن به أجاب الله دعاءه.
2 -
ومنها: أنه يجب على المرء إذا اشتدت به الأمور أن يرجع إلى الله عز وجل.
3 -
ومنها: إضافة الحوادث إلى الله عز وجل وإن كان من فعل الإنسان؛ لقوله تعالى: {فهزموهم} : هذا فعلهم - لكن {بإذن الله} ؛ فالله هو الذي أذن بانتصار هؤلاء، وخذلان هؤلاء.
4 -
ومنها: شجاعة داود عليه الصلاة والسلام، حيث قتل جالوت حين برز لهم؛ والشجاعة عند المبارزة لها أهمية عظيمة؛ لأنه إذا قُتِل المبارِز أمام جنده فلا شك أنه سيجعل في قلوبهم الوهن، والرعب؛ ويجوز في هذه الحال أن يخدع الإنسان من بارزه؛ لأن المقام مقام حرب؛ وكل منهما يريد أن يقتل صاحبه؛ فلا حرج أن يخدعه؛ ويُذكر أن عمرو بن ودّ لما خرج لمبارزة علي بن أبي طالب صاح به عليّ، وقال:«ما خرجت لأبارز رجلين» ؛ فظن عمرو أن أحداً قد لحقه، فالتفت، فضربه علي (11)؛ هذه خدعة؛ ولكنها جائزة؛ لأن المقام مقام حرب؛ هو يريد أن يقتله بكل وسيلة.
(1) أخرجه الطبري (5752): ص 5/ 374.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2541): ص 2/ 481.
(3)
تفسير الكشاف: 1/ 296.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 321.
(5)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 296.
(6)
تفسير الواضح: 1/ 162.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 670.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(9)
تفسير النسفي: 1/ 132.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 261.
(11)
لم أقف على هذا السياق، وإنما وقفت على قول علي رضي الله عنه لعمرو بن عبد ود: "يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوكم رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال علي: فإني أدعوك إلى النزال، فقال: لم يا ابن أخي، فوالله ما أحب أن أقتلك، قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك،
…
" فتنازلا، وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، والواقعة وقعت في غزوة الخندق؛ راجع: سيرة ابن هشام 3/ 134 – 135؛ والسيرة النبوية لابن كثير – مقتبسة من البداية والنهاية – 3/ 202 – 203؛ وسير أعلام النبلاء، السيرة النبوية 1/ 492 – 493.
5 -
ومن فوائد الآية: أن داود عليه الصلاة والسلام أوتي الملك، والنبوة؛ لقوله تعالى:{وآتاه الله الملك والحكمة} .
6 -
ومنها: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله؛ لقوله تعالى: {وعلمه مما يشاء} ؛ فالنبي نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113].
7 -
ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: {وعلمه مما يشاء} ؛ ولكن اعلم أن مشيئة الله تابعة لحكمته، كما قال الله تعالى:{فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 29، 30].
8 -
ومنها: أن الله عز وجل يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض، ومن عليها؛ لقوله تعالى:{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} ؛ وفساد الأرض يكون بالمعاصي، وترك الواجبات؛ لقوله تعالى:{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 40]، وقوله تعالى:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30].
9 -
ومنها: إثبات حكمة الله، حيث جعل الناس يدفع بعضهم بعضاً ليقوم دين الله، فدفعَ الكافرين بجهاد المؤمنين؛ لأنه لو جعل السلطة لقوم معينين لأفسدوا الأرض؛ لأنه لا معارض لهم؛ ولكن الله عز وجل يعارض هذا بهذا.
10 -
ومنها: أن من الفساد في الأرض هدم بيوت العبادة؛ لقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40]؛ وهذا تفسير لقوله تعالى هنا: {لفسدت الأرض} ؛ أو هو ذكر لنوع من الفساد.
11 -
ومنها: إثبات فضل الله تعالى على جميع الخلق؛ لقوله تعالى: {ولكن الله ذو فضل على العالمين} حتى الكفار؛ لكن فضل الله على الكفار فضل في الدنيا فقط بإعطائهم ما به قوام أبدانهم؛ أما في الآخرة فيعاملهم بعدله بعذابهم في النار أبد الآبدين؛ وأما بالنسبة للمؤمنين فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا، والآخرة.
القرآن
{ِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} ) [البقرة: 252]
التفسير:
تلك حجج الله وبراهينه، نقصُّها عليك -أيها النبي- بالصدق، وإنك لمن المرسلين الصادقين.
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة: 252]، أي:" هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم"(1).
و{آيات} جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها، قال الطبري:" {آيات الله}، حججه وأعلامه وأدلته"(2).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى {آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة: 252]، وجهين (3):
الأول: قيل: {آيات الله} : هي القرآن.
الثاني: وقيل: أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت، وإمامة الله لهم دفعة واحدة، ثم أحياهم إحياءة واحدة، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم،
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 670.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 377.
(3)
انظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 279.
والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى وآل هارون، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر، وإجابة من توكل على الله في النصرة، وقتل داود جالوت، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل.
قلت: أن الثاني هو الأظهر، وعليه جمهور المفسرين، قال الشوكاني:"وآيات الله هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة"(1).
قوله تعالى: {نَتْلُوها عَلَيْكَ} [البقرة: 252]، "أي ننزل عليك جبريل بها"(2).
قال ابن عثيمين: "نقرؤها عليك؛ والمراد تلاوة جبريل، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأمين* على قلبك} [الشعراء: 193، 194] "(3).
قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} [البقرة: 252]، "أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه" (4).
قال ابن كثير: " أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل"(5).
قال الشوكاني: " والمراد {بالحق} هنا الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم"(6).
قال الزمخشري: "باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك"(7).
قال السعدي: " أي: بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور"(8).
قال ابن عثيمين: " الحق في الأخبار: هو الصدق؛ وفي الأحكام: هو العدل؛ والباء إما للمصاحبة؛ أو لبيان ما جاءت به هذه الآيات؛ والمعنى أن هذه الآيات حق؛ وما جاءت به حق"(9).
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، أي:" إنك لمرسل متبع في طاعتي"(10).
قال الشوكاني: " إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه وتثبيتا لجنانه وتشييدا لأمره"(11).
قال الزمخشري: " حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار"(12).
والجملة مؤكدة بـ {إن} ، واللام؛ لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: " نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل"(13).
(1) فتح القدير: 1/ 266، وانظر: تفسير الطبري: 5/ 377.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 184.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 2/ 134.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 184.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 670.
(6)
فتح القدير: 1/ 266.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 297، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 132.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 108.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 2/ 134.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 378.
(11)
فتح القدير: 1/ 266.
(12)
تفسير الكشاف: 1/ 297، وانظر: تفسير النسفي: 1/ 132.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 261.
قال السعدي: " فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"(1).
قال الراغب: "إن قيل: ما فائدة قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} في هذا الموضع؟ وهل خفي ذلك عليه حتى يذكره به؟ وما تعلق ذلك بما قبله؟
قيل: يجوز أن يكون تقديره {وإنك لمن المرسلين بها} ، لكن لفظة بها إيجاز، أو يجوز أن تكون الآية متقدمتين محذوفتي النتيجة على تقدير: إذا كان حال المرسلين وأممهم ما نتلوه عليك، وأنت مرسل إلى قومك كما أرسل المرسلون إلى قومهم، فلا عجب أن تجري مع قومك مجرى أمرهم مع قومهم، والإشارة بذلك إلى معنى قوله:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} " (2).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: إثبات آيات الله سبحانه وتعالى الشرعية؛ لأن المراد بـ «الآيات» هنا: الشرعية - وهي القرآن -.
2 -
ومنها: أن الله تعالى يتلو على نبيه ما أوحاه إليه؛ لقوله عز وجل: {نتلوها عليك بالحق} ؛ ولكن هل الذي يتلو ذلك هو الله، أو جبريل؟ اقرأ في آية القيامة:{لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 - 18]؛ يعني إذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه؛ فجبريل يتلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه من الله سبحانه وتعالى.
3 -
ومنها: أن القرآن كله حق من الله، ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله تعالى:{بالحق} للمصاحبة، والملابسة أيضاً؛ فهو نازل من عند الله حقاً؛ وهو كذلك مشتمل على الحق؛ وليس فيه كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه؛ بل أحكامه كلها عدل؛ وأخباره كلها صدق.
4 -
ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} .
5 -
ومنها: أن هناك رسلاً آخرين غير الرسول؛ لقوله تعالى: {لمن المرسلين} ؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين؛ إذ لا نبي بعده.
القرآن
التفسير:
هؤلاء الرسل الكرام فضَّل الله بعضهم على بعض، بحسب ما منَّ الله به عليهم: فمنهم مَن كلمه الله كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفي هذا إثبات صفة الكلام لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله، ومنهم مَن رفعه الله درجاتٍ عاليةً كمحمد صلى الله عليه وسلم، بعموم رسالته، وختم النبوة به، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وغير ذلك. وآتى الله تعالى عيسى ابن مريم عليه السلام البينات المعجزات الباهرات، كإبراء مَن ولد أعمى بإذن الله تعالى، ومَن به برص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، وأيده بجبريل عليه السلام. ولو شاء الله ألا يقتتل الذين جاؤوا مِن بعد هؤلاء الرسل مِن بعد ما جاءتهم البينات ما اقتتلوا، ولكن
(1) تفسير السعدي: 1/ 108.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 515.
وقع الاختلاف بينهم: فمنهم مَن ثبت على إيمانه، ومنهم مَن أصر على كفره. ولو شاء الله بعد ما وقع الاختلاف بينهم، الموجب للاقتتال، ما اقتتلوا، ولكن الله يوفق مَن يشاء لطاعته والإيمان به، ويخذل مَن يشاء، فيعصيه ويكفر به، فهو يفعل ما يشاء ويختار.
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: 253]، أي:" هؤلاء رسلي"(1).
قال الصابوني: " أي أولئك الرسل الكرام الذين قصصنا عليك من أنبائهم يا محمد هم رسل الله حقاً"(2).
وفي قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: 253]، ثلاثة أوجه (3):
الأول: قيل: هو اشارة إلى جميع الرسل فتكون الالف واللام للإستغراق.
الثاني: وقيل: هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة.
الثالث: وقيل: إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبي-صلى الله عليه وسلم.
قال القاسمي: " من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبيّ صلى الله عليه وسلم"(4).
قال الزمخشري: "إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(5)(6).
وقوله تعالى: {تلك} التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه، كما قال تعالى:{قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14]؛ و {الأعراب} مذكر، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛ لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم المرسل الذين دلّ عليهم قوله تعالى:{وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252](7).
قوله تعالى: {فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، أي:" هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض"(8).
قال القاسمي: " بأن خص بمنقبة ليست لغيره"(9).
قال ابن عثيمين: "يعني "جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي؛ وفي الأتباع؛ وفي الدرجات؛ والمراتب عند الله سبحانه وتعالى" (10).
قال الزمخشري: " لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات"(11).
قال الشوكاني: " والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر فكان الأكثر مزايا فاضلا والآخر مفضولا وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض كذلك دلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] "(12).
(1) تفسير الطبري: 5/ 379.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(3)
انظر: فتح القدير: 1/ 268.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 187.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 297.
(6)
وفي عدد الرسل، اخرج ابن أبي حاتم:(2550): ص: 2/ 482: عن أبي أمامة، قال:"قلت: يا نبي الله: كم الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك: ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا".
(7)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 236.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 378.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 187.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 236.
(11)
تفسير الكشاف: 1/ 297.
(12)
فتح القدير: 1/ 268. ثم قال: " وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لا تفضلوني على الأنبياء" [صحيح البخاري في تفسير سورة الأعراف بلفظ: "لا تخيروني من بين الانبياء" وفي لفظ آخر "لا تفضلوا بين الأنبياء" [صحيح مسلم (2373). وفي لفظ "لا تخيروا بين الانبياء"[صحيح البخاري: 2281: ص 2/ 849]، فقال قوم إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل وقيل إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال (لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى" [صحيح البخاري (3215): ص 3/ 1244: بلفظ: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى]، تواضعا مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله "أنا سيد ولد آدم" [صحيح مسلم: 2278: ص 4/ 1782]، وقيل إنما نهى ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء فيكون مخصوصا بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأمونا وقيل إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات وقيل إن المراد النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية وفي جميع هذه الأقوال ضعف وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منا خافية وليست بمعلومة عند البشر فقد يجهل اتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو باقلها فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض انبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنيباء فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه فمن تعرض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا". [فتح القدير: 1/ 268 - 269].
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، فيه وجوها (1):
الأول: أن التفضيل في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال.
والثاني: أن التفضيل في الدنيا، بأن جعل بعضهم خليلاً، وبعضهم كليماً، وبعضهم مَلِكاً، وسَخَّر لبعضهم الريح والشياطين، وأحيا ببعضهم الموتى، وأبرأ الأكمه، والأبرص (2).
والثالث: التفضيل بالشرائع، فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع.
والرابع: وقيل بالعلم. روي ذلك عن زيد بن أسلم (3).
قال الراغب: " فإن الله تعالى جعل لمن رشحه للنبوة فضائل خصه بها، ابتداء وفضائل هداه إليها ليصيبها، فما خصهم به أن جعل كل واحد في نفسه وأخلاقه معرى من عاهة تشينه، وأيده بأنواع كرامات وزيادة معاون تشرح صدره، وحدد عليه في كل وصايا تسدده، وعاتبه في أذى زلة ظهر منه، فهذا التفضيل الذي جعله ابتداء، وأما تفضيله لهم بالحكم، فعلى حسب ما يظهر من أفعالهم، فمعلوم أنه ليس حظ يونس عليه الصلاة والسلام حيث حذر نبينا عليه الصلاة والسلام أن يكون مثله في الصبر بقوله: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} كحظ الذين حثه على الاقتداء بهم في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، فالتفضيل يحصل بالأمرين، وللتفاضل بينهم قال عليه الصلاة والسلام: " فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة " (4)، ولما كانت هذه الأشياء موهبية لا مكتسبة، قال عليه الصلاة والسلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " تنبيهاً أن الفخر لا يستحق إلا بالمكسوب دون الموهوب، ونحو هذه الآية في تفضيل بعض الأنبياء على بعض قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}، وهذا حكم في الملائكة بقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} "(5).
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 322، وتفسير ابن ابي حاتم: 2/ 482 - 483.
(2)
أخرج ابن ابي حاتم (2551): ص 2/ 482: عن قتادة " اتخذ الله براهيم خليلا، وكلم موسى تكليما، وجعل عيسى كمثل آدم، خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، وغفر لمحمد بن عبد الله، ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2552): ص 2/ 483.
(4)
صحيح مسلم (523): ص 1/ 371. من حديث أبي هريرة، ولفظه: " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ".
(5)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 516 - 517.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، " أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير"(1).
قال مجاهد: " كلم الله موسى"(2). وروي عن الشعبي، نحو ذلك (3).
قال القاسمي: "تفصيل التفضيل أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام"(4).
وقوله تعالى: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، اختلفت القراءة فيه على وجوه (5):
الأولى: قرأ الجمهور {كَلَّمَ اللَّهُ} : بالتشديد ورفع الجلالة، والعائد على: من، محذوف تقديره من كلمه.
الثاني: وقد قرئ {كَلَّمَ اللَّهَ} بالنصب، والفاعل مستتر في: كلم، يعود على:{من} .
الثالث: وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهشل، وابن السميفع:{كالم الله} بالألف ونصب الجلالة من المكالمة، وهي صدور الكلام من اثنين، ومنه قيل: كليم الله، أي: مكالمه، (فعيل) بمعنى (مفاعل): كجليس وخليط.
قال أبو حيان: " ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه"(6).
قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، أي:"ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة"(7).
قال الزمخشري: "أى: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء كان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة"(8).
وروي عن سعيد بن جبير، في قوله:{درجات} : قال"يعني: فضائل"(9).
قال المراغي: " ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف"(10).
قال الزمخشري: "والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منفياً على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل"(11).
قال ابن عثيمين: " فمحمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة؛ وهي أعلى درجة في الجنة، ولا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وأرجو أن أكون أنا هو» (12)؛ وفي المعراج وجد النبي صلى الله
(1) تفسير البغوي: 1/ 480.
(2)
اخرجه ابن ابي حاتم (2553): ص 2/ 483.
(3)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 483.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 187.
(5)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 297، والبحر المحيط: 2/ 282.
(6)
البحر المحيط: 2/ 282.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 378.
(8)
تفسير الكشاف: 1/ 297.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (2553): ص 2/ 483.
(10)
تفسير المراغي: 1/ 480.
(11)
تفسير الكشاف: 1/ 297 - 298.
(12)
أخرجه مسلم ص 738، كتاب الصلاة، باب 7: استحباب القول مثل قول المؤذن
…
، حديث رقم 849 [11]384.
عليه وسلم إبراهيم في السماء السابعة؛ وموسى في السادسة؛ وهارون في الخامسة؛ وإدريس في الرابعة (1)؛ وهكذا؛ وهذا من رفع الدرجات" (2).
وقال الشوكاني: " هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا وقيل إنهم أولوا العزم وقيل إبراهيم ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه وتعالى أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولم يرد ما يرشد إلى ذلك فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه وقد جزم كثير من أئمة التفسير انه نبينا صلى الله عليه وسلم وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين وارتكبوا نهيين وهما تفسير القرآن بالرأي والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهي عنه وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن"(3).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وجهين (4):
أحدهما: أن أوحى إلى بعضهم في منامه، وأرسل إلى بعضهم الملائكة في يقظته.
والثاني: أن بعث بعضهم إلى قومه، وبعث بعضهم إلى كافة الناس.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253]، "وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته"(5).
قال الشوكاني: " أي: الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك"(6).
قال السعدي: " الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"(7).
قال ابن عثيمين: " أي: الآيات البينات الدالة على رسالته، ويراد بها الإنجيل، وما جرى على يديه من إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، ونحو ذلك"(8).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده "عن ابن عباس: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات}، أي: الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه الروح، فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب، مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه"(9).
(1) راجع البخاري ص 260، كتاب بدء الخلق، باب 6: ذكر الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم، حديث رقم 3207؛ ومسلماً ص 705، كتاب الإيمان، باب 74: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم 411 [259]162.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 236.
(3)
فتح القدير: 1/ 269.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 322.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 379.
(6)
فتح القدير: 1/ 269.
(7)
تفسير السعدي: 1/ 109.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 237.
(9)
تفسير ابن ابي حاتم (2555): ص 2/ 483.
قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، : أي و"قويناه"(1) بروح القدس.
قال الطبري: " وقويناه وأعناه بروح الله، وهو جبريل"(2).
وقوله تعالى: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، ذكر أهل التفسير فيه وجوها (3):
أحدهما: بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله، " كما قال تعالى:{قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102]؛ فـ «روح القدس» هو جبريل؛ أيد الله عيسى به، حيث كان يقويه في مهام أموره عندما يحتاج إلى تقوية" (4).
والثاني: بأن نفخ فيه من رُوحه.
والثالث: بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به.
الرابع: ما معه من العلم المطهر الآتي من عند الله؛ والعلم، أو الوحي يسمى روحاً، كما قال تعالى:{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52].
قال الراغب: " وروح القدس إشارة إلى ما خص به عيسى مما كان يحي به الموتى ملكاً، أو قوة، أو اسماً من أسمائه أو علماً، وقد فسر بكل ذلك، وسمي جبريل عليه السلام روح القدس، والروح الأمين في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} وفي قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} "(5).
قال الزمخشري: "فإن قلت: فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين اللَّه وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتى منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها. كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين"(6).
وقوله تعالى: {وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 253]، " أي: لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاؤوا بعد الرسل" (7).
قال الشوكاني: " أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا"(8).
قال الطبري: " ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم - عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا"(9).
قال الزمخشري: " من بعد الرسل، لاختلافهم في الدين، وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضا"(10).
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 253]، أي:" من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل"(11).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 237.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 379.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 322، وتفسير السعدي: 1/ 109، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 237.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 237.
(5)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 517.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 298.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(8)
فتح القدير: 1/ 270.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 481.
(10)
تفسير الكشاف: 1/ 298.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 380.
قال السدي: {البينات} ، أي "الحلال والحرام"(1).
و{الْبَيِّنَاتُ} أي "الآيات البينات؛ وهو الوحي الذي جاءت به الرسل، وغيره من الآيات الدالة على رسالتهم"(2).
قال السعدي: البينات" الموجبة للاجتماع على الإيمان"(3).
قال النسفي: الآيات: " المعجزات الظاهرات"(4).
قال ابن عثيمين: " أي هذا القتال حصل بعدما زال اللبس، واتضح الأمر، ووجدت البينات الدالة على صدق الرسل؛ ومع ذلك فإن الكفار استمروا على كفرهم، ورخصت عليهم رقابهم، ونفوسهم في نصرة الطاغوت؛ وقاتلوا المؤمنين أولياء الله عز وجل؛ كل ذلك من أجل العناد، والاستكبار"(5).
وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى {مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 253] وذكروا ثلاثة أوجه (6):
الأول: أي من بعد الرسل.
الثاني: وقيل: من بعد موسى وعيسى ومحمد لأن الثاني مذكور صريحا والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله {منهم من كلم الله} .
الثالث: وقال قتادة: ": من بعد موسى وعيسى"(7). وروي مثله عن الربيع (8).
الرابع: وقال السدي: "من بعد محمد صلى الله عليه وسلم"(9).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 253]، فيه وجهين (10):
أحدهما: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة.
والثاني: ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان، ولما حصل فهيم خيار.
قوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} [البقرة: 253]، أي: ولكن شاء الإختلاف فاختلفوا" (11).
قال الصابوني: " أي ولكنَّ الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم"(12).
قال قتادة: "قوله: {ولكن اختلفوا} يعني اليهود والنصارى، يقول: هذا القرآن لهم ما اختلفوا فيه"(13).
قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253]، أي:"، فمنهم من ثبت على الإِيمان ومنهم من حاد وكفر"(14).
قال أبو حيان: " من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا"(15).
(1) اخرجه ابن ابي حاتم (2556): ص 2/ 484.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 238.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 109.
(4)
تفسير النسفي: 1/ 133.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 238.
(6)
فتح القدير: 1/ 269 - 270، وتفسير الطبري: 5/ 380 - 381.
(7)
أخرجه الطبري: (5758): ص 5/ 380.
(8)
أخرجه الطبري (5759): ص 5/ 381.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (2557): ص 2/ 484.
(10)
انظر: النكت والعيون: 1/ 322.
(11)
البحر المحيط: 2/ 284.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(13)
أخرجه ابن ابي حاتم (2558): ص 2/ 484.
(14)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(15)
البحر المحيط: 2/ 284.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]، يعني: ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعد الرسل (1).
قال الراغب: أي "لو شاء الله ما اختلفوا وكانوا أمة واحدة، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية"(2).
قال الشوكاني: " ولو شاء الله عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف، ما اقتتلوا"(3).
قال الصابوني: " أي لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون"(4).
قال السعدي: " فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل سبب، وزال كل موجب"(5).
قال أبو حيان: " {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ، قيل: الجملة تكررت توكيداً للأولى، قاله الزمخشري (6).
وقيل: لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى: ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية: ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه" (7).
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، يعني" يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا"(8).
قال الطبري: "بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه"(9).
قال الزمخشري: " من الخذلان والعصمة"(10).
قال الشوكاني: "لا راد لحكمه ولا مبدل لقضائه فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد"(11).
قال الصابوني: " ولكنّ الله حكيم يفعل ما فيه المصلحة، وكلُّ ذلك عن قضاء الله وقدره فهو الفعال لما يريد"(12).
قال السعدي: " فإرادته غالبة ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية"(13).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: {فضلنا بعضهم على بعض} .
2 -
ومنها: أن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ حتى خواص عباده يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الرسل هم أعلى أصناف بني آدم، ومع ذلك يقع التفاضل بينهم بتفضيل الله.
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 380.
(2)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 518.
(3)
فتح القدير: 1/ 270.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 109.
(6)
انظر: تفسير الكشاف: 1/ 298.
(7)
البحر المحيط: 2/ 284.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 309.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 381.
(10)
تفسير الكشاف: 1/ 299.
(11)
فتح القدير: 1/ 270.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(13)
تفسير السعدي: 1/ 109.
ويتفرع عليها فائدة أخرى: أن الله يفضل أتباع الرسل بعضهم على بعض، كما قال تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«خير الناس قرني» (1)؛ كما أن من كان من الأمم أخلص لله، وأتبع لرسله فهو أفضل ممن دونه من أمته؛ لأن الرسل إذا كانوا يتفاضلون فأتباعهم كذلك يتفاضلون؛ فإن قلت: كيف نجمع بين هذه الآية المثبتة للتفاضل بين الرسل؛ وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى» (2)، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يفاضل بين الأنبياء؟
فالجواب: أن يقال: في هذا عدة أوجه من الجمع؛ أحسنها أن النهي فيما إذا كان على سبيل الافتخار والتعلِّي: بأن يفتخر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيقولوا:«محمد أفضل من موسى» مثلاً؛ أفضل من عيسى؛ وما أشبه ذلك؛ فهذا منهي عنه؛ أما إذا كان على سبيل الخبر فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (3).
3 -
ومن فوائد الآية: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {منهم من كلم الله} ؛ وكلام الله عز وجل عند أهل السنة، والجماعة من صفاته الذاتية الفعلية؛ فباعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه صفة كمال؛ والله عز وجل موصوف بالكمال أزلاً، وأبداً؛ أما باعتبار آحاده - أنه يتكلم إذا شاء - فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته. قال الله تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]، وقال تعالى:{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف: 143]؛ حصل الكلام بعد مجيئه لميقات الله؛ ولهذا حصل بينهما مناجاة: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143]؛ فقال تعالى: {لن تراني} بعد أن قال موسى: {رب أرني أنظر إليك} ؛ هذا هو الحق في هذه المسألة؛ وزعمت الأشاعرة أن كلام الله عز وجل هو المعنى النفسي - أي المعنى القائم بنفسه -؛ وأما ما يسمعه المخاطب به فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه؛ وقد أبطل شيخ الإسلام هذا القول من تسعين وجهاً في كتاب يسمى بـ «التسعينية» .
4 -
ومن فوائد الآية: أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة له؛ لأن الله تعالى ساق قوله: {منهم من كلم الله} على سبيل الثناء، والمدح.
ومنه يؤخذ علوّ مقام المصلي؛ لأنه يخاطب الله عز وجل، ويناجيه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قال المصلي: {الحمد لله رب العالمين} ، قال الله:«حمدني عبدي» ؛ وإذا قال المصلي: {الرحمن الرحيم} قال الله: «أثنى عليّ عبدي» (4) إلى آخر الحديث؛ فالله تعالى يناجي المصلي، وإن كان المصلي لا يسمعه؛ لكن أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
6 -
ومن فوائد الآية: أن الفضائل مراتب، ودرجات؛ لقوله تعالى:{ورفع بعضهم درجات} ؛ وهذا يشمل الدرجات الحسية، والدرجات المعنوية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«وأرجو أن أكون أنا هو» (5)؛ كذلك مراتب أهل الجنة درجات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف من فوقهم
(1) أخرجه البخاري ص 209، كتاب الشهادات، باب 9: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، حديث رقم 2652، وأخرجه مسلم ص 1122، كتاب فضائل الصحابة، باب 52: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حديث رقم 6472 [212]2533.
(2)
أخرجه البخاري ص 189، كتاب الخصومات، باب 1: ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي، حديث رقم 2411، وأخرجه ص 1095، كتاب الفضائل، باب 42: من فضائل موسى، حديث رقم 6153 [160]2373.
(3)
أخرجه أحمد 3/ 2، حديث رقم 11000؛ وأخرجه الترمذي ص 1970، كتاب تفسير القرآن، باب 17: ومن سورة بني إسرائيل، حديث رقم 3148؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2739، كتاب الزهد، باب 37: ذكر الشفاعة، حديث رقم 4308؛ ومدار الحديث على علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف، والحديث صحيح بطرقه وشواهده، منها ما أخرجه الدارمي في المقدمة بمعناه 1/ 39، حديث رقم 47؛ وما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة 2/ 355 - 356، وقال الألباني في تخريجه: صحيح الإسناد 2/ 356، وقال في صحيح الترمذي: صحيح 3/ 71، حديث رقم 2516 - 3369.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه ص 740، كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 878 [38]395.
(5)
أخرجه مسلم ص 738، كتاب الصلاة، باب 7: استحباب القول مثل قول المؤذن
…
، حديث رقم 849 [11]384.
- يعني العالية - كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين» (1).
7 -
ومن فوائد الآية: إثبات أن عيسى نبي من أنبياء الله؛ لقوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} ؛ والله عز وجل أعطاه آيات ليؤمن الناس به؛ ومن الآيات الحسية لعيسى ابن مريم إحياء الموتى بإذن الله؛ وإخراجهم من القبور؛ وإبراء الأكمه، والأبرص؛ وأن يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً يطير بالفعل بإذن الله؛ وهناك آيات شرعية مستفادة من قوله تعالى:{وأيدناه بروح القدس} على أحد التفسيرين السابقين.
8 -
ومنها: أن البشر مهما كانوا فهم في حاجة إلى من يؤيدهم، ويقويهم؛ لقوله تعالى:{وأيدناه بروح القدس} .
9 -
ومنها: الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله؛ لقوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} ؛ أي قويناه؛ ولازم ذلك أنه يحتاج إلى تقوية؛ والذي يحتاج إلى تقوية لا يصلح أن يكون ربًّا، وإلهاً.
10 -
ومنها: الثناء على جبريل عليه السلام حيث وصف بأنه روح القدس؛ ومن وجه آخر: حيث كان مؤيِّداً للرسل بإذن الله؛ لقوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} .
11 -
ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} .
12 -
ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل} ؛ لأن القدرية يقولون: إن فعل العبد ليس بمشيئة الله؛ وإنما العبد مستقل بعمله؛ وهذه الآية صريحة في أن أفعال الإنسان بمشيئة الله.
13 -
ومنها: أن قتال الكفار للمؤمنين كان عن عناد، واستكبار؛ لا عن جهل؛ لقوله تعالى:{من بعد ما جاءتهم البينات} .
14 -
ومنها: لطف الله بالعباد، حيث كان لا يبعث رسولاً إلا ببينة تشهد بأنه رسول؛ وشهادة الله عز وجل لأنبيائه بالرسالة تكون بالقول، وبالفعل؛ مثالها بالقول: قوله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً} [النساء: 166]؛ ومثالها بالفعل: تأييد الله للرسول، ونصره إياه، وتمكينه من قتل أعدائه.
15 -
ومنها: بيان حكمة الله عز وجل في انقسام الناس إلى مؤمن، وكافر؛ لقوله تعالى:{ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ؛ ولولا هذا ما استقام الجهاد، ولا حصل الامتحان.
16 -
ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {آمن} ، و {كفر} ، حيث أضاف الفعل إلى العبد؛ وهم يرون أن الإنسان مجبر على عمله، ولا ينسب إليه الفعل إلا على سبيل المجاز كما يقال: أحرقت النار الخشب؛ وهذه الآية ترد عليهم.
17 -
ومنها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد؛ لقوله تعالى: {يفعل ما يريد} ؛ مع أن الفعل فعل العبد: فالاقتتال فعل العبد؛ والاختلاف فعل العبد؛ لكن لما كان صادراً بمشيئة الله عز وجل وبخلقه، أضافه الله عز وجل إلى نفسه.
18 -
ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} ؛ والإرادة التي اتصف الله بها نوعان: كونية، وشرعية؛ والفرق بينهما من حيث المعنى؛ ومن حيث المتعلق؛ ومن حيث الأثر؛ من حيث المعنى:«الإرادة الشرعية» بمعنى المحبة؛ و «الإرادة الكونية» بمعنى المشيئة؛ ومن حيث المتعلق: «الإرادة الكونية» تتعلق فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه؛ فإذا قيل: هل أراد الله الكفر؟ نقول: بالإرادة الكونية: نعم؛ وبالشرعية: لا؛ لأن «الإرادة الكونية» تشمل ما يحبه الله، وما لا يحبه؛ و «الإرادة الشرعية» لا تتعلق إلا فيما
(1) أخرجه البخاري ص 263، كتاب بدء الخلق، باب 8: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم 2356، وأخرجه مسلم ص 1170، كتاب صفة الجنة، باب 3: ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، حديث رقم 7144 [11]2831.
يحبه الله؛ ومن حيث الأثر: «الإرادة الكونية» لا بد فيها من وقوع المراد؛ و «الإرادة الشرعية» قد يقع المراد، وقد لا يقع؛ فمثلاً:{والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27]: الإرادة هنا شرعية؛ لو كانت كونية لكان الله يتوب على كل الناس؛ لكن الإرادة شرعية: يحب أن يتوب علينا بأن نفعل أسباب التوبة.
فإن قيل: ما تقولون في إيمان أبي بكر؛ هل هو مراد بالإرادة الشرعية، أو بالإرادة الكونية؟ قلنا: مراد بالإرادتين كلتيهما؛ وما تقولون في إيمان أبي طالب؟ قلنا: مراد شرعاً؛ غير مراد كوناً؛ ولذلك لم يقع؛ وما تقولون في فسق الفاسق؟
قلنا: مراد كوناً لا شرعاً؛ إذاً نقول: قد تجتمع الإرادتان، كإيمان أبي بكر؛ وقد تنتفيان، مثل كفر المسلم؛ وقد توجد الإرادة الكونية دون الشرعية، مثل كفر الكافر؛ وقد توجد الشرعية دون الكونية، كإيمان الكافر.
القرآن
التفسير:
يا من آمنتم بالله وصدَّقتم رسوله وعملتم بهديه أخرجوا الزكاة المفروضة، وتصدَّقوا مما أعطاكم الله قبل مجيء يوم القيامة حين لا بيع فيكون ربح، ولا مال تفتدون به أنفسكم مِن عذاب الله، ولا صداقة صديق تُنقذكم، ولا شافع يملك تخفيف العذاب عنكم. والكافرون هم الظالمون المتجاوزون حدود الله.
قال ابن كثير: " يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا"(1).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 254]، أي: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك. يعني استمع لها.؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(2).
قال الشيخ ابن عثيمين: "تقدم مراراً، وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهمية المطلوب؛ لأن النداء يقتضي التنبيه؛ ولا يكون التنبيه إلا في الأمور الهامة، وتوجيه النداء للمؤمنين يدل على أن التزام ما ذكر من مقتضيات الإيمان سواء كان أمراً، أو نهياً؛ وعلى أن عدم امتثاله نقص في الإيمان؛ وعلى الحث، والإغراء، كأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا، مثل ما تقول للحث، والإغراء: يا رجل افعل كذا، وكذا؛ أي لأن ذلك من مقتضى الرجولة"(3).
قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ} [البقرة: 254]، " أي "أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إِيّأه" (4).
روي "عن سعيد بن جبير في قول الله {أنفقوا مما رزقناكم}، يعني: من الأموال"(5).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 671.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير 1/ 196، تحقيق أسعد أحمد الطيب، وسنده: قال ابن أبي حاتم: ثنا أبي نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك ثنا مسعر ثنا معن وأبو عون أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود
…
، ونعيم بن حماد قال الحافظ فيه: صدوق يخطئ كثيرا، وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: أرجو أن يكون باقي حديثه مستقيما، الكامل لابن عدي 8/ 251 - 256، ولم يذكر ابن عدي هذا الأثر ومعن هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ت. التهذيب، وأبو عون، كما في التهذيب هو أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله الأعور؛ وكلاهما ثقة، لكن معن بن عبد الرحمن لم يدرك عبد اله بن مسعود، لأن الحافظ عده من الطبقة السابعة، وأما أبو عون فإنه مات سنة 110 هجريا، وعبد الله بن مسعود مات سنة 33 هـ، ت. التهذيب [9/ 285، 6/ 25]، فيبعد أن يكون قد أدرك ابن مسعود، فيكون حديث معن وأبي عون عن ابن مسعود مرسلا.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 244 - 245.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (2564): ص 2/ 485.
قال البغوي: " حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه"(1).
وقال الأصمّ وأبو عليّ: "أراد النفقة في الجهاد"(2).
قال ابن عثيمين: "الإنفاق بمعنى البذل؛ والمراد به هنا بذل المال في طاعة الله، و {مِمَّا رَزَقْناكُمْ}، أي مما أعطيناكم؛ (من) يحتمل أن تكون بيانية؛ أو تبعيضية؛ والفرق بينهما أن البيانية لا تمنع من إنفاق جميع المال؛ لأنها بيان لموضع الإنفاق؛ والتبعيضية تمنع من إنفاق جميع المال؛ وبناءً على ذلك لا يمكن أن يتوارد المعنيان على شيء واحد لتناقض الحكمين."(3).
وقد اختلف أهل التفسير في نوع الإنفاق في الآية، على أوجه (4):
الأول: قال الحسن (5): هي الزكاة المفروضة.
قال الزمخشري: " أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به"(6).
الثاني: وقال يحيى بن آدم: "هي الصدقة"(7).
الثالث: وقال ابن جريج (8) وسعيد بن جبير (9): هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع.
والراجح-والله أعلم- هو قول ابن جريج ومن وافقه، بأن الآية تجمع بين الزكاة والتطوع، واختاره ابن عطية، قائلا:"وهذا صحيح، فالزكاة واجبة والتطوع مندوب إليه وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل وصلة رحم ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ويقوي ذلك قوله في آخر الآية {والكافرون هم الظالمون}، أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال"(10).
قال القرطبي: "وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه، وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم، وحذرهم من الإمساك إلى أن يجئ يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: "{فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق} " (11).
قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254]، " يعني: يوم القيامة" (12).
قال القاسمي: " {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}، هو يوم القيامة"(13).
قال الشوكاني: "أي: أنفقوا ما دمتم قادرين، من قبل أن يأتي ما لا يمكنكم الانفاق فيه"(14).
قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة: 254]، " أي: لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبًا" (15).
(1) تفسير البغوي: 1/ 484.
(2)
تفسير القاسمي: 2/ 189.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 245.
(4)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 266.
(5)
نقلا عن تفسير القرطبي: 3/ 266.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 299.
(7)
اخرجه ابن ابي حاتم (2563): ص 2/ 485.
(8)
أخرجه الطبري بسنده (5760): ص 5/ 382.
(9)
نقلا عن تفسير القرطبي: 3/ 266.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 339.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 266.
(12)
تفسير ابن كثير: 1/ 671.
(13)
محاسن التأويل: 2/ 189.
(14)
فتح القدير: 1/ 270.
(15)
تفسير ابن كثير: 1/ 671.
قال ابن عثيمين: " وإنما قال سبحانه وتعالى: {لا بيع}؛ لأن عادة الإنسان أن ينتفع بالشيء عن طريق البيع، والشراء؛ فيشتري ما ينفعه، ويبيع ما يضره؛ لكن يوم القيامة ليس فيه بيع"(1).
قوله تعالى: {وَلَا خُلَّةٌ} [البقرة: 254]، أي:" ولا تجدون صديقاً يدفع عنكم العذاب"(2).
قال ابن كثير: " ولا تنفعه خلة أحد، يعني: صداقته بل ولا نسابته كما قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] "(3).
وقداختلف المفسرون في تفسير (الخلة)، على ثلاثة أوجه متقاربة:
الأول: قيل: (الخلة) هي: المودة (4).
قال الراغب: " الخلة من تخلل الود نفسه ومخالطته، كقوله (5):
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي
…
وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا" (6)
يعني أن حبها دخل إلى مسالك الروح، فامتزج بروحه، فصار له كالحياة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر"(7)؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم، اتخذه حبيباً، وقيل له: من أحب النساء إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عائشة"؛ قيل: ومن الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أبوها"(8)؛ فأثبت المحبة؛ وكان أسامة بن زيد يسمى "حِب رسول الله" أي حبيبه؛ إذاً الخلة أعلى من المحبة (9).
قال الراغب: "ولهذا يقال: تمازج روحانا، والمحبة: البلوغ بالود إلى حبة القلب، من قولهم: حببته: إذا أصبت حبة قلبه، لكن إذا استعملت المحبة في الله فالمراد بها مجرد الإحسان، وكذا الخلة، فإن جاز في أحد اللفظين جاز في الآخر؛ فأما أن يراد بالحب حبة القلب، والخلة التخلل، فحاشا له سبحانه أن يراد فيه ذلك، وقوله تعالى: {لا بيع فيه ولا خلة} [البقرة/254]، أي: لا يمكن في القيامة ابتياع حسنة ولا استجلابها بمودة، وذلك إشارة إلى قوله سبحانه: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم/39]، وقوله: {لا بيع فيه ولا خلال} [إبراهيم/31]، فقد قيل: هو مصدر من خاللت، وقيل: هو جمع، يقال: خليل وأخلة وخلال والمعنى كالأول"(10).
الثاني: وقيل: الخلة: خالص المودة (11).
قال الشوكاني: " والخلة خالص المودة مأخوذة من تخلل السرار بين الصديقين أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له"(12).
الثاني: وفسرها جماعة بالصداقة (13).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 245.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 671.
(4)
فسرها بذلك: الراغب في المفردات: 153، والرازي في مفاتيح الغيب: 6/ 222.
(5)
لبيت في البصائر 2/ 557 ولم ينسبه؛ وهو لبشار بن برد في أدب الدنيا والدين: ص 146؛ وتفسير الراغب: 1/ 520.
(6)
مفردات انظر مفردات الراغب، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (مادة خ ل ل) ولسان العرب باب اللام فصل الخاء، والمنهاج شرح مسلم بن الحجاج للنووي: 3/ 56، وفتح الباري: 7/ 23
(7)
أخرجه البخاري ص 39، كتاب الصلاة، باب 80: الخوخة والممر في المسجد، حديث رقم 466؛ وأخرجه مسلم ص 1097، كتاب فضائل الصحابة، باب 1: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث رقم 6170 [2]2382.
(8)
أخرجه البخاري ص 298، كتاب المناقب، باب، حديث رقم 3662؛ أخرجه مسلم ص 1098، كتاب فضائل الصحابة، باب 1 من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث رقم 6177 [8]2384.
(9)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 245 - 246.
(10)
مفردات انظر مفردات الراغب، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (مادة خ ل ل) ولسان العرب باب اللام فصل الخاء، والمنهاج شرح مسلم بن الحجاج للنووي: 3/ 56، وفتح الباري: 7/ 23
(11)
فسرها بها: القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 266، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 402.
(12)
فتح القدير: 1/ 270.
(13)
فسرها بها: الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: 1/ 335، والنحاس في معاني القرآن: 1/ 259، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 93، والثعلبي في الكشف والبيان: 1/ 154 أ، والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 310، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 302، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم: 1/ 377، وأبو حيان في البحر المحيط: 1/ 271 و 276، والسمين في الدر المصون: 1/ 612، .
وأما السمين الحلبي: " والخلة: الصداقة، كأنها تتخلل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها"(1).
قلت: ولا ضير من الآراء السابقة، إذ أن المؤدى واحد، وإن كان الأدق تعبير الراغب ومن وافقه، لأن (الخلة) هي المحبة التي تخلَلَت القلب فصارت خلاله، أي: في باطنه، والمراد بها في الآية أن لا صداقة ولا مودة ولا محبة نافعة عند الله-عز وجل-إلا ما كانت له تعالى كما قال-عز وجل:{الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، أي:" ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له"(2).
قال الصابوني: " ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إِلا أن يأذن الله ربّ العالمين"(3).
قال ابن كثير: " أي: ولا تنفعهم شفاعة الشافعين"(4).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ} [البقرة/ 254]، وفيه وجهان (5):
الأول: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ} بالنصب في كل ذلك بلا تنوين، وفي سورة إبراهيم:{لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [الآية: 31] مثله أيضاً، وفي الطور:{لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} [الآية: 23] مثله.
الثاني: وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: كلّ ذلك بالرّفع والتنوين (6).
قال الشوكاني: "وهما لغتان مشهورتان للعرب ووجهان معروفان عند النحاة، فمن الأول: قول حسان (7):
ألا طعان ألا فرسان عادية
…
ألا يحشئوكم حول التنانير
ومن الثاني: قول الراعي (8):
وما صرمتك حتى قلت معلنة
…
لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ونصب البعض كما هو مقرر في علم الإعراب" (9).
قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، " أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا" (10).
(1) الدر المصون: 2/ 538.
(2)
فتح القدير: 1/ 270.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 145.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 671.
(5)
انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 354 - 355.
(6)
السبعة: 187.
(7)
البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 179 "الحاشية"؛ وتخليص الشواهد ص 414؛ والجنى الداني ص 384؛ وخزانة الأدب 4/ 69، 77، 79؛ وشرح شواهد المغني 1/ 210؛ والكتاب 2/ 306؛ والمقاصد النحوية 2/ 362؛ واللفظ في تلك المصادر: [فما هجرتك حتى قلت معلنة
…
لا ناقة لي في هذا ولا جمل]، ولخداش بن زهير في شرح أبيات سيبويه 1/ 558؛ ولحسان أو لخداش في الدرر 2/ 230؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص 80؛ وشرح عمدة الحافظ ص 318؛ وهمع الهوامع 1/ 147.
اللغة: الطعان: الضرب بالرمح. الفرسان العادية: المقاتلون الظالمون، أو كثيروا العدو وسريعوه. التجشؤ: معروف، صوت يصدر عن امتلاء المعدة. التنانير: جمع تنور وهو الموقد الذي كانوا يخبزون فيه.
(8)
البيت للراعي النميري في ديوانه ص 198؛ وتخليص الشواهد ص 405؛ وشرح التصريح 1/ 241؛ وشرح المفصل 2/ 111، 113؛ والكتاب 2/ 295؛ ولسان العرب 15/ 254 "لقا"؛ ومجالس ثعلب ص 35؛ والمقاصد النحوية 2/ 336؛ واللمع ص 128. شرح المفردات: صرمتك: أي قطعت حبل ودك، ويروى "هجرتك".
(9)
فتح القدير: 1/ 270.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 671.
قال المراغي: أي " والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم"(1).
قال الشوكاني: " فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعا يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق"(2).
قال الصابوني: " أي لا أحد أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً، والكافر بالله هو الظالم المعتدي الذي يستحق العقاب"(3).
قال ابن عثيمين: " أي أن الكافرين بالله هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، وحصر الظلم فيهم لعظم ظلمهم، كما قال تعالى:{إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]؛ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أعظم الظلم أن تجعل لله نداً وهو خلقك (4)(5).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وجهين (6):
الأول: قيل: " أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد"(7).
قال الزمخشري: " أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال {وَالْكافِرُونَ} للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج {مَنْ كَفَرَ} مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} "(8).
الثاني: وقيل: "يحتمل أن يكون المعنى: والكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأموال في غير مواضعها. فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها"(9).
قال القاسمي: " وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات، قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت، من موت أو غيره"(10).
وقد روي ابن ابي حاتم بسنده "عن عطاء بن دينار، أنه قال: الحمد لله الذي قال {والكافرون هم الظالمون}، ولم يقل: الظالمون هم الكافرون"(11).
وروي "عن الجعفي يقول: {والكافرون هم الظالمون} قال: الكافرون بالنعم"(12).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: فضيلة الإنفاق مما أعطانا الله؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ، حيث صدرها بالنداء.
2 -
ومنها: أن الإنفاق من مقتضى الإيمان، وأن البخل نقص في الإيمان؛ ولهذا لا يكون المؤمن بخيلاً؛ المؤمن جواد بعلمه؛ جواد بجاهه؛ جواد بماله؛ جواد ببدنه.
(1) تفسير المراغي: 1/ 485.
(2)
فتح القدير: 1/ 271.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 45.
(4)
أخرجه البخاري ص 367، كتاب تفسير القرآن، 2 سورة البقرة، باب 3: قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)، حديث رقم 4477، وأخرجه مسلم ص 693، كتاب الإيمان، باب 37: بيان كون الشرك أقبح الذنوب
…
، حديث رقم 257 [141]86.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 246 - 247.
(6)
انظر: محاسن التأويل: 2/ 189.
(7)
محاسن اتأويل: 2/ 189.
(8)
تفسير الكشاف: 1/ 299.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 189.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 189.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم (2567): ص 2/ 485.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2568): ص 2/ 486.
3 -
ومنها: بيان منة الله علينا في الرزق؛ لقوله تعالى: {مما رزقناكم} ؛ ثم للأمر بالإنفاق في سبيله، والإثابة عليه؛ لقوله تعالى:{أنفقوا مما رزقناكم} .
4 -
ومنها: التنبيه على أن الإنسان لا يحصل الرزق بمجرد كسبه؛ الكسب سبب؛ لكن المسبِّب هو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {مما رزقناكم} ؛ فلا ينبغي أن يعجب الإنسان بنفسه حتى يجعل ما اكتسبه من رزق من كسبه، وعمله، كما في قول القائل: إنما أوتيته على علم عندي.
5 -
ومنها: الإشارة إلى أنه لا منة للعبد على الله مما أنفقه في سبيله؛ لأن ما أنفقه من رزق الله له.
6 -
ومنها: أن الميت إذا مات فكأنما قامت القيامة في حقه؛ لقوله تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه
…
} إلخ.
7 -
ومنها: أن ذلك اليوم ليس فيه إمكان أن يصل إلى مطلوبه بأي سبب من أسباب الوصول إلى المطلوب في الدنيا، كالبيع، والصداقة، والشفاعة؛ وإنما يصل إلى مطلوبه بطاعة الله.
8 -
ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لأنه تعالى أعقب قوله: {ولا شفاعة} بقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} ؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48].
9 -
ومنها: أن الكفر أعظم الظلم؛ ووجه الدلالة منه: حصر الظلم في الكافرين؛ وطريق الحصر هنا ضمير الفصل: {هم} .
10 -
ومنها: أن الإنسان لا ينتفع بماله بعد موته؛ لقوله تعالى: {أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم} ؛ لكن هذا مقيد بما صح عن رسول الله (ص) أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به؛ أو ولد صالح يدعو له» (1).
11 -
ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {أنفقوا} ، حيث أضاف الفعل إلى المنفقين؛ والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يفعل باختياره؛ وهذا القول يرد عليه السمع، والعقل - كما هو مقرر في كتب العقيدة -.
12 -
ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {مما رزقناكم} ؛ لأننا نعلم أن رزق الله يأتي بالكسب؛ ويأتي بسبب لا كسب للإنسان فيه؛ فإذا أمطرت السماء وأنت عطشان، وشربت فهذا رزق لا كسب لك فيه، ولا اختيار، لكن إذا بعت، واشتريت، واكتسبت المال فهذا لك فيه كسب؛ والله عز وجل هو الذي أعطاك إياه؛ لو شاء الله لسلبك القدرة؛ ولو شاء لسلبك الإرادة؛ ولو شاء ما جلب لك الرزق.
13 -
ومنها: أن إنفاق جميع المال لا بأس به؛ وهذا على تقدير {من} بيانية؛ بشرط أن يكون الإنسان واثقاً من نفسه بالتكسب، وصِدق التوكل على الله.
مسألة (1):
ظاهر الآية الكريمة أن الإنفاق مطلق في أي وجه من وجوه الخير؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد في آيات أُخر، مثل قوله تعالى:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261]، ومثل قوله تعالى:{وأنفقوا في سبيل الله} [البقرة: 195]؛ وعلى هذا فيكون إطلاق الآية هنا مقيداً بالآيات الأُخر التي تدل على أن الإنفاق المأمور به ما كان في سبيل الله - أي في شرعه -.
مسألة (2):
ظاهر الآية نفي الشفاعة مطلقاً؛ وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذه الآية وبين النصوص الأخرى الدالة على إثبات الشفاعة في ذلك اليوم؛ فيقال: الجمع أن يحمل مطلق هذه الآية على المقيد بالنصوص الأخرى، ويقال؛ إن النصوص الأخرى دلت على أن هناك شفاعة؛ لكن لها ثلاثة شروط: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ وإذنه في الشفاعة.
القرآن
(1) أخرجه مسلم ص 963، كتاب الوصية، باب 3: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 4223 [15]1631.
التفسير:
الله الذي لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، الحيُّ الذي له جميع معاني الحياة الكاملة كما يليق بجلاله، القائم على كل شيء، لا تأخذه سِنَة أي: نعاس، ولا نوم، كل ما في السماوات وما في الأرض ملك له، ولا يتجاسر أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، محيط علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة، وما خلفهم من الأمور الماضية، ولا يَطَّلعُ أحد من الخلق على شيء من علمه إلا بما أعلمه الله وأطلعه عليه. وسع كرسيه السماوات والأرض، والكرسي: هو موضع قدمي الرب جل جلاله ولا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه، ولا يثقله سبحانه حفظهما، وهو العلي بذاته وصفاته على جميع مخلوقاته، الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء. وهذه الآية أعظم آية في القرآن، وتسمى: آية الكرسي.
وهذه الآية أعظم آية في كتاب الله" وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات"(1)، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، وقال:«أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي؛ فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر» (2)؛ ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جداً (3)، وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية سيد آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه "(4).
(1) تفسير السعدي: 1/ 111.
(2)
أخرجه مسلم ص 805، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب 44: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، حديث رقم 1885 [258]810.
وردت عدة أحاديث صحيحة تدل على أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن الكريم منها: ما رواه سعيد بن منصور في سننه: 3/ 953، والطبراني في المعجم الكبير: 9/ 142 - 143 رقم: 8659، والبيهقي في شعب الإيمان: 5/ 328 - 329 رقم: 2173: "عن شُتَير بن شَكَل قال حدثنا عبد الله أن أعظم آية في كتاب الله-عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ
…
} إلى آخر الآية، فقال مسروق: صدقت". واللفظ لسعيد، وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 323 وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح".
(3)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 250.
(4)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 51) وعزاه للمصنف والترمذي ومحمد بن نصر وابن المنذر والحاكم والبيهقي في "شعب الإيمان".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 376 - 377 رقم 6019).
والحميدي في "مسنده"(2/ 437 رقم 994).
كلاهما عن سفيان، به، ولفظ عبد الرزاق نحوه، ولفظ الحميدي مثله، إلا أنه زاد في آخره:"آية الكرسي"، وهذه الزيادة عند عبد الرزاق أيضا.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 560 - 561) و (2/ 259) من طريق الحميدي.
ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 327 رقم 2171).
وأخرجه محمد بن نصر في "قيام الليل"(ص 151 / المختصر) من طريق محمود ابن غيلان، عن سفيان، به نحوه.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 637) من طريق إبراهيم بن بشار، عن سفيان به مثله، وزاد في آخره:"الله لا إله إلا هو الحي القيوم".
وأخرجه الترمذي في "سننه"(8/ 181 رقم 3038) في فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة البقرة وآية الكرسي.
والحاكم في الموضعين السابقين من "المستدرك"، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 313 رقم 2158)، كلاهما من طريق زائدة بن قدامة، عن حكيم، به بلفظ:"لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة"، زاد الترمذي:"وفيها آية هي سيدة أي القرآن: آية الكرسي".
قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والشيخان لم يخرجا عن حكيم بن جبير لوهن في رواياته، إنما تركاه لغلوه في التشيع"، ووافقه الذهبي، وتعقبهما الألباني؛ حيث ذكر الحديث في "السلسلة الضعيفة"(3/ 524 - 525 رقم 1348) وحكم عليه بالضعف، ثم ذكر كلام الحاكم، ثم تعقبه بقوله: "ليس كما قال، وإن وافقه الذهبي في تلخيصه؛ فإن أقوال الأئمة فيه إنما تدل على أنهم تركوه لسوء حفظه وليس لفساد مذهبه
…
"، ثم ذكر بعض أقوال الأئمة فيه.
وهناك ما يشهد لمعناه، عدا قوله:"إن لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة":
فمن ذلك ما أخرجه مسلم في "صحيحه"(1/ 56 رقم 258) في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال: قلت: الله لا إله إلا الله هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري، وقال:"والله ليهنك العلم أبا المنذر".
وأخرج مسلم أيضا في "صحيحه"(1/ 539 رقم 212) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".
وأخرج البخاري في "صحيحه"(9/ 55 رقم 5010) في فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، من حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان الذي كان يسرق من الزكاة التي وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وفيه يقول الشيطان: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لم يزل معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان"
قال القرطبي: " هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية .. نزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها"(1).
وفي مدى جواز تفاضل آي القرآن العظيم ومنه الأسماء الحسنى، قد بحث أرباب العلم والسادة الفقهاء هذه المسألة من جميع الوجوه، وكانت آراؤهم مختلفة كالآتي (2):
القول الأول: رأي المجيزين للتفاضل بين الآيات وكذلك الاسماء الحسنى.
أولاً: رأي أبي حامد الغزالي: ذهب أبو حامد الغزالي إلى اعتماد التفضيل وأن بعض الآيات أشرف من بعض مستدلاً على ذلك بما ذكرناه من أحاديث واردة في تفضيل بعض السور على بعض، يقول الغزالي:"لعلك تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل القرآن على بعض والكل قول الله تعالى، فكيف يفارق بعضها بعضاً؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض، فاعلم: أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الأخبار على شرف بعض الآيات، وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة"(3)، ثم ساق الغزالي الأدلة المبينة تفاضل السور والآيات، كما ذكرناها في المباحث الأولى من هذا البحث.
وقال أيضاً: "والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن بتخصيص بعض الآيات والسور بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى قاطبة من كتب الحديث إن أردته"(4).
ثانياً: رأى القاضي عياض: بعد أن ذكر ما ورد في تفضيل آية الكرسي قال: "فيه حجة للقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب الله تعالى"(5).
ثالثاً: رأي العلامة القاسمي: بعد أن أورد فضائل سورة الفاتحة قال: "واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم إسحاق بن راهويه،
(1) تفسير القرطبي: 2/ 368.
(2)
أنظر: الدر المنظم في اسم الله الأعظم، دراسة وتحقيق: د. جابر بن ايد السميري (بحث منشور في الشبكة الألكترونية).
(3)
جواهر القرآن ودرره للغزالي، ص 37، وانظر: البرهان في علوم القرآن 1/ 439.
(4)
جواهر القرآن، ص 38، وانظر: تفسير القرطبي 1/ 126.
(5)
شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 93 - 94، وانظر: فتح الباري 9/ 54، 65.
وأبو بكر بن العربي، وابن الحصار من المالكية وذلك بيّن واضح" (1)، ويقصد بقوله: بيّن واضح من خلال الأخبار الصحيحة الواردة في هذا المجال.
رابعاً: رأي الإمام القرطبي: بعد أن ذكر الاختلاف قال: "وقال قوم بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجوداً مثلاً في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وما كان مثلها، والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها، لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق"(2).
إذاً هذا التفضيل الذي ذهب إليه القرطبي بالنظر إلى ما تضمنته هذه السور والآيات من المعاني والأصول لا من ناحية الأجر والثواب فقط كما ذهب إليه الطرف الآخر، وذكر القرطبي أن هذا الاختيار هو اختيار مجموعة من العلماء كالقاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار لما ورد من أخبار في هذا المجال حتى قال ابن الحصار:"عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص"(3)، ونقل عن ابن العربي قوله: "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها – الفاتحة – وسكت عن سائر الكتب، كالصحف المنزلة والزبور وغيرها؛ لأن هذه المذكورة أفضلها، وإذا كان الشيء أفضل الأفضل، صار أفضل الكل؛ كقولك زيد أفضل العلماء، فهو أفضل الناس، وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها؛ حتى قيل: إن جميع القرآن فيها
…
وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم
…
وهي تضمنت التوحيد والعبادة" (4).
خامساً: رأي ابن تيمية: أفرد ابن تيمية لهذه المسألة ومتعلقاتها كتاباً خاصاً سماه (جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الله من أن "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن)، حيث دلل على ما ذهب إليه من جواز التفضيل بالأدلة الكثيرة ورد على من ينفي ذلك وأنه يعارض بنفيه جميع الأدلة الشرعية المؤيدة للتفاضل فقال:"وفي الجملة فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقلية على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"(5)، ثم يذهب يبين في أي شيء يحصل التفاضل فيقول: "فمعلوم أن الكلام له نسبتان، نسبة إلى المتكلم فيه، فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً
…
"فقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب كلاهما كلام الله وهما مشتركان في هذه الجهة، ولكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه المخبر عنه: فهذا كلام الله وخبره الذي يخبر به عن نفسه وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه، وهذا كلام الله الذي يتكلم عن بعض خلقه، ويخبر به عنه ويصف به حاله، وهما في هذه الجهة متفاضلان بحسب تفاضل المعنى المقصود بالكلامين
…
" (6)، ثم تابع شرحه لما ذهب إليه قائلاً: "فليس الخبر المتضمن للحمد لله والثناء عليه بأسمائه الحسنى، كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس، وإن كان هذا كلاماً عظيماً معظماً يكلم الله به
…
" (7)، ونسب إلى السلف الصالح القول بالتفاضل فقال: "والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم" (8).
(1) تفسير القاسمي 1/ 239، وانظر: مجموع الفتاوى، 17/ 56، 73، 76، 77.
(2)
تفسير القرطبي 1/ 127، وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 440.
(3)
تفسير القرطبي 1/ 127، وانظر: تفسير القاسمي 1/ 240.
(4)
تفسير القرطبي 1/ 127، وانظر: فتح الباري 11/ 98، 99، والإتقان للسيوطي، وشرح صحيح مسلم 6/ 93 - 94، وزاد المعاد 1/ 120.
(5)
جواب أهل العلم والإيمان، ص 71، وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 46.
(6)
جواب أهل الإيمان، ص 72، وانظر: شفاء العليل لابن القيم، ص 85.
(7)
جواب أهل الإيمان، ص 72، وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 10.
(8)
جواب أهل الإيمان، ص 31، وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 70، وانظر: شفاء العليل لابن القيم، ص 584.
القول الثاني: آراء الرافضين لمسألة التفضيل بين سور وآي القرآن الكريم وأدلتهم:
ذكر الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي مسألة التفضيل فقال: "وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض؛ لأن الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينهما
…
احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه" (1).
ونقل عن ابن حبان قوله: "أعظم سورة، أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض"(2).
وقال النووي: "وفي التفضيل خلاف للعلماء فمنع منه أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والعلماء لأن تفضيل بعضه يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله نقص به وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق أعظم وأفضل في بعض الآيات والسور بمعنى عظيم وفاضل"(3).
والراجح في هذه المسألة-والله أعلم-، ثبوت التفضيل لما جاء من الأخبار الصحيحة فيه وأن التفضيل يكون في التفاوت في المعاني ولا مانع أن يكون في زيادة الثواب، أما ما ذهب إليه المانعون من التفضيل خوفاً من دخول النقصان على القرآن فلا معنى له؛ لأن الجميع متفق على أن السور والآيات كلام الله فهو من هذا الجانب لا يتفاضل كما قال ابن تيمية وغيره، ولكن من ناحية المعاني فلا يخفى على أحد كما قال عز الدين بن عبد السلام:"كلام الله في الله أفضل من كلام الله في غيره فـ "قل هو الله أحد" أفضل من {تب يدا أبي لهب} "(4)، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي للأدلة الصريحة وقال:"إنما صارت آية الكرسي أعظم لعظم مقتضاها، فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته"(5).
بل ربما يكون منع التفاضل إنكار لموجب النصوص الشرعية، فإن المثبت لهذه المفاضلة معتصم بالكتاب والسنة، وأما النافي فليس معه آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما معه مجرد رأي يزعم أن عقله دل عليه، ومنازعه يبين أن العقل إنما دل على نقيضه، وأن خطأه معلوم بصريح المعقول، كما هو معلوم بصحيح المنقول (6).
بل إذا نظرت في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، قال ابن تيمية:"فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى، فدل ذلك على أن الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى، وأيضاً فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله، مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة"(7).
قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [البقرة: 255]، " أي: ما إله إلا هو" (8).
قال جابر بن زيد: "اسم الله الأعظم هو: الله"(9).
وقال ابن عباس: " {لا إله إلا هو}: توحيده"(10).
قال الشوكاني: " أي: لا معبود بحق إلا هو"(11).
(1) البرهان في علوم القرآن 1/ 438، وانظر: إيثار الحق، ص 329 - 330.
(2)
البرهان في علوم القرآن 1/ 438.
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 93.
(4)
البرهان في علوم القرآن 1/ 439.
(5)
السابق 1/ 442، وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 97.
(6)
انظر: جواب أهل العلم والإيمان، ص 103، 159.
(7)
السابق، ص 28، وانظر: مجموع الفتاوى 17/ 6 - 15.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 270.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2569): ص 2/ 486.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2570): ص 2/ 486.
(11)
فتح القدير: 1/ 271.
قال ابن كثير: " إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق"(1).
قال السيوطي" يريد الذي ليس معه شريك فكل معبود من دونه فهو خلق من خلق لا يضرون ولا ينفعون ولا يملكون رزقا ولا حياة ولا نشورا"(2).
قال ابن عثيمين: "و {إله} بمعنى مألوه؛ و «المألوه» بمعنى المعبود حباً، وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى؛ والآلهة المعبودة في الأرض، أو المعبودة وهي في السماء - كالملائكة - كلها لا تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها لا تستحق ذلك؛ الذي يستحقه رب العالمين، كما قال تعالى:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21]، وقال تعالى:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62](3).
قال السعدي: " أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة"(4).
قوله تعالى: {الْحَيُّ} [البقرة: 255]، " أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا" (5).
قال السيوطي: "الذي لا يبلى"(6).
عن الربيع قوله: " {الحي}، حي لا يموت"(7). وروي عن قتادة نحو ذلك (8).
قال السعدي: " فالحي: من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة"(9).
وقد ذكر أهل العلم في تفسير قوله تعالى {الْحَيُّ} [البقرة: 255]، أربعة تأويلات (10):
أحدها: أنه سمى نفسه حياً لصَرْفِه الأمور مصارِفها، وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتقدير لا بحياة.
والثاني: أنه حي بحياة هي له صفة.
والثالث: أنه اسم من أسماء الله تَسَمَّى به، فقلناه تسليماً لأمره.
والرابع: أن المراد بالحي: الباقي، قاله السدي (11)، ومنه قول لبيد (12):
فإمّا تَرَيْني اليَوْمَ عِندَكِ سالِماً
…
فَلستُ بأحْيا مِنْ كِلابٍ وجَعْفَرِ
قوله تعالى: {الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، أي:" القائم على كل شيء"(13).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 678.
(2)
الدر المنثور: 2/ 9.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 250 - 251.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 678.
(6)
الدر المنثور: 2/ 9.
(7)
أخرجه الطبري (5763): ص 5/ 387.
(8)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2571): ص 2/ 486.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 387 وما بعدها، ونقلها الماوردي في النكت والعيون: 1/ 323.
(11)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 271، وتفسير البحر المحيط: 2/ 206، والنكت والعيون: 1/ 323.
(12)
ديوانه: 44، والبيت وردت في كتب التفاسير بلفظ (إذا ما تَرَيَنِّي اليومَ أصْبَحْتُ سَالِماً)، أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 271، وتفسير البحر المحيط: 2/ 206، والنكت والعيون: 1/ 323، وأضواء البيان: 3/ 412.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 388.
قال السيوطي: " الذي لا يزول"(1).
قال ابن كثير: أي " القيم لغيره .. فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] "(2).
قال السعدي: " القيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره"(3).
وقال ابن عثيمين: {القيوم} ، أي:"القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه"(4).
وقرأ وابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش: {القَيَّام} بالألف، وروي ذلك عن عمر (5).
قال الشوكاني: " ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب واصح بناء وأثبت علة"(6).
وقوله {الْقَيُّومُ} أصله (القيووم)، سبق عين الفعل، وهي (واو)، (ياء) ساكنة، فأدغمتا فصارتا (ياء) مشددة، وكذلك تفعل العرب في كل (واو) كانت للفعل عينا، سبقتها (ياء) ساكنة. ومعنى قوله:{القيوم} ، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية بن الصلت الثقفي (7):
لم تخلق السماء والنجوم
…
والشمس معها قمر يعوم
قدره المهيمن القيوم
…
والجسر والجنة والجحيم
إلا لأمر شأنه عظيم (8).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى {الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وجوها (9):
الأول: القائم بتدبير خلقه، قاله الربيع (10)، وروي عن مجاهد (11) وقتادة (12) والسدي (13) والضحاك (14)، نحو ذلك.
الثاني: يعني القائم على كل نفس بما كسبت، حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به، لا يخفى عليه شيء منه، قاله الحسن (15) ، ونحوه عن مقاتل بن سليمان (16).
الثالث: أنه الذي لا يزول ولا يحول، قاله ابن عباس (17) والحسن (18).
(1) الدر المنثور: 2/ 9.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 678.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 251.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 340، وتفسير ابن كثير: 1/ 678، وفتح القدير: 1/ 271.
(6)
فتح القدير: 1/ 271.
(7)
ديوانه: 57، والقرطبي 3: 271، وتفسير أبي حيان 25: 277، والقرطبي (قمر يقوم)، وهو لا معنى له، والصواب (قمر يعوم)، عامت النجوم تعوم عوما: جرب، مثل قولهم: سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا.
(8)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 388.
(9)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 388 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 323 - 324.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2572): ص 2/ 486. واخرجه الطبري (5766): ص 5/ 388.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم (2573): ص 2/ 486. وأخرجه الطبري (5765): ص 5/ 388.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2574): ص 2/ 486.
(13)
أخرجه الطبري (5767): ص 5/ 388. قال: " وهو القائم". ونقل عنه القرطبي: أن معنى {القيوم} ، أي "الحي الباقي"، ثم استشهد له بقول لبيد [ديوانه: 44]:
فإما تريني اليوم أصبحت سالما
…
فلست بأحيا من كلاب وجعفر
أي: "فلست بأبقى". [أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 271، وتفسير البحر المحيط: 2/ 206، ورواية الديوان: فإمّا تَرَيْني اليَوْمَ عِندَكِ سالِماً].
(14)
أخرجه الطبري (5768): ص 5/ 389. قال: "القائم الدائم".
(15)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 271. ونقل عبدالله بن حسن الأزهري ذلك عن سعيد بن جبير. انظر: [حاشية لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر: 14]، ونقل الماوردي عنه تفسير {القيوم} بمعنى "القائم الوجود". [انظر: النكت والعيون: 1/ 323].
(16)
أنظر: تفسيره: 1/ 86.
(17)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 271. نقل القرطبي عن ابن عباس هذا القول ومن ثم استشهد بأبيات أمية بن أبي الصلت السابق التي ذكرها الطبري، وعنده (قمر يقوم)، وهو لا معنى له، والصواب (قمر يعوم) / كما أن موطن الشاهد للأبيات عند الطبري هو للدلالة على أن معنى (القيوم) هو: "القائم برزق ما خلق وحفظه" [تفسير الطبري: 5/ 388]، في حين أن القرطبي استشهد بالأبيات للدلالة على أن معناها: ": أنه الذي لا يزول ولا يحول".
(18)
أخرجه ابن ابي حاتم (2575): ص 2/ 487.
الرابع: أنه العالم بالأمور، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب، أي هو عالم به (1).
الخامس: وقيل: أنه اسم من أسماء الله، مأخوذ من الاستقامة (2).
وقد روي "عن أسماء بنت يزيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، و {إلهكم إله واحد} [فصلت: 6] "(3).
قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، "أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم"(4).
قال الطبري: " لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما"(5).
قال ابن كثير: " أي: لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم"(6).
و(السِنَة): النعاس، قاله ابن عباس (7) والحسن (8) والضحاك (9) وجوبير (10) والسدي (11) والربيع (12) ورافع (13) وابن يد (14)، وهو قول الجمهور" (15)، والمعنى: أنه-سبحانه-لا يغفل عن تدبير أمر الخلق (16).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 323.
(2)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 324.
(3)
اخرجه عبد بن حميد في المتحب (1576): ص 2/ 415. وإسناده ضعيف: فيه عبيد الله بن أبي زياد وهو ضعيف وشهر بن حوشب متكلم فيه. وأخرجه أبو داود حديث رقم "1496"، ولفظه:"اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} وفاتحة سورة آل عمران {الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، والترمذي حديث رقم "3478" وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه حديث رقم "3855"، وأحمد "6/ 46" ولفظه عنده: عن أسماء بنت يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذين الآيتين: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} {الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم}: "إن فيهما اسم الله الأعظم"، والدارمي "2/ 450".
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 251.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 389.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 678. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". [صحيح مسلم برقم (179)].
(7)
أخرجه الطبري (5769): ص 5/ 391.
(8)
أخرجه الطبري (5771): ص 5/ 391.
(9)
أخرجه الطبري (5772): ص 5/ 391.
(10)
أخرجه الطبري (5773): ص 5/ 391 - 392.
(11)
أخرجه الطبري (5775): ص 5/ 392.
(12)
أخرجه الطبري (5776): ص 5/ 392.
(13)
أخرجه الطبري (5777): ص 5/ 392.
(14)
أخرجه الطبري (5778): ص 5/ 392.
(15)
النكت والعيون: 1/ 324، وانظر: القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 272.
(16)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 13/ 78، الصحاح للجوهري: 6/ 2214، لسان العرب لابن منظور: 6/ 4839، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 78، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 93، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 337، معاني القرآن للنحاس: 1/ 261، جامع البيان للطبري: 5/ 389، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 303، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 274، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 382، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 271، الدر المصون للسمين.: 1/ 613، فتح القدير للشوكاني: 1/ 403، وغيرها.
قال الماوردي: "والنعاس ما كان في الرأس، فإذا صار في القلب صار نوماً، وفرَّق المفضل بينهما، فقال: السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السِّنة والنعاس أشبه، قال عدي بن الرقاع (1):
وسْنَانُ أقصده النعاس فرنقت
…
في عينه سنة وليس بنائم" (2)
وذكر الطبري بأن (الوسن): خثورة النوم (3) في عين الإنسان، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس (4):
تعاطى الضجيع إذا أقبلت
…
بعيد النعاس وقبل الوسن
وقوله الآخر (5):
باكرتها الأغراب في سنة النو
…
م فتجري خلال شوك السيال
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه:" وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان "، إذا كان كذلك (6).
(1) من أبيات له في الشعر والشعراء: 602، والأغانى 9: 311، ومجاز القرآن 1: 78، واللسان (وسن)(رنق)، وفي جميعها مراجع كثيرة، وقبل البيت في ذكرها صاحبته " أم القاسم ":
وكأنها وسط النساء أعارها
…
عينيه أحور من جاذر جاسم
وسنان أقصده النعاس ..........
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يصطاد يقظان الرجال حديثها
…
وتطير بهجتها بروح الحالم
والجآذر بقر الوحش، وهي حسان العيون. وجاسم: موضع تكثر فيه الجآذر. و " أقصده النعاس " قتله النعاس وأماته. يقال: " عضته حبة فإقصدته "، أي قتلته على المكان - أي من فوره. و " رفقت " أي خالطت عينه. وأصله من ترنيق الماء، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على الماء. وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه، وهو رفرفته إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر، وهذا المجازأعجب إلى في الشعر.
(2)
النكت والعيون: 1/ 324.
(3)
الخثورة: نقيض الرقة، يقال:" خثر اللبن والعسل ونحوهما "، إذا ثقل وتجمع، والمجاز منه قولهم:" فلان خاثر النفس " أي ثقيلها، غير طيب ولا نشيط، قد فتر فتورا. واستعمله الطبري استعمالا بارعا، فجعل للنوم " خثورة "، وهي شدة الفتور، كأنه زالت رقته واستغلط فثقل، وهذا تعبير لم أجده قبله.
(4)
ديوانه: 15، وهو يلي البيت الذي سلف 1: 345، 346، وفي ذكر نساء استمع بهن:
إذا هن نازلن أقرانهن
…
وكان المصاع بما في الجون
تعاطى الضجيع ...........
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صريفية طيبا طعمها
…
لها زبد بين كوب ودن
وقوله " تعاطى " من قولهم للمرأة: " هى تعاطى خلها " أي صاحبها - أن تناوله قبلها وريقها.
وقوله: " أقبلت "، هو عندي بمعنى: سامحت وطاوعت وانقادت، من " القبول " وهو الرضا. ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة، ولكنه جيد في العربية، شبيه بقولهم:" أسمحت "، من السماح، إذا أسهلت وانقادت ووافقت ما يطلبه صاحبها. وذلك هو الجيد عندي. ليس من الإقبال على الشيء. بل من القبول. ويروي مكمان ذلك:" إذا سامها "، ورواية الديوان:" بعيد الرقاد وعند الوسن "
والصريفية: الخمر الطيبة، جعلها صريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا حلب. وفي الديون:" صليفية "، باللام، والصواب بالراء يقول: إذا انقادت لصاحبها بعيد رقادها، أو قبل وسنها، عاطته من ريقها خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب والدن، ولم يمض وقت عليها فتفسد. يقول: ريفها هو الخمر، في يقظتها قبل الوسن - وذلك بدء فتور الفس وتغير الطباع - وبعد لومها، وقد تغيرت أفواه البشر واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين. وذلك قل أن يكون في النساء أو غيرهن.
(5)
ديوانه: 5، واللسان (غرب)، من قصيدة جليلة، أفضى فيها إلى ذكر صاحبته له يقول قبله:
وكأن الخمر العتيق من الإسفنط
…
ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب .......................
…
...............................
الإسفنط: أجود أنواع الخمر وأغلاها. وباكرتها، أي في أول النهار مبادرة إليها.
والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون)، وهو القدح. والسيال: شجر سبط الأغصان، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى، وتشبه به أسنانهن يقول: إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها، بل كأن الخمر تجرى بين ثناياها طيبة الشذا. وقوله:" باكرتها الأغراب "، وهو كفوله في الشعر السالف أنها " صريفية " أي أخذت من دنها لسعتها. يقول: ملئت الأقداح منها بكرة، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها، وذلك أطيب لها.
(6)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 390 - 391.
قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} [البقرة: 255]، أي " له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض، لا شريك له في ذلك"(1).
قال البغوي: " ملكا وخلقا"(2).
قال الصابوني" أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه"(3).
قال الطبري: "يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه"(4).
قال السعدي: " أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض"(5).
قال ابن كثير: " إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95] " (6).
قال ابن عطية: " وجاءت العبارة بـ {ما}، وإن كان في الجملة من يعقل، من حيث المراد الجملة والموجود"(7).
قال أبو حيان: " و: {ما}، للعموم تشمل كل موجود، و: اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى، وكرر: ما، للتوكيد. وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات: كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية: كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق"(8).
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، أي:"من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم"(9).
قال السعدي: أي: " لا أحد يشفع عنده بدون إذنه"(10).
قال الصابوني: " أي: لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى"(11).
قال الطبري: " وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي"(12).
قال ابن عثيمين: " حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه جلّ وعلا، وهيبته؛ وكلما كمل السلطان صار أهيب للملِك، وأعظم؛ حتى إن الناس لا يتكلمون في مجلسه إلا إذا تكلم؛ وانظر وصف رسولِ قريشٍ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم"(13). و (الشفاعة) في اللغة: مصدر من الشفع ضد الوتر (14)؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة (15)؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما لا يطيقون (16): شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة (17): شفاعة في جلب منفعة (18).
(1) تفسير الطبري: 21/ 561.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 312.
(3)
صفوة التفاسير: 2/ 190.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 395.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 678.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 341.
(8)
البحر المحيط: 2/ 207.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 395.
(10)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(11)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 395.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 252 - 253.
(14)
انظر: معجم مقاييس اللغة: (شفع): 510.
(15)
انظر: القول المفيد شرح كتاب التوحيد (1/ 433).
(16)
مسند أحمد (9340): ص 2/ 436. قال: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَدُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً ثُمَّ قَالَ أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ عز وجل الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ عز وجل فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ عليه السلام إِنَّ رَبِّي عز وجل قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ نُوحٌ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ [ص: 436] يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ فَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى عليه السلام فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ هَكَذَا هُوَ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ اشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".
(17)
قال مسلم (297): ص 1/ 188: " وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ".
(18)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 252.
قال القرطبي: " وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] "(1).
وقال ابن عطية: "والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة"(2).
قال الشوكاني: " {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصد في وجوههم والفت في أعضادهم مالا يقادر قدره ولا يبلغ مداه"(3).
قال أبو حيان: " والإذن هنا معناه الأمر، كما ورد: إشفع تشفع، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر"(4).
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، يعني:"أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه"(5)
قال الحجاي: "العالم وحده بالخفيات يعلم الكليات والجزئيات"(6).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، وجوها (7):
أحدهما: ما بين أيديهم: هو ما قبل خلقهم، وما خلفهم: هو ما بعد موتهم.
الثاني: ما بين أيديهم: هو الدنيا، وما خلفهم: الآخرة. قاله الحكم (8) وروي نحوه عن ابن مجاهد (9) وجريج (10) والسدي (11).
الثالث: ما بين أيديهم: ما أظهروه، وما خلفهم: ما كتموه.
الرابع: {يعلم ما بين أيديهم} أي المستقبل؛ {وما خلفهم} أي الماضي، قاله الشيخ ابن عثيمين (12).
قال أبو حيان: " والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به، كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، وأنت تعني بذلك جميع جسده، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات، لا يعزب عنه شيء، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين. كما ذهبوا إليه"(13).
قال السعدي: " فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى"(14).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 273.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 341.
(3)
فتح القدير: 1/ 272.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 207.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 396.
(6)
التفسير الواضح: 1/ 167.
(7)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 396.
(8)
أخرجه الطبري (5781): ص 5/ 396.
(9)
أخرجه الطبري (5782): ص 5/ 396.
(10)
أخرجه الطبري (5783): ص 5/ 396.
(11)
أخرجه الطبري (5784): ص 5/ 396.
(12)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 253. ثم قال: " وقد قيل بعكس هذا القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ لا يساعد عليه".
(13)
البحر المحيط: 2/ 208.
(14)
تفسير السعدي: 1/ 110.
قال ابن عثيمين: " و «العلم» عند الأصوليين: إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً؛ فعدم الإدراك: جهل؛ والإدراك على وجه لا جزم فيه: شك؛ والإدراك على وجه جازم غير مطابق: جهل مركب؛ فلو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «لا أدري» فهذا جهل؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «إما في الثانية؛ أو في الثالثة» فهذا شك؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «في السنة الخامسة» فهذا جهل مركب؛ والله عز وجل يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً لها جملة، وتفصيلاً؛ وعلمه ليس كعلم العباد"(1).
قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، أي:" لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه"(2).
عن السدي: " {ولا يحيطون بشيء من علمه}، يقول: لا يعلمون بشيء من علمه " إلا بما شاء "، هو أن يعلمهم"(3).
قال الشوكاني: " والعلم هنا بمعنى المعلوم أي لا يحيطون بشيء من معلوماته"(4).
قال القاسمي: " الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته، والاشتمال عليه، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، كما جاء في حديث موسى والخضر: "ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" (5)، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات، وقالوا: اللهم اغفر علمك فينا، أي معلومك، والمعنى: لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئاً إلاّ ما شاء أن يُعلمهم، قاله الكلبي. وقال الزجاج: إلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم"(6).
قال الطبري: " أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله محص له دون سائر من دونه وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم؟ ! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها"(7).
وقد ذكر أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، ثلاثة معاني (8):
المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه.
المعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السموات، والأرض - إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه.
المعنى الثالث: وقيل: إلا بما أنبأ الأنبياء تثبيتا لنبوتهم (9).
وقوله تعالى: {إِلَاّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، فإن {ما} يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي: إلا بمشيئته؛ ويحتمل أن تكون موصولة؛ أي: إلا بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفاً؛ والتقدير: إلا بما شاءه (10).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 253.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 341.
(3)
أخرجه الطبري (5786): ص 5/ 397.
(4)
فتح القدير: 1/ 272.
(5)
صحيح البخاري (122): ص 1/ 57. من حديث أبي بن كعب.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 208.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 396 - 397.
(8)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 253، وتفسير أبي المظفر السمعاني: 2/ 394، والوسيط: 1/ 368، وتفسير البغوي: 1/ 312، وتفسير العز بن عبالسلام: 1/ 331.
(9)
أنظر: تفسير أبي المظفر السمعاني: 2/ 394، والوسيط: 1/ 368، وتفسير البغوي: 1/ 312.
(10)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 253 - 254.
وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، يعني: شمل، وأحاط" (1)، كرسيه السماوات والأرض.
قال الشوكاني: " (الكرسي) الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة وأخطئوا في ذلك خطأ بينا وغلطوا غلطا فاحشا، وقال بعض السلف إن الكرسي هنا عبارة عن العلم، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري
…
والحق القول الأول ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطا واسعا" (2).
قال ابن عاشور: " والجمهور قالوا: إن الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته"(3).
وقد اختلف أهل التفسير في (الكرسي) الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السماوات والأرض، وذكروا فيه أوجها (4):
الاول: أنه علم الله، قاله ابن عباس (5). ورجحه الطبري (6).
الثاني: ملك الله، أي:": وسع ملكه، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك"(7).
الثالث: أنه العرش نفسه، قاله الحسن (8). قال القاسمي:" وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيّها مترادفان. ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38]، فالعرش والكرسيّ هما شيء واحد وإنما سماه هنا. كرسيّا، إعلاما باسم له آخر"(9).
واختاره ابن عاشور، قائلا:" وهذا هو الظاهر لأن الكرسي لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية وتكرر ذكر العرش، ولم يرد ذكرهما مقترنين، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم [المؤمنون: 86] "(10).
الرابع: عظمة الله. اختاره القفال قائلا: "المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم"(11).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 254.
(2)
فتح القدير: 1/ 272.
(3)
التحرير والتنوير: 3/ 23.
(4)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 324 - 326، وتفسير الطبري: 5/ 397 - 398.
(5)
أخرجه الطبري (5787): ص 5/ 397، وانظر: المعجم الكبير للطبراني 12/ 93، حديث رقم 12404؛ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/ 326)؛ وراجع مستدرك الحاكم 2/ 282، كتاب التفسير، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
وفي سند هذا القول ضعفا قال ابن منده: "وهذا حديث مشهور عن مطرِّف عن جعفر بن أبي المغيرة لم يتابعْ عليه"اهـ، وقال أيضا:"ورواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسيُّ علمه ولم يتابَع عليه جعفرٌ وليس هو بالقويّ في سعيد بن جُبير"اهـ. الردّ على الجهمية: 1/ 21، وينظر: ميزان الاعتدال: 1/ 417 ترجمة جعفر بن أبي المغيرة، والسنة لعبد الله بن أحمد: 2/ 500.
(6)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 401.
(7)
تفسير الكشاف/ 1/ 301.
(8)
أخرجه الطبري (5795): ص 5/ 399.
وممن رجح أنّ المراد بالكرسي العرش: الزجاج: 1/ 288 وابن الأنباري إذ يقول: " الذي نذهب إليه ونختاره: القول الأول؛ لموافقته الآثار، ومذاهب العرب، والذي يحكى عن ابن عباس: أَنَّه عِلْمُه، إنما يروى بإسناد مطعون وقيل إن كرسيه قًدْرَتَهُ التي بها يُمسك السماوات والأرض، من قولهم: اِجْعَلْ لهذا الحائطِ كرسياً، أي: اِجعَلْ له ما يعمِدُه ليمسكه حكاه الزجاج وغيره". وينظر: تهذيب اللغة ولسان العرب: (كرس) والقرطبي: 3/ 277 ومجموع الفتاوى: 6/ 584 والعلو للذهبي: ص 117 وعمدة القاري: 18/ 126.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 192.
(10)
التحرير والتنوير: 3/ 23.
(11)
البحر المحيط: 2/ 208.
الخامس: أنه: موضع القدمين. قاله ابن عباس (1)، أبو موسى (2) والسدي (3) والضحاك (4) ومسلم البطين (5)، وقالوا بأن الكرسي هو موضع القدمين، "لأن الجالس على عرش يكون مرتفعا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربع"(6).
قال الطبري: " ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع - ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله "(7) " (8).
ثم قال: " وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال: " هو علمه " (9)، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: {ولا يؤوده حفظهما} على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: {وسع كرسيه السموات والأرض} "(10).
وقد ذكر العلماء بأن أصل الكرسي (العلم)، ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب: كراسة، قال أبو ذؤيب:
مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه
…
ولا بكرسيّ عليم الغيب مخلوق
(1) راجع المعجم الكبير للطبراني 12/ 93، حديث رقم 12404؛ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/ 326)؛ وراجع مستدرك الحاكم 2/ 282، كتاب التفسير، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
قال ابن عثيمين: " و «الكرسي» هو موضع قدمي الله عز وجل؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً، ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري [راجع البخاري ص 612 – 613، كتاب الاعتصام بالسنة، باب 25: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء"، حديث رقم 7363]، أنه كان ينهى عن الأخذ عن بني إسرائيل". [تفسير ابن عثيمين: 3/ 254].
(2)
أخرجه الطبري (5789): ص 5/ 398.
(3)
أخرجه الطبري (5790): ص 5/ 398.
(4)
أخرجه الطبري (5791): ص 5/ 398.
(5)
أخرجه الطبري: (5792): ص 5/ 398.
(6)
التحرير والتنوير: 3/ 23.
(7)
أخرجه الطبري موقوفا (5796): ص 5/ 400. رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم: 4726).
(8)
تفسير الطبري: 5/ 400.
(9)
قال الشيخ محمود شاكر محقق تفسير الطبري، معلقا على قول الطبري:" العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى " الكرسي " هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا " العلم "، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر! ! .... "[تفسير الطبري: 5/ 401].
قلت: لا تناقض في كلام الإمام الطبري، فهو قال: أنّ الأولى الأخذ بما دلّ عليه الحديث، ثم بيّن أن السياق القرآني عنده دلّ على ترجيح القول الآخر، والترجيح بالسياق لا يتعارض مع الترجيح بالحديث هنا، إذ ليس في صحيح الحديث هنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فسّر المراد بالكرسي في الآية ولا فسره بعلم الله أو العرش، ف الطبري يثبت الكرسي على ماجاء به الأثر بغض النظر عما إذا كان هو المراد بهذه الاية.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 401 - 402.
وقول الراجز (1):
حتى إذا ما احتازها تكرسا
يعني علم.
وقيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض، لأنهم الذين بهم تصلح الأرض، قال الشاعر (2):
يحف بهم بيضُ الوجوه وعُلية
…
كراسيُّ بالأحداث حين تنوبُ
أي علماء بحوادث الأمور، ونوازلها (3).
قال الطبري: ". والعرب تسمي أصل كل شيء " الكرس "، يقال منه: " فلان كريم الكرس "، أي كريم الأصل، قال العجاج (4):
قد علم القدوس مولى القدس
…
أن أبا العباس أولى نفس
بمعدن الملك الكريم الكِرْس
يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى: في معدن العز الكريم الكِرْس" (5)
قال الماوردي: "فدلت هذه الشواهد، على أن أصح تأويلاته، ما قاله ابن عباس، أنه علم الله تعالى"(6).
قال الشيخ ابن عثيمين: " فأهل السنّة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل؛ وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم، وأئمة التحقيق؛ وقد قيل: إن «الكرسي» هو العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن «العرش» أعظم، وأوسع، وأبلغ إحاطة من الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن {كرسيه}: علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها لا تصح عن ابن عباس (7)؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولا في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جداً من أن يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» (8)؛ وهذا يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا
(1) لم أتعرف على الراجز، وقوله: احتازها، أي حازها وضمها إلى نفسه. ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير: إلى القانص أم إلى كلبه؟ والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله: " تكرس "، علم، لا دليل عليه، حتى نجد سائر الشعر، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة.
(2)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري: 5/ 402، والماوردي: 1/ 326.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 401 - 402، والنكت والعيون: 1/ 325 - 326.
(4)
ديوانه: 78، واللسان (قدس) (كرس). و " القدس " هو الله - سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والقدس. ومولاها: ربها. وقد سلف تفسير معنى " القدس " و " القدس " في هذا التفسير 1: 475، 476/ 2: 322، 323. و " أبو العباس " هو أبو العباس السفاح، الخليفة العباسي. وروى صاحب اللسان " القديم الكرس "، و " المعدن " (بفتح الميم وكسر الدال): مكان كل شيء وأصله الثابت، ومنه:" معدن الذهب والفضة "، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب والفضة، ثم تستخرج منه، وهو المسمى في زماننا " المنجم ". يقول: أبو العباس أولى نفس بالخلافة، الثابتة الأصل الكريمته.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 402 - 403.
(6)
النكت والعيون: 1/ 325 - 326.
(7)
أنظر: تفسير الطبري 5/ 397 – 398، القول في تأويل قوله تعالى:(وسع كرسيه السموات والأرض)، حديث رقم 5787 – 5788؛ ذكر ابن أبي العز أن المحفوظ عن ابن عباس أن الكرسي هو موضع القدمين (شرح العقيدة الطحاوية ص 371) وذكر شعيب الأرناؤوط: أن أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بأنه موضع القدمين أصح إسناداً (شرح العقيدة الطحاوية ص 371، حاشية رقم 1)، وذكر محمود شاكر أنه إذا كان أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم صحيح الإسناد فإن الخبر الآخر صحيح على شرط الشيخين (تفسير الطبري 5/ 401، حاشية رقم 1).
(8)
أخرجه ابن حبان في صحيحه 1/ 287، باب ذكر الاستحباب للمرء أن يكون له من كل خير حظ
…
، حديث رقم 362؛ وفي سنده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال أبو حاتم وأبو زرعة: كذاب، وقال علي بن الجنيد: صدق أبو حاتم ينبغي أن لا يحدث عنه (ميزان الاعتدال 1/ 73)؛ وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 5/ 399، تحقيق أحمد شاكر وفي سنده ابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي: قال البخاري: ضعفه عليّ جداً، وقال النسائي وأحمد ويحيى: ضعيف (ميزان الاعتدال 2/ 564؛ وقال شعيب في تخريج شرح العقيدة الطحاوية ص 370، 371) ضعيف.
من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق: 6]؛ ولم يقل: أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لأن ذلك ليس مرئياً لنا؛ ولولا أن الله أخبرنا به ما علمنا به" (1).
قلت: إن (الكرسيّ) باتّفاق علماء أهل السنّة هو جَرْم مخلوق غير العرش، خلافا لمن قال إنّه العرش نفسه، والمشهور في تفسير (الكرسيّ) أنه موضع القدمين، وهو قول السلف لم يثبت خلافه عنهم بسند صحيح، الا في رواية لجعفر بن أبي المغيرة عن ابن عباس لم يتابع عليه على ذلك أحد، كما أن علم الله تعالى قد وسع كل شيء فلا يصح قصره على السماوات والارض، والخلاصة أن على العبد أن يؤمن بصفات الله تعالى دون تأويل ولا تعطيل ويمرها كما جاءت بلا تشبيه ولا تمثيل، ولا يجوز أن يخوض أحد في كيفيّة ذلك كما هو مقرّر في أصول اعتقاد أهل السنّة، وأما التنطع في إثبات ما لم يرد به الكتاب والسنة فالواجب تركه. والله تعالى أعلم (2).
وقوله تعالى {وَسِعَ} [البقرة 255]، قرأ الجمهور {وَسِعَ} ، بكسر (السين)، وقراء شاذا بسكونها (وَسْعَ)، وقراء أيضاً شاذا (3)(وسْعُ) بسكونها وضم العين (4)، وقراء أيضا:" {وَسْعُ كرسيه} بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء"(5).
قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، أي:" ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض"(6).
قال الصابوني: "أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما"(7).
قال ابن عباس: " لا يثقل عليه حفظهما"(8). وروي نحو ذلك عن قتادة (9) والحسن (10) والضحاك (11)، وعبدالرحمن المديني (12)، ومجاهد (13)، والسدي (14)، والربع (15)، وابن زيد (16).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 254 - 255.
(2)
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: " هذه الأحاديث التي يقول فيها: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرْب غِيَره، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك قدمه فيها، والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرواية هي عندنا حق، حملها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها وما أدركنا أحدا يفسرها ". [رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 198)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 149)].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: "وأما من حرَّف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى:{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]، وقوله {وكان عرشه على الماء} [هود: 7]؟ أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية، وكان ملكه على الماء ويكون موسى عليه السلام آخذا بقائمة من قوائم المُلْك؟ هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول.
وأما الكرسي فقال تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 255]، وقد قيل: هو العرش، والصحيح: أنه غيره، نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره" [شرح العقيدة الطحاوية " ص 312، 313].
(3)
وهي قراءة يعقوب الحضرمي. [النكت والعيون: 1/ 326].
(4)
البحر المحيط: 2/ 208.
(5)
الدر المصون: 2/ 544.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 405.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(8)
أخرجه الطبري (5800): ص 5/ 404.
(9)
أخرجه الطبري (5801): ص 5/ 404.
(10)
أخرجه الطبري (5802): ص 5/ 404.
(11)
أخرجه الطبري (5804): ص 5/ 404.
(12)
أخرجه الطبري (5806): ص 5/ 404 - 405.
(13)
أخرجه الطبري (5807): ص 5/ 405
(14)
أخرجه الطبري (5808): ص 5/ 405.
(15)
أخرجه الطبري (5809): ص 5/ 405.
(16)
أخرجه الطبري (5810): ص 5/ 405.
قال الطبري: " ولا يشق عليه ولا يثقله"(1).
قال السيوطي" "ولا يفوته شيء مما في السموات والأرض" (2).
قال ابن حجر: " أي: ولا يثقله، يقال: آده يؤوده إذا أثقله"(3).
قال القاسمي: " {وَلا يَؤُدُهُ} أي لا يثقله ولا يشق عليه. يقال: آده الأمر أودا وأوودا (كقعود) بلغ منه المجهود والمشقة حِفْظُهُما أي السموات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد"(4).
قال أبو حيان: " قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقراء شاذاً بالحذف، كما حذفت همزة أناس، وقراء أيضاً: يووده، بواو منضمومة على البدل من الهمزة"(5).
وقد ذكر أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] وجوها (6):
الأول: لا يثقله حفظهما، وهو قول الجمهور (7).
الثاني: لا يتعاظمه حفظهما، حكاه أبان بن تغلب (8). وأنشد (9):
ألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها
…
وضَنّت وما كان النوال يؤودها
الثالث: وقيل: "لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات"(10).
واختلفوا في الكناية بـ (الهاء) في قوله تعالى {يَئُودُهُ} [البقرة: 255] إلى ماذا تعود؟ على قولين (11):
أحدهما: إلى اسم الله، وتقديره ولا يُثقل الله حفظ السموات والأرض.
والثاني: تعود إلى الكرسي، وتقديره ولا يثقل الكرسيَّ حفظهما.
قال أبو حيان: " والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي"(12).
قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} [البقرة: 255]، يعني" ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته"(13).
قال المراغي: " أي: وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه"(14)
قال ابن عثيمين: " أي: ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء"(15).
وقد ذكر أهل التفسير في معنى قوله {الْعَلِيُّ} [البقرة: 355]، ثلاثة أقوال (16):
(1) تفسير الطبري: 5/ 403.
(2)
الدر المنثور: 2/ 10.
(3)
الهدي: 77،
(4)
محاسن التأويل: 2/ 192.
(5)
البحر المحيط: 2/ 208.
(6)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 208.
(7)
انظر: هذا التفسير في: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 78، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 93، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 338، معاني القرآن للنحاس: 1/ 266، جامع البيان للطبري: 5/ 403، تهذيب اللغة للأزهري: 14/ 227، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 155، لسان العرب لابن منظور: 1/ 168، البسيط للواحدي: 1/ 153 ب، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 279، النكت والعيون للماوردي: 1/ 326، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 304، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 384، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 278، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 272، الدر المصون للسمين: 1/ 615، فتح القدير للشوكاني: 1/ 404، وغيرها.
(8)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 208.
(9)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الماوردي في النكت والعيون: 1/ 326.
(10)
البحر المحيط: 2/ 208.
(11)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 326، والبحر المحيط: 2/ 209.
(12)
البحر المحيط: 2/ 209.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 405.
(14)
تفسير المراغي: 1/ 490.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 256.
(16)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 406.
الأول: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان.
قال ابن عطية: " يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز"(1).
قال النسفي: "العلي " في ملكه وسلطانه" (2).
الثاني: العلي عن الأشباه والأمثال.
قال الطبري: وهؤلاء "أنكروا أن يكون معنى ذلك: وهو العلي المكان، وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان"(3).
الثالث: وقيل: "العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم"(4).
قال ابن عطية: " وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى"(5).
قال الشوكاني: " والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف والنزاع فيه كائن بينهم والأدلة من الكتاب والسنة معروفة ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ويتبين به الصحيح من الفاسد، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]، وقال الشاعر (6):
فلما علونا واستوينا عليهم
…
تركناهم صرعى لنسر وكاسر (7)
يعني غلبناهم وقهرناهم واستولينا عليهم.
قال الماوردي: "وفي الفرق بين العلي والعالي، وجهان محتملان (8):
أحدهما: أن العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق العلو.
والثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يُشَارَكَ في علوه، والعلي هو الذي لا يجوز أن يُشَارَكَ في علوه، فعلى هذا الوجه، يجوز أن نصف الله بالعليّ، ولا يجوز أن نصفه بالعالي، وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعاً " (9).
قوله تعالى: {الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، يعني" عظيم القدر والخطر والشرف"(10).
قال ابن عباس: " {العظيم}، الذي قد كمل في عظمته"(11).
قال الطبري: " ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه"(12).
قال القاسمي: " أي أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان"(13).
قال ابن عثيمين: " أي: ذو العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته"(14).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 342.
(2)
تفسير النسفي: 1/ 143.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 406.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 406.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 342.
(6)
لم أتعرف على قائئله، والبيت من شواهد فتح القدير: 1/ 272، ومجمع البيان: 1/ 71.
(7)
فتح القدير: 1/ 272.
(8)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 326.
(9)
النكت والعيون: 1/ 326.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 279.
(11)
أخرجه الطبري (5811): ص 5/ 405.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 405.
(13)
محاسن التأويل: 1/ 192.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 256.
قال السعدي: " الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء"(1).
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى {الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وذكروا فيه ثلاثة أوجه (2):
الأول: قالوا: {العظيم} ، معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه.
أي: أن معنى {العظيم} في هذا الموضع: المعظم، صرف (المفعل) إلى (فعيل)، كما قيل للخمر المعتقة، خمر عتيق، كما قال الأعشى (3):
وكأن الخمر العتيق من الإس
…
فنط ممزوجة بماء زلال
قال ابن عطية: " {الْعَظِيمُ} هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر، لا على معنى عظم الأجرام"(4).
الثاني: وقيل: {العظيم} ، هو أن له عظمة هي له صفة.
وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات، وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد، لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك، وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة الأولى، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه (معظم)، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال (5).
الثالث: وقال آخرون: "بل قوله: إنه (العظيم) وصف منه نفسه بالعظم، وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته"(6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: إثبات هذه الأسماء الخمسة؛ وهي {الله} ؛ {الحي} ؛ {القيوم} ؛ {العلي} ؛ {العظيم} ؛ وما تضمنته من الصفات.
2 -
ومنها: إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله تعالى: {لا إله إلا هو} .
3 -
ومنها: إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله، وجعلوا معه آلهة.
4 -
ومنها: إثبات صفة الحياة لله عز وجل؛ وهي حياة كاملة: لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا توصف بنقص، كما قال تعالى:{هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3]، وقال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]، وقال تعالى:{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
5 -
ومنها: إثبات القيومية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {القيوم} ؛ وهذا الوصف لا يكون لمخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى غيره: فنحن محتاجون إلى العمال، والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء، والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الأولاد، والأولاد يحتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى المال، والمال محتاج إلينا من جهة حفظه، وتنميته؛ والكل محتاج إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى:{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15]؛ وما من أحد يكون قائماً على غيره في جميع الأحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33]؛ يعني الله؛ فلا أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.
(1) تفسير السعدي: 1/ 110.
(2)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 406 - 407.
(3)
ديوانه: 5، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا: 390، تعليق:3. والزلال: الماء الصافى العذب البارد السائغ في الحلق.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 342.
(5)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 407.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 407.
6 -
ومن فوائد الآية: أن الله تعالى غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر إليه تعالى؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7]، وقوله تعالى:{ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]؛ فأثبت أنه يُنصر؟
فالجواب: أن المراد بنصره تعالى نصر دينه.
7 -
ومنها: تضمن الآية لاسم الله الأعظم الثابت في قوله تعالى: {الحي القيوم} ؛ وقد ذكر هذان الاسمان الكريمان في ثلاثة مواضع من القرآن: في «البقرة» ؛ و «آل عمران» ؛ و «طه» ؛ في «البقرة» : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]؛ وفي «آل عمران» : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ؛ وفي «طه» : {وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111]؛ قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في {الحي} ؛ وصفة الإحسان، والسلطان في {القيوم} .
8 -
ومن فوائد الآية: امتناع السِّنَة والنوم لله عز وجل؛ وذلك لكمال حياته، وقيوميته، بحيث لا يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله تعالى:{لا تأخذه سنة ولا نوم} ؛ وهذه من الصفات المنفية؛ والإيمان بالصفات المنفية يتضمن شيئين؛ أحدهما: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني: إثبات كمال ضدها؛ لأن الكمال قد يطلق باعتبار الأغلب الأكثر، وإن كان يرد عليه النقص من بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يرد عليه نقصٌ أبداً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك: إذا قيل: «فلان كريم» فقد يراد به أنه كريم في الأغلب الأكثر؛ فإذا قيل: «فلان كريم لا يبخل» عُلم أن المراد كمال كرمه، بحيث لا يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله تعالى:{لا تأخذه سنة ولا نوم} ؛ فدل على كمال حياته، وقيوميته.
9 -
ومن فوائد الآية: إثبات الصفات المنفية؛ لقوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} ، وقوله تعالى:{ولا يؤوده حفظهما} ؛ و «الصفات المنفية» ما نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها.
10 -
ومنها: عموم ملك الله؛ لقوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} .
ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه.
11 -
ومنها: أن الحكم الشرعي بين الناس، والفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله؛ وأن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين، والقوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله عز وجل؛ لأن الملك لله عز وجل.
12 -
ومنها: تسلية الإنسان على المصائب، ورضاه بقضاء الله عز وجل، وقدره؛ لأنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه، وسلّم؛ ولهذا كان في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم لابنته أنه قال:«إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى» (1).
13 -
ومنها: عدم إعجاب الإنسان بما حصل بفعله؛ لأن هذا من الله؛ والملك له.
14 -
ومنها: اختصاص الله تعالى بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر: {له ما في السموات} ؛ لأن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصر.
15 -
ومنها: إثبات أن السموات عدد؛ لقوله تعالى: {السموات} ؛ وأما كونها سبعاً، أو أقل، أو أكثر، فمن دليل آخر.
16 -
ومنها: كمال سلطان الله لقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم الملك صار ذلك أكمل، وأعلى.
17 -
ومنها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله تعالى: {إلا بإذنه} ؛ وإلا لما صح الاستثناء.
(1) أخرجه البخاري ص 100، كتاب الجنائز، باب 32: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته، حديث رقم 1284، وأخرجه مسلم ص 822، كتاب الجنائز، باب 6: البكاء على الميت، حديث رقم 2135 [11]923.
18 -
ومنها: إثبات الإذن - وهو الأمر -؛ لقوله تعالى: {إلا بإذنه} ؛ وشروط إذن الله في الشفاعة: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26]، وقوله تعالى:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28].
19 -
ومنها: إثبات علم الله، وأنه عام في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لقوله تعالى:{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} .
20 -
ومنها: الرد على القدرية الغلاة؛ لقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت.
21 -
ومنها: الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لأن الخوارج، والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة.
22 -
ومنها: أن الله عز وجل لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً، ولا بصراً؛ قال تعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]، وقال تعالى:{ولا يحيطون به علماً} [طه: 110].
23 -
ومنها: أننا لا نعلم شيئاً عن معلوماته إلا ما أعلمنا به؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} على أحد الوجهين في تفسيرها.
24 -
ومنها: تحريم تكييف صفات الله؛ لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا ادعينا علمه فقد قلنا على الله بلا علم.
25 -
ومنها: الرد على الممثلة؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم؛ بل بما يعلم خلافه؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
26 -
ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله: {إلا بما شاء} .
27 -
ومنها: عظم الكرسي؛ لقوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض} .
28 -
ومنها: عظمة خالق الكرسي؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.
29 -
ومنها: كفر من أنكر السموات، والأرض؛ لأنه يستلزم تكذيب خبر الله؛ أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها، وقالوا: ما فوقنا فضاء لا نهاية له، ولا حدود؛ وإنما هي سدوم، ونجوم، وما أشبه ذلك؛ وهذا لا شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده الإنسان بنفسه، ووهمه؛ أو صدَّق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب والسنّة.
30 -
ومنها: إثبات قوة الله؛ لقوله تعالى: {ولا يؤوده حفظهما} .
31 -
ومنها: أنه سبحانه وتعالى لا يثقل عليه حفظ السموات، والأرض؛ لقوله تعالى:{ولا يؤوده حفظهما} ؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي كقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق~: 38].
32 -
ومنها: إثبات ما تتضمنه هذه الجملة: {ولا يؤوده حفظهما} ؛ وهي العلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحكمة، والقوة.
33 -
ومنها: أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله تعالى:{ولا يؤوده حفظهما} ؛ ولولا حفظ الله لفسدتا؛ لقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} [فاطر: 41].
34 -
ومنها: إثبات علو الله سبحانه وتعالى أزلاً، وأبداً؛ لقوله تعالى:{وهو العلي} ؛ و {العلي} صفة مشبهة تدل على الثبوت، والاستمرار؛ وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الأولى: من قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم؛ وقولهم باطل بالكتاب، والسنّة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلوّ، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يَؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إلا وهو فوق، أو تحت، أو عن يمين، أو شمال، أو متصل، أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛ ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.
35 -
ومن فوائد الآية: الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال.
36 -
ومنها: التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله تعالى: {وهو العلي العظيم} ؛ ولهذا قال الله في سورة النساء: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} [النساء: 34]؛ فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله عز وجل؛ وإذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله؛ وإذا كنت كبيراً في نفسك فاذكر كبرياء الله.
37 -
ومنها: إثبات العظمة لله؛ لقوله تعالى: {العظيم} .
38 -
ومنها: إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العلوّ، والعظمة.
القرآن
التفسير:
لكمال هذا الدين واتضاح آياته لا يُحتاج إلى الإكراه عليه لمن تُقبل منهم الجزية، فالدلائل بينة يتضح بها الحق من الباطل، والهدى من الضلال. فَمَن يكفر بكل ما عُبِد من دون الله ويؤمن بالله، فقد ثبت واستقام على الطريقة المثلى، واستمسك من الدين بأقوى سبب لا انقطاع له. والله سميع لأقوال عباده، عليم بأفعالهم ونياتهم، وسيجازيهم على ذلك.
في سبب نزول الآية أقوال:
القول الأول: قيل: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام، وقد تعددت الروايات في ذلك على النحو الآتي (1):
أولا: أخرج الطبري بسنده " عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى
(1) أنظر: تفسير الطبري: 5/ 407 وما بعدها، وتفسير القرطبي: 3/ 280 - 281.
ذكره: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} " (1). وروي عن سعيد بن جبير (2)، وعامر (3) والشعبي (4) نحو ذلك.
ثانيا: روي "عن مجاهد في قول الله: " لا إكراه في الدين " قال: كانت في اليهود بني النضير، أرضعوا رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية"(5). وروي عن الحسن (6) نحو ذلك.
ثالثا: أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن مجاهد، قال: كانت الأنصار يكرهون اليهود على إرضاع أولادهم، فأنزل الله {لا إكراه في الدين} "(7)(8).
رابعا: روي "عن ابن عباس قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك "(9).
وروي عن السدي (10) نحو ذلك.
القول الثاني: وقيل: "نزلت هذه الآية في خاص من الناس"(11)، فلا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم.
أخرج الطبري عن " قتادة في قوله: " لا إكراه في الدين "، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا"(12).
وروي نحو لك عن ابن عباس (13)، والضحاك (14).
القول الثالث: وقيل: " أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا"(15).
(1) أخرجه الطبري (5812): ص 5/ 407 - 408. عن سعد بن جبير مرسلا، والبيهقي في السنن: 9/ 186، ونسبه السيوطي في الدر المنثور إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. وانظر تفسير النسائي 1/ 273، 276، والنحاس في معاني القرآن 1/ 266 وللشوكاني كلام مفيد حول هذه الآية فلينظر فتح القدرير 1/ 275. وأخرج الواحدي بسنده قطعة منه دون قول النبي صلى الله عليه وسلم "قد خير أصحابكم
…
أسباب النزول: 83.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (5813): ص 5/ 408، و (5818): ص 5/ 410.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (5814): ص 5/ 408.
(4)
أنظر تفسير الطبري (5823): ص 5/ 411 - 412. و (5824): ص 5/ 412، وزاد فيه: ": قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام".
(5)
أخرجه الطبري (5820): ص/5/ 411. و (5821) و (5822): ص 5/ 411.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (5826): ص 5/ 412.
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2622): ص 2/ 493.
(8)
قال ابن قدامة: "كره الإمام أحمد الارتضاع بلبن الفجور والمشركات، وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية؛ لأنه ربما أفضى إلى شبه أمه المرضعة في الفجور، ولأنه يخشى أن يميل إلى مرضعته في الدين. ويكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق، فإنه يقال: إن الرضاع يغيّر الطباع". [المغني: 8/ 155].
(9)
رواه الطبري (5817): ص 5/ 409.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (5819): ص 5/ 410. وزاد في روايته: " فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (2) إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:" لا إكراه في الدين ".
(11)
تفسير الطبري: 5/ 414.
(12)
تفسير الطبري: (5828): ص 5/ 413. ونحوه في رواية أخرى (5827): ص 5/ 412 - 413، و (5830): ص 5/ 413. وأخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2612): ص 2/ 494. بلفظ: " كانت العرب ليس لهم دين، فأكرهوا على الدين بالسيف، قال: ولا تكره اليهود ولا النصارى ولا المجوس، إذا أعطوا الجزية".
(13)
أنظر: : تفسير الطبري (5832): ص 5/ 413 - 414.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (5829): ص 5/ 413).
(15)
تفسير القرطبي: 3/ 281.
القول الرابع: وقيل: أن معناها "لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها"(1).
قال ابن كثير: " وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا"(2)، "لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء"(3).
وقد اختلف أهل التفسير في هذه الآية، هل هي منسوخة أم محكمة:
الأول: قال جماعة: أنها منسوخة، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد أكرَه العرب على دين الإسلام، وقاتَلهم، ولم يرضَ منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قولُه - تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73، التحريم: 9]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، وقال:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقوله:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون} [الفتح: 16](4).
وهو قول زيد بن أسلم (5)، وعكرمة (6)، وابن زيد (7)، واالسدي (8)، وسليمان بن موسى (9)، وقد ذهب إلى هذا كثيرٌ من المفسرين (10)(11).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 281.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 682.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(4)
قلت: إن القول بالنسخ يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من بعض الكفار مقابل الكف عنهم، وهذا ما يُضعف القول بالنسخ، كما أن النسخ لا يصار إليه، ويقال به إلا بعد العجز عن الجمع بين الدليلين.
وقد يكون معنى (الكره) هو الكره النفسي، وليس الإكراه في دخول الدين، روي عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم" قال: إني أجدني كارها. قال: "وإن كنت كارها"، قال ابن كثير معلقا على الحديث: " لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له:"أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص". [تفسير ابن كثير: 1/ 683]، والحديث في:[المسند (3/ 181)، وأبو بكر الشافعي في " الرباعيات " (1/ 98/ 1) والضياء في " المختارة " (100/ 1 - 2)].
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري: (ج 1 / ص 28): "وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له".
(5)
أخرجه الطبري (5833): ص 5/ 414.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2615): ص 2/ 494.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (5825): ص 5/ 412.
(8)
قال ابن أبي حاتم (2615): ص 2/ 494: وري عن السدي أنها منسوخة، فأمر بالقتال، في سورة براءة".
(9)
أنظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 99.
(10)
أنظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي 1/ 300، ونسبه الشوكاني في فتح القدير: 1/ 275 إلى كثير من المفسرين، واحتمله الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب ص 33، فقال: «وعلى كل حال، فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لاإكراه في الدين} الآية، والمتأخر أولى من المتقدم، والعلم عند الله تعالى".
(11)
ومن القائلين بالنسخ: الشيخ ابن عاشور وقد ذكره في تفسيره "التحرير والتنوير"، وحاصل ما قاله في هذا الصدد: إن آية {لا إكراه في الدين} ناسخة لآيات القتال، وأن هذه الآية -وأيضًا حسب رأي ابن عاشور- نزلت بعد فتح مكة، واستخلاص بلاد العرب، فنسخت حكم القتال على قبول الإسلام، ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام، وهو المعبَّر عنه بالذمة، ووضَّح هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا"اذهبوا فأنتم الطلقاء") السنن الكبرى: 9/ 118).
وكلام ابن عاشور صريح، أو على الأقل ما يُفهم منه، أن آية {لا إكراه في الدين} ، ناسخة لآيات القتال، وحاكمة عليها؛ وهذا القول فيه تسجل عليه بعض الملاحظات الآتية:
أولا: أن القول بالنسخ لا يصار إليه -كما هو مقرر أصوليًّا- إلا عند عدم إمكانية الجمع بين الأدلة، والجمع هنا ممكن، وبالتالي فلا مجال للقول بالنسخ هنا.
ثانيا: أن ما ذهب إليه ابن عاشور مخالف لما عليه أكثر أهل العلم، في توجيه هذه الآية، وقد عرفنا مذهب الجمهور آنفًا، وأن آية {لا إكراه} خاصة بأهل الكتاب.
ثالثا: ثم إنا نقول: إن المتتبع لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، يجد أن سيرته على خلاف ما قرره ابن عاشور، بخصوص تشريع آيات الجهاد؛ وذلك أن مجاهدة الكافرين كانت ثابتة في سيرته صلى الله عليه وسلم، إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام، يرشد لهذا أمره بتجهيز جيش أسامة لقتال الروم قبل وفاته بمدة قصيرة.
رابعا: على أن من المعلوم من تاريخ نزول الآيات، أن سورة براءة -وفيها آيات الجهاد- هي من أواخر ما نزل من القرآن، فإذا كان لا بد من القول بالنسخ، فالأصوب أن يقال: إن آيات الجهاد -الواردة في سورة براءة- هي الناسخة لآية البقرة وليس العكس، وهذا مذهب بعض أهل العلم. .
الثاني: وقال آخرون: أنها محكمة، ولكنها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أما غيرهم فيجبرون عليه، بل الذين يُكْرَهون هم أهلُ الأوثان، فلا يُقبَل منهم إلا الإسلام، أو السيف.
وإلى هذا ذهَب: الشعبي (1)، والحسن (2)، وقتادة (3)، والضحاك (4)، وهو قول أكثر أهل العلم (5).
وقد استدلوا لما ذهبوا إليه، بروايات، نذكر منها:
أولا: رواية ابن عباس التي ذكرناها في سبب النزول (6).
ثانيا: رواية زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: "سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} "(7).
ثالثا: ما روي عن إسحاق قال: كنت مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى. فيقول: {لا إكراه في الدين} ، ويقول: يا إسق لو أسلمت، لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين" (8).
رابعا: ما وروي عن مجاهد أنه كان يقول لغلام له نصراني: "يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم"(9).
قال ابن قدامة رحمه الله: " وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم: لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا"(10).
(1) أنظر: تفسير الطبري (5823): ص 5/ 411.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (5826): ص 5/ 412.
(3)
تفسير الطبري: (5828): ص 5/ 413. ونحوه في رواية أخرى (5827): ص 5/ 412 - 413، و (5830): ص 5/ 413. وأخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (2612): ص 2/ 494.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (5829): ص 5/ 413.
(5)
القول بأن الآية محكمة رجحه أكثر العلماء كأبي عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 282، والنحاس في الناسخ والمنسوخ 2/ 101، والطبري في جامع البيان 4/ 553، ومكي بن أبي طالب في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 194، وغيرهم.
(6)
انظر تفسير الطبري (5812): ص 5/ 407 - 408. عن سعد بن جبير مرسلا، والسنن للبيهقي: 9/ 186.
(7)
الناسخ والمنسوخ للنحاس: 259. (حديث موقوف).
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2610): ص 2/ 493.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (5831): ص 5/ 413.
(10)
المغني: 10/ 96.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فلا يصح كفر المكره بغير حق، ولا إيمان المكره بغير حق؛ كالذمي الموفى بذمته، كما قال تعالى فيه {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} بخلاف المكره بحق، كالمقاتلين من أهل الحرب، حتى يسلموا إن كان قتالهم إلى الإسلام، أو إعطاء الجزية، إن كان القتال على أحدهما"(1).
وهذا القول الثاني اختاره الطبري وصوَّبه، وحمل عليه معنى الآية، فقال:"وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس"، ثم قال:"عنى بقوله تعالى ذكره: {لا إكراه في الدين} أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا"(2).
والناظر في كتب التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذين القولين، في الأغلب، ورجَّح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب ومن شاكلهم، وإن كان ثمة من ملاحظة نبديها على هذا المسلك، فهي أن نقول: إن القول بالتخصيص هنا لا يرفع التعارض الواقع بين الآيات موضوع الحديث، ناهيك على أن القاعدة التفسيرية تقرر: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وبذلك فالذي يقتضيه النظر بين الأدلة، وما تقتضيه قواعد الأصول، أن نقول: إن إمكانية الجمع هنا ممكنة، وبالتالي فلا وجه للقول بالنسخ هنا، والأصوب أن يقال: يُعمل بهاتين الآيتين، كل في موضعه، وكل بحسب ظرفه؛ فآية البقرة:{لا إكراه في الدين} ، يُعمل بها على مستوى الأفراد، فلا يُكره أحدٌ على اعتناق الإسلام والدخول فيه، أما آيات الجهاد والقتال، فيُعمل بها عندما يُواجَه هذا الدين من قِبَل أعدائه، أو يُمنع من تبليغ رسالة رب العالمين، إذ هي الهدف الأساس من دعوة الإسلام، ليكون {الدين كله لله} [الأنفال: 39] (3)، وبذلك تلتئم الأدلة وتتفق، ويُحمل كل دليل بحسب ظرفه وسياقه (4). والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: قوله تعالى: {لآَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، أي:" لا يكره أحد في دين الإسلام عليه"(5).
قال الزمخشري: " أى لم يجر اللَّه أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار"(6).
و(الإكراه): الإرغام على الشيء (7).
(1) الإستقامة: 2/ 320.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 414.
(3)
قال الزرقاني رحمه الله: " أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس، ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة، ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده، وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله". [مناهل العرفان: 2/ 406].
(4)
نستنتج بأن الآية لا تعني إجبار الناس على الدخول في دين الله قهرا وقسرا، ولكن تعني أن الإسلام سهل بيّن لا إكراه في الدخول فيه؛ فمن دخل فيه كان من أهله، ومن لم يدخل فيه فإما أن يكون من أهل الذمة والعهد، فهذا له ذمته وعهده، وعليه دفع الجزية، وإما أن يكون من المحاربين، فهذا لا بد من محاربته وقتاله لئلا يفسد في الأرض، وينشر بها الكفر والفساد، فقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، لا ينافي الأمر بقتال المشركين الذين يصدون عن دين الله، ويفسدون في الأرض، وينشرون فيها الكفر والشرك والفساد؛ فقتالهم من أعظم المصالح التي بها تعمر الأرض ويعم أهلها الأمن والاستقرار. كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وقد جاءت الشريعة بتحقيق المصالح وتعطيل المفاسد.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 415.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 303.
(7)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 264. وقال الراغب: " والكره يقال على ضربين: أحدهما: أن يكون مفسراً من خارج، وذلك على أحد الأوجه الثلاثة، إما بأن يهدد بالضرب أو يضرب حتى يفعل، وإما أن تؤخذ يده فيفعل بها، فيكون في هذا كلالة، وإما أن يدعوه من يزينه في عينه.
والثاني: ما يكون مفسراً من داخل، وذلك إما بخوف يستشعره، وإما بهوى يغلبه". [تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 530].
قال ابن كثير: "أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا"(1).
وقال ابن جزي رحمه الله: " {لا إكراه في الدين}، المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه ويدل على ذلك قوله: {قد تبين الرشد من الغي} أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه"(2).
وقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} ، تحتمل وجهين (3):
الأول: نفي، بمعنى النهي، أي: لا تكرهوا أحداً على الدين (4).
الثاني: أو بمعنى النفي؛ أي أنه لن يدخل أحد دين الإسلام مكرَهاً؛ بل عن اختيار؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {قد تبين الرشد من الغي} .
و{الدين} يطلق على أمرين (5):
أولا: - العمل: وذلك مثل مثل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].
ثانيا: الجزاء: مثل قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] أي يوم الجزاء؛ وقد قيل: «كما تدين تدان» ؛ أي كما تعمل تجازى.
قال ابن عثيمين: "والمراد بـ {الدين} هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام بلا شك؛ فـ (أل) هنا للعهد الذهني (6)؛ يعني الدين المفهوم عندكم أيها المؤمنون؛ وهو دين الإسلام"(7).
قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، أي:"قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة"(8).
قال البغوي: " أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل"(9).
قال أبو حيان: " أي: استبان الإيمان من الكفر، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام"(10).
قال أبو حيان: " بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه"(11).
قال ابن عثيمين: قد تميّز الهدى من الضلال (12). وقال: "و {الرشد} معناه حسن المسلك، وحسن التصرف: بأن يتصرف الإنسان تصرفاً يحمد عليه؛ وذلك بأن يسلك الطريق الذي به النجاة؛ ويقابل بـ «الغي» كما هنا؛
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 682.
(2)
التسهيل: 135.
(3)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 264، وتفسير الكشاف: 1/ 304.
(4)
قال الزمخشري: "وقيل: هو إخبار في معنى النهى، أى لا تتكرهوا في الدين". [تفسير الكشاف: 1/ 304].
(5)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 264.
(6)
وقيل: "بدل من الإضافة أي: في دين الله". [تفسير البحر المحيط: 2/ 210].
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 264.
(8)
تفسير الكشاف: 1/ 303.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 314.
(10)
البحر المحيط: 2/ 210.
(11)
تفسير البحر المحيط: 2/ 210.
(12)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 264.
والمراد ـ {الرشد} هنا الإسلام؛ وأما {الغي} فهو سوء المسلك: بأن يسلك الإنسان ما لا يحمد عليه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ والمراد به هنا الكفر" (1).
قال الراغب: " (الغي) كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا يقال: الجهل بالعلم، والغي بالرشد، ويقال لمن أصاب رشد، ولمن أخطأ غوى، وعلى هذا قال الشاعر (2):
ومن يَغْوِ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِمَا (3)
أي: من يخب فلا يصب خيراً لا يعدم على خيبته من يلوم (4).
قال ابن عطية: " والْغَيِّ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق"(5).
وقال أهل العلم أن تَبَيُّن الرشد من الغي يكون بعدة طرق (6):
أولاً: بالكتاب؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى:{ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89]؛ فهذا من أقوى طرق البيان.
ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44]. الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.
الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.
قال ابن عثيمين: "هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح"(7).
قرأ الجمهور: (الرشد)، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (الرشاد) بالألف، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد (الرّشد) بفتح الراء والشين، وروي عن الحسن (الرّشد) بضم الراء والشين (8).
قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، "أي: ومن ينكر الطاغوت، ويتبرأ منه" (9).
قال القاسمي: " فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان باللَّه"(10).
قال ابن كثير: " أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله"(11).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 264 - 265.
(2)
البيت للمرقش الأصغر، كما في إصلاح المنطق: 227، والمفضليات: 2/ 47، واللسان ومعجم مقاييس اللغة (غوى)، وصدره: فمن يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ.
(3)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 529.
(4)
أنظر: الهداية إلى بلوغ النهاية: 6/ 3895.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 344.
(6)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 265 - 266.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 266.
(8)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 344.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 266.
(10)
تفسير الكشاف: 1/ 304.
(11)
تفسير ابن كثير: 1/ 683.
و (الكفر) في اللغة: مأخوذ من الستر؛ ومنه سمي (الكُفُرَّى) لوعاء طلع النخل؛ لأن الإنسان الكافر ستر نعمة الله عليه، وستر ما تقتضيه الفطرة من توحيد الله عز وجل (1).
قال ابن عثيمين: ولا يكفي الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر تخلٍّ، وعدم؛ ولا بد من إيجاد؛ الإيجاد: قوله تعالى: {ويؤمن بالله} بالجزم عطفاً على {يكفر} ؛ والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان - القبول للخبر، والإذعان للطلب سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود" (2).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، سبعة أقوال (3):
أحدها: أنه الشيطان (4)، وهو قول عمر بن الخطاب (5)، ومجاهد (6)، والشعبي (7)، والضحاك (8)، وقتادة (9)، والسدي (10)، وعكرمة (11)، واختاره ابن كثير (12)، والقاسمي (13) وآخرون.
والثاني: أنه الساحر، وهو قول أبي العالية (14)، ومحمد ابن سيرين (15) والشعبي (16).
والثالث: الكاهن، وهو قول جابر (17)، وسعيد بن جبير (18)، والرفيع (19)، وابن جريج (20).
(1) أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 266.
(2)
أنظر: 5/ 266 - 267.
(3)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 416 - 418، والنكت والعيون: 1/ 327.
(4)
قال الشنقيطي: " قال بعض العلماء: (الطاغوت): الشيطان، ويدل لهذا قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}، أي يخوفكم من أوليائه. وقوله تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا، وقوله: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} وقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء}، والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان كما قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بنى ءادم أن لا تعبدوا الشيطان (وقال: (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا {وقال عن خليله ابرهيم} يا أبت لا تعبد الشيطان وقال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}، إلى غير ذلك من الآيات". [أضواء البيان: 1/ 159].
(5)
أنظر: تفسير الطبري (5834) و (5835): ص 5/ 417. وابن ابي حاتم (2618): ص 2/ 495.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (5836): ص 5/ 417.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (5837): ص 5/ 417.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (5838): ص 5/ 417.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (5839): ص 5/ 417.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (5840): ص 5/ 417.
(11)
البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنِ الْغَائِطِ} ، قبل الحديث رقم 4583، ولفظه:"الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: شَيْطَانٌ، وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ".
(12)
أنظر: تفسير ابن كثير: 1/ 683، إذ يقول:" ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها".
(13)
محاسن التأويل: 2/ 194.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (5841): ص 5/ 417.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (5842): ص 5/ 417.
(16)
أنظر تفسير ابن أبي حاتم (2620): ص 2/ 495.
(17)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنِ الْغَائِطِ} ، قبل الحديث رقم (4583)، ولفظه:""كَانَتْ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا: فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ".
(18)
أنظر: تفسير الطبري (5843): ص 5/ 418.
(19)
أنظر: تفسير الطبري (5844): ص 5/ 418. والرفيه: ، هو أبو العالية الرياحي.
(20)
أنظر: تفسير الطبري (5845): ص 5/ 418.
والرابع: الأصنام والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللَّه تعالى (1). روي ذلك عن مالك (2).
والخامس: مَرَدَة الإنس والجن (3).
والسادس: وقيل: أنه كل ذي طغيان طغى على الله، فيعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، أو بطاعة له، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً، روي ذلك عن الإمام مالك (4)، وابن القيم (5)، وهذا قول أبي جعفر الطبري (6).
والسابع: أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء، كما قال تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، ذكره الماوردي (7).
والراجح-والله أعلم- أن الطاغوت عبارة عن كل مُعتدٍ وكل معبود من دون الله (8)، وهو اختيار الإمام الطبري وأبي حيان (9) وغيرهم. وبه قال أكثر أهل العلم.
واختلفوا في أصل كلمة {الطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، على وجهين (10):
القول الأول: أنه اسم أعجمي معرّب، ومن ثم اختلف هؤلاء في اشتقاقه على أقوال (11):
أ- قال الشوكاني: "الطاغوت: فعلوت، من طغى يطغي ويطغو، إذا جاوز الحد"(12).
ب-قال سيبويه: "هو اسم مذكَّر"(13) مفرد، أي اسم جنس، يشمل القليل والكثير.
ج- وقال أبو على الفارسي: "إنه مصدر: كرهبوت، وجبروت، يوصف به الواحد، والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام"(14)، كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفًا؛ لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت. واختار هذا القول النحاس (15).
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 446 - 447، تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} .
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (2622): ص 2/ 495.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 327.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره، 5/ 248، عن ابن وهب، عن الإمام مالك، وانظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 44.
(5)
وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت ما ذكره ابن القيم / بقوله: "والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع". [إعلام الموقعين عن رب العالمين، 1/ 50].
(6)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 419.
(7)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 327.
(8)
انظر: المفردات فى غريب القرآن للأصفهانى: 30.4
(9)
قال أبو حيان بعد أن سرد الأقوال في معنى (الطاغوت): " وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها". [البحر المحيط: 2/ 210].
(10)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 328.
(11)
انظر: فتح القدير: 1/ 275، والمحرر الوجيز: 1/ 344، وتفسير القرطبي: 3/ 281، والبحر المحيط: 2/ 599، وفتح البيان في مقاصد القرآن: 2/ 99، والحجة للقراء السبعة: 4/ 137.
(12)
فتح القدير: 1/ 275.
(13)
الكتاب: 3/ 240. وذكر صاحب اللسان (طغى)، قال ابن منظور: يقع على الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهي مشتقة من طغى، والطاغوتُ الشيطان، والكاهِنُ، وكلُّ رأْسٍ في الضَّلالة، وقد يكون واحداً قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، وقد يكون جَمْعاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]، وهو مثل الفُلْكِ يُذَكَّرُ ويؤنَّث، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، والطاغوتُ يكونُ من الأَصْنامِ، ويكون من الجِنِّ والإِنس، ويكون من الشياطين، وجمعُ الطاغوتِ: طَواغِيتُ، والطَّوَاغِي: جمع طاغيَةٍ، ويجوز أَن يُراد بالطَّواغِي: من طَغَى في الكُفرِ، وجاوَزَ الحَدَّ". [لسان العرب لابن منظور، 15/ 7، مادة (طغى)، ومقاييس اللغة، 3/ 322، مادة (طغى)، والمصباح المنير، 2/ 273، مادة (طغى)].
(14)
المحرر الوجيز: 1/ 344.
(15)
أنظر: معاني القرآن: 1/ 270.
وقيل: "أصل الطاغوت في اللغة: مأخوذ من الطغيان، يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلٍ، من اللؤلؤ"(1).
ثم اختلف في لفظ الطاغوت أمفرد هو أم جمع على قولين:
الأول: أنه جمع، قاله المبرد ورده عليه جماعة كالفارسي وابن عطية وآخرون (2).
الثاني: أنه مفرد، واختلفوا على قولين:
أ-أنه مصدر على وزن فَعَلُوت، أي: طَغَيُوِت، فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصار على وزن فَلَعُوت، أي: طَيَغُوت، ثم قلبت لامه (الياء) ألفا فصار طاغوت. وهو مصدر يوصف به الواحد والجمع، نظير قولهم: رجل عدل وقوم عدل، إذ في الكلام دليل على الواحد أو الجماعة، وهو قولهم: رجل أو قوم، وقد وجد هنا ما يرجح كون المراد به الجماعة وهو قوله:{يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة: 257]، وذلك ما جعله الزجاج (3) شرطاً للجواز، وذلك ظاهر قول الكسائي وأبي حاتم والطبري وأبي علي الفارسي والواحدي والزبيدي وآخرين (4).
ب-أنه اسم جنس مفرد لطائفة جاوزت الحد في الطغيان، وقد اختار هذا القول أبو حيان (5)، وحُمِل عليه قول سيبويه بأن: الطاغوت اسم مفرد (6).
القول الثاني: أنه اسم عربي مشتق من الطاغية، قاله ابن بحر (7).
وقوله تعالى: {وَيُؤْمِن بِاللهِ} ، أي:" ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده"(8).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن سعيد بن جبير، يعني قوله: {ويؤمن بالله} يعني: يصدقون بتوحيد الله"(9).
قال ابن كثير: " ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو"(10).
قال ابن عطية: وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت" (11).
قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]، أي" فقد استمسك من الدين بأقوى سبب"(12).
قال الطبري: " فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه"(13).
قال ابن كثير: "فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم"(14).
قال القاسمي" أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب. وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم. هي في نفسها محكمة مبرمة قوية. وربطها قويّ شديد"(15).
(1) معاني القرآن للنحاس: 1/ 269.
(2)
انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 285، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 16 - 17، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 272.
(3)
أنظر: معاني القرآن: 1/ 340.
(4)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 8/ 168، جامع البيان للطبري: 5/ 428، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 162 ب، البسيط للواحدي: 1/ 154 ب، فتح الباري لابن حجر: 9/ 178.
(5)
انظر: البحر المحيط: 2/ 283.
(6)
انظر: الكتاب لسيبويه: 3/ 240، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 79، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 285، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 307.
(7)
نقلا عن الماوردي في النكت والعيون: 328. ولم اجده في تفسير ابي مسلم الأصفهاني المشهور بابن بحر.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 419.
(9)
تفسير ابن أبي حاتم (2623): ص 2/ 496.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 683.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 344.
(12)
تفسير ابن كثير: 1/ 683.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 419.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 683.
(15)
محاسن التأويل: 2/ 194.
قال البغوي: " أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين"(1).
قال ابن حجر: " قوله: {الوُثْقَى} تأنيث الأوثق، مأخوذ من الوَثاق بالفتح (2)، وهو حبل أو قيد يُشدُّ به الأسير والدابة"(3).
قال الطبري: " و {العروة}، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته"(4).
قال ابن عثيمين: " {بالعروة الوثقى} أي المقبض القوي الذي ينجو به؛ والمراد به هنا الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لأن به النجاة من النار"(5).
وقوله تعالى: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]، ذكر أهل العلم فيه سبعة أوجه (6):
أحدها: الإيمان بالله، وهو قول مجاهد (7).
والثاني: سنة الرسول (8).
والثالث: التوفيق (9).
والرابع: القرآن، قاله السدي (10) وأنس بن مالك (11).
والخامس: هو الحب في الله والبغض في الله. قاله سالم بن أبي الجعد (12).
والسادس: هو قول: لا إله إلا الله. قاله سعيد بن جبير (13) والضحاك (14) وابن عباس (15) ومجاهد (16).
والسابع: هو الإسلام، قاله السدي (17).
قال الراغب-بعد أن ذكر بعض الأقوال الالسابقة-: "فنظرات منهم إلى مبتدى الدين ومنتهاه، وكله صحيح"(18).
وقال ابن عطية: " وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد"(19).
(1) تفسير البغوي: 1/ 314.
(2)
انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 421، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 314، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 283، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 282، الدر المصون للسمين: 1/ 617، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 134، فتح القدير للشوكاني: 1/ 410، فتح البيان لصديق خان: 2/ 100.
(3)
الهدي: 214، وانظر: تهذيب اللغة للأزهري: 9/ 266، لسان العرب لابن منظور: 6/ 4764، النهاية لابن الأثير: 5/ 151، المفردات للراغب: 1/ 512، تاج العروس للزبيدي: 13/ 472 - 473.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 421.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 4/ 267.
(6)
أنظر: تفسير ابن كثير: 1/ 684، والنكت والعيون: 1/ 328، والمحرر الوجيز: 2/ 22 - 23.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (5847) و (5848): ص 5/ 421، وابن ابي حاتم (2627): ص 2/ 496.
(8)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 532.
(9)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 532.
(10)
نقلا عن تفسير ابن كثير: 1/ 684.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2625): ص 2/ 496.
(12)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2626): ص 2/ 496، ونقله ابن كثير في تفسيره: 1/ 684.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (5850): ص 5/ 421، و (5851): ص 5/ 422. ونقله ابن كثير في تفسيره: 1/ 684.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (5852): ص 5/ 422.
(15)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2624): ص 2/ 496.
(16)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 496.
(17)
تفسير الطبري (5849): ص 5/ 421. وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 496.
(18)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 532.
(19)
المحرر الوجيز: 1/ 344.
قال ابن كثير: " وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها"(1).
وقوله تعالى: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، يعني " لا انكسار لها"(2).
قال البغوي: "لا انقطاع لها"، وكذا قاله السدي (3) ومعاذ بن جبل (4).
قال ابن عثيمين: " أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية"(5).
قال ابن كثير: " وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد"(6).
وسئل معاذ بن جبل عن قول الله: " {قد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها قال: لا انفصام لها يعني: لا انقطاع لها- مرتين- دون دخول الجنة"(7).
قال ابن أبي حاتم: "وروي عن السدي نحو ذلك"(8).
وروي عن مجاهد في قوله: " {لا انفصام لها}، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(9).
وأصل الفصم: القطع (10)، وقيل: الفصم بالفاء: القطع إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة (11). ومنه قول أعشى بني ثعلبة (12):
ومبسمها عن شتيت النبات
…
غير أكس ولا منفصم
قال ابن عطية: " والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه، والفصم كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة، ومن ذلك قول ذي الرمة (13):
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 684.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 422.
(3)
أنظر: تفسير الطبري: (5855): ص 5/ 423.
(4)
نقلا عن تفسير ابن كثير: 1/ 684. ولفظ قوله: " لا انقطاع لها دون دخول الجنة".
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 267.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 684.
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2628): ص 2/ 496 - 497 ..
(8)
تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 497.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (5853): ص 5/ 423. وابن ابي حاتم (2629): ص 2/ 497.
(10)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 239، معاني القرآن للنحاس: 1/ 272، النكت والعيون للماوردي: 1/ 328 وعزاه للسدي، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 314، الكشاف للزمخشري: 1/ 387، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 134. وعبر قوم بالكسر بدل القطع، انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 423، البسيط للواحدي: 1/ 154 أ، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 79، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 93.
(11)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 12/ 213، الصحاح للجوهري: 5/ 2002 و: 2013، لسان العرب لابن منظور: 5/ 3424 و: 3656، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 284، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 282، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 272 و 283، الدر المصون للسمين: 1/ 618، والفتح: 1/ 28، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 306، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 386، والأخيران لم يذكرا القصم.
(12)
ديوانه: 2، ونقله الطبري: 5/ 422. من قصيدة من جيد شعر الأعشى، وقبله أبيات من تمام معناه:
أتهجر غانية أم تلم
…
أم الحبل واه بها منجذم
أم الرشد أحجى فإن امرءا
…
سينفعه علمه إن علم
كما راشد تجدن امرءا
…
تبين، ثم انتهى إذ قدم
عصى المشفقين إلى غيه
…
وكل نصيح له يتهم
وما كان ذلك إلا الصبا
…
وإلا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة
…
محل الخليط بصحراء زم
ومبسمها ..............
…
. . . . . . . . . . . .
فبانت وفي الصدر صدع لها
…
كصدع الزجاجة ما يلتئم
وقوله: " ومبسهما " منصوب عطفا ما قبله، وهو مصدر ميمى، أي ابتسامها. والشتيت: المتفرق المفلج، يعنى: عن ثغرها شتيت النبات، غير متراكب نبتة الأسنان. والأكس، من الكسس (بفتحتين): وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل، فتكون الثنيتان العلييان وراء السفليين من داخل الفم. وهو عيب في الخلفية. ورواية الديوان:" منقصم " وهي أجود معنى.
(13)
ديوانه: 572. يصف غزالا قد انحنى في نومه، فشبّهه بدملج قد انفصم.
كأنه دملج من فضة نبه
…
في ملعب من عذارى الحي مفصوم" (1)
قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، " أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم"(2).
قال القاسمي: "اعتراض تذييليّ حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق، بما فيه من الوعد والوعيد"(3).
قال البغوي: " {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} قيل: لدعائك إياهم إلى الإسلام، {عَلِيم} بحرصك على إيمانهم"(4).
قال ابن عطية: " ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سَمِيعٌ من أجل النطق وعَلِيمٌ من أجل المعتقد"(5).
قال السعدي: " فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها"(6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أنه لا يكره أحد على الدين لوضوح الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} ؛ هذا على القول بأنها خبرية؛ أما على القول بأنها إنشائية فإنه يستفاد منها أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدين؛ وبينت السنة كيف نعامل الكفار؛ وذلك بأن ندعوهم إلى الإسلام؛ فإن أبوا فإلى بذل الجزية؛ فإن أبوا قاتلناهم.
2 -
ومنها: أنه ليس هناك إلا رشد، أو غي؛ لأنه لو كان هناك ثالث لذُكر؛ لأن المقام مقام حصر؛ ويدل لهذا قوله تعالى:{فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32]، وقوله تعالى:{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
3 -
ومنها: أنه لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك؛ لقوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} ؛ فمن آمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت فليس بمؤمن.
4 -
ومنها: أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت؛ لقوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} ؛ وجه هذا أنه سبحانه وتعالى جعل الكفر بالطاغوت قسيماً للإيمان بالله؛ وقسيم الشيء غير الشيء؛ بل هو منفصل عنه.
5 -
ومنها: أنه لا نجاة إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لقوله تعالى:{فقد استمسك بالعروة الوثقى} .
6 -
ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ يؤخذ ذلك من اسم التفضيل: {الوثقى} ؛ لأن التفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ ولا شك أن الأعمال تتفاضل بنص القرآن، والسنة؛ قال تعالى:{ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} ؛ [الملك: 2] و {أحسن} اسم تفضيل؛ وهذا دليل على أن الأعمال تتفاضل بالحُسن؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها» (7) وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» (8)؛ ويلزم من تفاضل الأعمال تفاضل العامل: كلما كان
(1) المحرر الوجيز: 1/ 344.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 195.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 314.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 344.
(6)
تفسير السعدي: 1/ 110.
(7)
أخرجه البخاري ص 44، كتاب مواقيت الصلاة، باب 5: فضل الصلاة لوقتها، حديث رقم 527، وأخرجه مسلم ص 693، كتاب الإيمان، باب 36: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث رقم 253 [138]85.
(8)
أخرجه البخاري ص 545 – 546، كتاب الرقاق، باب 38: التواضع، حديث رقم 6502.
العمل أفضل كان العامل أفضل؛ وتفاضل الأعمال يكون بعدة أمور: بحسب العامل؛ بحسب العمل جنسه، أو نوعه؛ بحسب الزمان؛ بحسب المكان؛ بحسب الكيفية، والمتابعة؛ بحسب الإخلاص لله؛ بحسب الحال.
مثاله بحسب العامل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه» (1).
ومثاله بحسب العمل: جنسه، ونوعه؛ فالصلاة مثلاً أفضل من الزكاة؛ والزكاة أفضل من الصيام؛ هذا باعتبار الجنس؛ ومثاله باعتبار النوع: الفريضة من كل جنس أفضل من النافلة؛ فصلاة الفجر مثلاً أفضل من راتبة الفجر.
ومثاله بحسب الزمان: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً» (3).
ومثاله بحسب المكان قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (4).
ومثاله بحسب الكيفية؛ بمعنى أن كيفية العبادة تكون أفضل من كيفية أخرى، كالخشوع في الصلاة قال تعالى:{قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1، 2].
مثاله بحسب المتابعة: قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]؛ فكلما كان الإنسان للرسول أتبع كان عمله أفضل؛ لأن القاعدة أن الحكم المعلَّق بوصف يقوى بحسب ذلك الوصف.
ومثاله بحسب الإخلاص أنه كلما كان العامل أشد إخلاصاً لله كان أكمل ممن خالط عمله شيء من الشرك؛ ومثاله بحسب الحال: العبادة بين أهل الغفلة، والإعراض أفضل من العبادة بين أهل الطاعة، والإقبال؛ ولهذا كان العامل في أيام الصبر له أجر خمسين من الصحابة لكثرة الإعراض عن الله عز وجل، وعن دينه؛ فلا يجد أحداً يساعده، ويعينه؛ بل ربما لا يجد إلا من يتهكم به، ويسخر به؛ ومن تفاضلها باعتبار الحال أن العفة من الشاب أفضل من العفة من الشيخ؛ لأن شهوة الشاب أقوى من شهوة الشيخ؛ فالداعي إلى عدم العفة في حقه أقوى من الداعي بالنسبة للشيخ؛ ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني أشد من عقوبة الشاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعة لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه» (5).
7 -
ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله - هما «السميع العليم» ، وما تضمناه من صفة.
القرآن
(1) أخرجه البخاري ص 299، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب، حديث رقم 3673، وأخرجه مسلم ص 1123، كتاب فضائل الصحابة، باب 54، تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث رقم 6487 [221]2540.
(2)
أخرجه البخاري ص 969، كتاب العيدين، باب 11، فضل العمل في أيام التشريق، حديث رقم 969؛ وأخرجه الترمذي ص 1722، كتاب الصوم، باب 52: ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم 757؛ واللفظ له.
(3)
أخرجه البخاري ص 229، كتاب الجهاد، باب 36: فضل الصوم في سبيل الله، حديث رقم 2840، وأخرجه مسلم ص 862، كتاب الصوم، باب 31: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه
…
، حديث رقم 2713 [168]1153.
(4)
أخرجه البخاري ص 92، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، باب 1: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث رقم 1190، وأخرجه مسلم ص 908، كتاب الحج، باب 94: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، حديث رقم 3374 [505]1394.
(5)
أخرجه الطبراني في المعجم الصغير 2/ 21؛ وقال المنذري في الترغيب والترهيب رواته محتج بهم في الصحيح 2/ 587، ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين، حديث رقم 9.
التفسير:
الله يتولى المؤمنين بنصره وتوفيقه وحفظه، يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان. والذين كفروا أنصارهم وأولياؤهم الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله، يُخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، أولئك أصحاب النار الملازمون لها، هم فيها باقون بقاء أبديًا لا يخرجون منها.
في سبب نزول الآية، روي عن "المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}، إلى {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، وأنزلت فيهم هذه الآية"(1).
قال ابن عطية: " فكأن هذا القول أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات. ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، ومترتب في الناس جميعا. وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ومن كفر بعد وجود الداعي النبي المرسل فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد وأهل للدخول فيه. وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت لم تدخل فيه البتة"(2).
قوله تعلى {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، " أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم"(3).
قال الطبري: " نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه"(4).
قال القاسمي: أي حافظهم وناصرهم" (5).
قال ابن عثيمين: "أي: متوليهم؛ والمراد بذلك الولاية الخاصة"(6).
قال الشوكاني: "الولي (فعيل) بمعنى (فاعل) وهو الناصر"(7).
قال ابن عطية: " الـ (وَلِيُّ) فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه، فإذا لازم أحد أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه"(8).
قال الراغب: " الولي: كون الشيء بجنب الآخر، ويعتبر ذلك تارة بالمكان، فيقال له الولاية وتارة بالنصر فيقال له الولاء والموالاة، لكن الولاء على ضربين باعتبار نسبة الأعلى إلى الأسفل، وضرب باعتبار نسبة الأسفل إلى الأعلى، ولهذا يقال للخادم والمخدوم مولى، وولي، لأن كل واحد منهما يوالي الآخر الخادم بالطاعة والنصيحة، والمخدوم بالإشفاق، والكناية، وقال: أهل اللغة: المولى المالك، والمملوك والمعتق والمعتق والناصر والمنصور وابن العم والحليف والجار والقيم، وأخذوا في كل ذلك المتطابقين، لكون كل واحد مهما موالياً للآخر بوجه"(9).
(1) أخرجه الطبري (5859): ص 5/ 426. وفي رواية ابن أبي حاتم (2630): 2/ 497: "حدثنا أبى، ثنا يحي بن المغيرة، ابنا جرير، عن منصور، عن عبدة ابن أبي لبابة، عن مقسم أو مجاهد، في قول الله عز وجل: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور قال: كان قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، آمن به الذين كفروا بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى فقال: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور يخرجهم من كفرهم بعيسى إلى إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن أبي مالك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك".
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 345.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 425.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 195.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 271.
(7)
فتح القدير: 1/ 276.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 345.
(9)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 533.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، "أى: أرادوا أن يؤمنوا" (1).
قال الشوكاني: " الذين ارادوا الإيمان لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبه التي تعرض للمؤمنين فلا يحتاج إلا تقدير الارادة"(2).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، وجوها (3):
الأول: يتولاهم بالنصرة.
والثاني: مرشدهم وولي هدايتهم. قاله الحسن (4).
الثالث: وقيل: محبهم.
الرابع: وقيل: متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.
قال ابن كثير: " يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير"(5)
قوله تعالى: {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، أي:" يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"(6).
قال الصابوني: أي" يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية"(7).
قال الطبري: "وإنما جعل {الظلمات} للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن] أبصار القلوب"(8).
قوله تعالى: {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، فيه وجهان:
أحدهما: من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى، قاله قتادة (9)، وبمعناه قال: الضحاك (10)، والربيع (11).
والثاني: يخرجهم من ظلمات العذاب في النار، إلى نور الثواب في الجنة (12).
قال ابن عثيمين: " وجمع {الظلمات} باعتبار أنواعها؛ لأنها إما ظلمة جهل؛ وإما ظلمة كفر؛ وإما ظلمة فسق؛ أما ظلمة الجهل فظاهرة: فإن الجاهل بمنزلة الأعمى حيران لا يدري أين يذهب كما قال تعالى: {أَوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [الأنعام: 122] وهذا صاحب العلم؛ {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122]: وهذا صاحب الجهل؛ وأما ظلمة الكفر فلأن الإيمان نور يهتدي به الإنسان، ويستنير به قلبه، ووجهه؛ فيكون ضده - وهو الكفر - على العكس من ذلك؛ أما ظلمة الفسق فهي ظلمة جزئية تكبر، وتصغر بحسب ما معه من المعاصي؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن
(1) تفسير الكشاف: 1/ 304.
(2)
فتح القدير: 1/ 276.
(3)
أنظر: تفسير البغوي: 1/ 315.
(4)
نقلا عن تفسير البغوي: 1/ 315.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 425.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 425.
(9)
أظر: تفسير الطبري (5856): ص 5/ 425.
(10)
أظر: تفسير الطبري (5857): ص 5/ 425.
(11)
أظر: تفسير الطبري (5858): ص 5/ 425.
(12)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 328.
العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء (1) - والسواد ظلمة، وتزول هذه النكتة بالتوبة، وتزيد بالإصرار على الذنب؛ فالظلمات ثلاث: ظلمة الجهل، والكفر، والمعاصي؛ يقابلها نور العلم، ونور الإيمان، ونور الاستقامة" (2).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]، " أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين"(3).
اخرج ابن ابي حاتم "عن مقاتل، قوله: {والذين كفروا}، يعني: أهل الكتاب"(4).
قال ابن عثيمين: " أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله، أو برسوله، أو بملائكته، أو باليوم الآخر، أو بالقدر، أو غيرها مما يجب الإيمان به"(5).
قال ابن كثير: " وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات"(6).
قال الزمخشري: " والذين كفروا أولياؤهم الشياطين"(7).
قال القاسمي: " أي: الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق"(8).
قال الراغب: " والنور: عبارة عن العلم والإيمان والظلمة عن ضدهما، ووجه ذلك أنه لما كان للإنسان نظرات بنظر وتبصر، ويرى بهما البصر الحاس في الرأس والبصيرة في القلب، فكما أن البصر لا يستغنى في إدراك ما يدركه من المعقولات عن نور يمده وهو نور التوفيق والإيمان، ويقال لفقد البصرين عمى، ولفقد النورين ظلمة، وأعظمهما ضرراً فقد البصيرة ونور العقل، ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فلم يعد فقد البصر عمى، بالإضافة إلى فقد البصيرة، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وقوله: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني بذلك كلا النورين والظلمتين"(9).
قال ابن عطية: " في هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس، ولذلك قال أَوْلِياؤُهُمُ بالجمع، إذ هي أنواع"(10).
وفي قراءة الحسن بن أبي الحسن، {أولياؤهم الطواغيت} ، يعني الشياطين (11).
قال ابن عثيمين: " إذا تأملت هذه الجملة {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} ، والتي قبلها تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب: ففي الجملة الأولى قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} لأمور ثلاثة:
أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به.
ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل.
ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور.
أما الجملة الثانية: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} ؛ ولو كانت الجملة على سياق الأولى لقال: «والطاغوت أولياء الذين كفروا» ؛ ومن الحكمة في ذلك:
أولاً: ألّا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله.
(1) أخرجه مسلم ص 702، كتاب الإيمان، باب 64: رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب
…
، حديث رقم 369 [231]144.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 271 - 272.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2631): ص 2/ 497.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 282.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 304.
(8)
محاسن التأويل: 2/ 195.
(9)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 533.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 345.
(11)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 345.
ثانياً: أن الطاغوت أهون، وأحقر من أن يُبدأ به، ويُقدّم.
ثالثاً: أن البداءة بقوله تعالى: {الذين كفروا} أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره" (1).
وقوله تعالى: {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، أي:" يخرجونهم من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة"(2).
قال الصابوني: "يخرجونهم من نور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال"(3).
قال مقاتل: " يعني: أهل الكتاب، كانوا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجدونه في كتبهم، وكانوا هـ مؤمنين، قبل أن يبعث، فلما بعثه الله كفروا وجحدوا وأنكروا، فذلك خروجهم من النور، يعني من إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ويعني بالظلمات: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم"(4).
قال ابن أبي حاتم: "وروي عن الربيع بن أنس وقتادة وأبي مالك، نحو ذلك"(5).
قال ابن كثير: " ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك"(6).
قال القاسمي: يخرجونهم" بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء من الإيمان الفطريّ الذي جبل عليه الناس كافة، أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ظلمات الكفر والغي"(7).
قال الشوكاني: " والمراد بالنور في قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [257]، ما جاء به انبياء الله من الدعوة إلى الدين فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر أي قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء، وقيل المراد بالذين كفروا هنا الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج"(8).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، وجهين (9):
أحدهما: يخرجونهم من نور الهدى إلى ظلمات الضلالة.
قال الواقدي: "كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد منه الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام، "وجعل الظلمات والنور" فالمراد منه الليل والنهار، سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه"(10).
والثاني: يخرجونهم من نور الثواب إلى ظلمة العذاب في النار.
فإن قيل: فكيف يخرجونهم من النور، وهم لم يدخلوا فيه؟ فعن ذلك ثلاثة اجوبة (11):
أحدهما: أنها نزلت في قوم مُرْتَدِّين، قاله مجاهد (12).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 272.
(2)
تفسير الكشاف: 1/ 304.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم (2632): ص 2/ 497 - 498.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 498.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(7)
محاسن التأويل: 1/ 195.
(8)
فتح القدير: 1/ 276.
(9)
انظر: النكت والعيون: 1/ 328 - 329.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 315.
(11)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 329، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 273.
(12)
النكت والعيون: 1/ 329.
أي: " يراد بهذا من كانوا على الإيمان أولاً، ثم أُخرجوا كما هو ظاهر اللفظ"(1).
والثاني: أنها نزلت فيمن لم يزل كافراً، وإنما قال ذلك لأنهم لو لم يفعلوا ذلك بهم لدخلوا فيه، فصاروا بما فعلوه بمنزلة من قد أخرجهم منه.
والثالث: أنهم كانوا على الفطرة عند أخذ الميثاق عليهم، فلما حَمَلُوهم على الكفر أخرجوهم من نور فطرتهم، "فإن كل مولود يولد على الفطرة؛ فكانوا على الفطرة السليمة، والإيمان، ثم أخرجوهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (2) "(3).
قال القاسمي: " وإفراد {النور} لوحدة الحق، كما أن جمع {الظلمات} لتعدد فنون الضلال"(4). وقال ابن كثير: " ولهذا وحد تعالى لفظ {النور} وجمع {الظلمات}؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} [الأنعام: 1] وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه"(5).
قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، أي: هؤلاء الذين كفروا" ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً"(6).
قال ابن عثيمين: قوله {أُولَئِكَ} ، أي: المشار إليه الذين كفروا، ودعاتهم، هم أهل النار الملازمون لها (7).
قال ابن عطية: " وحكم عليهم بالخلود في النار لكفرهم"(8).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه تحصل به ولاية الله عز وجل؛ لقوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} .
2 -
ومنها: إثبات الولاية لله عز وجل؛ أي أنه سبحانه وتعالى يتولى عباده؛ وولايته نوعان؛ الأول: الولاية العامة؛ بمعنى أن يتولى شؤون عباده؛ وهذه لا تختص بالمؤمنين، كما قال تعالى:{وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30] يعني الكافرين؛ والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين، كقوله تعالى:{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11]، وكما في قوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} ؛ ومقتضى النوع الأول أن لله تعالى كمال السلطان، والتدبير في جميع خلقه؛ ومقتضى النوع الثاني: الرأفة، والرحمة، والتوفيق.
3 -
ومن فوائد الآية: أن من ثمرات الإيمان هداية الله للمؤمن؛ لقوله تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} .
4 -
ومنها: أن الكافرين أولياؤهم الطواغيت سواء كانوا متبوعين، أو معبودين، أو مطاعين.
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 273.
(2)
أخرجه البخاري ص 108، كتاب الجنائز، باب 92: ما قيل في أولاد المشركين، حديث رقم 1385، وأخرجه مسلم ص 1141، كتاب القدر، باب 6: معنى كل مولود يولد على الفطرة
…
، حديث رقم 6755 [22]2658.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 273.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 195.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 147.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 273.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 345.
5 -
ومنها: براءة الله عز وجل من الذين كفروا؛ يؤخذ من المنطوق، والمفهوم؛ فالمفهوم في قوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} فمفهومه: لا الذين كفروا؛ المنطوق من قوله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} ؛ وهذا مقابل لقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} .
6 -
ومنها: سوء ثمرات الكفر، وأنه يهدي إلى الضلال - والعياذ بالله؛ لقوله تعالى:{يخرجونهم من النور إلى الظلمات} ؛ وهذا الإخراج يشمل ما كان إخراجاً بعد الوقوع في الظلمات، وما كان صدًّا عن النور؛ وعلى الثاني يكون المراد بإخراجهم من الظلمات: استمرارهم على الظلمات.
7 -
ومنها: أن الكفر مقابل الإيمان؛ لقوله تعالى: {ولي الذين آمنوا والذين كفروا
…
} إلخ؛ ولكن هل معنى ذلك أنه لا يجتمع معه؟ الجواب أنه قد يجتمع معه على القول الراجح الذي هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (1)؛ وهذا الكفر لا يرفع الإيمان لقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
…
} [الحجرات: 9] إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10]؛ فأثبت الأخوة الإيمانية مع الاقتتال الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كفر؛ وانظر إلى الإنسان يكون فيه كذب - وهو من خصال المنافقين؛ ويكون فيه حسد - وهو من خصال اليهود؛ ويكون فيه صدق - وهو من خصال المؤمنين؛ ويكون فيه إيثار - وهو من صفات المؤمنين أيضاً؛ لكن الكفر المطلق - وهو الذي يخرج من الإسلام - لا يمكن أن يجامع الإيمان.
8 -
ومن فوائد الآية: إثبات النار؛ لقوله تعالى: {أولئك أصحاب النار} ؛ والنار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131]؛ فقال تعالى: {أعدت} بلفظ الماضي؛ والإعداد هو التهيئة؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه رآها: ففي صلاة الكسوف عرضت عليه النار، ورأى فيها عمرو بن لُحيّ يجر قصبه في النار (2)؛ ورأى المرأة التي تعذب في هرة؛ ورأى صاحب المحجن يعذب (3)؛ المهم أن النار موجودة أبدية؛ وليست أزلية؛ لأنها مخلوقة بعد أن لم تكن؛ ولكنها أبدية لا تفنى: قال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} [فاطر: 36]؛ وذكر تأبيد أهلها في ثلاثة مواضع من القرآن؛ وبهذا يعرف بطلان قول من يقول: «إنها تفنى» ؛ وأنه قول باطل مخالف للأدلة الشرعية.
9 -
ومنها: أن الكافرين مخلدون في النار؛ لقوله تعالى: {أولئك أصحاب النار} ؛ والصاحب للشيء: الملازم له.
10 -
ومنها: أن الخلود خاص بالكافرين؛ وأن من يدخل النار من المؤمنين لا يخلّد؛ لقوله تعالى: {هم فيها خالدون} ؛ يعني: دون غيرهم.
القرآن
التفسير:
(1) أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 36: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، حديث رقم 48، وأخرجه مسلم ص 691، كتاب الإيمان، باب 28: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، حديث رقم 221 [116]64.
(2)
راجع البخاري ص 287، كتاب المناقب، باب 9: قصة خزاعة، حديث رقم 3521؛ ومسلماً ص 1173، كتاب الجنة، باب 13: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم 7192 [50]3856.
(3)
راجع مسلماً ص 820، كتاب الكسوف، باب 3: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، حديث رقم 2102 [10]904.
هل رأيت -أيها الرسول- أعجب مِن حال هذا الذي جادل إبراهيم عليه السلام في توحيد الله تعالى وربوبيته؛ لأن الله أعطاه المُلْك فتجبَّر وسأل إبراهيمَ: مَن ربُّك؟ فقال عليه السلام: ربي الذي يحيي الخلائق فتحيا، ويسلبها الحياة فتموت، فهو المتفرد بالإحياء والإماتة، قال: أنا أحيي وأميت، أي أقتل مَن أردتُ قَتْلَه، وأستبقي مَن أردت استبقاءه، فقال له إبراهيم: إن الله الذي أعبده يأتي بالشمس من المشرق، فهل تستطيع تغيير هذه السُّنَّة الإلهية بأن تجعلها تأتي من المغرب؛ فتحيَّر هذا الكافر وانقطعت حجته، شأنه شأن الظالمين لا يهديهم الله إلى الحق والصواب.
قال الشوكاني: " في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت"(1).
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ} [البقرة: 258]، أي: هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي خاصم إبراهيم (2).
قيل: "هو نمرود بن كنعان". قاله مجاهد (3)، وقتادة (4)، والربيع (5)، والسدي (6)، وابن زيد (7) وابن إسحاق (8)، وزيد بن أسلم (9)، وابن جريج (10). وبه قال جمهول المفسرين.
قال البغوي: "وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية؟ "(11).
قال الشوكاني: " وهمزة الاستفهام لإنكار النفي والتقرير المنفي أي ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه المحاجة"(12).
قال القرطبي: " {أَلَمْ تَرَ}: هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له، وقال الفراء: "ألم تر" بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم"(13).
قال ابن عثيمين: " {ألم تر} يحتمل الأمرين؛ يعني: ألم تنظر يا محمد، أو: ألم تنظر أيها المخاطب"(14).
قال ابن عطية: " وهي رؤية القلب .. والضمير في {رَبِّهِ} يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يعود على {الَّذِي حَاجَّ} "(15).
قال الماوردي: "هو النمرود بن كنعان، وهو أول من تجبّر في الأرض وادّعى الربوبية"(16).
قال ابن عثيمين: " «حاجه» أي ناظره، وأدلى كل واحد بحجته؛ و «الحجة» هي الدليل، والبرهان، و {في ربه}، أي في وجوده، وفي ألوهيته"(17).
(1) فتح القدير: 1/ 277.
(2)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 315، وتفسير الطبري: 5/ 429.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (5861) و (5862) و (5863)، و (5864): ص 5/ 430.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5865) و (5866): ص 5/ 431.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5867): ص 5/ 431.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5868): ص 5/ 431.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5869): ص 5/ 431.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5870): ص 5/ 431.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5871): ص 5/ 431.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5872): ص 5/ 431.
(11)
تفسير البغوي: 1/ 315.
(12)
فتح القدير: 1/ 277.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 283.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 278.
(15)
المحرر الوجيز: 1/ 345.
(16)
النكت والعيون: 1/ 330.
(17)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 278.
قال ابن عطية: " وقرأ علي بن أبي طالب (ألم تر) بجزم الراء"(1)، " والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم"(2).
وفي الآية ذكر «إبراهيم» في ثلاث مرات؛ وفيها قراءتان: {إبراهيم} ، و {إبراهام} ؛ وهما سبعيتان (3).
قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، " أي: لأن آتاه الله" (4) الملك.
قال البغوي: " أي لأن آتاه الله الملك، فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه"(5).
قال الشوكاني: " أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله (6)، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر كما يقال عاديتنى لأني أحسنت إليك أو وقت أن آتاه الله الملك"(7).
قال ابن عثيمين: " أنه حاج إبراهيم لكونه أُعطي مُلكا"(8).
قال المراغي: " أي إن الذي أورثه الكبر والبطر، وحمله على الإسراف فى الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم - هو إيتاء الله إياه الملك"(9).
قال الحراليّ: "وفي إشعاره أن الملك بلاء وفتنة على من أوتيه"(10).
قال القاسمي: " يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر. فحاج لذلك، أو حاجه لأجله، وضعا للمحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه الشكر، كما يقال: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] "(11).
قال ابن عثيمين: " و «أل» في قوله تعالى: {الملك} الظاهر أنها لاستغراق الكمال - أي ملكاً تاماً لا ينازعه أحد في مملكته؛ لأن الله لم يعطه ملك السموات، والأرض؛ بل ولا ملك جميع الأرض؛ وبهذا نعرف أن فيما ذُكر عن بعض التابعين من أنه ملك الأرض أربعة - اثنان مؤمنان؛ واثنان كافران (12) - نظراً؛ ولم يُمَلِّك الله جميع الأرض لأيّ واحد من البشر؛ ولكن يُمَلِّك بعضاً لبعض؛ والله عز وجل يقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251]؛ أما أن يَملِك واحد من البشر جميع الأرض فهذا مستحيل في سنة الله عز وجل فيما نعلم"(13).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، وجهين (14):
أحدهما: هو النمرود، لما أوتي الملك حاجَّ في الله تعالى، وهو قاله مجاهد (15)، وقتادة (16)، والربيع (17)، والسدي (18)، وابن زيد (19) وابن إسحاق (20)، وزيد بن أسلم (21)، وابن جريج (22)، والحسن (23)، وابن عباس (24)، وبه قال جمهور المفسرين (25).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 345.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 287.
(3)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 278.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 286، وتفسير القاسمي: 2/ 196.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 315.
(6)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 287.
(7)
فتح القدير: 1/ 277.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 278.
(9)
تفسير المراغي: 1/ 496.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(12)
أخرجه الطبري (5873): ص 5/ 433.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 279.
(14)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (5861) و (5862) و (5863)، و (5864): ص 5/ 430.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5865) و (5866): ص 5/ 431.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5867): ص 5/ 431.
(18)
انظر: تفسير الطبري (5868): ص 5/ 431.
(19)
انظر: تفسير الطبري (5869): ص 5/ 431.
(20)
انظر: تفسير الطبري (5870): ص 5/ 431.
(21)
انظر: تفسير الطبري (5871): ص 5/ 431.
(22)
انظر: تفسير الطبري (5872): ص 5/ 431.
(23)
نقلا عن النكت والعيون: 1/ 329.
(24)
الدر المنثور: 2/ 25.
(25)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 346.
والثاني: وقيل: هو إبراهيم لما آتاه الله الملك حاجّه النمرود، قاله أبو حذيفة (1)، والمهدوي (2).
واحتجوا، بأن" الله تعالى لا يؤتي الملك الكفرة، لأن ذلك مفسدة ينزه الله تعالى عنها"(3).
قال ابن عطية: " قال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل من التأويل"(4).
والراجح هو قول الجمهور، لأن " السلطان من الأغراض الدنيوية، كالمال، والجاه، والأولاد، وذلك مما يؤتي المؤمن والكافر امتحانا واختباراً"(5).
قال الراغب: " إن قيل: أليس قلت: إن الملك اسم لما فيه العدالة، فكيف يصح أن يقال ذلك لما يتوارد للكافر؟
قيل: إن الملك الحقيقي الذي يجوز للإنسان المتسمي به هو ذاك لكن الناس يستعملونه فيمن يتسلط على الناس على أي وجه كان فتسمية الله تعالي إياه بذلك إنما هو على زعمه، وزعم أتباعه، كقوله:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فسماه عزيزاً لا بالحقيقة لكن على ما كان يتسمى به" (6).
وفي المحاجّة وجهان محتملان (7):
أحدهما: أنه معارضة الحجة بمثلها.
والثاني: أنه الاعتراض على الحجة بما يبطلها.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة، على قولين (8):
الأول: قال مقاتل: "حين كسر الأصنام سجنه نمروذ ثم أخرجه ليحرقه بالنار. فقال لإبراهيم- عليه السلام: من ربك {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وإياه أعبد ومنه أسأل"(9).
الثاني: وقيل: "أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة"(10)، قاله السدي (11) ،
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 258]، "أي حين قال له إِبراهيم مستدلاً على وجود الله"(12).
(1) نقلا عن النكت والعيون: 1/ 329.
(2)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 346.
(3)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 539.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 346.
(5)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 539.
(6)
تفسير الراغب الاصفهاني: 1/ 539.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
(8)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 315 - 316.
(9)
تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 215.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2636): ص 2/ 498. ونقله ابن كثير في تفسيره: 3/ 687.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
قال القاسمي: أي: "حين سأله من ربك الذي تدعونا إليه"(1).
قال الشوكاني: قوله" {إذ قال إبراهيم} هو ظرف لحاج، وقيل بدل من قوله {أن آتاه الله الملك}، على الوجه الأخير وهو بعيد"(2).
قوله تعالى: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، " يعني:" "ربي الذي بيده الحياة والموت" (3).
قال الطبري: يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء" (4).
قال الصابوني: "إِن ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهو وحده ربُّ العالمين"(5).
قال القاسمي: "أي بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه"(6).
قال ابن عثيمين: " أي يجعل الجماد حياً؛ ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1]؛ ثم يبقى في الأرض؛ ثم يُعدَم ويَفنى"(7).
قال الماوردي: " يريد أنه يحيي من وجب عليه القتل بالتخلية والاستبقاء، ويميت بأن يقتل من غير سبب يوجب القتل، فعارض اللفظ بمثله، وعدل عن اختلاف الفعلين في علتهما"(8).
قال ابن كثير: " أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له"(9).
قال ابن عثيمين: " ومعنى «الرب» الخالق المالك المدبر؛ وهذه الأوصاف لا تثبت على الكمال، والشمول إلا لله عز وجل"(10).
وقرأ حمزة {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، بإسكان الياء وكذلك:{حرم ربي الفواحش} [الأعراف: 33]، و {عن آياتي الذين يتكبرون} [الأعراف: 146]، و {قل لعبادي الذين} [إبراهيم: 31]، و {آتاني الكتاب} [مريم: 30]، و {مسني الضر} [الانبياء: 83]، و {عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105]، و {عبادي الشكور} [سبأك 13]، و {مسني الشيطان}] ص: 41]، و {إن أرادني الله} [الزمر: 38]، و {إن أهلكني الله} [الملك: 28]، أسكن الياء فيهن حمزة، ووافق ابن عامر والكسائي في {لعبادي الذين آمنوا} وابن عامر {آياتي الذين} وفتحها الآخرون (11).
قوله تعالى: {قَالَ: أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، أي: قال: "وأنا أيضاً أحيي وأميت"(12).
قال القاسمي: " أي بالقتل والعفو عنه"(13).
وعن عكرمة في قوله: " {أنا أحيي وأميت}، يقول: أنا أقتل من شئت، وأترك من شئت"(14).
(1) محاسن التأويل: 2/ 196.
(2)
فتح القدير: 1/ 277.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 432.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 280.
(8)
النكت والعيون: 1/ 330.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 279.
(11)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 316.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(13)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(14)
أخرجه ابن أبي حاتم (2647): ص 2/ 499.
قال الشوكاني: " فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم لأنه أراد غير ما أراده الكافر فلو قال له ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أول وهلة ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه وإرسالا لعنان المناظرة"(1).
قال المراغي: " أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله، وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها، وإزالة الحياة بالموت - وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة"(2).
وقوله تعالى: {أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، فيه وجهان:
الأول: أنه قال ذلك تلبيسا، فقال أكثر المفسرين: دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، لا عجزا، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان له أن يقول: فأحي من أمت إن كنت صادقا فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى (3).
روي ذلك عن قتادة (4)، ومجاهد (5)، وزيد بن أسلم (6)، والربيع (7)، والسدي (8)، وابن جريج (9)، ومحمد بن إسحاق (10).
قال ابن عثيمين: " والحقيقة أنه ما أحيا، ولا أمات هنا؛ وإنما فعل ما يكون به الموت في دعوى الإماتة؛ واستبقى ما كان حياً في دعواه الإحياء؛ فلم يوجِد حياة من عنده"(11).
الثاني: وقيل: بل قال ذلك مكابرة؛ يعني: "هو يعلم أنه لا يحيي، ولا يميت؛ كأنه يقول لإبراهيم: إذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي، وأميت؛ ثم إن إبراهيم عليه السلام انتقل إلى أمر لا يمكن الجدال فيه، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] "(12).
قال ابن كثير ردا على القول الأول: " والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا (13)؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} "(14).
قرأ جمهور القراء {أنا أحيي} ، بطرح (الألف) التي بعد (النون) من:{أنا} في الوصل، إذا تلتها ألف مفتوحة أو مضمومة، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، كما في قول الأعشى (15):
(1) فتح القدير: 1/ 277.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 497.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 432، وتفسير البغوي: 1/ 316.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5873): ص 5/ 433.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5874) (58: ص 5/ 434.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5875) و (5876): ص 5/ 433 - 435.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5877): ص 5/ 435.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5878): ص 5/ 436.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5879): ص 5/ 436.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5880): ص 5/ 436.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 280.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 280.
(13)
أي: لم يقلها تلبيسا.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(15)
ديوانه 53. وروايته فيه:
فما أنا أم ما انتحالي القوا
…
ف بعد المشيب كفى ذاك عاراً
وذكره أبو حيان في البحر 2/ 288، وأورده المبرد شاهداً على إثبات ألف أنا في الوصل ضرورة ثم قال: والرواية الجيدة: فكيف يكون انتحال القوافي بعد .... (الكامل 1/ 384).
والمعنى: ينفي عن نفسه ما اتهم به عند الممدوح من أنه يسطو على شعر غيره وينتحله لنفسه.
فكيف أنا وانتحالي القواف
…
ي بعد المشيب كفى ذاك عارا
ومنه قول الشاعر (1):
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني
…
حميدا قد تذرّيت السّناما
فوقفوا جميعا بالألف (2).
قال أحمد بن موسى: " فإنّ ورشا وأبا بكر بن أبي أويس وقالون رووا: إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن مثل: أَنَا أُحْيِي وأَنَا أَخُوكَ، [يوسف/ 69] إلّا في قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء/ 15] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القرّاء، وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، ولم يختلفوا في حذفها، إذا لم تلقها همزة إلا في قوله: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف/ 38] "(3).
قال أبو علي الفارسي: " القول في {أَنَا} أنّه ضمير المتكلم، والاسم: الهمزة والنون، فأما الألف فإنّما تلحقها في الوقف، كما تلحق الهاء له في نحو: مسلمونه، فكما أنّ الهاء التي تلحق للوقف، إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء؛ سقطت، كذلك هذه الألف تسقط في الوصل، والألف في قولهم: أنا، مثل التي في: حيّهلا، في أنها للوقف، فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء، سقطت، لأن ما يتصل به يقوم مقامه. مثل همزة الوصل في الابتداء، في نحو «3»: ابن واسم وانطلاق، واستخراج. فكما أنّ هذه الهمزة إذا اتّصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت، ولم تثبت، لأن ما يتّصل به يتوصّل به إلى النطق بما بعد الهمزة، فلا تثبت الهمزة لذلك؛ كذلك الألف في أَنَا والهاء إذا اتصلت الكلم التي هما فيها بشيء، سقطتا ولم يجز إثباتهما، كما لم تثبت به همزة الوصل، لأن الهمزة في هذا الطّرف، مثل الألف والهاء في هذا الطرف"(4).
وقوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} [البقرة: 258]، أي:" فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها - إن كنت صادقا أنك إله - من مغربها! "(5).
قال القاسمي: " أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلها كما ادعيت فأت بها من المغرب"(6).
قال الصابوني: " أي إِذا كنت تدعي الألوهية وأنك تحيي وتميت كما يفعل رب العالمين جل جلاله فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق بأمر الله ومشيئته فأطلعها من المغرب بقدرتك وسلطانك ولو مرة واحدة"(7).
قال المراغي: " أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع، والسنن الحكيمة التي نشاهدها، فإن كنت
(1) البيت لحميد بن بحدل الكلبي، انظر المنصف 1/ 10 وفيه: «سيف العشيرة
…
حميداً» وابن يعيش 3/ 93 والخزانة 2/ 390 وشرح شواهد الشافية 4/ 223، والصحاح أنن. وفي الأساس (ذرى) ونسبه لحميد، وعنه أثبته العلامة الميمني في ديوان حميد بن ثور ص 133 مع التحفظ فقال: الأساس (ذرى) لحميد، كذا بلا نسبة والصواب ما تقدم، وجعله ابن عصفور من الضرائر فقال: ومنها إثبات ألف أنا في الوصل إجراء لها مجرى الوقف، وأنشد بيت الأعشى السابق، وبيت حميد هذا (انظر الضرائر ص 49 - 50).
(2)
انظر: فتح القدير: 1/ 277، وتفسير البغوي: 1/ 316.
(3)
السبعة في القراءات: 188، وانظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 359.
(4)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 360.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 432.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 149
تستطيع أن تفعل كما يفعل، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب" (1).
قال النسفي: " كلمه من وجه لا يعاند، وكانوا أهل تنجيم، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال: إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون"(2).
فإن قيل: فَلِمَ عَدَل إبراهيم عن نصرة حجته الأولى إلى غيرها، وهذا يضعف الحجة ولا يليق بالأنبياء؟ ففيه جوابان (3):
أحدهما: أنه قد ظهر من فساد معارضته ما لم يحتج معه إلى نصرة حجته ثم أتبع ذلك بغيره تأكيداً عليه في الحجة.
والجواب الثاني: أنه لمّا كان في تلك الحجة إشغاب منه بما عارضها به من الشبهة أحب أنه يحتج عليه بما لا إشغاب فيه، قطعاً له واستظهاراً عليه.
قال الشوكاني: " لكون لهذه الحجة لا تجري فيها المغالطة لا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة"(4).
قال القاسمي: " ولما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوابه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد، والتصدي لإبطاله من قبيل السعي في تحصيل الحاصل، انتقل إبراهيم عليه السلام، إرسالا لعنان المناظرة معه، إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج مكابرة أو مشاغبة أو تلبيس على العوام"(5).
وقال ابن كثير: وقيل: " أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني، انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية، وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة"(6).
قال: {فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} فإن قيل فَهَلَاّ عارضه النمرود بأن قال: فليأت بها ربك من المغرب؟ ففيه جوابان (7):
أحدهما: أن الله خذله بالصرف عن هذه الشبهة.
والجواب الثاني: وقيل: إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه.
قال البغوي: " والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام"(8).
قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]، أي:" أي تحير ودهش وانقطعت حجته"(9).
قال سفيان: "فسكت، فلم يجبه بشيء"(10).
(1) تفسير المراغي: 1/ 497.
(2)
تفسير النسفي: 1/ 135.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
(4)
محاسن التأويل: 1/ 277.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330، وتفسير البغوي: 1/ 317.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 317.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 316 - 317.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2639): ص 2/ 499.
وقال ابن إسحاق: " وقعت عليه الحجة يعني: نمروذ"(1).
قال ابن كثير: أي" خرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة"(2).
قال القاسمي: " تحيّر ودهش وغلب بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام"(3).
قال المراغي: " أي فدهش ولم يجد جوابا، وكأنما ألقمه حجرا"(4).
قال الحافظ ابن كثير: " أي: ذهبت حجته"(5).
قال الصابوني: " أي أُخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً دهشاً لا يستطيع الجواب"(6).
قال ابن عثيمين: " أي تحير، واندهش، ولم يحرِ جواباً؛ فغلب إبراهيم الذي كفر؛ لأن وقوف الخصم في المناظرة عجز"(7).
قال ابن عاشور: " و {بهت} ، فعل مبني للمجهول يقال بهته فبهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه قال تعالى: بل تأتيهم بغتة فتبهتهم [الأنبياء: 40] وقال عروة العذري (8):
فما هو إلا أن أراها فجاءة
…
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه" (9).
وقوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]، فيه وجهان (10):
أحدهما: يعني تحيّر.
والثاني: معناه انقطع، وهو قول أبي عبيدة.
وقرئ: {فَبَهَت الَّذِي كَفَرَ} ، بفتح (الباء) و (الهاء)، بمعنى: أن الملك قد بهت إبراهيم بشبهته أي سارع بالبهتان.
قال الشوكاني: قال ابن جني: قرأ أبو حيوة (فبهت) بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر (الهاء)، قال: وقرأ ابن السميفع فبهت بفتح (الباء) و (الهاء) على معنى: فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون (بهت) بفتحهما لغة في (بهت)، وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة (فبهت)، بكسر (الهاء)، قال: والأكثر بالفتح في (الهاء) " (11).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2640): ص 2/ 499.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(4)
تفسير المراغي: 1/ 497.
(5)
الهدي: 95، وأصل البهت: التَّحيُر والدهشة، والمعنى: أنه انقطع وسكت متحيراً؛ لذهاب حجته وبطلانها. انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 307، الصحاح للجوهري: 1/ 244، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 79، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 341، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 94، جامع البيان للطبري: 5/ 432، البسيط للواحدي: 1/ 155 ب، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 289، المفردات للراغب: 63، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 29، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 285، الدر المصون للسمين: 1/ 621، الدرر المبثثة في الغرر المثلثة للفيروزآبادي:52.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 280.
(8)
البيت لكثير عزة في ديوانه ص 522؛ والحماسة الشجرية 1/ 528؛ وسمط اللآلي ص 400؛ وللمجنون في ديوانه ص 49؛ وللأحوص في ملحق ديوانه ص 213؛ والأغاني 4/ 250؛ وخزانة الأدب 2/ 17؛ ولعروة بن حزام في خزانة الأدب 8/ 560، 561؛ والشعر والشعراء ص 626. فجاءة: بغتة. أبهت: أدهش وأتحير، والمعنى: إذا ما قصدت الحبيبة، لم يكن مني إلا أن أفاجأ برؤيتها فيعقد لساني، وكأني غير قادر على الكلام.
(9)
التحرير والتنوير: 3/ 34.
(10)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
(11)
فتح القدير: 1/ 278.
قال ابن عطية: " وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فَبُهِتَ بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة"(1).
قال الشوكاني: " وقال سبحانه {فبهت الذي كفر}، ولم يقل: فبهت الذي حاج، إشعار بأن تلك المحاجة كفر"(2).
قوله تعالى: قوله تعالى: {واللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، " أي: لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان بخلاف أوليائه المتقين" (3).
قال محمد بن إسحاق: "أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة"(4).
وعن السدي: " {والله لا يهدي القوم الظالمين} قال: إلى الإيمان"(5).
قال الطبري: " والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة"(6).
قال ابن كثير: " أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد"(7).
قال الواحدي: " لا يجعل جزاءهم على ظلمهم أن يهديهم"(8).
قال القاسمي: " أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا. بل حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 16] "(9).
قال ابن عثيمين: " أي: لا يوفقهم للهداية"(10).
قال ابن عطية: " إخبار لمحمد عليه السلام وأمته، والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالما"(11).
قال الراغب: " أي: لا يقبلون منه هدايته لهم، وإذا لم يقبلوا منه لم يعطهم، وإذا لم يعطهم فهو لم يهدهم، وأيضا فالظلم هاهنا مناف للهداية، فإنه جحود ألاء الله، والامتناع من قبولها والهداية تقتضي تحري العدالة، فإذا الهداية والظلم كالمتضادين لا يجتمعان"(12).
قال المراغي: " أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت، ويترك ما أعطاه الله من الفهم، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا"(13).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 347.
(2)
الفتح القدير: 1/ 278.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(4)
أخرجه الطبري في تفسيره (5881): ص 5/ 438، وابن أبي حاتم (2640): ص 2/ 499.
(5)
الدر المصون: 2/ 26.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 437.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 686.
(8)
التفسير الوسيط: 1/ 372.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 196.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 281.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 347.
(12)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 540.
(13)
تفسير المراغي: 1/ 497.
قال ابن عاشور: " وإنما انتفى هدي الله لقوم الظالمين لأن الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره، والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطإ"(1).
قال الطبري: " (الظلم): وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه"(2).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {واللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، وجهين (3):
أحدهما: لا يعينهم على نصرة الظلم.
والثاني: لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم.
ويحتمل الظلم هنا وجهين (4):
أحدهما: أنه الكفر خاصة.
والثاني: أنه التعدي من الحق إلى الباطل.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بلاغة القرآن الكريم في عرض الأمور العجيبة معرض التقرير، والاستفهام؛ لأن «التقرير» يحمل المخاطَب على الإقرار؛ و «الاستفهام» يثير اهتمام الإنسان؛ فجمع بين الاستفهام، والتقرير.
2 -
ومنها: بيان كيف تصل الحال بالإنسان إلى هذا المبلغ الذي بلغه هذا الطاغية؛ وهو إنكار الحق لمن هو مختص به، وادعاؤه المشاركة؛ لقوله:{أنا أحيي وأميت} .
3 -
ومنها: أن المحاجة لإبطال الباطل، ولإحقاق الحق من مقامات الرسل؛ لقوله تعالى:{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} .
4 -
ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة، والمحاجة؛ لأنها سُلَّم، ووسيلة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل؛ ومن طالع كتب شيخ الإسلام ونحوها تعلَّم المناظرة - ولو لم يدرسها فناً.
5 -
ومنها: أن النعم قد تكون سبباً للطغيان؛ لأن هذا الرجل ما طغى وأنكر الخالق إلا لأن الله آتاه الملك؛ ولهذا أحياناً تكون الأمراض نعمة من الله على العبد؛ والفقر والمصائب تكون نعمة على العبد؛ لأن الإنسان إذا دام في نعمة، وفي رغد، وفي عيش هنيء فإنه ربما يطغى، وينسى الله عز وجل.
6 -
ومنها: صحة إضافة الملكية لغير الله؛ لقوله تعالى: {أن آتاه الله الملك} .
7 -
ومنها: أن ملك الإنسان ليس ملكاً ذاتياً من عند نفسه؛ ولكنه معطى إياه؛ لقوله تعالى: {أن آتاه الله الملك} ؛ وهذه الآية كقوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 26].
8 -
ومنها: فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حيث قال مفتخراً، ومعتزاً أمام هذا الطاغية:{ربي} ؛ فأضافه إلى نفسه، كأنه يفتخر بأن الله سبحانه وتعالى ربه.
9 -
ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يحيي ويميت} ؛ وهذه المسألة أنكرها كثير من علماء الكلام؛ وعللوا ذلك بعلل عليلة؛ بل ميتة لا أصل لها؛ لأنهم قالوا: إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث؛ وإن الحوادث إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يتصف الله بها! إذاً هي ممتنعة؛ لأنها نقص على كل تقدير؛ وحينئذٍ يجب أن ننزه الله عنها، وأن تكون ممتنعة عليه؛ والجواب عن ذلك أن
(1) التحرير والتنوير: 3/ 34.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 437.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 330.
قولكم: «الحوادث لا تقوم إلا بحادث» مجرد دعوى؛ ونحن نعلم أن الحوادث تحدث منا، ولكنها ليست سابقة بسبقنا؛ ولا يعد ذلك فينا نقصاً؛ فالحوادث تحدث بعد مَن أحدثها؛ ولا مانع من ذلك؛ فمن الممكن أن يكون المتصف بها قديماً وهي حادثة؛ وأما قولكم:«إنها إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يوصف بها» ؟ فنقول: هي كمال حال وجودها؛ فإذا اقتضت الحكمة وجودها كان وجودها هو الكمال؛ وإذا اقتضت الحكمة عدمها كان عدمها هو الكمال.
10 -
ومن فوائد الآية: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يحيي ويميت} ؛ إذاً فاعتمد على الله عز وجل، ولا تخف، ولا تقدر أسباباً وهمية؛ مثلاً دعيت إلى أيّ عمل صالح فقلت: أخشى إن عملت هذا العمل أن أموت؛ نقول: هذا إذا كان مجرد وهم فإن هذه الخشية لا ينبغي أن يبني عليها حكماً، بحيث تمنعه من أمر فيه مصلحته، وخيره.
11 -
ومنها: أن الإنسان المجادل قد يكابر فيدعي ما يعلم يقيناً أنه لا يملكه؛ لقول الرجل الطاغية: {أنا أحيي وأميت} ؛ ومعلوم أن هذا إنما قاله في مضايقة المحاجة؛ والإنسان في مضايقة المحاجة ربما يلتزم أشياء هو نفسه لو رجع إلى نفسه لعلم أنها غير صحيحة؛ لكن ضيق المناظرة أوجب له أن يقول هذا إنكاراً، أو إثباتاً.
12 -
ومنها: حكمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجودته في المناظرة سواء قلنا: إن هذا من باب الانتقال من حجة إلى أوضح منها، أو قلنا: إنه من باب تفريع حجة على حجة.
13 -
ومنها: الرد على علماء الهيئة الذين يقولون: إن إتيان الشمس ليس إتياناً لها بذاتها؛ ولكن الأرض تدور حتى تأتي هي على الشمس؛ ووجه الرد أن إبراهيم قال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق} ؛ إذاً الله أتى بها من المشرق؛ وهم يقولون: إن الله لم يأت بها من المشرق؛ ولكن الأرض بدورتها اطلعت عليها؛ ونحن نقول: إن الله لم يقل: إن الله يدير الأرض حتى تُرى الشمس من المشرق؛ فأدرها حتى تُرى من المغرب! ويجب علينا أن نأخذ في هذا الأمر بظاهر القرآن، وألا نلتفت لقول أحد مخالف لظاهر القرآن؛ لأننا متعبدون بما يدل عليه القرآن؛ هذا من جهة؛ ولأن الذي أنزل القرآن أعلم بما خلق: قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]؛ فإذا كان يقول في كلامه إن الشمس: «تأتي» ، و «تطلع» ، و «تغرب» ، و «تزول» ، و «تتوارى» ؛ كل هذه الأفعال يضيفها إلى الشمس؛ لماذا نحن نجعلها على العكس من ذلك، ونضيفها إلى الأرض! ! ! ويوم القيامة سيقول الله لنا:{ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65]؛ لا يقول: ماذا أجبتم العالم الفلكي الفلاني؛ على أن علماء الفلك قديماً، وحديثاً مختلفون في هذا؛ لم يتفقوا على أن الأرض هي التي بدورانها يكون الليل، والنهار؛ وما دام الأمر موضع خلاف بين الفلكيين أنفسهم؛ فإننا نقول كما نقول لعلماء الشرع إذا اختلفوا:«إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» ؛ بل نقول: لو جاء علماء الفلك بأجمعهم ما عدلنا عن ظاهر القرآن حتى يتبين لنا أمر محسوس؛ وحينئذ نقول لربنا إذا لاقيناه: إنك قلت - وقولك الحق: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ، وقلت:{اتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]؛ ونحن ما وسعنا إلا أن نقول: إن قولك: {وترى الشمس إذا طلعت} [الكهف: 17] أي إذا طلعت رأي العين؛ لا في حقيقة الواقع؛ لأننا علمنا بحسنا، وبصرنا بأن الذي يكون به تعاقب الليل، والنهار هو دوران الأرض؛ أما والحس لم يدل على هذا؛ ولكنه مجرد أقيسة ونظريات، فإنني أرى أنه لا يجوز لأحد أن يعدل عن كلام ربه الذي خلق، والذي أنزل القرآن تبياناً لكل شيء لمجرد قول هؤلاء.
14 -
ومن فوائد الآية: أن الحق لا تمكن المجادلة فيه؛ لقوله تعالى: {فبهت الذي كفر} .
15 -
ومنها: إثبات أن من جحد الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: {فبهت الذي كفر} ؛ وهذه هي النكتة في الإظهار مقام الإضمار؛ لأجل أن نقول: كل من جادل كما جادل هذا الرجل فهو كافر.
16 -
ومنها: الإشارة إلى أن محاجة هذا الرجل محاجة بباطل؛ لقوله تعالى: {الذي كفر} ؛ لأن الذين كفروا هم الذين يحاجون حجة باطلة؛ قال الله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 5].
17 -
ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} ؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان حرّ: يهتدي بنفسه، ويضل بنفسه؛ وهذه الآية واضحة في أن الهداية بيد الله.
18 -
ومنها: التحذير من الظلم؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} ؛ ومن الظلم أن يتبين لك الحق فتجادل لنصرة قولك؛ لأن العدل أن تنصاع للحق، وألا تكابر عند وضوحه؛ ولهذا ضل من ضل من أهل الكلام؛ لأنه تبين لهم الحق؛ ولكن جادلوا؛ فبقوا على ما هم عليه من ضلال.
19 -
ومنها: أن الله لا يمنع فضله عن أحد إلا إذا كان هذا الممنوع هو السبب؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} ؛ فلظلمهم لم يهدهم الله؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5].
20 -
ومنها: أنه كلما كان الإنسان أظلم كان عن الهداية أبعد؛ لأن الله علق نفي الهداية بالظلم؛ وتعليق الحكم بالظلم يدل على عليته؛ وكلما قويت العلة قوي الحكم المعلق عليه.
21 -
ومنها: أن من أخذ بالعدل كان حرياً بالهداية؛ لمفهوم المخالفة في قوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الظالمين} ؛ فإذا كان الظالم لا يهديه الله، فصاحب العدل حري بأن يهديه الله عز وجل؛ فإن الإنسان الذي يريد الحق ويتبع الحق - والحق هو العدل - غالباً يُهدى، ويوفّق للهداية؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية عبارة من أحسن العبارات؛ قال:«من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق» ؛ وهذه كلمة مأخوذة من القرآن منطوقاً، ومفهوماً.
القرآن
التفسير:
أو هل رأيت -أيها الرسول- مثل الذي مرَّ على قرية قد تهدَّمت دورها، وخَوَتْ على عروشها، فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام، ثم ردَّ إليه روحه، وقال له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتًا؟ قال: بقيت يومًا أو بعض يوم، فأخبره بأنه بقي ميتًا مائة عام، وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه، وكيف حفظهما الله من التغيُّر هذه المدة الطويلة، وأمره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه الله بعد أن كان عظامًا متفرقة؟ وقال له: ولنجعلك آية للناس، أي: دلالة ظاهرة على قدرة الله على البعث بعد الموت، وأمره أن ينظر إلى العظام كيف يرفع الله بعضها على بعض، ويصل بعضها ببعض، ثم يكسوها بعد الالتئام لحمًا، ثم يعيد فيها الحياة؟ فلما اتضح له ذلك عِيانًا اعترف بعظمة الله، وأنه على كل شيء قدير، وصار آية للناس.
قال القاسمي: هذه الآية " استشهاد على ما ذكر تعالى من ولايته للمؤمنين وتقرير له، معطوف على الموصول السابق"(1).
قال المراغي: " وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المارّ عليها، بل اقتصر على موضع العبرة، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به"(2).
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259]، " أي: أرأيت مثل الذي مرّ على قرية" (3).
(1) محاسن التأويل: 2/ 197.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 499.
(3)
تفسير المراغي: 1/ 500. و {القرية}، مأخوذة من القَرْي؛ وهي الجمع؛ وتطلق على الناس المجتمعين في البلد؛ وتطلق على البلد نفسها - حسب السياق - فمثلاً في قوله تعالى: {قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت: 31] المراد بـ {القرية} هنا المساكن؛ لأنه تعالى قال: {أهل هذه القرية}؛ وأما في قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة} فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {أهلكناها}، وقوله تعالى: {وهي ظالمة}: وهذا لا يوصف به البلد، فتبين أن القرية يراد بها أحياناً البلد التي هي محل مجتمع الناس؛ ويراد بها القوم المجتمعون - على حسب السياق؛ وكما قال أولاد يعقوب لأبيهم: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82]: فالمراد بـ {القرية} هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {واسأل القرية}؛ لأن السؤال لا يمكن أن يوجه إلى القرية التي هي البناء؛ وإذا كانت «القرية» تطلق على أهل القرية بنص القرآن فلا حاجة إلى أن نقول: هذا مجاز أصله: واسأل أهل القرية؛ لأنا رأينا في القرآن الكريم أن «القرية» يراد بها الساكنون. [انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 288].
قال الطبري: " قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] عطف على قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، وإنما عطف قوله: {أَوْ كَالَّذِي} على قوله: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ ثم عطف عليه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه"(1).
قال القاسمي: " وإيثار (أو) الفارقة على (الواو) الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر. والكاف إما اسمية جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر"(2).
واتفق أهل العلم بأن {أو} للعطف حملا على المعنى، واختلفوا في التقدير على قولين (3):
الأول: فعند الكسائي والفراء، يكون التقدير: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية.
الثاني: وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو.
قال القرطبي: "وقرأ أبو سفيان بن حسين {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير"(4).
واختلفوا في الذي مر على قرية على خمسة أقاويل (5):
أحدها: أنه عزيز (6)، قاله ناحية بن كعب (7)، وسليمان بن بريدة (8)، وقتادة (9)، والربيع (10)، وعكرمة (11)، والسدي (12)، والضحاك (13)، وابن عباس (14)، وعلي بن أبي طالب (15).
(1) تفسير الطبري: 5/ 438.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 192.
(3)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 288، وتفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 54 - 543، وتفسير البغوي: 1/ 317.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 288.
(5)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 687، وتفسير الطبري: 5/ 439 وما بعدها، وتفسير ابن أبي حاتم: 2/ 500 وما بعدها.
(6)
قال السيوطي: "أخرج اسحق بن بشر وابن عساكر عن الحسن قال: كان أمر عزير وبختنصر في الفترة". [الدر المنثور: 2/ 29].
وقال: "وأخرج إسحق وابن عساكر عن عطاء بن أبي رباح قال: كان أمر عزير بين عيسى ومحمد". [الدر المنثور: 2/ 29].
وقال أيضا: "أخرج اسحق بن بشر وابن عساكر عن وهب بن منبه قال: كانت قصة عزير وبختنصر بين عيسى وسليمان". [الدر المنثور: 2/ 29].
(7)
انظر: تفسير الطبري (5882): ص 5/ 439.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5883): ص 5/ 439.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5885) و (5884): ص 5/ 439.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5886): ص 5/ 439.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5887): ص 5/ 439.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5888): ص 5/ 440.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5889): ص 5/ 440.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5890): ص 5/ 440.
(15)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2641): ص 2/ 500.
والثاني: أنه إرْمياء (1)، وهو قول وهب (2)، وعبدالله بن عبيد بن عمير (3)، وبكر بن مضر (4).
والثالث: أنه الخَضِر، وهو قول ابن إسحاق (5).
والرابع: وقيل أنه حزقيل بن بوزا. روي ذلك عن سليمان بن محمد الأسلمي السياري الجاري (6).
الخامس: وقال الزمخشري: "والمار كان كافرا بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي: أنى يحيى"(7).
قال الطبري: " ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم"(8).
وقد قال الزمخشري: " وقيل هو عزيز أو الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: أنى يحيي اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي"(9).
واختلفوا في (القرية) على ثلاثة اقوال (10):
الأول: هي بيت المقدس، لما خرّبه بُخْتنصَّر، وهذا قول وهب (11) وقتادة (12)، والضحاك (13)، وعكرمة (14)، والربيع بن أنس (15).
والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد (16).
(1) وأخرج الطبري بسنده (5891): ص 5/ 440: عن "ابن إسحاق، قال: اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران".
ثم رده ونقضه في تاريخه: 1/ 194 وما قبلها.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5892) و (5893) و (5894): ص 5/ 440.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5895) و (5896): ص 5/ 440، وتفسير ابن أبي حاتم (2643): ص 2/ 500.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5897): ص 5/ 440.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5890): ص 5/ 440.
(6)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2642): ص 2/ 500.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 307. قال الزمخشري: " فإن قلت: فإن كان المار كافرا فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ قلت: كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافرا". [تفسير الكشاف: 1/ 308].
علّق الغمام أحمد بن محمد المعروف بابن المنير، قائلا: " وهذا سؤال عجيب، والجواب عنه أعجب منه، ومن سلم لهذا السائل أن الله تعالى لا يسوغ أن يكلم الكافر؟ وهل هذا إلا خطب بلا أصل؟
أليس أن إبليس رأس الكفر ومعدنه ومع هذا قال الله تعالى: (فاخرج منها فإنك رجيم
…
) إلى آخر الآية ويقول تعالى للكفار وهم بين أطباقها يعذبون (اخسؤا فيها ولا تكلمون) ولأن هذا الأمر متيقن وقوعه فضلا عن جوازه أول العلماء قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله) بمعنى ولا يكلمهم بما يسرهم وينفعهم. هذا وجه تعجبي من السؤال. وأما الجواب فقد أسلفت آنفا رده بأن إيمان هذا المار على القول بأنه كان كافرا إنما حصل في آخر القصة بعد أن تبينت له الآيات. وأما كلام الله تعالى فمن أول القصة. قلت: الزمخشري كفانا مؤنة هذا الفضل سؤالا وجوابا والله المستعان". [تفسير الكشاف: 1/ 308/ الهامش (1)].
(8)
تفسير الطبري: 5/ 441 - 442.
(9)
تفسير الكشاف: 1/ 307.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 442 وما بعدها، وتفسير الكشاف: 1/ 307.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5898) و (5899) و (599): ص 5/ 442 - 443.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5901): ص 5/ 443.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5902): ص 5/ 443، و (5906): ص 5/ 445.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5903): ص 5/ 443.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5904): ص 5/ 443.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5905): ص 5/ 444. قال الطبري: " حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ}، قال: قرية كان نزل بها الطاعون ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا}، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، فماتوا ثم أحياهم الله، {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} [سورة البقرة: 243]، قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال: " أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله {لم يتسنه} ".
واعترض ابن عطية على قول ابن زيد، قائلا:" وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد، وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان". [المحرر الوجيز: 1/ 347].
والثالث: وحكى النقاش أن قوما قالوا هي "المؤتفكة"(1).
قال ابن كثير: " فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها"(2).
وقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} [البقرة: 259]، أي:" خالية ساقطة حيطانها على سقوفها"(3).
قال الطبري: أي: " وهي خالية من أهلها وسكانها"(4).
قال ابن حجر: " أي: لا أنيس فيها"(5)
قال ابن كثير: " أي: ليس فيها أحد من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُويا (6).
قال الراغب: " الخو: خلو الوعاء، يقال: خلت الدار، تخوي خواء، وخوي النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوي أبلغ من خوي، كما أن أسقي أبلغ من سقى، وخوي جوف فلان خوي، والتخوية: ترك ما بين الشيئين خالياً
…
والعرش: ما ارتفع من البناء، ويقال ذلك للسقف والسطح، وسمي السرير به تشبيهاً، أو عبر به عن أمر الإنسان، وقيل: استوى عرشه، وتل عرشه، والتعريش بناء ذلك وبه شبهه تعريش الكرم، وسمي المعررش منه عريشاً، وقيل: عرش الحمار إذا رفع رأسه وجعله كعرش، وعرشان الفرس شعر عرفه تشبيها بعريش الكريم" (7).
وذكر أهل التفسير في تفسير قوله {خَاوِيَةٌ} [البقرة: 259]، قولان (8):
أحدهما: الخراب، من: خَوِي البيت بكسر الواو يَخْوِي خِوَى إذا سقط. وهو قول ابن عباس (9) والضحاك (10) والربيع (11) والسدي (12) وابن قتيبة (13)، واختيار ابن جرير (14) والواحدي (15) والشوكاني (16) وصديق خان (17).
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 347، وهي قرية (سذوم) بالذال المعجمة على وزن رسول؛ القرية العظمى من قرى لوط. وقد اختلف العلماء في تحديد أسماء القرى التابعة لسذوم، وفي عددها، وفي عدد سكّان قراهم بعامّة؛ فقيل أربعمائة ألف وقيل غير ذلك. انظر: تفسير الطبري 12/ 97، 27/ 79، تفسير القرطبي 7/ 247، 9/ 81، البداية والنهاية لابن كثير 1/ 182، تفسير ابن كثير 2/ 455، حاشية الصاوي على الجلالين 2/ 104، روح المعاني للآلوسي 12/ 112.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 688.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 444.
(5)
الهدي، ابن حجر:121.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 688.
(7)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 540.
(8)
انظر: معالم التنزيل للبغوي: 1/ 317، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 309، النكت والعيون للماوردي: 1/ 331.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5906): ص 5/ 445.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5906): ص 5/ 445، و (5907): ص 5/ 446، وتفسير ابن ابي حاتم:(2645): ص 2/ 500.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5908): ص 5/ 446.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5909): ص 5/ 446.
(13)
انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 94.
(14)
انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 444 - 446.
(15)
انظر: البسيط للواحدي: 1/ 155.
(16)
انظر: فتح القدير للشوكاني: 1/ 415.
(17)
انظر: فتح البيان لصديق خان: 2/ 105.
والثاني: الخالية، من خَوَى البيت بفتح الواو يَخْوَى خِوَاء-ممدوداً-إذا خلا من الناس والبيوت قائمة، وهو قول قتادة (1)، واختيار الزجاج (2) والنحاس (3) وأبي حيان (4) والسمين (5).
والقول الأول أظهر؛ لقوله-عز وجل: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، أي: ساقطة على سقفها، والله أعلم، وكلام الحافظ ابن حجر (6)، جمع بين القولين، فالقرية خاوية من السكان لا أنيس فيها سواء تهدمت بيوتها أم لم تتهدم، وهذا ما يتفق عليه القولان.
قوله تعالى: {عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، أي:"على أبنيتها"(7).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده " عن الضحاك، في قوله: {على عروشها}: سقوفها". وقال: "وروي عن السدي، نحو ذلك"(8).
قال ابن كثير: " أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها"(9).
و(العُرُوش)، تعني: الأبنية والبيوت، واحدها (عَرْش)، وجمع قليله (أعرُش)، وكل بناء فإنه (عرش)، ويقال: عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا، ومنه قول الله تعالى ذكره:{وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [سورة الأعراف: 137]، يعني يبنون، ومنه قيل: عريش مكه، يعني به: خيامها وأبنيتها (10).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {قَالَ أَنَّى يَحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]، وجهين:
أحدهما: يعمرها بعد خرابها، " وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه"(11). روي ذلك عن قتادة (12) والربيع (13).
قال القاسمي: " أي كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها، فكان منه كالوقوع في الظلمات، فأراه الدليل على الإحياء الحقيقيّ في نفسه مبالغة في قلع الشبهة، إخراجا له منها إلى النور"(14).
قال المراغي: " ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرّق أهلها"(15).
قال ابن عطية: " وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان"(16).
والثاني: يعيد أهلها بعد هلاكهم. قاله السدي (17).
(1) انظر: تفسير ابن ابي حاتم: (2646): ص 2/ 500.
(2)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 342.
(3)
انظر: معاني القرآن للنحاس: 1/ 278.
(4)
انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 285.
(5)
انظر: الدر المصون: 2/ 559.
(6)
أي: " أي: لا أنيس فيها". [الهدي: 121].
(7)
النكت والعيون: 1/ 331.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2647): ص 2/ 501.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 688.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 445.
(11)
تفسير ابن كثير: 1/ 688.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2648): ص 2/ 501.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2648): ص 2/ 501.
(14)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(15)
تفسير المراغي: 1/ 500.
(16)
المحرر الوجيز: 1/ 348.
(17)
تفسير ابن أبي حاتم (2649): ص 2/ 501. قال السدي: "ليس تكذيبا منه وشكا".
قال الطبري: " قال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه، فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه"(1).
واعترض ابن عطية على القول الذي نقله الطبري قائلا: " وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك"(2).
وفي سبب قيله: {أَنَّى يَحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] روي عن السدي: "أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ ليس تكذيبًا منه وشكًّا فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير (لم يتسنَّه)، الآية"(3). وروي عن وهب (4)، نحو ذلك.
قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة: 259]، "أي أمات الله ذلك السائل، واستمر ميتاً مائة سنة"(5).
قال ابن عثيمين: "أي قبض روحه"(6)(7).
قال المراغي: أي فجعله الله فاقد الحسّ والحركة دون أن تفارق الروح البدن، ثم أعاده إلى ما كان عليه أوّلا" (8).
قال ابن عطية: " وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد"(9).
قال أسباط: " فأماته الله وأمات حماره وهلكا، ومر عليهما مائة سنة"(10).
وقال الحسن: " هذا رجل من بني إسرائيل مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ قال: فعاقبه الله بقوله ذلك: فأماته الله مائة عام (11) وحماره صافن إلى جنبه، لا يطعم ولا يسقى حتى أتى عليه مائة عام طعامه وشرابه إلى جنبه، فذلك مائة عام"(12).
(1) تفسير الطبري: 5/ 446 - 447.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 348.
(3)
أخرجه الطبري (5913): ص 5/ 456.
(4)
أخرجه الطبري (5910): ص 5/ 447 - 453 و (5911): 453 - 455، و (5912): ص 455 - 456.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 289.
(7)
و"قوله تعالى {مائة} فيها ألف بين الميم، والهمزة؛ والميم مكسورة، والألف عليها دائرة إشارة إلى أن الألف هذه تكتب، ولا ينطق بها؛ وبهذا نعرف خطأ من ينطقون بها: «مَائة» بميم مفتوحة؛ ومن قرأ بها في القرآن فقد لحن لحناً يجب عليه أن يعدله؛ وبعض الكتاب المعاصرين يكتبها بدون ألف كـ «فِئة» يعني: ميم، وهمزة، وتاء؛ وهذا أحسن إلا في رسم المصحف؛ فيتبع الرسم العثماني؛ وإلا إذا أضيف إليها عدد كـ «ثلاثمائة» و «أربعمائة»؛ فتكتب الألف، ولا ينطق بها"[تفسير ابن عثيمين: 3/ 289].
(8)
تفسير المراغي: 1/ 500. قال: " {وأماته}: أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف، والبعث: الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقتها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أوّلا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحسّ والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله، وآخرون ناموا أكثر من ذلك، ومتى ثبت هذا فالذى يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به، والتجارب التي عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته، ولم يتسنه: أي لم يتغير ولم يفسد، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام، وآية: علامة دالة على قدرة الله، وننشزها: أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد". [تفسير المراغي: 1/ 499].
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 348.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2650): ص 2/ 501.
(11)
قال الراغب: " والعام: مدة تعوم الشمس في أفلاكها المختصة بها، وذلك اعتبارا بنحو ما قال- عز وجل {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والاعتيام اختيار الشيء، وأصله أن يسير الإنسان كسابح فيه يتناول ما يريد، ولهذا قال الشاعر: وكنت في نعمائه سابحاً ". [تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 540].
(12)
تفسير ابن أبي حاتم (2651): ص 2/ 501.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ} ، أي:" ثم أثاره حيًّا من بعد مماته"(1).
قال البغوي: " أي أحياه"(2).
قال ابن عطية: " أحياه وجعل له الحركة والانتقال"(3).
قال الصابوني: " ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته"(4).
قال القاسمي: " أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه وبعض أجزائه إلى بعض بعد تفرقها"(5).
روي "عن السدي في قوله: {ثم بعثه}: ثم إن الله أحيا عزيرا"(6).
قال علي بن أبي طالب: " فأول ما خلق منه عيناه"(7).
قال قتادة: " فأماته الله أول النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه"(8).
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن قتادة، في قوله: ثم بعثه في آخر النهار"(9). قال ابن أبي حاتم: "وروي عن الربيع بن أنس: ثم بعث قبل غروب الشمس"(10).
وقال وهب بن منبه: " إن إرميا، لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام، ثم رد الله من رد من بني إسرائيل، على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة، تمام المائة، فلما ذهبت المائة رد الله إليه روحه، وقد عمرت، فهي على حالها الأولى"(11).
وروي عن الربيع (12) وابن جريج (13) نحو ذلك.
قال ابن عثيمين: " ولعل قائلاً يقول: إن المتوقع أن يقول: «ثم أحياه» ليقابل {أماته}؛ لكن «البعث» أبلغ؛ لأن «البعث» فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة، واندفاع؛ فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة؛ قال مثلاً: «كن حياً»، فكان حياً"(14).
قوله تعالى: {قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259]، أي: كم" مكثت ميتا"(15).
قال البغوي: " أي: كم مكثت؟ "(16).
قال الطبري: "أي: " كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ " (17).
(1) تفسير الطبري: 5/ 457.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 320
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 348.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 149.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2655): ص 2/ 502.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2654): ص 2/ 502.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (2652): ص 2/ 501.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (2656): ص 2/ 502.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2656): ص 2/ 502.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2653): ص 2/ 502.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5916): ص 5/ 459.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5917): ص 5/ 459.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 290.
(15)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(16)
تفسير البغوي: 1/ 320.
(17)
تفسير الطبري: 5/ 458.
قال الصابوني: "أي قال له ربه بواسطة الملك كم مكثت في هذه الحال"(1).
قال ابن عطية: والسؤال على جهة التقرير، و {كم} في موضع نصب على الظرف (2).
واختلفوا في القائل له: {كم لبثت} ، على ثلاثة أقاويل (3):
أحدها: أنه ملك. يقال: لما أحياه الله بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت؟ (4)
والثاني: نبي.
والثالث: أنه بعض المؤمنين المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه.
قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259]، أي: قال: " لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم"(5).
قال الزمخشري: " {أو بعض يوم}، بناء على الظن"(6).
قال القاسمي: " قاله بناء على التقريب والتخمين. أو استقصارا لمدة لبثه"(7).
قال المراغي: " قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه"(8).
قال الماوردي: "لأن الله تعالى أماته في أول النهار، وأحياه بعد مائة عام آخر النهار، فقال: يوماً، ثم التفت فرأى بقية الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} "(9).
قال البغوي: " وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بل بعض يوم"(10).
قال الطبري: " فكان قوله: {أو بعض يوم} رجوعًا منه عن قوله: {لبثت يومًا} "(11).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده " عن قتادة في قول الله: قال كم لبثت قال لبثت يوما ثم التفت، فرأى بقية الشمس قال أو بعض يوم"(12). قال ابن أبي حاتم: " وروي عن الحسن والربيع بن أنس نحو ذلك"(13).
قوله تعالى: {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة: 259]، "أي: بل مكثت ميتاً مائة سنة كاملة" (14).
قال ابن عثيمين: " {بل} هنا للإضراب الإبطالي، يعني: لم تلبث يوماً، أو بعض يوم؛ بل لبثت مائة عام"(15).
قال القاسمي: " وإنما سأله تعالى ليظهر له عجره عن الإحاطة بشئونه. وأن إحياءه ليس بعد مدة يسيرة، ربما يتوهم أنه هيّن في الجملة، بل بعد مدة طويلة. وينحسم به مادة استبعاده بالمرة. ويطلع في تضاعيفه على
(1) صفوة التفاسير: 1/ 149.
(2)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 348.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 334.
(4)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 320.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 458.
(6)
تفسير الكشاف: 1/ 307.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 500.
(9)
النكت والعيون: 1/ 332.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 320.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 458.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2657): ص 2/ 502. والطبري (5914): ص 5/ 458، و (5915): ص 5/ 458 - 459.
(13)
انظر: ابن أبي حاتم (2657): ص 2/ 502.
(14)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 291.
أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى. وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع، على ما كان عليه دهرا طويلا، من غير تغيّر مّا" (1).
قال علي بن ابي طالب: " خرج عزير نبي الله من مدينته، وهو شاب، فمر على قرية خربة ف قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه فأول ما خلق منه عيناه، فنظر إلى عظامه ينصب بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحما، ثم نفخ فيه الروح، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، قال: فأتى مدينته، وقد ترك جارا له إسكافا شابا، فجاء وهو شيخ"(2).
وقد اختلفوا في إدغام (الثّاء) في (التاء) من قوله تعالى: {كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259]، و {لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، و [المؤمنون: 112] (3):
القراءة الأولى: فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في كلّ القرآن ذلك بإظهار (الثاء).
القراءة الثانية: وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائيّ بالإدغام.
قال أبو علي: "من بيّن {لبثت} ولم يدغم، فلتباين المخرجين، وذلك أنّ الظاء والذال والثاء من حيّز، والطاء والتاء والدال من حيّز، فلمّا تباين المخرجان، واختلف الحيّزان لم يدغم، ومن أدغم أجراهما مجرى المثلين، من حيث اتفق الحرفان في أنّهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتّفقا في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف في المخرج خلافاً يسيراً فأدغم، وأجراهما مجرى المثلين. ويقوّي ذلك وقوع نحو هذا حرفي رويّ في قصيدة واحدة"(4).
قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} [البقرة: 259]، أي" انظر إلى طعامك وشرابك الذي بقي مائة عام لم يتغير ولم يفسد"(5).
قال ابن عثيمين: " أبهمه الله عز وجل فلم يبين من أي نوع هو [الطعام والشراب]؛ و «الطعام» كل ما له طعم من مأكول، ومشروب؛ لكنه إذا قرن بالشراب صار المراد به المأكول"(6).
قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، أي:"لم يتغيّر"(7).
قال الطبري: أي: " لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه"(8).
قال الراغب: " أي لم يتغير بمرور السنين عليه"(9).
قال القاسمي: " قال سبحانه {فَانْظُرْ}، لتعاين أمرا آخر من دلائل قدرتنا [وهو أن طعامك وشرابك]، لم يتغيّر في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد"(10).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن قتادة: "كان طعامه الذي معه، سلة من تين" (11). قال ابن أبي حاتم:"وروي عن وهب بن منبه ومجاهد، نحو ذلك"(12).
وروي "عن السدي: فانظر إلى طعامك من التين والعنب"(13).
(1) محاسن التأويل: 2/ 197.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2658): ص 2/ 503.
(3)
انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 367.
(4)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 367.
(5)
التفسير الواضح: 1/ 174.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 291.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 291.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 459.
(9)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 542.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 197.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2659): ص 2/ 503.
(12)
انظر: ابن أبي حاتم (2659): ص 2/ 503.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2660): ص 2/ 503.
وروي عن"وهب بن منبه في قوله: فانظر إلى طعامك وشرابك قال: قلة فيها ماء"(1).
وقال قتادة: " وشرابه: زق من عصير"(2).
وروي " عن مجاهد: {فانظر إلى طعامك} قال: سلة تين، {وشرابك}: قال: زق خمر"(3).
وذكر أهل العلم في قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، ثلاثة أقوال (4):
الأول: معناه لم يتغيّر، من الماء الآسن وهو غير المتغير، وهذا قول ابن عباس (5) ومجاهد-في أحد قوليه- (6) والحسن (7) وقتادة (8) والسدي (9) وابن زيد (10) والضحاك (11)، وعكرمة (12)، وحميد الأعرج (13) وأبي مالك (14) ووهب (15) وبكر بن مضر (16)، ابن حجر (17).
قال البغوي: " فكان التين كأنه قطف في ساعته والعصير كأنه عصر في ساعته"(18).
القول الثاني: لم ينتن، قاله مجاهد (19).
قال الطبري: " وأحسب أن مجاهدًا والربيع (20) ومن قال في ذلك بقولهما، رأوا أن قوله: {لم يتسنه} من قول الله تعالى ذكره: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل: " تسنَّن ". وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك، فإن ظن ظانّ أنه من " الأسَن " من قول القائل: " أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا، كما قال الله تعالى ذكره:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن، ولم يكن {يتسنه} " (21).
القول الثالث: معناه لم تأتِ عليه السنون فيصير متغيراً، قاله أبو عبيد (22)، وأبو عمرو بن العلاء (23).
قال ابن حجر: "أي: لم تمضي عليه السنون الماضية كأنه ابن ليلة"(24).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2661): ص 2/ 503.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2662): ص 2/ 503.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (2663): ص 2/ 503.
(4)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 3/ 1019 - 1020، وجامع البيان للطبري: 5/ 464 - 465، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 311.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، و (2665): ص 2/ 504، والطبري (5926): ص 5/ 465.
(6)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، و (2665): ص 2/ 504.
(7)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503.
(8)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، والطبري (5921) و (5922): ص 5/ 464.
(9)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2666): ص 2/ 504. والطبري (5923): ص 5/ 464 - 465.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، والطبري (5928): ص 5/ 465.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5924) و (5925): ص 5/ 465.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5927): ص 5/ 465.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، و (2665): ص 2/ 504.
(14)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503.
(15)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2664): ص 2/ 503، و (2665): ص 2/ 504، والطبري (5920): ص 5/ 464.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5929): ص 5/ 465 - 466.
(17)
انظر: الهدي: 141.
(18)
تفسير البغوي: 1/ 320.
(19)
أخرجه ابن ابي حاتم (2667): ص 2/ 504، والطبري (5930) و (5931) و (5932): ص 5/ 466.
(20)
لم يذكر الطبري خبرا عن " الربيع " قبل، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره.
(21)
تفسير الطبري: 5/ 466 - 467.
(22)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 332.
(23)
أخرجه ابن أبي حاتم (2668): ص 2/ 504.
(24)
الفتح: 8/ 47، وقال الزمخشري في الكشاف: 1/ 390 موضحاً هذا القول: (ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّه) لم تمر عليه السنون التي مرت عليه، يعني: هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة).
قال الطبري: "ومعنى قوله: {لم يتسنَّه}، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر، على لغة من قال: " أسنهت عندكم أسْنِه ": إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر (1):
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ
…
وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ
فجعل (الهاء) في (السنة) أصلا وهي اللغة الفصحى (2)(3).
وقد اختار الأئمة: القول الأول؛ لأن مسنون-كما قال الزجاج-ليس معناه متغير، وإنما معناه: مصبوب على سنة الأرض (4).
وقوله تعالى: {لم يتسنَّه} [البقرة: 259]، فيه وجهان من القراءة (5):
احدهما: {لَمْ يَتَسَنَّ} ، بحذف (الهاء) في الوصل، وإثباتها في الوقف، وهو قراءة يعقوب (6) وعامة قراء الكوفة.
(1) البيت لسويد بن الصامت الأنصاري، انظر: معاني القرآن للفراء 1: 173. والأمالى 1: 21، وسمط اللآلى: 361، وتهذيب الألفاظ: 520، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب)، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر: وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي
…
جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ
…
وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلادِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها
…
طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ
…
وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
َدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا
…
لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها. والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح: الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما، ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله:" رجبية "(بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون): وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها، فيبني تحتها دكان ترجب به - أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح: السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال.
يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي، ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 461 - 462.
(3)
قال أبو علي: " السنة تستعمل على ضربين:
أحدهما: يراد به الحول والعام.
والآخر: يراد به الجدب، خلاف الخصب.
فمما أريد به الجدب قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ} [الأعراف/ 130]، ومنه ما يروى من
قوله: «اللهمّ سنين كسنيّ يوسف» . [أخرجه البخاري في الفتح برقم 1006 استسقاء وبرقم 4821 تفسير سورة الدخان، وبرقم 6393 دعوات ومسلم برقم 675 مسافرين وبرقم 2799 صفات المنافقين وأبو داود برقم 1442 وتر والترمذي برقم 3251 تفسير والنسائي 2/ 201 افتتاح. وانظر شأن الدعاء للخطابي ص 191 - 192].
وقول عمر: إنّا لا نقطع في عرق ولا في عام السّنة» [تلخيص الحبير 4/ 78]، فلا يخلو عام السنة من أن يريد به الحول أو الجدب، فلا يكون الأول لأنّه يلزم أن يكون التقدير: عام العام، ولا يكون عام العام، كما لا يكون حول الحول، فإذا لم يستقم هذا، ثبت الوجه الآخر". [الحجة للقراء السبعة:[2/ 369 - 370].
(4)
وممن اختاره من العلماء: كالفراء في معاني القرآن: 1/ 172، وأبي عبيدة في المجاز: 1/ 80، والزجاج في معاني القرآن وإعرابه: 1/ 343، والنحاس في معاني القرآن: 1/ 280، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: 94، والطبري في جامع البيان: 5/ 466 - 467، وأبي حيان في البحر المحيط: 2/ 295 - 296، والسمين في الدر المصون: 1/ 326، والزمخشري في الكشاف: 1/ 390، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 416، وصديق خان في فتح البيان: 2/ 107.
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 460 - 461، والحجة للقراء السبعة: 2/ 268 - 269.
(6)
قراءة يعقوب هي أيضاً قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر، وهي: حذف الهاء وصلاً وإثباتها وقفاً على أن الهاء للسكت، وهاء السكت من خواص الوقف. انظر: القراءات وعلل النحويين فيها للأزهري: 1/ 91 - 92، النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 2/ 142، الغاية في القراءات العشر لابن مهران: 118، المهذب في القراءات العشر د. محمد سالم محيسن: 1/ 101.
قال أبو علي: "ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف .. وكان حمزة يحذفهنّ في الوصل، وكان الكسائيّ يحذف الهاء في الوصل من قوله:
{يَتَسَنَّهْ} و {اقْتَدِهْ} ويثبتها في الوصل في الباقي" (1).
والقراءة الثانية: {لم يتسنَّه} ، بإثبات (الهاء) في الوصل والوقف، وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
قال أبو علي: "فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلّها بإثبات الهاء في الوصل"(2).
قال الطبري: ": والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ " الهاء " في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك"(3).
وقد أخرج الطبري بسنده " عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله: (لم يتسنّ)، أو (لم يتسنَّه)، فقال عثمان: اجعلوا فيها (هاء) "(4).
وقال هانئ البربري: "كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها: {لَمْ يَتَسَنَّ} و {فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين} [الطارق: 17] و {لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ} [الروم: 30]، قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، ومحا {فأمْهِلْ} وكتب {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ}، وكتب: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} ألحق فيها (الهاء) "(5).
قال الطبري: " ولو كان ذلك من (يتسنى) أو (يتسنن) لما ألحق فيه أبيّ (هاء) لا موضع لها فيه، ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها، وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب"(6).
قال ابن عطية: "وقرأ ابن مسعود: (وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه)، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: (وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة) "(7).
قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259]، " يعني: انظر إلى عظام حمارك" (8).
قال ابن عثيمين: " أي: " انظر إليه بعينك، فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس فيه لحم، ولا عصب، ولا جلد" (9).
قال السدي: {وانظر إلى حمارك} ، وقد هلكت وبليت عظامه" (10).
وقال مجاهد: " يعني قوله: {وانظر إلى حمارك}: فنظر إلى حماره، حين يحييه الله"(11).
(1) الحجة للقراء السبعة: 2/ 369. والباقي هي الآيات: {وما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ} [الحاقة/ 28]، و {سُلْطانِيَهْ} [الحاقة/ 29] و {ما أَدْراكَ ما هِيَهْ} [القارعة/ 10].
(2)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 369.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 461.
(4)
تفسير الطبري: 5918): ص 5/ 463.
(5)
أخرجه الطبري: (5919): ص 5/ 463 - 464.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 464.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 349.
(8)
الدر المصون: 2/ 28.
(9)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 291.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2670): ص 2/ 504.
(11)
تفسير ابن أبي حاتم (2671): ص 2/ 504.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده " عن عكرمة: {وانظر إلى حمارك}، قال: لما قام نظر إلى مفاصله متفرقة، فمضى كل مفصل إلى صاحبه، فلما اتصلت المفاصل كسيت لحما"(1).
وري عن الربيع بن أنس: " {وانظر إلى حمارك}، وكأن حماره عنده كما هو"(2).
قال البغوي: " فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر"(3).
قال المراغي: " كيف نخرت عظامه، وتقطعت أوصاله وتمزقت، ليستبين لك طول لبثك، وتطمئن بذلك نفسك"(4).
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259]، وذكروا وجوها (5):
الأول: فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال:{أنى يحيي هذه الله بعد موتها} ؟ مستنكرًا إحياء الله إياها. قاله وهب (6)، والسدي (7).
الثاني: وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره. قاله مجاهد (8)، وابن جريج (9).
الثالث: وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ، فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. قاله وهب (10)، والضحاك (11)، وقتادة (12)، والربيع (13)، وابن زيد (14)، وبكر بن مضر (15).
قال الطبري: " وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: {أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل، وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله:{وانظر إلى العظام} إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعًا نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله:(وانظر إلى العظام) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2669): ص 2/ 504.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2669): ص 2/ 504.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 320.
(4)
تفسير المراغي: 1/ 500.
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 467 وما بعدها.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5933): ص 5/ 467.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5934): ص 5/ 468.
(8)
انظر: تفسير الطبري (5935) و (5936): ص 5/ 469.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5937): ص 5/ 469.
(10)
انظر: تفسير الطبري (5938): ص 5/ 470.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5940) و (5941): ص 5/ 470.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5942): ص 5/ 471.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5943): ص 5/ 472.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5944): ص 5/ 471 - 472
(15)
انظر: تفسير الطبري (5945): ص 5/ 472.
عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً" (1).
واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة: 259]، على وجهين (2):
الأول: فقال الأكثرون: أراد به عظام حماره.
الثاني: وقال قوم" "أراد به عظام هذا الرجل، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير، وتقدير الآية:{وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديرهما: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس" (3).
قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259]، " أي لنصيِّرك علامة للناس على قدرتنا"(4).
قال الطبري: " ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكَّ في عظمتي"(5).
قال القاسمي: " أي فعلنا ما فعلنا، من إحيائك بعد ما ذكر، لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل. ولنجعلك آية للناس على البعث"(6).
عن الربيع بن أنس: "قوله: {آية}، يقول: عبرة"(7).
قال ابن عطية: " معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا"(8).
قال المراغي: " أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك، وحفظ ما معك من الطعام والشراب، ليزيل تعجبك، ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك، ولنجعلك آية للناس، أما كونه آية له فواضح، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدى بها من يشاهدها، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه"(9).
وقيل: "كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ"(10).
وقد اختلفوا في موضع كون هذا الرجل آية، على قولين (11):
الأول: قال الأعمش: "موضع كونه آية، هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا"(12).
قال عكرمة: " كان بعث ابن لمائة وأربعين، شابا، وكان ولده أبناء مائة سنة، وهم شيوخ"(13). وروي عن عبدالله مثله (14).
(1) تفسير الطبري: 5/ 473.
(2)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 320321.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 321.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 291.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 474.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 198.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2677): ص 2/ 505.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 350.
(9)
تفسير المراغي: 1/ 501.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 474.
(11)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 350.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 350.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2673): ص 2/ 505.
(14)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2674): ص 2/ 505.
قال ابن أبي حاتم: "وروي عن المنهال بن عمرو والأعمش قالا: جاء شاب وولده شيوخ"(1).
والثاني: وقيل: " بل موضع كونه آية، أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا"(2).
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن السدي، يعني قوله:{ولنجعلك آية للناس} ، قال: فرجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبنيت وهلك من كان يعرفه، فقال: اخرجوا من داري، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير.
قالوا: أليس قد هلك عزير، منذ كذا وكذا؟ قال: فإني أنا هو، كان من حالي، وكان. فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار فدفعوها إليه" (3).
قال ابن عطية: " وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض"(4).
وقال عباد بن منصور: "سألت الحسن، عن قوله: {ولنجعلك آية للناس}، قال: فكان هذا عبدا نفعه الله بما أراه من العبرة في نفسه وجعله آية للناس"(5).
قوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة: 259]، " أي تأمل في عظام حمارك النخرة كيف نركّب بعضها فوق بعض وأنت تنظر"(6).
قال القاسمي" أي عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء، [إذ] نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه"(7).
قال المراغي: " أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حى - قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا"(8).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: : {كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة: 259]، وجوها (9):
الأول: قال ابن عباس: " {وانظر إلى العظام كيف ننشزها}: نشخصها عضوا عضوا"(10).
الثاني: قال وهب بن منبه: "يعني في قوله: {كيف ننشزها} قال: فجعل ينظر إلى العظام، كيف يلتئم بعضها إلى بعض"(11).
الثالث: وعن السدي" "قوله: وانظر إلى العظام كيف ننشزها يقول: نحركها ثم نكسوها، فبعث الله ريحا، فجاءته بعظام الحمار من كل سهل وجبل، ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، وركب بعضها في بعض، وهو ينظر، وصار حمارا من عظام، ليس له لحم ولا دم" (12).
الرابع: وريوي: "عن أبي حفص مبشر بن عبيد، في قراءته: {كيف ننشزها}، قال: نقيمها"(13).
(1) تفسير ابن أبي حاتم (2674): ص 2/ 505.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 350.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (2676): ص 2/ 505، والطبري (5947): ص 5/ 474.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 350.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2675): ص 2/ 505.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 198.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 501.
(9)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 505 - 506.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2678): ص 2/ 505.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2679): ص 2/ 506.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2680): ص 2/ 506.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم: (2681): ص 2/ 506.
قال الطبري: " والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى من بُعث إليه منهم"(1).
وفي قوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة: 259]، أربعة قراءات (2):
الأولى: {نُنْشِرُهَا} بالراء المهملة وضم النون، قرأ بذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا، قاله مجاهد (3)، وقتادة (4)، وابن زيد (5).
قال الطبري: " واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشرها} به."(6).
قال الماوردي: "والنشور: الحياة بعد الموت، مأخوذ من نشر الثوب، لأن الميت كالمطوي، لأنه مقبوض عن التصرف بالموت، فإذا حَيِيَ وانبسط بالتصرف قيل: نُشِرَ وأُنشِر "(7).
والقراءة الثانية: قرأ بها الباقون {ننشِزُها} ، بالزاي المعجمة، يعني نرفع بعضها إلى بعض (8)، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين.
وأصل (النشوز) الارتفاع، ومنه قيل:" قد نشز الغلام "، إذا ارتفع طوله وشبَّ، ومنه " نشوز المرأة " على زوجها، بأن تطيح ببصرها إلى بشر صارفة له عن زوجها، كقول الفرزدق (9):
إدا جلست عند الإمام كأنها
…
بها رفقة من ساعة يستحيلها
وكقول الأخر (10):
إذا الليل عن نشز تخلى رميته
…
بأمثال أبصار النساء القواري
ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: " نَشَز ونَشْز ونشاز "، ، فإذا أردت أنك رفعته، قلت:" أنشزته إنشازًا "، و " نشز هو "، إذا ارتفع (11).
فمعنى قوله: " {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد"(12). وبه قال ابن عباس (13)، والسدي (14).
(1) تفسير الطبري: 5/ 475.
(2)
انظر: النكت والعيون: 1/ 332 - 333. وتفسير الطبري: 5/ 475 - 476.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5950) و (5951): ص 5/ 476 - 476
(4)
انظر: تفسير الطبري (5952): ص 5/ 477.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5953): ص 5/ 477.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 477.
(7)
النكت والعيون: 1/ 333 - 334.
(8)
قال ابن عطية: " ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قلبلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع، وقال النقاش: ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: 11] أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز الناب. فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة:
نشز". [المحرر الوجيز: 1/ 351].
(9)
ديوانه: 2/ 606، والكامل: 2/ 939، والمفردات:806. من قصيدة يخاطب بها زوجته، وفي رواية"ترى رفقة من خلفها"، ومعنى: تستحيلها: تتبيّن حالاتها.
(10)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الراغبـ انظر: تفسيره: 1/ 541.
(11)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 475 - 476، وتفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 541.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 476.
(13)
انظر: تفسير الطبري (5948) ص: 5/ 476.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5949) ص: 5/ 476.
القراءة الثالثة: وقرأ ذلك بعضهم: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا} ، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه، وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:" أنشر الله الموتى "، فنشروا هم " بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)[الأنبياء: 21]؛ .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي، الميت وعاش بعد مماته، قيل: نَشَر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة (1):
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا:
…
يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وروي سماعًا من العرب: " كان به جَرَبٌ فنَشَر "، إذا عاد وَحَيِيَ" (2).
القراءة الرابعة: وقرأ أبي بن كعب: {كيف ننشيها} بالياء (3).
قال الطبري: " والقول في ذلك عندي أنّ معنى " الإنشاز " ومعنى " الإنشار " متقاربان، لأن معنى " الإنشاز ": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى " الإنشار " إعادة الحياة إلى العظام، وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى، فإن ظنّ ظانٌ أن " الإنشارَ " إذا كان إحياءً، فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: {أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها}؟ [فقد أخطأ]، فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: {ثم نكسوها لحمًا}، ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معنى " الإنشاز " تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى " الإنشار " وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه، وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي قراءة من قرأ: " كَيْفَ نَنْشُرُهَا " بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب"(4).
قوله تعالى: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259]، " أي نسترها به"(5).
قال ابن عثيمين: " أي نسترها باللحم؛ فشاهد ذلك بعينه، فاجتمع عنده آيتان من آيات الله؛ إبقاء ما يتغير على حاله - وهو طعامه، وشرابه؛ وإحياء ما كان ميتاً - وهو حماره"(6).
قال ابن عطية: " والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها"(7).
(1) ديوانه: 105، وسيأتي في التفسير 19: 14/ 25: 32/ 30: 36 (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في 1: 474، تعليق: 2/ 3: 131. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع: عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ
…
هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا
…
فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا
…
عَاشَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ. . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: " نار الشيء فهو نير ونائر " و " أنار فهو منير ".
(2)
تفسير الطبري: 5/ 477 - 478.
(3)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 351.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 478 - 479.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 198.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 292.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 351.
قال الطبري: " نكسوها ": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، ومنه قول النابغة الجعدي (1):
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي
…
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا
فجعل الإسلام - إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه - كُسوةً له وسِربالا" (2).
قال السدي: "إن الله كسا العظام لحما ودما، فقام حمارا من لحم ودم، ليس في روح، ثم أقبل ملك يمشي، حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه، فنهق الحمار"(3).
وروي" عن عكرمة يعني قوله: {ثم نكسوها لحما}، قال: لما اتصلت المفاصل، كسيت لحما، ثم كسي اللحم عصبا، ثم مد الجلد عليها، ثم نفخ في منخره، فنهق"(4).
قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} [البقرة: 259]، أي:" فلما تبين له ما أشكل عليه، يعنى أمر إحياء الموتى"(5).
قال الصابوني: " أي فلما رأى الآيات الباهرات"(6).
قال القاسمي"أي: اتضح له إعادته مع طعامه وشرابه وحماره، بعد التلف الكليّ، وظهر له كيفية الإحياء"(7).
قال المراغي: "أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا"(8).
قال ابن عثيمين: أي تبين لهذا الرجل - الذي مر على القرية، واستبعد أن يحييها الله بعد موتها؛ أو استبطأ أن الله سبحانه وتعالى يحييها بعد موتها، وحصل ما حصل من آيات الله عز وجل بالنسبة له، ولحماره، ولطعامه، وشرابه - تبين له الأمر الذي تحقق به قدرة الله عز وجل" (9).
قال الطبري: أي: " فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قالَ أَعْلَمُ "(10).
اعترض عليه ابن عطية قائلا: " وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف"(11).
(1) ديوانه: 86، في هجائه ابن الحيا، والحيا أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري - وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك قصيدته التي أولها: إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ
…
عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالا
وينسب هذا البيت إلى " لبيد بن ربيعة العامري " وإلى " قردة بن نفاثة السلولي "، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: 228: " وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم.
وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:
…
" وذكر البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى، وهو أصح عندي ". ثم عاد في ص 536، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال: " كان شاعرًا، قدم على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا، فأنشأ يقول: بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالا
…
وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلامُ إِقْبَالا
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ
…
وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالا
الْحَمْدُ لله. . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام غيره ". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه 14: 94، وغيره. وانظر معجم الشعراء: 338، 339، والشعر والشعراء: 232 والمعمرين 66، وديوان لبيد، الزيادات:56. وغيرها كثير.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 480.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (2682): ص 2/ 506.
(4)
أخرجه ابن ابي حاتم (2683): ص 2/ 506.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 308.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 198.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 502.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 292.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 481.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 351.
قال الزمخشري: " وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: {فلما تبين له}، على البناء للمفعول"(1).
قوله تعالى: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]، " قال أيقنت وعلمت علم المشاهدة أن الله على كل شيء قدير"(2).
قال القاسمي: " فخرج من الظلمات إلى النور."(3).
قال ابن كثير: "أي: أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك"(4).
قال المراغي: " قال: أعلم علما يقينيّا مؤيدا بآيات الله في نفسى وفي الآفاق، أن الله على كل شاء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته، قدير لا يستعصى عليه أمر"(5).
قال الحسن: " ذكر لنا- والله أعلم- أن أول شيء خلقه الله منه، عيناه، ثم جعل يخلق بعد، بقية خلقه وهو ينظر بعينيه، كيف يكسو العظام لحما، ليعتبر ويعلم أن الله يحي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، فلما رأى ما أراه الله من ذلك، أجاب ربه خيرا، في معرفته، فقال: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} "(6).
وقال محمد بن إسحاق: " {إن الله على كل شيء قدير}، أي: إن الله على كل ما أراد بعباده، من نقمة، أو عفو قدير"(7).
قال ابن عثيمين: و «العلم» - كما سبق - هو إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً لما هو عليه؛ وعدم الإدراك هو الجهل البسيط؛ وإدراك الشيء على غير ما هو عليه: هو الجهل المركب؛ وعدم الجزم: شك؛ أو ظن؛ أو وهم؛ فإن تساوى الأمران فهو شك؛ وإن ترجح أحدهما فالراجح ظن؛ والمرجوح وهم (8).
وأما والـ «القدرة» فصفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44]: لما نفى أن يعجزه شيء قال تعالى: {إنه كان عليماً قديراً} فلما نفى العجز، ذكر القدرة، والعلم مقابلها" (9).
واختلفت القراءة في قوله تعالى " {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ} [البقرة: 259]، على قراءتين (10):
القراءة الأولى: {قَالَ اعْلَمْ} ، على معنى الأمر، بوصل (الألف) من (اعلم)، وجزم (الميم) منها، وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:{قِيلَ اعْلَمْ} ، على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته.
وكذلك روي عن ابن عباس (11).
وقال الربيع: "ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له:{انظر} ، ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل:{اعلم أن الله على كل شيء قدير} (12).
(1) تفسير الكشاف: 1/ 308.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 198.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 688.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 502.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2684): ص 2/ 507.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2686): ص 2/ 507.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 292.
(9)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 292.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 481 - 484، وتفسير ابن كثير: 1/ 688.
(11)
أخرجه الطبري (5954): ص 5/ 481. و (5955): ص 5/ 482.
(12)
تفسير الطبري (5956): ص 5/ 482.
قال أبو علي: " قال: أَعْلَمُ على لفظ الأمر، فالمعنى: يؤول إلى الخبر، وذاك أنّه لما تبيّن له ما تبيّن من الوجه الذي ليس لشبهة عليه منه طريق، نزّل نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطب سواها فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا مما تفعله العرب، ينزّل أحدهم نفسه منزلة الأجنبيّ فيخاطبها كما تخاطبه قال (1):
تذكّر من أنّى ومن أين شربه
…
يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
فجعل عزمه على وروده الشرب له لجهد العطش، وعلى تركه الورود مرة لخوف الرامي وترصّد القانص نفسين له.
ومن ذلك قول الأعشى (2):
أرمي بها البيد إذا هجّرت
…
وأنت بين القرو والعاصر
فقال: أنت، وهو يريد نفسه، فنزّل نفسه منزلة سواه في مخاطبته لها مخاطبة الأجنبيّ.
ومثل ذلك قوله (3):
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل
…
وهل تطيق وداعاً أيّها الرّجل
فقال: ودّع، فخاطب نفسه كما يخاطب غيره، ولم يقل:
لأودّع، وعلى هذا قال: أيّها الرجل، وهو يعني نفسه. وقال (4):
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداً
فكذلك قوله لنفسه {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]، نزّله منزلة الأجنبيّ المنفصل منه، لتنبهه على ما تبيّن له ممّا كان أشكل عليه.
قال أبو الحسن (5): وهو أجود في المعنى" (6)(7).
(1) البيت للكميت بن زيد أنشده صاحب التاج في (أبل) ونسبه للكميت، وكذلك اللسان (أبل) بلفظة (شربه) بضم الشين وذكره الطبري في تفسيره 2/ 398. وفي القرطبي 3/ 297 عند تفسير قوله تعالى: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن عطية: وتأنس أبو عليّ في هذا المعنى بقول الشاعر: وأورد البيت .... يؤامر نفسه: يشاورها. والهجمة: عدد من الإبل قريب من المائة. والإبل بكسر الباء: اسم فاعل من أبل كفرح: إذا أحسن رعية الإبل، والقيام عليها.
(2)
البيت في اللسان (قرا) للأعشى وفيه: «إذ أعرضت» بدل «إذا هجّرت» .
وليس في ديوان الأعشى. وهو أشبه بقصيدته التي يهجو فيها علقمة بن علاثة ويذكر في آخرها ناقته. انظر ديوانه ص 147 والقرو: مسيل المعصرة ومثعبها.
(3)
ديوانه: 55.
(4)
صدر بيت للأعشى عجزه:
وعادك ما عاد السليم المسهّدا والسليم يطلق على اللديغ تفاؤلًا، وهو مطلع قصيدة للأعشى يمدح بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. انظر ديوانه/ 135. واستشهد به القرطبي مع سابقه في تفسيره 3/ 297 عن أبي علي للمعنى الذي ذكره أبو علي هنا.
(5)
هو علي بن سليمان الأخفش الأصغر، أبو الحسن، شيخ أبي علي الفارسي، ذكره ابن العديم ممن أخذ عنهم الفارسي. توفي في بغداد (315 هـ) انظر بغية الوعاة 2/ 167، ومجلة المجمع 4/ 743 سنة 1983 م.
(6)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 383 - 384.
(7)
قلت: إن هذه الظاهرة التي تحدث عنها أبو علي، تسمى بـ (التجريد)، وكان أبو علي الفارسي وابن جني من أوائل من تعرض لهذه الظاهرة، فقال ابن جني"اعلم ان هذا الفصل من فصول العربية طريف ورأيت أبا علي-رحمه الله به غريا معنيا
…
ومعناه ان العرب قد تعتقد ان في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه حقيقته ومحصوله، وقد يجري ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها. وذلك مثل قولهم: لئن لقيت زيدا لتلقين منه الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر
…
وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه، حتى كأنها تقابله أو تخاطبه". [الخصائص: 2/ 473 - 474].
وقسمه ابن الأثير على قسمين [انظر: المثل السائر: 2/ 159 - 163]:
الأول/ التجريد المحض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، أي ان الخطاب موجه لغير الشاعر لكنه يريد به نفسه، "إذ تنشطر ذات الشاعر إلى شطرين، شطر مخاطب وشطر مخاطب، فيقيم الشاعر حوارا داخليا لكنه حوار قاس، وان هذا الأسلوب يغدو شكل من أشكال مواجهة الذات وحوارها ولومه.
الثاني/ التجريد غير المحض: فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك." وهو شكل من أشكال الحوار إذ لا يكون فيه الحضور للضمائر، وإنما يكون للنفس الذي تشكل مصدرا لإحساس الإنسان وهواجسه وانفعالاته، فالشاعر يخاطب مكمن الشعور والإحساس.
والتجريد شكل من أشكال الحوار الذي يريد الإنسان من خلاله أن يبرز مشاعره، وله خصوصيته في الإيحاء، ومن كونه شكلا بلاغيا مرتبطا بهدف ما، وذلك من خلال السياق الذي ورد فيه.
لمزيد من المعلومات انظر: [الطراز: 3/ 73 - 74، التلخيص في علوم البلاغة: 268، نهاية الإرب في فنون الأدب: 7/ 156، الفوائد: 230/ 233، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 2/ 40 - 47].
القراءة الثانية: {قَالَ أَعْلَمُ} ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز (ألف){أعلم} وقطعها، ورفع (الميم)، بمعنى:"فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال المتبيِّن ذلك: أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير"(1).
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، وبعض قرأة أهل العراق، وبذلك فسّر معناه، جماعة من أهل التفسير: منهم وهب (2)، وقتادة (3)، والسدي (4)، والضحاك (5)، وابن يد (6).
قال الطبري: " وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: {اعْلَمْ} ، بوصل (الألف) وجزم (الميم)، على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير، على كل شيء قادرٌ كذلك، وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: {فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك
…
وانظر إلى العظام كيف ننشزها}، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه:{أنى يحيي هذه الله بعد موتها} قال الله له: {اعلم أن الله} الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم، فكذلك أمر الذي سأل فقال:{أنّى يحيي هذه الله بعد موتها} بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير" (7).
وقال ابن عطية: قوله تعالى {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أي:"أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: الله لا إله إلا هو ونحو هذا. وقال أبو علي: "معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قبل" (8).
قال ابن عطية: يعني علم المعاينة" (9).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث ينوع الأدلة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ لقوله تعالى:{أو كالذي مر على قرية} ؛ فهذه الآية وما قبلها، وما بعدها كلها في سياق قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى.
(1) تفسير الطبري: 5/ 482.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5957) و (5958): ص 5/ 483.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5959): ص 5/ 483.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5960): ص 5/ 483.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5961): ص 5/ 483.
(6)
انظر: تفسير الطبري (5962): ص 5/ 483.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 483 - 484.
(8)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 383.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 351.
2 -
ومنها: الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يهتم الإنسان بأعيان أصحاب القصة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمة لكان الله يبين ذلك: يقول: فلان؛ ويبين القرية.
3 -
ومنها: أن العبرة بالمعاني والمقاصد دون الأشخاص.
4 -
ومنها: إطلاق القرية على المساكن؛ لقوله تعالى: {وهي خاوية على عروشها} مع أنه يحتمل أن يراد بهذه الآية المساكن، والساكن؛ لأن كونها خاوية على عروشها يدل على أن أهلها أيضاً مفقودون، وأنهم هالكون.
5 -
ومنها: قصور نظر الإنسان، وأنه ينظر إلى الأمور بمعيار المشاهَد المنظور لديه؛ لقوله هذا الرجل:{أنى يحيي هذه الله بعد موتها} ؛ فكونك ترى أشياء متغيرة لا تستبعد أن الله عز وجل يزيل هذا التغيير؛ وكم من أشياء قدَّر الناس فيها أنها لن تزول، ثم تزول؛ كم من أناس أمَّلوا دوام الغنى، ودوام الأمن، ودوام السرور، ثم أعقبه ضد ذلك؛ وكم من أناس كانوا على شدة من العيش، والخوف، والهموم، والغموم، ثم أبدلهم الله سبحانه وتعالى بضد ذلك.
6 -
ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء - ولكنه لم يشك في قدرة الله - لا يكفر بهذا.
7 -
ومنها: بيان قدرة الله عز وجل في إماتة هذا الرجل لمدة معينة، ثم إحيائه؛ لقوله تعالى:{فأماته الله مائة عام ثم بعثه} .
8 -
ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل، والقول، وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى:{قال كم لبثت} ؛ والأولى الأخذ بظاهر القرآن، وأن القائل هو الله عز وجل.
9 -
ومنها: جواز امتحان العبد في معلوماته؛ لقوله تعالى: {كم لبثت} .
10 -
ومنها: الرد على الأشاعرة الذين قالوا: «إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذه الأصوات التي سمعها موسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وغيرهما ممن كلمه الله هي أصوات خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه» ؛ وأن هذا القول مقتضاه إنكار القول من الله عز وجل.
11 -
ومنها: بيان حكمة الله، حيث أمات هذا الرجل، ثم بعثه ليتبين له قدرة الله عز وجل.
12 -
ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئاً؛ لقوله تعالى:{قال لبثت يوماً أو بعض يوم} مع أنه لبث مائة عام.
13 -
ومنها: أن الله قد يمنّ على عبده بأن يريه من آياته ما يزداد به يقينه؛ لقوله تعالى: {فانظر إلى طعامك
…
} إلخ.
14 -
ومنها: أن قدرة الله فوق ما هو معتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير.
15 -
ومنها: الرد على أهل الطبيعة الذين يقولون: إن السنن الكونية لا تتغير؛ لقوله تعالى: {لم يتسنه} : لكون هذا الطعام، والشراب لم يتغير لمدة مائة سنة، والرياح تمر به، والشمس، والحر.
16 -
ومنها: جواز الانتفاع بالحُمُرِ؛ لقوله تعالى: {وانظر إلى حمارك} .
17 -
ومنها: ثبوت الملكية فيها: لأن الله أضاف الحمار إلى صاحبه؛ فقال تعالى: {حمارك} ؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه» (1)؛ وإثبات الملكية يقتضي حل الثمن؟
(1) أخرجه أحمد 1/ 295، حديث رقم 2678، واللفظ له، وأخرجه أبو داود ص 1483، كتاب البيوع، باب 64: في ثمن الخمر والميتة، حديث رقم 3488، وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 370: صحيح.
فالجواب: أنها إذا بيعت للأكل فهو حرام؛ لأنه هو المحرم؛ وأما إذا بيعت للانتفاع فهذا حلال؛ لأن الانتفاع بها حلال؛ إذاً فهذا لا يعارض الحديث؛ فإذا اشترى الحمار للأكل فالثمن حرام؛ وإن اشتراه للمنفعة فالمنفعة حلال، وثمنها حلال.
18 -
ومن فوائد الآية: أن الله يحدث للعبد ما يكون عبرة لغيره؛ لقوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} ؛ ومثل ذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم، وأمه:{والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91].
19 -
ومنها: أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله عز وجل، وأحدثه في الكون؛ لأن ذلك يزيد الإيمان، حيث إن هذا الشيء آية من آيات الله.
20 -
ومنها: أنه ينبغي النظر إلى الآيات على وجه الإجمال، والتفصيل؛ لقوله تعالى:{وانظر إلى حمارك} : مطلق؛ ثم قال تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها
…
} إلخ؛ فيقتضي أن نتأمل أولاً في الكون من حيث العموم، ثم من حيث التفصيل؛ فإن ذلك أيضاً يزيدنا في الإيمان.
21 -
ومنها: أن الله عز وجل جعل اللحم على العظام كالكسوة؛ بل هو كسوة في الواقع؛ لقوله تعالى: {ثم نكسوها لحماً} ، وقال تعالى:{فكسونا العظام لحماً} [المؤمنون: 14]؛ ولهذا تجد اللحم يقي العظام من الكسر والضرر؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم.
22 -
ومنها: أن الإنسان بالتدبر، والتأمل، والنظر يتبين له من آيات الله ما لا يتبين لو غفل؛ لقوله تعالى: {فلما تبين له
…
} إلخ.
23 -
ومنها: بيان عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {على كل شيء قدير} .
24 -
ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {على كل شيء قدير} ؛ لأن من الأشياء فعل العبد؛ والله سبحانه وتعالى قادر على فعل العبد؛ وعند القدرية المعتزلة أن الله ليس بقادر على أفعال العبد؛ لأن العبد عندهم مستقل خالق لفعله، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعاله.
25 -
ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: {فأماته الله
…
ثم بعثه}؛ وهذه أفعال متعلقة بمشيئته، واختياره: متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل؛ متى شاء خلق، ومتى شاء أمات؛ ومتى شاء أذل، متى شاء أعز.
26 -
ومنها: أن كلام الله عز وجل بحروف، وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى:{كم لبثت} ، وقوله تعالى:{بل لبثت مائة عام} ؛ فإن مقول القول حروف بصوت سمعه المخاطَب، وأجاب عليه بقوله:{لبثت يوماً أو بعض يوم} ؛ ولكن الصوت المسموع من كلام الله عز وجل ليس كصوت المخلوقين؛ الحروف هي الحروف التي يعبر بها الناس؛ لكن الصوت: لا؛ لأن الصوت صفة الرب عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].
27 -
ومنها: أنه يلزم من النظر في الآيات العلم، واليقين؛ لقوله تعالى:{فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} .
28 -
ومنها: أنه يمكن الرد على الجبرية على قراءة: «اعلم» ؛ لأنه لو كان الإنسان مجبوراً لكان توجه الخطاب إليه بالأمر والتكليف، لغواً وعبثاً.
29 -
ومنها: ثبوت كرامات الأولياء؛ وهي كل أمر خارق للعادة يجريه الله عز وجل على يد أحد أوليائه تكريماً له، وشهادةً بصدق الشريعة التي كان عليها؛ ولهذا قيل: كل كرامة لوليّ فهي آية للنبي الذي اتبعه؛ و «الولي» كل مؤمن تقي؛ لقوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63].
30 -
ومنها: وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير.
القرآن
التفسير:
واذكر -أيها الرسول- طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيفية البعث، فقال الله له: أَوَلم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن أطلب ذلك لأزداد يقينًا على يقيني، قال: فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك واذبحهن وقطعهن، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم نادِهن يأتينك مسرعات. فنادى إبراهيم عليه السلام، فإذا كل جزء يعود إلى موضعه، وإذا بها تأتي مسرعة. واعلم أن الله عزيز لا يغلبه شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 260]، " ألم تر إذ قال إبراهيم"(1).
قال الطبري: " وإنما صلح أن يعطف بقوله: {وإذ قال إبراهيم} على قوله: {أو كالذي مرّ على قرية}، وقوله: {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه}، لأن قوله: {ألم تر} ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، فهو وإن كان لفظه لفظ " الرؤية " فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه"(2).
و{إبراهيم} صلى الله عليه وسلم هو الأب الثالث للأنبياء؛ فالأول: آدم؛ والثاني: نوح؛ والثالث: إبراهيم، كما قال الله سبحانه وتعالى:{ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78]، وقال تعالى في نوح:{وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]؛ وآدم معلوم أنه أبو البشر: قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26](3).
قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، أي: ربّي " اجعلني أنظر، وأرى بعيني"(4)، كيف تحيي الموتى.
قال ابن عثيمين: "والسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان؛ لأن إبراهيم لم يشك في القدرة؛ ولا عن معنى الإحياء؛ لأن معنى الإحياء عنده معلوم؛ لكن أراد أن يعلم الكيفية: كيف يحيي الله الموتى بعد أن أماتهم، وصاروا تراباً وعظاماً"(5).
قال الصابوني: " سأل الخليل عن الكيفية مع إِيمانه الجازم بالقدرة الربانية، فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان"(6).
وقوله تعالى: {الموتى} : يحتمل وجهين (7):
الأول: أيّ موتى يكونون.
الثاني: أن المراد به الموتى من بني آدم.
إذا نظرنا إلى لفظ {الموتى} وجدناه عاماً؛ يعني أيّ شيء يحييه الله أمامه فقد أراه؛ فيترجح الاحتمال الأول.
واختلف أهل التفسير في سبب مسألة إبراهيم، على أقوال (8):
(1) تفسير الطبري: 5/ 485.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 485.
(3)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 299.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 299.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 299.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(7)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 299.
(8)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 485 وما بعدها.
الأول: أنه أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، وهذا قول ابن عباس (1)، وقتادة (2)، والضحاك (3)، وابن جريج (4)، وابن يد (5).
قال الطبري: " فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به"(6).
والثاني: لمنازعة النمرود له في الإحياء، قاله ابن إسحاق (7)، والحسن (8) فيما معناه.
قال الطبري: القولان الأول والثاني: " متقاربا المعنى، في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا"(9).
الثالث: وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.
وإلى هذا القول ذهب الطحاوي (10)، وهو المروي عن السدي (11)، وسعيد بن جبير (12)، وعبدالله بن المبارك (13).
الرابع: وقيل: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. روي فيما معنى ذلك عن عطاء بن أبي رباح (14)، وابن عباس (15)، وعطاء (16)، وهذا اختيار الطبري (17).
واستندوا في قولهم على ما روي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نحنُ أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي "(18)(19).
(1) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2687): ص 2/ 507.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5963): ص 5/ 485.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5964): ص 5/ 485 - 486، وابن ابي حاتم (2687): ص 2/ 507.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5965): ص 5/ 486.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5966): ص 5/ 486.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 485.
(7)
انظر: تفسير الطبري (5967): ص 5/ 487.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2688): ص 2/ 507.
(9)
تفسير الطبري: 5/ 487.
(10)
شرح مشكل الآثار: 1/ 184.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5968): ص 5/ 487 - 488، وابن ابي حاتم (2689): ص 2/ 508.
(12)
انظر: تفسير الطبري (5969): ص 5/ 489.
(13)
أعلام الحديث للخطابي: (3/ 1546)، والأسماء والصفات للبيهقي:(2/ 488)، وشرح السنة للبغوي: 1/ 116.
(14)
انظر: تفسير الطبري (5972): ص 5/ 490. و (5974): ص 5/ 491.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5970) و (5971): ص 5/ 489 - 490.
(16)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2690): ص 2/ 508. قال: "دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى".
(17)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 491 - 492.
(18)
أخرجه الطبري (5973): ص 5/ 490. ورواه البخاري في الأنبياء: باب قول الله: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) [الحجر: 51]: (12/ 42): رقم (3372)، وفي التفسير: باب قوله: (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) [يوسف: 50]: (15/ 337) رقم (4694) وليس فيه لفظ الشك، ومسلم في الإيمان: باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة: (1/ 481) رقم (399) وفي الفضائل: باب من فضائل إبراهيم الخليل: (15/ 427) رقم (6291).
(19)
إن العلماء قد بينوا معنى هذا الحديث بل وعدوه من فضائل إبراهيم [ولذلك رواه مسلم كما سبق في كتاب الفضائل: باب من فضائل إبراهيم]، وقالوا المراد من الحديث: تنزيه إبراهيم عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الشك في قدرة الله على إحياء الموتى، والقطع بعدم دلالة الحديث على ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم. ولكنهم اختلفوا في معنى الحديث على عدة أقوال أقواها:
القول الأول: أن المراد بهذا الحديث نفي الشك عن إبراهيم، فكأنه عليه السلام قال: إن إبراهيم لم يشك، ولو كان الشك متطرقاً إليه لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا نحن لم نشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه السلام من باب أولى ألا يشك. قال ذلك عليه السلام على سبيل التواضع وهضم النفس.
وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء كابن قتيبةتأويل مختلف الحديث: (91 ـ 92)، والطحاويشرح مشكل الآثار:(1/ 184)، والخطابيأعلام الحديث:(3/ 1545 ـ 1546)، والحميديفسير غريب ما في الصحيحين:(292)، وابن عطيةلمحرر الوجيز:(2/ 303)، وابن حزمالفصل:(2/ 292 ـ 293)، والقاضي عياضالشفاء:(310)، وابن الجوزيكشف المشكل:(3/ 358)، والنوويشرح النووي على مسلم:(2/ 542)، وصفي الرحمن المباركفوريمنة المنعم في شرح صحيح مسلم:(1/ 133)، (4/ 63)، وابن عثيمينتفسير القرآن له:(3/ 305)، والقول المفيد على كتاب التوحيد:(1/ 219)، وغيرهم [نظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: (9/ 525)، والأسماء والصفات للبيهقي:(2/ 488)، ومعالم التنزيل:(1/ 248)، وإكمال المعلم للقاضي عياض:(1/ 465)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي:(3/ 298 ـ 299)، وشرح النووي على مسلم:(2/ 542)، وفتح الباري: (6/ 412].
قال الخطابي: " مذهب الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"؛ اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم عليه السلام، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما".أعلام الحديث: (3/ 1545 ـ 1546).
وقال ابن الجوزي: " مخرج هذا الحديث مخرج التواضع وكسر النفس".كشف المشكل: (3/ 358).
القول الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام سمّى التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكاً، فأطلق على ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم عليه السلام اسمَ الشك، وإلا فإبراهيم كان مؤمناً موقناً، ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولكن الرسول عليه السلام عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميةمجموع الفتاوى: (15/ 178)، وابن القيممدارج السالكين:(1/ 507).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمناً كما أخبر الله عنه بقوله: (أولم تؤمن قال بلى) ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: (ولكن ليطمئن قلبي) فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي عليه السلام شكاً لذلك بإحياء الموتى".مجموع الفتاوى: (15/ 178).
قال الطبري، مرجحا هذا القول:" وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " (1)، وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا (2): من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: {أولم تؤمن}؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت"(3)، وكذا روي عن ابن يد (4).
وقد اعترض ابن عطية على هذا القول، فقال: " فأما قول ابن عباس: هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله، أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث، وأما قول عطاء بن أبي رباح: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به،
(1) أخرجه الطبري (5973): ص 5/ 490. ورواه البخاري في الأنبياء: باب قول الله: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) [الحجر: 51]: (12/ 42): رقم (3372)، وفي التفسير: باب قوله: (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) [يوسف: 50]: (15/ 337) رقم (4694) وليس فيه لفظ الشك، ومسلم في الإيمان: باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة: (1/ 481) رقم (399) وفي الفضائل: باب من فضائل إبراهيم الخليل: (15/ 427) رقم (6291).
(2)
انظر: تفسير الطبري (5966): ص 5/ 486.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 491 - 492.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5975): 5/ 491.
ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة» (1)، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال: ذلك محض لإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون كَيْفَ خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، كَيْفَ نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، وكَيْفَ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة" (2).
واعترض كثير من المفسرين على اختيار الطبري، فهذا القاسمي يقول، " وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله، واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين وغيرهما من قوله: «نحن أحقّ بالشك من إبراهيم» (3)، وبما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما في القرآن عندي آية أرجى منها، إذ رضي الله من إبراهيم قوله {بَلى} ، قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان" (4)، أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له، قال ابن عطية: "وهو عندي مردود" (5). يعني قول هذه الطائفة"(6).
والراجح أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى، ولكنه أراد أن يتحول من علم اليقين الذي أوحاه الله عز وجل إليه إلى عين اليقين وهو ما تراه العين وتشاهده، حتى يزداد القلب اطمئنانا على ما به من إيمان، وكيف يشك إبراهيم عليه السلام في إحياء الله الموتى، وقد حاج الملك وبرهن له على قدرة الله تبارك وتعالى على كل شيء ومنها إحياء الموتى، فكيف يحاجج الملك بما يشك فيه؟ ! (7).
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 215.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 353.
(3)
أخرجه الطبري (5973): ص 5/ 490. ورواه البخاري في الأنبياء: باب قول الله: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) [الحجر: 51]: (12/ 42): رقم (3372)، وفي التفسير: باب قوله: (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) [يوسف: 50]: (15/ 337) رقم (4694) وليس فيه لفظ الشك، ومسلم في الإيمان: باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة: (1/ 481) رقم (399) وفي الفضائل: باب من فضائل إبراهيم الخليل: (15/ 427) رقم (6291).
(4)
المستدرك (1/ 60) وتعقبه الذهبي بأن فيه انقطاعا.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 352.
(6)
تفسير القاسمي: 2/ 199.
(7)
وكيف يشك في هذا الأمر، وقد حاج طاغية عصره في هذه القضية، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] ومن ثم فكيف يسوغ لمن حاج خصمه بقضية الإحياء والموت، أن يشك فيها بعد ذلك؟ ! ألا يدل ذلك على جهل هؤلاء المدعين وكذبهم على أنبياء الله تعالى؟ ! إن إبراهيم عليه السلام لا يتكلم في الإحياء، وإنما كان شكه في أن الله سبحانه قد لا يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى، ولنضرب مثالا على ذلك، ولله المثل الأعلى. إن الواحد منا يقول للمهندس: كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلى محدث وهو البيت الذي تم بناؤه. فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟ لا. إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات مقصورة ومتخيلة [انظر: تفسير الشعراوي: 2/ 139].
واستنادا إلى ما سبق فقد كان سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى، وكيفية جمع الأجزاء لا عن الإحياء نفسه، فإنه ثابت ومقرر، ويدل على ذلك وقوع السؤال بكيف التي تسأل عن الهيئة والكيفية، والإنسان يؤمن بما لا يعرف كيفيته، وفي فطرته الرغبة في استكناه أشياء هو مؤمن بها، ولكنه يود لو يقف على أسرارها وخفاياها، وطلب الخليل عليه السلام رؤية كيفية إحياء الموتى من هذا القبيل، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل الإيمان بالبعث، الذي عرفه بالوحي والبرهان، دون المشاهدة والعيان [عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي: 282].
فالمعرفة التفصيلية أقوى وأرسخ من المعرفة الإيمانية المؤدية إلى التردد بين الكيفيات المتعددة مع الطمأنينة إلى القدرة على الإحياء.
يقول الشيخ محمد عبده في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أولم تؤمن} - وهو أعلم بإيمانه ويقينه - إرشاد إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، ويكتفي به في هذا المقام، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه، كأنه يقول: إن الإيمان بهذا السر الإلهي، والتسليم فيه لخبر الوحي، ودلالته، وامتثاله هو منتهى ما يطلب من البشر، فلو كان وراء الإيمان والتسليم مطلع لناظر لبينه الله تعالى لك، وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن عليه السلام تأديب للمؤمنين كافة، ومنع لهم عن التفكر في كيفية التكوين وإشغال العقول بما استأثر الله تعالى به، فيما لا يليق بهم البحث عنه. [تفسير المنار: 3/ 53 - 54].
إذن، فالسؤال ليكف الفكر عن تخيل كيفيات الإحياء؛ إذ تتعين عنده كيفية إحياء الموتى، ذلك، وقد وردت في الآية أقوال عديدة، تنفي الشك عن إبراهيم عليه السلام وأول هذه الأقوال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى
…
». [البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51)} (الحجر) (3192)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام (6291)].
والحديث ينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع من يقول: إن إبراهيم عليه السلام شك، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشك؛ فرد عليهم بهذا الحديث، أي: إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى ألا يشك.
فالسؤال كان لزيادة الإيمان واليقين؛ لأن درجاته تتفاوت بالمعاينة، ينتقل الإنسان فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، والعلم ينقسم إلى ضروري - وهو الحاصل من غير استدلال لظهوره - ونظري - يتوقف على نظر واستدلال لكونه غير بدهي، والشك ممتنع في الضروري، ومحتمل في النظري، وقد أراد الخليل أن ينتقل من النظري إلى الأعلى منه وهو الضروري. وليس معنى هذا أن إبراهيم عليه السلام وقع منه شك في علمه النظري، بل إن النظري من حيث هو يجوز جريان الشك عليه، وفرق بين الشك وجوازه. [انظر: عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم: 281 - 282].
وبهذا يتبين لنا أن سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى كان من أجل أن ينتقل من علم اليقين، الذي يؤمن به إيمانا لا شك فيه ولا تردد إلى عين اليقين الذي يزيد القلب اطمئنانا بما يراه ويشاهده.
قال المراغي: "وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات، فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحى والدليل"(1).
فنعتقد جزما بأنه ليس المقصود هنا أن إبراهيم-عليه السلام كان يشك في قدرة الله تعالى على الإحياء، ونحتجّ بذلك في وجهين:
الأول: أن إبراهيم-عليه السلام قد قال {بلى} ، وهذا يزيل كل لبس، وينفي كل توهم في نسبة الشك في القدرة إلى إبراهيم.
والاستفهام في قوله تعالى: {أولم تؤمن} للتقرير، وليس للإنكار ولا للنفي، فهو كقوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] يعني: قد شرحنا لك، فمعنى {أولم تؤمن}: ألست قد آمنت. لتقرير إيمان إبراهيم-عليه السلام (2).
(1) تفسير المراغي: 1/ 503.
(2)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 300.
قال ابن عطية: " إحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {ربي الذي يحيي ويميت} [البقرة: 258]، فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً"(1).
الثاني: أن سؤال إبراهيم عليه السلام إنما هو عن الكيفية، لا عن الإمكان كما هو صريح قوله:{كيف تحيي الموتى} .
قال ابن عطية: " وإذا تأملت سؤاله عليه السلام، وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول. نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله
…
و {كيف} في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر" (2).
قال الماوردي: " ولأي الأمرين كان، فإنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد علم الاستدلال (3).
قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260]، أي:" ألست قد آمنت؛ لتقرير إيمان إبراهيم صلى الله عليه وسلم"(4).
قال الأخفش: " ألست قد صدقت"(5).
قال المراغي: " ألم تعلم ذلك وتؤمن يأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته؟ "(6).
قال الشوكاني: " أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته"(7).
قال ابن عباس: " قال أولم تؤمن يا إبراهيم أني أحي الموتى؟ قال بلى يا رب"(8).
والاستفهام في قوله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} للتقرير، فهو كقول جرير (9):
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
أي: أنتم خير الخلائق.
قال ابن حجر: " الاستفهام للتقرير، ووجهه: أنه طلب الكيفية، وهو مشعر بالتصديق بالإِحياء"(10).
وروي "عن سعيد بن جبير في قوله: أولم تؤمن قال بلى يعني: أو لم تؤمن أني خليلك"(11). وروي عن السدي (12) نحوه.
قوله تعالى: {قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]، أي:" أي بلى آمنت"(13).
(1) المحرر الوجيز: 2/ 303.
(2)
المحرر الوجيز: 2/ 303.
(3)
النكت والعيون: 1/ 33.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 299 - 300.
(5)
معاني القرآن: 1/ 199.
(6)
تفسير المراغي: 1/ 503.
(7)
فتح القدير: 1/ 281.
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2691): ص 2/ 508.
(9)
شرح ديوانه، للصاوي: 78، وهي ضمن أبيات في مدح عبدالملك بن مروان (ت 110 هـ)، و (خيرمن ركب المطايا) كناية عن (صفة) الأفضلية في الشجاعة؛ لربطها بالركوب؛ وبالتالي الفروسية، و (راح): جمع راحة، وهي باطن الكف. وغرضه أكرم الناس، فقوله:(أندى العالمين بطون راح) دلالة على كرمهم. الجمع بين هاتين الصفتين- اللتين تُعتبران عند العرب من أهم الصفات – ووضعهما في صيغة اسم التفضيل، والتعبيرعنها بصيغة الاستفهام التقريري؛ لكل ذلك اعتبر البيت من أفضل ما قِيْلَ في المدح.
(10)
الفتح: 6/ 474، وانظر: البسيط للواحدي: 1/ 157 ب، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 43، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 300، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 298، الدر المصون للسمين: 1/ 630.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم (2692): ص 2/ 509.
(12)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2693): ص 2/ 509. ولفظه: " قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ يقول: تصدق؟ قال: بلى".
(13)
تفسير القاسمي: 2/ 199.
قال المراغي: " قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر"(1).
قال الشوكاني: " علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك"(2).
قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، " أي: ليزداد طمأنينة" (3).
قال الطبري: " ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه"(4).
قال القرطبي: " أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا"(5).
قال البغوي: " أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة"(6).
قال ابن حجر: " أي: ليزيد سكوناً بالمشاهدة المنضمة إلى اعتقاد القلب؛ لأن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وكأنه قال: أنا مصدق، ولكن للعيان لطيف معنى"(7).
قال القاسمي: " ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فوق سكونه بالوحي"(8).
قال المراغي: " ولكن تاقت نفسى للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبى بالعيان بعد خبر الوحى"(9).
قال الأخفش: " أي: قلبي ينازعني الى النظر فاذا نظرت اطمأن قلبي"(10).
قال الشوكاني: " ولكن سالت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان"(11).
قال النسفي: " ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري"(12).
قال القرطبي: " والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «اركع حتى تطمئن راكعاً
…
اسجد حتى تطمئن ساجداً» (13)، " [أي تستقر] "(14)، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء" (15).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، أربعة أوجه:
(1) تفسير المراغي: 1/ 503.
(2)
فتح القدير: 1/ 281.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 300.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 492.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 300.
(6)
تفسير البغوي: 1/ 322.
(7)
الفتح: 6/ 475.
(8)
محاسن التأويل: 2/ 199. ثم قال: "فإنّ تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكّا في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه. ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» [أخرجه أحمد في المسند 1/ 215.].
(9)
تفسير المراغي: 1/ 503. ثم قال المراغي: " وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه".
(10)
معاني القرآن: 1/ 199.
(11)
فتح القدير: 1/ 281.
(12)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(13)
أخرجه البخاري ص 60، كتاب الأداب، باب 95: وجوب القراءة للإمام والمأموم
…
، حديث رقم 757؛ وأخرجه مسلم ص 740، كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
…
، حديث رقم 885 [45]397.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 300.
(15)
تفسير القرطبي: 3/ 300.
أحدها: يعني ليزداد يقيناً إلى يقينه، هكذا قال الحسن (1)، وقتادة (2)، وسعيد بن جبير (3)، والضحاك (4)، والربيع (5).
وهذا قول جمهور أهل العلم (6).
قال القسمي: " ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة وتعينت عندي بالتصوير المشاهد. فهذا أحسن ما يجري لي في تفسير هذه الآية"(7).
والثاني: أراد ليطمئن قلبي أنك اتخذتني خليلاً، وهذا قول ابن السائب (8)، والسدي (9)، وسعيد بن جبير (10).
والثالث: أنه لم يردبه رؤية القلب، وإنما أراد به رؤية العين، قاله الأخفش (11)، وروي ذلك عن الضحاك (12).
قال الشوكاني: " ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة"(13).
الرابع: وقال بعضهم: "لأزداد إيمانا مع إيماني"(14)، قاله مجاهد (15)، وإبراهيم (16)، وسعيد بن جبير (17).
قال ابن عطية: " ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض"(18).
الخامس: وقيل: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. قاله ابن عباس (19).
وقد ذكر البعض تأويلات لا وجه لها، قال ابن حجر: " وحكى ابن التين (20) عن بعض من لا تحصيل عنده أنه أراد بقوله: {قَلْبِي} رجلاً صالحاً كان يصحبه سأله عن ذلك (21)، وأبعد منه ما حكاه القرطبي
(1) أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2702): ص 2/ 510.
(2)
انظر: تفسير الطبري (5979) و (5980): ص 5/ 492.
(3)
انظر: تفسير الطبري (5976) و (5977): ص 5/ 492، و (5983): ص 5/ 493، وابن ابي حاتم (2697): ص 2/ 509.
(4)
انظر: تفسير الطبري (5978): ص 5/ 492.
(5)
انظر: تفسير الطبري (5981): ص 5/ 493.
(6)
انظر نحواً من هذا الكلام في الكشاف للزمخشري: 1/ 391 - 392، وانظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 345، جامع البيان للطبري: 5/ 485، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 313، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 301، فتح القدير للشوكاني: 1/ 419، وغيرها.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 200.
(8)
نقلا عن: تفسير القرطبي: 3/ 300، والنكت والعيون: 1/ 334.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5969): ص 5/ 489.
(10)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2699): ص 2/ 510.
(11)
انظر: معاني القرآن: 1/ 198.
(12)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2701): ص 5/ 510.
(13)
فتح القدير: 1/ 281.
(14)
المحرر الوجيز: 1/ 353.
(15)
انظر: تفسير الطبري (5984): ص 5/ 493.
(16)
انظر: تفسير الطبري (5984): ص 5/ 493.
(17)
انظر: تفسير الطبري (5985): ص 5/ 493، وابن أبي حاتم (2698): ص 2/ 510.
(18)
المحرر الوجيز: 1/ 353.
(19)
أنظر: تفسير الطبري (5986): ص 5/ 494، وابن ابي حاتم (2695) و (2696): ص 2/ 509.
(20)
هو: أبو محمد عبد الواحد بن التين السفاقسي، شيخ علامة، محدث مفسر فقيه، توفي عام: 611 هـ، له مصنفات أشهرها شرحه للصحيح. انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج لبابا التنبكتي: 188، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف:168.
(21)
لعل ذلك في كتابه: المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح، انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 546، الإمام البخاري وصحيحه لعبد الغني عبد الخالق: 233، معجم المصنفات الواردة في فتح الباري لمشهور حسن وزميله: 227 رقم: 663، ولم أجد من ذكر هذا القول غيره.
المفسر (1) عن بعض الصوفية: "أنه سأل من ربه أن يريه كيف يُحيي القلوب"(2)" (3). قال القرطبي: " وهذا فاسد مردود" (4).
والراجح في هذه المسألة: أن إبراهيم-عليه السلام سأل ربه أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، وقد فصلنا القول فيه في محور سبب مسألة إبراهيم. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} [البقرة: 260]، " أي أخذ أربعة طيور"(5).
قال الشوكاني: وخص الطير بذلك، قيل: لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان" (6).
قال أبو حيان: " وأمره بالأخذ للطيور وهو: إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية، وحاسة اللمس
…
والطير اسم جمع لما لا يعقل، يجوز تذكيره وتأنيثه، وهنا أتى مذكراً لقوله تعالى {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل: بمن، فقيل: أربعة من الطير يجوز الإضافة، كما قال تعالى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث، وكلا القولين غير صواب" (7).
وقد تعددت الأقوال في نوع الطيور في قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} [البقرة: 260] فذكروا فيه وجوها:
الأول: هن: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام، قاله مجاهد (8)، ومحمد بن إسحاق (9)، وحجاج (10)، وابن زيد (11)، وعكرمة (12).
والثاني: أربعة من الشقانين، قاله ابن عباس (13).
والثالث: قيل: وز ورال (14) وديك وطاوس. قاله ابن عباس (15).
(1) هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الخزرجي المالكي القرطبي، عالم عباد زاهد، إمام متقن متبحر في العلم، توفي عام: 671 هـ، له مصنفات منها: الجامع لأحكام القرآن، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، شرح الأسماء الحسنى، التذكار في أفضل الأذكار، انظر: الديباج المذهب لابن فرحون: 2/ 308، نفح الطيب للمقري: 2/ 110، طبقات المفسرين للداودي: 2/ 69، غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 8.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 299 - 300 وقال عقب إيراده له: (وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان ذكره الماوردي)، وهو عند الماوردي في النكت والعيون: 1/ 334.
(3)
الفتح: 6/ 474 - 485.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 299 - 300.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(6)
فتح القدير: 1/ 182. ثم قال: "وقيل إن الطير همته الطيران في السماء والخليل كانت همته العلو وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير وكل هذه لا تثمن ولا تغني من جوع وليست إلا خواطر أفهام وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله وعللا لما يرد في كلامه وهكذا قيل ما وجه تخصيص هذا العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد فقيل إن الخليل إنما سأل واحدا على عدد العبودية فأعطى أربعا على قدر الربوبية وقيل إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب اركان الحيوان ونحو ذلك من الهذيان".
(7)
البحر المحيط: 2/ 224.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (5991): ص 5/ 494 - 495، وابن أبي حاتم (2703): ص 2/ 510.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (5990): ص 5/ 494.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (5992): ص 5/ 495.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (5993): ص 5/ 495.
(12)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2703): 2/ 510.
(13)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 334.
(14)
فرخ النعام. [انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 511].
(15)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2704): ص 2/ 511.
والرابع: وقيل: الغرنوق (1) والطاوس، والديك، والحمامة. قاله ابن عباس (2).
والراجح أن نقول: بأن الله تعالى لم يعينها، وأن "محاولة تعيينهن لا فائدة منها؛ لأنه لا يهمنا أكانت هذه الطيور إوَزًّا، أم حماماً، أم غرباناً، أم أيَّ نوع من نواع الطيور؛ لأن الله لم يبينها لنا؛ ولو كان في تبيينها فائدة لبيَّنها الله عز وجل"(3).
قال ابن كثير: " وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن"(4).
قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260]، " أي: أملهن، واضممهن إليك" (5).
قال الصابوني: " فضمهنَّ إِليك، ثم اقطعهن، ثم اخلط بعضهن ببعض حتى يصبحن كتلة واحدة"(6).
قال النسفي: وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك" (7).
قال السعدي: " أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض"(8).
قال الأخفش: " أي: قطعهن"(9).
قال ابن كثير: " أوثقهن"(10).
قال أبو عليّ: «صرت» يقع على إمالة الشيء، يقال صرته، أصوره: إذا أملته إليك، وعلى قطعه، يقال: صرته أي: قطعته، فمن الإمالة قول الشاعر (11):
على أنّني في كلّ سير أسيره
…
وفي نظري من نحو أرضك أصور
فقالوا: الأصور: المائل العنق. ومن الإمالة قوله (12):
(1) طائر أسود طويل العنق واللسان 10/ 287. قال ابن أبي حاتم: "والغرنوق: الكركي". [تفسيره: 2/ 511].
(2)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2705): ص 2/ 511.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 301.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 689.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 301.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(7)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(8)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(9)
معاني القرآن: 1/ 199.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 690.
(11)
البيت من شواهد: الحجة للقراء السبعة: 2/ 389. ولم أتعرف على قائله.
(12)
البيت في أمالي القالي 2/ 52 وكتاب الفرق ص 199 - وفي المصادر الآتية- برواية: يصوع بدل يصور، قال البكري في السمط 2/ 685:
أنشده أبو عبيد في الغريب، وإنما صحّة اتصاله كما أنا مورده:
وجاءت خلعة دبس صفايا
…
يصور عنوقها أحوى زنيم
يفرّق بينها صدع رباع
…
له ظأب كما صخب الغريم
وقال في التنبيه ص 93: هذا ما اتبع فيه أبو علي (القالي) رحمه الله لط من تقدّمه، فأتى ببيت من أعجاز بيتين أسقط صدورهما، والشعر للمعلى العبدي وأنشد البيتين.
والبيتان بهذه الرواية ما عدا (دبس) فإنّها وردت في المصادر (دهس) - أوردهما صاحب اللسان في مادة (زنم) ونسبهما للمعلى بن حمّال العبدي، ويتراءى لنا من هذه الرواية أن بيت المصنف ملفق من البيتين، ولكن الغريب في الأمر أن المصادر تناولت البيت بروايته المذكورة عند الفارسي ونسبته لأوس بن حجر! .
ففي اللسان (ظأب) أنشده الأصمعي لأوس بن حجر وقال: وليس أوس بن حجر هذا هو التيمي لأنّ هذا لم يجيء في شعره. قال ابن بري: هذا البيت للمعلى بن جمال العبدي. اهـ منه ثم ذكره في مادة (ظرب، صدع، عنق) لأوس وفي التاج لأوس أيضاً. وكذلك نسبه الأزهري في التهذيب 1/ 254 لأوس.
والظاهر عندنا من رواية الفارسي للبيت الآتي، وقوله: وكذلك قول الآخر:
وجاءت خلعة دهس صفايا
…
يصور عنوقها أحوى زنيم
أن هنالك تداخلًا بين الروايتين، وربّما كان الشعر لشاعرين مختلفين، وتوافق عجزا البيتين عندهما إمّا من وقع الحافر على الحافر كما يقولون، وإمّا أن أحدهما أخذ من الآخر، وهذا في نظرنا ما يفسر الاختلاف في نسبة الشعر مرة لأوس وأخرى للمعلى ثم إن البيت الثاني: في كتاب الأضداد للأصمعي ص 33 برواية وكانت خلعة دهساً صفايا
…
وفي الأضداد لابن السكيت ص 187 برواية المصنف، وفي المكانين نسب البيت للعبدي وكذلك في مجاز القرآن 1/ 81 ونظام الغريب للربعي ص/ 179، هنالك اختلاف بين (جمّال وحمّال) بين المصادر، وفي تفسير الطبري 3/ 54 بدون نسبة. فبعيد أن يتناقل هؤلاء الثقات بيتاً ملفقاً من البيتين، كما قال البكري، دون أن يتنبهوا له. وانظر ديوان أوس في الملحقات ص 140 فإنهما برواية اللسان (زنم).
وقوله: يصوع: يسوق ويجمع، وعنوق ج عناق: للأنثى من ولد المعر، والأحوى: أراد به تيساً أسود. والحوّة: سواد يضرب إلى حمرة. والزنيم: لذي له زنمتان في حلقه. وظاب التيس وظأبه (مهموز وبدون همز):
صياحه عند الهياج.
وفي مجاز القرآن: ولون الدّهاس: لون الرمل، كأنه تراب رمل أدهس.
خلعة: خيار شائه. صفايا: غزار. [انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 390 - 391].
يصور عنوقها أحوى زنيم
…
له ظاب كما صخب الغريم
فهذا لا يكون إلّا من الإمالة وكذلك قول الآخر (1):
جاءت خلعة دهس صفايا
…
يصور عنوقها أحوى زنيم
ومن القطع قول ذي الرّمّة (2):
صرنا به الحكم وعيّا الحكما
قال أبو عبيدة: فصلنا به الحكم (3).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260](4) على وجوه:
القراءة الأولى: قرأت الجماعة: بضم (الصاد): {فَصُرْهُنَّ} (5).
وذلك من قول القائل: صُرْت إلى هذا الأمر، إذا ملت إليه، ويقال: إني إليكم لأصْوَر، أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر (6):
اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا
…
يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ
ومنه قول الطرماح (7):
(1) سبق تخريجه في الهامش السابق.
(2)
البيت في اللسان (صور) وفيه: وأعيا بدل عيّا، ونسبه إلى العجاج، مع بيتين آخرين، وذكر الأبيات الثلاثة الدكتور عبد الحفيظ السطلي في ملحقات ديوان العجاج 2/ 335 عن اللسان. ولم نجد البيت في ديوان ذي الرمة.
(3)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 389 - 392.
(4)
انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 389 - 390، وتفسير الطبري: 5/ 495 - 496، وتفسير البغوي: 1/ 323.
(5)
انظر: النشر لابن الجزري: 2/ 232، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 1/ 450، الغاية في القراءات العشر لابن مهران: 118، المهذب في القراءات العشر د. محمد سالم محيسن: 1/ 102، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة للقاضي:52. وقراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب متصلة الإسناد بابن عباس. انظر: الإقناع لابن الباذش: 1/ 74 - 102، الغاية لابن مهران: 24 - 68، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 19 - 32.
(6)
لم أتعرف على قائله، وأنشده الفراء. اللسان (صور) والخزانة 1: 58، وشرح شواهد المغني: 266 وغيرها كثير. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة:
وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي
…
مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
(7)
ديوانه: 152، وهو من أبيات جياد، قبله:
إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا
…
تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ
وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا
…
سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ
قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً
…
فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ
عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ. . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا
…
وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ
قوله: " طفل "، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا. وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث، وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به. فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه. وقوله:" أجدر " أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل.
عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا
…
هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ
يعني بقوله: (أو أن يصورها هوى)، يميلها (1).
فمعنى قوله: {فصُرْهن إليك} اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال:" صُرْ وجهك إليّ "، أي أقبل به إليّ، ومن وَجَّه قوله:{فصرهن إليك} إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: {فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك} ، ثم قطعهن، (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا}.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم (الصاد): قطِّعهن، كما قال توبة بن الحميِّر (2):
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ
…
بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا
…
بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
يعني: يقطعها.
وإذا كان ذلك تأويل قوله: {فصرهن} ، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن ويكون {إليك} من صلة {خذ} (3).
القراءة الثانية: وقرأ جماعة من أهل الكوفة: {فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ} ، بالكسر، بمعنى: قطعهن (4).
وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون: {فصُرهن} ولا {فصرهن} بمعنى: قطعهن، في كلام العرب - وأنهم لا يعرفون كسر (الصاد) و (ضمها) في ذلك إلا بمعنى واحد، وأنهما جميعًا لغتان بمعنى (الإمالة) وأن كسر (الصاد) منها لغة في هذيل وسليم، وأنشدوا لبعض بني سليم (5):
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ
…
عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح
قال أبو علي: "فمعنى هذا يميل الجيد من كثرته"(6).
ومثل هذا قول الآخر (7):
وقامت ترائيك مغدودنا
…
إذا ما ما تنوء به آدها
قال أبو علي: " فقد ثبت أنّ الميل والقطع، يقال في كلّ واحد منهما"(8).
(1) انظر: تفسير الطبري: 5/ 495 - 496.
(2)
البيت من شواهد الطبري في تفسيره: 5/ 497.
(3)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 494 - 497.
(4)
قراءة حمزة (فَصِرْهُنَّ) قرأ بها أيضاً أبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب من العشرة، انظر: النشر لابن الجزري: 2/ 232، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 1/ 450، الغاية في القراءات العشر لابن مهران: 118، المهذب في القراءات العشر د. محمد سالم محيسن: 1/ 102، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة للقاضي:52. وقراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب متصلة الإسناد بابن عباس. انظر: الإقناع لابن الباذش: 1/ 74 - 102، الغاية لابن مهران: 24 - 68، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 19 - 32.
(5)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبر في تفسيره: 5/ 497، ومعاني القرآن للفراء 1/ 174، اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة جيدة محكمة.
(6)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 392.
(7)
البيت رابع أبيات من قصيدة أبياتها 20/ عشرون بيتا لحسان في ديوانه 1/ 113، وذكره صاحب اللسان/ غدن/ والبيت في المحتسب 1/ 319 والمنصف 3/ 13، 30 عن أبي علي.
(8)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 392.
واختلف في (الضم) و (الكسر) على قولين (1):
أحدهما: أن معناه متفق ولفظهما مختلف.
فقال نحويو البصرة: {فصرهن إليك} سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما: " صار يصور "، والأخرى:" صَار يصير "، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل (2)، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (3):
وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا
…
يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ
بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها، وببيت خنساء (4):
لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ
يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق، وببيت أبي ذؤيب (5):
فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ
…
غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
قالوا: فلقول القائل: " صُرْت الشيء "، معنيان: أملته، وقطعته. وحكوا سماعًا:" صُرْنا به الحكم ": فصلنا به الحكم (6).
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 334 - 335.
(2)
وهو قوله [تفسير الطبري: 5/ 496 - 497]:
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ
…
بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا
…
بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
(3)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وأمالي القالي 2: 52، والتنبيه: 93، وسمط اللآلي: 685، 686، ثم في لسان العرب (ظأب)(ظاب)(صور)(دهس)(خلع)(صوع)(عنق)(زنم)، وفي كتب أخرى، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا: يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ
…
لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ
وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان: وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا
…
يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ
يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ
…
لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ
الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى، السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله:" يصوع " هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد، يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها): وهو الفتى الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه.
(4)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 81 ومصراع الخنساء ليس في ديوانها، وهو في الأضداد للأصمعي وابن السكيت ص 33 - 187 وللأنباري 23 وتفسير الطبري 3/ 54 والغريبين واللسان/ صور/ وصدر البيت «كما في البحر المحيط 2/ 300: فلو يلاقي الذي لاقيته حضن
(5)
ديوانه: 12 المفضليات: 873، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 81، والأضداد للأصمعي وابن السكيت 33، 187. وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري " فانصرن "، رواية غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى. وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب: فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ
…
أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ
يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ
…
غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه. ويروى " فانصاع من فزع " أي ذهب في شق. والغبر الضواري: هي كلاب الصياد، " منها وافيان ": كلبان سالما الأذنين. والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه.
(6)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 494 - 500.
القراءة الثالثة: بتشديد (الراء) مع (ضم) أوله (كسره) من: صَرَّه يصِرُّه، إذا جمعه (1).
القراءة الرابعة: ونقل أبو البقاء (2): تثليث (الراء) في هذه القراءة (3).
قال ابن حجر: "وهي شاذة"(4).
والراجح هو قول البصريين، بأن معنى الضم في (الصاد) من قوله:{فصرهن إليك} والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى " إليك " تقديمها قبل " فصرهن "، من أجل أنها صلة قوله:{فخذ} ، وذلك " لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله:{فصرهن} غير خارج من أحد معنيين: إما " قطِّعهن "، وإما " اضْمُمْهن إليك "، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله:{فصرهن} بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل الكلام " فاصرهن "، ثم قلبت فقيل:" فصِرْهن " بكسر " الصاد "، لتحول " ياء "، " فاصرهن " مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شكّ - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم - قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب " فاصِرهن " إلى " فصِرهن " أن يقرأه " فصُرْهن " بضم " الصاد "، وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر " الصاد " بتأويل: التقطيع، مقلوب من:" صَرِي يَصْرَى " إلى " صار يصير " وجهل من زعم أن قول القائل: " صار يصور "، و " صار يصير " غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع" (5).
وعلى القول المختار وهو قول البصريين (6)، فإن في تفسير {فَصُرْهُنَّ} ، سة أقاويل:
أحدها: معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن، قاله مجاهد (7)، وقتادة (8).
والثاني: قَطِّعْهُن، قاله ابن عباس (9)، وسعيد بن جبير (10)، والحسن، وأبي مالك (11)، وعكرمة (12)، ومجاهد (13)، وقتادة (14)، والضحاك (15)، والسدي (16)، والربيع (17)، وابن إسحاق (18)، وأبو أسود الدؤلي (19).
(1) أي: (فَصُرَّهُنَّ) و (فَصِرَّهُنَّ)، انظر المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جني: 1/ 136، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 300، الدر المصون للسمين: 1/ 632.
(2)
هو: أبو البقاء محب الدين عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي الحنبلي الضرير، صاحب الإعراب، مقرئ فقيه مفسر فرضي لغوي، كان كثير المحفوظ، ديناً حسن الأخلاق متواضعاً. توفي عام: 610 هـ، له تصانيف شهيرة منها: تفسير القرآن، وإملاء ما من به الرحمن، وإعراب الشواذ، وعدُّ الآي، وإعراب الحديث. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 22/ 91، إنباه الرواة للقفطي: 2/ 116، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب: 2/ 109، طبقات المفسرين للداودي: 1/ 231.
(3)
إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 111.
(4)
الفتح: 8/ 49.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 501.
(6)
بأن معناه متفق ولفظهما مختلف.
(7)
انظر: تفسير الطبري (6002) و (6003): ص 5/ 503.
(8)
انظر: تفسير الطبري (6004): ص 5/ 503.
(9)
انظر: تفسير الطبري (5994) و (5995) و (5996): ص 5/ 502، وابن ابي حاتم (2706) و (2707): ص 2/ 511، وابن ابي حاتم (2711): ص 2/ 512، كما أخرجه سعيد بن منصور في سننه: 3/ 972 - 973 رقم: 443، والبيهقي في البعث والنشور: 1/ 22 رقم: 11، وذكره السيوطي في الدر المنثور: 1/ 593 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (5999): ص 5/ 502 - 503، وتفسير ابن ابي حاتم (2712): ص 2/ 512.
(11)
انظر: تفسير الطبري (5998): ص 5/ 502.
(12)
انظر: تفسير الطبري (6000): ص 5/ 503.
(13)
انظر: تفسير الطبري (6001): ص 5/ 503.
(14)
انظر: تفسير الطبري (6005): ص 5/ 503. ولفظه"فمزقهن".
(15)
انظر: تفسير الطبري (6006): ص 5/ 503. قال: " وهو بالنبطية (صرّى)، وهو التشقيق".
(16)
انظر: تفسير الطبري (6007): ص 5/ 504.
(17)
انظر: تفسير الطبري (6008): ص 5/ 504.
(18)
انظر: تفسير الطبري (6009): ص 5/ 504.
(19)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2708): ص 2/ 511.
والثالث: اضْمُمْهُن إليك، قاله وعطاء (1).
والرابع: أَمِلْهُن إليك (2).
والخامس: أوثقهن، قاله ابن عباس (3)، واختاره ابن كثير (4).
والسادس: أجمعهن، قاله ابن زيد (5).
والسابع: علمهن، قاله أبو الجوزاء (6).
والقول الثاني: أن معنى الضم والكسر مختلف، وفي اختلافهما أربعة أقوال (7):
الأول: قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم: اجْمَعْهن، وبالكسر: قَطِّعْهُنّ.
والثاني: قال ابن التين: {صُرهن} بضم الصاد معناها: ضُمَّهن، وبكسرها: قَطِّعهن (8).
والثالث: قاله الكسائي ومعناه بالضم: أَمِلْهُنّ، وبالكسر: أقْبِلْ بهن.
والرابع: وعن الفراء: الضم: مشترك، والكسر: القطع فقط (9).
قال ابن حجر: " وذكر صاحب (المغرب) أن هذه اللفظة: بالسريانية (10)، وقيل: بالنبطية (11)، لكن المنقول أولاً يدل على أنها بالعربية، والعلم عند الله تعالى"(12).
قال الطبري: "فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم (الصاد): {فصُرْهن إليك} أو كسرها {فصِرْهن} إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به {فصُرْهن إليك}، بضم (الصاد)، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في إحياء العرب"(13).
قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة: 260]، أي: ثم" ضع على كل جبل منهن بعضا"(14).
(1) انظر: تفسير الطبري (6011): ص 5/ 505.
(2)
انظر: النكت والعيون: 1/ 335.
(3)
انظر: تفسير الطبري (6010): ص 5/ 505، وتفسير ابن ابي حاتم (2709): ص 2/ 511، وانظر: الدر المنثور: 1/ 593.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 690.
(5)
انظر: تفسير الطبري (6012): ص 5/ 505.
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2710): ص 2/ 512. ولفظه: " قال: علمهن، حتى كان إذا دعاهن أتينه. ثم شققهن، فدعاهن، فأتينه كما كن يأتينه قبل أن يشققن".
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 335.
(8)
انظر: المخبر الفصيح في شرح البخاري الصحيح، انظر الهامش: 4 ص: 582.
(9)
انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 174، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 286، الدر المصون للسمين: 1/ 632.
(10)
قال أبو الأسود: هي بالسريانية، انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 300، الدر المصون للسمين: 1/ 632، ولم أجدها في كتاب المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي ص:266.
(11)
هذا قول ابن عباس، انظر: تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 3/ 1041 رقم: 3054، جامع البيان للطبري: 5/ 502 رقم: 5994، وعزاه لهما السيوطي في الدر المنثور: 1/ 593، وانظر: البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 300، والدر المصون للسمين: 1/ 632، وقال بنبطيتها أيضاً: عكرمة كما في جامع البيان لابن جرير: 5/ 503 رقم: 6000، ونقل السيوطي في المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب: 106 عن ابن المنذر عن وهب أنها بالرومية.
(12)
الفتح: 8/ 49، قال السمين في الدر المصون: 1/ 632: (والجمهور على أنها عربية لا معربة)، وانظر: تعليق د. التهامي الراجي على المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب: 106.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 504.
(14)
محاسن التأويل: 2/ 201.
قال الصابوني: " أي فرِّق أجزاءهن على رءوس الجبال"(1).
قال السعدي: " واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء"(2).
قال ابن عثيمين: " والله أعلم بالحكمة من تعيين العدد، والجبال"(3).
وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة: 260]، فيه أربعة أقاويل (4):
أحدها: أنها كانت أربعة جبال، قاله ابن عباس (5)، والحسن، وقتادة (6)، والربيع (7)، وابن إسحاق (8)، وابن زيد (9).
والثاني: أنها كانت سبعة، قاله ابن جريج (10)، والسدي (11)، وابن عباس (12).
والثالث: كل جبل، قاله مجاهد (13)، والضحاك (14).
والرابع: أنه أراد جهات الدنيا الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، فمثّلها بالجبال، قاله ابن بحر.
والراجح: هو قول مجاهد ومن وافقه، "وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا} و (الكل) حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع، فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا، فإن كانت " بعضًا " فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه، أو يكون " جميعا "، فيكون أيضًا كذلك، وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على " كل جبل "، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، وإمَّا ما في الأرض من الجبال.
فأما قول من قال: " إن ذلك أربعة أجبل "، وقول من قال:" هن سبعة "، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى" (15).
واختلفوا هل قطّع إبراهيم الطير أعضاء صرن به أمواتاً، أم لا؟ على قولين (16):
أحدهما: أنه قطَّعَهُن أعضاء صرن به أمواتاً، ثم دعاهن فعدْن أحياء ليرى كيف يحيي الله الموتى كما سأل ربه، وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه فَرَّقَهُن أحياء، ثم دعاهن فأجبنه وعدن إليه، يستدل بعودهن إليه بالدعاء، على عَوْد الأموات بدعاء الله أحياءً، ولا يصح من إبراهيم أن يدعو أمواتاً له، قاله ابن بحر.
قال الماوردي: فإنْ قيل: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، فعنه جوابان (17):
أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح.
والثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.
وقرأ عاصم برواية أبي بكر {جُزْءًا} مثقلا مهموزا، والآخرون بالتخفيف والهمز، وقرأ أبو جعفر مشددة الزاي بلا همز {جزا} وأراد به بعض الجبال، الباقون مهموز مخفف، وهي لغات، ومعناه النصيب (18).
قوله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} [البقرة: 260]، أي ثم:"نادهنَّ"(19).
قال النسفي: " قل لهن تعالين بإذن الله"(20).
قال الطبري: " أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل: " تعالين بإذن الله " (21).
قال ابن عباس: " فدعا باسم الله الأعظم"(22).
وقال مجاهد: " باسم إله إبراهيم تعالين"(23).
قوله تعالى: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، أي:" يأتينك مسرعات"(24).
قال النسفي: " أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن"(25).
قال السعدي: " أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران"(26).
وللمفسرين في معنى قوله تعالى: {سعياً} ؛ قولان (27):
أحدهما: أن (السعي) هنا بمعنى الطيران؛ فالمعنى: يأتينك طيراناً لا نقص فيهن؛ لأن سعي كل شيء بحسبه؛ وسعي الطيور هو الطيران.
(1) صفوة التفاسير: 1/ 150.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 301.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 334 - 335.
(5)
انظر: تفسير الطبري (6014): ص 5/ 506، وابن ابي حاتم (2715): ص 2/ 512 - 513.
(6)
انظر: تفسير الطبري (6015): ص 5/ 506.
(7)
انظر: تفسير الطبري (6016): ص 5/ 506 - 507.
(8)
انظر: تفسير الطبري (6017): ص 5/ 507.
(9)
انظر: تفسير الطبري (6018): ص 5/ 507.
(10)
انظر: تفسير الطبري (6019): ص 5/ 507 - 508.
(11)
انظر: تفسير الطبري (6020): ص 5/ 508.
(12)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2716): ص 2/ 513.
(13)
انظر: تفسير الطبري (6021) و (6022): ص 5/ 508، و (6023): ص 5/ 509.
(14)
انظر: تفسير الطبري (6024) و (6025): ص 5/ 509.
(15)
تفسير الطبري: 5/ 509 - 510.
(16)
انظر: النكت والعيون: 1/ 335.
(17)
انظر: النكت والعيون: 1/ 335 - 336.
(18)
انظر: القرطبي: 3/ 301، وتفسير البغوي: 1/ 324.
(19)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(20)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(21)
تفسير الطبري: 5/ 511. ثم قال: " فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65] لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد".
(22)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2717): ص 2/ 513.
(23)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2718): ص 2/ 513.
(24)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(25)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(26)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(27)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 302.
الثاني: أن المراد بـ (السعي): المشي بسرعة على الأرجل.
قال ابن عثيمين: "ولكن الأولى - فيما يظهر لنا - هو الطيران؛ لأن كونهن يمشين على الأرجل لا يدل على كمالهن؛ إذ إن الطائر إذا كُسر جناحه صار يمشي؛ لكن كونهن يطرن أبلغ؛ لأنه كأنهن أتين على أكمل الحياة، والوجوه"(1).
واخرج ابن أبي حاتم بسنده " عن ابن عباس، يعني قوله: يأتينك سعيا قال: فرجع كل نصف إلى نصفه، وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤس، حتى انتهت إلى قدمه، تريد رؤسها بأعناقها، فلما رآها وما تفعل، رفع قدمه، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت، فقال إبراهيم حين رأى ذلك: {أعلم أن الله عزيز حكيم} "(2).
قوله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة: 260]، أي عزيز" لا يعجز عما يريده، حكيم في تدبيره وصنعه"(3).
قال ابن إسحاق: ": عزيز في بطشه، حكيم في أمره"(4).
وأخرج ابن ابي حاتم " عن ابن عباس، في قوله: واعلم أن الله عزيز حكيم يقول: مقتدر على ما يشاء"(5).
وعن الربيع: " {واعلم أن الله عزيز} في نقمته {حكيم} في أمره"(6).
قال النسفي: " {عزيز}، لا يمتنع عليه ما يريده، {حَكِيمٌ} فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة"(7).
قال ابن كثير: " أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره"(8).
قال السعدي: " أي: ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا"(9)
قال ابن عثيمين: " والله سبحانه وتعالى يقرن كثيراً بين هذين الاسمين: «العزيز» و «الحكيم»؛ لأن العزيز من المخلوقين قد تفوته الحكمة لعزته: يرى نفسه عزيزاً غالباً، فيتهور في تصرفاته، ويتصرف بدون حكمة؛ والحكيم من المخلوقين قد لا يكون عزيزاً؛ فإذا اقترنت حكمته بعزة صار له سلطان وقوة، ولم تفته الأمور؛ فجمع الله لنفسه بين العزة، والحكمة؛ وسبق الكلام عليهما مفصلاً"(10).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن التوسل إلى الله بربوبيته من آداب الدعاء التي يتوسل بها الرسل؛ لقوله تعالى: {رب} ؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية؛ إذ إنه فعل؛ وكل ما يتعلق بأفعال الرب فهو من مقتضيات الربوبية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر يمد يديه إلى السماء:
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 302.
(2)
تفسير ابن ابي حاتم (2719): ص 2/ 513. وفي رواية أخرى عنه (2720): ص 2/ 513: " يعني قوله: يأتينك سعيا فجعل خليل الرحمن ينظر إلى القطرة تلقى القطرة، والريشة تلقى الريشة، حتى صرن أحياء ليس لهن رؤس، فجئن إلى رؤسهن، فدخلن فيها".
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 150.
(4)
أخرجه الطبري (6026): ص 5/ 511.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (2721): ص 2/ 513. وبه عنه في معنى قوله {حكيم}، قال: " حكيم محكم لما أراد، وفعل هذا وأرانيه من آياته". [تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 514].
(6)
أخرجه الطبري (6027): ص 5/ 512.
(7)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 690.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 302.
«يقول: يا رب! يا رب! » (1)؛ ولو تأملت أكثر أدعية القرآن لوجدتها مصدرة بـ «الرب» ؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
2 -
ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه، لقوله تعالى:{أرني كيف تحيي الموتى} ؛ لأنه إذا رأى بعينه ازداد يقينه.
3 -
ومنها: أن عين اليقين أقوى من خبر اليقين؛ لقوله تعالى: {أرني كيف تحيي الموتى} ؛ لأن إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر؛ لكن يريد عين اليقين؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة» (2)؛ وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم؛ وعين؛ وحق؛ كلها موجودة في القرآن؛ مثال «علم اليقين» قوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: 5]؛ ومثال «عين اليقين» قوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 7]؛ ومثال «حق اليقين» قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 56]؛ نضرب مثالاً يوضح الأمر: قلت: إن معي تفاحة حلوة - وأنا عندك ثقة؛ فهذا علم اليقين: فإنك علمت الآن أن معي تفاحة حلوة؛ فأخرجتُها من جيبي، وقلت: هذه التفاحة؛ فهذا عين اليقين؛ ثم أعطيتك إياها، وأكلتَها وإذا هي حلوة؛ هذا حق اليقين.
4 -
ومن فوائد الآية: إثبات أفعال الله الاختيارية؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى له أفعال تتعلق بمشيئته؛ لقوله تعالى: {تحيي الموتى} .
5 -
ومنها: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإحياء الموتى؛ وقد قرر الله ذلك في آيات كثيرة.
6 -
ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {قال أو لم تؤمن} ، وقوله تعالى:{قال فخذ أربعة} ؛ والله سبحانه وتعالى؛ يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء؛ بما شاء: من القول؛ متى شاء: في الزمن؛ كيف شاء: في الكيفية.
7 -
ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف، وأصوات مسموعة؛ لوقوع التحاور بين الله عز وجل، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
8 -
ومنها: إثبات أن إبراهيم مؤمن بقدرة الله عز وجل على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: {قال أو لم تؤمن قال بلى} ؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«نحن أحق بالشك من إبراهيم» (3)؛ فأثبت شكاً فينا، وفي إبراهيم، وأننا أحق بالشك من إبراهيم؟ فالجواب أن الحديث لا يراد به هذا المعنى؛ لأن هذا معنًى يخالف الواقع؛ فليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم شك في إحياء الموتى؛ وإنما المعنى أن إبراهيم لم يشك؛ فلو قدر أنه يشك فنحن أحق بالشك منه؛ وما دام الشك منتفياً في حقنا فهو في حقه أشد انتفاءً؛ فإذا عُلم أننا الآن نؤمن بأنه تعالى هو القادر، فإبراهيم أولى منا بالإيمان بذلك؛ هذا هو معنى الحديث، ولا يحتمل غيره؛ فإن قلت: لا زال هنا إشكال؛ وهو: هل إبراهيم أكمل إيماناً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا؛ ولكن قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع؛ ولهذا قرن بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» (4)؛ فيوسف بقي في السجن بضع سنين، وجاءه رسول الملك يدعوه؛ فقال له: لا أخرج، {ارجع إلى
(1) أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 19: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث رقم 2346 [65]1015.
(2)
أخرجه أحمد 1/ 251، حديث رقم 1843، وفيه هشيم بن بشير، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي، وقد عنعن في هذا الحديث، وقال الترمذي: (سمعت إسحاق بن منصور يقول: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع هشيم حديث أبي بشر: ليس الخبر كالمعاينة، وأخرج ابن حبان له شاهداً 8/ 33، باب، ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به هشيم، حديث رقم 6181، وأخرج الحاكم الشاهد له، 2/ 380، كتاب التفسير، سورة الأنبياء، وقال صحيح على شرط الشيخين، واقره الذهبي وقال: سمعه من أبي بشر ثقتان.
(3)
أخرجه البخاري ص 274، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 11، قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم
…
)
…
، حديث رقم 3372، وأخرجه مسلم ص 703، كتاب الإيمان، باب 69: زيادة طمأنينة لقلب بتظاهر الأدلة، حديث رقم 382 [238]151.
(4)
التخريج السابق.
ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50]؛ مع أن غيره لو حبس سبع سنين، وقالوا له:«اخرج» ، فإنه يخرج؛ هذا مقتضى الطبيعة؛ لكن يوسف عليه الصلاة والسلام كان حليماً حازماً؛ قال: لا أخرج حتى تظهر براءتي كاملة؛ فتبين من هذا أنه لا يلزم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أن يكون إبراهيم أقوى إيماناً.
9 -
ومن فوائد الآية: إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: {بلى ولكن ليطمئن قلبي} ؛ ففيه رد على من قال: إن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ ولا ريب أن هذا القول ضعيف؛ لأن الواقع يكذبه؛ والنصوص تكذبه أيضاً: ففي القرآن قال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4]، وقال تعالى:{فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} [التوبة: 124]؛ وفي السنة: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» (1)؛ فالإيمان يزيد كمية، وكيفية؛ فمثال زيادة الكمية: أن الذي يسبح عشراً أزيد إيماناً من الذي يسبح خمساً؛ والذي يصلي عشر ركعات أزيد إيماناً من الذي يصلي ستاً؛ وأما زيادة الكيفية فمثالها: رجل صلى ركعتين بطمأنينة، وخشوع، وتأمل فإيمانه أزيد ممن صلاهما بسرعة؛ كذلك يزداد الإيمان بحسب إقرار القلب: كلما كثرت الآيات لدى الإنسان فلا شك أن إيمانه يزداد قوة، ورسوخاً؛ اقرأ قوله تعالى:{ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] أي على طرَف {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]: هذا إيمانه ضعيف مهزوز: إن لم تأته فتنة فهو مستقر؛ وإن أتته فتنة - شبهة، أو شهوة - انقلب على وجهه؛ فمثلاً نحن الآن في المملكة العربية السعودية ليس عندنا - ولله الحمد - أحد يعارضنا في العقيدة؛ فليس عندنا معتزلة، ولا جهمية، ولا جبرية
…
، فنحن ثابتون على الفطرة؛ ولكن لو يبتلى الإنسان، فيأتيه واحد من عفاريت الإنس جيد في المجادلة، والمحاجة من المعتزلة لأوشك أن يؤثر عليه، وينقله إذا لم يكن لديه رسوخ في العلم، والإيمان؛ كذلك لو أن إنساناً عنده إيمان لكن تعرضت له امرأة ذات منصب، وجمال، وأغرته حتى وقع في الفاحشة؛ وإنسان آخر تعرضت له هذه المرأة فقال:«إني أخاف الله» تجد الفرق بينهما؛ فالمهم أن القول الراجح الذي لا شك فيه، والذي تدل عليه الأدلة السمعية، والواقعية أن الإيمان يزيد، وينقص.
10 -
ومن فوائد الآية: جواز الاقتصار في الجواب على الحرف الدال عليه؛ لقوله تعالى: {بلى} ؛ وعليه فلو قيل للرجل: ألم تطلق زوجتك؟ فقال: «بلى» : طلقت؛ ولو قيل للرجل عند عقد النكاح: أقبلت النكاح، وقال:«نعم» انعقد النكاح؛ لأن حرف الجواب يغني عن ذكر الجملة.
11 -
ومنها: امتنان الله على العبد بما يزداد به إيمانه، لقوله تعالى: {فخذ أربعة من الطير
…
} إلى قوله تعالى: {يأتينك سعياً} .
12 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «العزيز» و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من الصفة؛ وهي العزة، والحكمة؛ لأن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ولا عكس؛ يعني: ليس كل صفة يؤخذ منها اسم؛ لكن كل اسم يؤخذ منه صفة؛ لأن أسماء الله عز وجل أعلام، وأوصاف؛ فكل اسم من أسمائه متضمن للصفة التي دل عليها اشتقاقه، أو لوازمها.
القرآن
التفسير:
(1) أخرجه البخاري ص 26، كتاب الحيض، باب 6: ترك الحائض الصوم، حديث رقم 304، وأخرجه مسلم ص 692، كتاب الإيمان، باب 34: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، حديث رقم 241 [132]79.
ومِن أعظم ما ينتفع به المؤمنون الإنفاقُ في سبيل الله. ومثل المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة زُرِعتْ في أرض طيبة، فإذا بها قد أخرجت ساقًا تشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة، في كل سنبلة مائة حبة. والله يضاعف الأجر لمن يشاء، بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام. وفضل الله واسع، وهو سبحانه عليم بمن يستحقه، مطلع على نيات عباده.
قال القرطبي: " لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم، روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: "لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" فنزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" فنزلت {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]" (1)، وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك"(2).
قال ابن عطية: " هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع"(3).
واختلف في سبب نزول الآية على أقوال (4):
الأول: روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال:"يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت" (5)، وقال عثمان: "يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما" (6).
الثاني: وقيل: نزلت في نفقة التطوع (7).
الثالث: وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة (8).
قال القرطبي: " ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا"(9).
(1) صحيح ابن حبان برقم (1648)"موارده".
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 302 - 303.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 355.
(4)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 303.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (10508): ص 6/ 1851. ومسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/ 32): "وفيه عمرو بن أبي سلمة، وثقه العجلي، وأبو خيثمة وابن حبان وضعفه شعبة وغيره، وبقية رجالهما ثقات".
(6)
أسباب النزول للواحدي: 87. وذكره البغوي في تفسيره: 1/ 249 - 250. ونسبه للكلبي، والعجاب فيس بيان الأسباب: 1/ 621.
وانظر عن هذا التجهيز "الفتح""5/ 408 و 7/ 54"، والأقتاب جمع قتب وهو كما في "القاموس" "ص 157":"الأكاف الصغير على قدر سنام البعير" والأحلاس جمع حِلْس وهو كما في "القاموس" أيضًا "ص 694": "كساء على ظهر البعير تحت البرذعة".
وقال البخاري في "صحيحه"، كتاب "الوصايا"، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا
…
" وقال عبدان: أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة"، فحفرته ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة"، فجهزته قال: فصدقوه بما قال""الفتح""5/ 406 - 408" وذكره دون سند في كتاب "فضائل الصحابة" مناقب عثمان "الفتح""7/ 52" وهل حفر عثمان رومة أم اشتراها؟ خلاف ويمكن الجمع انظر "الفتح""5/ 407 - 408".
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 355.
(8)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 303.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 303.
قال الراغب: " إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: إن ذلك متعلق بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} وما بينه وبين هذه الآية، اعتراضات مرغبة للإنسان في فرضه من حث على قناعة هي أس الجود، وذكر عظمة المستقرض وإرشاد لمن يستقرض منهم، وبين في يده أن فرضه هو الإنفاق في سبيله وأن مضاعفته هو بأن يجعل للواحد سبع مائة وأنه يضاعف مع ذلك لمن يشاء مضاعفة لا يضبط عدها، ولا يعرف حدها"(1).
قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 261]، " أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته"(2).
وقوله تعالى: {في سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 261]، فيه وجوه (3):
الأول: يعني في الجهاد، قاله السدي (4)، وابن زيد (5)، والربيع (6)، ومكحول (7)، واختاره الطبري (8).
قال ابن عطية: " وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح"(9).
والثاني: في طاعة الله. قاله سعيد بن جبير (10).
والثالث: وقال الربيع: "فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ولم يذهب وجها إلا بإذنه، كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف. ومن بايع على الإسلام، كانت الحسنة له عشر أمثالها"(11).
الرابع: وقال ابن عباس: "نفقة الحج والجهاد سواء، الدرهم بسبعمائة، لأنه في سبيل الله"(12).
الخامس: وقيل: النفقة في جميع أبواب الخير (13). وبه قال جمع من العلماء.
قال الراغب: سبيل الله " هو لكل ما يتوصل به إلى الله عز جل"(14).
قال ابن عطية: "وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا"(15).
السادس: وقيل: سبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه (16).
قال العلامة ابن عثيمين-رحمه الله: " وسبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه، لأنه يهدي إليه، ويوصل إليه؛ قال الله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]؛ وأضيف إلى الله لسببين؛ السبب الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده، وشرعه لهم؛ والسبب الثاني: أنه موصل إليه؛ ويضاف «السبيل» أحياناً إلى سالك السبيل؛ فيقال: سبيل المؤمنين، كما قال الله تعالى: {ومن يشاقق
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 548.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 506.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 691.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6028): 5/ 513، وابن أبي حاتم (2726): ص 2/ 514.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6029): 5/ 513.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6030): 5/ 514.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2722): ص 2/ 514، ونقله ابن كثير في تفسيره: 1/ 691.
(8)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 513.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 355 - 356.
(10)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2723): ص 2/ 514.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم (2727): ص 2/ 515.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2728): ص 2/ 515.
(13)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 324.
(14)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 548.
(15)
المحرر الوجيز: 1/ 355.
(16)
وهو قول ابن عثيمين، انظر: تفسيره: 3/ 308.
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115]؛ ولا تناقض بينهما؛ لأنه يضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم هم الذين سلكوه؛ وإلى الله باعتبار أنه الذي شرعه، وأنه موصل إليه" (1).
قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261]، أي:" كمن يزرع حبة فى أرض مغلة فتنبت سبع سنابل"(2).
قال البغوي: كمثل حبة أخرجت سبع سنابل (3).
قال المراغي: أي " تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب"(4).
قال الزمخشري: " ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عينى الناظر"(5).
قال القرطبي: " كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر"(6).
قال ابن عطية: "والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس (7):
آليت حب العراق الدهر أطعمه
…
والحب يأكله في القرية السوس" (8)
وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر" (9).
قوله تعالى: {في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]، " في كل سنبلة منها مائة حبة
قال الصابوني: "أي كل سنبلةٍ منها تحتوي على مائة حبة فتكون الحبة قد أغلَّتْ سبعمائة حبة، وهذا تمثيل لمضاعفة الأجر لمن أخلص في صدقته"(10).
قال الراغب: " يقال النبت لما له نمو في أصل الحلقة يقال تنبت الصبي والشعر والسن وفلان حسن النية ويستعمل النبات فيما له ساق، وما ليس له ساق وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام إذا راهق، كأنه صار ذا نبتة وفلان في منبت خير كناية عن الأصل .. والسنبلة فيعلة من السبل يقال: أسبل الزرع، وسنبل"(11).
قال القاسمي: " أي: أنبتت ساقا انشعب سبع شعب، خرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة، فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها"(12).
وروي " عن عكرمة، في قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}، فذلك سبعمائة"(13).
(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 308 - 309.
(2)
تفسير المراغي: 1/ 506.
(3)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 325.
(4)
تفسير المراغي: 1/ 506.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 310.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 203.
(7)
البيت للمتلمس في ديوانه ص 95؛ وتخليص الشواهد ص 507؛ والجنى الداني ص 473؛ وخزانة الأدب 6/ 351؛ وشرح التصريح 1/ 312؛ وشرح شواهد المغني 1/ 294؛ والكتاب 1/ 38؛ والمقاصد النحوية 2/ 548؛ وبلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 99. آليت: أقسمت. حب العراق: ما ينبته من حبوب. أطعمه: آكله.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 355.
(9)
تفسير المراغي: 1/ 506.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 152.
(11)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 548.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 201 - 202.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2725): 2/ 514.
قال ابن كثير: " وهذا المثل أبلغ في النفوس، من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل، لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة"(1).
وفي مضاعفة ذلك في غير ذلك من الطاعات، قولان (2):
أحدهما: أن الحسنة في غير ذلك بعشرة أمثالها، قاله ابن زيد (3).
والثاني: يجوز مضاعفتها بسبعمائة ضعف، قاله الضحاك (4).
وقال أبو عمرو الداني: "قرأ بعضهم {مائة حبة}، بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة"(5).
قوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261]، أي:" أي يزيد ثواباً لمن يشاء حسب ما تقتضيه حكمته"(6).
قال الصابوني: "يضاعف الأجر لمن أراد على حسب حال المنفق من إِخلاصه وابتغائه بنفقته وجه الله"(7).
قال ابن كثير: " أي: بحسب إخلاصه في عمله"(8).
قال المراغي: أي " فيزيده زيادة لا حصر لها"(9).
قال القرطبي: "يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة"(10).
وقد وردت في السنة أحاديث كثيرة في تضعيف الحسنة إلى سبمعمائة ضعف، منها:
- جاء في الصحيحين: وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزّ وجلى: "إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به» (11).
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيّب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيّب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل» (12).
- وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال: «جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» (13).
- وأخرج أحمد والطبراني والبيهقيّ عن بريدة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله. الدرهم بسبعمائة ضعف» (14).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 691.
(2)
انظر: النكت والعيون: 1/ 336.
(3)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 336.
(4)
انظر: تفسير الطبري (6032): ص 5/ 515 - 516.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 356.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 309.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(9)
تفسير المراغي: 1/ 507.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 302.
(11)
أخرجه مسلم في: الصيام، حدث 164 ونصه: .... يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك».
(12)
أخرجه البخاري في: التوحيد، 23 - باب قول تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ. ومسلم في: الزكاة، حديث 63.
(13)
أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث 132.
(14)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 355 من ج 5.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} " (1).
قال ابن كثير: " وهذا حديث غريب"(2).
قال الطبري: " فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟
قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك، وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إنْ جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها، لأنه كان عنها" (3). وعلى هذا الوجه فسّره الضحاك (4).
وقوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261]، يحتمل أمرين (5):
أحدهما: يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته، بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله، فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. قاله الضحاك (6).
والثاني: وقيل: يضاعف الزيادة على ذلك لمن يشاء. قال الطبري: " وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره"(7).
قال الطبري: " والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [العمل في غير سبيله، أو] على غير النفقة في سبيل الله"(8).
قال ابن حجر: " والآية محتملة للأمرين فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها (9)، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق، ولفظه: "كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" (10) "(11).
(1) تفسير ابن ابي حاتم (2730): ص 2/ 515، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2761) عن هارون بن عبد الله به.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 692.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 414 - 415.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6031): ص 5/ 515، وانظر: تفسير البغوي [1/ 325]: إذ يقول" فإن قيل فما رأينا سنبلة فيها مائة حبة فكيف ضرب المثل به؟ قيل: ذلك متصور، غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلا جاز ضرب المثل به وإن لم يوجد، معناه: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} فما حدث من البذر الذي كان فيها كان مضاعفا إليها وكذلك تأوله الضحاك".
(5)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 515 - 516، وتفسير البغوي: 1/ 325.
(6)
انظر: تفسير الطبري (6032): ص 5/ 516.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 516.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 516.
(9)
ذكر الاحتمالين كل من: الماوردي-نفسه-في النكت والعيون: 1/ 336، والطبري في جامع البيان: 5/ 516، وابن عطية في المحرر الوجيز: 2/ 310، والزمخشري في الكشاف: 1/ 393، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 3/ 305، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 316، والشوكاني في فتح القدير: 1/ 423، وصديق خان في فتح البيان: 2/ 115، والقاسمي في محاسن التأويل: 3/ 326، واختار الطبري والقرطبي والشوكاني وصديق خان المضاعفة على السبعمائة.
(10)
أخرجه البخاري في صحيحه-فتح-: 11/ 331 رقم: 6491 لكن لفظه: (فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة).
(11)
الفتح: 1/ 123 - 124.
ثم قال: "فالأول هو المحقق من سياق الآية، والثاني محتمل، ويؤيد الجواز سعة الفضل"(1).
قال الراغب: " فإن قيل: كيف قال في موضع: {يُضَاعِفُ} ، وفي موضع:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال هاهنا ما يدل على أنه يحادي بواحد سبع مائة:
قيل: في ذلك طريقتان:
إحداهما: أن الخيرات تختلف باختلاف العالمين واختلاف نياتهما.
والثاني: أن تختلف باختلاف الأعمال.
فالأول: هو أن الناس فيما يتحرونه من أفعال الخير بالقول المجمل ثلاثة أضرب على ما قصد تعالى من ظالم ومقتصد وسابق أما الظالم: فالمتحري للخير مخافة سلطان ومذمة إنسان وتخويف عالم إياه من النار ونحو ذلك، وأما المقتصد: فالمتحري للخير مخافة عقاب الله ورجاء ثوابه من حيث ما قد تحقق وعده ووعيده، وأما السابق: فالمتحري للخير قصدا لوجه الله خالصا وثوابهم يختلف باختلاف مقاصدهم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السابقين حاكيا عن الله عز وجل " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "(2) الخبر.
والثاني: وهو أن يختلف باختلاف الأعمال وبيان ذلك أن السخاء أفضل أفعال العباد بدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " السخاء شجرة من أشجار الجنة، أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار، فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار "(3).
وقيل لبعض الحكماء: " أي شيء من أفعال العباد أشبه بفعل الله "؟ فقال: " السخاء، وأفضل الجود ما كان عن ضيق "، ولهذا قال الشاعر (4):
ليس العطاء من الفضول سماحة
…
حتى تجود وما لديك قليل
وقد علم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مضيفين سيما في ابتداء الإسلام وأفضل الإنفاق ما يقصد به وجه الله لعز وجل -، وأفضل ما يقصد به وجهه ما يجعل في سبيل الله، وأفضل سبيل ينفق فيه ما كان أكثره غنى، وقد علم أنه لا جهاد أكبر من جهاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا قوم أكفر ممن كان يحاد بهم ولا زمان أحوج إلى محاربتهم من زمانه وكل وأحد من هذه الخصال يجري مجرى فعل يستحق
(1) الفتح: 11/ 334، بل يجزم بوقوع المضاعفة فوق سبعمائة ضعف حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-والذي سبق ذكره. [أخرجه البخاري في صحيحه-فتح-: 11/ 331 رقم: 6491].
(2)
رواه البخاري (3072) ومسلم (2824) وعنده: (بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ).
(3)
تذكرة الموضوعات (63)، التعقبات (40)، التنزيه (2/ 139)، وضعيف الجامع (3340)، والقواعد المجموعة (212)، والكشف الإلهي (444)، واللآلئ (2/ 93)، والموضوعات (2/ 183). والحديث: ورواه ابن عدي (1/ 235) وابن شاهين في الترغيب (264) والدارقطني في الأجواد (6) والخطيب (1/ 253 - 254) والبيهقي في الشعب (10138): ص (7/ 435) وابن الجوزي في الموضوعات (2/ 182) والسيوطي في بغية الوعاة (2/ 403) من طريق محمد بن يحيى بن علي بن عبد الحميد، نا عبد العزيز بن عمران الزهري، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ آخر، وأوله:"السخاء شجرة في الجنة".
قال العراقي في تخريج الإحياء (3294): فيه عبد العزيز بن عمران الزهري ضعيف جدا.
قلت: وابن أبي حبيبة ضعيف، وساق ابن عدي الحديث من مناكيره، ولكن يظهر أنه مناكير ابن عمران، والله أعلم.
وقال الألباني في الضعيفة (8/ 350): هذا إسناد ضعيف جدا. وخرّج فيه اللفظ المذكور.
(4)
البيت للمقنع الكندي، نسبه إليه أبو تمام في الحماسة (شرح الحماسة للمرزوقي: 1734)، والسيوطي في شرح شواهد المغني: 1/ 372، والبغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب: 3/ 102، وذكره الأشموني 560/ 3، والسيوطي في الهمع 9/ 2، "الفضول" المال الزائد "سماحة" الجود والكرم.، يقول الشاعر: إن إعطاءك من زيادات مالك لا يعد سماحة، إلا أن تعطي في حالة قلة المال.
مثوبة محددة، فعظم الله تعالى أمر الإنفاق في سبيله في زمانه، وجعل له من الثواب ما لم يجعل لغيره من الأعمال.
ووجه ثالث: وهو أن الإنسان متى تحرى فعل الخير على ما يجب وكما يجب يدعوه ذلك إلى أن يزيد في فعل الخير فلا يزداد، حتى إنما يصير مثل ملك فيه الفضيلة وبازدياده في الإيمان وفعل الخيرات يزداد ثوابه، فحيث ما ذكر التضعيف، فأشار إلى الحالة الأولى وحيث ما ذكر عشرة أمثالها وسبعمائة فإلى الأحوال المتوسطات وحيث ما ذكر، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فإلى المنتهيات والغايات وأنها لا يحصرها عدد كما قال: عليه الصلاة والسلام: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت "(1).
وقوله تعالى: {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ] البقرة: 261]، أي:"أي واسع الفضل عليم بنيَّة المنفق"(2).
قال البغوي: أي والله: " {وَاسِعٌ}: غني، يعطي عن سعة، و {عَلِيمٌ}: بنية من ينفق ماله"(3).
قال ابن كثير: " أي: فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق"(4).
قال الطبري: "
قال المراغي: " أي: إنه تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحد عطاؤه، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة"(5).
قال ابن عثيمين: "أي ذو سعة في جميع صفاته؛ فهو واسع العلم، والقدرة، والرحمة، والمغفرة، وغير ذلك من صفاته؛ فإنها صفات واسعة عظيمة عليا؛ و {عليم} أي ذو علم - وهو واسع فيه - وعلمه شامل لكل شيء جملة، وتفصيلاً؛ حاضراً، ومستقبلاً، وماضياً"(6).
وعن سعيد بن جبير: في قوله {عليم} : قال: "يعني: عليم بما يكون"(7).
وقوله تعالى: {وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} ] البقرة: 261]، فيه وجوه (8):
أحدها: واسع لا يَضِيق عن الزيادة، عليم بمن يستحقها، قاله ابن زيد (9)، واختاره الطبري (10) وابن كثير (11).
والثاني: واسع الرحمة لا يَضِيق عن المضاعفة، عليم بما كان من النفقة.
الثالث: وقيل: " معنى ذلك: {والله واسع}، لتلك الأضعاف، {عليم} بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله"(12).
الرابع: واسع القدرة، عليم بالمصلحة. قاله الماوردي (13).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: ضرب الأمثال؛ وهو تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم.
(1) تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 448 - 450.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 325.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 507.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 309.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2731): ص 2/ 515.
(8)
انظر: النكت والعيون: 1/ 337.
(9)
انظر: تفسير الطبري (6033): ص 5/ 516.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 516.
(11)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 517.
(13)
انظر: النكت والعيون: 1/ 337.
2 -
ومنها: أن القرآن على غاية ما يكون من البلاغة، والفصاحة، لأن الفصاحة هي الإفصاح بالمعنى، وبيانه؛ وضرب الأمثال من أشد ما يكون إفصاحاً، وبياناً: قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
3 -
ومنها: فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.
4 -
ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.
5 -
ومنها: الإشارة إلى موافقة الشرع؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} ؛ لأن {في} للظرفية؛ والسبيل بمعنى الطريق؛ وطريق الله: شرعه؛ والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله؛ والإنفاق الذي يكون موافقاً للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67].
ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك إخلاصاً لله، واتباعاً لشرعه؛ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل «المرائي»: رجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله؛ ولا يهمه أن يقبل الله منه، أو لا يقبل؛ المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم، أو جواد.
وأما أن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - وهذا كثير: كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله.
6 -
ومن فوائد الآية: إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: {أموالهم} ؛ فإن الإضافة هنا تفيد الملكية.
7 -
ومنها: وجه الشبه في قوله تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} ؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.
8 -
ومنها: أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى:{والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} .
9 -
ومنها: إثبات الصفات الفعلية - التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يضاعف} ؛ و «المضاعفة» فعل.
10 -
ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {لمن يشاء} ؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30].
11 -
ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: {يضاعف لمن يشاء} ؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى أحسن إلي، أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء.
12 -
ومن فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «الواسع» ، و «العليم»؛ لقوله تعالى:{واسع عليم} ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة؛ وهما السعة، والعلم.
13 -
ومنها: الحث، والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.
القرآن
التفسير:
الذين يخرجون أموالهم في الجهاد وأنواع الخير، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات مَنّاً على مَن أعطَوه ولا أذى بقول أو فِعْلٍ يشعره بالتفضل عليه، لهم ثوابهم العظيم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم في هذه الدنيا.
قال ابن عطية: " لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه:
- إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه.
- وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى.
- وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى" (1).
وقد اختلف في سبب نزول الآية على أقوال (2):
الأول: قيل: إن هذه الآية، نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال عبدالرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان"(3).
الثاني: وقيل: أن إنها نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال:"يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت" (4)، وقال عثمان: "يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما" (5).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 456.
(2)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 303.
(3)
أخرجه أحمد (20630)، والترمذي (3701) وحسّنه.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم (10508): ص 6/ 1851. ومسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/ 32): "وفيه عمرو بن أبي سلمة، وثقه العجلي، وأبو خيثمة وابن حبان وضعفه شعبة وغيره، وبقية رجالهما ثقات".
(5)
أسباب النزول للواحدي: 87. وذكره البغوي في تفسيره: 1/ 249 - 250. ونسبه للكلبي، والعجاب فيس بيان الأسباب: 1/ 621.
وانظر عن هذا التجهيز "الفتح""5/ 408 و 7/ 54"، والأقتاب جمع قتب وهو كما في "القاموس" "ص 157":"الأكاف الصغير على قدر سنام البعير" والأحلاس جمع حِلْس وهو كما في "القاموس" أيضًا "ص 694": "كساء على ظهر البعير تحت البرذعة".
وقال البخاري في "صحيحه"، كتاب "الوصايا"، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا
…
" وقال عبدان: أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة"، فحفرته ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة"، فجهزته قال: فصدقوه بما قال""الفتح""5/ 406 - 408" وذكره دون سند في كتاب "فضائل الصحابة" مناقب عثمان "الفتح""7/ 52" وهل حفر عثمان رومة أم اشتراها؟ خلاف ويمكن الجمع انظر "الفتح""5/ 407 - 408".
قال ابن حجر: "وقال مقاتل بمعناه مختصرا"(1).
الثالث: وقال ابن ظفر: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن، أما أبو بكر فأنفق جميع ماله، وأما الباقون فأنفق نصف ما عنده وكذا ابن عوف وأما عثمان فاشترى بئر رومة وجهز جيش العسرة وأما علي فباع حائطا له باثني عشر ألفا فتصدق بجميعها وأصبح يوما وليس عنده سوى أربعة دراهم فتصدق بها وكان كثير الإيثار على نفسه" (2).
وقال أبو سعيد الخدري: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يده يدعو لعثمان ويقول: "يا رب إن عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه" فما زال رافعا يده حتى طلع الفجر، فأنزل الله تعالى فيه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ} الآية"(3).
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ} [البقرة: 262]، أي:" الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله"(4).
قال الطبري: "الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم"(5).
قال ابن عطية: "وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا"(6).
قوله تعالى: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا} [البقرة: 262]، أي:" ولا يعقبون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات بالمنِّ على من أحسنوا إِليه"(7).
قال البغوي: " وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكدرها"(8).
قال السعدي: " ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته"(9).
قال ابن عثيمين: " أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه"(10).
قال القاسمي: " {مَنًّا}: وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقا"(11).
(1) العجاب في بيان الأسباب: 1/ 622.
(2)
العجاب في بيان الأسباب: 1/ 622.
(3)
أسباب النزول للواحدي: 87، والحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 283) وصححه وهو كما قال، ويشهد له: ما أخرجه النسائي (فتح القدير: 1/ 291) والحاكم (المستدرك: 2/ 284) والدارقطني (2/ 130 - ح: 11) والطبراني (المعجم الكبير: 6/ 93 - ح: 5567) والبيهقي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم (فتح القدير: 1/ 291) عن سهل بن حنيف بمعناه. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (انظر حاشية جامع الأصول: 4/ 619 والتعليق المغني على الدارقطني: 2/ 130 - 132).
(4)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 517.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 355.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 313.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 203.
وقد ذكر أهل العلم في تفسير (المنّ) قولان (1):
الأول: المن: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها (2) مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه.
والثاني: وقيل: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.
قال القرطبي: والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره (3)، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى "(4). وفي بعض طرق مسلم: " المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة "(5) " (6).
و(المنّ) في اللغة على وجوه:
أولا: يكون بمعنى الإنعام، يقال: قد منَّ عليَّ فلان: إذا أَفْضَل وأَنْعَم، ولفلان عليّ منّة، أي: نعمة، أنشد ابن الأنباري (7):
فمِنّي عَلَيْنَا بالسَّلامِ فَإِنَّما
…
كلامُكِ ياقُوتٌ ودُرٌّ مُنَظَّمُ
ومن النعمة: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة "(8).
يريد: أنعم وأسمح بماله، ولم يرد المنة التي تهدم الصنيعة، والله تعالى يُوصَفُ بأنه مَنَّان، أي: منعم. قال أهل اللغة: المن: الإحسانُ إلى من لا يستثيبه، ولهذا يقال: الله تعالى منّان، لأن إحسانه إلى الخلق ليس لطلب ثواب، ومن هذا قوله:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} [ص: 39] وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثرَ مما أعطيت (2).
والمنّ في اللغة أيضًا: النقص من الحق والبخس له، قال الله تعالى:{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] يقال: غير مقطوع، وغير منقوص، ومن هذا يسمى الموت: مَنُونًا؛ لأنه يُنْقِصُ الأَعْدَاد، ويقطع الأعمار (9).
ومن هذا: المِنَّةُ المذمومة؛ لأنها تُنْقِصُ النعمة وتُكَدِّرُها، قال الشاعر في المِنَّةِ المَذْمومة (10):
(1) انظر: تفسير القرطبي: 3/ 308، والمحرر الوجيز: 1/ 356.
(2)
انظر المحرر الوجيز: 1/ 356.
(3)
انظر: صحيح مسلم (106)، وسنن أبي داود (4087)، والترمذي (1211)، والنسائي: 5/ 81، وابن ماجة (2208) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(4)
سنن النسائي: 5/ 80، وهو في مسند أحمد (6180). قوله "الديوث": هو الذي لا يغار على أهله، انظر: النهاية لابن الأثير (ديث).
(5)
صحيح مسلم عقب (106).
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 308.
(7)
البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل، وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري؟ ، وذكره الواحدي في تفسيره: 4/ 408.
(8)
أخرجه البخاري (466) كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر من المسجد، ومسلم (2382) كتاب:"فضائل الصحابة"، باب: من فضائل أبي بكر، والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له حديث رقم (15492).
(9)
ينظر في معاني المن: "تهذيب اللغة" 4/ 3459 - 3460 (مادة: منن)، "المفردات" 477، "لسان العرب" 7/ 4279، "عمدة الحفاظ" 4/ 131 - 132. وذكر الراغب أن المنة يراد بها: النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى. والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ويقبح ذلك، قيل: المنة تهدم الصنيعة، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة، وقوله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} [الحجرات: 17] فالمنة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إياهم كما ذكر.
(10)
البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري، واستشهد به الواحدي في تفسيره: 4/ 410.
أَنَلْتَ قليلًا ثم أسْرعَت مِنَّةً
…
فَنَيْلُكَ مَمْنُون لِذَاك قليلُ
فالمراد بالمن الذي في الآية: المنُّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة، وذكرها الذي يكدرها.
والعَرَبُ تتمدّح بترك المنِّ بالنعمة، قال قائلهم (1):
زَادَ مَعْروفَكَ عِنْدِي عِظَمًا
…
أنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حقيرْ
تَتَنَاسَاهُ كأنْ لم تَأتِهِ
…
وهو في العالم مَشْهورٌ كبيرْ (2)
قوله تعالى: {وَلَا أَذًى} [البقرة: 262]، أي:" ولا بالأذى"(3).
قال ابن كثير: " أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان"(4).
قال السعدي: " ولا أذية له قولية أو فعلية"(5).
قال القرطبي: " و (الأذى): السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه"(6).
قال البغوي: " أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟ وقيل من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه"(7).
قال النسفي: " هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه"(8).
وقال الضحاك: " أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى"(9).
وقال الحسن: " إن أقواما يبعثون الرجل منهم في سبيل الله، أو ينفق على الرجل، ويعطيه النفقة، ثم يمنه ويؤذيه، ومنه ما أنفق، يقول: أنفقت في سبيل الله كذا وكذا، من منه، من غير محتسبه عند الله، وأذى، يؤذي به الرجل الذي أعطاه، من ماله ويقول: ألم أعطك من مالي كذا وكذا؟ ألم أنفق عليك كذا وكذا؟ يمن عليه، وأذى يؤذيه، فذلك من القول له، إذ قال الله: الذين ينفقون أموالهم"(10).
وقال زيد بن أسلم: "لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه، وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم"(11).
قال الآلوسي: " وإنما قدم (المنّ) لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة {لا} لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما، و {ثُمَّ} للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة"(12).
قال ابن عطية: " والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه"(13).
(1) البيتان من قول الخُرَيمي، نسبهما إليه في "عيون الأخبار" 3/ 160، و"دلائل الإعجاز" 1/ 360 وروايتهم، وعند الناس بدل في العالم.
(2)
انظر: تفسير البسيط: 4/ 408 - 410.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 308.
(7)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(8)
تفسير النسفي: 1/ 137.
(9)
أخرجه الطبري (6036): ص 5/ 519.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (22732): ص 2/ 516.
(11)
أخرجه الطبري (35): ص 5/ 518.
(12)
تفسير الآلوسي: 2/ 33.
(13)
المحرر الوجيز: 1/ 356. ثم قال: " وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم. قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين.
قال ابن عطية: وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد". [المحرر الوجيز: 1/ 356].
قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم} [البقرة: 262]، " أي: لهم ثواب ما قدموا من الطاعة عند الله" (1).
قال ابن كثير: "أي: ثوابهم على الله، لا على أحد سواه"(2).
قال ابن عطية: وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة" (3).
قال الشوكاني: "وقوله {عند ربهم} فيه تأكيد وتشريف"(4).
وذكروا بأن قوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِم} [البقرة: 262]، يحتمل وجهان (5):
الأول: يحتمل أن ثوابه عند الله سبحانه وتعالى ملتزم به، ولا بد أن يوفيه.
والثاني: ويحتمل معنى آخر، وهو أن الثواب هذا يكون في الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ وهذه عندية مكان، ولا ينافي ما سبق من عندية العهد، والالتزام بالوفاء؛ فتكون الآية شاملة للمعنيين، وأرى بأن كلا المعنيين صحيحين. والله أعلم.
قال ابن عثيمين: " وسمى الله سبحانه وتعالى الثواب أجراً؛ لأنه عز وجل تكفل للعامل بأن يجزيه على هذا العمل؛ فصار كأجر الأجير"(6).
قوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 262]، أي:" أي لا يعتريهم فزعٌ يوم القيامة"(7).
قال الطبري: " عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة"(8).
قال ابن عثيمين: " أي مما يستقبل"(9).
قال ابن عطية: " ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل"(10).
وقوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 262]، فيه تأويلان (11):
أحدهما: لا خوف عليهم في فوات الأجر (12).
والثاني: لا خوف عليهم في أهوال الآخرة، قاله الطبري (13)، وابن كثير (14)، والقاسمي (15)، والصابوني (16) وآخرون.
قوله تعالى: {{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]، أي: ولا هم يحزنون " على ما خلفوا وراءهم في الدنيا"(17).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 153.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 347.
(4)
فتح القدير: 1/ 284.
(5)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 313.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 313.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 519.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 313.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 357.
(11)
انظر: النكت والعيون: 1/ 337.
(12)
انظر: النكت والعيون: 1/ 337.
(13)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 519.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(15)
أنظر: محاسن التأويل: 2/ 203.
(16)
انظر: صفوة التفاسير: 1/ 153.
(17)
تفسير الطبري: 5/ 519.
قال ابن عثيمين: " أي على ما مضى - لكمال نعيمهم - لأن المنعَّم لو أصابه الحزن، أو الخوف لتنغص نعيمه"(1).
قال القاسمي: " على فائت من زهرة الدنيا، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك"(2).
قال ابن كثير: " {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: [على] ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها، لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك"(3).
قال ابن عطية: ونفى" الحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته"(4).
قال المراغي: " ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم"(5).
قال محمد الحجازي: " ولا هم يحزنون وقت أن يحزن البخيل ويندم على إمساكه رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين"(6).
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]، يحتمل وجهين (7):
أحدهما: لا يحزنون على ما أنفقوه.
والثاني: لا يحزنون على ما خلفوه.
قال الشوكاني: " وقوله {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ظاهرة نفي الخوف عنهم في الدارين لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول وكذلك {ولا هم يحزنون} يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم"(8).
قال الشنقيطي: " يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في وله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] الآية "(9).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {لهم أجرهم عند ربهم} .
2 -
ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى:{في سبيل الله} .
3 -
ومنها: أن من أتبع نفقته منًّا، أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى:{ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم} ؛ فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264].
4 -
ومنها: أن المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.
مسألة (1):
هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى؛ بل هو لمصلحة
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 314.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 203.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 357.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 508.
(6)
التفسير الواضح: 1/ 176.
(7)
انظر: النكت والعيون: 1/ 337.
(8)
فتح القدير: 1/ 284.
(9)
أضواء البيان: 1/ 158.
المعطى؛ أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى؛ ولكن يخشى عليه الإعجاب، أو المراءاة.
مسألة (2):
هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟ الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟ الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.
5 -
ومن فوائد الآية: إثبات العندية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {عند ربهم} ؛ والعندية تفيد القرب؛ فيكون الله عز وجل في مكان، وبعض الأشياء عنده، وبعض الأشياء بعيدة عنه؛ ولكن كلها قد أحاط الله بها؛ كلها بالنسبة إليه - إلى علمه، وقدرته، وسلطانه، وربوبيته - كلها سواء - لكن لا شك أن من كان حول العرش ليس كمن حول الفرش؛ ولكن يجب أن نعلم أن المكان ليس محيطاً به، كما قال تعالى:{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
6 -
ومن فوائد الآية: أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى:{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
القرآن
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]
التفسير:
كلام طيب وعفو عما بدر مِن السائل مِن إلحافٍ في السؤال، خير من صدقة يتبعها من المتصدق أذى وإساءة. والله غني عن صدقات العباد، حليم لا يعاجلهم بالعقوبة.
قال ابن عطية: " هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها"(1).
قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة: 263]، "أي: ردّ جميل من المسؤول" (2).
قال البغوي: " أي: كلام حسن، ورد على السائل جميل"(3).
قال الطبري: " قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم"(4).
قال ابن كثير: " أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم"(5).
قال الآلوسي: " أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا"(6).
قال الصابوني: " أي ردُّ السائل بالتي هي أحسن"(7).
قال القرطبي: " و (القول المعروف) هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله"(8).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 357.
(2)
تفسير البحر المحيط: 2/ 213.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 520.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(6)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 309.
قال السعدي: " أي: تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له"(1).
وقد تعددت عبارات المفسرين في معنى قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة: 263] على وجوه (2):
الأول: أن يدني إن أعطى.
الثاني: يدعو إن منع. قاله الكلبي (3).
الثالث: وقيل عدة حسنة.
الرابع: وقال الضحاك: نزلت في إصلاح ذات البين (4).
الخامس: وقيل: "القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه"(5).
قال أبو حيان: "وهذا كله على أن يكون الخطاب مع المسؤول لأن الخطاب في الآية قبل هذا، وفي الآية بعد هذا، إنما هو مع المتصدّق وقيل: الخطاب للسائل، وهو حث له على إجمال الطلب، أي يقول قولاً حسناً من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى حيث لا ضرورة، ويكسب خير من مثال صدقة يتبعها أذى، واشترك القول المعروف والمغفرة مع الصدقة التي يتبعها أذى في مطلق الخيرية، وهو: النفع، وإن اختلفت جهة النفع، فنفع القول المعروف والمغفرة باقٍ، ونفع تلك الصدقة فانٍ، ويحتمل أن يكون الخيرية هنا من باب قولهم: شيء خير من لا شيء. وقال الشاعر (6):
ومنعك للندى بجميل قول
…
أحب إليّ من بذل ومنَّه
وقال آخر فأجاد (7):
إن لم تكن ورق يوماً أجودبها
…
للمعتفين فإني لينُ العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
…
إما نوالي وإما حسن مردود" (8).
قال القرطبي: ": {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي"(9)، قال ابن عطية:"وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر"(10).
وقال النحاس: "ويجوز أن يكون {قول معروف} خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف"(11)، قال أبو حيان:"وجوز أن يكون: قول معروف، خبر مبتدأ محذوف تقديره: المأمور به قول معروف، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله: يتبعها، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا"(12).
قوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة: 263]، " أي: عفو عن ظلم قولي أو فعلي" (13).
قال الطبري: أي: " وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته"(14).
(1) تفسير السعدي: 1/ 113.
(2)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 326، والنكت والعيون: 1/ 338.
(3)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 326.
(4)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 326.
(5)
البحر المحيط: 2/ 231.
(6)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد المحرر الوجيز: 1/ 357، وتفسير البحر المحيط: 2/ 231.
(7)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد المحرر الوجيز: 1/ 357، وتفسير البحر المحيط: 2/ 231، وبعده:
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
…
إما نوالي وإما حسن مردود
(8)
البحر المحيط: 2/ 231.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 309.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 357.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 309.
(12)
البحر المحيط: 2/ 232.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 693.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 520.
قال ابن حجر: " أي: عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول"(1).
قال القرطبي: " المغفرة هنا: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، والمعنى -والله أعلم-: وفعل يؤدي إلى المغفرة، خير من صدقة يتبعها أذى "(2).
قال أبو حيان: "وعفو من السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول من إلحاح أو سب أو تعريض بسبب، كما يوجد في كثير من المستعطين .. والمغفرة، أي: الستر على نفسه والكف عن إظهار ما ارتكب من المآثم"(3).
قال السعدي: الصفح" لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي"(4).
قال البغوي: " أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره"(5).
قال الصابوني: والصفحُ عن إِلحاحه" (6).
قال الآلوسي: " أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه"(7).
قال ابن عطية: "والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج. ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب"(8).
وفي قوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة: 263]، ذكر أهل العلم وجوها (9):
أحدها: يعني العفو عن أذى السائل، بأن "يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده"(10).
قال النقاش: " يقال معناه: ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم"(11)، "خير من التصدق عليه من المن والأذى"(12).
والثاني: يعني بالمغفرة: السلامة من المعصية (13).
والثالث: أنه ترك الصدقة والمنع منها، قاله ابن بحر (14).
والرابع: هو يستر عليه فقره ولا يفضحه به، أي:"ستر خلة المحتاج، وسوء حاله"(15). قاله الطبري (16).
الخامس: وقال الكلبي والضحاك: بتجاوز عن ظالمه (17).
(1) الفتح: 3/ 327.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 310
(3)
البحر المحيط: 2/ 231.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(7)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 357.
(9)
انظر: البحر المحيط: 2/ 231، والنكت والعيون: 1/ 338.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(11)
المحرر الوجي: 1/ 357.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 310.
(13)
البحر المحيط: 2/ 231.
(14)
انظر: النكت والعيون: 1/ 338.
(15)
البحر المحيط: 2/ 231.
(16)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 520.
(17)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 326.
السادس: وقيل: " ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضل الله عليك، أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها"(1).
السابع: وقيل: نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل (2).
قال الآلوسي: "يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسؤول بسبب تحمله ما يكره من السائل"(3).
الثامن: وقيل: " مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول خَيْرٌ للمسؤول من تلك الصدقة"(4)، أي: معذرة منه للمسؤول؛ لكونه رده رداً جميلاً (5).
قال أبو حيان: "أي عفو من جهة السائل، لأنه إذا رده ردّاً جميلاً عذره"(6).
العاشر: وقيل: "هو الدعاء والتأسي والترجئة بما عند الله"(7).
الحادي عشر: وقيل: "الدعاء لأخيه بظهر الغيب"(8).
الثاني عشر: وقيل: "الأمر بالمعروف خير ثواباً عند الله من صدقة يتبعها أذى"(9).
الثالث عشر: وقيل: "التسبيحات والدعاء والثناء والحمد لله"(10).
الرابع عشر: وقيل: المغفرة أن يسأل الله الغفران لتقصير في عطاء وسدّ خلة" (11).
قال السعدي: " ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذّل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم"(12).
قوله تعالى: {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} [البقرة: 263]، أي:" خيرٌ عند الله وأفضل من إِعطائه ثم إيذائه أو تعييره بذلّ السؤال"(13).
قال الطبري: " يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها"(14).
قال البغوي: أي من " منّ وتعيير للسائل أو قول يؤذيه"(15).
قال أبو حيان: يعني: " أخف على البدن من صدقة يتبعها أذى"(16).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 310.
(2)
البحر المحيط: 2/ 231.
(3)
تفسير الآلوسي: 2/ 34. واختاره ابن حجر، وقال أنه "أظهر": [الفتح: 3/ 327]، أي: عفو الله ومغفرته للمسؤول بسبب رده الجميل للسائل خير من صدقة يتبعها أذى، والرد الجميل فسر به قوله-عز وجل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 520، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 138، فتح القدير للشوكاني: 1/ 424.
(4)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(5)
انظر هذه الأقوال الثلاثة في تفسير المغفرة في: الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 178 أ، البسيط للواحدي: 1/ 158 ب، النكت والعيون للماوردي: 1/ 338، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 307، الكشاف للزمخشري: 1/ 394، فتح القدير للشوكاني: 1/ 119، فتح البيان لصديق خان: 2/ 119، وغيرها.
(6)
البحر المحيط: 2/ 231.
(7)
البحر المحيط: 2/ 231.
(8)
البحر المحيط: 2/ 321.
(9)
البحر المحيط: 2/ 231.
(10)
البحر المحيط: 2/ 231.
(11)
البحر المحيط: 2/ 231.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 113.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 520.
(15)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(16)
البحر المحيط: 2/ 231.
قال الماوردي: "ويحتمل الأذى هنا وجهين: أحدهما: أنه المنّ. والثاني: أنه التعيير بالفقر"(1).
قال الآلوسي: " وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه"(2).
ويحتمل قوله: {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} [البقرة: 263]، وجهين (3):
أحدهما: خير منها على العطاء.
والثاني: خير منها عند الله.
روي عن عمرو بن دينار قال: " بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله:{قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} " (4).
وروي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"(5).
وعن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى"(6).
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان"(7).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]، أي:" أي مستغن عن صدقة العباد، لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة"(8).
قال البراء: " والله غني عن صدقاتكم"(9).
وقيل: الله "غني، لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى"(10).
قال أبو حيان: "أي غني عن الصدقة، حليم بتأخر العقوبة، وقيل: غني لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذي، حليم عن معاجلة العقوبة، وهذا سخط منه ووعيد"(11).
قال ابن عباس: " (الغني)، الذي كمل في غناه، و (الحليم)، الذي قد كمل في حلمه"(12).
وعنه أيضا: " أخبر الله عباده بحلمه وعطفه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته"(13).
قال الصابوني: " أي مستغنٍ عن الخلق حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره"(14).
قال الآلوسي: " والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا"(15).
(1) النكت والعيون: 1/ 338.
(2)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(3)
انظر: النكت والعيون: 1/ 338.
(4)
تفسير ابن ابي حاتم (2743): ص 2/ 516.
(5)
صحيح مسلم (106).
(6)
المستدرك (4/ 146) وسنن النسائي (5/ 80).
(7)
سنن النسائي الكبرى برقم (4921).
(8)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2736): ص 2/ 516.
(10)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(11)
البرح المحيط: 2/ 232.
(12)
أخرجه الطبري (6038): ص 5/ 521.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2737): ص 2/ 517.
(14)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(15)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
و (الحلم) يعني تأخير العقوبة عن مستحقها، كما قال ابن القيم في النونية (1):
وهو الحليم فلا يعاجل عبده
…
بعقوبة ليتوب من عصيان
قال القرطبي: " أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته"(2).
قال ابن عثيمين: " "وجمع الله في هذه الآية بين «الغِنى» و «الحِلم» ؛ لأن الآية في سياق الصدقة، فبين عز وجل أن الصدقات لا تنفع الله؛ وإنما تنفع من يتصدق؛ والآية أيضاً في سياق من أتبع الصدقة أذى ومِنّة؛ وهذا حري بأن يعاجَل بالعقوبة، حيث آذى هذا الرجل الذي أعطاه المال لله؛ ولكن الله حليم يحلم على عبده لعله يتوب من المعصية" (3).
قال السعدي: " ولكن رحمته وإحسانه وحلمه لا يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه"(4).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة
…
}؛ و «القول المعروف» كل ما عرفه الشرع، والعادة؛ مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.
2 -
ومنها: الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40]؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
3 -
ومنها: أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.
4 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغني» و «الحليم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من الصفات.
5 -
ومنها: المناسبة في ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين؛ لأن في الآية إنفاقاً؛ وإذا كان الله عز وجل هو الذي يخلِف هذا الإنفاق فإنه لكمال غناه؛ كذلك المغفرة عمن أساء إليك: فإن المغفرة تتضمن الحلم، وزيادة؛ فختم الله الآية بالحلم؛ وقد يقال: إن فيه مناسبة أخرى؛ وهي أن المن بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ والله سبحانه وتعالى حليم على أهل الكبائر؛ إذ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، والله أعلم.
القرآن
التفسير:
يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تُذْهِبُوا ثواب ما تتصدقون به بالمنِّ والأذى، فهذا شبيه بالذي يخرج ماله ليراه الناس، فيُثنوا عليه، وهو لا يؤمن بالله ولا يوقن باليوم الآخر، فمثل ذلك مثل حجر أملس عليه تراب
(1) نونية ابن قيم: 207.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 310.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 317.
(4)
تفسير السعدي: 1/ 113.
هطل عليه مطر غزير فأزاح عنه التراب، فتركه أملس لا شيء عليه، فكذلك هؤلاء المراؤون تضمحلُّ أعمالهم عند الله، ولا يجدون شيئًا من الثواب على ما أنفقوه. والله لا يوفق الكافرين لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 264]، أي: يا أيها الذين" صدّقوا الله ورسوله"(1).
قال أبو حيان: " لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع مناً ولا أذىً، لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلاً للصدقة، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان"(2).
قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَن وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، إي لا تحبطوا" أجور صدقاتكم"(3)، بالمن والأذى.
قال ابن عثيمين: " و «المن» إظهار أنك مانّ عليه، وأنك فوقه بإعطائك إياه؛ و «الأذى» أن تذكر ما تصدقت به عند الناس فيتأذى به"(4).
قال القاسمي: " أي لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما. فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة"(5).
قال ابن كثير: " فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى"(6).
قال ابن حجر: " وأما قوله: {بِالمَنِّ وَالأَذَى}، فهو الذي يذكر عطاءه ليمتدح به"(7).
وقوله تعالى {بِالْمَن} ، فيه وجهان (8):
الأول: بالمن على السائل.
قال مقاتل: " هو الرجل يمن صدقته"(9).
الثاني: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالمن على الله تعالى بسبب صدقته.
قال أبو حيان: " والظاهر أن قوله: بالمن، معناه على الفقير، وهو قول الجمهور"(10).
قا أبو حيان: "والأذى للسائل"(11).
قال ابن حجر: " فإن الظاهر أن المراد بـ (الأذى) في الآية إنما هو ما يكون من جهة المسؤول للسائل، فإنه عطف على المنّ وجمع معه بـ (الواو) "(12).
وقد أخرج ابن ابي حاتم بسنده " عن مقاتل بن حيان في قول الله: {بالمن والأذى}، قال: يؤذي الذي يتصدق عليه"(13).
(1) تفسير الطبري: 5/ 521.
(2)
تفسير البحر المحيط: 2/ 232.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 326.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 320.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 204.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 694.
(7)
الهدي: 200، وانظر: معاني القرآن للنحاس: 1/ 289، تفسير ابن كثير: 1/ 393.
(8)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 326، وتفسير البحر المحيط: 2/ 232.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2741): ص 2/ 517.
(10)
تفسير البحر المحيط: 2/ 232.
(11)
تفسير البحر المحيط: 2/ 232.
(12)
الفتح: 3/ 327. وانظر: جامع البيان للطبري: 5/ 517، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 177 ب، البسيط للواحدي: 1/ 158 ب، الكشاف للزمخشري: 1/ 394، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 49، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 317، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 308، فتح البيان لصديق خان: 2/ 117.
(13)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2742): ص 2/ 517.
قال الشوكاني: " الإبطال للصدقات إذهاب أثرها وإفساد منفعتها أي لا تبطلوها بالمن والأذى أو بأحدهما"(1).
قال أبو حيان: "ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند الله. والسدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء: الصدقة التي يعلم الله من صاحبها انه يمن ويؤذى لا تتقبل، وقيل: جعل الله للملك عليها إمارة، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه الله"(2).
قال القرطبي: " وهذا حسن"(3).
وللعلماء في تفسير قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم} [البقرة: 264]، قولان (4).
الأول: أي: لا تأتوا بهذا العمل باطلاً، لأنه إذا اقصد به غير وجه الله فقد أتى به على جهة البطلان.
والثاني: وقال القاضي عبد الجبار: "معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدّمت، فلا يصح أن تبطل. فالمراد إذن إبطال أجرها، لأن الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى"(5).
قال أبو حيان: "والمعنيان تحملهما الآية"(6).
وقد ذكر أهل العلم في هذا (المنفق) قولين (7):
أحدهما: أنه المنافق، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم، هذه نيته، لا ينفق لرضا الله. وطلب ثواب الآخرة، لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
والثاني: وقيل: المراد به الكافر المجاهر، وذلك بإنفاقه لقول الناس: ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلاّ الثناء عليه.
وقد رجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره (8).
قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]، " أي كالمرائي الذي يبطل إِنفاقه بالرياء"(9).
قال الآلوسي: " أي لا تبطلوها مشابهين الذي يبطل إنفاقه بالرياء"(10).
قال ابن كثير: "أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه"(11).
وقرأ طلحة بي مصرف: {رياءً} بابدال الهمزة الأولى (ياءً) لكسر ما قبلها، وهي مروية عن عاصم (12).
قوله تعالى: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} [البقرة: 264]، أي:" ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته"(13).
(1) فتح القدير: 1/ 285.
(2)
البحر المحيط: 2/ 232.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 311.
(4)
انظر: البحر المحيط: 2/ 232.
(5)
نقله أبو حيان في تفسيره: 2/ 232.
(6)
البحر المحيط: 2/ 232.
(7)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 232.
(8)
انظر: تفسيرالبحر المحيط: 2/ 232.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(10)
تفسير الآلوسي: 2/ 34.
(11)
تفسير ابن كثير: 1/ 694.
(12)
انظر: تفسيرالبحر المحيط: 2/ 232.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 522.
روي "عن مقاتل بن حيان، في قول الله: {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر}، يعني: المنافق"(1).
وقال سعيد بن جبير: "لا يصدقون بتوحيد الله"(2).
قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264]، " أي: مثل ذلك المرائي بإِنفاقه كمثل الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب يظنه الظانُّ أرضاً طيبةً منبتة" (3).
قال قتادة: " هذا مثل ضربه الله تعالى، لأعمال الكفار، يوم القيامة"(4).
قال ابن عثيمين: " أي كشِبْه صفوان، وهو الحجر الأملس"(5).
وقد اختلف في الضمير في قوله: {فَمَثَلُهُ} [البقرة: 264]، على قولين (6):
الأول: فالظاهر أنه عائد على {يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ} لقربه منه، ولإفراده ضرب الله لهذا المنافق المرائي، أو الكافر المباهي، المثل بصفوان عليه تراب، يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب، فيبقى صلداً منكشفاً، وأخلف ما ظنه الظان، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالاً كما يُرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب.
وهذا اختيار الطبري (7).
والثاني: وقيل: الضمير في {فَمَثَلُهُ} عائد على المانِّ المؤذي، وأنه شبه بشيئين أحدهما: بالذي ينفق ماله رئاء الناس، والثاني: بصفوان عليه تراب، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى افراد.
وقوله تعالى: {صَفْوَانٍ} [البقرة: 264]، فيه وجهان (8):
أحدهما: أنه الحجر الأملس سُمِّيَ بذلك لصفائه (9).
قال الطبري: " الصفوان " واحدٌ وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة " صفوانة "، بمنزلة: تمرة وتمر ونخلة ونخل، ومن جعله واحدًا، جمعه " صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ، كما قال الشاعر (10):
مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
و(الصفوان) هو (الصفا)، وهي الحجارة الملس" (11)، قاله ابن عباس (12)، والضحاك (13)، والربيع (14)، والسدي (15)، وقتادة (16)، وعكرمة (17)، والحسن (18)، ومقاتل بن حيان (19).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2744): ص 2/ 518.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2745): ص 2/ 518.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(4)
أخرجه ابن ابي حاتم (2746): ص 2/ 518.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 4/ 320.
(6)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 232.
(7)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 523.
(8)
انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 694، والنكت والعيون: 1/ 339.
(9)
انظر: تفسير الثعلبي: 2/ 1575، وتفسير البسيط: 4/ 413.
(10)
البيت للأخليل الطائي، انظر: الجمهرة 3: 135، والمخصص 10: 90، ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2: 339، والقالي 2: 8، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه " متنيه " إلا ابن دريد فإنه أنشده:
كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ
…
مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ
والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى " متني " فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى " متنيه "، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري:" هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا ". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه " من طول إشراف " بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و " الطوي " البئر المطوية بالحجارة.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 523 - 524.
(12)
انظر: تفسير الطبري (6047): ص 5/ 528، و (6052): ص 5/ 529.
(13)
انظر: تفسير الطبري (6048): ص 5/ 528.
(14)
انظر: تفسير الطبري (6049): ص 5/ 528، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
(15)
انظر: تفسير الطبري (6050): ص 5/ 529، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
(16)
انظر: تفسير الطبري (6051): ص 5/ 529، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
(17)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
(18)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
(19)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2747): ص 2/ 518.
والثاني: أنه أَلْيَنُ مِنَ الحجارة، حكاه أبان بن تغلب.
قال الأصمعي: "الصَّفْواء أو الصَّفْوان والصَّفَا مقصور كلُّه واحدٌ"(1).
وقرأ ابن المسيب، والزهري:(صفوان) بفتح الفاء، قيل: وهو شاذ في الأسماع. إنما بابه المصادر: كلغليان والتروان، وفي الصفات نحو: رجل صيحان، وتيس عدوان (2).
قال ابن حجر: {صَفْوَان} ، " أي: صخرة ملساء بإسكان الفاء (3) ووهم من فتحها" (4).
قوله تعالى: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة: 264]، أي:"فإِذا أصابه مطر شديد أذهب عنه التراب فيبقى صلداً أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلاً"(5).
أخرج الطبري " عن ابن عباس: {فتركه صلدًا} قال: تركها نقية ليس عليها شيء"(6).
وروي نحوه عن السدي (7)، والضحاك (8)، وقتادة (9).
قال ابن كثير: " أي: فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا، أي: أملس يابسًا، أي: لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب "(10).
قال الصابوني: " كذلك هذا المنافق، يظن أن له أعمالاً صالحة فإِذا كان يوم القيامة اضمحلت وذهبت"(11).
(1)"تهذيب اللغة" 2/ 2022 (مادة: صفا)، وينظر في المادة نفسها:"المفردات" 286 - 287، "اللسان" 4/ 2468 - 2469.
(2)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 232.
(3)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 12/ 249، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 292، الصحاح للجوهري: 6/ 2401، تاج العروس للزبيدي: 19/ 602، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 82، معاني القرآن للزجاج: 1/ 347، جامع البيان للطبري: 5/ 523 - 524، البسيط للواحدي: 1/ 159 أ، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 179 أ، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 314. وقد اختلف في كون صفوان مفرد أو جمع، فقيل: مفرد، وهو ظاهر قول الحافظ هنا، وقال به الكسائي، ورده المبرد، وقيل: جمع، وهو قول الأكثر وقال به الطبري، وقيل: اسم جنس وهو اختيار أبي البقاء العكبري إذ قال: (والجيد أن يقال: هو جنس لا جمع، ولذلك عاد الضمير إليه بلفظ الإفراد في قوله: (عَلَيه تُرَابٌ). انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 82، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 112، جامع البيان للطبري: 5/ 523، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 314، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 302، الدر المصون للسمين: 1/ 637، وغيرها.
(4)
الهدي: 153، ذكَر الفتح لغة جمع من أهل العلم، وهي قراءة سعيد بن المسيب والزهري، انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 315، المحتسب لابن جني: 1/ 137 - 138، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 302، الدر المصون للسمين: 1/ 637، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 112، وقد نقل الزبيدي في تاج العروس: 19/ 602 قول الحافظ هنا.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(6)
انظر: تفسير الطبري (6058): ص 5/ 529 - 530، وقوله (6059): ص 5/ 530، وقوله (6062): ص 5/ 530.
(7)
انظر: تفسير الطبري (6057): ص 5/ 529، وابن ابي حاتم (2743): ص 2/ 517، والمعجم الكبير للطبراني (1116).
(8)
انظر: تفسير الطبري (6060): ص 5/ 530، ولفظه (فتركه جلدا)، وفي تفسير ابن أبي حاتم (2749): ص 2/ 518، لفظه (فتركه يابسا خاسئا لا ينبت شيئا).
(9)
انظر: تفسير الطبري (6061): ص 5/ 530.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 694.
(11)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
أخرج الطبري بسنده " عن قتادة قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} فقرأ حتى بلغ: {على شيء مما كسبوا}، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس عليه شيء، أنقى ما كان عليه"(1).
وروي نحوه عن الربيع (2)، والسدي (3)، والضحاك (4)، وابن عباس (5)، وابن جريج (6)، وابن يد (7).
قال الشوكاني: " مثل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضا منبتة طيبة فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا أي أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه فكذلك هذا المرائي فإن نفقته لا تنفعه كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب"(8).
و(الوابل): المطر الشديد (9) العظيم (10)(11)، يقال: وَبَلَتِ السماءُ تَبِلُ وَبْلًا، وأرض مَوْبُولَةٌ: أصابها وابل (12)، كما قال أمرؤ القيس (13):
سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ
…
سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ
قال الأخفش: " وقوله {أخذا وبيلا} [المزمل: 16]، من ذا، يعني: شديدا"(14).
قال القرطبي: " وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد"(15).
و(الصَّلْد): الأملسُ اليابس (16)، يقال: حَجَرٌ صلْدُ، وجبين صلْدٌ: إذا كان براقًا أملس، وأرض صلد: لا تنبت شيئًا كالحجر الصلد، ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي:" قِدْرٌ صَلود "، " وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول تأبط شرًّا (17):
(1) انظر: تفسير الطبري (6040): ص 5/ 526 - 527.
(2)
انظر: تفسير الطبري (6041): ص 5/ 527.
(3)
انظر: تفسير الطبري (6042): ص 5/ 527.
(4)
انظر: تفسير الطبري (6043): ص 5/ 527.
(5)
انظر: تفسير الطبري (6044): ص 5/ 527.
(6)
انظر: تفسير الطبري (6045): ص 5/ 527.
(7)
انظر: تفسير الطبري (6046): ص 5/ 528.
(8)
فتح القدير: 1/ 285.
(9)
انظر: تفسير القرطبي: 3/ 311.
(10)
انظر: تفسير الطبري: 5/ 524. قال: " وهو المطر الشديد العظيم".
(11)
أخرج ابن أبي حاتم (2748) ص 2/ 518: " عن عكرمة، في قوله: فأصابه وابل والوابل: المطر فذهب بما عليه، وروي عن وهب بن منبه والسدى وعطاء الخرساني والحسن والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة نحو ذلك، غير أن الربيع بن أنس وقتادة قالا: المطر الشديد".
(12)
ينظر في وبل: "تهذيب اللغة" 4/ 3829، "المفردات" 526، "اللسان" 8/ 4755 (مادة: وبل).
(13)
ديوانه: 90، وطبقات فحول الشعراء: 79، وغيرهما كثير. وهو من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها: دِيَمةٌ هَطْلاءُ فِيهَا وَطَفٌ
…
طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ
ثم قال بعد قليل: " ساعة " أي فعلت ذلك ساعة، " ثم انتحاها " أي قصدها، والضمير فيه إلى " الشجراء " في بيت سباق. و " ساقط الأكناف "، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء. " منهمر ": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات.
(14)
معاني القرآن: 1/ 200.
(15)
تفسير القرطبي: 3/ 313.
(16)
قال النقاش: "الأصلد: الأجرد بلغة هذيل". [تفسير القرطبي: 3/ 313].
(17)
ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي أبو زهير، من شعراء الصعاليك، وأحد لصوص العرب المغيرين، اشتهر بسرعة العدو حتى إن الخيل لا تلحقه، وسمي تأبط شرًّا؛ لأنه تأبط سيفا وخرج، فقيل لأمه: أين هو؟ فقالت: تأبط شرا وخرج، وقيل غير ذلك. ينظر "الشعر والشعراء" 1/ 93، "وسمط اللالي" 1/ 158.
والبيت في اللسان (جلب)(عزل)، وغيرهما، الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام): هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها): البرد الشديد، يقول: لست امرءًا خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله:" أعزل " من " عزل الشيء يعزله " إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل " أعزل "، فهو من صميم مادة اللغة، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما قوله في الرواية الأخرى " معزل " فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما قالوا:" رجل عدل "، وكما قالوا " فلان شاهد مقنع " أي رضا يقنع به، مصدر ميمي من " قنع "، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه. [انظر: حاشية الطبري: 5/ 525].
(6)
البيت في "ديوانه" 174، وفي "تفسير الطبري" 3/ 66، "تفسير الثعلبي" 2/ 1577، "لسان العرب" 5/ 2930 (عزل) والجلب: هو السحاب المعترض، تراه كأنه جبل، والمعنى: لست برجل لا نفع فيه، ومع ذلك فيه أذى كالسحاب الذي فيه ريح وقِرٌّ، ولا مطر فيه. ينظر "لسان العرب" 2/ 649 (جلب).
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ
…
وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ
و(الصلد) من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره (1)، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس، كما قال رؤبة (2):
لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ
…
بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ
وقال بعض بني أسد في الأرض الصلدة (3):
وإنِّي لأرجو الوَصْلَ منكِ كَما رَجَا
…
صَدَى الجَوْفِ مُرْتَادًا كداه صُلود
فقوله (صلود): جمعُ صَلْد، وأصله من قولهم: صَلَدَ الزَّنْدُ وأصلد: إذا لم يوْرِ نارًا (4).
قال الواحدي: "وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق وعمل المنّان الموذي، يعنى: أن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالًا كما يُرى التُرابُ على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل؛ لأنه لم يكن لله، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، فلا يقدر أحد (من الخلق) على ذلك التراب الذي أزاله المطر عن الصفا، كذلك هؤلاء في العمل الذي حبط، إذا قدموا على ربهم لم يجدوا شيئًا"(5).
وقال القاضي عبد الجبار: "ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ والأذى. ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار. ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلاً، قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان، فكذا المنّ والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريح القول في الإحاطة والتكفير"(6).
وفي عود الضمير في قوله تعالى: {فَأَصَابَهُ} [البقرة: 264]، وجهان (7):
(1) انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 82، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 97، معاني القرآن للنحاس: 1/ 290، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 179 أ، البسيط للواحدي: 1/ 159، البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 302، الدر المصون للسمين: 1/ 638، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 315، وغيرها.
(2)
ديوانه: 165، وذكره في "تهذيب اللغة" 12/ 142، "اللسان" 4/ 2481 مادة: صلد، والضمير في " رأتني " إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و " خلق ": بال. و " المموه " يقال: : وجه مموه " أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله " خلق المموه "، بحذف " الوجه " الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. " أصلاد الجبين "، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها. و " الأجله ". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ
فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! .
(3)
لم أتعرف على قائله، والبيت غير منسوب في "ديوان الحماسة" 2/ 165، وهو من شواهد الواحدي في تفسيره: 4/ 414.
(4)
ينظر في صلد: "تهذيب اللغة" 2/ 2042، "المفردات" 289، "اللسان" 4/ 2481، وانظر: تفسير البسيط: 4/ 413 - 414.
(5)
تفسير البسيط: 4/ 413 - 414.
(6)
نقله عنه أبو حيان في تفسيره: 2/ 232.
(7)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 232.
الأول: عائد على الصفوان.
والثاني: وقيل: يحتمل أن يعود على التراب.
وأما الضمير في قوله تعالى: {فَتَرَكَهُ} [البقرة: 264]، فعائد على الصفوان، "وهذه الجملة جعل فيها العمل الظاهر: كالتراب، والمانّ المؤذي، أو المنافق كالصفوان، ويوم القيامة كالوابل، وعلى قول المعتزلة: المنّ والأذى كالوابل، وقال القفال: وفيه احتمال آخر، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض طيبة، فهو يتضاعف له وينمو، ألا ترى أنه ضرب المثل في ذلك بجنة فوق ربوة؟ فهو يجده وقت الحاجة إليه. وأما المان والمؤذي والمنافق، فكمن بذر في الصفوان لا يقبل بذراً ولا ينمو فيه شيء، عليه غبار قليل أصابه جود فبقي مستودع بذر خالياً، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً" (1).
قوله تعالى: {لَاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264]، " أي لا ينتفعون بما فعلوه رياء ولا يجدون له ثوابا"(2).
قال الواحدي: " أي: على ثواب شيء"(3).
قال القرطبي: " يعني المرائي والكافر والمان، على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم .. فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب"(4).
قال الصابوني: أي: "لا يجدون له ثواباً في الآخرة فلا ينتفع بشيءٍ منها أصلاً"(5).
وروي "مقاتل بن حيان في قول الله: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا}، يعني به: نفقاتهم"(6).
قال ابن ابي حاتم: " أنهم لا يؤجرون عليها، ولا تنفعهم يوم القيامة
، وكان مقاتل، ما فسر فسره عن رجال من التابعين، منهم الضحاك بن مزاحم، وجابر بن زيد" (7).
وأخرج ابن ابي حاتم " عن الربيع، في قوله: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا}، يومئذ، كما ترك المطر الصفا نقيا، ليس عليه شيء"(8).
ثم قال: "وروي عن قتادة، نحو قول الربيع"(9).
وقد اختلف أهل اللعلم في الضمير في قوله {يَقْدِرُونَ} [البقرة: 364]، على وجهين (10):
الأول: قيل: هو عائد على المخاطبين في قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم} ويكون من باب الالتفات، إذ هو رجوع من خطاب إلى غيبة، والمعنى: أنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على الانتفاع بشيء مما كسبتم، وهذا فيه بعد. وقيل: هو عائد على {كَالَّذِى يُنفِقُ} لأن: كالذي جنس، فلك أن تراعي لفظه كما في قوله:{يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ} فأفرد الضمير، ولك أن تراعي المعنى، لأن معناه جمع، وصار هذا {كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ} ثم قال:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} .
(1) البحر المحيط: 2/ 233.
(2)
فتح القدير: 1/ 285.
(3)
التفسير البسيط: 4/ 415.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 313.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2750): ص 2/ 519.
(7)
انظر: تفسيره: 2/ 519.
(8)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2751): ص 2/ 519.
(9)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 519.
(10)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 233 - 234.
قال ابن عطية: "وقد انحمل الكلام قبل على لفظ: الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب، ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ"(1).
والثاني: قيل: هو عائد على معلوم غير مذكور المعنى لا يقدر أحد من الخلق على الانتفاع بذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي على الصفوان، لأنه زال ذلك التراب وزال ما كان فيه، فكذلك المان والمؤذي والمنافق، لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة. وقيل: هو عائد على المرائي الكافر أو المنافق، أو على المان، أي: لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم، وهو كسبهم، عند حاجتهم إليه، وعبروا عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب، وهذا كقوله تعالى:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية.
قوله تعالى: {والله لا يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264]، أي "لا يهديهم إِلى طريق الخير والرشاد"(2).
قال ابن عثيمين: " أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق؛ و {الكافرين} أي الذين حقت عليهم كلمة الله، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] "(3).
وقوله تعالى: {والله لا يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264]، فيه وجهان (4):
الأول: قال أبو إسحاق: أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين.
قال أبو حيان: " يعني الموافقين على الكفر، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض"(5).
وقال الطبري: " لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون"(6).
والثاني: وقيل: "لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم"(7).
قال أبو حيان: " وفي هذا ترجح لمن قال: إن ضرب المثل عائد على الكافر"(8).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: تحريم المن، والأذى في الصدقة؛ لقوله تعالى:{لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} .
2 -
ومنها: بلاغة القرآن، حيث جاء النهي عن المنّ، والأذى بالصدقة بهذه الصيغة التي توجب النفور؛ وهي:{لا تبطلوا صدقاتكم} ؛ فإنها أشد وقعاً من «لا تَمُنّوا، ولا تؤذوا بالصدقة» .
3 -
ومنها: أن المن والأذى بالصدقة يبطل ثوابها؛ لقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} .
4 -
ومنها: أن المن والأذى بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ وجه ذلك: ترتيب العقوبة على الذنب يجعله من كبائر الذنوب؛ وقد قال شيخ الإسلام في حد الكبيرة: «كل ذنب رُتب عليه عقوبة خاصة، كالبراءة منه، ونفي الإيمان، واللعنة، والغضب، والحد، وما أشبه ذلك» ؛ وهذا فيه عقوبة خاصة؛ وهي إبطال العمل؛ ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا
(1) المحرر الوجيز: 1/ 458.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 321.
(4)
انظر: التفسير البسيط: 4/ 415. ومعاني القرآن" 1/ 347.
(5)
البحر المحيط: 2/ 234.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 526.
(7)
معاني القرآن" 1/ 347.
(8)
البحر المحيط: 2/ 234.
يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (1).
5 -
ومنها: أن المنّ والأذى بالصدقة مناف لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} ؛ كأنه يقول: «إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتموه صار منافياً لهذا الوصف، ومنافياً لكماله» .
6 -
ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس ليقربه إلى الذهن؛ لقوله تعالى: {فمثله كمثل صفوان
…
} إلخ.
7 -
ومنها: تحريم مراءاة الناس بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} ؛ والتسميع كالمراءاة؛ والفرق بينهما أن المراءاة فيما يُرى - كالأفعال - والتسميع بما يقال.
8 -
ومنها: أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله، وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى:{ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر} ؛ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس؛ يقول الشاعر:
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عاري أنت لا تظن أنك إذا راءيت الناس أنك ستبقى مخادعاً لهم؛ بل إن الله سبحانه وتعالى سيظهر ذلك؛ ما أسر إنسان سريرة إلا أظهرها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
9 -
ومن فوائد الآية: إثبات اليوم الآخر؛ وهو يوم القيامة.
10 -
ومنها: بلاغة القرآن في التشبيه؛ لأنك إذا طابقت بين المشبه، والمشبه به، وجدت بينهما مطابقة تامة.
11 -
ومنها: إثبات كون القياس دليلاً صحيحاً؛ وجه ذلك: التمثيل، والتشبيه؛ فكل تمثيل في القرآن فإنه دليل على القياس؛ لأن المقصود به نقل حكم هذا المشبه به إلى المشبه.
12 -
ومنها: أن الرياء مبطل للعمل؛ وهو نوع من الشرك؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (2)؛ فإن قصد بعمله إذا رآه الناس أن يتأسى الناس به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، وقال:«إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي» (3)؛ وفي الحج كان (ص) يقول: «لتأخذوا مناسككم» (4)؛ وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (5).
13 -
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى تحسر هؤلاء عند احتياجهم إلى العمل، وعجزهم عنه؛ لقوله تعالى:{لا يقدرون على شيء مما كسبوا} ؛ وعجز الإنسان عن الشيء بعد محاولة القدرة عليه أشد حسرة من عدمه بالكلية؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً} [البقرة: 63 - 65]؛ وكونه حطاماً ينظرون إليه أشد حسرة من كونه لم ينبت أصلاً؛ وقوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً} [الواقعة: 68 - 70]؛ وكونه بين أيديهم أجاجاً لا يستسيغون شربه أشد مما لو لم يوجد أصلاً؛ والإنسان العاقل يجعل
(1) أخرجه مسلم ص 696، كتاب الإيمان، باب 46: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية
…
، حديث رقم 293 [171]106.
(2)
أخرجه مسلم ص 1195، كتاب الزهد، باب 4: تحريم الرياء، حديث رقم 7475 [46]2985.
(3)
أخرجه البخاري ص 72، كتاب الجمعة، باب 26: الخطبة على المنبر، حديث رقم 917؛ وأخرجه مسلم ص 762، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 10: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة
…
، حديث رقم 1216 [44]544.
(4)
أخرجه مسلمص 893، كتاب الحج، باب 51: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً حديث رقم 3137 [310]1297.
(5)
أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 20: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة
…
، حديث رقم 2351 [69]1017.
العمل لله: لله؛ والعمل للناس: للناس؛ أنا قد أحب أن أخرج للناس في ثوب جميل: لا بأس أن أتجمل ليراني الناس على هذه الحال؛ لكن أصلي ليراني الناس أصلي: لا يصح؛ لأن العمل لله يجب أن يكون لله لا يشاركه فيه أحد.
14 -
ومن فوائد الآية: أن من قضى الله عليه بالكفر لا تمكن هدايته؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} ؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين الواقع من أن الله سبحانه وتعالى هدى قوماً كافرين كثيرين؟ فالجواب أن من هدى الله لم تكن حقت عليهم كلمة الله؛ فأما من حقت عليه كلمة الله فلن يُهْدى، كما قال تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97].
15 -
ومنها: أن المنافق كافر؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} بعد أن ذكر ما يتعلق بصفة المنافق؛ وهو الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله، واليوم الآخر؛ وهذا ينطبق تماماً على المنافقين؛ ولا ريب أن المنافقين كفار - وإن تظاهروا بالإسلام - ولكن هل نعاملهم معاملة الكفار؟ الجواب: لا نعاملهم معاملة الكفار؛ لأن أحكام الدنيا تجري على الظاهر؛ وأحكام الآخرة تجري على الباطن والسرائر، كما قال تعالى:{أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصِّل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10]، وقال تعالى:{يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9]؛ ولأنه لو عومل الناس في الدنيا على السرائر لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق من وجه؛ وكان في ذلك الفوضى التي لا نهاية لها من وجه آخر؛ أما تكليف ما لا يطاق فلأننا لا نعلم ما في صدور الناس؛ فلا يمكن أن نحكم عليه؛ وأما الفوضى فلأنه يستطيع كل ظالم له ولاية أن يعاقب هذا الرجل، أو يعدم هذا الرجل بحجة أنه مبطن للكفر؛ ولما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال:«لا أقتلهم؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (1).
القرآن
التفسير:
ومثل الذين ينفقون أموالهم طلبًا لرضا الله واعتقادًا راسخًا بصدق وعده، كمثل بستان عظيم بأرض عالية طيبة هطلت عليه أمطار غزيرة، فتضاعفت ثمراته، وإن لم تسقط عليه الأمطار الغزيرة فيكفيه رذاذ المطر ليعطي الثمرة المضاعفة، وكذلك نفقات المخلصين تُقبل عند الله وتُضاعف، قلَّت أم كثُرت، فالله المُطَّلِع على السرائر، البصير بالظواهر والبواطن، يثيب كلا بحسب إخلاصه.
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 265]،
قال السعدي: " أي: قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه"(2).
قال الصابوني: " أي: ينفقونها طلباً لمرضاته وتصديقاً بلقائه تحقيقاً للثواب عليه"(3).
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} ، يحتمل وجهين (4):
أحدهما: في نُصرة أهل دينه من المجاهدين.
والثاني: في معونة أهل طاعته من المسلمين.
قوله تعالى: : {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [البقرة: 265]،
(1) أخرجه البخاري ص 420، كتاب التفسير، باب 5: قوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم) الآية، حديث رقم 4905، وأخرجه مسلم ص 1130، كتاب البر والصلة، باب 16: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، حديث رقم 6583 [63]2584.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 114.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(4)
أنظر: النكت العيون: 1/ 339.
قال الطبري: " وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل: " ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر " - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه - " أثبته تثبيتًا "، كما قال ابن رواحة (1):
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ
…
مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
قال السعدي: " أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم"(2).
وقد ذكر أهل العلم في قوله تعالى: {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [البقرة: 265]، أربعة تأويلات (3):
أحدها: تثبيتاً من أنفسهم بقوة اليقين، والنصرة في الدين، وهو معنى قول الشعبي (4)، وقتادة (5)، وأبو صالح (6)، وابن زيد (7)، والسدي (8).
والثاني: يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد (9)، والحسن (10).
قال الطبري: " تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: {وتثبيتًا من أنفسهم}، بمعنى: " وتثبُّتًا "، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان: " وتثبتًا من أنفسهم " ; لأن المصدر من الكلام إن كان على " تفعَّلت " " التفعُّل "، فيقال: " تكرمت تكرمًا "، و " تكلمت تكلمًا "، وكما قال جل ثناؤه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، من قول القائل: " تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا ". فكذلك قوله: {وتثبيتًا من أنفسهم}، لو كان من " تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها "، لكان الكلام: " وتثبُّتًا من أنفسهم "، لا " وتثبيتًا ". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره"(11).
والثالث: يعني احتساباً لأنفسهم عند الله، قاله ابن عباس، وقتادة (12).
قال الطبري: " وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى " التثبيت "، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى " الاحتساب "، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به"(13).
والرابع: توطيناً لأنفسهم على الثبوت على طاعة الله، قاله بعض المتكلمين.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} ، "أي: كمثل بستان كثير الشجر بمكانٍ مرتفع من الأرض" (14).
(1) سيرة ابن هشام 4: 16، وابن سعد 3/ 2 /81، والمختلف والمؤتلف للآمدي: 126 والاستيعاب 1: 305، وطبقات فحول الشعراء: 188، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني " في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا ". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال:" وإياك فثبت الله ".
(2)
تفسير السعدي: 1/ 114.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 339 - 340، وتفسير الطبري: 5/ 531 وما بعدها.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6063): ص 5/ 531، و (6064): ص 5/ 532.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6065): ص 5/ 532.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6066): ص 5/ 532.
(7)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 339.
(8)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 339.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6067) و (6068) و (6069): ص 5/ 532.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6070): ص 5/ 533، و (6071): ص 5/ 533.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 533.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6073): ص 5/ 534.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 534.
(14)
محاسن التأويل: 1/ 153.
قال الآلوسي: " أي: بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده"(1).
قال السعدي: " أي: كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة بمحل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس"(2).
قال القرطبي: " الجنة: البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم"(3).
وقال المبرد والفراء: "إذا كان في البستان نخل، فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس"(4).
و(الربوة): "المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر"(5).
قال الطبري: "وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة (6):
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ
…
خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
فوصفها بأنها من رياض الحزن (7)، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها" (8).
وقال السدي: " {بربوة}: أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض"(9). قال ابن عطية: "وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد"(10).
(1) تفسير الآلوسي: 2/ 36.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 114.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 315.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 328.
(5)
تفسير القرطبي: 3/ 315.
(6)
ديوانه: 43، البيت من قصيدته المشهورة، يصف شذا صاحبته حين تقوم:
إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً
…
وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ
مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ
…
خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ
…
مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ
…
وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ
ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من " فاعل " إلى " فعل ". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه. مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف. واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف
…
بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم.
والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق. [انظر: حاشية تفسير الطبري: 5/ 535].
(7)
اعترض عليه ابن عطية قائلا: " ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، وقل ما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية:
زوجي كليل تهامة". [المحرر الوجيز: 1/ 359].
(8)
تفسير الطبري: 5/ 535 - 536.
(9)
نقلا عن: المحرر الوجيز: 1/ 359، ولفظه في رواية الطبري (6078): ص 5/ 537: " برابية من الأرض".
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 359.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]، في معنى (الربوة) ثلاثة أقاويل (1):
أحدهما: هي الموضع المرتفع من الأرض. قاله مجاهد (2)، وقتادة (3)، والضحاك (4)، والربيع (5)، وابن عباس (6)، وسعيد بن جبير (7)، وروي عن وعطاء ومقاتل نحو ذلك (8).
والثاني: وقيل هي المُسْتَوِية. قاله الحسن (9).
والثالث: كل ما ارتفع عن مسيل الماء، قاله اليزيدي (10).
وقوله تعالى: {بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]، فيه ثلاثة قراءات (11):
الأولى: قرأ عاصم وابن عامر: {بِرَبْوَةٍ} بفتح (الراء)، وفي سورة المؤمنين (12) مثله، " وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم"(13).
الثانية: وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {بِرُبْوَةٍ} بضم الراء وفي سورة المؤمنين مثله، " وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق"(14).
قال أبو عليّ: قال أبو عبيدة: "الرّبوة: الارتفاع عن المسيل، وقال أبو الحسن: ربوة. وقال بعضهم: بربوة، وربوة، ورباوة، ورباوة، كلّ من لغات العرب، وهو كلّه في الرابية، وفعله: ربا يربو"(15).
قال أبو الحسن: "والذي نختار: {رُبوة}، بضم الراء وحذف الألف"(16).
قال أبو عليّ: يقوّي هذا الاختيار أنّ جمعه ربى، ولا يكاد يسمع غيره، وإذا كان فعله: ربا يربو إذا ارتفع؛ فالرابية؛ والرّبوة، إنّما هو لارتفاع أجزائها عن صفحةالمكان التي هي بها، ومنه الرّبا " (17).
الثالثة: وقرأ فيما ذكر ابن عباس (رِبوه)، بكسر الراء (18).
وقال الطبري: " وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح (الراء)، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة"(19).
قوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265]، " أي أصابها مطر غزير"(20).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 339.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6074): ص 5/ 536، و (6075): ص 5/ 537.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6076): ص 5/ 537.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6077): ص 5/ 537.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6078): ص 5/ 537.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6080): ص 5/ 537.
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2760): ص 2/ 520.
(8)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 520.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6081): ص 5/ 537.
(10)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 340.
(11)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 385 - 386. والسبعة: 190.
(12)
وهو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].
(13)
تفسير الطبري: 5/ 536.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 536.
(15)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 385.
(16)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 385.
(17)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 385 - 386.
(18)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 536، قال السيوطي:" أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه كان يقرؤها {بربوة} بكسر الراء". [الدر المنثور: 2/ 46].
(19)
تفسير الطبري: 5/ 536.
(20)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
قال مقاتل: " أصاب الجنة المطر"(1).
وفي معنى (الوابل) وجوه:
إحداها: المطر الشديد (2).
والثاني: المطر الغزير، قال عطاء: الوابل: "الجود من المطر"(3)(4).
ومنه قول عدي بن زيد (5):
قليل لها مني وإن سخطت بأن
…
أقول سقيت سقيت الوابل الغدقا
قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265]، أي:"فأخرجت ثمارها جنيَّة مضاعفة، ضعفي ثمر غيرها من الأرض"(6).
قال الزمخشري: " مثْلَي ما كانت تثمر بسبب الوابل"(7).
قال الطبري: " فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر"(8).
قال السعدي: " أي: تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها"(9).
قال البغوي: "أي أضعفت في الحمل"(10).
قال عطاء: "حملت في السنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين"(11).
وقال عكرمة: "حملت في السنة مرتين"(12). كما قيل في قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: 25](13).
و(الأُكُل)، هو الشيء المأكول، لأن من شأنه أن يؤكل، وأما (الأَكْل) بفتح (الألف) وتسكين (الكاف)، فهو: فِعْل الآكل، يقال منه: أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة، ومنه قول الشاعر (14):
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2761): 2/ 520.
(2)
انظر: تفسير البغوي: 1/ 328.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم (2762|): ص 2/ 521.
(4)
انظر مادة (جود) في الصحاح في اللغة: 2/ 461 لقاموس المحيط: 1489، المعجم الوسيط: 2/ 784، ومعجم مقاييس اللغة:213. وقيل الجوْد من المطر: هو المطر التام العام، وقال الأنباري: هو المطر الذي يرضى أهله وقد جاد المطر ويجود جودا فهو جود، ومنه قول لبيد:
رُزِقَتْ مرابيعَ النجومِ وَصَابَهَا
…
وَدْقٌ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُها
الودق: المطر، الرواعد: ذوات الرعد من السحاب واحدتها راعدة، والرهام والرهم: جمعا رهمة: وهي المطرة التي فيها لين. [انظر: شرح المعلقات السبع الطوال: 162].
(5)
البيت من شواهد الماوردي في النكت والعيون: 1/ 340.
(6)
محاسن التأويل: 1/ 153.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 313.
(8)
تفسير الطبري: 5/ 538.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 114.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 328، وتفسير الالوسي: 2/ 36.
(11)
نقلا عن: تفسير البغوي: 1/ 328.
(12)
نقلا عن: تفسير البغوي: 1/ 328.
(13)
انظر: تفسير الالوسي: 2/ 36.
(14)
البيت لأبي مضرس النهدي، أنظر: حماسة الشجري: 24، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي
التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى
…
سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ
وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ
…
رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي
فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله: " بغرام "، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم.
وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ
…
وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام
قال ابن عطية: " وإضافة (الأُكْل) " إلى الجنة، إضافة اختصاص، كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة" (1).
واختلف في قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265]، بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان:
القول الأول: قالوا: " {ضِعْفَيْنِ}، معناه: اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها"(2)، لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه، وضعفاه: مثلاه زائداً عليه (3).
والثاني: وقيل "ضعف الشيء مثلاه"(4).
قال الماوردي: " والأول قول الجمهور"(5).
وقوله تعالى: {أُكُلَهَا} [البقرة: 265]، فيه قراءتان (6):
الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {أُكْلها} بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل:(أكله) أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل (أكل خمط) فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه.
والثانية: وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل.
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، أي: فإن لم ينزل عليها المطر الغزير: " فمطر صغير القطر، يكفيها لكرم منبتها"(7).
قال البغوي: " أي فطش، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائما"(8).
قال الصابوني: " أي فإِن لم ينزل عليها المطر الغزير فيكفيها المطر الخفيف أو يكفيها الندى لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها فهي تنتج على كل حال"(9).
قال ابن عطية: " ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنها إن لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض"(10).
قال الطبري: أي: " فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل، وذلك في الكلام نحو قول القائل: " حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته "، بمعنى: إلا أكن، لا بدَّ من إضمار (كان)، لأنه خبر، ومنه قول الشاعر (11):
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ
…
وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا
(1) المحرر الوجيز: 1/ 359.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 340.
(4)
النكت والعيون: 1/ 340.
(5)
النكت والعيون: 1/ 340.
(6)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 359.
(7)
تفسير الكشاف: 1/ 313.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 328.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(11)
البيت من شواهد الطبري: 5/ 541، وانظر: حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1/ 25 قال: " في حاشية السيوطي " قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية "، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى: 33، وومعانى الفراء: 61، 178 وقبل البيت يقول لامرأته:
رمتنى عن قوس العدو، وباعدت
…
عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا.
وقال الآلوسي: " والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل- الرذاذ من المطر وهو اللين منه"(1).
واختلف أهل العلم في التقدير في قوله تعالى: {فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، وفيه وجهان (2):
الأول: قال المبرد: "تقديره فَطَلٌّ يكفيها"(3).
والثاني: وقال آخرون: التقدير فالذي أصابهم طل.
قال ابن عطية: "فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا"(4).
قال الماوردي: "، فأراد بهذا ضرب المثل أن كثير البِر مثل زرع المطر كثير النفع، وقليل البِر مثل زرع الطل قليل النفع، ولا تدع قليل البر إذا لم تفعل كثيره، كما لا تدع زرع الطل إذا لم تقدر على زرع المطر"(5).
وقال البغوي: " وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل الوابل الشديد"(6).
وفي تفسير (الطلّ) ثلاثة أقوال (7):
إحداها: أنه: المستدق من القطر الخفيف، قاله قتادة (8)، والربيع (9)، والضحاك (10)، وسعيد بن جبير (11)، وابن عباس (12)، وهو مشهور اللغة (13).
والثاني: وقيل: أنه الرذاذ من المطر (14). قاله مقاتل (15).
(1) تفسير الآلوسي: 2/ 36.
(2)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 360.
(3)
نقلا عن: المحرر الوجيز: 1/ 360.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(5)
النكت والعيون: 1/ 340.
(6)
تفسير البغوي: 1/ 328.
(7)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 360.
(8)
أنظر: تفسير الطبري: (6084): ص 5/ 539. ولفظه: " {فطل} أي: طشّ". وهو المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ، انظر: اللسان (طش).
وفي الحديث: "أصابنا من الليل طش من المطر". [مسند أحمد (951): ص 1/ 117. من حديث علي بن ابي طالب-كرّم الله وجهه-. قال الهيتمي في المجمع: 6/ 76: رواه البزاز ورجاله ثقات، انظر: الأستار: 1762، والحاكم: 3/ 187 - 188، وسنده حسن.
ومنه حديث الشعبي وسعيد في قوله تعالى: {وينزل من السماء ماء} ، قال: طش يوم بدر". [النهاية في غريب الحديث: 3/ 124].
ومنه حديث الحسن: " أنه كان يمشي في طش ومطر ". [النهاية في غريب الحديث: 3/ 124].
(9)
أنظر: تفسير الطبري: (6086): ص 5/ 539.
(10)
أنظر: تفسير الطبري: (6085): ص 5/ 539.
(11)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2768): ص 2/ 521.
(12)
نقلا عن: المحرر الوجيز: 1/ 360.
(13)
أنظر: . انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 13/ 294، الصحاح للجوهري: 5/ 1752، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 406، معاني القرآن للزجاج: 1/ 348، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 97، جامع البيان للطبري: 5/ 539، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 181 أ، البسيط للواحدي: 1/ 159 ب. وفسره قوم بالندى، قال أبو حيان في البحر المحيط: 2/ 302 (وهذا تجوُّز)، وانظر: الدر المصون للسمين: 1/ 642، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 319، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 317، وفتح القدير: 1/ 286.
(14)
الرذاذ: أي المطر الخفيف، يقال: أرذ المطر إرذاذا. ومنه قول علقمة الفحل [المفضليات: 391]:
حتَّى تذكَّرَ بيْضاتٍ وهيَّجَه
…
يومُ رذاذٍ عليه الرِّيحُ مغْيومُ
ومنه قول البحتري [ديوانه: 1/ 40]:
بَكَتِ السّماءُ بِها رَذَاذَ دُموعِها
…
فَغَدَتْ تَبَسَّمُ عن نُجُومِ سَمَاءِ
(15)
أخرجه ابن ابي حاتم (2767): ص 2/ 521.
والثالث: وقال قوم (الطل) الندى. قاله ابن عباس (1)، ومجاهد (2)، والسدي (3)، والضحاك (4)، ومقاتل (5). قال ابن عطية: وهذا تجوز وتشبيه" (6).
أخرج الطبري " عن السدي قوله: {فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل}، يقول: كما أضعفتُ ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين"(7).
وقال الضحاك: " هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله"(8).
وقال الربيع: " هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن"(9).
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده " عن قتادة، قوله: والله بما تعملون بصير هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف، كما ليس لخير هذه الجنة خلف، على أي حال كان، إما وابل، وإما طل"(10).
قوله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]، "أي: لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد" (11).
وقال ابن عطية: " وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وعد ووعيد"(12).
قال الآلوسي: " فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأوّل، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه"(13).
قال الطبري: " وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد"(14).
قال ابن عثيمين: و {البصير} ، هنا كونه من "العلم أحسن ليشمل ما نعمله من الأقوال؛ فإن الأقوال تسمع، ولا تُرى؛ وليشمل ما في قلوبنا؛ فإن ما في قلوبنا لا يُسمع، ولا يُرى؛ وإنما يعلم عند الله عز وجل، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16] "(15).
وقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ} [البقرة: 265]، فيه قراءتان (16):
الأولى: قراءة الجماعة: {تَعْمَلُونَ} .
(1) أنظر: تفسير الطبري: (6082): ص 5/ 539.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2765): ص 2/ 521.
(3)
أنظر: تفسير الطبري: (6083): ص 5/ 539، ونقله البغوي في تفسيره: 1/ 328.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 521.
(5)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 521.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(7)
تفسير الطبري (6088): ص 5/ 539 - 540.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6089): ص 5/ 540.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6090): ص 5/ 540.
(10)
تفسير ابن أبي حاتم (2769): 2/ 522، وتفسير الطبري (6088): ص 5/ 540.
(11)
محاسن التأويل: 1/ 153.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 360، وانظر: تفسير الطبري: 5/ 541، وتفسير القرطبي: 3/ 317، والمحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 319، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 426.
(13)
تفسير الآلوسي: 2/ 36.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 541.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 327.
(16)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 360.
والثانية: وقرأ الزهري {يعملون} بالياء. قال ابن عطية: " كأنه يريد به الناس أجمع. أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض"(1).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أنه لا إنفاق نافع إلا ما كان مملوكاً للإنسان؛ لقوله تعالى: {أموالهم} ؛ فلو أنفق مال غيره لم يقبل منه إلا أن يكون بإذن من الشارع، أو المالك.
فإن قال قائل: عندي مال محرم لكسبه، وأريد أن أتصدق به فهل ينفعني ذلك؟
فالجواب: إن أنفقه للتقرب إلى الله به: لم ينفعه، ولم يسلم من وزر الكسب الخبيث؛ والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (2)؛ وإن أراد بالصدقة به التخلص منه، والبراءة من إثمه: نفعه بالسلامة من إثمه، وصار له أجر التوبة منه - لا أجر الصدقة.
ولو قال قائل: عندي مال اكتسبته من ربا فهل يصح أن أبني به مسجداً، وتصح الصلاة فيه؟
فالجواب: بالنسبة لصحة الصلاة في هذا المسجد هي صحيحة بكل حال؛ وبالنسبة لثواب بناء المسجد: إن قصد التقرب إلى الله بذلك لم يقبل منه، ولم يسلم من إثمه؛ وإن قصد التخلص سلم من الإثم، وأثيب - لا ثواب باني المسجد - ولكن ثواب التائب.
2 -
ومن فوائد الآية: بيان ما للنية من تأثير في قبول الأعمال؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} .
3 -
ومنها: اشتراط الإخلاص لقبول الأعمال؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} .
4 -
ومنها: أن الإنفاق لا يفيد إلا إذا كان على وفق الشريعة؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} ؛ وجه ذلك أن من ابتغى شيئاً فإنه لا بد أن يسلك الطريق الموصل إليه؛ ولا طريق يوصل إلى مرضات الله إلا ما كان على وفق شريعته في الكم، والنوع، والصفة؛ كما قال تعالى في الكم:{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67]؛ وقال تعالى في النوع: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله إلا الطيب» (3)؛ وفي الصفة قال الله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
…
} إلخ [البقرة: 264].
5 -
ومن فوائد الآية: إثبات رضا الله؛ لقوله تعالى: {مرضات الله} ؛ وهو من الصفات الفعلية.
6 -
ومنها: بيان أن تثبيت الإنسان لعمله، واطمئنانه به من أسباب قبوله؛ لقوله تعالى:{وتثبيتاً من أنفسهم} ؛ لأن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهاً فيه خصلة من خصال المنافقين؛ كما قال تعالى: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54].
7 -
ومنها: فضل الإنفاق على وجه التثبيت من النفس؛ لأنه يندفع بدافع نفسي؛ لا بتوصية من غيره، أو نصيحة.
8 -
ومنها: إثبات القياس؛ لقوله تعالى: {مثل
…
كمثل
…
}؛ وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق أن كل مثال في القرآن سواء كان تمثيلياً، أو إفرادياً، فهو دليل على ثبوت القياس.
9 -
ومنها: أنه يحسن في التعليم أن يبين المعقول بالمحسوس؛ لقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} ؛ وهذا من البلاغة؛ لأنه يقرب المعقول إلى أذهان الناس.
10 -
ومنها: اختيار المكان الأنفع لمن أراد أن ينشئ بستاناً؛ لقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} .
(1) المحرر الوجيز: 1/ 360.
(2)
صحيح مسلم (1015).
(3)
صحيح مسلم (1690).
11 -
ومنها: بركة آثار المطر؛ لقوله تعالى: {فآتت أكلها ضعفين} ؛ ولهذا وصف الله المطر بأنه مبارك في قوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} [ق~: 9] الآيتين.
12 -
ومنها: أنه إذا كان مكان البستان طيباً فإنه يكفي فيه الماء القليل؛ لقوله تعالى: {فإن لم يصبها وابل فطل} .
13 -
ومنها: إثبات علم الله، وعمومه؛ لقوله تعالى:{بما تعملون بصير} .
14 -
ومنها: التحذير من مخالفة الله عز وجل؛ لكونه عالماً بما نعمل.
القرآن
التفسير:
أيرغب الواحد منكم أن يكون له بستان فيه النخيل والأعناب، تجري من تحت أشجارِه المياه العذبة، وله فيه من كل ألوان الثمرات، وقد بلغ الكِبَر، ولا يستطيع أن يغرس مثل هذا الغرس، وله أولاد صغار في حاجة إلى هذا البستان وفي هذه الحالة هبَّت عليه ريح شديدة، فيها نار محرقة فأحرقته؛ وهكذا حال غير المخلصين في نفقاتهم، يأتون يوم القيامة ولا حسنة لهم. وبمثل هذا البيان يبيِّن الله لكم ما ينفعكم؛ كي تتأملوا، فتخلصوا نفقاتكم لله.
ذكر أهل العلم في معنى هذا المثل أربعة أقوال:
القول الأول: أنه مثل لمن أحسن العمل ثم انعكس سيرته. وهو قول عمر بن الخطاب (1)، وابن عباس (2)، وقد روي عن قتادة (3) والربيع (4)، والضحاك (5)، وعكرمة (6)، نحو ذلك، واختاره جمع من أهل التفسير (7).
القول الثاني: وقيل: أن الآية مثل آخر لنفقة الرياء. قاله السدي (8) ورجحه الطبري (9).
القول الثالث: وقيل: هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا، فيحصل في الآخرة على الحسرة العظمى (10). قاله مجاهد (11).
القول الرابع: وقيل: أنه مثل لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده (12). روي عن ابن زيد (13) نحو هذا المعنى، واختاره السعدي (14)، والبغوي (15)، والزمخشري (16) وآخرون.
(1) صحيح البخاري (4538)، وانظر: تفسير الطبري (6096) ص: 5/ 544، و (6097): ص 5/ 546
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2778): ص 2/ 523 - 524، وتفسير الطبري (6096) ص: 5/ 544، و (6097): ص 5/ 546، وأخرج الطبري فيما معناه (6094) و (6095) ص: 5/ 544 - 545، و (6098): ص 5/ 446، (6101) ص: 5/ 548، وابن ابي حاتم (2772): ص 2/ 522.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6099): 5/ 547.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6102) ص: 5/ 549، وابن أبي حاتم (2770): ص 2/ 522.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6104): ص 5/ 550.
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2774): ص 2/ 523.
(7)
منهم الآلوسي في: روح المعاني: 2/ 38.، وابن كثير في تفسيره: 1/ 696، وغيرهم.
(8)
انظر: تفسير الطبري (6091): 5/ 543، وتفسير ابن ابي حاتم (2775): ص 2/ 523.
(9)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 544. وقال في موضع آخر: " وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} ". [تفسير الطبري: 5/ 543].
(10)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 342.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6092) و (6093): ص 5/ 544، وابن ابي حاتم (2771): ص 2/ 522.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 115.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6103): ص 5/ 549.
(14)
انظر: تفسير السعدي: 1/ 115.
(15)
انظر: تفسيره: 1/ 329.
(16)
أنظر: تفسير الكشاف: 1/ 313.
والقول الأول أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء، وفصل عنه لاتصاله بمنا ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه (1).
قال ابن عطية: " وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا"(2).
قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} [البقرة: 266]، أي:" أيحب أحدكم"(3).
قال ابن عثيمين: " الاستفهام هنا بمعنى النفي، كما سيتبين من آخر الآية؛ و (يود) أي يحب؛ و (الود) خالص المحبة"(4).
قوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]، " يعني بستانًا"(5).
وقرأ الحسن: " {له جنات} "(6).
قوله تعالى: {مِنْ نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]، "أي: فيها من أنواع النخيل والأعناب والثمار الشيء الكثير" (7).
قال ابن عطية: " وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر"(8).
وقال السعدي: " وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى"(9).
قال الراغب: " النخيل: سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها وذاك أنه أكرم ما ينبت، لكونه مشبها بالحيوانات في الاحتياج، الأنثى منها إلى الفحل في التلقيح وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر بعده"(10).
قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 266]، "أي: تمر الأنهار من تحت أشجارها" (11).
قال السعدي: " وتلك الجنة فيها الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة"(12).
قال ابن عثيمين: " وظاهر كلمة {أنهار} أن الماء عذب، وجمع {الأنهار} باعتبار تفرقها في الجنة، وانتشارها في نواحيها؛ إذاً يعتبر هذا البستان كاملاً من كل النواحي: نخيل، وأعناب، ومياه، وثمرات؛ وهو أيضاً جنة كثيرة الأشجار، والأغصان، والزروع، وغير ذلك - هذا هو المشهد الأول من الآية"(13).
(1) أنظر: روح المعاني: 2/ 38.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 541.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 330.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 541.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 360، وتفسير الكشاف: 1/ 313.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 360.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 115.
(10)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 559.
(11)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 115.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 331.
قوله تعالى: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} [البقرة: 266]، "أي: ينبت له فيها جميع الثمار ومن كل زوج بهيج" (1).
أخرج ابن ابي حاتم بسنده" عن عكرمة، قوله: {فيها من كل الثمرات}، فما في الدنيا من شجرة إلا وهي في الجنة، حتى الحنظل"(2).
قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف قال (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ثم قال: (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)، قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع، خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما - وإن كانت محتوية على سائر الأشجار - تغليباً لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ} بعد قوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ} "(3).
قوله تعالى: {وَأَصَابَهُ الكبر} [البقرة: 266]، أي:" أصابته الشيخوخة فضعف عن الكسب"(4).
قال السعدي: "ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه"(5).
قال الآلوسي: " أي: أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر"(6).
قال ابن عثيمين: " أي: أصاب صاحب الجنة الكِبَر، فعجز عن تصريفها، والقيام عليها"(7).
قال الراغب: " {وَأَصَابَهُ الكبر} ، تنبيه على معنى التأثير والنكاية فيه، كقول الشاعر (8):
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى" (9).
قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} [البقرة: 266]، أي:"وله أولاد صغار لا يقدرون على الكسب"(10).
قال البغوي: يعني" أولاد صغار ضعاف عجزة"(11).
قال ابن عثيمين: " يعني صغاراً، أو عاجزين؛ فالأب كبير؛ والذرية ضعفاء - إما لصغرهم، أو عجزهم"(12).
قال الطبري: " صغارٌ أطفال"(13).
قال الآلوسي: " وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر، لأنه أنسب كما لا يخفى"(14).
قال أبو حيان: " ويحتمل أن يراد بضعفاء: محاويج"(15).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 153.
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (2776): ص 2/ 523.
(3)
تفسير الكشاف: 2/ 314.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(5)
تفسير السعدي: 1/ 115.
(6)
روح المعاني: 2/ 37.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 331.
(8)
الشاعر هو عمرو بن قميئة، انظر: ديوانه: 46، وغريب أبي عبيد: 2/ 146، وتفسير الراغب: 1/ 502.
وعجز البيت: فكيف بمن يرمي وليس برامي
وبنات الدهر: أحداثه، خطوبه ومصائبه. ليس برام: ليس من شأنه أن يرمي، عاجز عن الرماية.
(9)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 562.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(11)
تفسير البغوي: 1/ 329.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 331.
(13)
تفسير الطبري: 5/ 543.
(14)
روح المعاني: 2/ 37.
(15)
تفسير البحر المحيط: 2/ 237.
وعن ابن عباس: " {وله ذرية ضعفاء}، قال: مثل ضرب"(1).
قوله تعالى: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} [البقرة: 266]، "أي أصاب تلك الحديقة ريح عاصفة شديدة معها نار فأحرقت الثمار والأشجار"(2).
قال أبو حيان: " وفي العطف بالفاء في قوله: فأصابها إعصار، دليل على أنها حين أزهت وحسنت للانتفاع بها أعقبها الإعصار .. وقد فسر أنها هلكت بالصاعقة"(3).
و(الإعصار): ريح عاصف شديدة، تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، تجمع (أعاصير)(4)، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري (5):
أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ
…
أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ
وفي سبب تسميتها بالإعصار قولان:
الأول: قال المهدوي: " قيل لها إِعْصارٌ، لأنها تلتف كالثوب إذا عصر"(6).
قال ابن عطية: "وهذا ضعيف"(7).
قال القرطبي: "بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا"(8).
والثاني: وقيل: "إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء. وإما لأنها تنعصر بالرياح. وحكى ابن سيده: إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب"(9).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2777): ص 2/ 523.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(3)
البحر المحيط: 2/ 238.
(4)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 2/ 15، الصحاح للجوهري: 2/ 750، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 4/ 343، معاني القرآن للزجاج: 1/ 349، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 97، معاني القرآن للنحاس: 1/ 294، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 183 أ، البسيط للواحدي: 1/ 160 أ، جامع البيان للطبري: 5/ 551، وتفسير الكشاف: 1/ 313.
(5)
أنظر: تاريخ الطبري 6/ 178، والأغاني 17/ 178.
البيت ضمن أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4: 293 وتعليق: 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد:
يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي
…
راسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى
ثم هجا المنذر بن الجارود فقال:
تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ
…
وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ
ناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ
…
أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ
فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا
…
ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ
وقوله: " من فسو العراق "، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله:" أعاصير "! !
قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا
…
كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ! !
فبلغ منه ما بلغ! ! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 298، 299، والتعليق هناك.
[وقبل أن يسرد شرح قصة البيت، قال المحقق: "ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! ". انظر: حاشية الطبري: 5/ 551].
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 361، وانظر: النكت والعيون: 1/ 341.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 361.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 319.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 319.
وذكر أهل العلم في تفسير {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت} [البقرة: 266]، قولين (1):
أحدهما: أنها: ريح فيها سموم شديدةٌ، قاله ابن عباس (2)، وقتادة (3) والسدي (4)، والربيع (5) ظن ومجاهد (6).
والثاني: هي ريح فيها برد شديد. قاله الحسن (7) والضحاك (8).
قال ابن حجر: " والأول أظهر؛ لقوله تعالى: {فِيهِ نَار} (9).
وقوله تعالى: {فاحترقت} [البقرة: 266]، فيه قولان:
الأول: "فذهبت أحوج ما كان إليها". قاله الحسن (10).
الثاني: " فاحترق بستانه". قاله ابن عباس (11).
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} [البقرة: 266]، "أي: مِثل ذلك البيان" (12)، يبيّن الله لكم آياته.
قال أبو حيان: " أي: مثل هذا البيان تصرف الأمثال المقربة الأشياء للذهن، يبين لكم العلامات التي يوصل بها إلى اتباع الحق"(13).
أخرج ابن أبي حاتم" عن سعيد بن جبير، في قول الله: {كذلك يبين الله لكم الآيات}، يعني: ما ذكر"(14).
قال ابن عثيمين: " {الآيات} يشمل الآيات الكونية، والشرعية - يبينها الله، ويوضحها"(15).
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ} [البقرة: 266]، يحتمل وجهين (16):
أحدهما: يوضح لكم الدلائل.
والثاني: يضرب لكم الأمثال.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]، " أي: كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها" (17).
قال الطبري: " لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به"(18).
قال القرطبي: " كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء"(19).
(1) أنظر: تفسير الطبري: 5/ 552 وما بعدها.
(2)
انظر: تفسير الطبري (6105) و (6106) و (6107) و (6108) و (6109) و (6110) و (6111): ص 5/ 552 - 553، وابن ابي حاتم (2779) و (2781): ص 2/ 524.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6112) و (6113): ص 5/ 553.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6114): ص 5/ 553 - 554، وانظر: ابن ابي حاتم (2779) و (2781): ص 2/ 524.
(5)
أخرجه الطبري (6115): ص 5/ 554.، وانظر: تفسير: ابن ابي حاتم (2779) وو (2781): ص 2/ 524.
(6)
انظر: تفسير: ابن ابي حاتم: ص 2/ 524
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6116): ص 5/ 554. وابن ابي حاتم (2780): ص 2/ 524.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6117): ص 5/ 554.
(9)
الفتح: 6/ 347، ورجحه أيضاً: العيني في عمدة القاري: 15/ 122.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتمم (2782): ص 2/ 524.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتمم (2783): ص 2/ 525.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 332.
(13)
البحر المحيط: 2/ 238.
(14)
تفسير ابن ابي حاتم (2784): ص 2/ 525.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 332.
(16)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 341.
(17)
روح المعاني: 2/ 38.
(18)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 554.
(19)
تفسير القرطبي: 3/ 320.
قال أبو حيان" أي: تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا، وفيما هو باق لكم في الآخرة، فتزهدون في الدنيا، وترغبون في الآخرة"(1).
قال الصابوني: " لكي تتفكروا وتتدبروا بما فيها من العبر والعظات"(2).
قال ابن عثيمين: " و «التفكر» إعمال الفكر فيما يراد"(3).
قال ابن عطية: " و {لَعَلَّكُمْ}، ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له"(4).
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]، يحتمل ثلاثة أوجه:
إحداها: تعتبرون، لأن المفكر معتبر (5).
والثاني: تهتدون، لأن الهداية التَّفَكُّر (6).
الثالث: تطيعون، قاله مجاهد" (7).
وروي عن ابن عباس: " {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}، يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها"(8).
وروي عن قتادة: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} : هذا مثل ضربه الله فاعقلوا عن الله أمثاله، يقول: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" (9).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بيان تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنه أقرب إلى الفهم؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للمانّ بالصدقة بصاحب هذه الجنة؛ ووجه الشبه سبقت الإشارة إليه.
2 -
ومنها: جواز ضرب المثل بالقول؛ فهل يجوز ضرب المثل بالفعل - وهو ما يسمى بالتمثيل؟
الجواب: نعم، يجوز لكن بشرط ألا يشتمل على شيء محرم؛ ولنضرب لذلك أمثلة للأشياء المحرمة في التمثيل:
أولاً: أن يكون فيه قيام رجل بدور امرأة، أو قيام امرأة بدور رجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (10).
ثانياً: أن يتضمن ازدراء ذوي الفضل من الصحابة، وأئمة المسلمين؛ لأن ازدراءهم واحتقارهم محرم؛ والقيام بتمثيلهم يحط من قدرهم - لا سيما إذا عُلم من حال الممثِّل أنه فاسق؛ لأن الغالب إذا كان فاسقاً وقد تقمص شخصية هذا الرجل التَّقي الذي له قدره، وفضله في الأمة، فإن هذا قد يحط من قدره بهذا الذي قام بدور في التمثيلية.
ثالثاً: أن يكون فيه تقليد لأصوات الحيوانات، مثل أن يقوم بدور تمثيل الكلب، أو الحمار؛ لأن الله لم يذكر التشبيه بالحيوانات إلا في مقام الذم، كقوله تعالى:{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} [الجمعة: 5]، وقوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو
(1) البحر المحيط: 2/ 238.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 153.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 332.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 361.
(5)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 341.
(6)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 341.
(7)
أخرجه الطبري (6118): ص 5/ 555.
(8)
أخرجه الطبري (6119): ص 5/ 555.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2786): ص 2/ 525.
(10)
أخرجه البخاري ص 501، كتاب اللباس، باب 61: المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم 5886.
شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
…
} [الأعراف: 175، 176] الآيتين؛ وكذلك السنة لم تأت بالتشبيه بالحيوان إلا في مقام الذم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً» (1)، وقوله:«العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (2).
رابعاً: أن يتضمن تمثيل دَور الكافر، أو الفاسق؛ بمعنى أن يكون أحد القائمين بأدوار هذه التمثيلية يمثل دَور الكافر، أو دَور الفاسق؛ لأنه يخشى أن يؤثر ذلك على قلبه: أن يتذكر يوماً من الدهر أنه قام بدور الكافر، فيؤثر على قلبه، ويدخل عليه الشيطان من هذه الناحية؛ لكن لو فعل هل يكون كافراً؟
الجواب: لا يكون كافراً؛ لأن هذا الرجل لا ينسب الكفر إلى نفسه؛ بل صور نفسه صورة من ينسبه إلى نفسه، كمن قام بتمثيل رجل طلق زوجته؛ فإن زوجة الممثل لا تطلق؛ لأنه لم ينسب الطلاق إلى نفسه؛ بل إلى غيره.
وقد ظن بعض الناس أنه إذا قام بدور الكافر فإنه يكفر، ويخرج من الإسلام، ويجب عليه أن يجدد إسلامه، واستدل بالقرآن، وكلام أهل العلم؛ أما القرآن فاستدل بقوله تعالى:{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 6]: وهؤلاء القوم يدعون أنهم يخوضون، ويلعبون؛ يعني: على سبيل التسلية ليقطعوا بها عناء الطريق؛ ويقول أهل العلم: إن من أتى بكلمة الكفر - ولو مازحاً - فإنه يكفر؛ قالوا: وهذا الرجل مازح ليس جادّاً؛ فالجواب أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» (3): فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق يمزح عليها فإنها تطلق؛ فهل تقولون: إذا قام الممثل بدور رجل طلق امرأته فإنها تطلق امرأته؟ سيقولون: لا؛ وكلنا يقول: لا؛ والفرق ظاهر؛ لأن المازح يضيف الفعل إلى نفسه، والممثل يضيفه إلى غيره؛ ولهذا لا تطلق زوجته لو قام بدور تمثيل المطلِّق؛ ولا يكفر لو قام بدوره تمثيل الكافر؛ لكن أرى أنه لا يجوز من ناحية أخرى؛ وهي أنه لعله يتأثر قلبه في المستقبل، حيث يتذكر أنه كان يوماً من الدهر يمثل دور الكافر؛ ثم إنه ربما يعَيَّر به فيقال مثلاً: أين أبو جهل؟ ! إذا قام بدوره.
ويمكن أن نأتي بدليل على جواز التمثيل؛ وذلك في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأقرع، والأعمى، والأبرص؛ فالملك أتى الأبرص، والأقرع، والأعمى، وسألهم ماذا يريدون؛ كل ذكر أمنيته؛ فأعطاه الله سبحانه وتعالى أمنيته؛ ثم عاد إليهم المَلَك مرة أخرى؛ عاد إلى الأبرص بصورته، وهيئته - يعني أبرص فقيراً - وقال له:«إني رجل فقير، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك» (4)؛
(1) أخرجه أحمد 1/ 230، حديث رقم 2033، قال الحافظ في البلوغ:[رواه أحمد بإسناد لا بأس؛ وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"]، وقال الهيثمي:(رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير؛ وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية)(مجمع الزوائد 2/ 187)، وقال أحمد شاكر، في تخريج المسند 3/ 326: إسناده حسن.
(2)
أخرجه البخاري ص 204، كتاب الهبة، باب 14: هبة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها، حديث رقم 2589، وأخرجه مسلم ص 960، كتاب الهبات، باب 2: تحريم الرجوع في الصدقة بعد القبض
…
، حديث رقم 4170 [5]1622.
(3)
أخرجه أبو داود ص 1384، كتاب الطلاق، باب 9: في الطلاق على الهزل، حديث رقم 2194؛ وأخرجه الترمذي ص 1769، كتاب الطلاق واللعان، باب 9: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، حديث رقم 1184، وأخرجه ابن ماجة ص 2599، كتاب الطلاق، باب 13: من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، = =حديث رقم 2039، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 198، كتاب الطلاق، وقال:[حديث صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين]، وعقب الذهبي:[قلت: فيه لين]: وقال الحافظ: [مختلف فيه، قال النسائي: 3/ 236)، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود 2/ 9).
(4)
أخرجه البخاري ص 282 - 283، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 51: حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، حديث رقم 3464، وأخرجه مسلم ص 1191 - 1192، كتاب الزهد والرقائق، باب 1: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، حديث رقم 7431 [10] 2964 ..
فالملَك يمثل دور رجل فقير - وهو ليس بفقير - وأبرص - وليس بأبرص - وكذلك بالنسبة للأقرع، والأعمى؛ فبعض العلماء استدل بهذا الحديث على جواز التمثيل.
فعليه نقول إذا كان التمثيل لا يشتمل على شيء محرم من الأمثلة التي ذكرناها، أو غيرها، فإنه لا بأس به، وليس من الكذب في شيء؛ لأن الكذب يضيف الإنسان الأمر إلى نفسه، فيأتي إليك يقرع الباب؛ تقول: مَن؟ يقول: أنا زيد - وليس هو بزيد؛ فهذا كاذب؛ لكن يأتي إنسان يقول: أنا أمثل دور فلان، ويعرف الناس أنه ليس فلاناً؛ فليس بكذب؛ لكنه إذا نسب القول إلى شخص معيَّن فهذا يحتاج إلى ثبوت هذا القول عن هذا الشخص المعين؛ أما إذا حكى قصة رجل بوصفه - لا بعينه - فليس بكذب.
3 -
ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يبين لعباده الآيات الشرعية، والكونية؛ كلها مبينة في كتابه سبحانه وتعالى أتم بيان.
4 -
ومنها: الحث على التفكر، وأنه غاية مقصودة؛ لقوله تعالى:{لعلكم تتفكرون} ؛ فالإنسان مأمور بالتفكر في الآيات الكونية، والشرعية؛ لأن التفكر يؤدي إلى نتائج طيبة؛ لكن هذا فيما يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه؛ أما ما لا يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله عز وجل: هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذات الله» (1)؛ لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه؛ وغاية لا تمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]؛ فلا يجوز لأحد أن يتفكر في كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ بل يجب الكف عنه؛ لأنه سيؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إما إلى التكييف، أو التمثيل، أو التعطيل - ولا بد؛ وأما التفكر في معاني أسماء الله فمطلوب؛ لأن المعنى كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل:{الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]: كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
القرآن
التفسير:
يا من آمنتم بي واتبعتم رسلي أنفقوا من الحلال الطيب الذي كسبتموه ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تقصدوا الرديء منه لتعطوه الفقراء، ولو أُعطِيتموه لم تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عما فيه من رداءة ونقص. فكيف ترضون لله ما لا ترضونه لأنفسكم؟ واعلموا أن الله الذي رزقكم غني عن صدقاتكم، مستحق للثناء، محمود في كل حال.
في سبب نزول الآية: روي عن البراء أنه قال: "نزلت فينا هذه الآية كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرة نخله وقلته فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام إذا جاع أحدهم أتى القنو فضربه فيسقط من البسر والتمر ما يأكله، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر 6/ 250 حديث رقم 6319؛ وفي سنده الوازع بن نافع عن سالم عن ابن عمر، وقال: لم يروه عن سالم إلا الوازع بن نافع. أهـ. وقال العراقي في الوازع بن نافع: متروك [تخريج إحياء علوم الدين 4/ 424، حاشية (1)]، وقال: أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عباس في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه. أهـ. المرجع السابق.
الحشف [و] بالقنو فيه الشيص [و] بالقنو وقد انكسر فيعلقه، قال: فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} " (1).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 266]، يعني: يا أيها الذين" صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه"(2).
قال الزهري: إذا قال الله: {يا أيها الذين آمنوا} ، فالنبي صلى الله عليه وسلم، منهم" (3).
سبق أن قلناً بأن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته، والعناية به؛ لأن النداء يتضمن التنبيه؛ والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به، وأن تصديره بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يفيد عدة فوائد (4):
أولاً: الإغراء؛ و «الإغراء» معناه الحث على قبول ما تخاطَب به؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه» (5)؛ ولهذا لو ناديتك بوصفك، وقلت: يا رجل، يا ذكي، يا كريم. معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك.
ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان؛ كأنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا} إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا.
ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب.
(1) أخرجه الترمذي في الجامع كتاب "التفسير""5/ 203 - 204""2987" وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وكذلك نقله القرطبي في: الجامع: 3/ 211، ونقل قوله ابن كثير: 1/ 320، "وليس فيه "صحيح"! وعزاه السيوطي في: اللباب: 49، إلى ابن ماجه ايضًا وفي: الدر المنثور: 2/ 85، إلى آخرين فانظره.
والحاكم في المستدرك: (2/ 284)، ولفظه:"نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا عند جذاذ النخل من حيطانها يخرجون أفناء من التمر والبسر فيعلقونها على حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل منه فقراء المهاجرين الحديث فنزلت".
وقال الحاكم بعد ذكره: "هذا حديث غريب صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي، ونسب ابن كثير "1/ 320" إلى الحاكم قوله:"صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه".
وأخرج الحاكم في المستدرك: 2/ 283 - 284، من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن جابر، قال:[أمر] النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر بصاع من تمر فجاء رجل بتمر رديء فنزلت".
وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونقله السيوطي عنه: (2/ 59)، ورواه الواحدي ايضًا:(81 - 82).
وأخرجه الفريابي، عن جعفر عن أبيه مرسلا لم يذكر جابر وزاد فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجزين هذا التمر". فنزلت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم [الذي يخرص التمر] أن لا يجيزه". أنظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 623.
وعزاه السيوطي: 2/ 58 - 59، إلى عبد بن حميد فقط وليس فيه: فقال رسول الله: "لا يجزين هذا التمر" ومنه استدركت ما بين المعقوفين.
وأخرج عبد بن حميد والنسائي، من طريق أبي أمامة بن سهل:" كان المنافقون يتلومون شرار ثمرهم الصدقة فنزلت". أنظر سنن النسائي: (2492): ص 5/ 43.
وأخرجه ابن ابي حاتم بسنده (2803): ص 2/ 528، و (2790): ص 2/ 526، عن ابن عباس، ولفظه:" ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون، فأنزل الله على نبيه: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم".
وذكره أبو داود مختصرا في سننه (1607): ص 2/ 110 - 111، وأخرجه الثعلبي في تفسيره (1/ 142). وانظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 623.
(2)
تفسير الطبري: 5/ 555.
(3)
تفسير ابن ابي حاتم (2787): ص 2/ 525.
(4)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 338.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (3891): ص 3/ 718. وسنده: قال ابن أبي حاتم: ثنا أبي نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك ثنا مسعر ثنا معن وأبو عون أو أحدهما أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود
…
، ونعيم بن حماد قال الحافظ فيه: صدوق يخطئ كثيراً، وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: أرجو أن يكون باقي حديثه مستقيماً، الكامل لابن عدي 8/ 251 - 256، ولم يذكر ابن عدي هذا الأثر ومعن هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ت. التهذيب، وأبو عون، كما في التهذيب هو أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله الأعور؛ وكلاهما ثقة، لكن معن بن عبد الرحمن لم يدرك عبد اله بن مسعود، لأن الحافظ عده من الطبقة السابعة، وأما أبو عون فإنه مات سنة 110 هجرياً، وعبد الله بن مسعود مات سنة 33 هـ، ت. التهذيب [9/ 285، 6/ 25]، فيبعد أن يكون قد أدرك ابن مسعود، فيكون حديث معن وأبي عون عن ابن مسعود مرسلاً.
قوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} : بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ لكن الفرق بين ما هنا، وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه؛ وهناك بيان للذي ينَفق عليه.
قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]، " أي أنفقوا من الحلال الطيب من المال الذي كسبتموه"(1).
قال الراغب: " كل ما يناله الإنسان بريح أو أجرة عمل
…
وتخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان مما يكتسبه أضن منه مما يرثه، فإذا الموروث معقول من فحواه" (2).
أخرج ابن ابي حاتم " عن ابن عباس، قوله: {أنفقوا}، يقول: تصدقوا"(3). وروي عن مقاتل، نحو ذلك (4).
قال ابن عطية: " وكَسَبْتُمْ معناه كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه"(5).
واختلف في قوله تعالى: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]، وفيه أربعة أقاويل:
أحدها: يعني به الذهب والفضة، وهو قول عليّ (6) -كرّم الله وجهه-، والسدي (7). واختاره ابن كثير (8).
والثاني: يعني التجارة، قاله مجاهد (9)، ونحوه عن عائشة (10) رضي الله عنها.
والثالث: الحلال (11).حكي ذلك عن ابن زيد (12). قال ابن عطية: " وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه"(13).
والرابع: من جيد ما كسبتم، أي: أطيب الأموال وأنفسه. قاله ابن عباس (14).
والخامس: وقيل: {من طيبات ما كسبتم} ، يعني: المغزل. روي ذلك عن عليّ (15) -كرّم الله وجهه-.
السادس: أنه يقصد به الحض على الإنفاق. قاله ابن عطية (16).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 153.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 563.
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (2788): ص 2/ 525.
(4)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: : ص 2/ 525.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 362.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6126): ص 5/ 556.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6130): ص 5/ 557.
(8)
انظر: تفسيره: 1/ 697.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6121) و (6122) و (6123) و (6124) و (6127) و (6128): ص 5/ 556، وابن أبي حاتم (2793) و (2794): ص 2/ 526.
(10)
انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2792): ص 2/ 526.
(11)
انظر: النكت والعيون: 1/ 342.
(12)
نقل عنه ابن عطية، انظر: المحرر الوجيز: 1/ 361، ولفظه:" من حلال ما كسبتم، قال: وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}، أي: الحرام".
(13)
المحرر الوجي: 1/ 361.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6129): ص 5/ 556 - 557، وابن ابي حاتم (2789): ص 2/ 526.
(15)
أخرجه ابن ابي حاتم (2791): ص 2/ 526.
(16)
قال ابن عطية: " وقوله: {مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ}، يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث". [المحرر الوجيز: 1/ 361 - 362]. ولفظ عبدالله بن معقل في رواية الطبري (6125): ص 5/ 556: ": ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
وفي رواية ابن أبي حاتم (2799): ص 2/ 527: "كسب المسلم لا يكون خبيثا".
والراجح-والله أعلم- هو قول ابن عباس، ويسنده سبب النزول. وهو قول الجمهور (1).
قوله تعالى: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، أي:" ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض"(2).
قال الماوردي: " من الزرع والثمار"(3).
قال ابن عثيمين: " قال بعضهم: إنه معطوف على {ما} في قوله تعالى: {ما كسبتم}؛ يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض»؛ ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى: {طيبات}؛ يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض»؛ لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا، كما قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] "(4).
وقد اختلف في قوله تعالى: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، على أقوال:
الأول: قيل: النخل. حكي ذلك عن مجاهد (5). ويدل عليه حديث حجاج (6).
الثاني: وقيل: النبت والثمار. وهو أحد قولي مجاهد (7)، وروي نحوه عن مقاتل (8)، والسدي (9)، وعلي (10) -كرّم الله وجهه-.
واختلف المتأولون هل المراد بهذا (الإنفاق)، على ثلاثة أقوال (11):
أحدهما: هي الزكاة المفروضة. قاله عبيدة السلماني (12)، وعلي (13) -كرّم الله وجهه-، ومحمد بن سيرين (14).
والثاني: هي في التطوع، قاله بعض المتكلمين (15). واختاره ابن كثير (16).
والثالث: أنها " عام في الواجب والتطوع"(17).
قال ابن عطية: " نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع .. والأمر على هذا القول على
(1) حكي قول الجمهور ابن عطية، انظر: المحرر الوجيز: 1/ 361.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 697.
(3)
النكت والعيون: 1/ 342.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 339.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (2795): ص 2/ 527، وأخرجه الطبري (6132) و (6133): ص 5/ 557.
(6)
قال ابن أبي حاتم: " وفي حديث حجاج: ثنا به: {ومما أخرجنا لكم من الأرض}: من النخل كانوا يتصدقون بحشفه وشراره فنهوا عن ذلك، فأمروا أن يتصدقوا بطيبه". [تفسير ابن أبي حتم: 2/ 527].
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3795): ص 2/ 527، وأخرج عنه الطبري (6134): ص 5/ 557): ولفظه: "الثمار". والفرق بين النبت والثمر. أن (النبات): ما أخرجته الأرض من شجر ونحوه، والثمار فاكهة الشجر، وثمار الأرض خيراتها. [أنظر: المعجم الوجيز: (نبت): ص 599].
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2796): ص 2/ 527.
(9)
أخرجه الطبري (6135): ص 5/ 558. ولفظه: " هذا في التمر والحب".
(10)
الطبري (6131): ص 5/ 557.
(11)
أنظر: النكت والعيون: 2/ 342 - 343.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2800): ص 2/ 527 - 528. ولفظه: " هذا في الزكاة المفروضة، ولا بأس أن يتصدق بالتمرة. والدرهم الزيف خير من التمرة". قال ابن أبي حاتم: "وروي عن عبيدة بخلاف هذا"، وأخرجه الطبري في تفسيره (6163) و (6164): س 5/ 569.
(13)
أخرجه الطبري (6131): ص 5/ 557، ولفظه:" يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة".
(14)
أخرجه الطبري (6166): ص 5/ 570، ونقله ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 361.
(15)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 340.
(16)
أنظر: تفسيره: 1/ 697.
(17)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 564.
الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب" (1).
قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]، " أي ولا تقصدوا الرديء الخسيس فتتصدقوا منه"(2).
قال الطبري: " ولا تعمدوا، ولا تقصدوا .. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: {ولا تؤموا} من (أممت)، وهذه من (يممت)، والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ"(3).
وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب {ولا تيمّموا} بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال: يممت الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ {ولا تؤمموا} بهمزة بعد التاء، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم (4).
قال الراغب: " وأصل التيمم قصد اليم أي لجة البحر، ثم صار في التعارف القصد نحو، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، ويممته وأممته، قيل هما واحد، وقال الخليل: أممته: قصدته من أمامه، ويممته: قصدته من أي جهة كان"(5)، ومنه قول ميمون بن قيس الأعشى (6):
تيممت قيسا وكم دونه
…
من الأرض من مهمه ذي شزن
وقول امرئ القيس (7):
تيمّمت العين التي عند ضارج
…
يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام
قال الشافعي: يعني - واللَّه أعلم -: تأخذونه لأنفسكم ئمن لكم عليه حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني: لا تعطوا مما خبث عليكم -واللَّه أعلم - وعندكم طيب .. فحرام على من عليه صدقة أن يعطي صدقة من شرها" (8).
قال الماوردي: "التيمم: التعمد، قال الخليل: تقول أَمَمْتُه إذا قصدت أَمَامَه، ويَمَّمْتُه إذا تعمدته من أي جهة كان، وقال غيره: هما سواء، والخبيث: الرديء من كل شيء"(9).
روي "عن البراء بن عازب، في قوله: {ولا تيمموا} يقول: لا تعمدوا"(10). وروي عن مقاتل بن حيان، نحو ذلك" (11).
وفي تفسير {الْخَبِيثَ} [البقرة: 267]، هنا قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة، فنزلت هذه الآية، وهو قول عليٍّ، والبراء بن عازب (12).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 361.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 558.
(4)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 362.
(5)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 563.
(6)
ديوانه: 16، وهو من قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي، وهي أول كلمة قالها له، وامهمه: الفلاة المقفرة البعيدة، لا ماء بها ولا أنيس، والشزن والشزونة: الغلظ من الأرض.
(7)
ملحق ديوانه: 476، واللسان (عرمض)، والبحر: 5/ 496، وضارج: اسم موضع، والعرمض: الطحلب.
(8)
تفسير الشافعي: 1/ 426 - 427.
(9)
النكت والعيون: 1/ 343.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2797): ص 2/ 527.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: ص 2/ 527.
(12)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2798): ص 2/ 527.
والثاني: وقيل: الحشف والدرهم الزيف، وما لا خير فيه. قاله عبدالله بن معقل (1)، وروي عن عبيدة (2) نحو ذلك.
والثالث: أن الخبيث هو الحرام، قاله ابن زيد (3).
قال الراغب: " إن قيل: لم قال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} ولم يقل: (ولا تنفقوا الخبيث) مع أن اللفظ كان أوجز؟
قيل: لأن القبيح من الإنسان أن يقصد الخبيث أي الرديء من جملة ما في يده فيخصه بالإنفاق في سبيل الله، فأما إنفاق الرديء لمن ليس له غير ذلك، أو لمن لا يقصده خصوصا فغير مذموما" (4).
قوله تعالى: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]، أي:"لو أعطيتموه ما أخذتموه"، إِلا إِذا تساهلتم وأغمضتم البصر" (5).
قال الطبري: " ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم"(6).
قال ابن كثير: فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون" (7).
قال ابن عطية: " كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع .. أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم"(8).
قال الراغب: " والإغماض والتغميض غض البصر ويستعمل في الترخص كالإغضاء"(9).
قوله تعالى: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]، فيه أربعة تأويلات:
أحدها: إلا أن تتساهلوا (10)، يعني:" ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم"(11). وهو قول عبيدة (12)، والبراء بن عازب (13)، وابن عباس (14)، ومجاهد (15)، والربيع (16)، والضحاك (17).
والثاني: إلا أن تحطوا في الثمن، أي "لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه"(18)، قاله الحسن (19)، وروي نحوه عن قتادة (20)، وعلي بن أبي طالب (21) رضي الله عنه.
قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة" (22).
والثالث: إلا بوكس، فكيف تعطونه في الصدقة قاله الزجاج (23).
والرابع: إلا أن ترخصوا لأنفسكم فيه وتتجوّزوا، قاله السدي، وعبدالله بن معقل (24) ويسنده قول الطِّرِمّاح، كما سيأتي (25).
الخامس: على استحياء (26)، يعني:" ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم"(27). قاله البراء بن عازب" (28).
قال ابن عطية: " وهذا يشبه كون الآية في التطوع"(29).
السادس: وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه. قاله ابن زيد (30).
السابع: وقيل: "ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم"(31). روي ذلك عن ابم معقل (32).
والراجح أن الله أمر إخراج الجيد من الأموال الطيب، وأما في الصدقة، فمكروه أن يعطي فيها إلا الأجود من المال والأطيب. وقال الطبري" والصدقة قربان المؤمن فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه"(33).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {تُغْمِضُوا} [البقرة: 267]، على وجوه (34):
الأول: قرأ جمهور الناس {إلا أن تغمضوا} بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم (35).
الثاني: وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا (36).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2799): ص 2/ 527.
(2)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2801): ص 2/ 528.
(3)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 361.
(4)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 564.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 563.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 697.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 362.
(9)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 563.
(10)
قال الرازي: " وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا". [مفاتيح الغيب: 5/ 77.].
(11)
تفسير الطبري: 5/ 564.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6150): ص 5/ 564.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6151): ص 5/ 564.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6152) و (6154): ص 5/ 564.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6153): ص 5/ 564.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6155): ص 5/ 564.
(17)
أنظر: تفسير الطبري (6156): ص 5/ 564.
(18)
تفسير الطبري: 5/ 566.
(19)
أخرجه ابن ابي حاتم (2805): ص 2/ 529، والطبري (6157): ص 5/ 566.
(20)
أنظر: تفسير الطبري (6158): ص 5/ 566.
(21)
نقلا عن: المحرر الوجيز: 1/ 362.
(22)
المحرر الوجيز: 1/ 362.
(23)
انظر: النكت والعيون: 1/ 343.
(24)
أخرجه ابن ابي حاتم (2806): ص 2/ 529.
(25)
وهو قوله (ديوانه: 86):
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ
…
م رجال يرضون بالإغماض
(26)
أنظر: مفاتبح الغيب: 7/ 55. قال: "، فقوله {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم".
(27)
تفسير الطبري: 5/ 566.
(28)
أنظر: تفسير الطبري (6159): ص 5/ 566.
(29)
المرحرر الوجيز: 1/ 363.
(30)
أنظر: تفسير الطبري (6162): ص 5/ 567، ولفظه:": يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه " وهو يعلم أنه حرام باطل". ونقله ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 363.
(31)
تفسير الطبري: 5/ 567.
(32)
أنظر: تفسير الطبري (6161): ص 5/ 567.
(33)
تفسير الطبري: 5/ 569.
(34)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 363.
(35)
قال ابن عطية: " فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان". [المحرر الوجيز: 1/ 262].
(36)
قال ابن عطية: " الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها. ويحتمل أن تكون من تغميض العين". [المحرر الوجيز: 1/ 363].
الثالث: وروي عن الزهري أيضا: {تغمّضوا} بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة.
الرابع: وحكى مكي عن الحسن البصري {تغمّضوا} ، مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء.
الخامس: وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا، قال أبو عمرو معناه:"إلا أن يغمض لكم"(1).
وذكر ابن عطية في أصل كلمة {تغمّضوا} في كلام العرب، وجهين:
الأول: من قول العرب: أغمض الرجل في أمر كذا، إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم (2):
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ
…
م رجال يرضون بالإغماض
الثاني: وإما أن تنتزع من: تغميض العين، لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه، ومنه قول الشاعر (3):
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني
…
أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه.
قال ابن عطية: "وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر كما تقول: أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض"(4).
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، " أي أنه سبحانه غني عن نفقاتكم حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء"(5).
قال البراء: " واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم"(6).
وأخرج ابن أبن ابي حاتم" عن مقاتل بن حيان، في قوله: {واعلموا أن الله غني}: في سلطانه عما عندكم"(7).
قال ابن عطية: " نبه تعالى على صفة (الغنى)، أي: لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، و {حَمِيدٌ}، معناه: محمود في كل حال، وهي صفة ذات"(8).
(1) أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 363. قال ابن عطية: " قال ابن جني: معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة".
(2)
ديوانه: 86، من قصيدة مجد فيها قومه، وقبله:
إننا معشر شمائلنا الصبر،
…
إذا الخوف مال بالأحفاض
نصر للذليل في ندوة الحي،
…
مرائيب للثأي المنهاض
من يرم جمعهم يجدهم مر
…
اجيح حماة للعزل الأحراض
الأحفاض: الإبل الصغار الضعاف، ويعنى الضعاف من الناس، لا يصبرون في حرب. مرائيب: من الرأب، وهو الإصلاح، مصلحون. والثأى: الفساد. والمنهاض: الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح إلا بمشقة. مراجيح: حلماء لا يستخفهم شيء. والأحراض: الضعاف الذين لا يقاتلون. والإغماض: التغاضي والمساهلة. يقول نحن أهل بأس وسطوة، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا، ولسنا كأقوام يرضون بالضيم، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم.
(3)
لم أتعرف على قائله، وانظر البيت في العمدة لابن رشيق: 75، وتفسير الفتح القدير: 1/ 289، والمحرر الوجيز: 1/ 362، وتفسير القرطبي: 3/ 327.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 362.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2807): ص 2/ 529، والطبري (6167): ص 5/ 571.
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2808): ص 2/ 529.
(8)
المحرر الوجي: 1/ 363.
قال ابن كثير: فالله "وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم، وهو الحميد، أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه"(1).
قال ابن عثيمين: " ووجه المناسبة في ذكر «الحميد» بعد «الغني» أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه؛ بخلاف غنى المخلوق؛ فقد يحمد عليه، وقد لا يحمد؛ فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً؛ وإنما يحمد إذا بذله؛ والله عز وجل غني حميد؛ فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه؛ ولكن لمصلحتكم أنتم"(2).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: فضيلة الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ؛ فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله؛ وهذا يدل على فضيلة الإيمان.
2 -
ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ ووجهه أن الله تعالى قال:{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا} ؛ فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.
3 -
ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا؛ لقوله تعالى: {أنفقوا} ؛ والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب.
4 -
ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: {ما كسبتم} ؛ ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.
5 -
ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟
فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى:{فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275].
6 -
ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} ؛ ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية؛ ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى: {ما كسبتم} ؛ ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه؛ وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن، وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء؛ وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق.
7 -
ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ؛ وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 699.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 341.
الزكاة في القليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (1)؛ و «الوسق» هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.
ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله (ص): «ليس فيما دون خمسة أوسق» ؛ و «الوسق» كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها، لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق.
تنبيه:
لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.
8 -
ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى: {من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ؛ فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد؛ وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد؟ الأمر في ذلك واضح؛ لأن نمو التجارة بالكسب، وغالبه من فعل العبد: يبيع، ويشتري، ويكسب؛ أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد في الواقع، كما قال تعالى:{أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64].
9 -
من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة.
وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس (2)؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.
10 -
ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} .
11 -
ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن، وقال:«إياك وكرائم أموالهم» (3)، تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية؛ لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال؛ ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة؛ فصار الواجب وسطاً؛ لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود؛ ولا نمكنه من إخراج الأردأ؛ بل يخرج الوسط.
12 -
ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (4)؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا
(1) أخرجه البخاري ص 114، كتاب الزكاة، باب 32، زكاة الورق، حديث رقم 1447؛ وأخرجه مسلم ص 831، كتاب الزكاة، باب 1: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، حديث رقم 2263 [1]979.
(2)
راجع البخاري ص 118، كتاب الزكاة، باب 66: في الركاز الخمس، حديث رقم 1499؛ ومسلماً ص 981، كتاب الحدود، باب 11: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، حديث رقم 4465 [45]1710.
(3)
أخرجه البخاري ص 118، كتاب الزكاة، باب 63: أخذ الصدقة من الأغنياء
…
، حديث رقم 1496؛ وأخرجه مسلم ص 684، كتاب الإيمان، باب 7: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم 121 [29]19.
(4)
أخرجه البخاري ص 3، كتاب الإيمان، باب 7: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم 13.
فيه}؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟ ! ! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟ ! ! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح:«من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (1)، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة.
13 -
ومن فوائد الآية: إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} ؛ يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك؛ أي قس هذا بهذا.
14 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة؛ وهما «غني» و «حميد» .
القرآن
التفسير:
هذا البخل واختيار الرديء للصدقة من الشيطان الذي يخوفكم الفقر، ويغريكم بالبخل، ويأمركم بالمعاصي ومخالفة الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يعدكم على إنفاقكم غفرانًا لذنوبكم ورزقا واسعا. والله واسع الفضل، عليم بالأعمال والنيَّات.
عن عبد الله بن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لَلَمّة بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان". ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} الآية" (2).
قال ابن عطية: " هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمرا بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره"(3).
قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، أي: الشيطان" يخوفكم بالفقر"(4).
قال ابن عباس: " يقول: لا تنفق مالك وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه"(5).
قال الماوردي: " وهو ما خوّف من الفقر إن أنفق أو تصدق"(6).
قال أبو حيان: " يقول للرجل أمسك فإن تصدّقت افتقرت"(7).
قال ابن كثير: " أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله"(8).
قال القاسمي: " أي يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور"(9).
(1) أخرجه مسلم ص 1009، كتاب الإمارة، باب 10: وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، حديث رقم 4773 [44]1842.
(2)
سنن الترمذي برقم (4074): ص 4/ 288، وسنن النسائي الكبرى برقم (11051)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (40)، وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه ابن ابي حاتم (2810): ص 2/ 529 - 530.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 364.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 333.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2811): ص 2/ 530، والطبري (6168): ص 5/ 571.
(6)
النكت والعيون: 1/ 343.
(7)
البحر المحيط: 2/ 241.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 700.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 208.
قال الصابوني: " أي الشيطان يخوفكم من الفقر إِن تصدقتم ويغريكم بالبخل ومنع الزكاة"(1).
وقيل: "عنى فقر الآخرة وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا شُكوراً وقيل هو بأن يخوفه، الفقر في آخر عمره"(2).
و" ذكر عن سفيان عن منصور: {الشيطان يعدكم الفقر}، قال: طول الأمل"(3).
قال الراغب: " المشهور من (الفقر) عند العامة الحاجة، وأصله كثير الفقار ومن قولهم: فقرته نحو كبدته، وبطنته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة، نحو: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} "(4).
وإن قيل: على أي وجه يتصور وعد الشيطان؟
قيل: إن ذلك تسليط النفس ووساوسه ولهذا قال هاهنا في الشيطان: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} قال في غيرها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لما جريا مجرى واحدا، ال:{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، وقال في أخرى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية" (5).
وروى أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ: " {الفُقر}، بضم الفاء، وهي لغة. وقراء: {الفَقَر}، بفتحتين"(6).
قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، يحتمل وجوها:
إحداها: بالشح، أي "بالبخل ومنع الزكاة"(7).
وقال الكلبي: "كل الفحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا"(8).
قال القاسمي: " والفاحش، عند العرب، البخيل. قال طرفة (9):
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
قال الحراليّ: "الفحشاء كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع"(10)، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء. لمناسبة ذكر الفقر. وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة، ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله" (11).
وقال الراغب: " الفحش والفحشاء كل منكر من المقال والفعال وإن كان قد خصها بعضهم هاهنا بالبخل"(12).
والثاني: بالمعاصي. قاله مقاتل (13) وسعيد بن جبير (14)، وابن المبارك (15)، وحكي نحوه عن ابن عباس (16).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 154.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 565.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (2812): ص 2/ 530.
(4)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 565.
(5)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 565 - 566.
(6)
البحر المحيط: 2/ 241.
(7)
تفسير البغوي: 1/ 333.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 333.
(9)
البيت في ديوانه: 34.
(10)
نقلا عن: محاسن التأويل: 2/ 308.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 308.
(12)
تفسير الراغب: الأصفهاني: 1/ 565. ثم أنشد قول طرفة السابق [ديوانه: 34]:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
(13)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2814): ص 2/ 530
(14)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 530
(15)
أخرجه ابن أبي حاتم (1817): ص 2/ 530.
(16)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2813): ص 2/ 530. ولفظه: ويأمركم بالفحشاء: بالسوء".
أي: " ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته"(1).
قال ابن كثير: " أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق"(2).
والثالث: الزنا (3). قاله ابن عباس (4)، وروي عن الحسن وعكرمة والسدي، نحو ذلك (5).
والرابع: الكلمة السيئة، ومنه قول الشاعر (6):
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم
…
إذا جلسوا منا ولا من سوائنا
قال أبو حيان: " وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق، ويأمره، إذ منع، بالرد القبيح على السائل، وبخه وأقهره بالكلام السيء"(7).
قوله تعالى: {وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} [البقرة: 268]، "أي وهو سبحانه يعدكم على إِنفاقكم في سبيله مغفرةً للذنوب"(8).
قال قتادة: " مغفرة لفحشائكم"(9).
وقال ابن عباس: " {والله يعدكم مغفرة منه}: على هذه المعاصي"(10).
وروي "عن مقاتل بن حيان، قوله: {والله يعدكم مغفرة منه}، لذنوبكم عند الصدقة"(11).
قال ابن كثير: " أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء"(12).
قال أبو حيان: " أي ستراً لذنوبكم مكافأة للبذل"(13).
قال ابن عطية: " والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة"(14).
قوله تعالى: {وفضلًا} ، "أي: زيادة" (15).
وروي عن" ابن عباس: "{والله يعدكم مغفرة منه وفضلا} قال: في الرزق" (16).
وقال قتادة: "فضلا لفقركم"(17).
وقال مقاتل: " يعني: أن يخلفكم نفقاتكم"(18).
(1) تفسير الطبري: 5/ 571.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 700.
(3)
أنظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2815): ص 2/ 530
(5)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 530
(6)
البيت للمرار بن سلامة العقيلي، وهو من شواهد سيبويه، وقد أنشده في كتابه مرتين: إحداهما في (1/ 3) ونسبه للمرار بن سلامة، والثانية في (1/ 302) ونسبه لرجل من الانصار، ولم يعينه.
الفحشاء " الشئ القبيح، وتقول: أفحش الرجل في كلامه، وفحش تفحيشا، وتفحش، إذا أردت أنه يتكلم بقبيح الكلام.
(7)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(9)
أخرجه الطبري (6169): ص 5/ 571، وابن أبي حاتم (2817): ص 2/ 530.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2816): ص 2/ 530.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2818): ص 2/ 531.
(12)
تفسير ابن كثير: 1/ 700.
(13)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(14)
المحرر الوجي: 1/ 364.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 347.
(16)
أخرجه ابن ابي حاتم (2819): ص 2/ 531.
(17)
أخرجه ابن أبي حاتم (2820): ص 2/ 531.
(18)
أخرجه ابن أبي حاتم (2821): ص 2/ 531.
قال البغوي: " أي رزقا خلفا"(1).
قال ابن كثير: "أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر"(2).
قال القاسمي: " خلفا وثوابا في الآخرة"(3).
قال الصابوني: " وخلفاً لما أنفقتموه زائداً عن الأصل"(4).
قال أبو حيان: " زيادة على مقتضى ثواب البذل. وقيل: وفضلاً، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثواباً عليه في الآخرة"(5).
قال ابن عطية: "والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل [أي بالمغفرة والفضل] قد وعد الله تعالى"(6).
قال ابن عثيمين: "فالصدقة تزيد المال؛ لقوله تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» (7) "(8).
قال أبو حيان: ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين: أحدهما: الستر لما اجترحوه من الذنوب، والثاني: الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة" (9).
وذكر النقاش: "أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه"(10)، قال ابن عطية: "وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقه:
وهو وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] " (11).
قال الراغب: " إن قيل: من حق مقابلة اللفظ في قوله {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أن يقول (والله يعدكم الغنى)، ويأمركم بالمعروف أو بالبر فليست المغفرة مقابلة للفقر ولا الفضل للفحشاء وإن كان مقابلاً به، فلم لم يذكر في:(الله يأمركم)، والله يأمركم والله في الحقيقة يأمر فأما الشيطان فهو المسؤول الموسوس؟
قيل: قابل الفقر بالمغفرة والفضل، والفضل أعم من الغنى، لأنه يتناوله وغيره، فبين أنه يعد بالغنى وزيادات فضل فأتى في مقابلة وعد الشيطان بالمغفرة، أنه يغفر مع ذلك انقيادكم للشيطان، وسائر الذنوب ولما كان أمر الشيطان بالفحشاء إنما هو لأجل وعده بالفقر لأن من خاف بخل بماله، والبخل سبب ارتكاب سائر الفواحش ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:" وأي داء أدوى من البخل؟ "(12)، صار مستغنى أن يذكر
(1) تفسير البغوي: 1/ 333.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 700.
(3)
محاسن التأويل: 2/ 208.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(5)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 364.
(7)
أخرجه مسلم ص 1130، كتاب البر والصلة، باب 19: استحباب العفو والتواضع، حديث ربم 6592 [69]2588.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 347.
(9)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 364.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 364.
(12)
هذا المثل جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 111/ح 296 عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَن سَيدُكُم يَا بَني سَلَمَةَ؟ ) قُلنا: جَدُ بن قَيسٍ، عَلى أنَّا نُبَخِّلَهُ. قال:(وَأَيُ دَاءٍ أَدوَى مِنَ البُخلِ، بَلْ سَيِدُكُم: عَمرو بن الجَمُوح) وكانَ عَمرو عَلى أَصنَامِهم في الجَاهِليةِ، وكانَ يُولِمُ عَن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذا تَزَوجَّ.)). وصححه ابن حجر في تغليق التعليق على صحيح البخاري: 3/ 346، والرباني في صحيح الأدب المفرد برقم:296.
في مقابله: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بما ذكر من قوله: {مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} لأن أمر الله تعالى بالخيرات والحسنات معلوم وإنما المجهول أمر الشيطان، إذ كان أمره يخفى على الجهال وإنما يعرفه أولوا الألباب" (1).
قوله تعالى: {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، " أي: واسع بالجود والفضل على من أنفق، عليم بنيات من أنفق" (2).
قال أبو حيان: "وقيل: عليم أين يضع فضله"(3).
أي: والله {وَاسِعٌ} "يوسع على من يشاء، {عَلِيمٌ} بأفعالكم ونياتكم"(4).
قال الطبري: " {والله واسع}، الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه {عليم} بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم"(5).
قال القاسمي: " وَاللَّهُ واسِعٌ قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه عَلِيمٌ بصدقاتكم. فلا يضيع أجركم"(6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: إثبات إغواء الشياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} .
2 -
ومنها: أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً، أو إحجاماً؛ أما الإقدام: فيأمره بالزنى مثلاً، ويزين له حتى يُقْدم عليه؛ وأما الإحجام: فيأمره بالبخل، ويعده الفقر لو أنفق؛ وحينئذٍ يحجم عن الإنفاق.
3 -
ومنها: أن أبواب التشاؤم لا يفتحها إلا الشياطين؛ لقوله تعالى: {يعدكم الفقر} ؛ فالشيطان هو الذي يفتح لك باب التشاؤم يقول: «إذا أنفقت اليوم أصبحت غداً فقيراً؛ لا تنفق» ؛ والإنسان بشر: ربما لا ينفق؛ ربما ينسى قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39]، وقول رسوله (ص):«ما نقصت صدقة من مال» .
4 -
ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان؛ لأنه في الواقع عدو له في الخبر، وعدو له في الطلب؛ في الخبر: يعده الفقر؛ في الطلب: يأمره بالفحشاء؛ فهو عدو مخبراً، وطالباً - والعياذ بالله.
5 -
ومنها: أن البخل من الفواحش؛ لأن المقام مقام إنفاق؛ فيكون المراد بالفاحشة: البخل، وعدم الإنفاق.
6 -
ومنها: أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع؛ فهو شبيه بالشيطان؛ وكذلك من أمر غيره بالإسراف فالظاهر أنه شيطان؛ لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} [الإسراء: 27].
7 -
ومنها: البشرى لمن أنفق بالمغفرة، والزيادة؛ لقوله تعالى:{والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ شتان ما بين الوعدين: {الشيطان يعدكم الفقر} ؛ {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ فالله يعدنا بشيئين: المغفرة، والفضل؛ المغفرة للذنوب؛ والفضل لزيادة المال في بركته، ونمائه.
فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً؛ فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة؛ فما وجه الزيادة؟
(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 566.
(2)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(3)
تفسير البحر المحيط: 2/ 241.
(4)
تفسير النسفي: 1/ 140.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 575.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 208.
فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يربيها له حتى تكون مثل الجبل؛ وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال؛ فيزداد ماله.
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه؛ وهذا مشاهد؛ فالإنفاق يقي المال الآفات.
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل، وتكون ثمرته أكثر من الكثير؛ وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه؛ أو تضره؛ وهذا شيء مشاهد.
8 -
ومنها: أن هذه المغفرة التي يعدنا الله بها مغفرة عظيمة؛ لقوله تعالى: {منه} ؛ لأن عظم العطاء من عظم المعطي؛ ولهذا جاء في الحديث الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني» (1).
9 -
ومنها: أنه ينبغي للمنفق أن يتفاءل بما وعد الله؛ لقوله تعالى: {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ فإذا أنفق الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل أن الله يغفر له الذنوب، ويزيده من فضله كان هذا من خير ما تنطوي عليه السريرة.
10 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: {واسع} ، و {عليم} ؛ وما تضمناه من صفة؛ ويستفاد من الاسمين، والصفتين إثبات صفة ثالثة باجتماعهما؛ لأن الاسم من أسماء الله إذا قرن بغيره تضمن معنًى زائداً على ما إذا كان منفرداً مثل قوله تعالى:{فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء: 149]؛ فالجمع بين العفْوِ والقدرة لها ميزة: أن عفوه غير مشوب بعجز إطلاقاً؛ لأن بعض الناس قد يعفو لعجز؛ فقوله تعالى: {واسع عليم} : فالصفة الثالثة التي تحصل باجتماعهما: أن علمه واسع.
القرآن
التفسير:
يؤتي الله الإصابة في القول والفعل مَن يشاء من عباده، ومن أنعم الله عليه بذلك فقد أعطاه خيرًا كثيرًا. وما يتذكر هذا وينتفع به إلا أصحاب العقول المستنيرة بنور الله وهدايته.
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 269]، أي: يعطي الحكمة لمن يشاء من عباده (2).
قال المراغي: " أي إنه تعالى يعطى الحكمة والعلم النافع المصرّف للإرادة لمن يشاء من عباده، فيميز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، وفهم الأمور"(3).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن حميد بن عبد الله بن زيد المزي قال: قضى علي بن أبي طالب بقضية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبته، فقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت"(4).
(1) أخرجه البخاري ص 834، كتاب الأذان، باب 149: الدعاء قبل السلام، حديث رقم 834؛ وأخرجه مسلم 1148، كتاب الذكر والدعاء، باب 14: الدعوات والتعوذ، حديث رقم 6869 [48]2705.
(2)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 330، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 351.
(3)
تفسير المراغي: 1/ 519.
(4)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2830): ص 2/ 533.
وقرأ الربيع بن خيثم بالتاء في: {تؤتي} ، وفي:{تشاء} ، على الخطاب، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب (1).
وقد جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
1 -
العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل.
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد (2).
2 -
والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (3).
3 -
والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب (4).
4 -
والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل (5).
5 -
والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (6).
6 -
والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزداد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه، ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (7).
7 -
والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (8).
8 -
والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد (9).
ومما تقدم يتضح ويتبين أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع: فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم، والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب، والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل، والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير
(1) أنظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 242.
(2)
القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المتوفى سنة 817 هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص 1415، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم ص 62.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم 1/ 119، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 140، والمعجم الوسيط، مادة: حكم، 1/ 190.
(4)
انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص 62.
(5)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم،
1/ 419.
(6)
المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم، ص 127.
(7)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/ 288، بتصرف يسير.
(8)
انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة 770 هـ، مادة: الحكم،
1/ 145، وتاج العروس، 8/ 253.
(9)
مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، 2/ 91، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.
اللَّه، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها اللَّه تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله:"الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه"(1).
واختلف أهل التفسير في {الْحِكْمَةَ} ، في هذا الموضع، على وجوه (2):
أحدها: الفقه في القرآن، قاله ابن عباس (3)، وقتادة (4)، وأبي العالية (5)، ومجاهد (6)، وروي نحوه عن أبي الدرداء (7)، ومقاتل (8)، والحسين بن واقد (9).
والثاني: العلم بالدين، قاله ابن زيد (10)، ومالك (11).
قال الصابوني: " أي يعطي العلم النافع المؤدي إِلى العمل الصالح من شاء من عباده"(12).
والثالث: النبوّة. قاله السدي (13)، وأبو سنان (14).
والرابع: الخشية، قاله الربيع (15)، وأبو العالية (16)، وسعيد بن جبير (17)، وروي نحوه عن مطر بن الوراق (18).
والخامس: الإصابة في القول والفعل، قاله مجاهد (19).
قال الزمخشري: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} ، أي:"يوفق للعلم والعمل به"(20).
(1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، 2/ 7.
(2)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 576 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 344 - 345.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6177): ص 5/ 576، و (6182): ص 5/ 577، وابن ابي حاتم (2822): ص 2/ 531.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6178)، و (6179): ص 5/ 576، ونحوه ابن أبي حاتم (2833): ص 2/ 533، و (2834): ص 2/ 533، ولفظه:" القرآن".
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6180): ص 5/ 576 - 577.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6181): ص 5/ 577، وابن ابي حاتم (2823): ص 2/ 531.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2831): ص 2/ 533. ولفظه: " قراءة القرآن، والفكرة فيه".
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2832): ص 2/ 533. ولفظه: " قراءة القرآن ظاهرا".
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (2835): ص 2/ 533. ولفظه: " استظهار القرآن".
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6186)، و (6187): ص 5/ 578.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6188): ص 5/ 578، وابن ابي حاتم (2829): ص 2/ 532، ونحو هذا المعنة أخرجه ابن أبي حاتم (2837): ص 2/ 534. ولفظه: "العلم: الحكمة، نور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل".
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 154.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6192): ص 5/ 579، وابن ابي حاتم (2828): ص 2/ 532، ونقله ابن عطية في: المحرر الوجيز: 1/ 364.
(14)
أخرجه ابن ابي حاتم (2840): ص 2/ 534.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6191): ص 5/ 578.
(16)
ابن ابي حاتم (2824): ص 2/ 531. ولفظه: " الحكمة: الخشية، فإن خشية الله رأس كل حكمة".
ذكر السيوطي في الدرّ (2/ 66): " وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية {يؤت الحكمة} قال: الخشية لأن خشية الله رأس كل حكمة وقرأ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. [سورة فاطر: 28] ". بزيادة لفظ {وقرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). [سورة فاطر: 28] "، ولكنني لم اجد هذه الزيادة، إلا في روياة الطبري عن الربيع (6191): 5/ 578: "حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " الآية، قال: " الحكمة " الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . [سورة فاطر: 28].
(17)
أنظر: الدر المنثور: 2/ 67. أخرجه ابن منذر.
(18)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2836): ص 2/ 533، ولفظه:"بلغنا أن الحكمة خشية الله، والعلم بالله".
(19)
أنظر: تفسير الطبري (6183)، و (6184)، و (6185): ص 5/ 577، وابن ابي حاتم (2825): ص 2/ 532.
(20)
تفسير الكشاف: 1/ 316.
والسادس: الكتابة، قاله مجاهد (1).
والسابع: العقل، قاله زيد بن أسلم (2).
الثامن: الفهم. قاله إبراهيم (3).
التاسع: أن تكون الحكمة هنا صلاح الدين وإصلاح الدنيا. قاله الماوردي (4).
العاشر: السنة. قاله السدي (5).
قال ابن عطية: "وهذه الأقوال كلها -ما عدا قول السدي-، قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس"(6).
وقال القرطبي: " وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي (7) والربيع (8) والحسن (9)، قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم. وفي البخاري: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" (10) "(11).
قال ابن كثير: " والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع، كما جاء في بعض الأحاديث: "من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه" (12) "(13).
وقال الحافظ ابن حجر: " وأصحّ ما قيل في الحكمة أنها: وضع الشيء في محله أو الفهم في كتاب الله"(14).
قال الزمخشري: "والحكيم عند اللَّه: هو العالم العامل"(15).
(1) نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 344.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2829): ص 2/ 532.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6190): ص 5/ 578، وابن ابي حاتم (2826): ص 2/ 532.
(4)
انظر: النكت والعيون: 1/ 345.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (2827): ص 2/ 532.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 364.
(7)
أي: العلم: النبوة. [انظر: تفسير القرطبي: 3/ 330]. وسبق تخريجه.
(8)
أي الحكمة: الخشية. [انظر: تفسير القرطبي: 3/ 330]. وسبق تخريجه.
(9)
أي: الحكمة الورع. [انظر: تفسير القرطبي: 3/ 330]. نقله عنه.
(10)
صحيح البخاري: (71): ص 1/ 39.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 330.
(12)
الحديث ضعيف مرفوعا، أنظر: السلسلة الضعيفة (11/ 199 - 201/ 5118) ..
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 701.
(14)
وهذا غاية التحقيق في معنى الحكمة، فقد قيل في معناها أقوال كثيرة، انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 576 - 579، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 3/ 1099 - 1204، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 186 أ، البسيط للواحدي: 1/ 88 أو: 1/ 160 ب، معاني القرآن للنحاس: 1/ 298، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 334، النكت والعيون للماوردي: 1/ 344، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 324، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 329 - 330، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 330، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 398، مدارج السالكين لابن القيم: 2/ 478 - 479. والذي يظهر أن الحكمة حكمتان، الأولى: علمية، وهي: الفهم والعلم والاطلاع على بواطن الأشياء. والأخرى عملية، وهي: فعل الصواب، ووضع الشيء في محله، وقد أفاد ذلك ابن القيم في مدارج السالكين: 2/ 479، والرازي في مفاتيح الغيب: 7/ 73، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 330، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 320.
(15)
تفسير الكشاف: 1/ 316.
وقال القاسمي: "قال كثيرون: الحكمة إتقان العلم والعمل. وبعبارة أخرى معرفة الحق والعمل به، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولبّ وإصابة رأي. وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل. ويقال: أمر حكيم، أي محكم. وهو فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] "(1).
قال ابن عثيمين: "و {الحكمة} مِن أحكم بمعنى أتقن؛ وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وتستلزم علماً، ورشداً، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة؛ والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة"(2).
وقال الطبري: (الحكمة): من (الحكم) وفصل القضاء، وأنها الإصابة
…
وإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه، لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، " والنبوة " بعض معاني (الحكمة) " (3).
وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة (4)(5)، وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو:"الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه".
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبين الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهماً، خاشياً للَّه، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه
…
والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - مسددون، مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (6).
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، "أي: من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً" (7).
(1) محاسن التأويل: 2/ 209.
(2)
تفسير ابن عثيمن: 3/ 351.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 579.
(4)
انظر: تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، أبو حيان الأندلسي، 2/ 320.
(5)
انظر: تفسير مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية في المصادر التالية: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 1/ 436، 3/ 60، 61، وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري المطبوع بهامش تفسير الطبري، 1/ 413، وتفسير البغوي، 1/ 256، 1/ 116، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، 1/ 324، 1/ 146، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 2/ 131، 3/ 60، 61، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/ 184، 1/ 323، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي، 1/ 387، 3/ 41، وفتح القدير للشوكاني، 1/ 289، 1/ 144، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا، 1/ 472، 2/ 29، 3/ 75، 3/ 263، وتفسير المراغي، 1/ 214، 2/ 19، 3/ 41، وتفسير السعدي، 1/ 173، 1/ 290، 6/ 154، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، 1/ 312، 1/ 139، 399، 2/ 997، وصفوة المفاهيم والآثار لعبد الرحمن الدوسري، 2/ 360، 416، 3/ 498، 499، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 6/ 66، 67،
9/ 22/ 23، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 19/ 170، ومدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478، 479، والتفسير القيم لابن القيم، ص 227، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 1/ 67، 70، 6/ 531، 7/ 100، 10/ 522، 529/ 540، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 7/ 33، 6/ 98، 15/ 12، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182، 7/ 58، 10/ 327، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354، 355.
(6)
انظر: تفسير الطبري، 1/ 436، 3/ 61.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 351.
قال مكحول: "إن القرآن جزء من اثنين وسبعين جزءا من النبوة، وهو الحكمة التي قال الله: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} "(1).
قال الزمخشري: " و {خَيْراً كَثِيراً} تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتى أىّ خير كثير"(2)(3).
قال أبو حيان: " وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى، وللاعتناء بها، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها"(4).
قال القاسمي: "وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله هو من آتاه الله الحكمة"(5).
قال القرطبي: " يقال: إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: "{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم. وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا، لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وسمى العلم والقرآن {خَيْراً كَثِيراً} " (6).
قال ابن عثيمين: " فإن قال قائل: ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} ، وقوله تعالى:{ومن يؤت الحكمة} ؟
فالجواب: - والله أعلم - أن الحكمة قد تكون غريزة؛ وقد تكون مكتسبة؛ بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلاً عن الناس؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي - سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل، أو من قِبل الممارسة والتجارب؛ على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب" (7).
وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة: 269]، فيه ثلاثة قراءات (8):
الأولى: قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهو ضمير: من، وهو المفعول الأول: ليؤت.
الثانية: وقرأ الزهري ويعقوب: {وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ} ، بكسر التاء مبنيا للفاعل.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2839): ص 2/ 534.
(2)
تفسير الكشاف: 1/ 316.
(3)
اعترض عليه أبو حيان قائلا: " وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره، أي خير كثير، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف، أي: فقد أوتي خيراً، أي خير، كثير. ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف، تقول: مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر [الدر المصون: 2/ 606، وهمع الهوامع: 1/ 92، والدر اللوامع: 1/ 70]:
دعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي
…
وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاذاً وَمَوْئِلاً
وإذا تقرر هذا، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه؟ أي: إذا كانت صفة، فتقول: مررت برجل أيّ رجل كريم، أو لا يجوز؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي، وأيضاً ففي تقديره: أي خير كثير، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة، ولا يجوز ذلك إلاّ في ندور، لا تقول: رأيت أي رجل، تريد رجلاً، أي رجل إلاّ في ندور نحو قول الشاعر [ديوان الفرزدق: 1/ 417]:
إذا حارب الحجّاج أيّ منافق
…
علاه بسيف كلّما هزّ يقطع
يريد: منافقاً، أي منافق، وأيضاً: ففي تقديره: خيراً كثيراً أيّ كثير، حذف أي الصفة، وإقامة المضاف إليه مقامها، وقد حذف الموصوف به، أي: فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل". [البحر المحيط: 2/ 242].
(4)
البحر المحيط: 2/ 242.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 209.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 330 - 331.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 351.
(8)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 242، وتفسير القرطبي: 3/ 331.
قال الزمخشري: "بمعنى: ومن يؤته اللَّه الحكمة"(1). قال أبو حيان: " فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك، ليس في يؤت ضمير نصب حذف، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط، كما تقول: أياً تعط درهماً أعطه درهماً"(2).
الثالثة: وقرأ الأعمش: {ومن يؤته الحكمة} ، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول: ليؤت، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في: يؤت، عائد على الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، أي "ما يتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الذين يتصرفون تصرفاً رشيداً"(3).
قال ابن كثير: " أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام"(4).
قال الزمخشري: " يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق"(5).
قال القاسمي: أي: وما " يتعظ بأمثال القرآن والحكم، [إلا] ذوو العقول من الناس، الخالصة من شوائب الهوى. وهم الحكماء"(6).
قال الطبري: " فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول"(7).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: {يؤتي الحكمة} ؛ وهذه من الصفات الفعلية.
2 -
ومنها: أن ما في الإنسان من العلم والرشد فهو فضل من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} ؛ فإذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم، ورشد، وقوة، وقدرة، وسمع، وبصر فلا يترفع؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل؛ ولو شاء الله لحرمه إياها، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها؛ فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه؛ وربما يسلب منه الحكمة؛ فتكون كل تصرفاته طيشاً، وضلالاً، وهدراً.
3 -
ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {من يشاء} ؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30].
4 -
ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل؛ لأن الحكمة كمال؛ ومعطي الكمال أولى به؛ فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق.
5 -
ومنها: الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة؛ لقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} .
6 -
ومنها: وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر.
7 -
ومنها: أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق؛ فقد يكون غريزياً جبل الله العبد عليه؛ وقد يكون كسبياً يحصل بالمران، ومصاحبة الحكماء.
(1) تفسير الكشاف: 1/ 316.
(2)
البحر المحيط: 2/ 242.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 351.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 701.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 316.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 209.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 580.
8 -
ومنها: منّة الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة؛ لقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} .
9 -
ومنها: فضيلة العقل؛ لقوله تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} ؛ لأن التذكر بلا شك يحمد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلا من صاحب العقل دل ذلك على فضيلة العقل؛ والعقل ليس هو الذكاء لأن العقل نتيجته حسن التصرف - وإن لم يكن الإنسان ذكياً؛ والذكاء؛ قوة الفطنة - وإن لم يكن الإنسان عاقلاً؛ ولهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلاً، ولا كل عاقل ذكياً؛ لكن قد يجتمعان؛ وقد يرتفعان؛ وهناك عقل يسمى عقل إدراك؛ وهو الذي يتعلق به التكليف، وهذا لا يلحقه مدح، ولا ذم؛ لأنه ليس من كسب الإنسان.
10 -
ومن فوائد الآية: أن عدم التذكر نقص في العقل - أي عقل الرشد؛ لقوله تعالى: {وما يذَّكر إلا أولو الألباب} ؛ فإن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، ونقص بنقص ذلك الوصف.
11 -
ومنها: أنه لا يتعظ بالمواعظ الكونية أو الشرعية إلا أصحاب العقول الذين يتدبرون ما حصل من الآيات سابقاً، ولاحقاً؛ فيعتبرون بها؛ وأما الغافل فلا تنفعه.
القرآن
التفسير:
وما أعطيتم من مال أو غيره كثير أو قليل تتصدقون به ابتغاء مرضات الله أو أوجبتم على أنفسكم شيئًا من مال أو غيره، فإن الله يعلمه، وهو المُطَّلِع على نياتكم، وسوف يثيبكم على ذلك. ومَن منع حق الله فهو ظالم، والظالمون ليس لهم أنصار يمنعونهم من عذاب الله.
قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} [البقرة: 270]، " يعني أي صدقة تصدقتم"(1).
قال البغوي: " فيما فرض الله عليكم"(2).
قال الصابوني: " أي ما بذلتم أيها المؤمنون من مال"(3).
قوله تعالى: {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} [البقرة: 270]، أي:" أو نذرتم من شيء في سبيل الله"(4).
قال البغوي: "أي: ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به"(5).
قال الطبري: " يعني " بالنذر "، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة أو عمل خير"(6).
قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، أي:" فإِن الله يعلمه ويجازيكم عليه"(7).
قال الآلوسي: "كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم"(8).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، ثلاثة اوجه (9):
الأول: قال مجاهد: "يحصيه"(10).
الثاني: قال الزجاج: "يجازي عليه"(11).
(1) تفسير الطبري: 5/ 580.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 335.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 335.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 580.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(8)
روح المعاني: 2/ 42.
(9)
أنظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 243.
(10)
أخرجه الطبري (6193)، و (6194): ص 5/ 581، وابن ابي حاتم (2841): ص 2/ 535.
(11)
تفسير البحر المحيط: 2/ 243.
والثالث: وقيل: يحفظه (1).
قال البغوي: "يحفظه حتى يجازيكم به"(2).
قال أبو حيان: "وهذه الأقوال متقاربة"(3).
قال البغوي: " وإنما قال: يعلمه، ولم يقل: يعلمها لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} [النساء: 112]، وإن شئت حملته على (ما) كقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [[البقرة: 231]، ولم يقل بهما"(4).
وقال الطبري: " فإن قال لنا قائل: فكيف قال: {فإن الله يعلمه}، ولم يقل: (يعلمهما)، وقد ذكر النذر والنفقة، قيل: إنما قال: {فإن الله يعلمه}، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية"(5).
وقد ذكر أهل اللغة في التقدير في قوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، وجهين (6):
الأول: قال النحاس: "التقدير {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} فإن الله يعلمها، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ثم حذف"(7).
الثاني: ويجوز أن يكون التقدير: وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على "ما" كما أنشد سيبويه لامرئ القيس:
فَتُوِضحَ فَالِمقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا
…
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ (8)
ويكون {أو نذرتم من نذر} معطوفا عليه. قال ابن عطية: "ووحد الضمير في {يعلمه} وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص"(9).
قال القرطبي: " وهذا حسن: فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر. والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر - بضم الذال - وينذر - بكسرها -. وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى"(10).
قال أبو حيان: " وتضمنت هذه الآية وعداً ووعيداً بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا، ومن نفقة"(11).
قال القرطبي: " أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا"(12).
قال الشوكاني: " فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول والوعيد لمن جاء بعكس ذلك ووحد الضمير مع كون مرجعه شيئين هما النفقة والنذر لأن التقدير وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه"(13).
(1) أنظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 243.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 335.
(3)
تفسير البحر المحيط: 2/ 243.
(4)
تفسير البغوي: 1/ 335.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 581.
(6)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 331 - 332.
(7)
تفسير القرطبي: 3/ 331.
(8)
شرح المعلقات السبع: 13 - 14.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 365.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 332.
(11)
البحر المحيط: 2/ 243.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 313.
(13)
فتح القدير: 1/ 290.
قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]،
قال البغوي: أي: وليس للـ"واضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء أو يتصدقون من الحرام، [من] أعوان يدفعون عذاب الله عنهم "(1).
قال الصابوني: " أي: وليس لمن منع الزكاة أو صرف المال في معاصي الله، من معين أو نصير ينصرهم من عذاب الله"(2).
قال الطبري: " وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته .. [من] من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية (3).
قال القاسمي: {وَما لِلظَّالِمِينَ} : " أي: الذين ينفقون رئاء الناس، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه. أو بضم المنّ والأذى إليه، أو بالإنفاق من الخبيث، أو يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور"(4).
قال المراغي: " أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل، أو من رذيلة المن والأذى، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة - من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم، وهذا كقوله: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} "(5).
قال الآلوسي: {وَما لِلظَّالِمِينَ} : " أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى، والمتحرين للخبيث في الإنفاق، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى"(6).
و(الظالم): "هو الواضع للشيء في غير موضعه، وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته، ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه"(7).
وقوله تعالى: {مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]، أي من:"أعوان يدفعون عذاب الله عنهم"(8).
قال القاسمي: " أي من أعوان ينصرونهم من عقاب الله"(9).
قال الآلوسي: " أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة"(10).
قال الحراليّ: "ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخيّ وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيرا ولا يجد الظالم، بوضع القهر موضع البر، ناصرا"(11).
وقال شريح: " الظالم ينتظر العقوبة، والمظلوم ينتظر النصر"(12).
(1) تفسير البغوي: 1/ 335.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 581.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 209.
(5)
تفسير المراغي: 1/ 521.
(6)
روح المعاني: 2/ 42.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 581.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 335.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 209.
(10)
روح المعاني: 2/ 42.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 209.
(12)
أخرجا ابن ابي حاتم (2824): ص 2/ 535.
واختلف في تفسير (الظَّالِمِينَ) في هذه الآية على وجوه (1):
الأول: هم المشركون. قاله مقاتل (2).
الثاني: وقال أبو سليمان الدمشقي: "هم المنفقون بالمن والأذى والرياء، والمبذورن في المعصية"(3).
الثالث: وقيل: المنفقو الحرام (4).
قال أبو حيان: ظاهره العموم، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله" (5).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء؛ وذلك لقوله تعالى: {وما أنفقتم من نفقة} ، وكلمة {نفقة} نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعم؛ وعلى ذلك تشمل القليل، والكثير؛ لكن الثواب عليها مشروط بأمرين: الإخلاص لله؛ وأن تكون على وفق الشرع.
2 -
ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله؛ لقوله تعالى: {فإن الله يعلمه} ؛ لأنك إذا أنفقت وأنت تشعر أن الله يعلم هذا الإنفاق فسوف تحتسب الأجر على الله.
3 -
ومنها: أن ما نذره الإنسان من طاعة فهو معلوم عند الله.
4 -
هل تدل الآية على جواز النذر؟
الجواب: الآية لا تدل على الجواز، كما لو قال قائل مثلاً:«إن سرَقتَ فإن الله يعلم سرقتك» ؛ فإن هذا لا يعني أن السرقة جائزة؛ وعلى هذا فالآية لا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر (6)؛ لأن النهي عن النذر يعني إنشاءه ابتداءً؛ فأما الوفاء به فواجب إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (7).
5 -
ومنها: عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان، أو ينذره من قليل، أو كثير.
6 -
ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه تدخل إطلاقاً؛ وجه ذلك: أنه إذا كان الله يعلمه فلا بد أن يقع على حسب علمه؛ وإلا لزم أن يكون الله غير عالم؛ ولهذا قال بعض السلف: جادلوهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا.
7 -
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم؛ لقوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} ؛ ولا يرد على هذا ما وقع في أُحد من انتصار الكافرين لوجهين:
الوجه الأول: أنه نوع عقوبة، حيث حصل من بعض المسلمين عصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152].
الوجه الثاني: أن هذا الانتصار من أجل أن يمحق الله الكافرين؛ لأن انتصارهم يغريهم بمقاتلة المسلمين؛ حتى تكون العاقبة للمسلمين، كما قال تعالى:{وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران: 141].
(1) انظر: البحر المحيط: 2/ 243.
(2)
نقلا عن: البحر المحيط: 2/ 243.
(3)
البحر المحيط: 2/ 243.
(4)
انظر: البحر المحيط: 2/ 243.
(5)
البحر المحيط: 2/ 243.
(6)
راجع البخاري ص 553، كتاب القدر، باب 6: إلقاء العبد النذر إلى القدر، حديث رقم 6608؛ ومسلماً ص 964، كتاب النذر، باب 2: النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً، رقم 4237 [2]1639.
(7)
أخرجه البخاري ص 559، كتاب الإيمان والنذور، باب 28: النذر في الطاعة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر)، حديث رقم 6696.
8 -
ومن فوائد الآية: أن من دعا على أخيه وهو ظالم له فإن الله لا يجيب دعاءه؛ لأنه لو أجيب لكان نصراً له؛ وقد قال تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21].
9 -
ومنها: الثواب على القليل، والكثير؛ وفي القرآن ما يشهد لذلك، مثل قوله تعالى:{ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 121]، وقوله تعالى في آخر سورة الزلزلة:{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7، 8].
القرآن
التفسير:
إن تظهروا ما تتصدقون به لله فنِعْمَ ما تصدقتم به، وإن تسرُّوا بها، وتعطوها الفقراء فهذا أفضل لكم؛ لأنه أبعد عن الرياء، وفي الصدقة -مع الإخلاص- محو لذنوبكم. والله الذي يعلم دقائق الأمور، لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وسيجازي كلا بعمله.
وفي سبب نزول الآية أقوال (1):
أحدها: قال الكلبي: "لما نزلت: {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ} الآية قالوا: يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} "(2).
والثاني: أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم قال: أنزلت في أبي بكر وعمر، أما عمر فجاء بنصف ماله، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟ قال: خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر فجاء بماله كله، يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ قال: عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر، وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، ما استبقنا إلى باب خير قط، إلا كنت سابقنا اليه" (3).
قال السيوطي: " وقصة إتيان أبي بكر وعمر بالمال وردت من طريق موصولة، ولكن ليس فيها ذكر نزول الآية أخرجها أبو داود (4)، وصححها الترمذي (5)، والحاكم (6)، من رواية زيد ين أسلم عن أبيه عن عمر به"(7).
(1) أنظر: أسباب النزول للواحدي: 89، والبحر المحيط: 2/ 244.
(2)
أسباب النزول للواحدي: 89، والعجاب في بيان الأسب: 1/ 627، حديث مرسل جيد الإسناد، وقد وصله ابن أبي حاتم وانظر: تفسير ابن كثير: 10/ 323، وفتح القدير: 1/ 293، عن ابن عباس رضي الله عنهما ويشهد له: ما أخرجه النسائي وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي (فتح القدير: 1/ 293) والحاكم (المستدرك: 2/ 285) والطبراني (المعجم الكبير: 12/ 54 - ح 12453) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم وهم مشركون فأنزل الله عليهم، صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا (وانظر حاشية معجم الطبراني الكبير: 12/ 54).
(3)
تفسير ابن ابي حاتم (2848): ص 2/ 536، حديث منقطع، وانظر: العجاب في بيان الاسباب: 1/ 628، وزاد السيوطي: 2/ 85، نسبته إلى ابن مردويه والأصبهاني في "الترغيب"وابن عساكر.
(4)
في سننه، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك بعد باب الرجل يخرج من ماله (1678): ص 2/ 129.
(5)
في "جامعه" كتاب "المناقب" باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (3675): ص 574/ 5، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".
(6)
في "مستدركه"، كتاب "الزكاة" "1/ 414" وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(7)
العجاب في بيان الأسباب: 1/ 628.
الثالث: وروي عن يزيد بن ابي حبيب: "إنما نزلت هذه الآية: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}، في الصدقة على اليهود والنصارى"(1).
قوله تغالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271]، " أي: إن تظهروا إعطاء الصدقات" (2).
قال الطبري: " إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه"(3).
قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، أي:" فنعم الشيء هي"(4).
قال ابن عطية: " ثناء على إبداء الصدقة"(5).
وقوله تعالى: {نِعِمّا} [البقرة: 271]، في إعرابه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن (ما) بعد (نعم) معرفة تامة، والتقدير: نعم الشيء، فبولغ فيه (6).
وهذا التقدير مبني على أن (ما) بعد (نعم) معرفة تامة، لا تفتقر إلى صلة، في محل رفع فاعل بالفعل و (هي) مخصوص بالمدح، والمعنى: إن تبدو الصدقات بينكم فنعم الشيء إبداؤها، فالإبداء هو المخصوص بالمدح، إلا أنه حذف وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، وهذا القول أي: أن (ما) معرفة تامة في محل رفع فاعل.
قال به سيبويه (7) والمبرد وابن السراج في آخرين (8).
الثاني: وذهب آخرون إلى أن (ما) نكرة تامة غير موصوفة في محل نصب تمييز للفاعل المستتر وجوباً، والمفسر (ما)، و (هي) مخصوص بالمدح، والمعنى: إن تبدو الصدقات بينكم فنعم شيئاً إبداؤها.
وهذا قول أبي علي الفارسي (9) والواحدي (10) وابن عطية (11) وأبي حيان (12).
الثالث: وذهب الفراء (13) إلى أن (ما) لا موضع لها من الإعراب، وأنها مع (نعم) ركبت تركيباً واحداً كحبذا، وجمهور المحققين على خلاف هذا القول (14).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] على وجوه (15):
احدها: {فَنِعِمَّا} بكسر النون، والعين ساكنة. قرأه نافع في غير رواية ورش وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضّل.
والثاني: {فَنِعِمَّا هِيَ} بكسر النون والعين. قرأه ابن كثير وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية ورش.
والثالث: {فَنِعِمَّا هِيَ} بفتح النون وكسر العين. قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي، وكلّهم شدّد الميم (16).
(1) أخرجه الطبري (6199): ص 5/ 583.
(2)
البحر المحيط: 2/ 244، وانظر: روح المعاني: 2/ 43.
(3)
تفسير الطبري: 5/ 582.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 582.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 365.
(6)
وهذا تقدير الزجاج في معاني القرآن: 1/ 354، والطبري في جامع البيان: 5/ 582، والعكبري في إملاء ما من به الرحمن: 1/ 115.
(7)
الكتاب لسيبويه: 1/ 73.
(8)
أنظر: مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 78، الكشاف للزمخشري: 1/ 397، مشكل إعراب القرآن لمكي: 1/ 141.
(9)
الحجة للفارسي: 2/ 298.
(10)
البسيط للواحدي: 1/ 161.
(11)
المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 333.
(12)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 244.
(13)
معاني القرآن للفراء: 1/ 57.
(14)
أنظر: شرح الكافية الشافية لابن مالك: 2/ 1113، أوضح المسالك لابن هشام: 3/ 279، قطر الندى له: 35، همع الهوامع للسيوطي: 5/ 39.
(15)
الحجة للقراءة السبعة: 2/ 396.
(16)
انظر: السبعة: 190.
قال أبو عليّ: "من قرأ {فَنِعِمَّا} ، بسكون العين من (فَنِعِمَّا) لم يكن قوله مستقيما عند النحويين، لأنّه جمع بين ساكنين، الأول منهما ليس بحرف مدّ ولين، والتقاء الساكنين عندهم إنّما يجوز إذا كان الحرف الأول منهما حرف لين، نحو: دابّة وشابّة، وتمودّ الثوب، وأصيم (1)، لأنّه ما في الحروف من المدّ يصير عوضاً من الحركة، ألا ترى أنّه إذا صار عوضاً من الحرف المتحرك المحذوف من تمام بناء الشعر عندهم، فأن يكون عوضاً من الحركة أسهل.
وقد أنشد سيبويه شعراً قد اجتمع فيه الساكنان (2)، على حدّ ما اجتمعا في (فَنِعِمَّا) في قراءة من أسكن العين وهو (3):
كأنّه بعد كلال الزاجر
…
ومسحي مرّ عقاب كاسر
وأنكره أصحابه (4)، ولعل أبا عمرو أخفى ذلك كأخذه بالإخفاء في نحو:{بارِئِكُمْ} [البقرة: 54]، و {َيَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] فظنّ. السامع الإخفاء إسكاناً للطف ذلك في السّمع وخفائه.
وأمّا من قرأ: {فَنِعِمَّا} ، فحجّته أنّه أصل الكلمة نعم، ثم كسر الفاء من أجل حرف الحلق. ولا يجوز أن يكون ممن قال: نعم، فلمّا أدغم حرّك، كما يقول:{يَهْدِي} [يونس: 35]، ألّا ترى أنّ من قال: هذا قدّم مالك، فأدغم، لم يدغم نحو قوله: هذا قدم مالك، وجسم ماجد، لأنّ المنفصل لا يجوز فيه ذلك كما جاز في المتصل قال سيبويه: أمّا قول بعضهم في القراءة: فَنِعِمَّا، فحرك العين، فليس على لغة من قال: نعم ما، فأسكن العين، ولكن على لغة من قال: نعم فحرك العين. وحدّثنا أبو الخطاب (5): أنّها لغة هذيل، وكسر، كما قال: لعب. ولو كان الذي يقول: نعمّا ممن يقول في الانفصال: نعم لم يجز الإدغام على قوله، لما يلزم من تحريك الساكن في المنفصل. وأمّا من قال:{فَنِعِمَّا} فإنّما جاء بالكلمة على أصلها، وهو نعم كما قال (6):
ما أقلّت قدماي إنّهم
…
نعم الساعون في الأمر المبرّ
(1) قوله: تمود لم ترد في المعاجم وأوردها سيبويه 2/ 407 والرضي في شرح الشافية 2/ 212 وأصيم: تصغير أصمّ.
(2)
وقد ردّ ابن جني في سر صناعة الإعراب والمحتسب على من ظن أن سيبويه جمع بين الساكنين فقال: «قال سيبويه كلاماً يظن به في ظاهره أنه أدغم الحاء في الهاء، بعد أن قلب الهاء الحاء، فصار في ظاهر قوله:
«مسحّ» . واستدرك أبو الحسن ذلك عليه وقال: إن هذا لا يجوز إدغامه؛ لأنّ السين ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين. فهذا لعمري تعلق بظاهر لفظه، فأمّا حقيقة معناه؛ فلم يرد محض الإدغام وإنّما أراد الإخفاء؛ فتجوّز بذكر الإدغام، وليس ينبغي لمن قد نظر في هذا العلم أدنى نظر أن يظن سيبويه ممن يتوجه عليه هذا الغلط الفاحش حتى يخرج فيه من خطأ الإعراب إلى خطأ الوزن. لأنّ هذا الشعر من مشطور الرجز، وتقطيع الجزء الذي فيه السين والحاء:«ومس حهي» مفاعلن، فالحاء: بإزاء عين مفاعلن، فهل يليق بسيبويه أن يكسر شعراً، وهو من ينبوع العروض، وبحبوحة وزن التفعيل؟ ! » ا. هـ. (من سرّ الصناعة 1/ 66).
(3)
البيت من شواهد سيبويه 2/ 413 على إدغام الهاء في الحاء في كلمة «مسحي» كما جاء رسمها في الكتاب، وأصله:«مسحه» وفي سرّ صناعة الإعراب ص 65 والمحتسب 1/ 62. قال الأعلم: يريد- سيبويه- أنّه أخفى الهاء عند الحاء في قوله: «مسحه» وسماه إدغاما لأنّ الإخفاء عنده ضرب من الإدغام، ولا يجوز الإدغام في البيت لانكسار الشعر. وكذلك بيّنه ابن جني.
(4)
من أمثال أبي الحسن الأخفش الذي ذكره ابن جني.
(5)
هو الأخفش الأكبر.
(6)
البيت من شواهد التبريزي في شرح الحماسة 2/ 85 لطرفة برواية المصنف، وعجزه في شرح الكافية 4/ 239، وفي سيبويه 2/ 408 برواية:
ما أقلّت قدم ناعلها
…
نعم الساعون في الحي الشّطر
ونقله ابن جني عن شيخه أبي علي في المحتسب 1/ 342، 357 والخصائص 2/ 228 برواية:
ما أقلت قدمي إنّهم
…
نعم الساعون في الأمر المبرّ
ورواية البيت في: ديوان طرفة: 72:
حالتي والنفس قدما إنّهم
…
نعم الساعون في القوم الشطر
وقد استوفى الكلام على الشاهد البغدادي في خزانة الأدب 4/ 101. وفي اللسان (برر). المبرّ: الغالب، من أبرّه يبرّه: إذا قهره بفعال أو غيره.
ولا يجوز أن يكون ممن يقول: قبل الإدغام نعم، كما أن من قال: نعمّا لا يكون ممن قال قبل الإدغام: نعم، ولكن ممن يقول نعم، فجاء بالكلمة على أصلها وكل حسن" (1).
واختلف أهل العلم في المعني بالـ (صدقات) هنا، التطوع أم الفرض (2):
الأول: قيل الألف واللام للعهد، فتصرف إلى المفروضة، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات (3)، وبه قال الحسن (4)، وقتادة (5)، ويزيد بن أبي حبيب (6)، وأبو جعفر (7).
الثاني: المراد هنا صدقات التطوّع دون الفرض. قاله سفيان (8)، وهو قول جمهور المفسرين (9)، لأن "الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات"(10).
قال أبو حيان: " والصدقات ظاهر العموم، فيشمل المفروضة والمتطوّع بها"(11).
قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا} [البقرة: 271]، أي:" وإن تستروها فلم تعلنوها"(12).
قال الآلوسي: " أي تسروها"(13).
قوله تعالى: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [البقرة: 271]، أي:" وتعطوها الفقراء في السر"(14).
قوله تعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271]، أي:" فهو أفضل لكم، لأن ذلك أبعد عن الرياء"(15).
قال القاسمي: " أي من العلانية، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات"(16).
قال الآلوسي: أي: " فالإخفاء خير لكم"(17).
قال الطبري: " فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها"(18).
قال ابن القيم: "وتأمَّل تقييده - تعالى - الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصةً، ولم يَقُلْ: وإن تُخفوها فهو خيرٌ لكم، فإنَّ من الصَّدَقة ما لا يُمكن إخفاؤه، كتجهيز جيشٍ، وبناء قنطرةٍ، وإجراء نهرٍ، أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء، ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تَخْجِيلِه بين الناس، وإقامته مقامَ الفضيحة، وأن يرى النَّاسُ
(1) الحجة للقراء السبعة: 2/ 397 - 398.
(2)
البحر المحيط: 2/ 244.
(3)
أخرج ابن أبي حاتم بسنده "عن عبد الله بن عباس، قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} فكان هذا يعمل به، قبل أن تنزل، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفضيلها، انتهت الصدقات إليها". [تفسير ابن أبي حاتم (2843): ص 2/ 535].
قال ابن أبي حاتم: "وروي عن مقاتل بن حيان، أنها منسوخة". [تفسيره: 2/ 535].
وقال النقاش: "إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة: 274] ". [المحرر الوجي: 1/ 365].
(4)
نقلا عن: البحر المحيط: 2/ 244.
(5)
نقلا عن: البحر المحيط: 2/ 244.
(6)
نقلا عن: البحر المحيط: 2/ 244.
(7)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2844): ص 2/ 535.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (2845): ص 2/ 536.
(9)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 365، وتفسير القرطبي: 3: 332، والبحر الميط: 2/ 244.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 332.
(11)
البحر المحيط: 2/ 244.
(12)
تفسير الطبري 5/ 582.
(13)
روح المعاني: 2/ 43.
(14)
تفسير الطبري: 5/ 582.
(15)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(16)
محاسن التأويل: 2/ 210.
(17)
روح المعاني: 2/ 245.
(18)
تفسير الطبري: 5/ 582.
أنَّ يده هي اليد السُّفلى، وأنَّه لا شيءَ له؛ فيزهدون في معاملته ومعاوَضته، وهذا قدرٌ زائدٌ من الإحسان إليه لمجرد الصَّدَقة، مع تضمُّنه الإخلاص
…
" (1).
وقد اختلفوا: هل الأفضل إظهار الصدقات أم إخفاؤها، وفيه وجوه (2):
أحدها: إسرار صدقة التطوع أفضل مِن إظهارها، لأنه من الرياء أبعد، فأما الزكاة فإبداؤها أفضل، لأنه من التهمة أبعد، وهو قول ابن عباس (3)، وسفيان (4)، وأبو جعفر (5).
وحكى الطبري الإجماع على إظهار الصدقة المفروضة، واختاره، القاضي أبو يعلى (6).
قال ابن حجر: " وأما الآية فظاهرة في تفضيل صدقة السر"(7).
وقال القرطبي: " مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (8)، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك، وروى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة" (9)، وفي الحديث: "إن صدقة السر تطفئ غضب الرب" (10) "(11).
قال ابن العربي: "وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت، فأما صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا بأنها في السر أفضل منها في الجهر، بيد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها والمعطى إياها والناس الشاهدين لها. أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدوة"(12).
ثم قال القرطبي: "هذا لمن قويت حاله وحسنت نيته وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل، وأما المعطى إياها فإن السر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل"(13).
(1) تفسير ابن القيم: 170.
(2)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 345.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6197): ص 5/ 583، وابن ابي حاتم (2847): ص 2/ 536.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6198): ص 5/ 583.
(5)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2844): ص 2/ 535. ولفظه: ": {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} يعني: الزكاة المفروضة". وتفسير ابن أبي حاتم (2850): ص 2/ 537. ولفظه: " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يعني: التطوع".
(6)
أنظر: البحر المحيط: 2/ 244، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 701.
(7)
الفتح: 3/ 339. أي: إذا أعطيت للفقراء وذوي الحاجات لقوله-عز وجل: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، أما إذا صرفت الصدقة لغير الفقراء كالمشاريع الخيرية ونحوها فليس في الآية ما يدل على فضيلة صدقة السر، والأمر خاضع للمصلحة، فإذا لم يخش المتصدق على نفسه رياء، وكان في إظهارها أسوة وتنشيطاً لذوي الأموال في البذل والعطاء، كان الإظهار أفضل، والله أعلم. انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 584، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 331 - 332، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 187 ب، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 399، فتح القدير للشوكاني: 1/ 433، تيسير الكريم الرحمن للسعدي: 96 وغيرها.
(8)
صحيح البخاري (6860): ص 6/ 2659.
(9)
سنن النسائي (1663): ص 3/ 225.
(10)
المعجم الكبير (1018): ص 19/ 421.
(11)
تفسير القرطبي: 3/ 332.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 332 - 333.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 334. وللعِزُّ بن عبدالسَّلام كلام نفيس في تفاوُتِ فضلِ الإسرار والإعلان بالطَّاعات، إذ يقول: "فإن قيل: هلِ الإخفاءُ أفضلُ من الإعلان؛ لما فيه من اجتناب الرِّياء، أو لا؟ فالجوابُ: أن الطَّاعات ثلاثةُ أَضْرُبٍ:
أحدها: ما شُرِعَ مجهورًا، كالأذان والإقامة والتَّكبير، والجَهْر بالقراءة في الصَّلاة والخُطَبِ الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الجمعة والجماعات، وغير ذلك، فهذا لا يُمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعِلُه الرِّياءَ؛ جاهَدَ نفسَهُ في دَفْعِهِ إلى أن تحضره نيَّةُ الإخلاص، فيأتي به مُخْلَصًا كما شُرِعَ؛ فيَحْصُل على أَجْرِ ذلك الفعل، وعلى أَجْرِ المُجاهِد؛ لما فيه من المصلحة المتعدِّية.
الثاني: ما يكون إسرارُهُ خيرًا من إعلانه، كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أَذْكارها، فهذا إسرارُهُ خيرٌ من إعلانه.
الثالث: ما يُخفَى تارةً ويُظهَرُ أخرى، كالصَّدَقات، فإنْ خاف على نفسه الرِّياء، أو عَرَفَ ذلك مِن نفسه، كان الإخفاء أفضلَ من الإبداء؛ لقوله - تعالى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُكُمْ} [البقرة: 271] " [قواعد الأحكام: 1/ 152].
والثاني: أن إخفاء الصدقتين فرضاً ونفلاً أفضل، قاله يزيد بن أبي حبيب (1)، والحسن (2)، وقتادة (3)، والربيع (4).
قال المهدوي: "قيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع"(5). قال ابن عطية: "وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء"(6).
والثالث: وقيل: إن إخفاء الصدقات على فقراء اليهود والنصارؤ أفضل، وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع، فإخفاؤه أفضل من علانيته. قاله يزيد بن أبي حبيب (7).
قال ابن عطية: " وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري (8): أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل"(9).
قال الطبري: " ولم يخصص الله من قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}، شيئا دون شيء، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها"(10).
قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]، " أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم"(11).
قال الصابوني: "أي: يزيل بجميل أعمالكم سيء آثامكم"(12).
قال السعدي: " ففيه دفع العقاب"(13).
قال الآلوسي: " أي والله يكفر أو الإخفاء، والإسناد مجازي"(14).
قال ابن عثيمين: " السيئة: هي ما يسوء المرء عمله، أو ثوابه"(15).
وذكر أهل التفسير في إعراب {مِنْ} في قوله تعالى: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 270]، ثلاثة أوجه (16):
(1) نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 345.
(2)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 345.
(3)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2849.
(4)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2849): ص 2/ 537.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 365.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 365.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6199): ص 5/ 583.
(8)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 584. وسيأتي كلامه.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 365.
(10)
تفسير الطبري: 5/ 584.
(11)
تفسير المراغي: 1/ 523.
(12)
صفوة التفاسير: 1/! 56.
(13)
تفسير السعدي: 1/ 116.
(14)
روح المعاني: 2/ 43.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 358.
(16)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 345، والبحر المحيط: 2/ 264.
أحدها: أن {مِنْ} زائدة تقديرها: ويكفر عنكم سيئاتكم. قاله بعض نحويي البصرة (1)، قال ابن عطية:" وذلك منهم خطأ"(2).
والثاني: وقيل: أنها تبعيضية، أي:"نكفر الصفائر من الذنوب (3)، " لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات" (4)، قال الماوردي: "إنما يكفر بالطاعة من غير التوبة، الصغائر" (5).
والثالث: وقيل: أنها سببية، والتقدير: من أجل ذنوبكم (6). قال أبو حيان وهذا "ضعيف"(7).
وذكروا في (تكفير السيئات) وجهين (8):
أحدهما: يسترها عليهم.
والثاني: يغفرها
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]، على وجوه (9):
أحدها: روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: {وتكفر عنكم} ، بالتاء، وكان يقول:" الصدقة هي التي تكفر"(10).
والثاني: وقرأ ابن عامر: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ} بالياء والرفع، وكذلك حفص عن عاصم (11).
بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.
والثالث: قرأ نافع وحمزة والكسائي {ونكفر} ، بالنون وجزم الراء.
يعني: "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها"(12).
قال أبو علي: " وأمّا من جزم فقال: {ونكفرْ عنكم} ، فإنّه حمل الكلام على موضع قوله:{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، لأنّ قوله:{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} ْ في موضع جزم، ألّا ترى أنّه لو قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، لجزم.
فقد علمت أنّ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في موضع جزم فحمل قوله: ويكفر على الموضع، ومثل هذا في الحمل على الموضع أن سيبويه زعم أن بعض القراء قرأ:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الأعراف: 186] (13) لأنّ قوله: {فَلا هادِيَ لَهُ} : في أنّه في موضع جزم مثل قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} ْ.
ومثله في الحمل على الموضع، قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، حمل قوله {وَأَكُنْ} على موضع قوله:{فَأَصَّدَّقَ} ، لأنّ هذا موضع فعل مجزوم، لو قال:(أخّرني إلى أجل قريب أصّدق)، لجزم، فإذا ثبت أنّ قوله: فأصّدق في موضع فعل مجزوم حمل قوله: أَكُنْ عليه، ومثل ذلك قوله الشاعر (14):
(1) أنظر: تفسير الطبري: 5/ 586.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 367، وروح المعاني: 2/ 43 - 44.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 336.
(4)
روح المعاني: 2/ 43.
(5)
النكت والعيون: 1/ 345.
(6)
أنظر: تفسير البحر المحيط: 2/ 246.
(7)
تفسير البحر المحيط: 2/ 246.
(8)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 345.
(9)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 399 - 400، وتفسير الطبري: 5/ 584 - 585.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2851): ص 2/ 537.
(11)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 400.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 584.
(13)
أنظر: الكتاب: 1/ 448.
(14)
البيت في شرح أبيات المغني 6/ 296 نقلا عن الحجة وفي تهذيب اللغة للأزهري 15/ 653 وفيه: «أيّا فعلت» مكان «أنّى سلكت» .
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح
…
وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
فحمل قوله وأزدد على موضع قوله: فإنني لك كاشح.
ومثله قول الآخر، وأظنّه أبا دؤاد (1):
فأبلوني بليّتكم لعلّي
…
أصالحكم وأستدرج نويّا
فأمّا النون والياء في قوله: نكفّر، ويكفّر، فمن قال: ويكفّر فلأن ما بعده على لفظ الإفراد، فيكفّر أشبه بما بعده من الإفراد منه بالجمع" (2).
الرابع: وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: {ونكفر} ، بالنون والرفع.
قال أبو عليّ: "من قرأ {ونكفر عنكم} ، من سيئاتكم فرفع، كان رفعه من وجهين:
أحدهما: أن يجعله خبر مبتدأ محذوف تقديره: ونحن نكفّر عنكم سيئاتكم.
والآخر: أن يستأنف الكلام ويقطعه مما قبله، فلا يجعل الحرف العاطف للاشتراك ولكن لعطف جملة على جملة" (3).
قال الطبري: "وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: {ونكفر عنكم} بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على موضع " الفاء " في قوله: " فهو خير لكم ". لأن " الفاء " هنالك حلت محل جواب الجزاء"(4).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، أي "هو سبحانه مطلع على أعمالكم يعلم خفاياكم"(5).
قال ابن عثيمين: " أي: عليم ببواطن الأمور كظواهرها"(6).
قال ابن عطية: " وقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وعد ووعيد"(7).
قال المراغي: " أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان، فالله خبير به، عليم بأمره، ومجازيكم عليه، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا"(8).
قال الصابوني: "والآية ترغيب في الإِسرار"(9).
قال الآلوسي: " {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ} في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء {خَبِيرٌ}: عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح"(10).
قال أبو حيان: " تم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الاشياء وخفي، فناسب الإخفاء ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي"(11).
الفوائد:
(1) البيت في ديوانه جمع كرنباوم ص 350 ومعاني القرآن للفراء 1/ 88 والخصائص 1/ 176، 2/ 341، 424 وابن الشجري 1/ 280 والنقائض 1/ 408، وتأويل مشكل القرآن ص 40، وهو من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 292، واللسان (علل).
(2)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 400 - 401.
(3)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 400.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 585.
(5)
صفوة التفاسير: 1/! 56.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 358.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 367.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 524.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(10)
روح المعاني: 2/ 44.
(11)
البحر المحيط: 2/ 246.
1 -
من فوائد الآية: الحث على الصدقة، والترغيب فيها سواء أبداها، أو أخفاها.
2 -
ومنها: أن إخفاء الصدقة أفضل من إبدائها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص؛ وأستر للمتصدق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحة ترجح على إخفائها - مثل أن يكون إبداؤها سبباً لاقتداء الناس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دفع ملامة عن المتصدق، أو غير ذلك من المصالح - فإبداؤها أفضل.
3 -
ومنها: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: {وتؤتوها الفقراء} . ويتفرع على هذا فرعان:
أحدهما: أن مؤونة إيصالها على المتصدق.
الثاني: أنه لو نوى أن يتصدق بماله، ثم بدا له ألا يتصدق فله ذلك؛ لأنه لم يصل إلى الفقير.
4 -
ومنها: تفاضل الأعمال - أي أن بعض الأعمال أفضل من بعض؛ لقوله تعالى: {فهو خير لكم} ؛ وتفاضل الأعمال يكون بأسباب:
أ - منها التفاضل في الجنس، كالصلاة - مثلاً - أفضل من الزكاة، وما دونها.
ب - ومنها التفاضل في النوع؛ فالواجب من الجنس أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» (1).
ج - ومنها التفاضل باعتبار العامل لقوله -صلى الله علسه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (2).
د - ومنها التفاضل باعتبار الزمان، كقوله (ص) في العشر الأول من ذي الحجة:«ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» (3)، وكقوله تعالى:{ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3].
هـ - ومنها التفاضل بحسب المكان، كفضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره.
و- ومنها التفاضل بحسب جودة العمل وإتقانه، كقوله (ص):«الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة؛ والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» (4).
ز - ومنها التفاضل بحسب الكيفية، مثل قوله (ص): «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله
…
»، وذكر منهم:«ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (5).
وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ لأن الإنسان يشرف، ويفضل بعمله؛ وتفاضل الأعمال يستلزم زيادة الإيمان؛ لأن الإيمان قول، وعمل؛ فإذا تفاضلت الأعمال تفاضل الإيمان - أعني زيادة الإيمان، ونقصانه - وهو مذهب أهل السنة، والجماعة.
5 -
ومن فوائد الآية: أن الصدقة سبب لتكفير السيئات؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ، ثم تلا (ص): {تتجافى جنوبهم عن المضاجع
…
} (6)[السجدة: 16].
(1) أخرجه البخاري ص 545 - 546، كتاب الرقاق، باب 38: التواضع، حديث رقم 6502.
(2)
أخرجه البخاري ص 299، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب، حديث رقم 3673، وأخرجه مسلم ص 1123، كتاب فضائل الصحابة، باب 54، تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث رقم 6487 [221]2540.
(3)
أخرجه البخاري ص 969، كتاب العيدين، باب 11، فضل العمل في أيام التشريق، حديث رقم 969؛ وأخرجه الترمذي ص 1722، كتاب الصوم، باب 52: ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم 757؛ واللفظ له.
(4)
أخرجه البخاري ص 425، كتاب تفسير القرآن، باب 80: سورة عبس، حديث رقم 4937؛ وأخرجه مسلم ص 803، كتاب صلاة المسافرين، باب 38، فضل الماهر بالقرآن
…
، حديث رقم 1862 [244] 798 واللفظ له.
(5)
أخرجه البخاري ص 53، كتاب الأذان، باب 36: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة
…
، حديث رقم 660؛ وأخرجه مسلم ص 840، كتاب الزكاة، باب 30: فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم 2380 [91]1031.
(6)
أخرجه أحمد 5/ 231، حديث رقم 22366، وأخرجه الترمذي ص 1915، كتاب الإيمان، باب 8: ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم 2616، وأخرجه ابن ماجة ص 2715، كتاب الفتن، باب 12، كف اللسان في الفتنة، حديث رقم 3973، وفيه عاصم بن أبي النجود قال الذهبي فيهك في الحديث دون الثبت صدوق يهم (ميزان الاعتدال 2/ 357)، لكن أخرج الحاكم من طويق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتبة عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ
…
مثله (2/ 412 – 413) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 2/ 359: صحيح، وقال شعيب في تخريج جامع العلوم والحكم 2/ 134 حاشية (1): حديث صحيح بطرقه.
6 -
ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية - كما هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقوله تعالى:{ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ فإن تكفير السيئات حاصل بعد العمل الذي يحصل به التكفير.
7 -
ومنها: بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد؛ لقوله تعالى:{من سيئاتكم} .
8 -
ومنها: إثبات اسم الله عز وجل «الخبير» ؛ وإثبات ما دل عليه من صفة.
9 -
ومنها: تحذير العبد من المخالفة؛ لقوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} ؛ فإن إخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.
القرآن
التفسير:
لست -أيها الرسول- مسئولا عن توفيق الكافرين للهداية، ولكن الله يشرح صدور مَن يشاء لدينه، ويوفقه له. وما تبذلوا من مال يَعُدْ عليكم نَفْعُه من الله، والمؤمنون لا ينفقون إلا طلبًا لمرضاة الله. وما تنفقوا من مال -مخلصين لله- توفوا ثوابه، ولا تُنْقَصُوا شيئا من ذلك. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى على ما يليق به سبحانه.
قال البغوي: " وهذا في صدقة التطوع، أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة، فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة"(1).
وفي سبب نزول الآية وجهان (2):
أحدهما: روي عن ابن عباس قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم فنزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون} "(3). وروي نحوه عن قتادة (4)، والربيع (5).
(1) تفسير البغوي: 1/ 337.
(2)
أنظر: أسباب النزول للواحدي: 89، والعجاب في بيان الأسباب: 1/ 628.
(3)
تفسير الفريابي (72): ص 26، المعجم الكبير (12453): ص 12/ 54، وأورده الهيثمي في: المجمع: 6/ 324" فسقط منه قوله: {يَكْرَهُون} وقال: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف ورواه البزار، بنحوه ورجاله ثقات".
وأخرجه الطبري موصولا بسنده عن ابن عباس: (6202): ص 5/ 587، و (6204)، و (6205): ص 5/ 588، وبسنده عن سعيد بن جبير (6203): 5/ 587.
وأخرجه ابن أبي حاتم (2852): ص 2/ 537، ولفظه (لأنسابهم).
وأخرج الواحدي بسنده: " عن ابن الحنفية قال:
كان المسلمون يكرهون أن يتصدقوا على الفقراء المشركين حتى نزلت هذه الآية، فأمروا أن يتصدقوا عليهم". [أسباب النزول: 89].
وقال الكلبي: " وقال الكلبي: اعتمر رسول الله عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها يسألانها، وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكم شيئا حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني. فاستأمرته في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، أن تصدق عليهما، فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبي: ولها وجه آخر، وذلك أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوهم على أن يسلموا فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأعطوهم بعد نزولها". [أسباب النزول للواحدي: 90].
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6206): ص 5/ 588.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6207): ص 5/ 588.
والثاني: أخرج ابن ابي حاتم بسنده " عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمر بألا يصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: {ليس عليك هداهم} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك، من كل دين"(1).
قال ابن ابي حاتم: "وروي عن السدي، أنه قال: المشركين"(2).
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن يزيد بن أبي الحبيب: " إنما أنزلت هذه الآية على اليهود والنصارى"(3)(4).
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، " أي ليس عليك يا محمد أن تهدي الناس، فإِنك لست بمؤاخذ بجزيرة من لم يهتد، إِنما أنت ملزم بتبليغهم فحسب"(5).
قال الحسن: " لا نكلف محمدا عليه السلام بهداهم، إلا أن يبلغ رسالته"(6).
قال الطبري: " ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها"(7).
قال البغوي: "فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها"(8).
قال الشوكاني: " أي ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه"(9).
(1) تفسير ابن ابي حاتم (2853): ص 2/ 538 - 538. مرسل جيد الإسناد. ويشهد له القول الأول من السبب النزول.
وأخرج الطبري (6201): ص 5/ 587: " عن شعبة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين، فنزلت: " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله "، فتصدق عليهم".
وأخرج الطبري أيضا بسنده عن سعيد بن جبير (6209): ص 5/ 589. ولفظه: " كانوا يتصدقون [على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم. فنزلت: هذه الآية، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام] ".
وأخرج ابن شيبة في مصنفه (73): ص 3/ 68: "عن سعيد بن جبير قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصدقوا إلا على أهل دينكم"، فأنزل الله تعالى:{ليس عليك هداهم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقوا على أهل الأديان".
(2)
تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 538. وأخرجه الطبري (6208): ص 5/ 588 - 589، ولفظه: " أما " ليس عليك هداهم "، فيعني المشركين، وأما " النفقة " فبين أهلها".
(3)
تفسير ابن ابي حاتم (2863): ص 2/ 539.
(4)
قال القرطبي: " قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا. وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية. قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع. والله أعلم. وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر. ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له. ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أغنوهم عن سؤال هذا اليوم" يعني يوم الفطر.
قلت-القرطبي-: وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين. وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات. قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين". [أنظر: تفسيره: 3/ 337 - 338].
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2855): ص 2/ 538.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 587.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(9)
فتح القدير: 1/ 292.
قال القاسمي: " أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمنّ والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل"(1).
قال القرطبي: " قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين .. وقيل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام"(2).
قال ابن عثيمين: " والهدى المنفي هنا هدى التوفيق؛ وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]؛ ولقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48]، وقوله تعالى:{فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22]، وقوله تعالى:{فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40]
…
إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة، والإرشاد؛ أما هداية التوفيق فليست على الرسول، ولا إلى الرسول؛ لا يجب عليه أن يهديهم؛ وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم؛ ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب؛ ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده" (3).
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، أي والله" يرشد من يشاء"(4) إلى الإسلام.
قال الصابوني: " والله يهدي من شاء من عباده إِلى الإِسلام"(5).
قال القاسمي: " بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب. بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايميّ"(6).
قال البغوي: "وأراد به هداية التوفيق، أما هدي البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوهم بعد نزول الآية"(7).
قال ابن عطية: " أي يرشده، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة"(8).
قال ابن عثيمين: "وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته"(9).
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272]، يعني:" أيّ شيء تنفقونه من المال"(10).
قال سفيان بن عيينة: "هو الصدقة"(11).
وقال الحسن: " نفقة المؤمن نفسه"(12).
قال السعدي: " أي: قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر"(13).
(1) محاسن التأويل: 2/ 211.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 337.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 361 - 362.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 338.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(6)
نحاسن التأويل: 2/ 211.
(7)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 367.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 262.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(11)
أخرجه ابن ابي حاتم (2858): ص 2/ 538.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2857): ص 2/ 538.
(13)
تفسير السعدي: 116.
قال ابن عطية: " والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] وقوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: "كل خير في كتاب الله فهو المال" (1).
قوله تعالى: {فَلأنْفُسِكُم} [البقرة: 272]، "أي" تعملونه لأنفسكم" (2).
قال أبو عبيدة: لأهل دينكم" (3).
قال السعدي: " أي: نفعه راجع إليكم"(4).
قال الصابوني: " فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم لأن ثوابه لكم"(5).
قال القاسمي: " فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا القرآن كثيرة كقوله: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] "(6).
قال ابن عثيمين: " أي: وليس لله عز وجل؛ فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به؛ بل لأنفسكم تقدمونه؛ وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم"(7).
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، أي:"لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله"(8).
قال عطاء الخراساني: " إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله"(9).
وقال الحسن: " نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق- إلا ابتغاء وجه الله"(10).
قال القاسمي: " نفي في معنى النهي. أي فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به"(11).
قال الراغب: " أي ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلي الله عز وجل، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء، فإنه لم يقصد إلا وجه الله"(12).
قال الصابوني: " أي لا تجعلوا إِنفاقكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ دنيوي"(13).
قال ابن عطية: " وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة"(14).
قال ابن عثيمين: " لا تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله؛ فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه؛ بل هو خسارة عليه"(15).
قال السعدي: " هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص"(16).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 368.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم (2859): ص 2/ 539.
(4)
تفسير السعدي: 116.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 211.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 2/ 262.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2860): ص 2/ 539.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (2861): ص 2/ 539.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 211.
(12)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 574.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(14)
المحرر الوجيز: 1/ 368.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 363.
(16)
تفسير السعدي: 1/ 117.
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272]، "أي أيّ شيء تنفقونه من المال"(1).
قال ابن عثيمين: يعني" أيَّ: خير تنفقونه من الأعيان، والمنافع قليلاً كان أو كثيراً"(2).
قوله تعالى: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]، " أي: يوفر لكم جزاؤه" (3).
قال ابن عثيمين: أي: تعطَونه وافياً من غير نقص، بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" (4).
قال الصابوني: " أي فإِن أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة تنالونه"(5).
قال ابن زيد: " هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك"(6).
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، أي:" ولا تنقصون شيئاص من حسناتكم"(7).
قال سلمة بن إسحاق: " أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا"(8).
قال البغوي: "لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا"(9).
قال القاسمي: أي لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم" (10).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن هداية الخلق لا تلزم الرسل؛ ونعنى بذلك هداية التوفيق؛ أما هداية الدلالة فهي لازمة عليهم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67].
2 -
ومنها: أن الإنسان إذا بلغ شريعة الله برئت ذمته؛ لقوله تعالى: {ليس عليك هداهم} ؛ ولو كانت ذمته لا تبرأ لكان ملزماً بأن يهتدوا.
3 -
ومنها: إثبات أن جميع الأمور دقيقها، وجليلها بيد الله؛ لقوله تعالى:{ولكن الله يهدي من يشاء} .
4 -
ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} ؛ لأنهم يقولون: «إن العبد مستقل بعمله، ولا تعلق لمشيئة الله سبحانه وتعالى فيه» .
5 -
ومنها: إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله تعالى: {من يشاء} .
6 -
ومنها: أن هداية الخلق بمشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة تابعة للحكمة؛ فمن كان أهلاً لها هداه الله؛ لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]؛ ومن لم يكن أهلاً للهداية لم يهده؛ لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]، ولقوله تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97].
(1) تفسير ابن عثيمين: 1/ 156.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 363.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 363.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(6)
أخرجه الطبري: (6210): ص 5/ 589.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (2865): ص: 2/ 539 - 540.
(9)
تفسير البغوي: 1/ 337.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 211.
7 -
ومنها: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره؛ لقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ؛ وليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره؛ ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له؛ ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال:«يا رسول الله، إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها» (1)؛ وكذلك حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه (2)؛ إذاً فالآية لا تدل على منع الصدقة عن الغير؛ وإنما تدل على أن ما عمله الإنسان لا يصرف إلى غيره.
8 -
ومن فوائد الآية: أن الإنفاق الذي لا يُبتغى به وجه الله لا ينفع العبد؛ لقوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} .
9 -
ومنها: التنبيه على الإخلاص: أن يكون الإنسان مخلصاً لله عز وجل في كل عمله؛ حتى في الإنفاق وبذل المال ينبغي له أن يكون مخلصاً فيه؛ لقوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} ؛ فالإنفاق قد يحمل عليه محبة الظهور، ومحبة الثناء، وأن يقال: فلان كريم، وأن تتجه الأنظار إليه؛ ولكن كل هذا لا ينفع؛ إنما ينفع ما ابتغي به وجه الله.
10 -
ومنها: إثبات وجه الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {إلا ابتغاء وجه الله} ؛ وأهل السنة والجماعة يقولون: إن لله سبحانه وتعالى وجهاً حقيقياً موصوفاً بالجلال والإكرام لا يماثل أوجه المخلوقين؛ وأنه من الصفات الذاتية الخبرية؛ و «الصفات الذاتية الخبرية» هي التي لم يزل، ولا يزال متصفاً بها، ونظير مسماها أبعاض وأجزاء لنا.
وأهل التعطيل ينكرون أن يكون لله وجه حقيقي، ويقولون: المراد بـ «الوجه» الثواب، أو الجهة، أو نحو ذلك؛ وهذا تحريف مخالف لظاهر اللفظ، ولإجماع السلف؛ ولأن الثواب لا يوصف بالجلال والإكرام؛ والله سبحانه وتعالى وصف وجهه بالجلال والإكرام، فقال تعالى:{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
11 -
ومنها: الإشارة إلى نظر وجه الله؛ لقوله تعالى: {إلا ابتغاء وجه الله} ؛ وهذا - أعني النظر إلى وجه الله - ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف؛ لقوله تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]، وقوله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]؛ فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم «الزيادة» بأنها النظر إلى وجه الله (3)
…
إلى آيات أخرى؛ وأما السنة فقد تواترت بذلك؛ ومنها قوله (ص): «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» (4)؛ وأما إجماع السلف فقد نقله غير واحد من أهل العلم.
12 -
ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يُنْقص من عمله شيئاً؛ لقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} .
13 -
ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق من الحرام لا يقبل؛ وذلك لقوله تعالى: {من خير} ؛ ووجهه: أن الحرام ليس بخير؛ بل هو شر.
(1) أخرجه البخاري ص 222، كتاب الوصايا، باب 19: ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، حديث رقم 2760؛ وأخرجه مسلم ص 836، كتاب الزكاة، باب 15: وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، حديث رقم 2326 [51] 1004؛ واللفظ للبخاري.
(2)
أخرجه البخاري ص 221، كتاب الوصايا، باب 16: إذا قال: أرضي وبستاني صدقة الله، حديث رقم 2756.
(3)
راجع مسلماً ص 709، كتاب الإيمان، باب 80: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، حديث رقم 449 [297] 181، 450 [298]181.
(4)
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ص 1908، كتاب صفة الجنة، باب 17: منه تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة
…
)، حديث رقم 2554، وأخرجه ابن ماجة ص 2488، كتاب السنة، باب 13: فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم 178، واللفظ للترمذي؛ وقال الألباني في صحيح الترمذي:"صحيح" 2/ 315، حديث رقم 2069، والحديث له طرق أخرى في البخاري ومسلم لكن اللفظ يختلف.
14 -
ومنها: نفي الظلم في جزاء الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وأنتم لا تظلمون} ؛ وهذا يستلزم كمال عدله؛ فإن الله عز وجل كلما نفى عن نفسه شيئاً من الصفات فإنه مستلزم لكمال ضده.
القرآن
التفسير:
اجعلوا صدقاتكم لفقراء المسلمين الذين لا يستطيعون السفر؛ طلبًا للرزق لاشتغالهم بالجهاد في سبيل الله، يظنهم مَن لا يعرفهم غير محتاجين إلى الصدقة؛ لتعففهم عن السؤال، تعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم، لا يسألون الناس بالكُليَّة، وإن سألوا اضطرارًا لم يُلِحُّوا في السؤال. وما تنفقوا مِن مال في سبيل الله فلا يخفى على الله شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمَّه يوم القيامة.
في سبب نزول الآية وجوه (1):
أحدها: قال مقاتل: "هم أهل الصفة منهم أبو هريرة وابن مسعود والموالي أربعمائة رجل لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل أووا إلى الصفة فأمر الله بالنفقة عليهم"(2).
والثاني: أخرج ابن ابي حاتم عن مجاهد: " قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} قال: مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم"(3). وروي نحوه عن أبي جعفر (4)، والسدي (5).
والثالث: وأخرج ابن ابي حاتم " عن سعيد، في قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}، قال: قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقا"(6).
والرابع: وروي عن السدي، قوله:{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} ، حصرهم المشركون في المدينة" (7).
الخامس: وروي "عن رجاء بن حيوة في قول الله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض}، قال: لا يستطيعون تجارة"(8). وروي عن السدي، مثل ذلك (9).
السادس: وقيل الفقراء عامة دون تحديد. حكي عن السدي (10)، نحو هذا المعنى.
قال ابن عطية: " ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم"(11).
(1) أنظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 633 - 634.
(2)
تفسيره: 1/ 144. وفي المعنى نفسه ذكر السيوطي في [العجاب في بيان الأسباب: 1/ 633]: "قال ابن ظفر: قال ابن عباس: نزلت في الفقراء أهل الصفة مهاجرة الأعراب. قال الثعلبي: كانوا نحوا من أربعمائة رجل لا مساكن لهم بالمدينة ولا عشائر، أووا إلى صفة المسجد، فيجيئون السوق بالنهار ويتعلمون القرآن بالليل وقالوا: نخرج في كل سرية فحض الله الناس على [فراغ في الأصل، ويصح المعنى لو قدرنا: "النفقة" أو "الصدقة"]، فكان الرجل إذا كان عنده فضل أتاهم به" ..
(3)
تفسير ابن ابي حاتم (2865): ص 2/ 540، والطبري (6212): ص 5/ 591.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6213): ص 5/ 591.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6214): ص 5/ 591.
(6)
تفسير ابن ابي حاتم (2866): ص 2/ 540.
(7)
تفسير ابن ابي حاتم (2868): ص 2/ 540.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2869): ص 2/ 540.
(9)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 540. لا أعلم هل قصد بذلك ما أخرجه الطبري عن السدي (6214): ص 5/ 591: " ولفظه: "فقراء المهاجرين"؟ الذي ثبتناه في النقطة (الثانية).
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6211) ص: 5/ 590، ولفظه:" وأما (النفقة) فبين أهلها، فقال: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} ".
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 368.
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ} [البقرة: 273]، "أي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم للجهاد والغزو في سبيل الله"(1).
قال ابن عثيمين: " أي منعوا من الخروج من ديارهم في شريعته"(2).
قال ابن كثير: " يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم"(3).
قال ابن عطية: {أُحْصِرُوا} : أي: "حبسوا ومنعوا .. [أي]: أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو، إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا "(4).
قال الطبري: " الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا"(5).
قال القاسمي: " أي حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره"(6).
وذهب بعض اللغويين إلى أن (أحصر) و (حصر) بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره ونقله ابن عطية (7).
وقوله تعالى {لِلْفُقَراءِ} متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام، أي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء. أي المحتاجين إلى النفقة (8).
وقوله تعالى {الفقراء} جمع فقير؛ و «الفقير» هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من «الفقر» الموافق لـ «القفر» في الاشتقاق الأكبر - الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و «القفر» الأرض الخالية، كما قال الشاعر (9):
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر
…
وليس قربَ قبرِ حرب قبر
فـ «الفقير» معناه الخالي ذات اليد؛ ويقرن بـ «المسكين» أحياناً؛ فإذا قرن بـ «المسكين» صار لكل منهما معنى؛ وصار «الفقير» من كان خالي ذات اليد؛ أو من لا يجد من النفقة إلا أقل من النصف؛ والمسكين أحسن حالاً منه، لكن لا يجد جميع الكفاية؛ أما إذا انفرد أحدهما عن الآخر صار معناهما واحداً؛ فهو من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت (10).
وقوله تعالى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273]، يحتمل وجهين (11):
أحدهما: الجهاد.
والثاني: الدخول في شريعة الإسلام.
قال ابن عطية: " واللفظ يتناولهما"(12).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 156.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 367.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 704.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 368.
(5)
تفسير الطبري: 5/ 590.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 212.
(7)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 368.
(8)
أنظر: محاسن التأويل: 2/ 212.
(9)
البيت من الرجز، ولا يعرف قائله، ولعله مصنوع.
(10)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 367.
(11)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 368.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 368.
وفي تفسير قوله تعالى {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ} [البقرة: 273]، أربعة أقاويل (1):
أحدها: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو، أي: أنهم منعوا أنفسهم من التصرف للمعاش خوف العدو من الكفار، قاله قتادة (2)، وابن زيد (3). ورجحه الطبري (4).
والثاني: منعهم الكفار بالخوف منهم، قاله السدي (5).
والثالث: منعهم الفقر من الجهاد. يعني: أن فقرهم وضعفهم منعهم من السفر لجهاد العدو ومقارعته (6). وهو محتمل.
والرابع: منعهم التشاغل بالجهاد عن طلب المعاش. اختاره الحافظ ابن حجر (7).
قال الشنقيطي: " لم يبين هنا سبب فقرهم؛ ولكنه بين في سورة الحشر أن سبب فقرهم هو إخراج الكفار لهم من ديارهم وأموالهم بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] الآية "(8).
قوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} [البقرة: 273]، "أي: لا يستطيعون بسبب الجهاد السفر في الأرض للتجارة والكسب" (9).
قال القاسمي: " أي ذهابا فِي {الْأَرْضِ} لاكتساب أو تجارة"(10).
قال الآلوسي: " أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة"(11).
قال الطبري: " لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم"(12).
قال ابن كثير: " يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]، وقال تعالى: {
(1) أنظر: تفسير الطبري: 5/ 592 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 346.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6215): ص 5/ 592.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6216): ص 5/ 592.
(4)
أنظر تفسيره: 5/ 590.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6217): ص 5/ 592. قال الطبري: " ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه " أحصِروا "، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا - وهم في سبيل الله - أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.
وإنما يقال لمن حبسه العدوّ: " حصره العدوّ "، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:" أحصره خوفُ العدّو ". [تفسيره: 5/ 592].
(6)
، انظر: جامع البيان للطبري: 5/ 593، البسيط للواحدي: 1/ 163 أ، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 338، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 328، الكشاف للزمخشري: 1/ 398، النكت والعيون للماوردي: 1/ 346، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 86، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 400، الدر المصون للسمين: 1/ 655.
(7)
الفتح: 3/ 400. ولفظه: ": "منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض-أي: التجارة-؛ لاشتغالهم به عن التكسب". وظاهر صنيع الحافظ هنا التفريق بين (حصر) و (أحصر)، وأن الإحصار: يكون بالعدو، والحصر: يكون بغيره من الأعذار، كما هو تفسير السدي وغيره. انظر: تفسير الطبري: 5/ 591، البسيط للواحدي: 1/ 163 أ، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 337 - 338، الكشاف للزمخشري: 1/ 398، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 330، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 340 - 341.
(8)
أضواء البيان: 1/ 159.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 212.
(11)
روح المعاني: 2/ 45.
(12)
تفسير الطبري: 5/ 593.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} الآية [المزمل: 20] " (1).
قال ابن عطية: " كانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد. وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة"(2).
قال القرطبي: " وقيل: معنى {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ}، أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد. والأول أظهر"(3).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} [البقرة: 273]، وجهين:
أحدهما: يعني تصرفاً، قاله ابن زيد (4).
والثاني: يعني تجارة، قاله قتادة (5)، والسدي (6)، ورجاء بن حيوة (7).
والضرب في الأرض هو السفر فيها، قال-عز وجل:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]، وظاهر الآية أنه السفر للتجارة والتكسب كما هو قول جمهور المفسرين. والله أعلم.
قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]، "أي: يظنهم الذي لا يعرف حالهم أغنياء موسرين من شدة تعففهم" (8).
قال ابن كثير: ": الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم"(9).
قال قتادة: ": يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف"(10).
قال الطبري: " من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء"(11).
قال القرطبي: " أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء، وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه"(12).
قال الماوردي: من التعفف: يعني من التقنع والعفة والقناعة" (13).
قال القاسمي: " والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم، ورضا عنه، وشرف نفس"(14).
قال الحسن: " دلّ الله المؤمنين عليهم وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم ورضي عنهم"(15).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 704.
(2)
المحرر الوجي: 1/ 368 - 369.
(3)
تفسيره: 3/ 341، ويقصد بالأول قوله:" لكون البلاد كلها كفرا مطبقا". [تفسيره: 3/ 340].
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6220): ص 5/ 593. ولفظه: " كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله".
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6218): ص 5/ 593.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6219): ص 5/ 593، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 540.
(7)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2869): ص 2/ 540.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 704.
(10)
أخرجه الطبري (6221): ص 5/ 593.
(11)
تفسير الطبري: 5/ 593.
(12)
تفسير القرطبي: 3/ 341.
(13)
النكت والعيون: 1/ 346.
(14)
محاسن التأويل: 2/ 212.
(15)
أخرجه ابن ابي حاتم (2871): ص 2/ 541.
و (التعفف): هو تَرْك مسألة الناس، من (العفة) عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة (1):
فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ
…
وَلَمْ يَضَعْها بيْنَ فَرك وعشق
يعني بَرئ وتجنَّبَ (2).
وقوله تعالى {يَحْسَبُهُمُ [البقرة: 273]، فيه قراءتان (3):
الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: {يَحْسِبُهُمُ} بكسر السين في كلّ القرآن.
الثانية: وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {يَحْسَبُهُمُ} ، بفتح السين في كلّ القرآن (4).
قال أبو علي الفارسي: "القراءة بـ (تحسَب) بفتح السّين أقيس، لأنّ الماضي إذا كان على فعل نحو حسب، كان المضارع على يفعل مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، وشذّ يحسب فجاء على يفعل في حروف أخر. والكسر حسن لمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس"(5).
وقوله تعالى: {مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]، فإن {مِنَ} لابتداء الغاية، أي من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين (6).
قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]، أي:"تعرفهم يا محمد بعلامتهم وآثارهم"(7).
قال الصابوني: "أي: تعرف حالهم أيها المخاطب بعلامتهم من التواضع وأثر الجهد"(8).
قال ابن كثير: " بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، وقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وفي الحديث الذي في السنن: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (9)، ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75] "(10).
وروي " عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس المسكين بالطواف عليكم، فتعطونه لقمة لقمة، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا"(11).
وذكر أهل التفسير في المراد بقوله تعالى {بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] هُنَا ستة أقوال:
أحدها: التخشع والتواضع، قاله مجاهد (12).
والثاني: الفقر، قاله السدي (13).
(1) ديوانه: 104، واللسان (عسق)(عشق)(فرك)(سرر)، وفي اللسان في بعض مواده " إسرارها " بالكسر، وهو خطأ، وفي بعضها " الغسق "، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق، مصدر " عسق به يعسق ": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء). لا يحظى عند النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر " عشق يعشق ". والضمير في قوله:" فعف "، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه. والضمير في " أسرارها " عائد إلى الأتن.
(2)
أنظر: تفسير الطبري: 5/ 594.
(3)
أنظر: الحجة للقراءة السبعة: 2/ 402 - 403. وككذلك {تَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 278].له الحكم نفسه.
(4)
وقال هبيرة عن حفص، أنّه كان يفتح، ثم رجع إلى الكسر. [أنظر: السبعة: 191 - 192، والحجة للقراء السبعة: 2/ 402].
هبيرة: هو ابن محمد التمار أبو عمر الأبرش. [انظر الطبقات: 2/ 353].
(5)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 403.
(6)
أنظر: المحرر الوجي: 1/ 369.
(7)
تفسير الطبري: 5/ 594.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(9)
رواه الترمذي في السنن برقم (3127).
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 705.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2875): ص 2/ 541. وأخرجه أحمد في المسند (10191): ص 2/ 506، والحديث روي بلفظ آخر عند ابن ابي حاتم (2876): ص 2/ 541 - 542، والبخاري في صحيحه في كتاب الزكاة (1406): ص 2/ 537، ومسلم في كتاب الزكاة (1039): ص 2/ 720، والدارمي في سننه (1615): ص 1/ 462.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2872): ص 2/ 541، والطبري (6222)، و (6223)، و (6224): ص 5/ 596.
(13)
أخرجه ابن ابي حاتم (2873): ص 2/ 541، والطبري (6225): ص 5/ 596.
والثالث: وقيل: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. حكي ذلك عن الربيع (1).
والرابع: وقيل: تعرفهم برثاثة ثيابهم. ذكره ابن زيد (2).
والخامس: وقال الضحاك: "صفرة ألوانهم من الجوع والضر"(3).
السادس: وقال قوم، وحكاه مكي:"هي أثر السجود"(4). قال ابن عطية: " وهذا حسن، لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا"(5).
والأظهر اختلاف ذلك من فقير إلى آخر. والله أعلم.
قال الطبري: " الله عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته" (6).
وأصل (السيما): من السمة التي هي العلامة، قلبت الواو إلى موضع العين، وقال آخرون: أصل السيما: الارتفاع، لأنها علامة رفعت للظهور (7).
ومن العرب من يقول: (بسيمائهم) فيمدها، وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:(بسيميائهم) ; ومن ذلك قول الشاعر (8):
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2874): ص 2/ 541، والطبري (6226): ص 5/ 596.
(2)
تفسير الطبري (6227): ص 5/ 596.
(3)
نقلا عن تفسير البغوي: 1/ 338.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 369.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 369.
(6)
تفسير الطبري: 5/ 597.
(7)
أنظر: تهذيب اللغة للأزهري: 13/ 112، جمهرة اللغة لابن دريد: 3/ 1074، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/ 118 - 119.
(8)
هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه، فقال القالي في أماليه 1: 237: " أسيد "، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف: 159، وقال المرزباني في معجم الشعراء:" فيس بن بجرة "(بالجيم)، أو " عبد قيس بن بجرة "، وفي النقائض: 106 " عبد قيس ابن بحرة " بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي: 543، وغيره العلامة الراجكوتي " بجرة " بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة " قيس بن بجرة " وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل 1: 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام كبيرًا، وأسلم.
والبيت في: الأغاني 17/ 117، الكامل 1/ 14، ومعجم الشعراء: 159، 323، أمالى القالي 1/ 237، الحماسة 4/ 68، وسمط اللآليء: 543، وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه. وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال: ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح ليل! ! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده:
رَأَىنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى
…
إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ
…
عَلَى حِينَ لا بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ
…
وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلامٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا
…
لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ
…
وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ
…
ذَلِيلٌ بِلا ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لانْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ
…
فَجَاءَ وَلا بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه
…
تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد:" لا يروي بيت ابن عنقاء: " رماه الله بالحسن
…
" إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعًا ".
وقوله: " لا تشق على البصر "، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها. [حاشية الطبري: 5/ 594 - 595].
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا
…
لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (1)
قوله تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273]، أي:" لا يسألونك الناس شيئاً أصلاً فلا يقع منهم إِلحاح"(2).
قال الآلوسي: " أي إلحاحا، وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده، وقيل: سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته"(3).
قال ابن كثير: " أي: لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة"(4).
قال عطاء في وصفهم: "إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء"(5).
وفي انتصاب قوله تعالى (إِلْحَافًا)، ثلاثة أوجه (6):
أحدها: على أنه مصدر في موضع الحال، أي: لا يسألون في حال الإِلحاف.
والثاني: أنه مفعول لأجله، أي: لا يسألون لأجل الإِلحاف.
والثالث: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي: يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حال من فاعل (يَسالُون).
قال ابن حجر: " وهل المراد نفي المسألة فلا يسألون أصلاً، أو نفي السؤال بالإِلحاف خاصة، فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف؛ فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال، ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافاً فلا يستلزم الوقوع"(7).
واختلف العلماء في معنى قوله {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273]، على قولين (8):
الأول: قيل هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا، أي لايسألون البتة. قاله الطبري (9) والزجاج (10).
(1) أنظر: تفسير الطبري: 5/ 594 - 595.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(3)
روح المعاني: 2/ 46.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 705.
(5)
نقلا عن: تفسير البغوي: 1/ 338.
(6)
انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 340، إملاء ما من به الرحمن للعكبري: 1/ 116، مشكل إعراب القرآن لمكي: 1/ 142، البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات ابن الأنباري: 1/ 179، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 330، الدر المصون للسمين: 1/ 657، روح المعاني للألوسي: 3/ 47.
(7)
الفتح: 8/ 50.
(8)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 342 - 343.
(9)
أنظر: تفسيره: 5/ 599.
(10)
نقلا عن تفسير القرطبي: 3/ 343.
ومنه قول الشاعر (1):
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ إِذَا سَافَهُ الْعَوْدَ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرا
يريد نفى المنار والاهتداء به (2).
قال القرطبي: " وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح"(3).
الثاني: وقال قوم: "إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين"(4).
والذي ذهب إليه الأكثرون كالفراء والزجاج والطبري وابن الأنباري وأكثر أهل المعاني والتفسير –كما نسب ذلك لهم الواحدي والقرطبي والشوكاني-أن المعنى: لا يسألون الناس البتة لا بإلحاف ولا بغير إلحاف ووجهه: أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم ومجرد السؤال ينافيها، وأيضاً أن كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء من التعفف لا يكون إلا مع عدم السؤال البتة (5).
قال ابن عطية: " والآية تحتمل المعنيين: نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون {مِنَ} لابتداء الغاية، ويكون قوله: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين .. وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل هو قليل"(6).
وقال ابن عثيمين: " هل النفي للقيد؛ أو للقيد والمقيد؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ فإن النفي للقيد؛ أي أنهم لا يلحون في المسألة؛ ولكن يسألون؛ وإن نظرنا إلى مقتضى السياق ترجح أنهم لا يسألون الناس مطلقاً؛ فيكون النفي نفياً للقيد - وهو الإلحاف، والمقيد - وهو السؤال؛ والمعنى أنهم لا يسألون مطلقاً؛ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء؛ بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم؛ ولكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم - وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألح - وإن كان فقيراً - يثقل عليك، وتمل مسألته؛ حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه؛ فتحرمه، أو تنهره مع علمك باستحقاقه؛ وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف ترق له، وتعطيه أكثر مما تعطي السائل"(7).
وقال أبو حيان: " "إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ونفي الإلحاح، أي: وإن وقع منهم سؤال فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح" (8).
(1) البيت لامرئ القيس انظر: ديوانه، ص/ 64.
(2)
أنظر: تفسير الكشاف: 1/ 318.
(3)
تفسير القرطبي: 3/ 343.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 343.
(5)
انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 181، معاني القرآن للزجاج: 1/ 357، معاني القرآن للنحاس: 1/ 303 - 304، جامع البيان للطبري: 5/ 598 - 599، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 191 ب و: 1/ 192 أ، البسيط للواحدي: 1/ 163 ب، البيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات بن الأنباري: 1/ 179، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 340 - 342، النكت والعيون للماوردي: 1/ 347، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 329، مفاتيح الغيب للرازي 7/ 88، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 342 - 343، فتح القدير للشوكاني: 1/ 436 - 437.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 369 - 370.
(7)
تفسيره: 3/ 369.
(8)
البحر المحيط: 2/ 329.
وقد ذكر أهل التفسير في معنى (الإلحاف) وجوها (1):
أحدها: الإلحاف، يعني: أن يسأل وله كفاية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف، والوقية: أربعون درهما"(2).
والثاني: أنه الاشتمال بالمسألة، ومنه اشتق اسم اللحاف (3).
والثالث: أنه الحلف في المسألة. قاله السدي (4).
والرابع: أنه الإلحاح في المسألة. قاله ابن زيد (5).
الخامس: وقيل: أن الإلحاف: هو فرط المدح لدى السائل في حال العطاء، وفرط الذم لديه في حال المنع (6).
و«الإلحاف» والإلحاح واللَّجاجُ والإِحفاءُ بمعنى واحد، يقال: ألحفَ وألحَّ في المسألةِ: إذا لَجَّ فيها، وفي الحديث:"من سأل وله أربعون فقد ألحف"(7)(8).
واختلف في اشتقاق لفظة (الإلحاف) على أقوال (9):
أحدها: أنها: مشتقة من اللِّحاف، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم، كما يشتملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه، ومنه قول ابن الأحمر (10):
يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ
…
ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا
يصف ذكر نعام يحضن بيضا، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك.
ومنه قول طرفة (11):
ثمَّ راحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ
…
يُلْحِفُون الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ
أي يلبسونها الأرض كإلباس اللحاف للشيء (12).
قال الراغب: " والإلحاف استشعار المسألة والاستقصاء فيها وتذرعها، يقال: لحفته: أي ألبسته إلحافا ككسوته، أي ألبسته كساءً"(13).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 346 - 347.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2877): ص 2/ 542، ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2447) وابن حبان في صحيحه برقم (846) من طريق عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.
ورواه أحمد في مسنده: 4/ 36، ولفظه:" "من سأل وله أوقية - أو عدلها - فقد سأل إلحافا"؟ .
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 347.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6229): ص 5/ 600.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6230): ص 600.
(6)
أخرج الطبري بسنده (6231): ص 5/ 600: " عن قتادة قوله: " لا يسألون الناس إلحافًا "، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِاء السائلَ الملحفَ قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم".
(7)
رواه النسائي في باب الزكاة بشرح السيوطي: 5/ 98.
(8)
أنظر: الدر المصون: 2/ 626.
(9)
أنظر: الدر المصون: 2/ 626 - 627.
(10)
اللسان: هفف-قفف، والبحر: 2/ 326، والهفهافان: الجناحان، وكذلك القفقفان.
(11)
ديوانه: 65، والأشموني: 2/ 190، والهداب: الخيوط التي تبقى في طرفي الثوب من عرضيه، والأرز: الثياب.
(12)
أنظر: الدر المصون: 2/ 626.
(13)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 574.
الثاني: وقيل: بل اشتقاقُ للفظةِ من «لَحْفِ الجبل» وهو المكانُ الخَشِنُ، ومجازُه أنَّ السائلَ لكثرة سؤالِه كأنه استعمل الخشونةَ في مسألتِه.
الثالث: وقيل: بل هي (من لحَفَني فلانٌ)، أي: أعطاني فَضْلَ ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول (1).
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]، " أي ما أنفقتموه في وجوه الخير فإِن الله يجازيكم عليه أحسن الجزاء"(2).
قال قتادة: " محفوظ ذلك عن الله، عالم به، شاكر له، وأنه لا شيء أشكر من الله، لا أجزأ بخير من الله"(3).
قال ابن كثير: " أي: لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة، أحوج ما يكونون إليه"(4).
قال الآلوسي: " فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء"(5).
قال ابن عثيمين: " هذه الجملة شرطية ذيلت بها الآية المبينة لأهل الاستحقاق حثاً على الإنفاق؛ لأنه إذا كان الله عليماً بأيّ خير ننفقه فسيجازينا عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"(6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أنه لا يجوز أن نعطي من يستطيع التكسب؛ لقوله تعالى: {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} ؛ لأنه عُلم منه أنهم لو كانوا يستطيعون ضرباً في الأرض، والتكسب فإنهم لا يعطون؛ ولهذا لما جاء رجلان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة صعَّد فيهما النظر وصوَّبه، ثم قال:«إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» (7)؛ فإذا كان الإنسان يستطيع الضرب في الأرض والتجارة والتكسب، فإنه لا يعطى؛ لأنه وإن كان فقيراً بماله؛ لكنه ليس فقيراً بعمله.
2 -
ومن فوائد الآية: فضيلة التعفف؛ لقوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} .
قلت: فهذا الصنف من الفقراء، أفضل ما وضعت فيهم النفقات لدفع حاجتهم، قال الغزاليّ: ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل، ممن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى. أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته، فهو يتعيش في جلباب التجمل. فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال". كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة كأن يكون أهل علم. فإن ذلك إعانة له على العلم. والعلم أشرف العبادات مهما صحّت فيه النية. وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم. فقيل له: لو عممت! فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء. فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم. فتفريغهم للعلم أفضل (8).
(1) أنظر: الدر المصون: 2/ 626 - 627.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم (2879): ص 2/ 542.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 707.
(5)
روح المعاني: 2/ 46.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 369.
(7)
أخرجه أحمد 4/ 224، حديث رقم 18135، أخرجه أبو داود ص 1344، كتاب الزكاة، باب 24: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، حديث رقم 1633؛ وأخرجه النسائي ص 2256، كتاب الزكاة، باب 91: مسالة القوي المكتسب، حديث رقم 2599، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح 2/ 228، والإرواء 3/ 381، حديث رقم 876.
(8)
أنظر: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، الشيخ محمد جمال الدين القاسمي: 53 - 54، ونقله القاسمي بتصرف بسيط في محاسن التأويل: 2/ 212.
3 -
ومنها: التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون فطناً ذا حزم، ودقة نظر؛ لأن الله وصف هذا الذي لا يعلم عن حال هؤلاء بأنه جاهل؛ فقال تعالى:{يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} ؛ فينبغي للإنسان أن يكون ذا فطنة، وحزم، ونظر في الأمور.
4 -
ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: {من التعفف} ؛ فإن {من} هنا سببية؛ أي بسبب تعففهم يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء.
5 -
ومنها: الإشارة إلى الفراسة، والفطنة؛ لقوله تعالى:{تعرفهم بسيماهم} ؛ فإن السيما هي العلامة التي لا يطلع عليها إلا ذوو الفراسة؛ وكم من إنسان سليم القلب ليس عنده فراسة، ولا بُعد نظر يخدع بأدنى سبب؛ وكم من إنسان عنده قوة فراسة، وحزم، ونظر في العواقب يحميه الله سبحانه وتعالى بفراسته عن أشياء كثيرة.
6 -
ومنها: الثناء على من لا يسأل الناس؛ لقوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} ؛ وقد كان من جملة ما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ألا يسألوا الناس شيئاً؛ حتى إن الرجل ليسقط سوطه من على بعيره، فينزل، فيأخذه ولا يقول لأخيه: أعطني إياه (1)؛ كل هذا بعداً عن سؤال الناس.
والسؤال - أي سؤال المال - لغير ضرورة محرم إلا إذا علمنا أن المسؤول يفرح بذلك ويُسَر؛ فإنه لا بأس به؛ بل قد يكون السائل مثاباً مأجوراً لإدخاله السرور على أخيه؛ كما لو سأل إنسان صديقاً له يعرف أنه يكون ممتناً بهذا السؤال؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي على البرمة: «هو على بريرة صدقة؛ ولنا هدية» (2).
7 -
ومن فوائد الآية: بيان عموم علم الله؛ لقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} ؛ فأيّ خير يفعله العبد فإن الله به عليم.
القرآن
التفسير:
الذين يُخْرجون أموالهم مرضاة لله ليلا ونهارًا مسرِّين ومعلنين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا. ذلك التشريع الإلهي الحكيم هو منهاج الإسلام في الإنفاق لما فيه مِن سدِّ حاجة الفقراء في كرامة وعزة، وتطهير مال الأغنياء، وتحقيق التعاون على البر والتقوى؛ ابتغاء وجه الله دون قهر أو إكراه.
اختلفوا في سبب نزولها على ستة أقاويل (3):
أحدها: أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه، كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على أهل الصفّة، أنفق في سواد الليل درهماً، وفي وضح النهار درهماً، وسراً درهماً، وعلانية درهماً، قاله ابن عباس (4) ومقاتل (5)، والكلبي (6)، ومجاهد بن جبر (7).
(1) راجع صحيح مسلم ص 842، كتاب الزكاة، باب 35: كراهة المسألة، حديث رقم 2403 [108]1043.
(2)
أخرجه البخاري ص 118، كتاب الزكاة، باب 61: الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 1493، وأخرجه مسلم ص 849، كتاب الزكاة، باب 52، إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب
…
، حديث رقم 2485 [170]1074.
(3)
أنظر: أسباب النول للواحدي: 90 - 91، والعجاب في بيان الأسباب: 1/ 634 - 635، والنكت والعيون: 1/ 347.
(4)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول: 92، بسند حسن، ورواه الطبراني في المعجم الكبري (11164): ص 11/ 97، وأورده الهيثمي في المجمع: 6/ 324، وقال:"فيه عبد الوهاب ابن مجاهد وهو ضعيف" وهو من طريق عبد الرزاق، وانظر: الدر المنثور: 2/ 100.
(5)
انظر: تفسيره: 1/ 145، والعجاب في بيان الأسباب: 1/ 634.
(6)
أنظر: أسباب النول للواحدي: 92.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2883): ص 2/ 543. قال ابن كثير: ضعيف: 1/ 708. وانظر تفسير عبد الرزاق 1/ 118.
والثاني: وقال ابن جريج: "نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم عليا ولا غيره"(1)، قلت: وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عون مثله (2)
والثالث: وقيل نزلت في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية (3).
والرابع: أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله لأنهم ينفقون بالليل والنهار سِرّاً وعلانية، قاله عبدالله بن بشر الغافقي (4)، وأبود الدرداء (5)، وأبو ذر (6)، وابن عباس (7)، والأوزاعي (8)، وروي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب ومكحول، نحو ذلك (9).
وروي عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} في أصحاب الخيل"(10).
والخامس: وقيل: "أنها خاصة في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار، لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار، في سر وعلانية، فكانت أعم لأنها تؤخذ عن الإرادة وتوافق قدر الحاجة"(11).
والسادس: أنها عامة نزلت في "المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير". قاله قتادة (12).
قال ابن عطية: " والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولا محكما، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية"(13).
قال الآلوسي: " أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال، وهذا هو أحسن الوجوه، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم"(14).
قال ابن كثير: " هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا"(15).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 371.
(2)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2882): ص 2/ 543.
(3)
ذكره البيضاوي في تفسيره: 1/ 185، والزمخشري في الكشاف: 1/ 319، ووأبو حيان في البحر: 2/ 250، والرازي في مفاتيح الغيب: 7/ 71.وآخرون، وهي رواية مرسلة لم أعرف قائلها من الصحابة والتابعين.
(4)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 371.
(5)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 371، والدر المنثور: 2/ 100.
(6)
انظر: المحرر الوجيز: 1/ 371.، والنكت والعيون: 1/ 347.
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2881): ص 2/ 543، وانظر: المحرر الوجيز: 1/ 371.
(8)
عزاه إليه الواحدي بدون سند، أنظر: أسباب النزول: 90 - 91.
(9)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 543، وانظر: المحرر الوجيز: 1/ 371.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2880): ص 2/ 542. ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1283) من طريق سليمان بن عبد الرحمن به، وفي إسناده سعيد بن سنان متروك.
(11)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 347.
(12)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 371.
(13)
المحرر الوجيز: 1/ 371.
(14)
روح المعاني: 7/ 71.
(15)
تفسير ابن كثير: 1/ 707. وكما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص - حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع -: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى ما تجعل في في امرأتك". [المسند (4/ 122) وصحيح البخاري برقم (55) وصحيح مسلم برقم (1002)].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة". [المسند (4/ 122) وصحيح البخاري برقم (55) وصحيح مسلم برقم (1002)].
قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 274]، " أي الذين ينفقون في سبيل الله ابتغاء مرضاته"(1).
قال الراغب: "يرى البعض بأن إنفاق الأموال"ليس إنفاق المقتنيات فقط، بل كل ما خص الله به الإنسان من النفس والبدن في العبادة والعلم والجاه وغير ذلك، لكن الأظهر أنه إنفاق المقتنيات" (2).
قوله تعالى: {بالليل والنهار سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274]، أي:"في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر"(3).
قال الراغب: " {َعَلانِيَةً}: ما عرفه الناس أنه صدقة، وبالسر مالا يعرفه صدقة إلا أولوا البصائر، وإلى هذا أشار من قال إنها نزلت، في النفقة على الخيل فإن الإنفاق على الخيل في الظاهر ليس بقربة"(4).
قال الزمخشري: " يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال"(5).
قال ابن القيم: " ذكر عموم الأوقات، وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية"(6).
قال القاسمي: " وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية، إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار (7).
قال المراغي: " وإنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها"(8).
وفي نصب قوله تعالى: {سِرَّاً وعلانِيَةً} ، ثلاثةُ أوجهٍ (9):
أحدُهما: أنهما حالان ممَّا تقدَّم، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في «زيد عَدْل» ، أي: ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً.
والثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية.
والثالث: أنهما منصوبان على المصدرِ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية.
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274]، " أي لهم ثواب ما أنفقوا"(10) عند ربهم.
قال ابن كثير: " أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات"(11).
قال السعدي: " أي: أجر عظيم من خير عند الرب الرحيم"(12).
(1) صفوة التفاسير: 1/ 156.
(2)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 576.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(4)
تفسير الراغب: الأصفهاني: 1/ 576.
(5)
تفسير الكشاف: 1/ 319.
(6)
تفسير القران الكريم: 160.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 512.
(8)
تفسير المراغي: 1/ 530.
(9)
أنظر: الدر المصون: 7/ 107.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(11)
تفسير ابن كثير: 1/ 708.
(12)
تفسير السعدي: 1/ 116.
قال البن عثيمين: " أي ثوابهم عند الله؛ وسمي أجراً؛ لأنه يشبه عقد الإجارة التي يعوَّض فيه العامل على عمله؛ وهذا الأجر قد بُين فيما سبق بأن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] "(1).
قوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، أي:"ولا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا"(2).
قال ابن عثيمين: " فهم لا يحزنون على ما سبق؛ ولا يخافون من المستقبل؛ لأنهم يرجون ثواب الله عز وجل؛ ولا يحزنون على ما مضى؛ لأنهم أنفقوه عن طيب نفس"(3).
قال الحراليّ: "فأفضلهم المنفق ليلا سرّا. وأنزلهم المنفق نهارا علانية. فهم بذلك أربعة أصناف"(4).
قال الراغب: " والقصد بالآية في الجملة نفقة من لا يرائي أن لا يداحي وإنما يقصد به مرضاة الله فقط"(5).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سواء كان ليلاً، أو نهاراً، أو سراً، أو جهاراً.
2 -
ومنها: كثرة ثوابهم؛ لأنه سبحانه وتعالى أضاف أجرهم إلى نفسه، فقال تعالى:{فلهم أجرهم عند ربهم} ؛ والثواب عند العظيم يكون عظيماً.
3 -
ومنها: أن الإنفاق يكون سبباً لشرح الصدر، وطرد الهم، والغم؛ لقوله تعالى:{لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ؛ وهذا أمر مجرب مشاهد أن الإنسان إذا أنفق يبتغي بها وجه الله انشرح صدره، وسرت نفسه، واطمأن قلبه؛ وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن ذلك من أسباب انشراح الصدر.
4 -
ومنها: كرم الله عز وجل حيث جعل هذا الثواب الذي سببه منه وإليه، أجراً لفاعله؛ كالأجير إذا استأجرته فإن أجره ثابت لازم.
5 -
ومنها: كمال الأمن لمن أنفق في سبيل الله؛ وذلك لانتفاء الخوف، والحزن عنهم.
القرآن
التفسير:
الذين يتعاملون بالربا -وهو الزيادة على رأس المال- لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون؛ ذلك لأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، في أن كلا منهما حلال، ويؤدي إلى زيادة المال، فأكذبهم الله، وبيَّن أنه أحل البيع وحرَّم الربا؛ لما في البيع والشراء من نفع للأفراد والجماعات، ولما في الربا من استغلال وضياع وهلاك. فمن بلغه نهي الله عن الربا فارتدع، فله ما مضى قبل أن يبلغه التحريم لا إثم عليه فيه، وأمره إلى الله فيما يستقبل من زمانه، فإن استمرَّ على توبته فالله لا يضيع أجر المحسنين، ومن عاد إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، ولهذا قال سبحانه:{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 372.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 156.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 373.
(4)
محاسن التأويل: 2/ 215.
(5)
تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 576.
قال ابن كثير: "لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات - شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم"(1).
قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا} [البقرة: 275]، "أي: الذين يتعاملون بالربا" (2).
قال سعيد بن جبير: " يعني: استحلاله لأكله"(3).
قال الطبري: أي" الذين يُرْبون"(4).
قال ابن عثيمين: أي الذين يأخذون الربا فينتفعون به بأكل، أو شرب، أو لباس، أو سكن، أو غير ذلك؛ لكنه ذكر الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثرها إلحاحاً" (5).
قال القرطبي: " يأكلون" يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل" (6).
و(الربا) في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39] أي: اهتزت بأشجارها وعشبها، وربت أي: زادت، وليس المراد الأرض نفسها، بل المراد ما ينبت فيها؛ وفي الشرع: زيادة في شيئين منع الشارع من التفاضل بينهما (7).
قال مجاهد: " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه"(8).
وقال قتادة: " أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه"(9).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 709.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم (2886): ص 2/ 544.
(4)
تفسير الطبري: 5/ 602.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 374.
(6)
تفسير القرطبي: 3/ 348.
(7)
أنظر: الشرح الممتععلى زاد المستنقع: 8/ 392.
والربا من كبائر الذنوب، وهو محرم في جميع الأديان السماوية؛ لما فيه من عظيم الأضرار، وكثير الأخطار.
1 -
قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275].
2 -
وقال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130)} [آل عمران: 130].
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» . قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال:«الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . [متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2766) ، واللفظ له، ومسلم برقم (89)].
4 -
وأخرج ابن ابي حاتم بسنده عن الربيع بن أنس قال: " نهى الله عز وجل عن الربا كأشد النهي، وتقدم فيه: فاتقوا الربا والريبة. وكان يقول: الربا من الكبائر". [تفسير ابن ابي حاتم: (2893): ص 2/ 545].
والربا المحرم في الإسلام نوعان:
الأول: ربا النسيئة: وهو أصل الربا، ولم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو الذي كانوا يأخذونه بسبب تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، وقد ثبت تحريمه بالقرآن والسنة.
وهو الذي حذرهم الله منه بقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130)} [آل عمران: 130].
الثاني: ربا البيوع: ويسمى ربا الفضل، وقد حرم سدا للذرائع؛ لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، لاشتماله على زيادة بدون عوض.
وهو بيع النقود بالنقود مع الزيادة، أو الطعام بالطعام مع الزيادة، وقد ثبت تحريمه بالسنة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق، إلا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء» . [متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2176) ، ومسلم برقم (1584) ، واللفظ له]. [أنظر: موسوعة الفقه الإسلامي، محمد التويجري: 3/ 472].
(8)
أخرجه الطبري (6235)، و (6236): ص 6/ 8.
(9)
أخرجه الطبري (6237): ص 6/ 8.
قوله تعالى: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، أي:" لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إِلا كما يقوم المصروع من جنونه"(1).
قال الطبري: أي: لا يقومون في الآخرة من قبورهم، إلا كما يقوم الذي يتخبله الشيطان من مَسِّه إياه (2).
قال ابن كثير: " أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرًا"(3).
قال القرطبي: " في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس"(4).
يقال: قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ، ومنه قول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201]، ومنه قول الأعشى (5):
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنَّمَا
…
أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ
وقوله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، اختلف المفسرون في هذا القيام، وفيه أقوال (6):
أحدها: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين، كمن أصابه الشيطان بجنون. قاله ابن عباس (7)، وروي عن عوف بن مالك، وسعد بن جبير والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، نحو ذلك (8).
والثاني: يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله يخرجون من الأجداث سراعا [المعارج: 43] إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون، ويسقطون، ويريدون الإسراع، ولا يقدرون، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن أكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن، وهذا ليس من الجنون في شيء.
(1) صفوة التفاسير: 1/ 158.
(2)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 8.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 709.
(4)
تفسير القرطبي: 3/ 354.
(5)
ديوانه: 147، وروايته " من غب السرى "، ورواية اللسان (ألق)، " ولق "، وهو من قصيدته البارعة في المحرق. ويصف ناقته فيقول قبل البيت، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة: وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ
…
إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى، وَبَيْنى وَبَيْنَها
…
مَجُوفٌ عِلافِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى. . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والخرق: المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح. وناقة جسرة: طويلة شديدة جريئة على السير. وخب: جرى. والآل: سراب أول النهار. " يترقرق ": يذهب ويجيء. وقوله: " هي الصاحب الأدنى "، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه، وينصره في الملمات. و " المجوف ": الضخم الجوف. و " العلافى ": هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له " علاف ". و " القطع ": طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. و " النمرق والنمرقة ": وسادة تكون فوق الرحل، يفترشها الراكب، مؤخرها أعظم من مقدمها، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته. و " غب السرى ": أي بعد سير الليل الطويل. و " الأولق ": الجنون. ووصفها بالجنون عند ذلك، من نشاطها واجتماع قوتها، لم يضعفها طول السرى. [حاشية الطبري: 6/ 11].
(6)
أنظر: مفاتيح الغيب: 7/ 76، وتفسير ابن عثيمين:
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2889): ص 2/ 544.
(8)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 544.
قاله ابن عباس (1)، وسعيد بن جبير (2)، ومجاهد (3)، وقتادة (4)، والربيع (5)، والضحاك (6)، والسدي (7)، وابن يد (8)، وابن مسعود (9)، والحسن (10)، وعكرمة (11)، ومقاتل (12)، واختاره الطبري (13).
ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" (14).
والثالث: أنه مأخوذ من قوله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف: 201] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابا بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذلك الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا.
الرابع: إنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع؛ لأنهم - والعياذ بالله - لشدة شغفهم بالربا كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر؛ لأنهم سكارى بمحبة الربا، وسكارى بما يربحونه - وهم الخاسرون؛ فيكون القيام هنا في الدنيا؛ شبَّه تصرفاتهم العشوائية الجنونية المبنية على الربا العظيم - الذي يتضخم المال من أجل الربا - بالإنسان المصروع الذي لا يعرف كيف يتصرف؛ وهذا قول كثير من المتأخرين؛ وقالوا: إن يوم القيامة هنا ليس له ذكر؛ ولكن الله شبَّه حالهم حين طلبهم الربا بحال المصروع من سوء التصرف؛ وكلما كان الإنسان أشد فقراً كانوا له أشد ظلماً؛ فيكثرون عليه الظلم لفقره؛ بينما حاله تقتضي الرأفة، والتخفيف؛ لكن هؤلاء ظلمة ليس همهم إلا أكل أموال الناس.
والراجح-والله أعلم- هو القول الثاني، يعني: أن آكلي الربا "لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان؛ و «التخبط» هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام
(1) أنظر: تفسير الطبري (6240)، (6241): ص 6/ 9. فيه: ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري، قال النسائي: " ليس به بأس "، وقال في الضعفاء: " ليس بالقوي "، وقال أحمد وابن معين: " ثقة، ونقل عنه ابن أبي حاتم دون ذكر السند، أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 544.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6242): ص 6/ 9.
…
فيه: ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري، أنظر الهامش السابق. وأخرجه ابن أبي حاتم بسنده الصحيح (2888): ص 2/ 544.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6238)، و (6239): ص 6/ 8 - 9.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6243)، و (6244): ص 6/ 9 - 10.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6245): ص 6/ 10.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6246): ص 6/ 10.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6247): ص 6/ 10.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6248): ص 6/ 10.
(9)
أخرجه ابن ابي حاتم (2887): ص 2/ 544.
(10)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 349.
(11)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 544.
(12)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 544.
(13)
أنظر: تفسيره: 6/ 8.
(14)
رواه الإمام أحمد في مسنده: (2/ 353)، وابن ماجة في سننه برقم (2273)، عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به. وفي إسناده ضعف. قال المنذري: علي بن زيد هو ابن جدعان، فيه كلام كثير في تضعيفه.
المصروعين - والعياذ بالله - يشهدهم الناس كلهم؛ وهذا القول هو قول جمهور المفسرين" (1). قال ابن عطية: " ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن في قراءة عبد الله بن مسعود {لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم} " (2).
واختلفوا في مس الجنون، هل هو بفعل الشيطان؟ (3):
القول الأول: أنه من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه، ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه.
والقول الثاني: أنه من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرِّبَا} "أي: ذلك التخبط والتعثر (4) بسبب استحلالهم ما حرّمه الله، وقولهم: الربا كالبيع فلماذا يكون حراماً؟ "(5).
قال سعيد بن جبير: " فهو الرجل إذا حل ماله على صاحبه فيقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل، وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم: هذا ربا. قالوا: سواء علينا أن زدنا في أول البيع، أو عند محل المال فهما سواء، فذلك قوله: قالوا إنما البيع مثل الربا: لقولهم: إن زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فهما سواء"(6).
قال ابن عطية: " معناه عند جميع المتأولين في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل {فَلَهُ ما سَلَفَ}، ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية"(7).
قال ابن عثيمين: الباء في قوله {بِأَنَّهُمْ} ، " للسببية؛ يعني أنهم عُمّي عليهم الفرق بين البيع، والربا؛ أو أنهم كابروا فألحقوا الربا بالبيع؛ ولذلك عكسوا التشبيه، فقالوا: إنما البيع مثل الربا، ولم يقولوا: «إنما الربا مثل البيع»، كما هو مقتضى الحال"(8).
قال القرطبي: " أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة"(9).
قال ابن كثير: " أي: إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 374.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 372.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 349.
(4)
قال سعيد في قوله تعالى {ذلك} : " يعني: الذين نزل بهم". [أخرجه ابن ابي حاتم (2890): ص 2/ 544].
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2891): ص 2/ 545.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 372.
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 375.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 356. وسيأتي بيانه في قول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]. والحديث رواه أبو داود في السنن برقم (3334) والترمذي في السنن برقم (3087).
باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا! " (1).
وقال الحافظ ابن حجر: " يحتمل أن يكون من تمام اعتراض الكفار حيث قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] أي: فلم أحل هذا وحرم هذا؟ ويحتمل أن يكون رداً عليهم، ويكون اعترافهم بحكم العقل، والرد عليهم بحكم الشرع الذي لا معقب لحكمه، وعلى الثاني أكثر المفسرين (2).
واستبعد بعض الحذاق الأول (3)، وليس ببعيد إلا من جهة أن جوابهم بقوله:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إلى آخره يحتاج إلى تقدير، والأصل عدمه" (4).
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرِّبَا} أي أحل الله البيع لما فيه من تبادل المنافع، وحرّم الربا لما فيه من الضرر الفادح بالفرد والمجتمع" (5)(6).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 709.
(2)
نسبه لأكثر المفسرين الرازي في مفاتيح الغيب: 7/ 99، وصححه من ثلاثة وجوه:
الأول: أن القول بأن الجملة من كلام الكفار يحتاج إلى إضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين، والإضمار خلاف الأصل.
الثاني: أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية، ولو كانت من كلام الكفار لما فعلوا ذلك.
الثالث: أنه تعالى ذكر عقبها {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} ، وظاهر ذلك أنهم لما ذكروا الشبهة {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} كشف الله عن فسادها، ولو لم يكن قوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً، وبالتالي لم يكن قوله:{فَمَنْ جَاءَهُ} لائقاً بهذا الموضع. وقال أيضاً: بأنه من كلام الله تعالى جمع من أهل العلم: كالواحدي في البسيط: 1/ 164 ب، وأبي حيان في البحر المحيط: 2/ 335، والبغوي في معالم التنزيل: 1/ 341، والسمين في الدر المصون: 1/ 663، وأبي السعود في إرشاد العقل السليم: 1/ 266، والألوسي في روح المعاني: 3/ 50، وغيرهم، وهذا القول هو الأظهر.
(3)
أظنه يريد السمين في الدر المصون: 1/ 663 فإنه قال بعد إيراده له: (وهو بعيد جداً).
(4)
الفتح: 8/ 51.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
وللشافعي في قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها من العامِّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا، فعلى هذا اختلف في قوله، هل هو من العموم الذي أريد به العموم، أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين:
أحدهما: أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص.
والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص.
وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن العموم الذي أريد به العموم: أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص، والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص.
والفرق الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ، وأن ما أريد به العموم متأخِر عن اللفظ ومقترن به، [هذا] أحد أقاويله:
والقول الثاني: أنه المجمل الذي لا يمكن [أن] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل.
وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها، هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين:
أحدهما: أنه لمَّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها.
والثاني: أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعاً فصارت بالسنة مجملة.
وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه: هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ، لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعاً وحرّم بيعاً.
والوجه الثاني: أن الإجمال في لفظها ومعناها، لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معاً، فهذا شرح القول الثاني.
والقول الثالث: أنها داخلة في العموم والمجمل، فيكون عموماً دخله التخصيص، ومجملاً لحقه التفسير، لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في المعنى، فيكون اللفظ عموماً دخله التخصيص، والمعنى مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثاني: أن عمومها في أول الآية من قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وإجمالها في آخرها من قوله:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فيكون أولها عاماً دخله التخصيص، وآخرها مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثالث: أن اللفظ كان مجملاً، فلما بَيَّنَهُ الرسول صار عاماً، فيكون داخلاً في المجمل
قبل البيان، في العموم بعد البيان. [انظر: النكت والعيون: 1/ 349 - 350].
قال سعيد بن جبير: " فأكذبهم الله تبارك أسمع لقولهم: سواء علينا أن زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فقال: وأحل الله البيع وحرم الربا"(1).
قال الزمخشري: " إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال اللَّه وتحريمه"(2).
قال الطبري: " فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء"(3).
قال ابن عثيمين: " فأبطل الله هذه الشبهة بما ذكر"(4).
قال القاسمي: " إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فإنّى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص. لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه"(5).
قال ابن كثير: ": قالوا: ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل"(6).
قال القرطبي: " قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله: حرم الله الربا ليتقارض الناس .. وقال بعض الناس: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس"(7).
قوله تعالى: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} [البقرة: 275]، " أي من بلغه نهيُ الله عن الربا"(8).
قال المخشري: " فمن بلغه وعظ من اللَّه وزجر بالنهى عن الربا"(9).
قال ابن عثيمين: " أي من بلغه حكم الربا بعد أن تعامل به"(10).
قال الشنقيطي: أي: "أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا"(11)
قال القاسمي: " أي بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا .. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية"(12).
قال السدي: " أما الموعظة فالقرآن"(13).
وقال سعيد بن جبير: " يعني البيان الذي في القرآن، في تحريم الربا، فانتهى عنه"(14).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2892): ص 2/ 545.
(2)
تفسير الكشاف: 1/ 321.
(3)
تفسير الطبري: 6/ 13.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 376.
(5)
محاسن التأويل: 2/ 226.
(6)
تفسير ابن كثير: 1/ 709.
(7)
تفسير القرطبي: 3/ 359.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 709، وانظر: صفوة التفاسير: 1/ 158.
(9)
الكشاف: 1/ 321.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 376.
(11)
أضواء البيان: 1/ 159.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 226.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2894): ص 2/ 545، والطبري (6250): ص 6/ 14.
(14)
أخرجه ابن ابي حاتم (2895): ص 2/ 545.
وفي قوله تعالى {مَوْعِظَةٌ} وجهان (1):
أحدهما: التحريم.
والثاني: الوعيد.
قال ابن عطية: " "وسقطت علامة التأنيث في قوله: {فَمَنْ جاءَهُ} ، لأن تأنيث (الموعظة) غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة" (2).
قوله تعالى: {فَانْتَهَى} [البقرة: 275]، أي:" فانتهى حال وصول الشرع إليه"(3).
قال الزمخشري: "فتبع النهى وامتنع"(4).
قال الصابوني: أي: فانتهى عن التعامل بالربا (5).
قال سفيان: "تاب"(6).
قال القاسمي: " أي فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي"(7).
قال الشنقيطي: " أي: ترك المعاملة بالربا؛ خوفا من الله تعالى وامتثالا لأمره"(8).
قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، أي:" فله ما مضى قبل التحريم"(9).
قال السدي: "وأما {ما سلف}، فله ما أكل من الربا"(10). وروي نحوه عن سعيد بن جبير (11).
وقال سفيان: " سمعنا في قوله: {ما سلف}، قال: مغفورا له"(12).
قال الماوردي: "يعني ما أكل من الربا لا يلزمه رَدُّه"(13).
قال القاسمي: " أي ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه"(14).
قال ابن عثيمين: " أي ما أخذه من الربا قبل العلم بالحكم"(15).
قال ابن كثير: " فله ما سلف من المعاملة، لقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس" (16)، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف"(17).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 350.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 372.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 709.
(4)
الكشاف: 1/ 321.
(5)
أنظر: صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2896): 2/ 545.
(7)
محاسن التأويل: 2/ 226.
(8)
أضواء البيان: 1/! 59.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(10)
أخرجه الطبري (6250): ص 6/ 14، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 546.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2898): ص 2/ 546.
(12)
أخرجه ابن ابي حاتم (2900): ص 2/ 546.
(13)
النكت والعيون: 1/ 350.
(14)
محاسن التأويل: 2/ 226.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 376.
(16)
قال الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، في عمدة التفسير (2/ 189):"وهم الحافظ ابن كثير، رحمه الله، فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة، بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفه". قلت: جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الأحوص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع
…
" فذكر الحديث، رواه أبو داود في السنن برقم (3334) والترمذي في السنن برقم (3087).
وأخرجه ابن ابي حاتم (2925): ص 2/ 551. ولفظه: " عن سليمان بن الأحوص عن أبيه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وأول ربا موضوع، ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله".
(17)
تفسير ابن كثير: 1/ 709.
قال ابن عطية: " وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، و {سَلَفَ}، معناه: تقدم في الزمن وانقضى"(1)، قال أبو حيان:"وهذا على قول من قال: الآية مخصوصة بالكفار، ومن قال: إنها عامة فمعناه: فله ما سلف، قبل التحريم"(2).
قال الشنقيطي: " ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23].
وقال في الصيد قبل التحريم: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95].
وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.
ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم -والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين (3) وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه" (4).
قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} [البقرة: 275]، " أي: أمره موكول إِلى الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه" (5)
قال المخشري: " يحكم في شأنه يوم القيامة، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به"(6).
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} [البقرة: 275]، خمسة أوجه (7):
أحدها: في المحاسبة والجزاء. ويكون الضمير عائدا على (المنتهي) بعد التحريم.
والثاني: في العفو عنه وإسقاط التبعية. وذلك أن يكون الضمير عائدا على {ما سَلَفَ} .
والثالث: في العصمة والتوفيق. روي ذلك عن سعيد بن جبير (8)، ومقاتل (9).
وذلك أن يكون الضمير عائدا على (ذي الربا)، بمعنى:"أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا"" (10).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 372.
(2)
البحر المحيط: 2/ 253.
(3)
صحيح البخاري (3671): ص 3/ 1409 باب قصة أبي طالب.
(4)
أضواء البيان: 1/ 159 - 160.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
الكشاف: 1/ 321.
(7)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 372، والنكت والعيون: 1/ 35.
(8)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2901): ص 2/ 546. ولفظه: " يعني: بعد التحريم، وبعد تركه، إن شاء عصمه، وإن شاء لم يفعل".
(9)
نقلا عن: تفسير البحر المحيط: 2/ 254.
(10)
تفسير القرطبي: 3/ 361، وانظر: روح المعاني: 2/ 49.
واختار هذا القول النحاس، قائلا:"وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه"(1).
والرابع: في إمرار تحريم الربا أو غير ذلك. ويكون الضمير عائدا على (الربا).
والخامس: أن يعود الضمير على المنتهي، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته (2).
قال الآلوسي: " ومن الناس من جعل الضمير المجرور لـ {ما سَلَفَ} أو لـ {الربا}، وكلاهما خلاف الظاهر "(3).
قال أبو حيان: " الظاهر أن الضمير في: {أمره}، عائد على المنتهي، إذ سياق الكلام معه، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير"(4).
قوله تعالى: {{وَمَنْ عَادَ} [البقرة: 275]، " أي ومن عاد إِلى التعامل بالربا واستحله بعد تحريم الله له"(5).
قال سعيد بن جبير: " يعني: في الربا بعد التحريم، فاستحله، لقولهم: إنما البيع مثل الربا"(6).
وأخرج ابن ابي حاتم "عن سفيان في قوله: {ومن عاد}، قال: من لم يتب حتى يموت فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"(7).
قال الآلوسي: " أي: رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع"(8).
قال القاسمي: " أي إلى تحليل الربا بعد النص"(9).
قال ابن كثير: " أي: إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة"(10).
قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، " فهو من المخلدين في نار جهنم"(11).
قال سعيد بن جبير: " يعني: لا يموتون"(12).
وقد أتى باسم الإشارة الدال على البعد في قوله {فَأُولَئِكَ} ؛ وذلك لسفوله، أي هوى بعيداً؛ و {أَصْحَابُ النَّارِ} ، أي: أهلها الملازمون لها؛ وأكد ذلك بقوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (13).
قال القاسمي: " ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر، فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق. حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة. ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم.
(1) تفسير القرطبي: 3/ 361.
(2)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 372، وتفسير القرطبي: 3/ 361.
(3)
روح المعاني: 2/ 49.
(4)
البحر المحيط: 2/ 253.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2902): ص 2/ 546.
(7)
تفسير ابن ابي حاتم (2903): ص 2/ 547.
(8)
روح المعاني: 2/ 49.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 226.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 710.
(11)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2904): ص 2/ 547.
(13)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 376.
كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها، مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهمه من الخيالات- فقد كفر ثم ازداد كفرا. وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن. وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل إذا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية. والله الموفق" (1).
قال ابن عاشور: " وجعل العائد خالدا في النار إما لأن المراد العود إلى قوله: إنما البيع مثل الربا، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق فإن كثيرا منهم قد شق عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته. وإما لأن المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلته بقوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى والخلود طول المكث كقول لبيد (2):
فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيفَ سُؤَالُنَا
…
صُمًّا خَوَالِدَ مَا يَبِيْنُ كَلامُهَا
ومنه: خلد الله ملك فلان.
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها، وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلة الكتاب والسنة" (3).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: التحذير من الربا، حيث شبه آكله بمن يتخبطه الشيطان من المس.
2 -
ومنها: أن من تعامل بالربا فإنه يصاب بالنهمة العظيمة في طلبه.
3 -
ومنها: أن الشيطان يتخبط بني آدم فيصرعه؛ ولا عبرة بقول من أنكر ذلك من المعتزلة، وغيرهم؛ وقد جاءت السنة بإثبات ذلك؛ والواقع شاهد به؛ وقد قسم ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد الصرع إلى قسمين: صرع بتشنج الأعصاب؛ وهذا يدركه الأطباء، ويقرونه، ويعالجونه بما عندهم من الأدوية، والثاني: صرع من الشيطان؛ وذلك لا علم للأطباء به؛ ولا يعالج إلا بالأدوية الشرعية كقراءة القرآن، والأدعية النبوية الواردة في ذلك.
4 -
ومن فوائد الآية: بيان علة قيام المرابين كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ وهي: {أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} يعني: فإذا كان مثله فلا حرج علينا في طلبه.
5 -
ومنها: مبالغة أهل الباطل في ترويج باطلهم؛ لأنهم جعلوا المقيس هو المقيس عليه؛ لقولهم: {إنما البيع مثل الربا} ؛ وكان مقتضى الحال أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع.
6 -
ومنها: أن الحكم لله تبارك وتعالى وحده؛ فما أحله فهو حلال؛ وما حرمه فهو حرام سواء علمنا الحكمة في ذلك، أم لم نعلم؛ لأنه تعالى رد قولهم:{إنما البيع مثل الربا} بقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} ؛ فكأنه قال: ليس الأمر إليكم؛ وإنما هو إلى الله.
7 -
ومنها: أن بين الربا والبيع فرقاً أوجب اختلافهما في الحكم؛ فإنا نعلم أن الله تعالى لا يفرق بين شيئين في الحكم إلا وبينهما فرق في العلة، والسبب المقتضي لاختلافهما؛ لقوله تعالى:{أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8]، وقوله تعالى:{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
8 -
ومنها: أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم فهو حلال له بشرط أن يتوب، وينتهي؛ لقوله تعالى:{فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} .
(1) محاسن التأويل: 2/ 226 - 227.
(2)
ديوانه: 114.
(3)
التحرير والتنوير: 3/ 90 - 91.
9 -
ومنها: أنه لو تاب من الربا قبل أن يقبضه فإنه يجب إسقاطه؛ لقوله تعالى: {فانتهى} ؛ ومن أخذه بعد العلم فإنه لم ينته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع؛ وأول رباً أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» (1)؛ فبين (ص) أن ما لم يؤخذ من الربا فإنه موضوع.
10 -
ومنها: رأفة الله تعالى بمن شاء من عباده؛ لقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} ؛ وهذه ربوبية خاصة تستلزم توفيق العبد للتوبة حتى ينتهي عما حرم الله عليه.
11 -
ومنها: التحذير من الرجوع إلى الربا بعد الموعظة؛ لقوله تعالى: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
12 -
ومنها: التخويف من التفاؤل البعيد لمن تاب من الربا؛ لأنه تعالى قال: {فله ما سلف وأمره إلى الله} ؛ يعني أن الإنسان يتفاءل، ويؤمل؛ لأن الأمر قد لا يكون على حسب تفاؤله.
13 -
ومنها: بيان عظم الربا؛ لقوله تعالى: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
القرآن
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]
التفسير:
يذهب الله الربا كله أو يحرم صاحبه بركة ماله، فلا ينتفع به، وينمي الصدقات ويكثرها، ويضاعف الأجر للمتصدقين، ويبارك لهم في أموالهم. والله لا يحب كل مُصِرٍّ على كفره، مُسْتَحِلٍّ أكل الربا، متمادٍ في الإثم والحرام ومعاصي الله.
قوله تعالى: قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]، "أي: ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته" (2).
قال ابن عباس: "يَنقص"(3).
وقال سعيد بن جبير: "يضمحل"(4).
وقال الحسن: " ذلك يوم القيامة، يمحق الله الربا يومئذ وأهله"(5).
وقال مقاتل: " ما كان من ربا، وإن ثري، حتى تغبط به صاحبه، يمحقه الله عز وجل"(6).
قال الطبري: "، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه"(7).
قال ابن عطية: أي: " ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه"(8).
قال الماوردي: " أي ينقصه شيئاً بعد شيء، مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه"(9).
قال الصابوني: " أي يُذهب ربحه ويمحو خيره وإِن كان زيادة في الظاهر"(10).
قال ابن كثير: " أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. كما قال تعالى:{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم
(1) أخرجه مسلم ص 880 – 881، كتاب الحج، باب 19: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 2950 [147]1218.
(2)
تفسير البغوي: 1/ 344.
(3)
أخرجه الطبري (6251): ص 6/ 15.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم (2905) ص: 2/ 547.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2906) ص: 2/ 547.
(6)
أخرجه ابن ابي حاتم (2907): ص 2/ 547.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 15.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 373.
(9)
النكت والعيون: 1/ 350.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
} [الأنفال: 37]، وقال:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} [الآية](1)[الروم: 39] " (1).
قال ابن حجر: "وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك"(2).
وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]، فيه وجهان (3):
أحدهما: يبطله يوم القيامة إذا تصدق به في الدنيا.
والثاني: يرفع البركة منه في الدنيا مع تعذيبه عليه في الآخرة.
قوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، أي:" يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له"(4).
قال سعيد بن جبير: " يضاعف الصدقات"(5).
قال ابن حجر: "أي: ينميها"(6).
قال ابن عطية: " معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا"(7).
قال البغوي: " أي: يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى"(8).
قال الصابوني: " ويُكثر الصدقات وينميّها وإِن كانت نقصاناً في الشاهد"(9).
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل"(10).
وقد ذكر أهل العلم في قوله تعالى {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] قولين (11):
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 713.
(2)
الفتح: 11/ 253. معنى محق المال: ذهاب بركته وعدم انتفاع صاحبه به، وهو المعنى الذي ذكره الحافظ، أو ذهابه بالكلية من يد صاحبه، كل ذلك في الدنيا، بالإضافة إلى العقاب عليه في الأخرى. انظر: الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 197 أ، البسيط للواحدي: 1/ 165 أ، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 348، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 331، النكت والعيون للماوردي: 1/ 350، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 102 - 103، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 362، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 405، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 336، إرشاد العقل السليم لأبي السعود: 1/ 276، فتح القدير للشوكاني: 1/ 441، فتح البيان لصديق خان: 3/ 141، روح المعاني للألوسي: 3/ 51، محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 370.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 350.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 15.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2909): ص 2/ 547.
(6)
الهدي: 127. ويزيدها في الدنيا، ويُكَثِّر ثوابَها بالتضعيف في الآخرة، انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 15/ 272، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 2/ 483، الصحاح للجوهري: 6/ 2349، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 347، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 362، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 406، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 336، محاسن التأويل للقاسمي: 3/ 370.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 373.
(8)
تفسير البغوي: 1/ 344.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(10)
رواه أحمد في مسنده: 1/ 395، وابن ماجة في سننه (2289)، ولفظه "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة". [وقال البوصيري في الزوائد (2/ 199):"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"].
وذكر الطبري (6252): ص 6/ 15: عن عبدالله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ ". وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 37.
وفي الشأن نفسه روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس". [المسند (1/ 21) وسنن ابن ماجة برقم (2155)].
وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [سورة التوبة: 104]، و {يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات} ". [أخرجه الطبري في تفسيره (6253) ص: 6/ 16، وإبن أبي حاتم (2908): ص 2/ 547، ورواه احمد في المسند (10090)، والترمذي في كتاب الزكاة (659)]. [وانظر فيما معناه من الأخبار في تفسير الطبري (6254) و (6255): ص 6/ 18، و (6256): ص 6/ 19، و (6257): ص 6/ 19 - 20].
(11)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 351.
أحدهما: يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة.
والثاني: يضاعف أجر الصدقة ويزيدها، وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل.
قال ابن عطية: " وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة"(1).
وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، فيه قراءتين (2):
الأولى: بضم الياء والتخفيف، من: ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي: كثّره ونماه ينميه.
والثانية: وقرئ: {ويُرَبِّي} بالضم والتشديد، من التربية (3).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} [البقرة: 276]، " أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل" (4).
أخرج ابن أبي حاتم " عن سفيان بن عيينة، قوله: {والله لا يحب}، قال: لا يقرب"(5).
قال الطبري: ": والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه، " أثيم "، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه"(6).
قال ابن عثيمين: "إذا نفى الله تعالى المحبة فالمراد إثبات ضدها، وهي الكراهة"(7).
قال ابن كثير: " ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل"(8).
وذكر أهل التفسير في معنى {الكَفَّار} [البقرة: 276] وجهين (9):
أحدهما: الذي يستر نعم الله ويجحدها.
والثاني: هو الذي يكثر فعل ما يكفر به.
وفي معنى (الأثيم) وجهان (10):
أحدهما: أنه من بَّيت الإِثم.
والثاني: الذي يكثر فعل ما يأثم به.
قال ابن عثيمين: " و «الكَفّار» كثير الكفر، أو عظيم الكفر؛ و «الأثيم» بمعنى الآثم، كالسميع بمعنى السامع"(11).
قال ابن عطية: " يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، ووصف الكفار ب أَثِيمٍ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض"(12).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 373.
(2)
أنظر: تفسير ابن كثير: 1/ 713 - 714.
(3)
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله ليقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل". [صحيح البخاري برقم (1410) وبرقم (7430)، ومسلم (1014)].
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 715.
(5)
تفسير ابن ابي حاتم (2910): ص 2/ 548.
(6)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 378 - 379.
(8)
تفسير الطبري: 1/ 715 - 716.
(9)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 351.
(10)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 351.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 378 - 379.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 373.
وقيل في تفسير قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ}، أي:"محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم، وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه، وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن، ولما انقضى ذكرهم عقب بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين"(1).
قال الصابوني: " وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإِيذان بأنه من فعل الكفار"(2).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: محق الربا: إما حساً، وإما معنًى، كما سبق.
2 -
ومنها: التحذير من الربا، وسد أبواب الطمع أمام المرابين.
3 -
ومنها: أن الله يرْبي الصدقات - أي يزيدها؛ والزيادة إما أن تكون حسية؛ وإما أن تكون معنوية؛ فإن كانت حسية فبالكمية، مثل أن ينفق عشرة، فيخلف الله عليه عشرين؛ وأما المعنوية فأن يُنْزل الله البركة في ماله.
4 -
ومنها: مقابلة الضد بالضد؛ فكما أن الربا يُمحَق، ويزال؛ فالصدقة تزيد المال، وتنميه؛ لأن الربا ظلم، والصدقة إحسان.
5 -
ومنها: إثبات المحبة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} ؛ ووجه الدلالة أن نفي المحبة عن الموصوف بالكفر، والإثم يدل على إثباتها لمن لم يتصف بذلك - أي لمن كان مؤمناً مطيعاً؛ ولولا ذلك لكان نفي المحبة عن «الكفار الأثيم» لغواً من القول لا فائدة منه؛ ولهذا استدل الشافعي رحمه الله بقوله تعالى:{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] على أن الأبرار يرون الله عز وجل؛ لأنه لما حجب الفجار عن رؤيته في حال الغضب دل على ثبوتها للأبرار في حال الرضا؛ وهذا استدلال خفي جيد؛ والمحبة الثابتة لله عز وجل هي محبة حقيقية تليق بجلاله، وعظمته؛ وليست - كما قال أهل التعطيل - إرادة الثواب، أو الثواب؛ لأن إرادة الثواب ناشئة عن المحبة؛ وليست هي المحبة؛ وهذه القاعدة - أعني إجراء النصوص على ظاهرها في باب صفات الله - اتفق عليها علماء السلف، وأهل السنة والجماعة؛ لأن ما يتحدث الله به عن نفسه أمور غيبية يجب علينا الاقتصار فيها على ما ورد.
القرآن
التفسير:
إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا الأعمال الطيبة، وأدَّوا الصلاة كما أمر الله ورسوله، وأخرجوا زكاة أموالهم، لهم ثواب عظيم خاص بهم عند ربهم ورازقهم، ولا يلحقهم خوف في آخرتهم، ولا حزن على ما فاتهم من حظوظ دنياهم.
قال ابن كثير: " ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون"(3).
(1) المحرر الوجي: 1/ 373.
(2)
صفوة التفسير: 1/ 158.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 716.
قال ابن عاشور: هذه الآية: "جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا. والمقصود التعريض بأن الصفات المقابلة لهاته الصفات صفت غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهورا لقوله: {وآتوا الزكاة} "(1).
قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُوا} [البقرة: 277]، أي: إن الذين"آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به"(2).
قال الصابوني: " أي صدّقوا بالله"(3).
قال الآلوسي: أي: " بما وجب الإيمان به"(4).
قال الطبري: " يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه"(5).
قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصالحات} [البقرة: 277]، " أي: وعملوا الأعمال الصالحات؛ وهي المبنية على الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم" (6).
قال الطبري: " {وعملوا الصالحات}، التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها"(7).
قوله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 277]، أي:" وأدَّوا الصلاة كما أمر الله ورسوله ا"(8).
قال ابن عثيمين: "أي: وأتوا بها قويمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وعطْفها على العمل الصالح من باب عطف الخاص على العام؛ لأن إقامة الصلاة من الأعمال الصالحة، ونُص عليها لأهميتها"(9).
قال الطبري: أي: {وأقاموا الصلاة} المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها" (10).
قوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 277]، "أي: أوعطوا الزكاة مستحقها" (11).
قال الطبري: " {وآتوا الزكاة} المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم"(12).
و«الزكاة» : هي النصيب الذي أوجبه الله عز وجل في الأموال الزكوية؛ وهو معروف في كتب الفقه" (13).
قال ابن عطية: " وخص الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذكر وقد تضمنهما عمل الصَّالِحاتِ تشريفا لهما، وتنبيها على قدرهما، إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال"(14).
(1) التحرير والتنوير: 3/ 93.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 380.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(4)
روح المعاني: 2/ 51.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 380.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(8)
التفسير الميسر: 1/ 47
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 380.
(10)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 380.
(12)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 380.
(14)
المحرر الوجيز: 1/ 373.
قال الآلوسي: تخصيص الصلاة والزكاة، "بالذكر مع اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية"(1).
قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 277]، "أي: لهم ثوابهم عند الله" (2).
قال قتادة: "أجر كبير على حسناتهم، وهي الجنة"(3).
قال الآلوسي: "الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف"(4).
قال الطبري: "يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم يوم حاجتهم إليه في معادهم"(5).
قوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 277]، أي:" ولا يلحقهم خوف في آخرتهم"(6).
قال ابن عثيمين: " أي فيما يستقبل من أمرهم"(7).
قال القاسمي: أي: لاخوف عليهم"يوم الفزع الأكبر"(8).
قال الطبري: " يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم، وتصديقهم بوعد الله ووعيده"(9).
قوله تعالى: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]، أي:" ولا حزن على ما فاتهم من حظوظ دنياهم"(10).
قال ابن عثيمين: " أي فيما مضى من أمرهم"(11).
قال القاسمي: " لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم"(12).
قال الطبري: " {ولاهم يحزنزن} على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه"(13).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الحث على الإيمان، والعمل الصالح؛ لأن ذكر الثواب يستلزم التشجيع، والحث، والإغراء.
2 -
ومنها: أنه لابد مع الإيمان من العمل الصالح؛ فمجرد الإيمان لا ينفع العبد حتى يقوم بواجبه - أي واجب الإيمان: وهو العمل الصالح.
3 -
ومنها: أن العمل لا يفيد حتى يكون صالحاً؛ والصلاح أن ينبني العمل على أمرين: الإخلاص لله عز وجل وضده الشرك؛ والمتابعة - وضدها البدعة؛ فمن أخلص لله في شيء، ولكنه أتى بعمل مبتدع لم يقبل منه؛ ومن أتى بعمل مشروع لكن خلطه بالشرك لم يقبل منه؛ وأدلة هذا معروفة.
(1) روح المعاني: 2/ 51.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 381.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (648): ص 1/ 129
(4)
روح المعاني: 2/ 51.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 21.
(6)
التفسير الميسر: 47
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 381.
(8)
محاسن التأويل: 2/ 230.
(9)
تفسير الطبري: 6/ 21 - 22.
(10)
التفسير الميسر: 47
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 381.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 230.
(13)
تفسير الطبري: 6/ 22.
4 -
ومنها: بيان أهمية إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
5 -
ومنها: أن هذين الركنين - أعني إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة - أعلى أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ للنص عليهما من بين سائر الأعمال الصالحة.
6 -
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى ضمن الأجر لمن آمن، وعمل صالحاً، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ لقوله تعالى:{لهم أجرهم عند ربهم} .
7 -
ومنها: الإشارة إلى عظمة هذا الثواب؛ لأنه أضافه إلى نفسه تبارك وتعالى والمضاف إلى العظيم يكون عظيماً.
8 -
ومنها: أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع - الإيمان، والعمل الصالح، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة - ليس عليهم خوف من مستقبل أمرهم؛ ولا حزن فيما مضى من أمرهم؛ لأنهم فعلوا ما به الأمن التام، كما قال الله تعالى:{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82].
القرآن
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]
التفسير:
في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال (1):
الأول: قال السدي: " نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله {ذروا ما بقي} من فضل كان في الجاهلية {من الربا} "(2). وروي نحوه عن ابن جريج (3)، والضحاك (4)، ومقاتل (5).
والثاني: روي الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"بلغنا والله أعلم أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يربون لثقيف، فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا وضع عن الناس غيرنا، فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله يقول الله تعالى: {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون} فتأخذون أكثر {ولا تظلمون} فتبخسون منه"(6).
والثالث: وقال آخرون: "نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا؛ فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله
(1) أنظر: أسباب النزول للواحدي: 93 - 94.
(2)
أخرجه الطبري (6258) ص: 6/ 22 - 23، وابن أبي حاتم (2913): ص 2/ 548، وانظر: أسباب النزول للواحدي: 93 - 94.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6259): ص 6/ 23.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6260): ص 6/ 23.
(5)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2911)، ص 2/ 548، و (2915): ص 2/ 548 - 549.
(6)
أسباب النزول للواحدي: 93، وأخرجه ابن منده وأبو يعلى (لباب النقول: 50) من طريق الكلبي به.
- صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية، فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما" (1). روي ذلك عن عطاء وعكرمة (2).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]، أي:" يا من آمنتم بالله واتبعتم رسوله خافوا الله"(3).
قال ابن كثير: "أي: خافوه وراقبوه فيما تفعلون"(4).
قال الصابوني: " أي اخشوا ربكم وراقبوه فيما تفعلون"(5).
والجملة ندائية؛ فائدتها: تنبيه المخاطب، وقوله تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه (6).
قال ابن عاشور: " وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ولأن ترك الربا من جملتها، فهو كالأمر بطريق برهاني"(7).
قال الطبري: أي" خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه"(8).
وذكروا في تفسير قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} [البقرة: 278] وجهين (9):
أحدهما: يأ أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم.
والثاني: يأيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم.
وقال ابن فورك: "يحتمل أنه يريد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من الأنبياء، {ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا"(10). قال ابن عطية: "وهذا مردود بما روي في سبب الآية"(11).
قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، أي:" اتركوا ما بقي من الربا"(12).
أخرج ابن أبي حاتم"عن زيد بن أسلم في قول الله: {اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا}، قال: ما بقي على الناس"(13).
قال ابن كثير: "أي: اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال، بعد هذا الإنذار"(14).
قال الطبري: أي: " اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها"(15).
قال الصابوني: " واتركوا ما لكم من الربا عند الناس"(16).
(1) أسباب النزول للواحدي: 93.
(2)
أنظر: أسباب النزول للواحدي: 93.
(3)
التفسير الميسر: 47.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 716.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(6)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 382.
(7)
التحرير والتنوير: 3/ 93.
(8)
تفسير الطبري: 6/ 22.
(9)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 351.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 374.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 374.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 382.
(13)
تفسير ابن ابي حاتم (2914): ص 2/ 548.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 716.
(15)
تفسير الطبري: 6/ 22.
(16)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
قال ابن عاشور: " اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا"(1).
قال مجاهد: " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه"(2).
وقوله تعالى: {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، فيه أربعة أوجه من القراءات (3):
أحدهما: {مَا بَقِيَ} وهي قراءة الجمهور.
الثانية: «ما بقِيْ» بكسر القاف وإسكان الياء، قرأه الحسن (4)، وهذا كما قال جرير (5):
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم
…
ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
وقال عمر بن أبي ربيعة (6):
كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم
…
يا أشبه الناس كل الناس بالقمر
إني لأجذل أن أمشي مقابله
…
حباً لرؤية من أشبهت في الصور
أصله (ما رضي) و (أن أمشي) فأسكنها وهو في الشعر كثير، ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء، ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك، وأشتهي أن أقضيك، بإسكان الواو والياء (7).
قال ابن عطية: وفي هذا نظر" (8).
والثالثة: «ما بقى» ، بالألف، قرأه الحسن (9) وهي لغة طيء، يقولون للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وقال الشاعر (10):
لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى
…
على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
والرابعة: «الرّبو» ، بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، قرأه أبو السّمّال، وقال أبو الفتح:"شذ هذا الحرف في أمرين: أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم"(11).
قال ابن عطية: "وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة"(12).
الخامسة: «الربا» ، بالإمالة، ولك لمكان الكسرة في الراء، قراءه بذلك الكسائي وحمزة، وأما الباقون بالتفخيم، لفتحة الباء (13).
(1) التحرير والتنوير: 3/ 93.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2912): ص 2/ 548.
(3)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 369، والمحرر الوجيز: 1/ 375.
(4)
أنظر: المحتسب: 1/ 141، والمحرر الوجيز: 1/ 375، ونسبها ابن خالويه في القراءات الشاذة: ص 17، لأبيّ رضي الله عنه.
(5)
ديوانه: 308، وفيه: فارضوا ما قضى .... وأورده برواية المصنف ابن جني في المحتسب: 1/ 141، والزمخشري في الكشاف: 1/ 322، وأبو حيان في البحر المحيط: 2/ 255، وابن هشام في المغني:878. وتسكين آخر «رضى» ونحوه: لغة شاذة. ماضى العزيمة: نافذ الحكم، ليس في حكمه جنف: أى ميل عن الحق إلى غيره.
(6)
ديوانه: 124.
(7)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 375، والمحتسب: 1/ 125 - 126.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 375.
(9)
أنظر: الكشاف: 1/ 401، والبحر المحيط: 2/ 255، ونسبها ابن خالويه في القراءات الشاذة: ص 17، لأبيّ رضي الله عنه.
(10)
لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد القرطبي في تفسيره: 3/ 369، وأبي حيان في البحر: 2/ 255، ولكنه أورده شاهدا على قراءة:(ما بقيْ) بالياء الساكنة.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 375، وتفسير القرطبي: 3/ 369.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 375.
(13)
أنظر: التيسير: 49.
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، أي: مصدقين" بما شرع الله لكم من تحليل البيع، وتحريم الربا وغير ذلك"(1).
روي "عن سعيد، في قوله: إن كنتم مؤمنين يعني: مصدقين"(2).
قال الطبري: " إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم"(3).
قال ابن عثيمين: " هذا من باب الإغراء، والحث على الامتثال؛ يعني: إن كنتم مؤمنين حقاً فدعوا ما بقي من الربا؛ وهذه الجملة يقصد بها الإغراء، والإثارة - أعني إثارة الهمة، فإن قلت: كيف يوجِّه الخطاب للمؤمنين، ويقول: {إن كنتم مؤمنين}؛ أفلا يكون في هذا تناقض؟ فالجواب: ليس هنا تناقض؛ لأن معنى الثانية التحدي؛ أي إن كنتم صادقين في إيمانكم فاتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا"(4).
وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: "إِنْ في هذه الآية بمعنى إذ"(5). قال ابن عطية: وهذا مردود لا يعرف في اللغة" (6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بلوغ القرآن أكمل البلاغة؛ لأن الكلام في القرآن يأتي دائماً مطابقاً لمقتضى الحال؛ فإذا كان الشيء مهماً أحاطه بالكلمات التي تجعل النفوس قابلة له؛ وهذا أكمل ما يكون من البلاغة.
2 -
ومنها: أنه إذا كان الشيء هاماً فإنه ينبغي أن يصَدَّر بما يفيد التنبيه من نداء، أو غيره.
3 -
ومنها: وجوب تقوى الله، لقوله تعالى:{اتقوا الله} ؛ و «التقوى» وصية الله لعباده الأولين، والآخرين؛ قال الله تعالى:{ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131].
4 -
ومنها: وجوب ترك الربا - وإن كان قد تم العقد عليه؛ لقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا} ؛ وهذا في عقد استوفي بعضه، وبقي بعضه.
5 -
ومنها: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام - وإن عقدت في حال الشرك؛ لعموم قوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا} ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في عرفة عام حجة الوداع:«وربا الجاهلية موضوع؛ وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» (7)؛ ولكن يجب أن نعلم أن العقود التي مضت في الكفر على وجه باطل، وزال سبب البطلان قبل الإسلام فإنها تبقى على ما كانت عليه؛ مثال ذلك: لو تبايع رجلان حال كفرهما بيعاً محرماً في الإسلام، ثم أسلما فالعقد يبقى بحاله؛ ومثال آخر: لو تزوج الكافر امرأة في عدتها، ثم أسلما بعد انقضاء عدتها فالنكاح باق؛ ولهذا أمثلة كثيرة.
6 -
ومن فوائد الآية: تحريم أخذ ما يسمى بالفوائد من البنوك؛ لقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا} ؛ وزعم بعض الناس أن الفوائد من البنوك تؤخذ لئلا يستعين بها على الربا؛ وإذا كان البنك بنك كفار فلئلا يستعين بها على الكفر؛ فنقول: أأنتم أعلم أم الله! ! ! وقد قال الله تعالى: {ذروا ما بقي من الربا} ؛ والاستحسان في مقابلة النص باطل.
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 716.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2926): ص 2/ 549.
(3)
تفسير الطبري: 6/ 22.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 382 - 383.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 374.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 374.
(7)
أخرجه مسلم ص 880 - 881، كتاب الحج، باب 19: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 2950 [147]1218.
فإن قال قائل: إذا كان البنك بنكاً غير إسلامي، ولو تركناه لهم صرفوه إلى الكنائس، وإلى السلاح الذي يقاتَل به المسلمون، أو أبقوه عندهم، ونما به رباهم؛ فنقول: إننا مخاطبون بشيء، فالواجب علينا أن نقوم بما خوطبنا به؛ والنتائج ليست إلينا؛ ثم إننا نقول: هذه الفائدة التي يسمونها فائدة هل هي قد دخلت في أموالنا حتى نقول: إننا أخرجنا من أموالنا ما يستعين به أعداؤنا على كفرهم، أو قتالنا؟
والجواب: أن الأمر ليس كذلك؛ فإن هذه الزيادة التي يسمونها فائدة ليست نماءَ أموالنا؛ فلم تدخل في ملكنا؛ ثم إننا نقول له: إذا أخذته فأين تصرفه؟ قال: أصرفه في صدقة؛ في إصلاح طرق؛ في بناء مساجد تخلصاً منه، أو تقرباً به؛ نقول له: إن فعلت ذلك تقرباً لم يقبل منك، ولم تسلم من إثمه؛ لأنك صرفته في هذه الحال على أنه ملكك؛ وإذا صرفته على أنه ملكك لم يقبل منك؛ لأنه صدقة من مال خبيث؛ ومن اكتسب مالاً خبيثاً فتصدق به لم يقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (1)؛ وإن أخرجته تخلصاً منه فأي فائدة من أن تلطخ مالك بالخبيث، ثم تحاول التخلص منه؛ ثم نقول أيضاً: هل كل إنسان يضمن من نفسه أن يخرج هذا تخلصاً منه؟ ! فربما إذا رأى الزيادة الكبيرة تغلبه نفسه، ولا يخرجها؛ أيضاً إذا أخذت الربا، وقال الناس: إن فلاناً أخذ هذه الأموال التي يسمونها الفائدة؛ أفلا تخشى أن يقتدي الناس بك؟ ! لأنه ليس كل إنسان يعلم أنك سوف تخرج هذا المال، وتتخلص منه.
ولهذا أرى أنه لا يجوز أخذ شيء من الربا مطلقاً؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} ؛ ولم يوجه العباد إلى شيء آخر.
8 -
ومن فوائد الآية: أن ممارسة الربا تنافي الإيمان؛ لقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} ؛ ولكن هل يُخرج الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر؟ مذهب الخوارج أنه يخرجه من الإيمان إلى الكفر؛ فهو عند الخوارج كافر، كفرعون، وهامان، وقارون؛ لأنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب؛ ومذهب أهل السنة والجماعة أنه مؤمن ناقص الإيمان؛ لكنه يُخشى عليه من الكفر لا سيما آكل الربا؛ لأنه غذي بحرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام:«فأنى يستجاب لذلك» (2) - نسأل الله العافية.
9 -
ومن فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث حرم عليهم ما يتضمن الظلم؛ وأكد هذا التحريم، وأنزل القرآن فيه بلفظ يحمل على ترك هذا المحرم؛ لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا} ، وقوله تعالى:{اتقوا الله} ، وقوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين} ؛ والحكم: {ذروا ما بقي من الربا} .
القرآن
التفسير:
فإن لم ترتدعوا عما نهاكم الله عنه فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله، وإن رجعتم إلى ربكم وتركتم أَكْلَ الربا فلكم أَخْذُ ما لكم من ديون دون زيادة، لا تَظْلمون أحدًا بأخذ ما زاد على رؤوس أموالكم، ولا يظلمكم أحد بنقص ما أقرضتم.
قال ابن كثير: " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار"(3).
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 279]، يعني:"فإن لم تتركوا ما بقي من ربا"(4).
(1) أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 19: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث رقم 2346 [65]1015.
(2)
أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 19: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم 2346 [65]1015.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 716.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 386.
قال قتادة: " فإن لم تؤمنوا بتحريم الربا"(1).
قال الطبري: " فإن لم تذَروا ما بقي من الربا"(2).
قال الآلوسي: " أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف"(3).
قال الصابوني: " أي وإِن لم تتركوا التعامل بالربا فأيقنوا"(4).
قال أبو حيان: " ظاهره: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا، وسمي الترك فعلاً، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى"(5).
وقال الرازي: "فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه، فأذنوا بحرب من الله ورسوله، ومن ذهب إلى هذا قال: فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها"(6).
وقال مقاتل بن حيان: "قوله: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل، أن اعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا، فلهم رؤس أموالهم، وإن أبوا، فآذنهم بحرب من الله ورسوله"(7) ..
قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، " أي: فأيقنوا بحرب الله ورسوله لكم" (8).
قال ابن عباس: ": يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: خذ سلاحك للحرْب"(9).
وفي رواية أخرى له: " فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله"(10).
وقال قتادة: " أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا"(11).
وقال الربيع: " أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل"(12).
قال الطبري: ": وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: (فأذنوا بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم"(13).
قال ابن عثيمين: أي: أعلنوا الحرب على الله ورسوله (14).
قال الآلوسي: " أي فأيقنوا- وبذلك قرأ الحسن- وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما"(15).
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (2917): ص 2/ 549.
(2)
تفسير الطبري: 6/ 23.
(3)
روح المعاني: 2/ 52.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(5)
البحر المحيط: 2/ 256.
(6)
مفاتيح الغيب: 7/ 84.
(7)
أخرجه ابن ابي حاتم (2918): ص 2/ 549.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(9)
أخرجه الطبري (6262)، و (6263): ص 6/ 25، وابن أبي حاتم (2920): ص 2/ 550، وأخرج عنه ابن أبي حاتم (2919): ص 2/ 550: " فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه".
وأخرج أيضا (2921): ص 2/ 550: " عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل، لاستتابهم، فإن تابوا، وإلا وضع فيهم السلاح".
(10)
أخرجه الطبري (6267): ص 6/ 26. وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 550.
(11)
أخرجه الطبري (6264) و (6265): ص 6/ 25 - 26، وابن أبي حاتم (2922): ص 2/ 550، وزاد في لفظه:" إياكم، وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، ولا تلجئنكم إلى معصية الله فاقة".
والبهرج: الشيء المباح. والمكان بهرج: غير حمى. وبهرج دمه: أهدره وأبطله. وفي الحديث: أنه بهرج دم ابن الحارث.
(12)
أخرجه الطبري (6266): ص 6/ 26.
(13)
تفسير الطبري: 6/ 26.
(14)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 386.
(15)
روح المعاني: 2/ 52.
وذكروا في تفسير قوله تعالى {فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وجهين (1):
أحدهما: إن لم تنتهوا عن الربا أموت النبي بحربكم.
والثاني: إن لم تنتهوا عنه فأنتم حرب الله ورسوله، يعني أعداءه.
قلت: الوجه الثاني يحتمله الآية وبه قال الأكثرون، والأول بعيد. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى {فَأْذَنُوا} [البقرة: 279]، فيه قراءتان:
الأولى: {فَأْذَنُوا} ، بإسكان الهمزة وفتح الذال، وهو المشهور (2)، قال أبو عبيدة:"معنى قوله: {فَأْذَنُوا}، فأيقنوا (3)، قال الطبري: " بمعنى: كونوا على علم وإذن" (4).
والثانية: وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم (5): (فآذِنُوا) بالمد وكسر الذال (6)، أي: آذنوا غيركم وأعلموهم (7). قال الطبري: بمعنى: " أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم"(8).
قال أبو علي: " فآذنوا بحرب فتقديره: فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول هنا محذوف على قوله: وقد أثبت هذا المفعول المحذوف هنا، في قوله {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ} [الأنبياء: 109]، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم أيضا لا محالة، ففي أمرهم بالإعلام ما يعلمون هم أيضا أنهم حرب إن لم يمتنعوا عمّا نهوا عنه من وضع الرّبا عمن كان عليه. وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم"(9).
قال ابن عطية: "والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم: «فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب"(10).
والقراءة الأولى أوضح في مراد السياق (11). والله أعلم.
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 352.
(2)
هي قراءة العشرة غير حمزة وشعبة، انظر: الغاية في القراءات العشر لابن مهران: 121، النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 2/ 236، إتحاف فضلاء البشر للبنا: 1/ 458، البدور الزاهرة للقاضي: 54، المهذب في القراءات العشر د. محمد سالم محيسن: 1/ 108.
(3)
مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 83، وانظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 359، معاني القرآن للنحاس: 1/ 309، وقال قوم: المعنى: اعلموا، والمراد واحد. انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 15/ 16، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 98، معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 77، الصحاح للجوهري: 5/ 2068.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 24.
(5)
هو: أبو بكر عاصم بن بهدلة-وهو أبو النجود-الأسدي مولاهم الكوفي، إمام حجة في القراءة، أحد القراء السبعة، صدوق له أوهام في الحديث، وحديثه في الصحيحين مقرون، توفي عام: 127 هـ، وقيل: بعد ذلك. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6/ 341، سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 256، التقريب لابن حجر: 471، غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 346.
(6)
انظر: تخريج القراءة في المصادر المذكورة في الهامش رقم: 2.
(7)
أي: بأنكم على حربهم، وانظر: في معنى القراءتين: معاني القرآن للزجاج: 1/ 359، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 98، معاني القرآن للنحاس: 1/ 309، جامع البيان للطبري: 6/ 24، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 198 ب، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 352، زاد الميسر لابن الجوزي: 1/ 333، النكت والعيون للماوردي: 1/ 352، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 338، فتح القدير للشوكاني: 1/ 444، روح المعاني للألوسي: 3/ 53 وغيرها. وقراءة الجمهور: (فأْذَنُوا) أمر من أَذِن الثلاثي، يقال: أَذِن بالشيء إذا عَلِم به، واستمع إليه. وقراءة حمزة وشعبة:(فَآذِنُوا) أمر من آذَن الرباعي، يقال: آذَن بالشيء إذا أَعْلَم به.
(8)
تفسير الطبري: 6/ 24.
(9)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 413.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 375 - 376.
(11)
أنظر: الفتح: 8/ 52. قال الطبري: " وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: " فأذَنوا " بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك، وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها". [تفسيره: 6/ 24 - 25].
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ} [البقرة: 279]، "أي: بأخذ الزيادة" (1).
قال الضحاك: " إن عملتم بالذي أمرتكم فلكم رؤس أموالكم"(2).
قال البغوي: " أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه"(3).
قال الآلوسي: " عما يوجب الحرب"(4).
قال الطبري: " فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل"(5).
قال ابن عثيمين: " أي رجعتم إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته إلى طاعته؛ وذلك هنا بترك الربا؛ والتوبة من الربا، كالتوبة من غيره - لابد فيها من توافر الشروط الخمسة المعروفة"(6).
قال الرازي: "والمعنى على القول الأول: تبتم من معاملة الربا، وعلى القول الثاني: من استحلال الربا"(7).
أخرج ابن أبي حاتم " عن مقاتل بن حيان، قوله: وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه"(8).
قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، أي:" فلكم أصل المال الذي دفعتموه من غير زيادة ولا نقصان"(9).
قال الطبري: ""من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم" (10).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يوم الفتح:" ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب "(11).
قال الضحاك: " وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم"(12).
قال قتادة: " والمال الذي لهم على ظهور الرجال، جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا"(13). وروي نحوه عن السدي (14).
وأخرج ابن أبي حاتم عن "ابن وهب، عن ملك وسألته عن قول الله: {وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}، قال: إنما ذلك في أهل الإسلام"(15).
قال ابن عثيمين: " {رؤوس} جمع رأس؛ و «الرأس» هنا بمعنى الأصل؛ أي لكم أصول الأموال؛ وأما الربا فليس لكم"(16).
قوله تعالى: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، أي:" من غير زيادة ولا نقصان"(17).
قال ابن كثير: "أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه"(18).
قال البغوي: " {لا تَظْلِمُونَ} بطلب الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} بالنقصان عن رأس المال"(19).
قال ابن عطية: " لا تَظْلِمُونَ في أخذ الربا وَلا تُظْلَمُونَ في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن "مطل الغني ظلم" (20)، كما قال صلى الله عليه وسلم"(21).
قال الماوردي: " {لا تَظْلِمُونَ}: بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم، {وَلا تُظْلَمُونَ}، بأن تمنعوا رؤوس أموالكم"(22).
وروي عن النبي-صلى الله عليه وسلم: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"(23).
وقال ابن عباس: " {لا تَظلمون}، فتُربون، {ولا تظلمون}، فتنقصون"(24).
وقال ابن زيد: " لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم"(25).
وقال الضحاك: " لا تَظْلِمُونَ: لا تأخذوا غير رؤس أموالكم"(26)، وعنه أيضا:" {ولا تُظْلَمُونَ} قال: لا يظلمكم الذي لكم عليهم أموالكم"(27).
قال أبو علي: "موضع «لا تظلمون» نصب على الحال من لكم، التقدير: فلكم رءوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين"(28).
قال أحمد بن موسى: "قرءوا كلّهم: لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 279] بفتح التاء الأولى وضم الثانية، وروى المفضّل عن عاصم لا تُظْلِمُونَ وَلا تَظْلَمُونَ بضم التاء الأولى وفتح الثانية (29).
قال أبو علي:
قال أبو علي: ويرجح تقديم: {لا تَظْلِمُونَ} ، وهي قراءة الجماعة، لأنها تناسب قوله {فَإِنْ تُبْتُمْ} ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله (30).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 717.
(2)
أخرجه ابن ابي حاتم (2923): ص 2/ 550.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 345.
(4)
روح المعاني: 2/ 52.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 26.
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 386.
(7)
مفاتيح الغيب: 7/ 84.
(8)
تفسير ابن أبي حاتم (2924): ص 2/ 551.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(10)
تفسير الطبري: 6/ 26.
(11)
حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، رواه مسلم 8/ 182، 183، في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع. وسنن البيهقي 5/ 274، 275. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1/ 367، وقال " أخرج أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع. . . "، وانظر ابن كثير 2/ 65. وأخرجه الطبري (6272)، و (6273) ص: 6/ 27.
(12)
أخرجه الطبري (6269): ص 6/ 27.
(13)
أخرجه الطبري (6268): ص 6/ 26 - 27. وأخرج نحوه (6270): ص 6/ 27.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6271): ص 6/ 27، وابن ابي حاتم (2926): ص 2/ 551.
(15)
تفسير ابن أبي حاتم (2927): ص 2/ 551.
(16)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 387.
(17)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(18)
تفسير ابن كثير: 1/ 717.
(19)
تفسير البغوي: 1/ 345.
(20)
صحيح البخاري (2166): ص 2/ 799. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(21)
المحرر الوجيز: 1/ 375.
(22)
النكت والعيون: 1/ 352.
(23)
رواه أبو داود في السنن برقم (3334) عن مسدد به، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3055) من طريق أبي الأحوص به.
(24)
أخرجه الطبري (6274) ص: 6/ 28، وابن أبي حاتم (2928): ص 2/ 551، ولفظه:" قوله: {فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون} فتربون"، و (2930): ص 2/ 551، ولفظه: تُظْلَمُونَ: فتنقصون".
(25)
أخرجه الطبري (6275) ص: 6/ 28.
(26)
أخرجه ابن ابي حاتم (2229): ص 2/ 551.
(27)
أخرجه ابن أبي حاتم (2931): ص 2/ 552.
(28)
الحجة للقراء السبعة: 2/ 413.
(29)
السبعة: 192.
(30)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 414.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} ؛ لأن الجبرية يقولون: إن الإنسان لا يستطيع الفعل، ولا الترك؛ لأنه مجبر؛ وحقيقة قولهم تعطيل الأمر والنهي؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ما أمر به، ولا ترك ما نهي عنه.
2 -
ومنها: أن المصِرّ على الربا معلن الحرب على الله ورسوله؛ لقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} .
ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا كان معلناً الحرب على الله، ورسوله فهو معلن الحرب على أولياء الله، ورسوله - وهم المؤمنون؛ وذلك بدلالة الالتزام؛ لأن كل مؤمن يجب أن ينتصر لله، ورسوله؛ فالمؤمنون هم حزب الله عز وجل ورسوله.
3 -
ومن فوائد الآية: عظم الربا لعظم عقوبته؛ وإنما كان بهذه المثابة ردعاً لمتعاطيه عن الاستمرار فيه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه جاء في الوعيد على الربا ما لم يأت على ذنب دون الشرك؛ ولهذا جاء في الحديث الذي طرقه متعددة: «إن الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه» (1)؛ وهذا كلٌّ يستبشعه؛ فالربا ليس بالأمر الهين؛ والمؤمن ترتعد فرائصه إذا سمع مثل هذه الآية.
4 -
ومنها: أنه يجب على كل من تاب إلى الله عز وجل من الربا ألا يأخذ شيئاً مما استفاده من الربا؛ لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} .
5 -
ومنها: أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رأس المال من الربا لأيّ غرض كان؛ سواء أخذه ليتصدق به، أو ليصرفه في وجوه البر تخلصاً منه، أو لغير ذلك؛ لأن الله أمر بتركه؛ ولو كان هنا طريق يمكن صرفه فيه لبينه الله عز وجل.
6 -
ومنها: الإشارة إلى الحكمة من تحريم الربا - وهي الظلم؛ لقوله تعالى: {لا تظلمون ولا تظلمون} .
فإن قال قائل: إن بعض صور الربا ليس فيه ظلم، مثل أن يشتري صاعاً من البر الجيد بصاعين من الرديء يساويانه في القيمة؛ فإنه لا ظلم في هذه الصورة؛ قلنا: إن العلة إذا كانت منتشرة لا يمكن ضبطها فإن الحكم لا ينتقض بفقدها؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي إليه بتمر جيد فسأل: «من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديّ فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوَّه أوَّه! عين الربا عين الربا لا تفعل» (2)؛ ثم أرشدهم إلى أن يبيعوا التمر الرديء بالدراهم؛ ويشتروا بالدراهم تمراً جيداً؛ فدل هذا على أن تخلف الظلم في بعض صور الربا لا يخرجه عن الحكم العام للربا؛ لأن هذه العلة منتشرة لا يمكن ضبطها؛ ولهذا أمثلة كثيرة؛ ودائماً نجد في كلام أهل العلم أن العلة إذا كانت منتشرة غير منضبطة فإن الحكم يعم، ولا ينظر للعلة.
7 -
ومن فوائد الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {ورسوله} .
8 -
ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد، حيث أرسل إليهم الرسل؛ لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما ينفعها، ويضرها على وجه التفصيل لقصورها؛ إنما تعرفه على سبيل الجملة؛ لقوله تعالى:{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]؛ فمن أجل ذلك أرسل الله الرسل؛ فكان في هذا رحمة عظيمة للخلق.
9 -
ومنها: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعض؛ لقوله تعالى: {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} .
(1) أخرجه ابن ماجة بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون باب أ) بدون (أيسرها
…
) ص 2613، كتاب التجارات، باب 58: التغليظ في الربا، حديث رقم 2275؛ وقال الألباني في صحيح ابن ماجة:(صحيح) 2/ 27 – 28، وأخرجه الحاكم بتمامه 2/ 37، كتاب البيوع، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
(2)
أخرجه البخاري ص 181، كتاب الوكالة، باب 11: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، حديث رقم 2312، وأخرجه مسلم ص 954، كتاب المساقاة، باب 18: بيع الطعام مثلاً بمثل، حديث رقم 4083 [96]1594.
القرآن
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
التفسير:
وإن كان المدين غير قادر على السداد فأمهلوه إلى أن ييسِّر الله له رزقًا فيدفع إليكم مالكم، وإن تتركوا رأس المال كله أو بعضه وتضعوه عن المدين فهو أفضل لكم، إن كنتم تعلمون فَضْلَ ذلك، وأنَّه خير لكم في الدنيا والآخرة.
في سبب نزول الآية: قال الكلبي: "قالت بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ولكن الربا ندعه لكم، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة} الآية"(1).
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]، "أي إِذا كان المستدين معسراً"(2).
قال ابن عثيمين: أي "إن وجِد صاحب إعسار، لا يستطيع الوفاء (3).
قال الطبري: " وإن كان الغريم ذا عسرة"(4).
قال ابن عاشور: أي "وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر، وفي الآية حجة على أن (ذو) تضاف لغير ما يفيد شيئا شريفا"(5).
قال ابن عطية: " و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة"(6).
أخرج ابن ابي حاتم عن " محمد بن إسحاق، أخبرني من لا أتهم عن أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، أنهما قالا جميعا: من لم يكن له إلا مسكن (فهو والله) معسر، ممن أمر الله بإنظاره"(7).
وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة» ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء ذُو عُسْرَةٍ بالواو (8).
قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، " فعليكم أن تمهلوه إِلى وقت اليسر"(9).
قال مجاهد: "يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره"(10). وري نحو ذلك عن السدي (11).
قال الصابوني: " لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينة: إِمّا أن تَقْضي وإِمّا أن تُرْبي"(12).
قال الطبري: " فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) [سورة البقرة: 196] "(13).
(1) أسباب النول للواحدي: 94.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 390.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 29.
(5)
التحرير والتنوير: 3/ 95.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 376. قال ابن عطية: " وارتفع ذُو عُسْرَةٍ ب كانَ التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين، حكاه الطبري: بل هي كانَ الناقصة والخبر محذوف، تقديره وَإِنْ كانَ من غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ وارتفع قوله: فَنَظِرَةٌ على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو فالحكم نظرة". [المحرر الوجيز: 1/ 376].
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2933): ص 2/ 552.
(8)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 376.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(10)
أخرجه الطبري (6293)، و (6294): ص 6/ 32.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2936): ص 2/ 552.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(13)
تفسير الطبري: 6/ 29.
قال ابن عطية: " والنظرة: التأخير"(1).
وفي قوله تعالى {إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ثلاثة أقوال:
أحدها: مفعلة من اليسر، وهو أن يوسر (2)، وهو قول الأكثرين، والمعنى:"فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، فيصيرَ من أهل اليُسر به"(3)،
قاله: ابن عباس (4)، وشريح (5)، وإبراهيم (6)، والربيع (7)، وقتادة (8)، ومجاهد (9)، والضحاك (10)، وأبان بن عثمان (11) وعمر بن عبدالعزيز (12).
والثاني: إلى الموت، قاله أبو جعفر (13)، وإبراهيم النخعي (14)، ومحمد بن علي (15).
والثالث: إلى الغنى. قاله السدي (16).
قال الطحاوي: "كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جل وعز: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "(17)، قال القرطبي:"واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال: كان لرجل علي مال - أو قال دين - فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب لي مالاً فباعني منه، أو باعني له"(18). أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبدالرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما" (19).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 376.
(2)
والميسرة: "المرحمة والمشأمة". [تفسير الطبري: 6/ 29].
(3)
تفسير الطبري: 6/ 29.
(4)
أخرجه الطبري (6277): ص 6/ 29، و (6285): 6/ 30، وانظر: الخبر (6283): ص 6/ 30. ولفظه: " إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها". وانظر الخبر (6287) ص: 6/ 32، وابن أبي حاتم (2932): ص 2/ 552: ولفظه فيهما: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة "، يعني المطلوب".
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6278): ص 6/ 29. ونحوه في (6281): ص: 6/ 30 - 31.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6279): ص 6/ 30، وأنظر: تفسير الطبري (6290) ص: 6/ 32، و (6292): ص 6/ 32.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6280): ص 6/ 30.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6282): ص 6/ 31.
(9)
أخرجه الطبري (6293)، و (6294): ص 6/ 32. سبق ذكره في تفسير قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
(10)
نظر: تفسير الطبري (6286): ص 6/ 31.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2938): ص 2/ 553.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2938): ص 2/ 553.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6288) ص: 6/ 32، وابن أبي حاتم (2939): ص 2/ 553.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6291) ص: 6/ 32.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6289) ص: 6/ 32.
(16)
نظر: تفسير الطبري (6284): ص 6/ 31، وابن أبي حاتم (2940): ص 2/ 553.
(17)
نقلا عن تفسير القرطبي: 3/ 371.
(18)
سنن الدارقطني (3025): ص 4/ 19. وله وجهين آخرين:
أحدهما: (3026): ص 4/ 19: "ثنا علي بن إبراهيم ، نا ابن خزيمة ، نا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني ، نا مرحوم بن عبد العزيز ، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وعبد الله بن زيد ، عن أبيهما ، [ص: 20] أنه كان في غزاة فسمع رجلا ينادي آخر ، يقول: يا سرق يا سرق فدعاه ، فقال: ما سرق؟ ، فقال: سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني اشتريت من أعرابي ناقة ثم تواريت عنه فاستهلكت ثمنها ، فجاء الأعرابي يطلبني ، فقال له الناس: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعدي عليه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إن رجلا اشترى مني ناقة ثم توارى عني فما أقدر عليه ، قال: «اطلبه» ، قال: فوجدني فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: يا رسول الله إن هذا اشترى مني ناقة ثم توارى عني ، فقال: «أعطه ثمنها» ، قال: فقلت: يا رسول الله استهلكته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت سرق» ، ثم قال للأعرابي: «اذهب فبعه في السوق وخذ ثمن ناقتك» ، فأقامني في السوق فأعطى في ثمنا ، فقال للمشتري: ما تصنع به؟ ، قال: أعتقه ، فأعتقني الأعرابي".
والثاني: (3027): 2/ 20 - 21: " ثنا علي ، نا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، نا بندار ، نا عبد الصمد بن عبد الوارث ، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، نا يزيد بن أسلم ، قال: رأيت شيخا بالإسكندرية يقال له سرق ، فقلت: «ما هذا الاسم؟ » ، فقال: اسم سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن أدعه ، قلت: لم سماك؟ ، قال: قدمت المدينة فأخبرتهم أن مالي يقدم فباعوني فاستهلكت أموالهم ، فأتوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي: «أنت سرق»، وباعني بأربعة أبعرة ، فقال الغرماء للذي اشتراني: ما تصنع به؟ ، قال: أعتقه ، قالوا: فلسنا بأزهد منك في الأجر ، فأعتقوني بينهم وبقي اسمي".
(19)
تفسير القرطبي: 3/ 371.
قال المهدوي: "وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وحكى مكي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام"(1)، قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ" (2).
وقال ابن عاشور: " وقد قيل: إن ذلك كان حكما في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك [يوسف: 76]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريبا من هذا، وروي أنه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت"(3).
ويجوز في إعراب قوله تعالى: {نَظِرَةٌ} [البقرة: 280]، وجهان (4):
أحدهما: أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليكم نظرة؛ أو فله نظرة.
والثاني: بأن تكون خبراً لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عليه نظرة؛ أي إنظار إلى ميسرة؛ أي: إيسار.
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {نَظِرَةٌ} [البقرة: 280] على وجوه (5):
أحدها: قراءة الجماعة «نَظِرَةٌ» بكسر الظاء.
والثاني: وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية.
والثالث: وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى:{لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] وكقوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ} [القيامة: 25]، وكقوله:{يَعْلَمُ خَآاِنَةَ الاعْيُنِ} ، فيكون قوله {فناظرة} ، وقال: : قرأ عطاء فناظره: بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو: صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب، وباقل، بمعنى: ذو عشب وذو بقل، وعنه: فناظره، على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها" (6).
الرابع: {فناظروه} ، قرأه عبد الله، أي: فأنتم ناظروه. أي: فأنتم منتظروه (7).
وقوله تعالى: {مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فيه ثلاثة قراءات (8):
الأولى: {ميسُرة} بضمها. وهي قراءة نافع.
والثانية: {ميسَرة} بفتح السين، وهي قراءة باقي السبعة وجمهور الناس.
والثالثة: {ميسره} ، بضم السين وكسر الراء، وهي قراءة شاذة، قرأءه عطاء بن أبي رياح ومجاهد.
وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها (9).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 376.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 376.
(3)
التحرير والتنوير: 3/ 96.
(4)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 390.
(5)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 376.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 376.، وانظر: البحر المحيط: 2/ 257.
(7)
البحر المحيط: 2/ 257.
(8)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 414 - 415، والمحرر الوجيز: 1/ 377.
(9)
أنظر: السبعة: 192.
قال أبو عليّ: "القراءة الأولى أولى، لأنّ الكلمة بفتح العين منها أكثر من الضمّ، ومفعلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مفعلا بغير هاء بناء لم يجيء في الآحاد؟ "(1).
واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟ وفيه قولان (2):
أحدهما: أن الإِنظار بالعسرة واجب في دَيْن الربا خاصّة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها.
قاله: ابن عباس (3)، وشريح (4)، وإبراهيم (5) وابن عبيد بن عمير (6).
والثاني: أنه عام يجب إنظاره بالعسرة في كل دَيْن، لظاهر الآية، وهو قول ابن عباس (7)، وعطاء (8)، والضحاك (9).
قال الماوردي: وقيل إن الإِنظار بالعسرة في دَيْن الربا بالنص، وفي غيره من الديون بالقياس " (10).
قال ابن عطية: " وكأن القول [الأول] يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة"(11).
قال ابن عاشور: " ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكن الجمهور عمموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال دينا بحتا، فما عين له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كله"(12).
وقال الطبري: " والصواب من القول في قوله: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} ، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا، وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه
(1) الحجة للقراء السبعة: 2/ 415.
(2)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 377.
(3)
أنظر: تفسير الطبري: (6277): ص 6/ 29، و (6285): 6/ 30، وانظر: الخبر (6283): ص 6/ 30، وابن أبي حاتم (2934)، و (2935): ص 2/ 552.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6278): ص 6/ 29. ونحوه في (6281): ص: 6/ 30 - 31، وانظر: ابن أبي حاتم: 2/ 552.
(5)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 552.
(6)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 552.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6296): ص 6/ 33.
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2937): ص 2/ 552.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6295): ص 6/ 33.
(10)
النكت والعيون: 1/ 353.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 377.
(12)
التحرير والتنوير: 3/ 96.
معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه، فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد، ويكون في رقبته، فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد، فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل، لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس" (1).
قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280]، "أي: تُبرءوا المعسر في دينه" (2) فهو أكرم وأفضل.
قال البغوي: " أي تتركوا رءوس أموالكم إلى المعسر"(3).
قال ابن عاشور: " أي أن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأن فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف"(4).
أخرج ابن أبي حاتم " عن إبراهيم: {وأن تصدقوا خير لكم}، قال: برأس المال"(5). قال ابن أبي حاتم: "وروي عن قتادة والسدي والربيع ومقاتل بن حيان، نحو ذلك"(6).
وقال سعيد بن جبير: " من تصدق بدين له على معدم، فهو أعظم لأجره"(7). وفي رواية أخرى له: " {وأن تصدقوا خير لكم}: فهو أعظم لأجره، ومن لم يتصدق عليه لم يأثم، ومن حبس معسرا في السجن، فهو آثم، لقوله: فنظرة إلى ميسرة ومن كان عنده ما يستطيع أن يؤدي عن دينه فلم يفعل، كتب ظالما"(8).
قال الطبري: " وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، {خير لكم} أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته"(9).
قال الآلوسي: " أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا، أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا"(10).
قال ابن عطية: " وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره"(11).
قال ابن عاشور: " وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة
(1) تفسير الطبري: 6/ 33 - 34.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 390.
(3)
تفسير البغوي: 1/ 345.
(4)
التحرير والتنوير: 3/ 96.
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (2941): ص 2/ 553.
(6)
أنظر: تفسيره: 2/ 553.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2942): ص 2/ 553.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (2943): ص 2/ 553.
(9)
تفسير الطبري: 6/ 35.
(10)
روح المعاني: 2/ 53.
(11)
المحرر الوجيز: 1/ 377.
كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص" (1).
وقوله تعالى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} [البقرة: 280]، فيه قراءتان (2):
الأولى: «تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وهي قراءة الجمهور.
والثانية: «وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد، وهي وقراءة عاصم.
والثالثة: «وأن تصدقوا» بفك الإدغام، وذلك في مصحف عبد الله بن مسعود.
وقد ذكروا في قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، وجهان:
الأول: وأن تصدقوا " برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم " خير لكم. روي نحو ذلك عن قتادة (3)، وإبراهيم (4).
قال ابن عطية: " وليس في الآية مدخل للغني"(5).
والثاني: أن معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم. قاله السدي (6)، والربيع (7)، والضحاك (8)، وابن زيد (9).
قال الطبري: " وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: " وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم " لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه"(10).
قوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} [البقرة: 280]، "أي: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه" (11).
قال الطبري: " إن كنتم تعلمون " موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه" (12).
قال الصابوني: أي: " إن كنتم من ذوي العلم فافعلوا - أي تصدقوا"(13).
قال الآلوسي: " وفيه تحريض على الفعل"(14).
قال الصابوني: "إِن كنتم تعلمون ما فيه من الذكر الجميل والأجر العظيم"(15).
قال ابن عثيمين: "هذه الجملة الشرطية مستقلة يراد بها الحث على العلم؛ «مستقلة» أي أنها لا توصل بما قبلها؛ لأنها لو وصلت بما قبلها لأوهم معنًى فاسداً: أوهم أن التصدق خير لنا إن كنا نعلم؛ فإن لم نكن نعلم
(1) التحرير والتنوير: 3/ 96.
(2)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 377.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6298): ص 6/ 35 - 36.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6299)، و (6300)، و (6301): ص 6/ 36.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 377. واعترض على كلام الطبري قائلا: " وقال الطبري: وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول جمهور الناس .. ".
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6302) ص: 6/ 36.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6303) ص: 6/ 36.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6304)، و (6305)، و (6306) ص: 6/ 36 - 37.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6306) ص: 6/ 37.
(10)
تفسير الطبري: 6/ 37
(11)
روح المعاني: 2/ 53.
(12)
تفسير الطبري: 6/ 35.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 391.
(14)
روح المعاني: 2/ 53.
(15)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
فليس خيراً لنا؛ ولا شك أن هذا معنًى فاسد لا يراد بالآية؛ لكن المعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافعلوا - أي تصدقوا" (1).
وقيل: يحتمل قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 280] تأويلان (2):
أحدهما: يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه.
والثاني: معناه إذا كنتم مؤمنين.
وقد روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة" (3).
وعن عامر: "أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم " (4).
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس"(5).
(1) تفسير ابن عثيمين: 3/ 391.
(2)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 352.
(3)
أخرجه الطبري (6038): ص 6/ 37 - 38. والحديث رواه أحمد في المسند: 246، عن يحيى، وهو القطان. و: 350، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة. بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 2276، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، به.
وذكره ابن كثير 2: 58، عن الموضع الأول من المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 365، وزاد نسبته لابن الضريس، وابن المنذر. وأشار إليه في الإتقان 1: 33، موجزا، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط.
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد، لانقطاعه. فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، كما بينا في شرح المسند: 109، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 26 - 27.
(4)
أخرجه الطبري (6039): ص 6/ 38. اسناده ضعيف، لأن في اسناده الشعبي وهو لم يدرك عمر.
(5)
أخرجه الطبري (6310): ص 6/ 38.
قال ابن عطية: "ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وروي أن قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا} نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين [لم أقف على تخريجه]، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة". [المحرر الوجيز: 1/ 378].
قلت: اختلف أهل العلم في آخر آية نزلت من القرآن، على أقوال متعددة، تكلم فيها كلٌّ بما أداه إليه اجتهاده، وليس في شيء من ذلك خبر عن المعصوم، يمكن القطع به، ومن تلك الأقوال:
القول الأول: أن آخر آية نزلت هي آية الربا، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] روى ذلك البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
القول الثاني: أن آخر آية نزلت آية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] رواه النسائي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
القول الثالث: أن آخر آية نزلت آية الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]. فقد روي عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين.
وقد جمع بين هذه الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، فروى كل واحد بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل.
القول الرابع: أن آخر آية نزلت قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3].
وهنالك أقوال أخرى منها آية الكلالة، كما روى ذلك الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.
ومن أحسن ما قيل في هذا الاختلاف قول من قال: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلاً منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر أية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب. والله أعلم.
وقد قال الزرقاني: "وقد رجّح الزرقاني بأن آخر آية نزولا هو قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وذلك لأمرين:
أحدهما: ما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين، بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد وما تنوه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها.
ثانيهما: التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله". [مناهل العرفان: 1/ 70].
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: ثبوت رحمة الله عز وجل؛ وجه ذلك أنه أوجب على الدائن إنظار المدين؛ وهذا رحمة بالمعسر.
2 -
ومنها: حكمة الله عز وجل بانقسام الناس إلى موسر، ومعسر؛ الموسر في الآية: الدائن؛ والمعسر: المدين؛ وحكمة الله عز وجل هذه لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا بها، ولذلك بدأ الشيوعيون - الذين يريدون أن يساووا بين الناس - يتراجعون الآن؛ لأنهم عرفوا أنه لا يمكن أن يصلح العباد إلا هذا الخلاف؛ قال عز وجل:{أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} [الزخرف: 32]؛ ولولا هذا الاختلاف لم يمكن أن يسخر لنا أحد ليعمل ما نريد؛ لأن كل واحد ندّ للآخر؛ فلا يمكن إصلاح الخلق إلا بما تقتضيه حكمة الله عز وجل، وشرعه من التفاوت بينهم: فهذا موسر؛ وهذا فقير؛ حتى يتبين بذلك حكمة الله عز وجل، وتقوم أحوال العباد.
3 -
ومن فوائد الآية: وجوب إنظار المعسر - أي إمهاله حتى يوسر؛ لقوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} ؛ فلا تجوز مطالبته بالدَّين؛ ولا طلب الدَّين منه.
4 -
ومنها: أن الحكم يدور مع علته وجوداً، وعدماً؛ لأنه لما كان وجوب الإنظار معللًا بالإعسار صار مستمراً إلى أن تزول العلة - وهي العسرة - حتى تجوز مطالبته.
ولو أن الناس مشوا على تقوى الله عز وجل في هذا الباب لسلمت أحوال الناس من المشاكل؛ لكن نجد الغني يماطل: يأتيه صاحب الحق يقول: اقضني حقي؛ فيقول: غداً؛ ويأتيه غداً فيقول: بعد غد؛ وهكذا؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم» (1)؛ ونجد أولئك القوم الأشحاء ذوي الطمع لا يُنظرون المعسر، ولا يرحمونه؛ يقول له: أعطني؛ وإلا فالحبس؛ ويحبس فعلاً - وإن كان لا يجوز حبسه إذا تيقنا أنه معسر، ولا مطالبته، ولا طلب الدين؛ بل يعزر الدائن إذا ألح عليه في الطلب وهو معسر؛ لأن طلبه مع الإعسار معصية؛ والتعزير عند أهل العلم واجب في كل معصية لا حدّ فيها، ولا كفارة.
5 -
ومن فوائد الآية: فضيلة الإبراء من الدَّين، وأنه صدقة؛ لقوله تعالى:{وأن تصدقوا خير لكم} ؛ والإبراء سنة؛ والإنظار واجب؛ وهنا السنة أفضل من الواجب بنص القرآن؛ لقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} ؛ ووجه ذلك أن الواجب ينتظم في السنة؛ لأن إبراء المعسر من الدَّين إنظار، وزيادة؛ وعلى هذا فيبطل إلغاز من ألغز بهذه المسألة، وقال:«لنا سنة أفضل من الواجب» ، ومثل ذلك قول بعضهم في الوضوء ثلاثاً:
(1) أخرجه البخاري ص 178، كتاب الحوالات، باب 1: الحوالة وهل يرجع في الحوالة، حديث رقم 2287؛ وأخرجه مسلم ص 950، كتاب المساقاة، باب 7: تحريم مطل الغني وصحة الحوالة
…
، حديث رقم 4002 [33]1564.
«إنه أفضل من الوضوء واحدة مع أن الواحدة واجب، والثلاث سنة» ؛ فيُلغِز بذلك، ويقول:«هنا سنة أفضل من واجب» ؛ فيقال له: هذا إلغاز باطل؛ لأن هذه السنة مشتملة على الواجب؛ فهي واجب، وزيادة؛ وصدق الله، حيث قال في الحديث القدسي:«ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه» (1)؛ وهذا الحديث يبطل مثل هذه الألغاز التافهة.
6 -
ومن فوائد الآية: تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} ؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل، وأن العاملين بعضهم أفضل من بعض؛ وهذا أمر معلوم بالضرورة الشرعية والعقلية أن العمال يختلفون، كما قال تعالى:{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95]، وكما قال تعالى:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
ويتفرع على تفاضل العمال بتفاضل الأعمال: تفاضل الإيمان، لأن الأعمال من الإيمان عند أهل السنة، والجماعة؛ فإذا تفاضلت لزم من ذلك تفاضل الإيمان؛ ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
7 -
ومن فوائد الآية: فضيلة العلم، وأن العلم يهدي صاحبه إلى الخير؛ لقوله تعالى:{إن كنتم تعلمون} .
8 -
وهل يستفاد من الآية الكريمة: أن إبراء الغريم يجزئ من الزكاة: فلو أن إنساناً أبرأ فقيراً، ثم قال: أبرأته عن زكاتي؛ لأن الله سمى الزكاة صدقة؛ فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين
…
}؟
فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267]؛ وجعْل الدَّين زكاة للعين هذا من تيمم الخبيث لإخراجه عن الطيب؛ والمراد بالخبيث هنا الرديء - وليس الحرام؛ لأن العين مُلك قائم بيد المالك يتصرف فيه كيف يشاء؛ والدَّين الذي على معسر مال تالف؛ لأن الأصل بقاء الإعسار؛ وحينئذٍ يكون هذا الدَّين بمنزلة المال التالف؛ فلا يصح أن يجعل هذا المال التالف زكاة عن العين؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن إبراء الغريم المعسر لا يجزئ من الزكاة بلا نزاع؛ ولو قلنا: يجزئ لكان كل إنسان له غرماء لا يستطيعون الوفاء يقول: أبرأتكم ونويتها من الزكاة؛ فتبقى الأموال عنده، والديون التالفة الهالكة التي لا يرجى حصولها تكون هي الزكاة؛ وهذا لا يجوز؛ ولهذا لو خيرت شخصاً، وقلت له: أنا أعطيك عشرة ريالات نقداً، أو أحولك على إنسان فقير معسر عنده العشرة فإنه يختار العشرة نقداً؛ ولا يتردد؛ بل لو خيرته بين عشرة نقداً، وعشرين في ذمة معسر لاختار العشرة؛ فصارت العشرة المنقودة بالنسبة للدَّين من باب الطيب؛ وذاك من باب الرديء؛ وبهذا يتبين أنه لا يجزئ إبراء المدين المعسر عن زكاة مال بيد مالكه؛ لأنه من باب تيمم الخبيث؛ إذاً نقول: لا يجوز إبراء الفقير، واحتساب ذلك من الزكاة؛ نعم لو فرض أنه سيجعلها زكاة عن الدَّين الذي في ذمة المعسر - إذا قلنا بوجوب الزكاة في الدَّين - لكان ذلك مجزئاً؛ لأن هذا صار من جنس المال الذي أديت الزكاة عنه.
الخلاصة:
تبين مما ذكر من الآيتين أن المعاملة بالدَّين ثلاثة أقسام:
الأول: أن يأخذ به رباً؛ وهذا محرم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278].
الثاني: أن يكون المدين معسراً؛ فلا تجوز مطالبته، ولا طلب الدّين منه حتى يوسر؛ لقوله تعالى:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} .
الثالث: أن يبرئ المعسر من دينه؛ وهذا أعلى الأقسام؛ لقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} .
(1) أخرجه البخاري ص 545 - 546، كتاب الرقاق، باب 38 التواضع، حديث رقم 6502.
تتمة:
في هذه الآية وجوب الإنظار إلى ميسرة؛ ومن المعلوم أن حصول الميسرة مجهول؛ وهذا لا يضر؛ لأنه ليس من باب المعاوضة؛ ولكن لو اشترى فقير من شخص، وجعل الوفاء مقيداً بالميسرة فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان؛ فأكثر العلماء على عدم الجواز لأن الأجل مجهول؛ فيكون من باب الغرر المنهي عنه؛ والقول الثاني: أن ذلك جائز لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي (ص): «قدم لفلان اليهودي بزّ من الشأم لو أرسلت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة؛ فأرسل إليه فامتنع» (1)؛ ولأن هذا مقتضى العقد إذا علم البائع بإعسار المشتري؛ إذ لا يحلّ له حينئذٍ أن يطلب منه الثمن حتى يوسر؛ وهذا القول هو الراجح.
القرآن
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]
التفسير:
واحذروا -أيها الناس- يومًا ترجعون فيه إلى الله، وهو يوم القيامة، حيث تعرضون على الله ليحاسبكم، فيجازي كل واحد منكم بما عمل من خير أو شر دون أن يناله ظلم. وفي الآية إشارة إلى أن اجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية، تكميل للإيمان وحقوقه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعمل الصالحات.
قال ابن عاشور: " جيء بقوله: واتقوا يوما تذييلا لهاته الأحكام لأنه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثارا من ثوابها، والكل يرجع إلى اتقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح"(2).
قوله تعالى: : {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، " أي احذروا يوماً سترجعون فيه إِلى ربكم"(3).
قال الواحدي: أي: " تأهبوا للقاء هذا اليوم بما تقدمون من العمل الصالح"(4).
وقوله تعالى {يَوْماً} : هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل (5)، " كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا"(6).
وفي قوله: {إِلَى اللَّهِ} مضاف محذوف، تقديره: إلى حكم الله وفصل قضائه (7).
واختلف أهل التفسير في تحديد هذا (اليوم) المحذر منه، على قولين (8):
الأول: قال جمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية.
والثاني: وقال قوم: هو يوم الموت.
قال ابن عطية: "والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية"(9).
وقوله تعالى: {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، فيه وجهان (10):
(1) أخرجه أحمد 6/ 147 حديث رقم 25656، وأخرجه الترمذي ص 1772، كتاب البيوع، باب 7: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، حديث رقم 1213، وأخرجه النسائي ص 2386، كتاب البيوع، باب 70: البيع إلى الأجل المعلوم، حديث رقم 4632؛ وأخرجه الحاكم 2/ 23 – 24، كتاب البيوع، وقال: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي؛ وقال الألباني في صحيح الترمذي 2/ 4 – 5: صحيح.
(2)
التحرير والتنوير: 3/ 97.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(4)
الوسيط: 1/ 399.
(5)
فتح القدير: 1/ 298.
(6)
روح المعاني: 2/ 53.
(7)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 378.
(8)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 378.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 378.
(10)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 353.
أحدهما: يعني إلى جزاء الله.
والثاني: إلى ملك الله.
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ} ، على وجوه (1):
أحدها: {تَرْجِعُونَ} بفتح التاء وكسر الجيم، على أنه مبني للفاعل، أي تصيرون إلى الله، وهي قراءة أبي عمرو وحده.
والثاني: وقرأ الآخرون {تُرْجَعُونَ} ، بضم التاء وفتح الجيم، على أنه مبني لما لم يسم فاعله، أي: تردون إلى الله تعالى.
والثالث: وقرأ أبي بن كعب: {تردون} ، بضم التاء، حكاه عنه ابن عطية (2).
والرابع: وقرأ عبد الله: {يردون} . حكاه عنه الزمخشري (3).
الخامس: وقرأ أبي: {تصيرون} . حكاه عنه الزمخشري (4).
السادس: وقرأ الحسن "يًرجَعون" بالياء، حكاه عنه ابن عطية (5)، على معنى يرجع جميع الناس، قال ابن جني:"كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: {واتقوا يوما} ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم"(6).
قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} [البقرة: 281]، أي:" ثم توفى كل نفسٍ حسابها"(7).
قال سعيد بن جبير: " يعني: ما عملت من خير أو شر"(8).
وقال ابن عباس: " يريد ثواب عملها، خيرا بخير، وشرا بشر"(9).
قال ابن عثيمين: " أي تعطى ثوابها، وأجرها المكتوب لها - إن كان عملها صالحاً؛ أو تعطى العقاب على عملها - إن كان عملها سيئاً .. و (التوفية) بمعنى الاستيفاء؛ وهو أخذ الحق ممن هو عليه"(10).
وقوله تعالى: {مَّا كَسَبَتْ} [البقرة: 281]، أي "ما حصلت عليه من ثواب الحسنات، وعقوبة السيئات"(11).
وقد ذكروا في قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [البقرة: 281]، تأويلان (12):
أحدهما: جزاء ما كسبت من الأعمال.
والثاني: ما كسبت من الثواب والعقاب.
قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، " أي: لا ينقص ثوابهم، ولا يزاد عقابهم" (13).
قال ابن عباس: "يريد: وهم لا ينقصون، لا أهل الثواب ولا أهل العقاب، قال: وهذه الآية لجميع الخلق البر والفاجر"(14).
(1) انظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 417 - 418، والسبعة:193.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 378.
(3)
أنظر: الكشاف: 1/ 323.
(4)
أنظر: الكشاف: 1/ 323.
(5)
أنظر: انظر: المحرر الوجيز: 1/ 378.
(6)
المحتسب: 1/ 145، وقيّدها بضم الياء، وانظر: المحرر الوجيز: 1/ 378، وتفسير القرطبي: 3/ 376.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 158.
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2945): ص 2/ 554.
(9)
الوسيط: / 1/ 399.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 396 - 397.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 397.
(12)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 353.
(13)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 587.
(14)
ذكره في: الوسيط/ 1/ 399.
قال المراغي: " أي: لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم"(1).
قال أبو حيان: " أي: لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب"(2).
قال الطبري: " وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟ ! "(3).
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: " وهم لا يظلمون يعني: من أعمالهم، لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم"(4).
قال ابن عطية: " في هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية"(5).
وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} جملة استئنافية؛ ويحتمل أن تكون جملة حالية من {كل نفس} ؛ لكن الأول أظهر (6)، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله (7).
قال الصابوني: " وقد ختمت هذه الآيات الكريمة بهذه الآية لجامعة المانعة التي كانت آخر ما نزل من القرآن وبنزولها انقطع الوحي، وفيها تذكير العباد بذلك اليوم العصيب الشديد"(8).
وقال السعدي: " وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك"(9).
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن " سعيد بن جبير، قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ}، يعني: {توفى كل نفس}، يعني: برا أو فاجرا. وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول"(10). وروي نحوه عن ابن عباس (11)، وعطية (12)، والسدي (13)، وسعيد بن المسيب (14).
(1) تفسير المراغي: 1/ 548.
(2)
البحر المحيط: 2/ 259.
(3)
تفسير الططبري: 6/ 42.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم (2946): ص 2/ 554.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 378.
(6)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 397.
(7)
أنظر: روح المعاني: 2/ 53.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 159.
(9)
تفسير السعدي: 1/ 117 - 118.
(10)
تفسير ابن أبي حاتم (2944): ص 2/ 554، وانظر سنن النسائي الكبرى برقم (11057)، وتفسير الثوري: 73، وتفسير ابن كثير: 1/ 721.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6311)، و (6312)، و (6315): 6/ 39 - 40.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6313): ص 6/ 40.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6314): ص 6/ 40.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6316): ص 6/ 40.
وقد اختلف العلماء في تعيين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، واستند كل منهم إلى آثار ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي، فكان هذا من دواعي الاشتباه وكثرة الخلاف على أقوال شتى، وقد فصلنا القول في هذا الموضوع في تفسير الآية السابقة (1)، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وجوب اتقاء هذا اليوم الذي هو يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} ؛ واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.
2 -
ومنها: أن التقوى قد تضاف لغير الله - لكن إذا لم تكن على وجه العبادة؛ فيقال: اتق فلاناً، أو: اتق كذا؛ وهذا في القرآن والسنة كثير؛ قال الله سبحانه وتعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 130، 131]؛ لكن فرق بين التقويين؛ التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، وخضوع؛ والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم، أو عذاب النار؛ وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اتق دعوة المظلوم» (2)؛ فأضاف «التقوى» هنا إلى «دعوة المظلوم» ؛ واشتهر بين الناس: اتق شر من أحسنت إليه؛ لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله عز وجل؛ بل هي بمعنى الحذر.
3 -
ومن فوائد الآية: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: {ترجعون فيه إلى الله} .
4 -
ومنها: أن مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً، وتقديراً، وجزاءً؛ فالمرجع كله إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]، وقال تعالى:{إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8]، أي في كل شيء.
5 -
ومنها: إثبات قدرة الله عز وجل؛ وذلك بالبعث؛ فإن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد أن كانوا رميماً، وتراباً.
6 -
ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {واتقوا يوماً} ؛ لأن توجيه الأمر إلى العبد إذا كان مجبراً من تكليف ما لا يطاق.
7 -
ومنها: أن الإنسان لا يوفى يوم القيامة إلا عمله؛ لقوله تعالى: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} ؛ واستدل بعض العلماء على أنه لا يجوز إهداء القرب من الإنسان إلى غيره؛ أي أنك لو عملت عملاً صالحاً لشخص معين؛ فإن ذلك لا ينفعه، ولا يستفيد منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{توفى كل نفس ما كسبت} ؛ لا ما كسب غيرها؛ فما كسبه غيره فهو له؛ واستثني من ذلك ما دلت السنة على الانتفاع به من الغير كالصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (3)؛ والحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استفتته أن تحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة قالت: أفأحج عنه قال: «نعم» (4)؛ وكذلك المرأة التي استفتته أن تحج عن أمها التي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت قالت: أفأحج عنها قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» (5)؛ وكذلك الصدقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استفتاه أن
(1) وهي: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة: 280].
(2)
أخرجه البخاري ص 118، كتاب الزكاة، باب 63: أخذ الصدقة من الأغنياء
…
، حديث رقم 1496؛ وأخرجه مسلم ص 684، كتاب الإيمان، باب 7: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم 121 [29]19.
(3)
أخرجه البخاري ص 152، كتاب الصوم، باب 42: من مات وعليه صوم، حديث رقم 1952؛ وأخرجه مسلم ص 861، كتاب الصيام، باب 27: قضاء الصوم عن الميت حديث رقم 2692 [153]1147.
(4)
أخرجه البخاري ص 120، كتاب الحج، باب 1، وجوب الحج وفضله
…
، حديث رقم 1513؛ وأخرجه مسلم ص 900، كتاب الحج، باب 71: الحج عن العاجز لزمانه وهرم
…
، حديث رقم 3251 [407]1334.
(5)
أخرجه البخاري ص 145، كتاب الحج، باب 22: الحج والنذور عن الميت، حديث رقم 1852.
يتصدق عن أمه: «نعم» (1)؛ وأذن لسعد بن عبادة أن يتصدق بمخرافه عن أمه (2)؛ وأما الدعاء للغير إذا كان المدعو له مسلماً فإنه ينتفع به بالنص، والإجماع؛ أما النص ففي الكتاب، والسنة؛ أما الكتاب ففي قوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10]؛ وأما السنة ففي قوله (ص): «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه» (3)، وكان (ص) إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال:«استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل» (4)؛ وأما الإجماع: فإن المسلمين كلهم يصلون على الأموات، ويقولون في الصلاة:«اللهم اغفر له، وارحمه» ؛ فهم مجمعون على أنه ينتفع بذلك.
والخلاف في انتفاع الميت بالعمل الصالح من غيره فيما عدا ما جاءت به السنة معروف؛ وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن أيّ قربة فعلها، وجعل ثوابها لميت مسلم قريب، أو بعيد نفعه ذلك؛ ومع هذا فالدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه؛ لأنه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (5)؛ ولم يذكر العمل مع أن الحديث في سياق العمل.
وأما ما استدل به المانعون من إهداء القرب من مثل قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 3] فإنه لا يدل على المنع؛ بل على أن سعي الإنسان ثابت له؛ وليس له من سعي غيره شيء إلا أن يجعل ذلك له؛ ونظير هذا أن تقول: «ليس لك إلا مالك» ، فإنه لا يمنع أن يقبل ما تبرع به غيره من المال.
وأما الاقتصار على ما ورد فيقال: إن ما وردت قضايا أعيان؛ لو كانت أقوالاً من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا: نعم، نتقيد بها؛ لكنها قضايا أعيان: جاءوا يسألون قالوا: فعلت كذا، قال: نعم، يجزئ؛ وهذا مما يدل على أن العمل الصالح من الغير يصل إلى من أُهدي له؛ لأننا لا ندري لو جاء رجل وقال: يا رسول الله، صليت ركعتين لأمي، أو لأبي، أو لأخي أفيجزئ ذلك عنه، أو يصل إليه ثوابه لا ندري ماذا يكون الجواب؛ ونتوقع أن يكون الجواب:«نعم» ؛ أما لو كانت هذه أقوال بأن قال: «من تصدق لأمه أو لأبيه فإنه ينفعه» ، أو ما أشبه ذلك لقلنا: إن هذا قول، ونقتصر عليه.
8 -
ومن فوائد الآية: أن الصغير يكتب له الثواب؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {ثم توفى كل نفس} .
فإن قال قائل: وهل يعاقب على السيئات؟
فالجواب: «لا» ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة
…
»، وذكر منها:«الصغير حتى يحتلم» (6)؛ ولأنه ليس له قصد تام لعدم رشده؛ فيشبه البالغ إذا أخطأ، أو نسي.
(1) أخرجه البخاري ص 222، كتاب الوصايا، باب 19: ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، حديث رقم 2760؛ وأخرجه مسلم ص 836، كتاب الزكاة، باب 15: وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، حديث رقم 2326 [51] 1004؛ واللفظ للبخاري.
(2)
أخرجه البخاري ص 221، كتاب الوصايا، باب 16: إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله، حديث رقم 2756.
(3)
أخرجه مسلم 827، كتاب الجنائز، باب 19: من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، حديث رقم 2199 [59]948.
(4)
أخرجه أبو داود ص 1465، كتاب الجنائز، باب: 67 الاستفغار عند القبر للميت، حديث رقم 3221، وأخرجه الحاكم 1/ 370، كتاب الجنائز، وقال: صحيح، وقال الذهبي: صحيح (المرجع السابق 1/ 371) وقال: عبد الله بن بحير ليس بالعمدة، ومنهم من يقويه، وهانئ روى عنه جماعة، وليس له ذكر في الكتب الستة (المرجع السابق)، وقال النسائي: ليس به بأس (ت التهذيب 9/ 23)، أخرج له أبو داود هذا الحديث، وأخرج الترمذي وابن ماجة حديثاً آخر: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى
…
)، وقال الألباني في صحيح أبي داود 2/ 305: صحيح؛ وقال عبد القادر في تخريج جامع الأصول 11/ 149، حديث رقم 8658 حاشية (1): ‘إسناده حسن.
(5)
أخرجه مسلم ص 963، كتاب الوصية، باب 3: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 4223 [15]1631.
(6)
أخرجه أحمد 6/ 100 – 101: حديث رقم 25201؛ وأخرجه أبو داود ص 1544، كتاب الحدود، باب 17: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، حديث رقم 4398؛ وأخرجه النسائي ص 2312، كتاب الطلاق باب 21: من لا يقع طلاقه من الأزواج، حديث رقم 3462؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2599، كتاب الطلاق، باب 15: طلاق المعتوه والصغير والنائم، حديث رقم 2041، وأخرجه الدارمي 2/ 225، كتاب الحدود، باب 1: رفع القلم عن ثلاثة، حديث رقم 2296، وأخرجه الحاكم 2/ 59، كتاب البيوع، وقال: صحيح على شرط مسلم؛ وأقره الذهبي، ومدار الحديث على حماد بن أبي سليمان: اختلفوا فيه؛ وقال الذهبي: وثقه ابن معين وغيره (الميزان 1/ 595)؛ فهو حسن الحديث (تحرير التقريب 1/ 319)، وقال الألباني في صحيح أبي داود 3/ 55: صحيح، وقال عبد القادر في تخريج جامع الأصول 3/ 611، حاشية (3): إسناده حسن.
القرآن
التفسير:
يا من آمنتم بالله واتبعتم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إذا تعاملتم بدَيْن إلى وقت معلوم فاكتبوه؛ حفظًا للمال ودفعًا للنزاع. ولْيقُم بالكتابة رجل أمين ضابط، ولا يمتنع مَن علَّمه الله الكتابة عن ذلك، ولْيقم المدين بإملاء ما عليه من الدَّيْن، وليراقب ربه، ولا ينقص من دينه شيئا. فإن كان المدين محجورًا عليه لتبذيره وإسرافه، أو كان صغيرًا أو مجنونًا، أو لا يستطيع النطق لخرس به أو عدم قدرة كاملة على الكلام، فليتولَّ الإملاء عن المدين القائم بأمره، واطلبوا شهادة رجلين مسلمَيْن بالِغَيْن عاقلَيْن من أهل العدالة. فإن لم يوجد رجلان، فاطلبوا شهادة رجل وامرأتين ترضون شهادتهم، حتى إذا نَسِيَتْ إحداهما ذكَّرتها الأخرى، وعلى الشهداء أن يجيبوا مَن دعاهم إلى الشهادة، وعليهم أداؤها إذا ما دعوا إليها، ولا تَمَلُّوا من كتابة الدَّين قليلا أو كثيرًا إلى وقته المعلوم. ذلكم أعدل في شرع الله وهديه، وأعظم عونًا على إقامة الشهادة وأدائها، وأقرب إلى نفي الشك في جنس الدَّين وقدره وأجله. لكن إن كانت المسألة مسألة بيع وشراء، بأخذ سلعة ودفع ثمنها في الحال، فلا حاجة إلى الكتابة، ويستحب الإشهاد على ذلك منعًا للنزاع والشقاق، ومن الواجب على الشاهد والكاتب أداء الشهادة على وجهها والكتابة كما أمر الله. ولا يجوز لصاحب الحق ومَن عليه الحق الإضرار بالكُتَّاب والشهود، وكذلك لا يجوز للكُتَّاب والشهود أن يضارُّوا بمن احتاج إلى كتابتهم أو شهادتهم، وإن تفعلوا ما نهيتم عنه فإنه خروج عن طاعة الله، وعاقبة ذلك حالَّة بكم. وخافوا الله في جميع ما أمركم به، ونهاكم عنه، ويعلمكم الله جميع ما يصلح دنياكم وأخراكم. والله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء من أموركم، وسيجازيكم على ذلك.
لما ذكر تعالى الربا وبيَّن ما فيه من قباحة وشناعة، لأنه زيادة مقتطعة من عرق المدين ولحمه وهو كسب خبيث يمقته الإِسلام ويحرمه، أعقبه بذكر القرض والحسن بلا فائدة وذكر الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن، وكلها طرق شريفة لتنمية المال وزيادته بما فيه صلاح الفرد والمجتمع (1).
قال ابن عباس: "لما حرم الله تعالى الربا، أباح السلم، فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} الآية"(2). قال ابن عطية: "معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا"(3).
(1) أنظر: صفوة التفاسير: 1/ 160.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 5، والشافعي في "الأم" 3/ 93، والطبري في "تفسيره" 3/ 116 - 117، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 554.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 378.
وهذه الآية الكريمة أطول آية في كتاب الله؛ وهي في المعاملات بين الخلق؛ وأقصر آية في كتاب الله قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، لأنها خمسة أحرف؛ وأجمع آية للحروف الهجائية كلها آيتان في القرآن فقط؛ إحداهما: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] الآية؛ والثانية قوله تعالى: {{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
…
} [الفتح: 29] الآية؛ فقد اشتملت كل واحدة منهما على جميع الحروف الهجائية (1).
وري عن سعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن"(2).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 282]، أي:" يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله"(3).
وسبق أن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، يعني استمع لها، ؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(4)(5).
قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282]، أي:" إذا تبايعتم بدين"(6).
قال الصابوني: "إِذا تعاملتم بدينٍ مؤجل"(7).
وفي قوله تعالى {تداينتم} [البقرة: 282]، تأويلان (8):
أحدهما: تجازيتم.
والثاني: تعاملتم.
قال الواحدي: " التداين: تفاعل، من الدين، ومعناه: داين بعضكم بعضا وتبايعتم بدين، قال أهل اللغة: "القرض غير الدين؛ لأن القرض أن يقترض الإنسان دراهم أو دنانير أو حبا وتمرا وما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل، والأجل في الدين جائز" (9)(10).
ويقال من الدين: ادان: إذا باع سلعته بثمن إلى أجل، ودان بدين: إذا أقرض، ودان استقرض، وأنشد الأحمر (11):
ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
…
مصارع قوم لا يدينون ضيعا
(1) أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 403.
(2)
أخرجه ابن كثير في تفسيره: 1/ 721.
(3)
تفسير الطبري: 6/ 43.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير 1/ 196، تحقيق أسعد أحمد الطيب، وسنده: قال ابن أبي حاتم: ثنا أبي نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك ثنا مسعر ثنا معن وأبو عون أو أحدهما أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود
…
، ونعيم بن حماد قال الحافظ فيه: صدوق يخطئ كثيراً، وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: أرجو أن يكون باقي حديثه مستقيماً، الكامل لابن عدي 8/ 251 - 256، ولم يذكر ابن عدي هذا الأثر ومعن هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ت. التهذيب، وأبو عون، كما في التهذيب هو أبو عون الثقفي محمد بن عبيد الله الأعور؛ وكلاهما ثقة، لكن معن بن عبد الرحمن لم يدرك عبد اله بن مسعود، لأن الحافظ عده من الطبقة السابعة، وأما أبو عون فإنه مات سنة 110 هجرياً، وعبد الله بن مسعود مات سنة 33 هـ، ت. التهذيب [9/ 285، 6/ 25]، فيبعد أن يكون قد أدرك ابن مسعود، فيكون حديث معن وأبي عون عن ابن مسعود مرسلاً.
(5)
انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.
(6)
تفسير الطبري: 6/ 43.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(8)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 354.
(9)
أنظر: اللسان: (أجل): 1/ 32.
(10)
البسيط: 4/ 483.
(11)
البيت للعجير السلولي، في "لسان العرب" 3/ 1468 (مادة: دين)، "تاج العروس" (مادة: دين)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 2/ 1137، ينظر:"المعجم المفصل في شواهد اللغة" 4/ 249. قال ابن بري: صوابه ضيع بالخفض على الصفة لقوم وقبله:
فعد صاحب اللحام سيفا تبيعه
…
وزد درهما فوق المغالين واخنع
فهذا على معنى يستقرض، وادان: إذا كثر عليه الدين، وتدين واستدان: إذا أخذ الدين (1)، قال الشاعر (2):
يعيرني بالدين قومي وإنما
…
تدينت في أشياء تكسبهم حمدا
قال المفسرون: "كل حق مؤجل فهو داخل تحت قوله: {إذا تداينتم بدين} "(3).
قال ابن الأنباري: "إنما ذكر الدين مع أن {تداينتم} يدل عليه؛ لأن التداين يكون بمعنيين:
أحدهما: التداين بالمال.
والآخر: التداين بمعنى: المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين: الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتلخيص أحد المعنيين" (4).
قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282]، أي:"إلى وقت معلوم وقتموه بينكم"(5).
قال ابن عباس: "إلى أجل معلوم"(6).
قال ابن عطية: " ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل"(7).
قال الواحدي: " الأجل في اللغة: الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين: محله، لانقضاء التأخير فيه، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا: إذا تأخر، والآجل: نقيض العاجل"(8).
قال الطبري: " وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه"(9).
وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السلم خاصة (10).
قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ] [البقرة: 282]، أي:" فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى"(11).
قال أبن عباس: " فأمر بالشهادة عند المداينة، لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى"(12).
قال الصابوني: " وهذا إِرشاد منه تعالى لعباده بكتابة المعاملات المؤجلة ليكون ذلك أحفظ وأوثق لمقدارها وميقاتها"(13).
قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ"(14).
(1) ينظر في دين: "تهذيب اللغة" 2/ 1137، "المفردات" ص 181، "اللسان" 3/ 1468.
(2)
البيت للمقنع الكندي، ينظر "اللسان" 3/ 1468 مادة:(دين)، "تهذيب اللغة" 2/ 1138، "البحر المحيط" 2/ 8 ويروى البيت هكذا:
يعاتبني في الدين قومي وإنما
…
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
(3)
تفسير الثعلبي: 2/ 1783.
(4)
أنظر: "تفسير الثعلبي: 2/ 1783، والبسبط للواحدي: 4/ 485، وقيل: إنها جاءت للتوكيد، كقوله: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]. و"تفسير الطبري" 3/ 117، و"المدخل لتفسير كتاب الله": للحدادي 296 ص، و"تفسير أبي المظفر السمعاني" 2/ 461.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 43.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2950): 2/ 555.
(7)
المحرر الوجيز: 1/ 378.
(8)
البسيط: 4/ 485.
(9)
تفسير الطبري: 6/ 43.
(10)
أنظر: تفسير الطبري: (6317)، و (6318)، و (6319)، و (6320)، و (6321): ص 6/ 44 - 45، وابن أبي حاتم (2947)، و (2948): ص 2/ 554.
(11)
تفسير الطبري: 6/ 47.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (2951): ص 2/ 555.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 722.
قال الواحدي: " الكتابة والإشهاد اللذان ذكرا في هذه الآية للتداين، والمبايعة"(1).
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب، وفيه قولان (2):
أحدهما: أنه ندب، وقالوا: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} . وهو قول أبي سعيد الخدري (3)، والشعبي (4)، وعامر (5)، وعطاء (6)، وابن زيد (7)، والحسن (8)، وهو اختيار الفراء (9)، والأنباري (10).
والثاني: أنه فرض، قاله الضحاك (11)، وابن جريج (12)، والربيع (13)، وكعب (14)، وإبراهيم (15)، وسعيد بن جبير (16)، وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء، نحو ذلك (17).
قال ابن عطية: "وقال جمهور العلماء: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك {فَلْيُؤَدِّ} [البقرة: 283] الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج (18)، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك"(19).
(1) البسيط: 4/ 485.
(2)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 47 وما بعدها.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6337): ص 6/ 50.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6327)، و (6329)، و (6330): ص 6/ 48 - 49، و (6335)، و (6336): ص 6/ 50، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 566. نقله دون ذكر السند.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6328): ص 6/ 48، و (6334): ص 6/ 49 - 50.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6331): ص 6/ 49.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6332): ص 6/ 49.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6333): ص 6/ 49، وابن أبي حاتم:(3021): ص 2/ 566.
(9)
أنظر: معاني القران: 1/ 183، قال فيه: "هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من الله، فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس
(10)
أنظر: البسيط للواحدي: 4/ 486، قال فيه:" وهو اختيارنا؛ لاتفاق أكثر العلماء عليه، ولأن الأمر لو كان حتما لم يكن المسلمون ليقدموا على خلاف نص القرآن في أسواقهم، ولكان فيه أعظم التشديد على الناس والتغليظ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بعثت بالحنفية السمحة".
والحديث: رواه أحمد 5/ 266. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 109: وسنده حسن.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6322): ص 6/ 47، وابن ابي حاتم (2952): ص 2/ 555، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 566. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6323): ص 6/ 47.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6324)، و (6325): ص 6/ 47 - 48، وابن أبي حاتم (2953): ص 2/ 555.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6326): ص 6/ 48.
(15)
المغني 6/ 381.
(16)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3020): ص 2/ 566.
(17)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم 2/ 566. نقل عنهم ذلك دون ذكر السند.
(18)
أنظر: تفسيره: 6/ 46 وما بعدها.
(19)
المحرر الوجيز: 1/ 379.
قوله تعالى: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]، "أي وليكتب لكم كاتب عادل مأمون لا يجور على أحد الطرفين"(1).
قال مقاتل: " أمر الكاتب أن يكتب بينهما بالعدل "(2).
وقال سعيد بن جبير ": {وليكتب بينكم}، بين البائع والمشتري"(3).
قال ابن كثير: " أي: بالقسط والحق، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان"(4).
وقوله {بِالْعَدْلِ} ، أي "بالاستقامة، وهو ضد الجور؛ والمراد به ما طابق الشرع"(5).
روي "عن السدي، في قوله: {بالعدل}، يقول: بالحق"(6).
قال قتادة: " اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا"(7).
وقال سعيد بن جبير: " {كاتب بالعدل}، يعني: يعدل بينهما في كتابه لا يزد على المطلوب، ولا ينقص من حق الطالب"(8).
قال الشوكاني: " أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم"(9).
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} [البقرة: 282]، "أي ولا يمتنع أحد من الكتابة بالعدل كما علّمه الله"(10).
قال ابن عثيمين: " أي: لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك"(11).
قوله تعالى: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، " أي: على الطريقة التي علمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله {بالعدل} " (12).
قال الضحاك: " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله كما أمره الله"(13)، وروي نحوه عن سعيد بن جبير (14).
قال ابن كثير: " أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس، ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث:
(1) صفوة التفاسير: 1/ 161.
(2)
أخرجه: تفسير ابنأبي حاتم (2955): ص 2/ 556.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (2956): ص 2/ 556.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 403.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2958): ص 2/ 556.
(7)
أخرجه الطبري (6338): ص 6/ 50.
(8)
أخرجه ابن ابي حاتم (2957): ص 2/ 556.
(9)
فتح القدير: 1/ 300.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 403.
(12)
فتح القدير: 1/ 300.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (2964): ص 2/ 557، و (2959): ص 2/ 556.
(14)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2963): ص 2/ 557.
"إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق"(1)، وفي الحديث الآخر:"من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار"(2) " (3).
و(الكاف) في قوله تعالى: {كَمَا} [البقرة: 282]، تحتمل وجهين (4):
أحدهما: أن تكون للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه.
والثاني: أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك، وذكروا وجوها (5):
أحدها: أنه فرض على الكفاية كالجهاد، قاله مجاهد (6)، وعطاء (7)، وعامر (8)، والربيع (9).
والثاني: أنه واجب عليه في حال فراغه، قاله السدي (10)، والشعبي (11)، وعطاء (12)، ومقاتل (13).
والثالث: أنه ندب، قاله مجاهد (14).
والرابع: أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ، قاله الضحاك (15)، والربيع (16)،
قال الطبري: " ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه"(17).
وقال ابن عطية: وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: 77] وهو من باب عون الضائع" (18).
وقال الرازي: "نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» (19) "(20).
قوله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282]، " أي: تلك الكتابة المعلمة" (21).
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (2518) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد في المسند (2/ 304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(4)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 403 - 404.
(5)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 51 وما بعدها.
(6)
انظر: تفسير الطبري (6339)، و (6341)، و (6341): ص 6/ 52، وابن أبي حاتم (2960): ص 2/ 556.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6340): ص 6/ 52.
(8)
انظر: تفسير الطبري (6345): ص 6/ 53.
(9)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: (2965): ص 2/ 557، وانظر تفسيره: 2/ 556. ذكره دون سند.
(10)
انظر: تفسير الطبري (6345): ص 6/ 53، وابن أبي حاتم (2962): ص 2/ 557.
(11)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 356.
(12)
أنظر: تفسر ابن ابي حاتم: 2/ 556. ذكره دون سند.
(13)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2961): ص 2/ 557.
(14)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 355.
(15)
انظر: تفسير الطبري (6343): ص 6/ 52.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6344): ص 6/ 53.
(17)
تفسير الطبري: 6/ 53054.
(18)
المحرر الوجيز: 1/ 379.
(19)
رواه أحمد 5/ 266. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 109: وسنده حسن.
(20)
مفاتيح الغيب: 7/ 92.
(21)
محاسن التأويل: 2/ 234.
قال القاسمي: "أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيدا لها"(1).
قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، " أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين" (2).
قال ابن كثير: " أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين"(3).
قال الواحدي: " الإملال والإملاء: لغتان، قال الفراء: أمللت: لغة الحجاز وبني أسد، وأمليت: لغة بني تميم وقيس، نزل القرآن باللغتين، قال الله تعالى في اللغة الثانية:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5].
ومعنى الآية: أن الذي عليه الدين يملي، لأنه المشهود عليه، فيقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه" (4).
قال أبو حيان: أي: فليكتب الكاتب، وليملل من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمّته، والمستوثق منه بالكتابة" (5).
قال القاسمي: "أي: وليكن المملي على الكاتب، المدين وهو الذي عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه"(6).
قال سعيد بن جبير: "وليملل الذي عليه الحق يعني المطلوب. يقول ليمل ما عليه من الحق، على الكاتب، من حق المطلوب"(7). وروي عن الضحاك (8)، ومقاتل (9)، نحو ذلك.
قال البغوي: " يعني: المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد، جاء بهما القرآن، فالإملال هاهنا، والإملاء قوله تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] "(10).
وروي عن الشافعي، في قوله:{وليملل الذي عليه الحق} ، إنما معناه: أن يقر، قط، بالحق، ليس معناه أن يملي" (11).
قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282]، أي:"وليخش المملي، اللَّهَ رَبَّهُ"(12).
قال البغوي: " يعني الممل"(13).
قال أبو حيان: أي" فيما يمليه ويقربه"(14).
قال القاسمي: " جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، للمبالغة في التحذير"(15).
وروي "عن قتادة: {وليتق الله ربه}، يتقي الله شاهد في شهادته، لا ينتقص منها حقا، ولا يزيد فيها باطلا، (اتقا) الله كاتب، في (كتابته) لا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا"(16).
(1) محاسن التأويل: 2/ 234.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(4)
تفسير الوسيط: 1/ 403.
(5)
البحر المحيط: 2/ 260.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 234.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2966): ص 2/ 557.
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 557. ذكره دون سند.
(9)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم 2/ 558. ذكره دون سند.
(10)
تفسير البغوي: 1/ 349.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (2967): ص 2/ 557.
(12)
محاسن التأويل: 2/ 234.
(13)
تفسير البغوي: 1/ 349.
(14)
البحر المحيط: 2/ 260.
(15)
محاسن التأويل: 2/ 234.
(16)
أخرجه ابن ابي حاتم (2969): ص 2/ 558.
قوله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]، أي" ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا"(1).
قال ابن كثير: " أي: لا يكتم منه شيئًا"(2).
قال الواحدي: " أمرَ منْ عليه الحق أن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص شيئا"(3).
قال القاسمي: " أي لا ينقص شَيْئاً مما عليه من الدين"(4).
قال الربيع: " لا يظلم منه شيئًا"(5). وروي نحوه عن الحسن (6)، وقتادة (7).
وقال ابن زيد: " لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى"(8)، وروي نحوه عن سعيد بن جبير (9)، ومقاتل (10) والضحاك (11).
قال ابن عطية: " والبخس: النقص بنوع من المخادعة والمدافعة"(12).
قوله تعالى: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} [البقرة: 282]، " أي إِن كان المدين ناقص العقل مبذراً"(13).
روي "عن سعيد بن جبير، في قوله: {فإن كان الذي عليه الحق}، يعني: المطلوب"(14).
وقوله تعالى: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} [البقرة: 282]، فيه أربعة تأويلات (15):
أحدها: أنه الجاهل بالصواب فيما عليه أن يملّه على الكاتب، وهو قول مجاهد (16)، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير نحو ذلك (17).
والثاني: أنه الطفل الصغير. قاله السدي (18)، والضحاك (19).
والثالث: أنه المبذر لماله (20)، المُفْسِد في دينه، وهو معنى قول الشافعي.
والرابع: الذي يجهل قدر المال، ولا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره.
قال الطبري: " السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه "، لما قد بينا قبل من أن معنى " السفه " في كلام العرب: الجهلُ، وقد يدخل في قوله:" فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا "، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى
(1) تفسير البغوي: 1/ 349.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(3)
الوسيط: 1/ 403.
(4)
محاسن التأ، يل: 2/ 234.
(5)
أخرجه الطبري (6346): ص 6/ 56، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 558. ذكره دون سند.
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2971): ص 2/ 558.
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 558.
(8)
أخرجه الطبري (6347): ص 6/ 56.
(9)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2970): ص 2/ 558.
(10)
أخرجه ابن المنذر في تفسيره (84): ص 1/ 71، وأنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 558. ذكره دون سند.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 558. ذكره دون سند.
(12)
المحرر الوجي: 1/ 380.
(13)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(14)
أخرجه ابن أبي حاتم (2972): ص 2/ 558.
(15)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6348): ص 6/ 57، وابن ابي حاتم (2973): ص 2/ 559.
(17)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 559. ذكر ذلك دون سند.
(18)
أنظر: تفسير الطبري (6349): ص 6/ 57، وابن ابي حاتم (2974): 2/ 559. وابن المنذر (85): ص 1/ 72.
(19)
أنظر: تفسير الطبري (6350): ص 6/ 57.
(20)
قاله ابن كثير: 1/ 724.
بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم والنساء" (1).
وقال ابن عطية: " والسفيه: المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة (2):
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت
…
أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه" (3).
قوله تعالى: {أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282]، يعني:" أو كان صبياً أو شيخاً هرماً"(4).
قال سعيد بن جبير: "يعني: عاجزا أو أخرسا، أو رجلا به حمق"(5).
قال ابن عطية: " والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة"(6).
قال ابن كثير: " أي: صغيرًا أو مجنونًا"(7).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282]، وجوها (8):
أحدها: أنه الأحمق، قاله مجاهد (9)، والسدي (10)، والشعبي (11).
والثاني: أنه العاجز عن الإِملاء إما بِعيٍّ أو خُرْسٍ، قاله الطبري (12).
الثالث: أنه الشيخ الكبير (13).
الرابع: أنه الضعيف العقل لعته أو جنون (14).
الخامس: أنه الذي يستحق أن يحجر. قاله الشافعي (15).
قال ابن عطية: " والغائب عن موضع الإشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، و {وَلِيُّهُ}: وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق، وقال بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق، وهذا قول حسن (16).
(1) تفسير الطبري: 6/ 58.
(2)
ديوانه: 751؛ وخزانة الأدب 4/ 225؛ وشرح أبيات سيبويه 1/ 58؛ والكتاب 1/ 52؛ 65؛ والمحتسب 1/ 237؛ والمقاصد النحوية 3/ 367؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 239؛ والخصائص 2/ 417؛ وشرح عمدة الحافظ ص 838؛ ولسان العرب 3/ 288 "عرد"، 4/ 446 "صدر"، 11/ 536 "قبل"، 13/ 499 "سفه"؛ والمقتضب 4/ 197. وتسفهت الريح الشيء: حركته. النواسم: الرياح الضعيفة الهبوب. المعنى: يصف الشاعر اهتزاز النساء حين يمشين بالرماح التي تستخفها الرياح فتزعزعها.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 380.
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2975): ص 2/ 559.
(6)
المحر الوجيز: 1/ 380.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(8)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6355): ص 6/ 58، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 550، ذكره دون سند.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6354): ص 6/ 58، وابن المنذر (85): ص 1/ 72، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 550، ذكره دون سند.
(11)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 356.
(12)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 58.
(13)
أنظر: تفسير البغوي: 1/ 349.
(14)
أنظر: تفسير الطبري: 1/ 349.
(15)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 559.
(16)
المحرر الوجيز: 1/ 380.
قوله تعالى: {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} [البقرة: 282]، " أي: لا يستطيع الإِملاء بنفسه لعيٍّ أو خرسٍ أو عُجْمة" (1).
روي" عن سعيد بن جبير، في قول الله: أو لا يستطيع يعني: لا يحسن"(2). وروي عن الضحاك نحو ذلك (3).
وري عن سعيد بن جبير، في قوله {أن يمل هو} ، قال:"أن يمل ما عليه"(4).
قال ابن كثير: "إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه"(5).
وقد ذكروا في تفسير قوله تعالى: {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} [البقرة: 282]، ثلاثة تأويلات (6):
أحدها: أنه العييّ الأخرس، قاله ابن عباس (7).
والثاني: أنه الممنوع عن الإِملاء إما بحبس أو عيبة، أو جهل بما له وعليه.
والثالث: أنه المجنون.
قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أي: "فليملل قيِّمه أو وكيله بالعدل من غير نقصٍ أو زيادة"(8).
قال الزمخشري: " الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى {أَنْ يُمِلَّ هُوَ}، فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه"(9).
روي "عن سعيد بن جبير، في قول الله: {فليملل}: ولي الحق حقه بالعدل"(10). وروي عن الضحاك بن مزاحم، نحو ذلك (11).
وقوله تعالى {بِالْعَدْلِ} ـ معناه "بالحق وقصد الصواب"(12).
قال السمين: " وقراء هنا شاذا: «وليمل» بالإدغام"(13).
وذكر أهل التفسير في معنى قوله تعالى {وَلِيُّهُ} [البقرة: 282]، أربعة أقوال (14):
أحدها: ولي اليتيم. قاله الحسن (15).
والثاني: طالب الحق. قاله مقاتل بن حيان (16)، والفراء (17).
والثالث: يعني: الطالب، ولا يزداد شيئا. قاله سعيد بن جبير (18)،
(1) صفوة التفاسير: 1/ 161.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (2976): ص 2/ 559.
(3)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم 2/ 559. ذكره دون سند.
(4)
أخرجه ابن ابي حاتم (2977): ص 2/ 559.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(6)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356 - 357، وتفسير البغوي: 1/ 349.
(7)
نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 356.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(9)
الكشاف: 1/ 326.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (2978): ص 2/ 559.
(11)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 559. ذكره دون سند.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 80.
(13)
الدر المصون: 2/ 653.
(14)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم 2/ 559 - 560.
(15)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2979): ص 2/ 559، وابن المنذر (90): ص 1/ 73.
(16)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2980): ص 2/ 560، وابن المنذر (88): 1/ 72.
(17)
أنظر: تفسير ابن المنذر (89): 1/ 73.
(18)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2981): ص 2/ 560.
والرابع: ولي المطللوب (السفيه أو الضعيف)، قاله أبو عبيد (1)، وابن جريج (2)
وفي تفسير قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]، تأويلان (3):
أحدهما: وليّ مَنْ عليه الحق، وهو قول الضحاك (4)، وابن زيد (5)، وسعيد بن المسيب (6).
والثاني: وليّ الحق، وهو صاحبه، قاله ابن عباس (7)، والربيع (8)، واختاره الطبري (9).
وضعّف ابن عطية القول الثاني، قائلا:" وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع أَنْ يُمِلَّ بمرضه إذا كان عاجزا عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض"(10).
قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، أي:"واستشهدوا على حقوقكم شاهدين"(11).
قال الصابوني: " أي اطلبوا مع الكتابة أن يشهد لكم شاهدان من المسلمين زيادة في التوثيقة"(12).
قال ابن كثير: " أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة"(13).
قال الزمخشري: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ، أي:" من رجال المؤمنين. والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء"(14).
روي " عن سعيد بن جبير، في قول الله: {واستشهدوا}، يعني: على حقكم"(15). وروي عن الربيع بن أنس، نحو ذلك (16).
وقال مجاهد: " إذا باع بالنقد، أشهد ولم يكتب، وإذا باع بالنسيئة، كتب وأشهد"(17).
قال ابن عطية: " الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في شَهِيدَيْنِ دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه كأنها إشارة إلى العدالة"(18).
وذكروا في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وجوها (19):
(1) أنظر: تفسير ابن المنذر (89): 1/ 73.
(2)
أنظر: تفسير ابن المنذر (91): ص 1/ 73.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6353): ص 6/ 60.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6356): ص 6/ 60.
(6)
أنظر: تفسير ابن المنذر (87): ص 1/ 72.
(7)
انظر: تفسير الطبري (6352): ص 6/ 59، ونقله ابن عطبة في المحرر الوجيز: 1/ 380.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6351): ص 6/ 59، ونقله ابن عطبة في المحرر الوجيز: 1/ 380.
(9)
أنظر: تفسيره: 6/ 59.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 380.
(11)
تفسير الطبري: 6/ 60.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(13)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(14)
الكشاف: 1/ 326.
(15)
أخرجه ابن ابي حاتم (2982): ص 2/ 560.
(16)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 560. ذكره دون سند.
(17)
أخرجه ابن ابي حاتم (2/ 560) ص: 2/ 560.
(18)
المحرر الوجيز: 1/ 381.
(19)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
أحدها: من أهل دينكم (1).
والثاني: من أحراركم، قاله مجاهد (2).
والثالث: من أهل دينكم أحرار. قاله سعيد بن جبير (3).
والرابع: ذوي عدل من رجالكم. قاله الضحاك (4).
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، يعني: فإن لم تكن البينة برجلين، فبرجل وامرأتين" (5).
قال الصابوني: " أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان"(6).
قال الربيع: " {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، وذلك في الدين"(7).
وروي عن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك: "ولا يجوز شهادة أربع نسوة مكان رجلين، في الحقوق، ولا تجوز شهادتهن إلا معهن رجل. ولا يجوز شهادة رجل وامرأة، لأن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء"(8).
قال ابن عطية: " والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور"(9).
قال ابن كثير: وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة، كما قال مسلم في صحيحه .. " "يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار"، فقالت امرأة منهن جَزْلة: وما لنا - يا رسول الله - أكثر أهل النار؟ قال: "تُكْثرْنَ اللعن، وتكفُرْنَ العشير، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن". قالت: يا رسول الله، ما نقصان العقل والدين؟ قال:"أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين"(10) " (11).
وقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ} [البقرة: 282]، مرتفع بأحد ثلاثة أشياء:
أحدها: أن تقدر: فليستشهد رجل وامرأتان.
والثاني: فليكن رجل وامرأتان. ويصح أن تكون يَكُونا هذه التامة والناقصة، ولكن التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار.
والثالث: وإما فرجل وامرأتان يشهدون.
وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأتان» بهمز الألف ساكنة (12).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6357)، و (6358) ص: 6/ 60 - 61، وابن ابي حاتم (2984): ص 2/ 560.
(3)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2985): ص 2/ 560 - 561.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2986): ص 2/ 561.
(5)
النكت والعيون: 1/ 356.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2987): ص 2/ 561.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (2988): ص 2/ 561.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 381.
(10)
صحيح مسلم برقم (80).
(11)
تفسير ابن كثير: 1/ 724.
(12)
أنظر: المحرر الوجيز: 1/ 381.
قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} [البقرة: 282]، أي:" من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم"(1).
قال الزمخشري: " ممن تعرفون عدالتهم"(2).
قال الصابوني: " ممن يُوثق بدينهم وعدالتهم"(3).
وقوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} [البقرة: 282]، فيه وجهان (4):
أحدهما: أنهم الأحرار المسلمون العدول، قاله الربيع (5) والضحاك (6)، ومقاتل (7)، وإبراهيم (8)، وابن عباس (9)، وهو قول الجمهور (10).
والثاني: أنهم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا، وهو قول شريح (11)، وإسحاق بن راهويه (12)، وأحمد بن حنبل (13)، وعثمان البتّي (14)، وأبي ثور (15).
قال ابن عطية: "وقوله تعالى: {مِنْ رِجالِكُمْ}، نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم"(16).
قال ابن بكير وغيره: "قوله {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ}، مخاطبة للحكام"(17).قال ابن عطية: "وهذا غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض، وفي قوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم"(18).
قوله تعالى: {أنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، "أي: تنسى إحدى المرأتين الشهادة فتذكّرها الأخرى، وهذا علةٌ لوجوب الاثنين لنقص الضبط فيهن" (19).
قال الزمخشري: " أن لا تهتدى إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد له"(20).
قال سعيد بن جبير في قول الله: " {فتذكر إحداهما الأخرى}، يعني: تذكرها التي حفظت شهادتها"(21).
(1) تفسير الطبري: 6/ 62.
(2)
الكشاف: 1/ 326.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(4)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6359): ص 6/ 62، وانب أبي حاتم (2987): ص 2/ 561.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6360): ص 6/ 62، ونحوه انظر: تفسير ابن ابي حاتم (2986): ص 2/ 561.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (2991): ص 2/ 561.
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2990): ص 2/ 561.
(9)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (2989): ص 2/ 561.
(10)
قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: "لا تجوز شهادة العبد"[المحرر الوجيز: 1/ 381].
(11)
نقل عنه ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 381.
(12)
نقل عنه ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 381.
(13)
نقل عنه ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 381.
(14)
نقل عنه الماوردي في النكت والعيون: 1/ 356.
(15)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(16)
المحرر الوجي: 1/ 381.
(17)
المحرر الوجيز: 1/ 381.
(18)
المحرر الوجيز: 1/ 381.
(19)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(20)
الكشاف: 1/ 326.
(21)
أخرجه ابن ابي حاتم (2996): ص 2/ 562.
قال الواحدي: " أي تغيب عن حفظها، أو يغيب حفظها عنها، يعني إحدى المرأتين، فتقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا، وبحضرتنا فلان أو فلانة؟ حتى تذكر الشهادة، والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها"(1).
قال ابن عطية: " ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة"(2).
وذكروا في قوله تعالى: {تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]، وجهين (3):
أحدهما: لئلا تضل، قاله أهل الكوفة.
والثاني: كراهة أن تضل، قاله أهل البصرة.
وفي المراد به وجهان (4):
أحدهما: أن تخطاء.
والثاني: أن تَنْسَى، قاله الحسن (5)، وسعيد بن جبير (6)، ومقاتل (7)، وأبو عبيد (8)، روي عن الربيع بن أنس والسدي والضحاك نحو ذلك (9).
قال ابن عطية: " والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها"(10).
وقوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، فيه تأويلان (11):
أحدهما: أنها تجعلها كَذَكَرٍ من الرجال، قاله سفيان بن عيينة (12).
والثاني: أنها تذكرها إن نسيت، قاله قتادة، والسدي (13)، والضحاك (14)، والربيع (15)، وابن زيد (16).
قال ابن كثير: "ومن قال إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد، والصحيح الأول"(17).
وقال الزمخشري: " ومن بدع التفاسير: فتذكر، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر إِذا ما دُعُوا ليقيموا الشهادة"(18).
(1) تفسير الوسيط: 1/ 404.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 282.
(3)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(4)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (2992): ص 2/ 562،
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (2993)، و (2994): ص 2/ 562،
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2995): ص 2/ 562.
(8)
المحرر الوجيز: 1/ 282.
(9)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 562. نقل ذلك عنهم دون سند.
(10)
المحرر الوجيز: 1/ 382.
(11)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 356.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6361): ص 6/ 63.
(13)
أنظر: تفسير الطبري: (6364): ص 6/ 67.
(14)
أنظر: تفسير الطبري: (6365): ص 6/ 67.
(15)
أنظر: تفسير الطبري: (6363): ص 6/ 67.
(16)
أنظر: تفسير الطبري: (6366): ص 6/ 67.
(17)
تفسير ابن كثير: 1/ 724 - 725.
(18)
الكشاف: 1/ 426.
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]، وفيه وجهان (1):
أحدهما: قرأ حمزة وحده: {إِنْ تَضِلُّ} ، بكسر الألف، {فَتُذَكِّرُ} ، بالتشديد والرفع وكسر {إن} .
والثاني: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ} نصبا، قرأها الباقون، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو خفّفا الكاف وشدّدها الباقون.
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، " أي ولا يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة أو تحملها إِذا طلب منهم ذلك"(2).
قال ابن عطية: " نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية .. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله {وَلا يَأْبَ}، منسوخ بقوله {لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}، [البقرة: 282] "(3).
وقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، فيه ثلاثة تأويلات (4):
أحدها: لتحَمُّلها وإثباتها في الكتاب، قاله عطاء (5)، وعطية العوفي (6)، وعامر (7)، والشعبي (8)، والحسن (9)، وروي عن عن مجاهد، في إحدى الروايات وسعيد بن جبير وربيعة وزيد بن أسلم، نحو ذلك (10).
والثاني: لإِقامتها وأدائها عند الحاكم، قاله مجاهد (11)، وأبو مجلز (12)، وعكرمة (13)، وعطاء (14)، وإبراهيم (15)، وسعيد بن جبير (16)، والسدي (17)، وقتادة (18)، وابن زيد (19)، ورجحه الطبري (20).
والثالث: أنها للتحمل والأداء جميعاً، قاله الحسن (21)، وابن عباس (22).
قال ابن عطية: " والآية كما قال الحسن: جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف
(1) أنظر: السبعة: 194، والحجة للقراء السبعة: 2/ 418 - 419.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 379.
(4)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 68 وما بعدها، والنكت والعيون: 1/ 357.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6396): ص 6/ 73.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6395): ص 6/ 73.
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2999): ص 2/ 563، وتفسير الطبري (6381): ص 6/ 71.
(8)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 563. ولفظه: " هي بالخيار ما لم يشهد".
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6385): ص 6/ 71.
(10)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 563. نقل ذلك دون سند.
(11)
أنظر: (تفسير الطبري (6375)، و (6376)، و (6377)، و (6478)، و (6389): ص 6/ 70 - 71.
(12)
أنظر: تفسير الطبري: (6380): ص 6/ 71.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6382): ص 6/ 71، وابن أبي حاتم (2998): ص 2/ 563.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6383)، و (6384): ص 6/ 71، و (6387)، و (6391): ص 6/ 72.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6386): ص 6/ 71.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6388)، و (6389): ص 6/ 72.
(17)
أنظر: تفسير الطبري (6390) ص: 6/ 72.
(18)
أنظر: تفسير الطبري (6392) ص: 6/ 72.
(19)
أنظر: تفسير الطبري (6393) ص: 6/ 72 - 73.
(20)
تفسير الطبري: 6/ 73 - 74. قال فيه: " وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له".
(21)
أنظر: تفسير الطبري (6371)، و (6374): ص 6/ 69 - 70.
(22)
أنظر: تفسير الطبري (6373): ص 6/ 70.
قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء" (1).
وقال ابن كثير: " وقيل - وهو مذهب الجمهور -: المراد بقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} للأداء، لحقيقة قوله: {الشُّهَدَاء} والشاهد حقيقة فيمن تحمَّل، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية، والله أعلم"(2).
نفهم من الكلام بأن الشهادة "فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره، فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب"(3). وهذا قول الشعبي (4)، وروي عن الربيع (5) ، وابن عباس (6)، وقتادة (7) نحو ذلك.
كما وتكون الشهادة واجبة: إذا تعينت عليه؛ بأن يعلم أنه إذا لم يؤدها ضاع الحق، قال في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام:"ولا يحل لأحد الشاهدين أن يمتنع من الأداء، ويحيل المشهود له على يمينه مع الشاهد الآخر؛ لأن في الحلف كلفة، وكثير من الناس من يكره اليمين ولو تحقق صدق حلفه، فإن فعل الشاهد ذلك فهو آثم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} الآية"، (8) وهل تتعين إذا دعي إليها وقد تحملها غيره؟ قولان:
الأول: يؤثم؛ لأنه تعين بدعوته، وهو منهي عن الامتناع؛ لقوله تعالى:{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282].
والثاني: لا يأثم؛ لأن غيره يقوم مقامه، والأول أصح (9).
وقوله تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282]، " أي لا تملّوا أن تكتبوا الدين صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً إِلى وقت حلول ميعاده"(10).
روي " عن مقاتل، في قول الله: {ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله}، جمعت الصغير والكبير في الدين، سواء أمر أن يشهد عليه، وأن يكتب"(11).
وروي " عن سعيد بن جبير، في قول الله: {إن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله}، يعني: أن تكتبوا قليل الحق وكثيره إلى أجله لأن الكتاب أحصى للأجل والمال"(12).
قال الواحدي: " لا يمنعكم الضجر والملالة أن تكتبوا ما شهدتم عليه من الحق، صغر أو كبر، قل أو كثر"(13).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 383.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(3)
تفسير الطبري: 6/ 69.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6370): ص 6/ 69، ولفظه:": إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد".
(5)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3001): ص 2/ 563. ولفظه: " كان الرجل يطوف في القوم الكثير، يدعوهم ليشهدهم، فلا يتبعه منهم أحد فأنزل الله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا".
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3002): ص 2/ 563. ولفظه: " قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}، يعني: من احتيج إليه من المسلمين، فشهد على شهادة أو كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي".
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 563. نقل عنه دون ذكر السند.
(8)
(2/ 93).
(9)
. السيل الجرار 6/ 77.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (3004): ص 2/ 564.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (3005): ص 2/ 564.
(13)
تفسير الوسيط" 1/ 405.
قال ابن كثير: " هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال: {وَلا تَسْأَمُوا} أي: لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة"(1).
قال ابن عطية: " وقدم الصغير اهتماما به، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب"(2).
وقوله تعالى {ولا تسأموا} ، يعني:"لا تملوا"(3)، يقال منه: سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً، ومنه قول لبيد (4):
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا
…
وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ: كَيْفَ لَبيدُ؟
ومنه قول زهير (5):
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ، وَمَنْ يَعِشْ
…
ثَمَانِينَ عَامًا، لا أَبَالَكَ، يَسْأَمِ
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} [البقرة: 282]، أي:" ما أمرناكم به من كتابة الدين أعدل في حكمه تعالى"(6).
قال ابن كثير: " أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو أعدل"(7) عند الله.
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} [البقرة: 282]، وجهين:
أحدهما: ذلكم أعدل عند الله. قاله السدي (8). وري عن سعيد بن جبير وسفيان نحو ذلك (9).
الثاني: ذلكم طاعة الله. قاله الضحاك (10).
روي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: " {ذلكم} يعني: الكتاب"(11).
قوله تعالى: {وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282]، أي:" وأثبت للشهادة لئلا تنسى"(12).
قال الواحدي: " أي: أبلغ في الاستقامة، لأن الكتاب يذكر الشهود، فتكون شهادتهم أقوم من لو شهدوا على ظن ومخيلة"(13).
قال ابن كثير: " أي: أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا"(14).
قال الزمخشري: "أي" وأعون على إقامة الشهادة" (15)
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282]، وجهين:
أحدهما: " وأصوب للشهادة". قال سعيد بن جبير (16)، وقاله الطبري (17)، أي:"أصحُّ لها، مأخوذ من الاستقامة"(18).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 735.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 383.
(3)
قاله عطاء، أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3003): ص 2/ 563 - 564.
(4)
ديوانه، القصيدة رقم: 7، يذكر فيها طول عمره، ومآثره في ماضيه.
(5)
شرح المعلقات السبع: 82.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(8)
أخرجه الطبري (6398): ص 77، وابن ابي حاتم (3007): ص 2/ 564.
(9)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 564.
(10)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3008): ص 2/ 564.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (3006): ص 2/ 564.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(13)
تفسير الوسيط: 1/ 405.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(15)
الكشاف: 1/ 327.
(16)
أخرجه ابن ابي حاتم (3009): ص 2/ 564.
(17)
أنظر: تفسيره: 6/ 77.
(18)
النكت والعيون: 1/ 357.
والثاني: "أثبت للشهادة". قاله سفيان (1). أي: "أحفظ لها، مأخوذ من القيام، بمعنى الحفظ"(2).
قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَاّ ترتابوا} [البقرة: 282]، أي:" وأقرب أن لا تشكّوا في قدر الدَّيْن والأجل"(3).
قال الواحدي: " أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل"(4).
قال ابن كثير: أي: " وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة"(5).
وقوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَاّ تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، يحتمل ثلاثة وجوه:
أحدها: " أن لا تشكوا في الشهادة". قاله السدي (6)، وسعيد بن جبير (7)، وسفيان (8). أي:"ألاّ ترتابوا بالشاهد أن يضل"(9).
والثاني: وقيل: أي: ألا ترتابوا بِمَنْ عليه حق أن ينكره " (10).
والثالث: وقال الضحاك: {أدنى ألا ترتابوا} ، يقول:"أجدر ألا تنسوا"(11).
قوله تعالى: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، "أي: إِلا إِذا كان البيع حاضراً يداً بيد والثمن مقبوضاً" (12).
قال الواحدي: " أي: إلا أن تقع تجارة حاضرة، فلا جناح في ترك الإشهاد والكتابة فيه، لأن ما يخاف في النساء والتأجيل يؤمن في البيع يدا بيد"(13).
قال ابن كثير: " أي: إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها"(14).
قال ابن عطية: "لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها، وقوله تعالى: {تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ}، يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين "(15).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: قوله تعالى: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وجهين:
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3010): ص 2/ 565.
(2)
النكت والعيون: 1/ 357.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(4)
الوسيط: 1/ 405.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(6)
أخرجه الطبري (6399): 6/ 78، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: ص 2/ 565، نقله دون ذكر السند.
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3012): ص 2/ 565.
(8)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 565. نقله دون ذكر السند.
(9)
النكت والعيون: 1/ 357.
(10)
النكت والعيون: 1/ 357.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (3013): ص 2/ 565.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(13)
الوسيط: 1/ 405.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(15)
المحرر الوجيز: 1/ 383.
أحدهما: أن تكون التجارة يدا بيد. قاله الضحاك (1)، وسعيد بن جبير (2).
والثاني: أن تكون التجارة معكم بالبلد. قاله السدي (3).
وقوله تعالى: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، يحتمل وجهين:
أحدهما: ليس فيها أجل. قاله سعيد بن جبير (4). وروي عن مقاتل بن حيان، نحو ذلك ..
والثاني: أنها ما يحوزه المشتري من العروض المنقولة (5).
وقوله تعالى: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، يحتمل وجهين (6):
أحدهما: تتناقلونها من يد إلى يد.
والثاني: تكثرون تبايعها في كل وقت.
واختلفت القراءة في قوله تعالى {تِجارَةً حاضِرَةً} [البقرة: 282]، على وجهين (7):
أحدهما: {تِجارَةً} بالنصب، وهي قراءة عاصم وحده.
والثاني: {تِجارَةٌ} ، بالرفع، وهي قراءة الباقون.
قال أبو بكر: "وأشكّ في ابن عامر"(8).
والقراءة الثانية شاذة، ولا يعترض بالشاذ على الحجة، ومما جاء نصبا قول الشاعر (9):
أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا
…
إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا
وقول الآخر (10):
وَلِلهِ قَومِي: أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ
…
إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! !
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، من إتباع أخبار النكرات أسماءَها (11).
قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَاّ تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]، "أي: فلا بأس بعدم كتابتها لانتفاء المحذور" (12).
قال سعيد بن جبير: "ليس عليكم جناح يعني: حرج"(13)، "ألا تكتبوها يعني: التجارة الحاضرة" (14).
قوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، " أي أشهدوا على حقكم مطلقاً سواءً كان البيع ناجزاً أو بالدين لأنه أبعد عن النزاع والاختلاف"(15).
(1) أخرجه الطبري (6401): ص 6/ 80. ولفظه: "أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه".
(2)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3014): ص 2/ 565. ولفظه: " قول الله: {إلا أن تكون تجارة حاضرة}، يعني: يدا بيد".
(3)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3015): ص 2/ 565، ولفظه:" معكم بالبلد". وأخرجه الطبري (6400): ص 6/ 79. ولفظه: " معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها".
(4)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3016): ص 2/ 566.
(5)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 357.
(6)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 357 - 358.
(7)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 436.
(8)
السبعة: 194.
(9)
لم أتعرف على قائله، والبيت في معاني القرآن للفراء 1/ 186، وتفسير الطبري: 6/ 80.
(10)
البيت لعمرو بن شأس، معاني القرآن للفراء 1: 186، سيبويه 1: 22، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو بن شأس:" بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاءَنا "
(11)
أنظر: تفسير الطبري: 80 - 81.
(12)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (3019): ص 2/ 566.
(14)
أخرجه ابن أبي حاتم (3019): ص 2/ 566.
(15)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
قال ابن كثير: " يعني: أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن، فأشهدوا على حقكم على كل حال"(1).
قال القاسمي: " أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الإختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع. يعني التجارة الحاضرة. على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة"(2).
قال سعيد بن جبير: " يعني: أشهدوا على حقكم، إذا كان فيه أجل، أو لم يكن، فأشهدوا على حقكم على كل حال"(3). وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك، نحو ذلك" (4).
قال الطبري: " وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه"(5).
وقوله تعالى: {وَأَشَهِدُوآ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، اختلفوا فيه على قولين (6):
أحدهما: أنه فرض، وهو قول الضحاك (7)، وابن عمرو (8)، وعطاء (9)، وداود بن علي (10). ورجح ذلك الطبري (11).
والثاني: أنه ندب، وهو قول الحسن (12)، والشعبي (13)، ومالك (14)، والشافعي (15)، والواحدي (16).
قال ابن عطية: " والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا"(17).
قوله تعالى: {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، ، أي "لا يضرب صاحبُ الحق الكُتَّاب والشهود"(18).
قال الواحدي: " نهى الله الكاتب والشهيد عن المضارة، وهو أن يزيد الكاتب، أو ينقص منه، أو يحرف، وأن يشهد الشاهد بما لا يستشهد عليه، أو يمتنع عن إقامة الشهادة"(19).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 725.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 235.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3020): ص 2/ 566.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 566. نقله دون ذكر السند.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 82.
(6)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6406)، و (6407): ص 6/ 84.
(8)
نقلا عن: ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 384.
(9)
نقلا عن: ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 384.
(10)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(11)
تفسير الطبري: 6/ 84 - 85، حيث قال:" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ، إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد".
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6403)، و (6304): ص 6/ 83.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6402)، و (6405): ص 6/ 83 - 84.
(14)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(15)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(16)
الوسيط: 1/ 406.
(17)
المحرر الوجيز: 1/ 384.
(18)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(19)
الوسيط: 1/ 406.
وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، أربعة تأويلات (1):
أحدها: أن المضارة هو أن يكتب الكاتب ما لم يُمْل عليه، ويشهد الشاهد بما لم يُستشهد، قاله طاووس (2)، والحسن (3)، وقتادة (4)، وابن زيد (5)، وروي عن زيد بن أسلم (6)، نحو ذلك.
والثاني: أن المضارّة أن يمنع الكاتب أن يكتب، ويمنع الشاهد أن يشهد، قاله ابن عباس (7)، ومجاهد (8)، وعطاء (9).
والثالث: أن المضارّة أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان معذوران، قاله عكرمة (10)، والضحاك (11)، ومجاهد (12)، وابن عباس (13)، والسدي (14)، والربيع (15)، وطاوس (16)، وروي عن سعيد بن جبير وعطية ومقاتل نجو ذلك (17).
قال ابن عطية: ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها" (18).
رابعاً: وقال عطاء: وكان السلطان القاضي لا يترك رجلا يشتم رجلا ولا يشتم شهيدا، وذلك أن الله تعالى قال:{ولا يضار كاتب ولا شهيد} " (19).
قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: " ولا يضار كاتب ولا شهيد "، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل"(20).
قال الزمخشري: " وقرأ الحسن: ولا يضار، بالكسر"(21).
قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]، " أي إِن فعلتم ما نهيتم عنه فقد فسقتم بخروجكم عن طاعة الله"(22).
قال الطبري: " وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك فإنه إثم بكم ومعصيةٌ"(23).
(1) أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6408): ص 6/ 85.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6409): ص 6/ 85، وابن أبي حاتم (3023): ص 2/ 567.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6410)، (6411)، و (6412)، : ص 6/ 86، وابن ابي حاتم (3026): ص 2/ 567.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6413): ص 6/ 86.
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 567. نقله دون سند.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6416): ص 6/ 87.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6417): ص 6/ 87.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6414)، و (6415): ص 6/ 87.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6418): ص 6/ 87، و (6423): ص 6/ 88، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6419): ص 6/ 88، و (6425)، و (6426): ص 6/ 89.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6420)، و (6424): ص 6/ 88، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6421)، و (6422): ص 6/ 88، وابن أبي حاتم (3022): ص 2/ 567.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6427): ص 6/ 89، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6428): ص 6/ 89 - 90، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6429): ص 6/ 90، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنه ذلك دون ذكر السند.
(17)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 567. نقل عنهم ذلك دون ذكر السند.
(18)
المحر الوجيز: 1/ 384.
(19)
أخرجه ابن ابي حاتم (3025): ص 2/ 567.
(20)
تفسير الطبري: 6/ 90.
(21)
الكشاف: 1/ 327.
(22)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(23)
تفسير الطبري: 6/ 91.
قال الواحدي: "أخبر الله تعالى أن مضارة الكاتب والشاهد فسق، أي: خروج عما أمر الله تعالى به"(1).
قال ابن كثير: ": إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نَهِيتم عنه، فإنه فسق كائن بكم، أي: لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه"(2).
وأختلف أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُوا} [البقرة: 282]، على وجهين:
أحدهما: "أن تضاروا الكاتب أو الشاهد، أو ما نهيتم عنه فإنه فسوق بكم"(3)، قاله سعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس (4)، نحو هذا.
والثاني: "وإن لم تفعلوا الذي أمركم الله في آية الدين، فإنه إثم ومعصية"(5). قاله مقاتل بن حيان: {وإن تفعلوا} ، وروي عن الضحاك (6)، مثل ذلك.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]، ثلاثة أقوال (7):
أحدها: أن الفسوق المعصية، قاله ابن عباس (8)، والربيع (9)، والضحاك (10)، ومقاتل (11)، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن دينار نحو ذلك (12).
والثاني: أنه الكذب، " ومعنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها، {فإنه فسوق بكم} " (13)، قاله ابن زيد.
والثالث: أن الفسوق المأثم.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282]، "أي "خافوا الله وراقبوه يمنحكم العلم النافع الذي به سعادة الدارين" (14).
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 282]، " أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه"(15).
قال ابن كثير: " أي: خافوه وراقبوه، واتبعوا أمره واتركوا زجره"(16).
قال الطبري: " وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه، ويبين [الله] لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به"(17).
(1) الوسيط: 1/ 406.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 727.
(3)
أخرجه ابن ابي حاتم (3028): ص 2/ 568.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 568. ذكره دون سند.
(5)
أخرجه ابن ابي حاتم (3027): ص 2، 568.
(6)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 568. نقله دون سند.
(7)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 358.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6431): ص 6/ 92، وابن ابي حاتم (3029): ص 2/ 568.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6432): ص 6/ 92.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6430): ص 6/ 91، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 568. نقل عنه ذلك دون سند.
(11)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم (3027): ص 2/ 568.
(12)
أنظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 568. نقل عنهم دون ذكر السند.
(13)
أنظر/ تفسير الطبري (6433): ص 6/ 92.
(14)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(15)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 409.
(16)
تفسير ابن كثير: 1/ 727.
(17)
تفسير الطبري: 6/ 92.
قال القرطبي: " وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] ".
قال سعيد بن جبير: " ثم خوفهم فقال: {واتقوا الله}، ولا تعصوه فيهما"(1).
أخرج الطبري عن الضحاك قوله: " {ويعلمكم الله}، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به"(2).
قوله تعالى: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، "أي عالم بالمصالح والعواقب فلا يخفى عليه شيء من الأشياء"(3).
روي عن: "سعيد بن جبير في قول الله: {والله بكل شيء عليم}، يعني: من أعمالكم"(4).
قال ابن كثير: " أي: هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات"(5).
قال الراغب: " فإنما قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حمل في معان مفترقة:
فإن الأول: حث على تقوى الله.
والثاني: تذكير بنعمه.
والثالث: تعظيم له متضمن لوعد ووعيد شديد وفصد عظيم كل واحد من هذه الأحكام، فأعيد لفظ (الله) فيها" (6).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.
2 -
ومنها: أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.
3 -
ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: {يا أيها الذين آمنوا} لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.
4 -
ومنها: بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات- التي هي معاملة الخالق - فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.
5 -
ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله عز وجل، وبالأحوال الشخصية، كالمواريث، وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر، والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.
فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال:«لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم» (7)؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة» .
(1) أخرجه ابن ابي حاتم (3030): ص 2/ 568.
(2)
تفسير الطبري (6434): ص 6/ 93.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(4)
أخرجه ابن ابي حاتم (3031): ص 2/ 568.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 727.
(6)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 592.
(7)
أخرجه مسلم ص 1093، كتاب الفضائل، باب 38: وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، حديث رقم 6128 [141]2363.
فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء! ! ! أما الأحكام - الحلال، والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما يحتاج الإنسان إليه.
6 -
ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله تعالى: {تداينتم بدين} سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.
7 -
ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى؛ ومؤجل بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛ لقوله تعالى: {بدين إلى أجل مسمى} ؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله تعالى:{مسمى} - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1)؛ والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.
8 -
ومن فوائد الآية: جواز السلم - وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مائة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن، وقدمه.
9 -
ومنها: وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله تعالى: {فاكتبوه} ؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آخر الآية: {إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} ؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة - أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283]؛ وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.
10 -
ومنها: حضور كل من الدائن، والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى:{بينكم} ؛ ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.
11 -
ومنها: أنه لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله تعالى:{وليكتب بينكم كاتب} .
12 -
ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و «العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله تعالى:{وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115].
ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.
13 -
ومنها: أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله تعالى:{كاتب بالعدل} ؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.
14 -
ومنها: تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} ؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى {فليكتب} - هذا ظاهر الآية - ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.
(1) أخرجه البخاري ص 174، كتاب السلم، باب 2: السلم في وزن معلوم، حديث رقم 2241، وأخرجه مسلم ص 957، كتاب المساقاة، باب 25: السلم، حديث رقم 4118 [127]1604.
15 -
ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} .
16 -
ومنها: تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله تعالى:{كما علمه الله} ؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل.
فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.
17 -
ومنها: أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله تعالى: {كما علمه الله} ؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله عز وجل.
18 -
ومنها: مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله تعالى: {فليكتب} .
19 -
ومنها: أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لقوله تعالى:{وليملل الذي عليه الحق} ؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.
لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟ !
فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله تعالى: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً} .
20 -
ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يؤخذ من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]؛ وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.
21 -
ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عز وجل على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله تعالى:{وليتق الله ربه} .
22 -
ومنها: أنه ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله تعالى: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً} ؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب عز وجل خالق مالك مدبر.
23 -
ومنها: أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛ لقوله تعالى:{ولا يبخس منه شيئاً} .
24 -
ومنها: أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} .
25 -
ومنها: أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ السفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس، أو عييّ، أو نحو ذلك.
26 -
ومنها: قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله تعالى: {فليملل وليه} .
27 -
ومنها: وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله تعالى: {بالعدل} ؛ فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.
28 -
ومنها: طلب الإشهاد على الحق.
29 -
ومنها: أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة - وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.
30 -
ومنها: أنه لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.
31 -
ومنها: قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.
32 -
ومنها: جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى:{أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} ؛ فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.
33 -
ومنها: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.
الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
34 -
ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أو كبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.
35 -
ومنها: أنه إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله تعالى: {إلى أجله} .
36 -
ومنها: أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:
الأولى: أنه أقسط عند الله - أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.
الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.
الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.
37 -
ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» (1).
38 -
ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: {وأقوم للشهادة} . فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأن الشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.
39 -
ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب، وشك؛ لقوله تعالى:{وأدنى ألا ترتابوا} .
ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان، وسكون.
ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري، أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه.
ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه» (2)؛ لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن
(1) أخرجه البخاري ص 220، كتاب الوصايا، باب 1: الوصايا، حديث رقم 2738، وأخرجه مسلم ص 962، كتاب الوصية، باب 1: وصية الرجل مكتوبة عنده، حديث رقم 4204 [1] 1627، واللفظ لمسلم.
(2)
ذكره العجلوني في كتاب "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" بلفظ: "رحم الله امراءاً جب الغيبة عن نفسه" 1/ 513، حديث رقم 1367، ولم يذكر أصلاً لهذا الأثر.
يرتابوا في أمري؛ لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.
40 -
ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة حاضرة} ؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذاً هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.
41 -
ومنها: أن التجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.
42 -
ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: {تديرونها بينكم} ؛ فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار - يعني يتداول؛ ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي، فيبيعون عليه.
43 -
ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: {فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} .
44 -
ومنها: الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى، ولم يُشهِد (1)؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج، والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛ اللهم إلا أن يكون التصرف للغير، كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.
45 -
ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم، ولا يتأخر؛ لقوله تعالى:{إذا تبايعتم} ؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.
46 -
ومنها: تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد: سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.
47 -
ومنها: أن المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما، فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً - على حسب الحال - إن كان في الهجر إصلاح له.
فإن قال قائل: أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه، أو كان كبيرة؟ .
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم، ولا يُحكَم عليه.
48 -
ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال تعالى: {فإنه فسوق بكم} ؛ ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار، كما قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا
(1) راجع أحمد ص 1614 – 1615، حديث رقم 22228؛ وأبا داود ص 1490 – 1491، كتاب القضاء، باب 20: إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد يجوز له أن يقضي به، حديث رقم 3607؛ والنسائي ص 2388، كتاب البيوع، باب 81: التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، حديث رقم 4651؛ ومستدرك الحاكم 2/ 17 – 18، كتاب البيوع؛ وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ورجاله باتفاق الشيخين ثقات، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (المرجع السابق)؛ وقال الألباني: صحيح (صحيح أبي داود 2/ 399، حديث رقم 3607).
يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 18 - 20].
49 -
ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {واتقوا الله} .
50 -
ومنها: امتنان الله عز وجل على عباده بالتعليم، حيث قال تعالى:{ويعلمكم الله} .
51 -
ومنها: أن الدِّين الإسلامي شامل للأحكام المتعلقة بعبادة الله عز وجل، والمتعلقة بمعاملة عباد الله؛ لأنه بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات قال تعالى:{ويعلمكم الله} ؛ فيكون في ذلك إبطال لزعم من زعم أن الدين الاسلامي في إصلاح ما بين العبد وبين ربه؛ ولا علاقة له بالمعاملة بين الناس.
52 -
ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: {ويعلمكم الله} ؛ قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل: 78].
53 -
ومنها: ثبوت صفة العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ويعلمكم الله} ؛ لأن المعلم عالم.
54 -
ومنها: أن العلم من منة الله عز وجل على عباده؛ لقوله تعالى: {ويعلمكم الله} ، وكما قال تعالى:{لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164]؛ ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله عز وجل:{يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]؛ والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد؛ ثم الجهاد بالسلاح لا يكون إلا للكافر المعلن كفره، ولا يكون للمنافق؛ والجهاد بالعلم يكون لهذا، ولهذا - للمنافق، وللكافر المعلن بكفره؛ والعلم أفضل بكثير من المال؛ والعلم جهاد في سبيل الله - ولا سيما في وقتنا الحاضر؛ فإن الناس قد انفتح بعضهم على بعض، واختلط بعضهم ببعض، وصاروا يأخذون الثقافات من يمين ويسار، واحتاج الناس الآن للعلم الراسخ المبني على الكتاب والسنة حتى لا يقع الناس في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لذلك تجد رجلاً يمر به حديث، أو حديثان، ثم يقال: أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا! من ينال مرتبتي! أنا الذي أفتي بعشرة مذاهب! ثم مع ذلك يندد بمن خالفه - ولو كان من كبار العلماء؛ وربما يضخم الخطأ الذي يقع منه - ولو كان ممن يشار إليه بالفضل، والعلم، والدِّين؛ وهذه خطيرة جداً؛ لأن العامي وإن كان وثق بشخص لا يهمه هذا الكلام؛ لكن كلما كرر الضرب على الحديد لابد أن يتأثر؛ لذلك نرى أن طلب العلم من أهم الأمور خصوصاً في هذا الوقت.
55 -
ومن فوائد الآية: إثبات هذا الاسم من أسماء الله - وهو {عليم} ؛ وإثبات ما دلّ عليه من الصفة - وهي العلم.
56 -
ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} .
57 -
ومنها: الرد على القدرية سواء الغلاة منهم، أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع؛ يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل - وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم - وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ وجه ذلك ما قاله الشافعي رحمه الله:«ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا» ؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله عز وجل؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إنكار لعلمه؛ وإن كان على وفقه فلا بد أن تكون مرادة له؛ لأنه أراد أن تقع على حسب علمه.
القرآن
التفسير:
وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا مَن يكتب لكم فادفعوا إلى صاحب الحق شيئًا يكون عنده ضمانًا لحقِّه إلى أن يردَّ المدينُ ما عليه من دين، فإن وثق بعضكم ببعض فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد والرهن، ويبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المدين، عليه أداؤه، وعليه أن يراقب الله فلا يخون صاحبه. فإن أنكر المدين ما عليه من دين، وكان هناك مَن حضر وشهد، فعليه أن يظهر شهادته، ومن أخفى هذه الشهادة فهو صاحب قلب غادر فاجر. والله المُطَّلِع على السرائر، المحيط علمه بكل أموركم، سيحاسبكم على ذلك.
قال القرطبي: " ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر. فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن"(1).
قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} [البقرة: 283]، " أي: وإن كنتم "مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى"(2).
قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} [البقرة: 283]، أي: ولم تجدوا من "يكتب لكم"(3).
قال سعيد بن جبير: " يعني: لم تقدروا على كتابة الدين في السفر"(4).
وروي عن ابن عباس، "أنه كان يقرأ {ولم تجدوا كتابا}، قال: ربما وجدوا كتابا، ولم يجدوا الدواة والصحيفة"(5).
وروي عن ومجاهد (6)، وأبي العالية (7)، نحو ذلك.
وقد اختلفت القراءة في قوله تعالى: {كَاتِبًا} [البقرة: 283]، على وجهين (8):
أحدهما: {كَاتِبًا} ، وهي قراءة الجمهور، بمعنى:"رجل يكتب"(9).
الثاني: {كتابا} ، بكسر الكاف وتخفيف (التاء) و (ألف) بعدها وهو مصدر، وهي قراءة أبي بن كعب (10) وابن عباس (11) ومجاهد (12)، وأبي العالية (13)، قال مكي:"وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام"(14).
(1) تفسير القرطبي: 3/ 406 - 407.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 727.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 727.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم (3034): ص 2/ 569.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (3035): ص 2/ 569.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6440)، (6441): ص 6/ 95.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6442): ص 6/ 95، ونقله الثعلبي في تفسيره: 2/ 297.
(8)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 94، والمحرر الوجيز: 1/ 376.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 376.
(10)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 297.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6438)، و (6439): ص 6/ 95، وابن أبي حاتم (3032)، و (3033): ص 2/ 568.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6440)، (6441): ص 6/ 95، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 569.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6442): ص 6/ 95، وانظر: تفسير ابن ابي حاتم: 2/ 569. ونقله الثعلبي في تفسيره: 2/ 297.
(14)
المحرر الوجيز: 1/ 376.
وقرأ الضحاك: {كتّابا} ، على جمع الكاتب، في حين قرأ الباقون:{كاتِباً} ، على الواحد" (1)، قال الثعلبي: " وهو الأنسب مع المصحف" (2).
قال ابن عطية: " ومثله: (صاحب) و (صحاب)، وقرأ بذلك مجاهد (3) وأبو العالية (4) وقالوا: "ربّما وجد الكاتب ولم يجد المداد ولا الصحيفة، وقالوا: لم تكن [قبيلة] من العرب إلّا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القلم والدواة" (5).
وقد أخرج الطبري عن ابن عباس: " {فإن لم تجدوا كتابًا}، ، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم"(6). وروي نحوه عن مجاهد (7)، وأبي العالية (8).
قال ابن عطية: "فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا» "(9).
والراجح هو قراءة الجمهور {كَاتِبًا} ، بمعنى:"من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين"(10).
قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، أي:"فالوثيقة رهان"(11).
قال الثعلبي: أي: "فارتهنوا ممن تداينونه رهونا، ليكون وثيقة لكم بأموالكم"(12).
قال القاسمي: "أي "فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق، وثيقة لدينه، هذا إذا لم يأمن البعض البعض بلا وثيقة" (13).
واتفق الفقهاء على جواز الرهن في السفر (14)، واختلفوا في الحضر، فذهب الجمهور إلى جوازه (15).
قال الواحدي: " أمر الله تعالى عند عدم الكاتب في حال السفر بأخذ الرهون، ليكون وثيقة بالأموال"(16).
وروي "عن سعيد بن جبير، في قول الله: فرهان مقبوضة يقول: فليرتهن الذي له الحق من المطلوب"(17).
(1) تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(2)
تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6440)، (6441): ص 6/ 95.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6442): ص 6/ 95.
(5)
تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(6)
تفسير الطبري (6438): ص 6/ 95.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6440)، (6441): ص 6/ 95.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6442): ص 6/ 95.
(9)
المحرر الوجيز: 1/ 376.
(10)
تفسير الطبري: 6/ 94.
(11)
تفسير الوسيط: 1/ 406.
(12)
تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(13)
تفسير القاسمي: 2/ 236.
(14)
أنظر: المبسوط 21/ 64، والمنتقى شرح الموطأ 5/ 247، وحاشية العدوي 2/ 216، والأم 3/ 141 - 142، والمجموع 12/ 300، وشرح منتهى الإرادات 3/ 332، وكشاف القناع 8/ 151.
(15)
أنظر: المبسوط 21/ 64، والمنتقى شرح الموطأ 5/ 247، وحاشية العدوي 2/ 216، والأم 3/ 141 - 142، والمجموع 12/ 300، وشرح منتهى الإرادات 3/ 332، وكشاف القناع 8/ 151.
(16)
الوسيط: 1/ 406.
(17)
أخرجه ابن أبي حاتم (3037): ص 2/ 569.
وقال الضحاك: " يعني بذلك: أنه لا يصلح إذا كان بيعا في سفر، إذا وجد كتابا، أن يأخذ رهنا، ولكن ليكتب حقه إلى أجله"(1).
وروي " عن عامر، في قوله: {فرهان مقبوضة}، قال: هي منسوخة {فإن أمن بعضكم بعضا}، يعني: نسخه ذلك"(2).
وفي (الرهن) قولان (3):
أحدهما: أن الرُّهُن في الأموال، والرِّهَان في الخيل. قاله أبو عمرو (4)، ومنه قول قَعْنَب (5):
بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ
…
وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ
أي وحب لها (6).
والثاني: أن الرِّهَان جمع، والرُهُن جمع الجمع، مثل ثمار وثمر، قاله الكسائي، والفراء (7).
واتفق الفقهاء في الجملة على أن القبض شرط في الرهن، لقوله تعالى {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، واختلفوا في تحديد نوع الشرط: أهو شرط لزوم أو شرط تمام؟
القول الأول: أن قبض الرهن شرط في لزومه، قاله سعيد بن جبير (8)، والشافعي (9)، وأبو حنيفة (10)، وأهل الظاهر (11).
القول الثاني: أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض المرهون، وهو مذهب مالك (12).
قال ابن عثيمين: " وقوله تعالى: {مقبوضة} أي يقبضها من يتوثق بها - وهو الطالب - من المطلوب الذي هو الراهن؛ والطالب الذي قبض الرهن يسمى مرتهناً؛ فهنا راهن، ومرتهن، ورهن، ومرهون به؛ فالرهن: العين؛ والراهن: معطي الرهن؛ والمرتهن؛ آخذ الرهن؛ والمرهون به: الدين؛ فأركان الرهن أربعة، ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض؛ فيرجع في ذلك إلى العرف؛ ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان، وتحت سيطرته"(13).
وقال الراغب: " واشتراط كونها مقبوضة تنبيه أن الرهن لا يثبت حكمه ما لم يكن مقبوضا لأمرين:
أحدهما: أن ذلك معطوف على الشهادة فكما أن الشرط في الشهادة معتبر كذلك هاهنا.
والثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من هذه الآية وقد أجازه بهذه الصفة، فيجب أن تعتبر الصفة فيه" (14).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3039): ص 2/ 569.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (3040): ص 2/ 569.
(3)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 298، والنكت والعيون: 1/ 359.
(4)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(5)
مختارات ابن الشجرى 1: 6، ولباب الآداب 402 - 404، اللسان (رهن)، وروايته هناك " من قبلك "، وهي أجود فيما أرى. غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده. كان هذا على رسم الجاهلية، فأبطله الإسلام. يقول: فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها، فذهبت بذلك كله، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده. [حاشية الطبري: 6/ 96].
(6)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(7)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3036): ص 2/ 569. ولفظه: " لا يكون الرهن إلا مقبوضا يقبضه الذي له المال".
(9)
أنظر: تحفة المحتاج 5/ 67 - 68، ونهاية المحتاج 4/ 253.
(10)
أنظر: فتح القدير 8/ 190، وحاشية ابن عابدين 6/ 509.
(11)
أنظر: المحلى: (1210): 8/ 88.
(12)
أنظر: الشرح الصغير 2/ 108، وحاشية الدسوقي 3/ 231. وعُمدة مالك: قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول، وعمدة الغير: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 425 - 426.
(14)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 593.
قال الثعلبي: " وأجمعوا: إن الرهن لا يصح إلّا بالقبض، وقال مجاهد: "ليس الرهن إلّا في السفر عند عدم الكاتب" (1)، وأجاز غيره في جميع الأحوال، ورهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه عند يهوديّ (2) "(3).
وقد اختلفت القراءة في قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، على وجوه (4):
أحدها: {فَرِهَانٌ} ، وهو جمع (الرهن)، وهي قراءة عامة أهل الحجاز والعراق.
الثاني: {فَرُهُنٌ} ، بضم الراء والهاء، على معنى جمع:(رِهان)، و (رُهن) جمع الجمع. وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير، وروي عنهما تخفيف الهاء.
الثالث: {فَرُهْنٌ} مخففة الهاء، على معنى جماع (رَهْن)، وهي قراءة عكرمة والمنهال وعبدالوارث (5).
والرهن في اللغة: " يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره. من ذلك الرهن: الشيء يرهن، تقول: رهنت الشيء رهناً، ولا يقال: أرهنت". (6)
وتطلق كلمة الرهن في لغة العرب على عدة معان ً منها:
أولا: الثبوت والدوام، يقال: نعمة راهنة أي: دائمة، وماء راهن أي: راكد وثابت، وأرهنت لهم الطعام والشراب إرهاناً أي: أدمته، وهو طعام راهن أي: دائم. (7)
ثانيا: الحبس، يقال: رهنته المتاع بالدَّين رهناً حبسته به فهو مرهون، والأصل مرهون بالدَّين فحذف للعلم به (8)، ورهن الشيء جعل الشيء محبوساً (9)، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه" (10)، ومنه قوله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
ثالثا: ويطلق الرهن ويراد به العين المرهونة، وهي: ما وضع عند المرتهن مقابل ما أخذه الراهن منه، وهذا من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، ومن ذلك ما ورد في لسان العرب: أن الرهن هو: ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه، يقال: رهنت فلاناً داراً رهناً، وارتهنته إذا أخذه رهناً. (11)
ولا يوجد تعارض بين هذه الإطلاقات فكلها متقاربة؛ لأن الحبس فيه لزوم الشيء المحبوس، والدائم والثابت لازم ومحبوس، والإطلاق الأخير للرهن يعرِّف الرهن بمحله وهو المال المرهون.
وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الرهن، نظراً لاختلافهم في أحكامه وشروطه:
فعند الحنفية: الرهن: "حبس شيء مالي بحق يمكن استييفاؤه منه ـ كالدَّين ـ حقيقة أو حكماً، كالأعيان المضمونة بالمثل أو القيمة"(12)
واعترض على هذا التعريف بأنه غير جامع، وذلك لعدم شموله للرهن غير التام أو غير اللازم، وكذا لم يشمل رهن الأعيان المضمونة لقوله (كالدَّين).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3038): ص 2/ 569. ولفظه: " لا يكون الرهن إلا في السفر".
(2)
الحديث رواه البخاري (1963): ص 2/ 729. من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(4)
أنظر: السبعة: 194 - 195، والحجة للقراءة السبعة: 2/ 442، وتفسير الطبري: 6/ 96 - 97.
(5)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 298.
(6)
معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة (رهن)(2/ 452).
(7)
انظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة:(رهن)(13/ 188)، والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل حماد الجوهري، مادة (رهن)(5/ 2128)
(8)
انظر: المصباح المنير، أحمد الفيومي ص 92، مادة (رهن).
(9)
أنيس الفقهاء في تعريف الألفاظ المتداولة بين الفقهاء، قاسم القانوني ص 289.
(10)
القاموس المحيط، الفيروز آبادي (4/ 327) مادة (رهن).
(11)
انظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة (رهن)(13/ 188).
(12)
حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، لابن عابدين (10/ 68).
وعند المالكية: "بذل من له البيع ما يباع أو غرراً ولو اشترط في العقد وثيقة بحق"(1)
واعترض عليه بأنه غير جامع؛ لأنه يخرج الرهن غير المقبوض، وكذلك فهو غير مانع لدخول الدَّين غير اللازم في التعريف.
وعند الشافعية: "جعل عين مال وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه"(2)
وعند الحنبلية: "جعل عين مالية وثيقة بالدَّين يستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه"(3)
ومن خلال النظر في التعريفات نجد أن أقرب التعريفات هو تعريف الشافعية، والحنابلة، وتعريف الحنابلة؛ فيه زيادة إيضاح، فهو أولى من غيره، لقلة الاعتراضات عليه، وكان ينبغي أن يضاف كلمة (عقد) لأنها تشير إلى أركان المعرف.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة: 283]، " أي فإِن أمن الدائن المدين فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه"(4).
قال سعيد بن جبير: " فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق، فلم يرتهن، لثقته، وحسن ظنه"(5).
قال الثعلبي: " يعني: فإن كان الذي عليه لحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنّه"(6).
قال الزمخشري: " فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به (7).
قال الواحدي: " أي: لم يخف خيانته وجحوده الحق، فلم يشهد عليه"(8).
قال القاسمي: "لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان"(9).
قال أبو حيان: " أي: إن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن"(10).
قال الآلوسي: " أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن"(11).
قال ابن عثيمين: " أي اتخذه أميناً؛ بمعنى أنه وثق منه أن لا ينكر، ولا يبخس، ولا يغير"(12).
قال الراغب: " وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يحث من يؤتمن على حفظ الأمانة كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} "(13).
وروي "عن أبي سعيد الخدري، أنه تلا هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} حتى بلغ {فإن أمن بعضكم بعضا}، قال: هذه نسخت ما قبلها"(14).
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي (الحطاب)(6/ 538).
(2)
مغني المحتاج للشربيني (2/ 121).
(3)
المغني، لابن قدامة (6/ 443).
(4)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (3044): ص 2/ 570.
(6)
تفسير الثعلبي: 2/ 298 - 299.
(7)
الكشاف: 1/ 329.
(8)
الوسيط: 1/ 407.
(9)
محاسن التأويل: 2/ 236.
(10)
البحر المحيط: 2/ 270.
(11)
روح المعاني: 2/ 60.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 426.
(13)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 593.
(14)
أخرجه ابن أبي حاتم (3041): ص 2/ 570.
وقال الشعبي: " لا بأس إذا أمنته، ألا تكتب ولا تشهد، لقوله: فإن أمن بعضكم بعضا"(1).
وروي" عن حماد بن أبي سليمان، في قوله: رفإن أمن بعضكم بعضا}، قال: أخلاق، دلهم عليها"(2).
وقال الضحاك: {فإن أمن بعضكم بعضا} ، فمن لم يجد، فإنها عزمة أن يكتب ويشهد، ولا يأخذ رهنا إذا وجد كاتبا، كما قال في الظهار {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} ، وكما قال في جزاء الصيد! ! {فما استيسر من الهدي} ، فهذا يشبه بعضه بعضا، وآية الدين، حكم حكمه الله وفصله وبينه، فليس لأحد أن يتخير في حكم الله" (3).
وقرأ أبيّ: {فإن أومن} ، رباعيا مبنياً للمفعول، أي: آمنه الناس، هكذا نقل هذه القراءة عن أبيّ الزمخشري (4)، وقال السجاوندي:"وقرأ أبيّ: {فإن ائتمن}، افتعل من الأمن، أي: وثق بلا وثيقة صك، ولا رهن"(5).
قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 236]، أي:" فليدفع ذاك المؤتمن الدين الذي عليه"(6).
قال أبو حيان: " فليؤدّ الغريم أمانته، أي ما ائتمنه عليه رب المال"(7).
وقال الشعبي: " صار الأمر إلى الأمانة"(8).
وقال ابن جبير: " ليؤد الحق الذي عليه إلى صاحبه"(9).
قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، أي:"وليتق الله في رعاية حقوق الأمانة"(10).
قال أبو حيان: " أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال، وجمع بين قوله: الله ربه، تأكيداً الأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق، وحين أداء ما لزمه من الدين، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء"(11).
قال سعيد بن جبير: " خوف الله، الذي عليه الحق، فقال: {وليتق الله ربه} "(12).
وقال ابن عثيمين: " أردف الاسم الأعظم: {الله} بقوله تعالى: {ربه} تحذيراً من المخالفة؛ لأن «الرب» هو الخالق المالك المدبر؛ فاخشَ هذا الرب الذي هو إلهك أن تخالف تقواه"(13).
قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، " أي: لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها" (14).
قال سعيد بن جبير: " يعني: عند الحكام، يقول: من أشهد على حق، فليقمها على وجهها، كيف كانت"(15).
وقال الربيع: " فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده، وإن كانت على نفسه أو الوالدين أو الأقربين"(16).
قال الصابوني: " أي إِذا دعيتم إِلى أداء شهادة فلا تكتموها"(17).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3042): ص 2/ 570.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (3045): ص 2/ 571.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3043): ص 2/ 570.
(4)
الكشاف: 1/ 329.
(5)
البحر المحيط: 2/ 270.
(6)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(7)
البحر المحيط: 2/ 270.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (3046): ص 2/ 571.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (3047): ص 2/ 571.
(10)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(11)
البحر المحيط: 2/ 271.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (3048): ص 2/ 571.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 426.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 728.
(15)
أخرجه ابن أبي حاتم (3049): ص 2/ 571.
(16)
أخرجه ابن أبي حاتم (3050): ص 2/ 571.
(17)
صفوة التفاسير: 1/! 61.
قال أبو حيان: " هذا نهي تحريم، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق"(1).
قال ابن عثيمين: " أي لا تخفوا ما شهدتم به لا في أصله، ولا في وصفه؛ في أصله بأن ينكر الشهادة رأساً؛ وفي وصفه بأن يزيد فيها، أو ينقص"(2).
قال الثعلبي: " وقرأ السلمي: {ولا يكتموا} بالياء ومثله {يعملون} "(3).
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا} [البقرة: 283]، "يعني: ومن يكتم شهادته" (4).
قال ابن عباس: " ومن الكبائر، كتمان الشهادة، لأن الله يقول: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} "(5).
وروي " عن سعيد بن جبير، في قول الله: {ومن يكتمها}، يعني الشهادة، لا يشهد بها إذا دعي لها، {فإنه آثم قلبه} "(6).
قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، أي:" فإِن كتمانها إثم كبير، يجعل القلب آثماً وصاحبه فاجراً"(7).
قال الثعلبي: " فاجر قلبه"(8).
قال ابن عثيمين: " أي من يخفيها أصلاً، أو وصفاً، فقد وقع قلبه في الإثم"(9).
قال أبو حيان: " كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها، والكتم من معاصي القلب، لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به"(10).
وقال المفسرون: ذكر الله تعالى على كتمان الشهادة نوعا من الوعيد لم يذكره في سائر الكبائر، وهو إثم القلب (11)، ويقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله من ذلك" (12).
وذكر أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وجهين (13):
أحدهما: معناه فاجر قلبه، قاله السدي (14).
(1) البحر المحيط: 2/ 271.
(2)
تفسير ابن عثيمين: 1/ 426.
(3)
تفسير الثعلبي: 2/ 299.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 99.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (3051): ص 2/ 571.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (3052): ص 2/ 572.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(8)
تفسير الثعلبي: 2/ 299.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 427.
(10)
البحر المحيط: 2/ 271.
(11)
قال الزمخشري: " وما فائدة ذكر القلب - والجملة هي الآثمة لا القلب وحده -؟ قلت-الزمخشري-: كتمان الشهادة: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب". [الكشاف: 1/ 229 - 300].
(12)
الوسيط: 1/ 407.
(13)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 359.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6446): 6/ 99 - 100، وابن أبي حاتم (3053): ص 2/ 572.
والثاني: مكتسب لإِثم الشهادة. قاله الربيع (1)، وروي نحوه عن ابن عباس (2).
قال ابن عطية: " وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام"(3)(4).
قال الراغب: " أي يأثم بذلك قلبه، ويجوز أن يكون معناه: " إنما يكتم الشهادة ومن يكتم لأنه قد أثم قلبه " قيل فحمله ذلك على ارتكاب المحارم واحتقاب المآثم، وإضافة الإثم إلى القلب مبالغة في الذم، فالقلب مقر البر والإثم، ولهذا قال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقال بعضهم: " في أية الدين صلاح للدين والدنيا "، فالإنسان بمراعاة ما أرشده الله إليه فيهما يبعد عن جحود الحق الذي هو سبب التنازع، والتنازع سبب كل شر ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، ومن هذه الوجه منع من البيعات المجهولة وجهل المدة وسائر الأشياء المؤدية إلى المنازعة، أوجب الإشهاد من أوجبه، لأن كل ما يؤدي إلى فساد فحسم مادته واجب"(5).
قال ابن عطية: "وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب (الباء)، قال مكي: هو على التفسير، ثم ضعفه من أجل أنه معرفة"(6).
ونقل الزمخشري عن ابن أبي عبلة أنه قرأ "أثم قلبه"(7)، أي: جعله آثما". قال الثعلبي: "على وزن (أفعل)، أي جعل قلبه أثما" (8).
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]، "أي لا يخفى عليه شيء من أعمال وأفعال العباد"(9).
وقال سعيد بن جبير: " يعني: من كتمان الشهادة، وإقامتها عليهم"(10).
قال الثعلبي: " من بيان الشهادة وكتمانها"(11).
قال ابن عطية: فيه" توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد"(12).
قال ابن عثيمين: " «ما» هذه موصولة تفيد العموم، وتشمل كل ما يعمله الإنسان من خير أو شر في القلب، أو في الجوارح؛ وقَدّم {بما تعملون} على متعلّقها لقوة التحذير، وشدته؛ فكأنه حصر علمه فيما نعمل؛ فيكون هذا أشد في بيان إحاطته بما نعمل؛ فيتضمن قوة التحذير؛ وليس مقتضاه حصر العلم على ما نعمل فقط"(13).
الفوائد:
(1) أنظر: تفسير الطبري (6445): 6/ 99.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6447): 6/ 100.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 388.
(4)
وذكر ابن عثيمين: " وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفيّ؛ فالإنسان قد يكتمها، ولا يُعْلَم بها؛ فالأمر هنا راجع إلى القلب؛ ولأن القلب عليه مدار الصلاح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» [خرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 39: فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم 52، وأخرجه مسلم ص 955، كتاب المساقاة، باب 2: أخذ الحلال وترك الحرام، حديث رقم 4094 [107] 1599]. [تفسير ابن عثيمين: 3/ 427].
(5)
تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 594.
(6)
المحرر الوجيز: 1/ 388.
(7)
الكشاف: 1/ 330.
(8)
تفسير الثعلبي: 2/ 299.
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 161.
(10)
أخرجه ابن ابي حاتم (3054): ص 2/ 572.
(11)
تفسير الثعلبي: 2/ 299.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 388.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 427.
1 -
من فوائد الآية: أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض.
2 -
ومنها: عناية الله عز وجل بحفظ أموال عباده؛ يعني أنه سبحانه وتعالى ذكر حتى هذه الصورة: أن الإنسان إذا داين غيره، ولم يجد كاتباً فإنه يرتهن رهناً حفظاً لماله، وخوفاً من النزاع، والشقاق في المستقبل.
3 -
ومنها: جواز الرهن؛ لقوله تعالى: {فرهان} ؛ ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً، أو طويلًا؛ وبألا نجد كاتباً؛ فهل هذا الشرط معتبر؟ الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله، ورهن درعه عند يهودي حتى مات (1)؛ وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب.
فإذا قال قائل: إذا كان الأمر هكذا فما الجواب عن الآية؟ فالجواب عن الآية أن الله عز وجل ذكر صورة إذا تعذر فيها الكاتب فإن صاحب الحق يتوثق لحقه بالرهن المقبوض؛ فذكر هذه الصورة لا على أنها شرط للحكم؛ يعني كأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه؛ وإن كنتم في السفر، وليس عندكم كاتب فرهان مقبوضة.
4 -
ومن فوائد الآية: أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على لزوم القبض في الرهن؛ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن قبض الرهن شرط لصحته؛ لأن الله جعل القبض وصفاً في الرهن؛ والوصف لازم للموصوف.
والقول الثاني: أن القبض شرط للزوم الرهن - لا لصحته؛ وعلى هذا القول يكون الرهن صحيحاً - وإن لم يُقبَض - لكنه ليس بلازم؛ فللراهن أن يتصرف فيه بما شاء.
والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة، ولا للزوم؛ وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال؛ لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر؛ وليس ثمة كاتب، فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وعليه فالرهن لازم صحيح بمجرد عقده - وإن لم يقبض؛ لقول الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]، وقوله تعالى:{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34]؛ وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه، أو راهناً سيارته وهو يستعملها؛ ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك.
5 -
ومن فوائد الآية: أنه إذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن، ولا إشهاد، ولا كتابة؛ لقوله تعالى:{فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} ؛ ولهذ قال كثير من العلماء: إن هذه ناسخة لما سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} ؛ والصحيح أنها ليست ناسخة؛ بل مخصِّصة لما سبق.
6 -
ومنها: وجوب أداء الأمانة على من اؤتمن؛ لقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} ؛ فإذا وجب أداء الأمانة حرمت الخيانة.
7 -
ومنها: أنه لو تلفت العين بيد الأمين فإنه لا ضمان عليه ما لم يتعد، أو يفرط؛ لقوله تعالى:{فليؤد الذي اؤتمن أمانته} ؛ فسماها الله سبحانه وتعالى أمانة؛ والأمين يده غير متعدية؛ فلا يضمن إلا إذا حصل تعدٍّ، أو تفريط؛ ومن التعدي إذا أعطي الإنسانُ أمانة للحفظ تصرف فيها - كما يفعل بعض الناس - ببيع، أو شراء، أو نحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز؛ وإذا أردت أن تفعل فاستأذِن من صاحبها؛ فإن أذن لك صارت عندك قرضاً.
(1) راجع البخاري ص 234، كتاب الجهاد، باب 89: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، حديث رقم 2916.
8 -
ومن فوائد الآية: أنه يجب على هذا الذي اؤتمن ألا يغتر بثقة الناس به، فيفرط فيما يجب عليه من أداء الأمانة؛ لقوله تعالى:{وليتق الله ربه} ؛ فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يتقي الله: قال تعالى: {وليتق الله} ، وأردفها بقوله تعالى:{ربه} ؛ ففيه فائدة - وهي أن الإنسان في هذه المقامات ينظر إلى مقام الربوبية كما ينظر إلى مقام الألوهية؛ فبنظره إلى مقام الألوهية يفعل هذا تعبداً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً له؛ وبنظره إلى مقام الربوبية يحذر المخالفة؛ لأن الرب هو الذي له الخلق، والملك، والتدبير؛ فلا بد أن يقرن الإنسان بين مقام الألوهية، ومقام الربوبية.
9 -
ومن فوائد الآية: إثبات ما دلّ عليه هذان الاسمان؛ وهما «الله» ، و «الرب»؛ فالأول فيه إثبات الألوهية؛ والثاني فيه إثبات الربوبية؛ لأن المعبود لابد أن يكون أهلاً للعبادة؛ والرب لابد أن يكون أهلاً للربوبية؛ ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الصفات؛ ولهذا نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ والتوحيدان يستلزمان كمال الأسماء، والصفات؛ ولهذا قال إبراهيم (ص) لأبيه:{يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42].
10 -
ومن فوائد الآية تحريم كتمان الشهادة؛ يعني إخفاءها سواء كان كتمان أصلها، أو وصفها؛ وسواء كان الحامل لها القرابة، والغنى؛ أو البعد، والفقر؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما
…
} [النساء: 135] الآية.
11 -
ومنها: أن كتْم الشهادة من الكبائر؛ لوجود العقوبة الخاصة بها - وهي قوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} .
12 -
ومنها: عظم كتم الشهادة؛ لأنه أضاف الإثم فيها إلى القلب؛ وإذا أثم القلب أثمت الجوارح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» (1)؛ وقوله (ص): «التقوى هاهنا» (2) وأشار إلى صدره؛ فالتقوى في القلب، وليست في اللسان، ولا في الأفعال، ولا في الأحوال؛ فقد يكون الإنسان متقياً بفعله متقياً بقوله غير متقٍ بقلبه: تجده بفعله يتزيّ بزي المسلم الخالص - من إعفاء اللحية، والوقار، والسكينة، وكذلك يقول قول المسلم الخالص:«أستغفر الله» ، «اللهم اغفر لي» ، ويذكر الله، ويكبر؛ هذه لا شك تقوى في الظاهر؛ والغالب أنها دليل على تقوى الباطن.
13 -
ومن فوائد الآية: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: {بما تعملون عليم} ؛ فإن {ما} اسم موصول؛ والاسم الموصول يفيد العموم، فيشمل كل ما نعمل من أعمال القلب، وأعمال الجوارح.
إذا قال قائل: ما فائدة التقديم هنا - إن قيل: لمراعاة الفواصل قلنا: فالنون تأتي في الفواصل كثيراً، مثل قوله تعالى:{إنه خبير بما تفعلون} [النمل: 88]؛ وإن قيل: للحصر قلنا: لا يصح؛ لأن الله يعلم كل شيء؛ لا يختص علمه بما نعمل فقط؛ فلا وجه للحصر؛ إذاً ما الفائدة؟ .
فالجواب: الفائدة شدة التحذير، والتنبيه، كأنه يقول: لو لم يعلم شيئاً - وحاشاه من ذلك - لكان عالماً بعملنا؛ فمن قوة التحذير والإنذار جاء الكلام على وجه الحصر الإضافي.
14 -
إذا قال قائل: هل نستفيد من هذا أن من أسماء الله «العليم» ؟ قلنا: ربما نقول ذلك؛ وقد لا نقوله؛ قد نقول: إن الاسم إذا قيد بمتعلِّق فإنه ينقلب إلى وصف، فيكون «عليم بكذا» ليس كقوله تعالى:{وهو السميع العليم} [البقرة: 137]؛ لأن هذا قُيد: «عليم بـ
…
»، فكان وصفاً، وليس اسماً؛ أما لو قال تعالى:{وهو العليم الحكيم} [الزخرف: 84] لكان هذا اسماً بلا شك.
(1) أخرجه البخاري ص 6، كتاب الإيمان، باب 39: فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم 52، وأخرجه مسلم ص 955، كتاب المساقاة، باب 2: أخذ الحلال وترك الحرام، حديث رقم 4094 [107]1599.
(2)
أخرجه مسلم ص 1127، كتاب البر والصلة، باب 10: تحريم ظلم المسلم وخذله
…
، حديث رقم 6541 [32]2564.
15 -
ومن فوائد الآية: التحذير من المخالفة بكون الله سبحانه وتعالى عالماً بما نعمل؛ وجه التحذير: تقديم المعمول.
16 -
ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد إلا إذا وقعت؛ فإن قوله تعالى: {بما تعملون عليم} يتضمن ما قد عملناه بالفعل، وما سنعمله.
القرآن
التفسير:
لله ملك السماوات والأرض وما فيهما ملكًا وتدبيرًا وإحاطة، لا يخفى عليه شيء. وما تظهروه مما في أنفسكم أو تخفوه فإن الله يعلمه، وسيحاسبكم به، فيعفو عمن يشاء، ويؤاخذ من يشاء. والله قادر على كل شيء، وقد أكرم الله المسلمين بعد ذلك فعفا عن حديث النفس وخطرات القلب ما لم يتبعها كلام أو عمل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: " يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر، وإن دقت وخفيت، وأخبر أنه سَيُحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]، وقال: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، والآيات في ذلك كثيرة جدا، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم، وهو: المحاسبة على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة، رضي الله عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم"(1).
وفي سبب نزول الآية قولان (2):
أحدهما: أنها نزلت في كتمان الشهادة.
فقد أسند الطبري من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس، "أنه قال في هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: نزلت في كتمان الشهادة" (3). وروي مثله عن الشعبي (4)، وعكرمة (5).
والثاني: أنها نزلت فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين. وهو قول مقاتل والواقدي (6).
قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} [البقرة: 284]، أي:" ملك كل ما في السموات وما في الأرض"(7).
قال الواحدي: " ملكا، وهو مالك أعيانه يملك تصريفه وتدبيره"(8).
قال ابن عثيمين: " أن كل شيء في السموات أو في الأرض فهو لله خلقاً، وملكاً، وتدبيراً؛ وليس لأحد غيره فيه ملك"(9).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 728. وانظر الخبر في: المسند (2071): ص 1/ 133، وصحيح مسلم: (125): ص 1/ 116].
(2)
انظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 644 - 645.
(3)
أخرجه الطبري (6454): ص 6/ 103، وانظر: العجاب في بيان الأسباب: 1/ 644 - 645.
(4)
الطبري (6453): ص 6/ 103.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6451)، و (6452)، و (6455): ص 6/ 103.
(6)
نقل عنهم الثعلبي في تفسيره: 2/ 299.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 101.
(8)
تفسير االوسيط: 1/ 407.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
قال الصابوني: " أي الجميع ملكٌ له وعبيد"(1).
قال الطبري: " وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه"(2).
قال السعدي: " هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه"(3).
وقال ابن عطية: " المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب ما وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة"(4).
وقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} [البقرة: 284]، اختلف في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان (5):
أحدهما: أنه إضافة تمليك تقديره: الله يملك ما في السماوات وما في الأرض.
والثاني: معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284]، " أي: وإن تظهروا ما في قلوبكم" (6).
قال الصابوني: " أي إِن أظهرتم ما في أنفسكم من السوء"(7).
قال الماوردي: إبداءُ ما في النفس هو العمل بما أضمروه، وهو مُؤَاخَذ به ومُحَاسَب عليه، وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به" (8).
قوله تعالى: {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، أي:" أو أسررتموه"(9).
قال ابن عثيمين: " يعني تسرُّوه، فلا يطلع عليه أحد"(10).
وقد تعددت عبارات أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، على أقوال:
أحدها: وإن تسروا ما في أنفسكم: من اليقين والشك. قاله مجاهد (11).
الثاني: وقيل: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ} ، يعني الإسلام {أَوْ تُخْفُوهُ} ، يعني الإيمان. وهو قول جعفر بن محمد (12).
الثالث: وقال بعضهم: " {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ} ، يعني ما في قلوبكم ممّا عرفتم وعقدتم عليه {أَوْ تُخْفُوهُ} ، فلا تبدوه وأنتم مجمعون وعازمون عليه، {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، فأمّا ما حدّثتم به أنفسكم ممّا لم تعزموا
(1) صفوة التفاسير: 2/ 202.
(2)
تفسير الطبري: 6/ 101.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 120.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 389.
(5)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 361،
(6)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(8)
النكت والعيون: 1/ 361،
(9)
صفوة التفاسير: 1/ 163،
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6489)، (6490)، و (6491): ص 6/ 115، وابن ابي حاتم (3059): ص 2/ 573.
(12)
نقله عنه الثعلبي في تفسيره: 2/ 301.
عليه فإن ذلك ممّا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} ، ولا يؤاخذ به. ودليل هذا التأويل قوله:{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] " (1).
الرابع: وقال جماعة: " {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ} في الشهادة. قاله ابن عباس (2)، وروي عن الشعبي (3) وعكرمة (4) ومقسم (5)، مثل ذلك.
الخامس: وقيل: "من الاحتيال للربا"(6).
قوله تعالى: {يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} [البقرة: 284]، أي:" فإِن الله يعلمه ويحاسبكم عليه"(7).
قال ابن عثيمين: " أي يُطْلِعكم عليه على وجه المحاسبة؛ ولا يلزم من المحاسبة العقوبة"(8).
قال الثعلبي: " ولم يقل: يؤاخذكم، والمحاسبة غير المعاقبة، والحساب ثابت والعقاب ساقط"(9).
روي " عن ابن عباس: {يحاسبكم به الله}، يقول: يخبركم"(10).
وروي "عن عبد بن المبارك قال: قلت لسفيان: ليؤاخذ العبد بالهمّة، قال: إذا كان عزما أخذ بها"(11).
قال ابن عطية: " معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: فِي أَنْفُسِكُمْ تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز"(12).
وقال الزحيلي: " والواقع أن هذه الآيةك {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، ليس المراد بها الحساب على الوساوس والخواطر، وإنما المقصود بها أن الله تعالى يعلم ويحاسب على ما استقر في النفوس من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض، وكتمان الشهادة، وقصد الخير والسوء، مما هو مقدور للإنسان، وتكون آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}، ليست ناسخة لهذه الآية، وإنما هي موضحة"(13).
وظاهر قول الله-عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أن الله يجازي العباد بما أظهرته نفوسهم وما أضمرته، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة، وقد اختلف أهل العلم فيها على أقوال:
أحدها: أنها محكمة مخصوصة، وأنها في الشهادة؛ لأنها جاءت بعد النهي عن كتمانها والوعيد عليه، ومعناها: إن تبدو أيها الشهود ما في نفوسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (14)، قاله ابن عباس (15)، وداود (16)، وعكرمة (17)، والشعبي (18).
(1) تفسير الثعلبي: 1/ 301.
(2)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3056): ص 2/ 572، وتفسير الطبري (6449)، و (6450): ص 6/ 102، و (6454): ص 6/ 103.
(3)
الطبري (6453): ص 6/ 103، وأنظر: تفسير ابن أبي حاتم"2/ 572. ذكره دون سند.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6451)، و (6452)، و (6455): ص 6/ 103، وأنظر: تفسير ابن أبي حاتم"2/ 572. ذكره دون سند.
(5)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم"2/ 572. ذكره دون سند.
(6)
حكاه أبو حيان في تفسيره: 2/ 273.
(7)
صفوة التفاسير: 1/ 163،
(8)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
(9)
تفسير الثعلبي: 2/ 302.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (3064): ص 2/ 574.
(11)
تفسير الثعلبي: 2/ 301.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 389.
(13)
الكشاف: 1/ 167.
(14)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 299.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6449)، و (6450): ص 6/ 102، و (6454): ص 6/ 103.
(16)
أنظر: تفسير الطبري (6451): ص 6/ 102.
(17)
أنظر: تفسير الطبري (6451)، (6452)، و (6455): ص 6/ 102 - 103.
(18)
أنظر: تفسير الطبري (6453): ص 6/ 103.
والثاني: أنها محكمة مخصوصة بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد (1).
والثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. قاله ابن عباس (2)، والربيع (3)، ومجاهد (4).
وعلى هذا القول: "يكون: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ}، محمولاً على المسلمين، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}، محمولاً على الكافرين والمنافقين"(5).
والرابع: ، وقال آخرون: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس لا يكون في الآخرة وإنما بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. وهذا قول عائشة (6) رضي الله عنها.
قال الثعلبي: " يدلّ عليه قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، يعني في الدنيا"(7).
وهذه الأقوال محل نظر؛ لأن التخصيص فيها بلا مخصص، والله أعلم.
والرابع: أن قوله-عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} منسوخ بقوله-عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (8)، لأن الآية الأولى قررت أن العباد محاسبون بما أبدوه وأخفوه ويدخل في ذلك حديث النفس، والآية الثانية قررت أن التكليف لا يتجاوز الوسع والطاقة، وحديث النفس وخطراتها متجاوز لذلك. روي هذا القول عن ابن مسعود (9)، وعائشة (10)، وابن عباس (11)، والزهري (12)، وسعيد بن جبير (13)،
(1) أنظر: تفسير الطبري (6489)، (6490)، و (6491): ص 6/ 115، وابن ابي حاتم (3059): ص 2/ 573.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6481)، و (6482)، و (6485)، و (6486): ص 6/ 113 - 115.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6487): ص 6/ 115، وابن أبي حاتم (3065): ص 2/ 574 - 575.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6489)، و (6490)، و (6491): ص 6/ 114.
(5)
النكت والعيون: 1/ 361.
(6)
أخرجه الطبري (6492)، و (6493)، (6494)، و (6495): ص 6/ 117، وابن أبي حاتم (3062): ص 2/ 574.
(7)
تفسير الثعلبي: 2/ 301.
(8)
ومن الأخبار التي وردت في النسخ:
الأول: أنها نسخت بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة، قال:"لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما أقَر بها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره"[رواه أحمد في المسند (2071): ص 1/ 133، صحيح مسلم: (125): ص 1/ 116، والطبري (6457): ص 6/ 104].
والثاني: أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء "، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} قال أبو كريب: فقرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال فقال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: قال: قد فعلت {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت". [أخرجه الطبري (6457): ص 6/ 105].
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6470): ص 6/ 110 - 111.
(10)
أنظر: تفسير الطبري (6480): ص 6/ 112.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6458)، و (6459)، (و 6460)، و (6461)، و (6462): ص 6/ 105 - 108.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6460): ص 6/ 106.
(13)
أنظر: تفسير الطبري (6463)، و (6464): ص 6/ 109 - 110.
وعامر (1)، والشعبي (2)، والضحاك (3)، ومجاهد (4)، وعكرمة (5)، والحسن (6)، وقتادة (7)، وابن زيد (8)، والسدي (9).
والخامس: أنها محكمة عامة، وأن الله-عز وجل-يحاسب العباد على ما أخفته نفوسهم أو أبدته، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، قال الثعلبي:" يدلّ عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [الإسراء: 36} "(10).
وهذا القول مروي عن، عبدالله ابن عمر (11)، والحسن (12)، والربيع (13)، وقيس بن أبي حازم (14)، ورواية الضحاك عن ابن عباس (15)، وقال به: أبو سليمان الدمشقي والقاضي أبو يعلى (16).
والراجح-والله أعلم-أن لا نسخ في الآية كما هو قول الأكثر، وأنها محكمة مخصوصة بالآية الأخرى، والمعنى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقول من قال بالنسخ من السلف محمول على ذلك.
وقد ذهب إلى عدم النسخ سوى من ذكر: الجصاص والنحاس والطبري (17) وابن الأنباري وابن عطية (18) والواحدي والرازي وابن تيمية وأبو حيان ومصطفى زيد وغيرهم (19).
(1) أنظر: تفسير الطبري (6465)، و (6473): ص 6/ 110 - 111.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (64466)، و (6467)، و (6468)، و (6471): ص 6/ 110.
(3)
أنظر: تفسير الطبري (6469)، و (6470): ص 6/ 110 - 111.
(4)
أنظر: تفسير الطبري (6472): ص 6/ 111.
(5)
أنظر: تفسير الطبري (6473): ص 6/ 111.
(6)
أنظر: تفسير الطبري (6474): ص 6/ 111.
(7)
أنظر: تفسير الطبري (6475)، و (6476): ص 6/ 111.
(8)
أنظر: تفسير الطبري (6477): ص 6/ 111 - 112.
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6478): ص 6/ 112.
(10)
تفسير الثعلبي: 2/ 300.
(11)
أنظر: تفسير الطبري (6460): ص 106، وفيما معناه:(6458)، و (6459): ص 1/ 105 - 106.
(12)
أنظر: تفسير الطبري (6488): ص 6/ 115.
(13)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3055): ص 2/ 572.
(14)
أنظر: تفسير الطبري (6484): ص 6/ 113.
(15)
أنظر: تفسير الطبري (6383): ص 6/ 114.
(16)
انظر: الناسخ والمنسوخ للزهري: 18، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة: 41، الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 118 - 124، الناسخ والمنسوخ من كتاب الله-عز وجل-لهبة الله بن سلامة: 58، ناسخ القرآن الكريم ومنسوخه للبازري: 27، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 96 - 103، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي: 199 - 200، النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 2/ 606 - 609، فتاوى ابن تيمية: 14/ 101.
(17)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 118 - 119. حيث يقول: " " وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه، وليس في قوله جل وعز: " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت "، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله: " أو تخفوه يحاسبكم به الله ". لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه
…
أخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [سورة النساء: 31]. فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها".
(18)
أنظر: المحرر الوجيز، 1/ 390، ويقول فيه:" قال ابن عطية: "ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم:«قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها".
(19)
انظر: الناسخ والمنسوخ للزهري: 18، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة: 41، الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/ 118 - 124، الناسخ والمنسوخ من كتاب الله-عز وجل-لهبة الله بن سلامة: 58، ناسخ القرآن الكريم ومنسوخه للبازري: 27، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 96 - 103، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي: 199 - 200، النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 2/ 606 - 609، فتاوى ابن تيمية: 14/ 101. ومن كتب التفسير انظر: جامع البيان للطبري: 6/ 102 - 123، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 3/ 1207 - 1210، تفسير مقاتل 40 أ، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 210 أ-213 أ، البسيط للواحدي: 1/ 170 ب، معاني القرآن للنحاس: 1/ 325 - 330، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 342 - 344، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 353 - 356، أحكام القرآن للجصاص: 1/ 731 - 732، المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 390، ومفاتيح الغيب للرازي: 7/ 136 - 137، النكت والعيون للماوردي: 1/ 360 - 362، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 421 - 423، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 360، فتح القدير للشوكاني: 1/ 455، فتح البيان لصديق خان: 2/ 157 - 160، روح المعاني للألوسي: 3/ 64 - 65.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 284]، " أي: فيعفو عمن يشاء" (1).
قال السعدي: " وهو لمن أتى بأسباب المغفرة"(2).
قال الزحيلي: " والله تعالى يغفر لمن يشاء ذنبه، بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة"(3).
وقال النقاش: " {يغفر لمن يشاء}، أي: لمن ينزع عنه"(4).
وقال الزمخشري: " لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه"(5). قال أبو حينان: " وهذه نزعة إعتزالية، وأهل السنة يقولون: إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرّاً على المعصية ولم يتب، فهو في المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِا وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} "(6).
أخرج ابن المنذر عن " سفيان في قوله: "{فيغفر لمن يشاء} ، قال: يغفر لمن يشاء بالكبير" (7). وروي عن مجاهد مثل ذلك (8).
وروي " عن ابن عباس، قوله: {فيغفر لمن يشاء}، قال: فأما المؤمنون، فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم"(9).
قال ابن عثيمين: " و «المغفرة» ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأن مادة «غفر» مأخوذة من المغفر - وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه ليتقي بها السهام؛ وهو جامع بين ستر الرأس، والوقاية"(10).
واختلفت القراءة في قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 284]، على وجوه (11):
أحدها: {فَيَغْفِرُ} و {يُعَذِّبُ} بالرفع، قرأه ابن عامر وعاصم، ووجه أنه قطعه من الأول على أحد وجهين: إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدإ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإمّا أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها (12).
(1) صفوة التفاسير: 1/! 63.
(2)
تفسير السعدي: 1/ 120.
(3)
التفسير الوسيط: 1/ 167.
(4)
المحرر الوجيز: 1/ 190.
(5)
الكشاف: 1/ 330.
(6)
البحر المحيط: 2/ 273.
(7)
تفسير ابن المنذر (172): ص 1/ 98، وأخرجه ابن أبي حاتم (3067): ص 2/ 575. ولفظه: " يغفر لمن يشاء الكبير من الذنوب".
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3067): ص 2/ 575.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (3066): ص 2/ 575.
(10)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
(11)
انظر: السبعة: 195، والحجة للقراء السبعة: 2/ 463 - 465، وتفسير الوسيط: 1/ 408، والمحرر الوجي: 1/ 390.
(12)
أنظر: الحجة للقراء السبعة: 2/ 465.
والثاني: {فَيَغْفِرْ} و {يُعَذِّبْ} ، بالجزم، قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي، ووجه "أنه أتبعه ما قبله ولم يقطعه، أي: عطفا على ما قبله، على معنى جواب الشرط، وهو قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، "وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم" (1).
والثالث: {فَيَغْفِرَ} و {يُعَذِّبَ} ، بالنصب، وهي قرءة ابن عباس والأعرج وأبي حيوة، على إضمار «أن» ، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: فَيُضاعِفَهُ [الحديد 11].
والرابع: وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف {يغفر} بغير الـ (فاء)، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني: " هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر (2):
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم
…
تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى
…
إذا ما غدت في المأزق المتدان
فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول" (3).
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 284]، أي:" ويعاقب من يشاء"(4).
قال ابن عطية: " يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد"(5).
قال الزحيلي: " لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته، ولم يتب إلى الله"(6).
قال الزمخشري: "ممن استوجب العقوبة بالإصرار"(7). وهذه نزعة اعتزالية. سبق أن ردّ عليه أبو حيان (8).
وروي " عن ابن عباس، قوله: {ويعذب من يشاء}، قال: وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب"(9).
وروي " عن مجاهد، في قوله: {ويعذب من يشاء}، قال: يعذب من يشاء على الصغير"(10). وروي عن سفيان الثوري مثله (11).
وقيل: "تعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق"(12). قال ابن عطية: "وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك"(13).
(1) المحرر الوجيز: 1/ 390.
(2)
البيتين لودّاك بن ثميل المازني، لم اجد ذكرا لعصره وأظنه جاهليا، يقال بأن بني شيبان أرادوا نفي بني مازن عن ماء لهم يقال له سفوان وادعوا أنه لهم فقال وداك هذا الشعر. انظر: شرح الحماسة للتبريزي: 1/ 63 - 64، وسمط الآلي: 421، وحماسة ابن الشجري: 42، والمرزوقي: 127، والعقد الفريد: 1/ 98، والأعلام للزركلي: 8/ 111. و (رويد) تصغير الرود بالضم أي التمهل والرفق.
(3)
المحرر الوجيز: 1/ 390.
(4)
صفوة التفاسير: 1/! 63.
(5)
المحرر الوجيز: 1/ 390.
(6)
التفسير الوسيط: 1/ 167.
(7)
الكشاف: 1/ 330.
(8)
البحر المحيط: 2/ 273.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (3068): ص 2/ 575.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (3069): 2/ 575.
(11)
أنظر: تفسير ابن المنذر (172): ص 1/ 98، وتفسير ابن أبي حاتم: 2/ 575.
(12)
المحرر الوجيز: 1/ 390.
(13)
المحرر الوجيز: 1/ 390 - 391.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، أي: "وهو القادر على كل شيء الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون (1).
قال الزحيلي: " والله على كل شيء أراده قدير"(2).
قال السعدي: " لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه"(3).
قال ابن عثيمين: " أي يوجد المعدوم، ويعدم الموجود بدون عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] "(4).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} ؛ وليس معلوماً لنا سوى السموات والأرض؛ ويدخل في السموات الكرسي، والعرش، والملائكة، وأرواح بني آدم التي تكون في السماء، كأرواح المؤمنين في الجنة؛ لأن المراد بذلك كل ما علا؛ بل ويشمل ما بين السماء والأرض من الأفلاك، والنجوم، وغير ذلك؛ لأنها داخلة في السموات؛ لأنها في جهتها؛ ويدخل في الأرض العاقل، وغير العاقل؛ فيشمل بني آدم، والجن، ويشمل الحيوانات الأخرى، ويشمل الأشجار، والبحار، والأنهار، وغير ذلك.
2 -
ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل هو القائم على هذه السموات والأرض يدبرها كما يشاء؛ لأنها ملكه.
3 -
ومنها: أن الله لا شريك له في ذلك الملك؛ يستفاد ذلك من تقديم الخبر الذي حقه التأخير؛ وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ و «الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه.
4 -
ومنها: وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية - ولابد؛ ولهذا قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21]؛ فجعل الربوبية موجباً لعبادته؛ وفي سورة النمل قال تعالى: {أمن خلق السموات والأرض
…
} [النمل: 60] إلى آخر الآيات التي فيها تختم كل آية بقوله تعالى: {أإله مع الله} [النمل: 60] يعني: فإذا كان هو المنفرد بما ذُكِر فإنه المنفرد بالألوهية.
5 -
ومن فوائد الآية: إثبات صفات الكمال لله عز وجل؛ لأننا إذا تأملنا في هذا الملك الواسع العظيم، وأنه يدبَّر بانتظام لا مثيل له علمنا بأن الذي يدبره كامل الصفات؛ فيؤخذ منه كل صفة كمال لله، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والعزة، والحكمة، وغير ذلك من صفاته عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقوم بملك هذه الأشياء العظيمة إلا من هو متصف بصفات الكمال.
6 -
ومنها: إثبات أن السموات أكثر من واحدة؛ وهي سبع بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ أما القرآن فمثل قوله تعالى:{قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون: 86]، وقوله تعالى:{الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} [الطلاق: 12]؛ وأما السنة فمثل قوله (ص): «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين
…
» (5) الحديث؛ وأما الأرض فإنها جاءت بلفظ الإفراد في القرآن، وجاءت في السنة بلفظ الجمع؛ وعددها سبع: جاء ذلك في صريح السنة، وفي ظاهر القرآن؛ ففي ظاهر القرآن: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض
(1) صفوة التفاسير: 1/! 63.
(2)
التفسير الوسيط: 1/ 167.
(3)
تفسير السعدي: 1/ 120.
(4)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 433.
(5)
أخرجه ابن حبان 4/ 170، ذكر ما يقول المسافر إذا رأى قرية يريد دخولها، حديث رقم 2698، وأخرجه ابن خزيمة 4/ 150، حديث رقم 2565؛ وأخرجه الحاكم 1/ 446، كتاب المناسك، وقال: حديث صحيح الإسناد؛ وأقره الذهبي.
مثلهن} [الطلاق: 12]؛ لأن المماثلة في الوصف متعذرة؛ فلم يبق إلا العدد؛ وأما في السنة لمثل قوله (ص): «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين» (1).
7 -
ومن فوائد الآية: عموم علم الله وسعته؛ لقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ؛ ولا محاسبة إلا من بعد علم.
8 -
ومنها: تحذير العبد من أن يخفي في قلبه ما لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا علم بأن الله عالم بما يبدي وبما يخفي فسوف يراقب الله سبحانه وتعالى خوفاً من أن يحاسَب على ما أخفاه كما يحاسَب على ما أبداه.
9 -
ومنها: إثبات أن العبد يحاسب على ما في نفسه؛ وظاهره العموم؛ لقوله تعالى: {ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ؛ ولكن جاءت النصوص الأخرى بالتفصيل في ذلك على النحو التالي:
الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر؛ بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيماناً ويقيناً حاول أن يفسد ذلك عليه؛ ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله (ص) ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صلى الله عليه وسلم:«وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذاك صريح الإيمان» (2)؛ وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» (3).
الثاني: أن يهمّ بالشيء المحرم، أو يعزم عليه، ثم يتركه؛ وهذا أنواع:
النوع الأول: أن يتركه لله؛ فيثاب على ذلك، كما جاءت به السنة فيمن همّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى:«لأنه تركها من جرّائي» (4)، أي من أجلي.
النوع الثاني: أن يهمّ بها، ثم يتركها عزوفاً عنها؛ فهذا لا له، ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئ ما نوى» (5).
النوع الثالث: أن يتمناها، ويحرص عليها؛ ولكن لا يعمل الأسباب التي يحصِّلها بها؛ فهذا يعاقب على نيته دون العقاب الكامل، كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فهو بنيته؛ فهما في الوزر سواء» (6).
النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها؛ ولكن يعجز عنها؛ فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» (7).
10 -
ومن فوائد الآية: إثبات محاسبة العبد؛ لقوله تعالى: {يحاسبكم به الله} ؛ ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» (8)؛ فينبغي للإنسان أن يكون كيساً يحاسب
(1) اخرجه البخاري ص 259، كتاب بدء الخلق، باب 2: ما جاء في سبع أرضين، حديث رقم 3198، وأخرجه مسلم ص 958، كتاب المساقاة، باب 30: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، حديث رقم 4132 [137] 1610، واللفظ لمسلم.
(2)
أخرجه مسلم ص 200، كتاب الإيمان، باب 60: بيان الوسوسة في الإيمان
…
، حديث رقم 340 [209]132.
(3)
أخرجه أحمد 1/ 235، حديث رقم 2097، وأخرجه أبو داود ص 1597، كتاب الأدب، باب 108، في رد الوسوسة، حديث رقم 5112، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح 3/ 256.
(4)
أخرجه مسلم ص 699 – 700، كتاب الإيمان، باب 59: إذا هم العبد بحسنة
…
، حديث رقم 336 [205]129.
(5)
أخرجه البخاري ص 1: كتاب بدء الوحي، باب 1: كيف كان بدء الوحي، حديث رقم 1، وأخرجه مسلم ص 1019، كتاب الإمارة، باب قوله: إنما الأعمال بالنية حديث رقم 4927 [155]1907.
(6)
أخرجه أحمد 4/ 230، حديث رقم 18187، وأخرجه الترمذي ص 1885 – 1886، كتاب الزهد، باب 16: ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن، حديث رقم 2325؛ وأخرجه ابن ماجة ص 2733 كتاب الزهد، باب 26: النية، حديث رقم 4228، وقال الألباني في صحيح الترمذي 2/ 270 حديث رقم 1894: صحيح.
(7)
أخرجه البخاري ص 4، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
…
)، حديث رقم 31، وأخرجه مسلم ص 1178، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب 4: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم 7252 [14]2888.
(8)
نقله الترمذي عن عمر بن الخطاب ص 899، كتاب صفة القيامة، باب 35: حديث الكيس من دان نفسه، في سباق حديث رقم 2459، واخرجه ابن أبي شيبة 8/ 115، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث رقم 34448؛ وفيه راوٍ لم يسمه.
نفسه قبل أن يحاسَب؛ وإني لأعجب أن كثيراً من الناس إذا كان له تجارة دنيوية فإنه لا ينام حتى ينظر في الدفاتر: ما الذي خرج؟ وما الذي دخل؟ وما الذي بقي في ذمم الناس؟ وما الذي بيع؟ وما الذي اشتري؟ إما بنفسه؛ وإما بمن يجعلهم على هذا؛ ولكننا في أعمالنا الأخروية عندنا تفريط - يعني يندر يوماً من الأيام أن تقول: ماذا عملت اليوم؟ وتستغفر مما أسأت فيه، أو فرطت؛ وتحمد الله على ما قمت به من طاعته.
11 -
ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لم يصرح بالمعاقبة؛ ولا يلزم من المحاسبة المؤاخذة؛ لقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ؛ ويؤيده ما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، ويقول:«عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر؛ فإذا رأى أنه قد هلك يقول الله عز وجل: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» (1).
12 -
ومنها: سعة علم الله عز وجل، وكان من أسمائه:«الواسع» أي ذو السعة في جميع صفاته.
13 -
ومنها: إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ؛ ومشيئته تعالى مقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30]؛ كل شيء أضافه الله إلى مشيئته فاعلم أنه مقرون بحكمة؛ لا يشاء شيئاً إلا لحكمة - أياً كان هذا الشيء.
14 -
ومنها: أنه بعد المحاسبة إما أن يغفر للإنسان؛ وإما أن يعذبه؛ لقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فإن كان كافراً عذب؛ وإن كان مسلماً كان تحت المشيئة، كما قال تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
15 -
ومنها: إثبات القدرة لله، وعمومها في كل شيء؛ لقوله تعالى:{والله على كل شيء قدير} ؛ فلا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل؛ وأما المخلوق فقدرته محدودة.
فإن قيل: لماذا ختم الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ؛ ولم يختمها بالرحمة، ولا بالعقوبة؟
فالجواب: أن المحاسبة تكون بعد البعث؛ والبعث يدل على القدرة؛ كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} [الأحقاف: 33]، وقال تعالى:{إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39].
وجه آخر: لو ختمت الآية بما يقتضي الرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب؛ ولو ختمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب؛ والقدرة تناسب الأمرين: تناسب المغفرة، وتناسب التعذيب؛ لأن المغفرة، والتعذيب كلٌّ لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل.
القرآن
التفسير:
صدَّق وأيقن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من ربه وحُقَّ له أن يُوقن، والمؤمنون كذلك صدقوا وعملوا بالقرآن العظيم، كل منهم صدَّق بالله رباً وإلهًا متصفًا بصفات الجلال والكمال، وأن لله ملائكة كرامًا، وأنه أنزل كتبًا، وأرسل إلى خلقه رسلا لا نؤمن -نحن المؤمنين- ببعضهم وننكر بعضهم، بل
(1) أخرجه البخاري ص 192، كتاب المظالم، باب 2: قول الله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين)، حديث رقم 2441؛ وأخرجه مسلم ص 1158، كتاب التوبة، باب 8: في سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين وفداء كل مسلم بكافر من النار، حديث رقم 7015 [52]2768.
نؤمن بهم جميعًا. وقال الرسول والمؤمنون: سمعنا يا ربنا ما أوحيت به، وأطعنا في كل ذلك، نرجو أن تغفر -بفضلك- ذنوبنا، فأنت الذي ربَّيتنا بما أنعمت به علينا، وإليك -وحدك- مرجعنا ومصيرنا.
روي عن حكيم ابن جابر، أنه قال:"لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، قال جبريل: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى قومك. فسل. تعط. فسأل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخر الآية"(1).
وعن قتادة، قوله:" {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه}، ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية، قال: ويحق له أن يؤمن"(2).
وعن سعيد بن جبير، في قوله:" {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، إلى قوله: {وإليك المصير}، قال: كان ما قيل لهم، قولوا: آمنا"(3).
قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]، أي:" صدق الرسول بما أوحي إليه من ربه من الكتاب"(4).
قال القاسمي: " أي صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: "كان خلقه القرآن" (5)، والترقي بمعانيه والتحقق"(6).
قال الثعلبي: " وحّد الفعل على لفظ كلّ، المعنى: كلّ واحد منهم آمن، فلو قال: آمنوا، لجاز لأن (كلّ) قد تجيء في الجمع والتوحيد، فالتوحيد قوله عز وجل: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، والجمع قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} [الأنبياء: 93]، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} [النمل: 88] "(7).
واختلف السادة أهل التفسير في قوله تعالى: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]، وذكروا فيه وجهين:
أحدهما: أن "الذي أنزل هو القرآن". قاله القرطبي (8). وهو قول الجمهور.
والثاني: وقيل هو: القرآن والسنة. قاله العلّامة ابن عثيمين (9).
وعلى القول الثاني: أن "الرسول آمن بأن القرآن من عند الله أنزله إليه ليبلغه إلى الناس، وآمن بأن ما أوحي إليه من السنة هو من الله عز وجل؛ أوحي به ليبلغه إلى الناس؛ ثم هو أيضاً آمن بما يقتضيه هذا المنزل من قبول، وإذعان؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس تصديقاً بما أنزل إليه، وأقواهم إيماناً بلا شك، وكان أيضاً أعظمهم تعبداً لله عز وجل حتى إنه كان يقوم في الليل حتى تتورم قدماه مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر (10)؛ وقام معه ابن مسعود رضي الله عنه ذات ليلة يقول: فقام فأطال حتى هممت بأمر سوء؛ قالوا: بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «هممت أن أجلس، وأدعه» (11)؛ لأن الرسول كان يقوم قياماً طويلاً - صلوات الله وسلامه عليه؛ إذاً فهو أقوى الناس إيماناً، وأشدهم رغبة في الخير، وأكثرهم عبادة"(12).
وقوله تعالى: {آمن} ؛ هو إقرار المستلزم للقبول، والإذعان - لقبول الخبر، والإذعان للحكم، أو لما يقتضيه؛ أما مجرد التصديق، والإقرار فلا ينفع؛ ولهذا كان أبو طالب مقراً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه على حق؛ لكن لما لم يكن منه قبول وإذعان لم ينفعه هذا الإقرار؛ فالإيمان شرعاً هو الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان (13).
وقيل: " قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} ، على معنى الشكر، أي صدق الرسول {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (14).
و«الرسول» - كما قال العلماء - هو من أوحي إليه بشرع، وأُمِر بتبليغه؛ هذا الذي عليه أكثر أهل العلم؛ و «النبي» هو الذي لم يؤمر بتبليغه ما لم يدل الدليل على أن المراد به الرسول؛ ففي القرآن الكريم كل من وصف بالنبوة فهو رسول؛ لقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
…
} [النساء: 163] إلى قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]؛ ولقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [غافر: 78](15).
قال الثعلبي: " وفي قراءة عليّ وعبد الله: {وآمن المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} "(16).
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، " أي كذلك آمنوا"(17).
روي " عن مقاتل ابن حيان، قوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، فهذا قول، قاله الله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقول المؤمنين. فأثنى الله عليهم لما علم من إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله"(18).
قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، أي: الجميع" صدق بالله وملائكته وكتبه"(19).
قال القاسمي: " أي الجميع من النبي والأتباع صدَّق بوحدانية الله، وآمن بملائكته وكتبه ورسله"(20).
قال الزجاج: "لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والجهاد، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجميع ذلك، وهو قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة: 285] "(21).
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، على وجهين:
أحدهما: {وَكِتابَهُ} ، على الواحد بالألف، قرأه ابن عباس وعكرمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف، وفي هذه القراءة وجهان (22):
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3070): ص 2/ 575.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (3071): ص 2/ 576.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3072): ص 2/ 576.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 124.
(5)
أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 139. وهو حديث طويل. يرويه سعد بن هشام بن عامر وفيه يقول، بعد أن استأذن على عائشة قال: فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قال: فإن خلق نبيّ الله كان القرآن. وفيه وصف جامع لقيامه صلى الله عليه وسلم وعن وتره على لسان سيدتنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 240.
(7)
تفسير الثعلبي: 2/ 304.
(8)
أنظر: تفسير القرطبي: 3/ 428.
(9)
أنظر: تفسيره: 3/ 443.
(10)
راجع البخاري ص 413، كتاب تفسير القرآن، باب 2: قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
…
)، حديث رقم 4836، وأخرجه مسلم ص 1169، كتاب صفات المنافقين، باب 18: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم 7124 [79]2819.
(11)
راجع البخاري ص 88، كتاب التهجد، باب 9: طول القيام في صلاة الليل، حديث رقم 1135؛ وصحيح مسلم ص 800، كتاب صلاة المسافرين، باب 27: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، حديث رقم 1815 [204]773.
(12)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 443.
(13)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 442.
(14)
تفسير القرطبي: 3/ 425.
(15)
أنظر: تفسير ابن عثيمين: 3/ 442.
(16)
تفسير الثعلبي: 2/ 304.
(17)
محاسن التأويل: 2/ 240.
(18)
أخرجه ابن أبي حاتم (3073): ص 2/ 576.
(19)
معاني القرآن للزجاج: 1/ 368.
(20)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(21)
معاني القرآن وإإعرابه: 1/ 368. ونقله عنه الواحدي في الوسيط: 1/ 409.
(22)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 304.
الوجه الأول: إنّهم أرادوا القرآن خاصّة.
والوجه الثاني: إنّهم أرادوا جميع الكتب، يقول العرب: كثر اللبن وكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يريدون الألبان والدراهم والدنانير. يدلّ عليه قوله:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ} [البقرة: 216].
والثاني: {كُتُبِهِ} ، بالجمع قرأه الباقون، وهو ظاهر كقوله:{وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} .
وقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، "قرأ الحسن وابن سلمة بسكون السين لكثرة الحركات، وكذلك روى العباس عن ابن عمرو، وروى عن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. مخفّفين، الباقون بالإشباع فيها على الأصل"(1).
قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، " أي: لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى، بل نؤمن بجميع رسل الله دون تفريق" (2).
قال مقاتل بن حيان: " لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب"(3).
وروي " عن يحيى بن يعمر، أنه كان يقرأ {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله}، يقول: كل آمن، وكل لا يفرق"(4).
قال الزجاج: " أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا. الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، نحو كفْر إليهود بعيسى، وكفْر النصارى بغيره فأخبر عن المؤمنين أنهم يقولون {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} "(5).
قال القاسمي: " أي بردّ بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق"(6).
قال ابن زيد: " كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به"(7).
قال الواحدي: "معناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم"(8).
وإنّما قال {بين أحد} ، ولم يقل (آحاد)، لأن الآحاد يكون للواحد والجميع، قال الله {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة: 47].
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أحلّت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم» (9)، قال رؤبة (10):
ماذا [أمور] الناس ديكت دوكا
…
لا يرهبون أحدا رواكا (11)
واختلفت القراءة في قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ} على ثلاثة وجوه (12):
أحدها: {لا نفرّقن} ، كما في مصحف عبد الله.
(1) تفسير الثعلبي: 2/ 304.
(2)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3074): ص 2/ 576.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم (3075): ص 2/ 576.
(5)
معاني القرآن: 1/ 369.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 240.
(7)
أخرجه الطبري (6500): ص 6/ 126.
(8)
الوسيط: 1/ 409.
(9)
أخرجه الترمذي (3084) وابن حبان (1668) والطحاوي في " المشكل "(4/ 292). ولفظه: " لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها". عن طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا به. فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم فأنزل الله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} . وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش ". قال الألباني: وهو على شرط الشيخين. [السلسلة الصحيحة: 2155: ص 5/ 188].
(10)
البيت من شواهد القرطبي: 3/ 429، وأبي حيان في البحر: 2/ 277.
(11)
البيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 2/ 305، وانظر: تفسير الثعلبي: 2/ 305.
(12)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 304 - 305.
والثاني: {لا يفرّق} بالياء، على معنى لا نفرّق الكلّ، فيجوز أن يكون خبرا عن الرسول. قرأ بذلك جرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويحيى بن يعمر والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب.
والثالث: : {لَا نُفَرِّقُ} ، بالنون على إضمار القول تقديره:"وقالوا لا نفرّق كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [البقرة: آل عمران: 106]، يعني فيقال لهم: أكفرتم. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا} [السجدة: 12]، أي يقولون: ربّنا. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3]، أي: يقولون: ما نعبدهم"(1).
قلت: والقراءة بالنون {لَا نُفَرِّقُ} ، هي التي قامت حجتها بالنقل المستفيض. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا} [البقرة: 285]، أي سمعنا "قولك وفهمناه"(2).
قال مقاتل: " سمعنا للقرآن الذي جاء من الله"(3).
قال الواحدي: أي: "سمعنا قوله"(4).
قال الزجاج: " أي " سَمعْنَا " سَمْع قابِلينَ"(5).
قوله تعالى: {وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، "أي امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه"(6).
قال مقاتل: " أقروا بأن يطيعوه في أمره ونهيه"(7).
قال الواحدي: أي: "وأطعنا أمره"(8).
قال الزجاج: أي " قِبِلْنَا ما سَمِعْنَا، لأن مَن سمع فلم يعْمل قيل له أصم - كما قال جلَّ وعزَّ:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، ليس لأنهم لَا يسْمعون ولكنهم صاروا - في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع
قال الشاعر (9):
أصَمُّ عمَّا سَاءَهُ سَمِيع" (10).
قوله تعالى: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]، " أي: اغفر غفرانك" (11).
روي "عن مقاتل بن حيان، في قول الله: {غفرانك ربنا وإليك المصير}، تعليم من الله، فهذا دعاء دعا به النبي صلى الله عليه وسلم فاستجاب له"(12).
وروي: " عن ابن عباس، في قول الله تعالى {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه إلى قوله: {غفرانك ربنا}، قال: قد غفرت لكم"(13).
(1) تفسير الثعلبي: 2/ 305.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 240.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3076): ص 2/ 576.
(4)
الوسيط: 1/ 49.
(5)
معاني القرآن: 1/ 369.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 240.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (3077): ص 2/ 577.
(8)
الوسيط: 1/ 49.
(9)
لم أتعرف على قائله، والبيت في اللسان (صمم)، (سمع) ومجمع الأمثال، أبو هلال العسكري: 76، وذكره الزمخشري في الكشاف: 1/ 76. أي: " أي أصم عن القبيح الذي يؤذيه ويغمّه، وسميع لما يسرُّه، يضرب مثلا للرجل يتغافل عما يكره.
(10)
معاني القرآن: 1/ 369.
(11)
الوسيط: 1/ 49.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (3079): ص 2/ 577.
(13)
أخرجه ابن أبي حاتم (3078): ص 2/ 577.
قال القاسمي: " وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول"(1).
وانتصب قوله تعالى {غُفْرَانَكَ} [البقرة: 286]، لكونه مصدر وقع في موضع أمر، ومثله: الصلاة الصلاة (2)، "وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها"(3)، كما قال الشاعر (4):
إن قوما منهم عمير وأشبا
…
هـ عمير ومنهم السفاح
لجديرون بالوفاء إذا قا
…
ل أخو النجدة: السلاح السلاح! !
قال الفراء: "ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليل فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانك ربنا لجاز"(5).
قال الزجاج: " أي أغفر غُفْرانَك، و (فُعْلان)، من أسْمَاءِ الْمَصَادِر نحو السُّلوان والكُفْران"(6).
قوله تعالى: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، أي:" وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا"(7).
قال القاسمي: " أي الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة، لما أن الرجوع للحساب والجزاء"(8).
قال ابن كثير: " أي: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب"(9).
قال الزجاج: " أي نحن مقرون بالبعْثِ"(10).
قال الواحدي: " هذا إقرار منهم بالبعث"(11).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: أن محمداً (ص) مكلف بالإيمان بما أنزل إليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أشهد أني رسول الله» (12)، في قصة دين جابر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري.
2 -
ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: {بما أنزل إليه من ربه} ؛ والمنزل هو الوحي؛ والكلام وصف لا يقوم إلا بمتكلم؛ لا يمكن أن يقوم بنفسه؛ وعلى هذا يكون في الآية دليل على أن القرآن كلام الله - الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
ومنها: إثبات علوّ الله عز وجل؛ لأن النزول لا يكون إلا من أعلى؛ لقوله تعالى: {بما أنزل إليه} .
4 -
ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {الرسول} ، وقوله تعالى:{بما أنزل إليه من ربه} .
(1) محاسن التأويل: 2/ 241.
(2)
أنظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 188.
(3)
تفسير الطبري: 6/ 128.
(4)
لم أتعرف عى قائله، والبيت من شواهد الطبري في تفسيره: 6/ 128، ومعاني القرآن للفراء 1/ 188، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) 4/ 306.
(5)
معاني القرآن: 1/ 188.
(6)
معاني القرآن: 1/ 369.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 127.
(8)
محاسن التأويل: 2/ 241.
(9)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(10)
معاني القرآن: 1/ 369.
(11)
الوسيط: 1/ 49.
(12)
أخرجه البخاري ص 469، كتاب الأطعمة، باب 41: الرطب والتمر وقول الله تعالى: (وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)، حديث رقم 5443.
5 -
ومنها: عظم ربوبية الله، وأخصيتها بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى:{بما أنزل إليه من ربه} .
ويتفرع على ذلك أن الله سبحانه وتعالى سينصره؛ لأن الربوبية الخاصة تقتضي ذلك - لا سيما وأنه سوف يبلِّغ ما أنزل إليه من ربه.
6 -
ومن فوائد الآية: أن المؤمنين تبع للرسول (ص)؛ لقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} ؛ وجه التبعية أنه ذكر ما آمن به قبل أن يذكر التابع - يعني ما قال: «آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه» ، وهذا يدل على أنهم أتباع للرسول (ص) لا يستقلون بشريعة دونه.
7 -
ومنها: أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً بالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد اتباعاً له؛ وجهه أنه تعالى قال: {بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} يعني: والمؤمنون آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه؛ وعليه فكل من كان أقوى إيماناً كان أشد اتباعاً.
8 -
ومنها: أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين شامل لكل أصول الدين؛ لقوله تعالى: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} ؛ ويبقى عندنا إشكال؛ وهو أنه ليس في الآية ذكر الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر؟ والجواب من أحد وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن هذا داخل في عموم قوله تعالى: {بما أنزل إليه من ربه} .
والوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان بالكتب، والرسل متضمن للإيمان باليوم الآخر، والقدر.
9 -
ومن فوائد الآية: إثبات الملائكة.
10 -
ومنها: أن الإيمان بالرسل ليس فيه تفريق؛ لا تقول مثلاً: نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا نؤمن بعيسى لأن عيسى من بني إسرائيل؛ نحن لا نفرق بين الرسل؛ وقد سبق لنا معنى قوله تعالى:{لا نفرق} .
11 -
ومن فوائد الآية: أن من صفات المؤمنين السمع، والطاعة؛ لقوله تعالى:{وقالوا سمعنا وأطعنا} ؛ وهذا كقوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} [النور: 51، 52]، وكقوله تعالى:{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]؛ والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لا يسمع، ولا يطيع؛ بل هو معرض؛ لم يرفع لأمر الله، ورسوله رأساً.
القسم الثاني: من يسمع، ولا يطيع؛ بل هو مستكبر؛ اتخذ آيات الله هزواً، كقوله تعالى:{وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشره بعذاب أليم} [لقمان: 7]، وكقوله تعالى:{وقالوا سمعنا وعصينا} [البقرة: 93]؛ وهذا أعظم جرماً من الأول.
القسم الثالث: من يسمع، ويطيع؛ وهؤلاء هم المؤمنون الذين قالوا سمعنا وأطعنا، وقال الله سبحانه وتعالى فيهم:{ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب: 71].
12 -
ومن فوائد الآية: أن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله؛ لقوله تعالى: {غفرانك} ؛ فكل إنسان محتاج إلى مغفرة - حتى النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إلى مغفرة؛ ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل الجنة أحداً عملُه قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة» (1)؛ وقال الله سبحانه وتعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 1، 2]، وقال تعالى:{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]؛ واعلم أن الإنسان قد يكون بعد
(1) أخرجه مسلم ص 1169، كتاب صفات المنافقين، باب 17: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، حديث رقم 7122 [78]2818.
الذنب أعلى مقاماً منه قبل الذنب؛ لأنه قبل الذنب قد يكون مستمرئاً للحال التي كان عليها، وماشياً على ما هو عليه معتقداً أنه كامل، وأن ليس عليه ذنوب؛ فإذا أذنب، وأحس بذنبه رجع إلى الله، وأناب إليه، وأخبت إليه، فيزداد إيماناً، ويزداد مقاماً - يرتفع مقامه عند الله عز وجل؛ ولهذا قال الله تعالى في آدم:{وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه} [طه: 121، 122]- فجعل الاجتباء بعد هذه المعصية - {فتاب عليه وهدى} [طه: 122]؛ وهذا كثيراً ما يقع: إذا أذنب الإنسان عرف قدر نفسه، وأنه محتاج إلى الله، ورجع إلى الله، وأحس بالخطيئة، وأكثر من الاستغفار، وصار مقامه بعد الذنب أعلى من مقامه قبل الذنب.
13 -
ومن فوائد الآية: تواضع المؤمنين، حيث قالوا:{سمعنا وأطعنا} ، ثم سألوا المغفرة خشية التقصير.
14 -
ومنها: إثبات أن المصير إلى الله عز وجل في كل شيء؛ لقوله تعالى: {وإليك المصير} ؛ وقد سبق في التفسير أن المراد بذلك المصير إلى الله في الآخرة، والمصير إلى الله في الدنيا أيضاً؛ فهو الذي يحكم بين الناس في الدنيا والآخرة - كما قال تعالى:{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]: هذا في الدنيا؛ والآخرة: كما قال تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة: 3]، وقال تعالى:{فالله يحكم بينكم يوم القيامة} [النساء: 141].
القرآن
التفسير:
دين الله يسر لا مشقة فيه، فلا يطلب الله مِن عباده ما لا يطيقونه، فمن فعل خيرًا نال خيرًا، ومن فعل شرّاً نال شرّاً. ربنا لا تعاقبنا إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا، أو أخطأنا في فِعْل شيء نهيتنا عن فعله، ربَّنا ولا تكلفنا من الأعمال الشاقة ما كلفته مَن قبلنا من العصاة عقوبة لهم، ربنا ولا تُحَمِّلْنَا ما لا نستطيعه من التكاليف والمصائب، وامح ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأحسن إلينا، أنت مالك أمرنا ومدبره، فانصرنا على مَن جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك، وكذَّبوا نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم، واجعل العاقبة لنا عليهم في الدنيا والآخرة.
وردت في هذه الآية، والتي قبلها نصوص تدل على الفضل العظيم؛ منها (1):
1 -
أنها من كنز تحت العرش (2).
2 -
أنها فتحت لها أبواب السماء عند نزولها (3).
3 -
أنها لم يعطها أحد من الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
4 -
أن من قرأهما في ليلة كفتاه (5).
(1) أنظر: تفسير ابن كثير: 1/ 733 وما بعدها، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 450 - 451.
(2)
راجع أحمد ص 1571، حديث رقم 21672، وص 1590، حديث رقم 21897، من حديث أبي ذر؛ قال الهيثمي: رواه أحمد بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/ 315)؛ وقال الساعاتي: "وهو الذي أثبته هنا"(الفتح الرباني 18/ 99 – 101)؛ وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم"(السلسلة الصحيحة 3/ 471، حديث رقم 1482)؛ ومن حديث حذيفة راجع أحمد ص 1726، حديث رقم 23640؛ والمعجم الكبير للطبراني 3/ 169، حديث رقم 3025؛ مسند أبي داود الطيالسي ص 56، حديث رقم 418؛ قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/ 327، 315)؛ وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم"(السلسلة الصحيحة 3/ 471، حديث رقم 1482).
(3)
راجع مسلماً ص 804، كتاب صلاة المسافرين، باب 43: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة
…
، حديث رقم 1877 [254] 806؛ لكن فيه: "هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم
…
".
(4)
راجع حاشية رقم 1.
(5)
راجع البخاري ص 327، كتاب المغازي، باب 12: حديث رقم 4008؛ ومسلماً ص 804، كتاب صلاة المسافرين، باب 43: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة
…
، حديث رقم 1878 [255]807.
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [االبقرة: 286]، "أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه" (1).
قال الزجاج: " أي إلا قدرَ طَاقَتها، لا يكلفها فَرضاً من فُروضهِ من صَوْم أوصَلاةٍ أو صَدقَةٍ أو غير ذلك إلا بمقدار طاقتها"(2).
قال الواحدي: أي: " لا يكلفها إلا يسرها لا عسرها"(3).
قال الطبري: " لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها ولا يجهدها"(4).
قال ابن كثير: " أي: لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة، في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} أي: هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان"(5).
وقال الزمخشري: "أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر}، لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة"(6).
قال أبو حيان: " ظاهره أنه استئناف، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلاّ ما هو في وسع المكلف، ومقتضى إدراكه وبنيته، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله: {إِن تُبْدُوا} الآية، وظهر تأويل من يقول: إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق، وهذه الآية نظير. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} "(7).
قال عبد الجبّار بن العلاء العطّار: "سئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}، فقال: إلّا يسرها لا عسرها، ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود منها"(8).
قال الثعلبي: "وهذا قول حسن لأنّ الوسع ما دون الطاقة، فقال بعض أهل الكلام: يعني إلّا ما يسعها ويحل لها، كقول القائل: ما يسعك هذا الأمر؟ أي ما يحلّ الله لك؟ فبيّن الله تعالى أن ما كلّف عباده فقد وسعه لهم والله أعلم"(9).
والتكليف لغة": "مصدر كلّف، يقال: كلفه تكليفاً أي أمره بما يشق عليه" (10)، وفي الاصطلاح: "خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع" (11).
(1) محاسن التأويل: 2/ 241.
(2)
معاني القرآن: 1/ 369.
(3)
الوسيط: 1/ 409.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 129.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(6)
الكشاف: 1/ 332.
(7)
البحر المحيط: 2/ 278.
(8)
تفسير الثعلبي: 2/ 306.
(9)
تفسير الثعلبي: 2/ 306.
(10)
الصحاح للجوهري: 3/ 1177.
(11)
الوجيز في أصول التشريع: 99. قال القرطبي: وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة، فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها
…
ولا تجود يد إلا بما تجد".
[تفسير القرطبي: 3/ 429 - 430، والمراد بالبيت:"أن العراقة في الجود لاتفيد الجواد، إذا لم يجد ما يجود به". لم أتعرف على قائل البيت، والبيت ورد في يتيمة الدهر: 3/ 104، والعقد الفريد: 3/ 43، وزهر الأكم: 2/ 265، ومجاني الأدب: 2/ 77، والمستطرف للأبشيهي: 207، ورواية البيت فيه:
لا كلَّف اللهُ نفسًا فوقَ طاقتِها
…
ولا تجودُ يدٌ إلا بما تجدُ
فلا تعِدْ عدةً إلَّا وَفيت بها
…
واحذرْ خلافَ مقالٍ للذي تعِدُ].
والوسع: "اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عنه"(1).
قال الفراء: (والوسع): "اسم في مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال في مثل الوجد: الوجد، وفي مثل الجهد: الجهد قال في مثله من الكلام: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ولو قيل: (وَسِعَها) لكان جائزا، ولم نسمعه"(2).
وقد تعددت أقوال السادة أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، على وجوه:
أحدها: ما أخرجه الطبري: " عن ابن عباس قوله: "{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ، قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: 185]، وقال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16] " (3). وروي عن الحسن (4) مثل ذلك.
قال الواحدي: " وهذا أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية، وذلك أن الوُسع دون الطاقة، والله تعالى كلفنا دون طاقتنا تفضلًا منه"(5).
والثاني: وقيل: "وسعها، طاقتها، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا". قاله السدي (6).
والثالث: ما أخرجه ابن أبي حاتم: "عن سفيان: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، قال: في شأن النفقة إلا ما استطاعت"(7).
قلت: وتلك المعاني متقاربة، تدور حول تفضله سبحانه وتعالى على عباده ألا يكلف نفساً إلا وسعها.
كما وذكر أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {إِلَّا وُسْعَهَا} [االبقرة: 286]، وجوها:
أحدها: {إلا وسعها} : أي: "إلا ما عملت لها". قاله الشعبي (8).
والثاني: يعني: "لم يكلفوا من العمل ما لم يطيقوا". قاله كعب القرظي (9)، وروي عن ابن حيان وأبي مالك والسدي وقتادة وزيد بن أسلم، نحو ذلك (10).
والثالث: وقيل يعني: في نفقة الرجل على أهله، ليس لها إلا ما وجد. روي نحوه عن عمر بن عبدالعزيز (11).
(1) الوسيط للواحدي: 1/ 409.
(2)
معاني القرآن: 1/ 188. هو قراءة ابن أبى عبلة، كما سيأتي.
(3)
تفسير الطبري (6502): ص 6/ 130، وابن أبي حاتم (3080): ص 2/ 577، وعزاه في "الدر" 2/ 133 إلى ابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1867.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3082): ص 2/ 577.
(5)
التفسير البسيط: 4/ 533.
(6)
أخرجه الطبري (6504): ص 6/ 130.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (3081): ص 2/ 577.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم (3083): ص 2/ 578.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (3084): ص 2/ 578.
(10)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 578.
(11)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3085): ص 2/ 578.
والرابع: وقيل يعني: {وسعها} في "أداء الفرائض". قاله سفيان الثوري (1).
وقد ذكر الماوردي في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [االبقرة: 286]، وجهين (2).
أحدهما: وعدٌ من الله ورسوله وللمؤمنين بالتفصل على عباده ألا يكلف نفساً إلا وسعها. روي
والثاني: أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء
عليه، بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
قال الثعلبي: " وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة الشامي: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وَسِعَها}، بفتح الواو وكسر لسين على الفعل، يريد: إلّا وسعها أمره، أو أراد إلّا ما وسعها فحذف (ما) "(3).
قال الواحدي: " وتقول القدرية: إن الله تعالى أخبر أنه لا يكلف العبد إلا ما يسعه، وإذا كلفه الإيمان وقضى عليه الكفرَ فقد كَلَّفَهُ ما لا يسعه، فيقال لهم: يلزمكم مثلُ هذا في العِلْم، لأنكم توافقوننا على أن الله تعالى إذا سبق في مَعْلُومه أن فلانًا يموت كافرًا فلا سبيل له إلى تبديل معلومه، فإذا كلفه الإيمان فقد كلفه ما لا يطيق، وهذا معنى قول الشافعي، رضي الله عنه: إذا سلمت لنا القدرية العلم خُصموا"(4) " (5).
قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، أي لها" ما عملت من خير"(6).
قال قتادة: " أي: من خير"(7). وروي عن ابن عباس (8)، والسدي (9)، ومحمد بن كعب القرظي (10)، مثل ذلك.
قال الواحدي: " من العمل بالطاعة"(11).
قال الثعلبي: " أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح، لها أجره وثوابه"(12).
قال الزمخشري: " ينفعها ما كسبت من خير .. ولا يثاب غيرها بطاعتها"(13).
قال ابن عثيمين: " أي ما عملت من خير، لا ينقص منه شيء"(14).
قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، أي: وعليها" ما عملت من شر"(15).
قال قتادة: " أي: من شر - أو قال: من سوء"(16). وروي عن ابن عباس (17)، والسدي (18) مثل ذلك.
قال الواحدي: " من العمل بالإثم"(19)، " أي: لا يؤاخَذ أحد بذنب غيره" (20).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3085): ص 2/ 578.
(2)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 363.
(3)
تفسير الثعلبي: 2/ 305 - 306.
(4)
قول الشافعي، ذكره العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" 2/ 76 [ط. دار الكتب العلمية]. وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 23/ 342، وروايته: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أنكروه كفروا وإن أثبتوه خصموا.
(5)
التفسير البسيط: 4/ 533.
(6)
تفسير الطبري: 1/ 131، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(7)
أخرجه الطبري (6505): ص 6/ 131، وانظر الخبر (6508): ص 6/ 131.
(8)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3087): 2/ 578. ولفظه: " لها ما كسبت من العمل".
(9)
أنظر: تفسير الطبري (6506): ص 6/ 131.
(10)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3088): 2/ 578.
(11)
الوسيط: 1/ 409.
(12)
تفسير الثعلبي: 2/ 306.
(13)
الكشاف: 1/ 332.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 451 - 452.
(15)
تفسير الطبري: 6/ 131.
(16)
أخرجه الطبري (6505): ص 6/ 131. وانظر الخبر (6508): ص 6/ 131.
(17)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3090): ص 2/ 579. ولفظه: " فأنزل الله وعليها ما اكتسبت من العمل".
(18)
أنظر: تفسير الطبري (6506): ص 6/ 131.
(19)
الوسيط: 1/ 409.
(20)
التفسير البسيط: 4/ 534.
قال الثعلبي: " ن الشرّ بالعمل السيء عليها وزره"(1).
قال الزمخشري: ويضرها ما اكتسبت من شر .. ولا يؤاخذ بذنبها غيرها" (2).
قال ابن عثيمين: " أي ما اقترفت من إثم لا يحمله عنها أحد"(3).
وقال ابن كثير: " وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف"(4).
وروي" عن عبد الله بن عباس: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، عمل اليد والرجل واللسان"(5).
وقال الزجاج: " ومعنى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، أي لا يؤَاخذ أحداً - بذنب غيره - كما قال - جلَّ وعزَّ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} "(6).
قال الطبري: "لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها"(7).
وفي التفريق بين {كَسَبَتْ} ، و {اكْتَسَبَتْ} ، وجهان:
أحدهما: أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد.
قال الواحدي: "والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال ذو الرمة (8):
ألفى أباهُ بذاك الكسْبِ يكْتسبُ""(9).
قال الرازي: "والقرآن أيضاً ناطق بذلك، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وقال: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، وقال: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِا خَطِيائَتُهُ} [البقرة: 81]، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}، فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر"(10).
والثاني: ومن الناس من سلم الفرق، ثم فيه قولان:
أحدهما: "أن الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله، ولا يقال مكتسب لأهله"(11)، ومنه قول الجطيئة (12):
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظلِمَةٍ
…
فاغْفَر هَداكَ مَلِيكُ الناسِ يا عُمَرُ
والثاني: أن {كسبت} مستعمل في الخير خاصة، و {اكتسبت} مستعمل في الشر خاصّة.
(1) تفسير الثعلبي: 2/ 306.
(2)
الكشاف: 1/ 332.
(3)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 452.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(5)
أخرجه الطبري (6508): ص 6/ 131.
(6)
معاني القرآن: 1/ 369.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 131.
(8)
ديوانه: 99، وصدره: أو مُطعم الصيد هبّالٌ لبغيته. وانظر: اللسان (هبل)، والعين: 4/ 53، وأساس البلاغة (طعم) و (هبل)، وتاج العروس (هبل)، وو"جمهرة أشعار العرب" ص 346، و"الحيوان" 4/ 47، و"الأمثال" للميداني 3/ 300، و"تاريخ دمشق" 48/ 177.
(9)
التفسير البسيط: 4/ 533 - 534.
(10)
مفاتيح الغيب: 7/ 118.
(11)
مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 118، والبحر المحيط لأبي حيان: 2/ 367، وانظر أيضاً: النكت والعيون للماوردي: 1/ 363، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 346، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/ 431، أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 147، إرشاد العقل السليم لأبي السعود: 1/ 276 - 277، فتح القدير للشوكاني: 1/ 459، وغيرها.
(12)
ديوانه" ص 208، وفي "الأغاني" 2/ 178، و"العقد الفريد" 5/ 259، و"الكامل في الأدب" 3/ 193، "خزانة الأدب"
قال ابن القيم: "وفيه فرق أحسن من هذا وهو أن الاكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله، وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة، حتى بالهم بالحسنة ونحو ذلك"(1).
وقال الزمخشري: "فإن قلت لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمَّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال، أى لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا"(2).
وقال ابن عطية: "والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازاً لهذا المعنى"(3).
وقال العكبري: "وقال آخرون: اكتسب: افتعل يدل على شدة الكلفة، وفعل السيئة شديد لما يؤول إليه"(4).
قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286]، أي:"لا تعذبنا يا ألله بما يصدر عنا بسبب النسيان"(5).
قال ابن زيد: " إن نسينا شيئا مما افترضته علينا"(6).
قال الواحدي: أي " لا تعاقبنا إن تركنا شيئا من اللازم لنا"(7).
قال ابن كثير: " أي: إن تركنا فرضًا على جهة النسيان، أو فعلنا حرامًا كذلك"(8).
قال القرطبي: " يعني: إن جهلنا"(9).
قال الثعلبي: " قال أهل المعاني: وإنّما خرج على لفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأنّ المسيء قد أمكر وطرق السبيل إليها وكأنّه أعان عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه"(10).
وروي عن قتادة في قوله: " {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها"(11).
وقال الحسنفي قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} : "معناه: قولوا: {ربنا}، على التعليم للدعاء"(12). وقيل: "أي: يقولون: {رَبَّنَا}. على الخبر"(13).
وقوله تعالى: {إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286]، فيه تأويلان (14):
أحدهما: يعني إن تناسينا أمرك. قاله الكلبي (15)، وذلك على مَا جاءَ عن النبي صلى الله عليه وسلم " «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (16)(17).
(1) بدائع الفوائد: 2/ 74.
(2)
الكشاف: 1/ 332.
(3)
المحرر الوجيز: 2/ 391.
(4)
إملاء ما من به الرحمن: 1/ 122.
(5)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(6)
أخرجه الطبري (6509): ص 6/ 132.
(7)
الوسيط: 1/ 410.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 425.
(10)
تفسير الثعلبي: 2/ 306.
(11)
أخرجه الطبري (6510): ص 6/ 132. وأخرجه مسلم في صحيحه (2: 146، 147).
(12)
نقله عنه الواحدي في: الوسيط: 1/ 410.
(13)
التفسير البسيط: 4/ 534.
(14)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 264، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 370.
(15)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 307، ولفظه:"كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا ممّا أمروا به وأخطئوا، عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله تعالى نبيّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك".
(16)
أخرجه البخاري في 455، كتاب الطلاق، باب 11: الطلاق في الإغلاق والكره
…
، حديث رقم 5269، وأخرجه مسلم ص 699، كتاب الإيمان، باب 58: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، حديث رقم 331 [201]127.
وقال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن [أي: الحديث: إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث، عن الخطأ والنسيان والاستكراه]، فقال: أجل، ما تقرأ بذلك قرآنا؟ {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ". [أخرجه ابن أبي حاتم:(3092): ص 2/ 579].
(17)
أنظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 370.
والثاني: إن تركنا، من النسيان الذي هو الترك والإغفال. قال الله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. قاله قطرب (1).
قال الثعلبي: "والأوّل أجود"(2).
قوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، أي:"لا تعذبنا يا ألله بما يصدر عنا بسبب الخطأ"(3).
قال الواحدي: " أثمنا وتعمدنا الإثم"(4).
قال ابن زيد: " [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا"(5).
قال الزجاج: " أيْ كَسَبْنَا خطيئةً"(6).
قال ابن كثير: " أي: الصوابَ في العمل، جهلا منا بوجهه الشرعي"(7).
قال القرطبي: " يعني: إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان والخطأ"(8).
وروي " عن ابن عباس، في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، قال: لا أؤاخذكم"(9). وروي عن سعيد (10) مثل لك.
وروي: "عن أبي هريرة، {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، قال: نعم"(11).
واختلف في الأصل اللغوي لكلمة {أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، على قولين (12):
أحدهما: من القصد والعمد، يقال: خطيء فلان إذا تعمّد يخطأ خطأ وخطأ، قال الله:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً} [الإسراء: 31]، وأنشد أمية بن أبي الصلت (13):
عبادك يخطئون وأنت ربّ
…
يكفّيك المنايا والحتوم
ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي (14):
الناس يلحون الأمير إذا هم
…
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
يعني: "أخطأوا الصواب وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرا"(15).
(1) نقلا عن: النكت والعيون: 1/ 264.
(2)
تفسير الثعلبي: 2/ 307.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(4)
الوسيط: 1/ 410.
(5)
أخرجه الطبري (6509): ص 6/ 132.
(6)
معاني القرآن: 1/ 370.
(7)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 425.
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم (3093): ص 2/ 579.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (3095): ص 2/ 579.
(11)
أخرجه ابن أبي حاتم (3094): ص 2/ 579.
(12)
أنظر: تفسير الثعلبي: 2/ 307. الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام. [قول المحقق].
(13)
كتاب العين للفراهيدي: 3/ 195.
(14)
ديوانه: 54، البحتري 236 واللسان (أمر) ورواية ديوانه: والناس يلحون الأمير إذا غوى
…
خطب الصواب. . . . . . .
(15)
تفسير الطبري: 6/ 134.
والثاني: من الخطأ الذي هو الجهل والسهو.
والراجح-والله أعلم- هو القول الثاني "لأن ما كان عمدا من الذنب غير معفو عنه، بل هو في مشيئة الله تعالى ما لم يكن كفرا"(1).
وفي تفسير قوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وجهان (2):
أحدهما: ما تأولوه من المعاصي بالشبهات.
والثاني: ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} [البقرة: 285]، "" أي ولا تكلفنا بالتكاليف الشاقة التي نعجز عنها" (3).
قال الواحدي: " أي: عهدا وميثاقا لا نطيقه ولا نستطيع القيام به"(4).
قال ابن كثير: أي: " لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها"(5).
قال البغوي: " أي عهدا ثقيلا وميثاقا، لا نستطيع القيام به، فتعذبنا بنقضه وتركه"(6).
قال ابن عثيمين: " وكرر النداء تبركاً بهذا الاسم الكريم، وتعطفاً على الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا من أسباب إجابة الدعاء؛ و «الإصر» هو الشيء الثقيل الذي يثقل على الإنسان من التكاليف، أو العقوبات"(7).
قوله تعالى: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 285]، أي:"كما كلفت بها من قبلنا من الأمم"(8).
قال ابن عثيمين: " أي اليهود، والنصارى، وغيرهم"(9).
قال مقاتل: " كما حملته على اليهود والنصارى فأهلكتهم"(10).
قال البغوي: "يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، يدل عليه قوله تعالى: {وأخذتم على ذلكم إصري} [آل عمران: 81]، أي: عهدي"(11).
قال ابن كثير: أي: " كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به، من الدين الحنيف السهل السمح"(12).
قال القرطبي: " وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الأمة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة"(13). قال البغوي: و" يدل عليه قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] "(14).
(1) تفسير الثعلبي: 2/ 307.
(2)
أنظر: النكت والعيون: 1/ 264.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(4)
الوسيط: 1/ 410.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 737.
(6)
تفسير البغوي: 1/ 357.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 452.
(8)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(9)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 452.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (3102): ص 2/ 580.
(11)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(12)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(13)
تفسير القرطبي: 3/ 426.
(14)
تفسير البغوي: 1/ 358.
روي " عن ابن عباس، في قول الله: {ولا تحمل علينا إصرا}، قال: ولا أحمل عليكم"(1). وروي عن أبي هريرة (2)، وسعيد بن جبير (3)، مثل ذلك.
قال ابن سيرين: "قال أبو هريرة، لابن عباس: ما علينا من حرج أن نزني أو نسرق؟ قال: بلى. ولكن الإصر الذي على بني إسرائيل، وضع عنكم"(4).
وقال الفضيل: " كان الرجل من بني إسرائيل، إذا أذنب، قيل له: توبتك أن تقتل نفسك، فيقتل نفسه فوضعت الآصار عن هذه الأمة"(5).
واختلفت عبارات السلف والمفسرين في المراد بـ (الإصر) في الآية على أقوال:
أحدها: أنه الثِقْل والتشديد والأمر الغليظ والعمل الشاق، قاله الربيع (6) وابن وهب (7)، ومالك والزجاج وأبو عبيدة وابن قتيبة والزمخشري والرازي وابن كثير والقرطبي والشوكاني وصديق خان، وهذا الأصل في معناه، قال الثعلبي:"والأصل في هذا كله العقد والإحكام، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء: الإصار"(8).
الثاني: أنه العهد والميثاق، قاله ابن عباس (9)، ومجاهد (10) وقتادة (11)، والسدي (12)، وابن جريج (13)، والضحاك (14)، والربيع (15)، والحسن (16)، ومقاتل بن حيان (17)، واختاره ابن جرير (18) والبغوي (19)، وهذا تفسير باللازم.
الثالث: أنه الإثم والذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد (20). قال البغوي: و" معناه اعصمنا من مثله"(21).
الرابع: أن المراد بقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَينَا إصْرً} أي: لا تمسخنا قردة وخنازير، قاله عطاء (22).
وهذان الأخيران نتيجة لعدم القيام بالأمر الثقيل الذي واثقوا على القيام به (23).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3096): ص 2/ 579.
(2)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3099): ص 2/ 580.
(3)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 579.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم (3100): ص 2/ 580.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم (3101): ص 2/ 580.
(6)
أنظر: تفسير الطبري: (6523): ص 6/ 138، وابن أبي حاتم (3098): ص 2/ 580.
(7)
أنظر: تفسير الطبري: (6524): ص 6/ 138.
(8)
الكشف والبيان: 1/ 126، ، وانظر: فتح القدير للشوكاني: 1/ 460، وفتح البيان لصديق خان: 2/ 165، وتفسير القرطبي: 3/ 426.
(9)
أنظر: تفسير الطبري: (6515): ص 6/ 136، و (6520): ص 6/ 137، وابن أبي حاتم (3097): ص 2/ 580.
(10)
أنظر: تفسير الطبري: (6513)، و (6514): ص 6/ 136.
(11)
أنظر: تفسير الطبري: (6512): ص 6/ 136.
(12)
أنظر: تفسير الطبري: (6516): ص 6/ 136.
(13)
أنظر: تفسير الطبري: (6517): ص 6/ 136 - 137.
(14)
أنظر: تفسير الطبري: (6518): ص 6/ 137، وأنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 580. ذكره دون سند.
(15)
أنظر: تفسير الطبري: (6519): ص 6/ 137.
(16)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 580. ذكره دون سند.
(17)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 580. ذكره دون سند.
(18)
أنظر: تفسير الطبري: 6/ 138.
(19)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(20)
أنظر: تفسير الطبري: (6522): ص 6/ 137.
(21)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(22)
أنظر: تفسير الطبري: (6521): ص 6/ 137.
(23)
. انظر: جامع البيان للطبري: 6/ 135 - 138، تفسير ابن أبي حاتم-القسم الثاني من سورة البقرة-: 3/ 1230 - 1231، الكشف والبيان للثعلبي: 1/ 216 أوب، البسيط للواحدي: 1/ 172 أ، مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 84، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 100، معاني القرآن للزجاج: 1/ 370، معاني القرآن للنحاس: 1/ 333 - 335، النكت والعيون للماوردي: 1/ 364، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 347، معالم التنزيل للبغوي: 1/ 358، الكشاف للزمخشري: 1/ 408، مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 158، المحرر الوجيز لابن عطية: 2/ 392 - 393، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 432، البحر المحيط لأبي حيان: 2/ 369، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 423، الدر المصون للسمين: 1/ 698، فتح القدير للشوكاني: 1/ 460، فتح البيان لصديق خان: 2/ 165.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، قال النحاس بعد ذكره لأغلبها:"وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، أي: لا تأخذ عهدنا بما لا نقوم به إلا بثقل، أي: لا تحمل علينا إثم العهد كما قال تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]، وما أمروا به فهو بمنزلة ما أخذ عهدهم به"(1).
وقال ابن عطية بعد ذكره لهذه الأقوال "والآصرة في اللغة: الأمر الرابط من ذمام أو قرابة أو عهد ونحوه، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه"(2).
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، " أي لا تحمّلنا ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء"(3).
قال ابن كثير: " أي: من التكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به"(4).
قال الطبري: "وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا"(5).
قال القاسمي: " أي من بليات الدنيا والآخرة"(6).
قال ابن عثيمين: "أي لا قدرة لنا على تحمله من الأمور الشرعية، والكونية"(7).
قال القرطبي: أي" لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه"(8).
قال الزجاج: يعني " لا تحمل علينا أمرا يثقل كما حملته على الذين من قبلنا نحو ما مر به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، أي لا تمتحنا بما يثقل. [أيضا] نحو قوله:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]، والمعنى لا تمتحنا بمحنة تثقل
…
فإن قال قائل - فهل يجوز أن يحمل الله أحدا ما لا يطيق؟ قيل له: إد أردت ما ليس في قدرته ألبتة فهذا محال، وإن أردت ما يثقل ويخسف فلله عز وجل أن يفعل من ذلك ما أحب، لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم [يثقل]، وهذا كقول القائل: ما أطيق كلام فلان، فليس المعنى ليس في قدرتي أن كلمه ولكن معناه في اللغة أنه يثقل علي" (9).
روي "عن أبي هريرة: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}، قال: نعم"(10). قال ابن أبي حاتم: "وروى ابن عباس والضحاك ومحمد بن كعب والسدي، قال: يقول الله عز وجل: قد فعلت وقال سعيد بن جبير: لا أحمله عليكم"(11).
وقد تعددت عبارات أهل التفسير في المراد بقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، على وجوه:
أحدها: أنه يعني: " لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق". قاله الضحاك (12)، وروي عن ابن زيد (13)، والسدي (14)، ومكحول (15)، وقتادة (16)، نحو ذلك.
(1) معاني القرآن: 1/ 335.
(2)
المحرر الوجيز: 1/ 394.
(3)
صفوة التفاسير: 1/ 163.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(5)
تفسير الطبري: 6/ 138.
(6)
محاسن التأويل: 2/ 248.
(7)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
(8)
تفسير القرطبي: 3/ 426.
(9)
معاني القرآن: 1/ 371.
(10)
أخرجه ابن أبي حاتم (3103): ص 2/ 580 - 581.
(11)
تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 581.
(12)
أخرجه الطبري (6526): ص 6/ 139.
(13)
أخرجه الطبري (6527): ص 6/ 139، ولفظه:" لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه".
(14)
أخرجه الطبري (6530): ص 6/ 139، وابن أبي حاتم (3107): ص 2/ 581. ولفظه: "من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم".
(15)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3106): ص 2/ 581. ولفظه: الإنعاظ". أي: الأمر الشديد.
(16)
أخرجه الطبري (6525): ص 6/ 138، ولفظه:" تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم".
الثاني: وقيل: هو مسخ القردة والخنازير، أي: لا تجعلنا مثلهم قردة وخنازير. قاله مقاتل بن حيان (1)، وابن جريج (2).
الثالث: وقيل: هو "الغُلْمة"(3). قاله سالم بن شابور (4).
الرابع: وقيل: المراد: هو "الغربة (5)، والغلملة"(6). حكي ذلك عن مكحول (7).
والخامس: وقيل: أنه الحب. قاله إبراهيم (8).
والسادس: وقيل أنه العشق. حكاه البغوي عن محمد بن عبد الوهاب (9).
السابع: وقيل: هو شماتة الأعداء (10).
الثامن: وقيل: "هو الفرقة والقطيعة. نعوذ بالله منها"(11).
قال الرازي: إذا قيل" لم قال في الآية الأولى لا تحمل علينا إصرا وقال في هذه الآية لا تحملنا خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.
فالجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدورا لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل" (12).
قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة: 286]، "أي تجاوز عما قصرنا فيه من الواجبات"(13).
وقال ابن كثير: " أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا"(14).
قال البغوي: " أي تجاوز وامْحُ عنا ذنوبنا"(15).
قال ابن زيد: " اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به"(16).
قال الواحدي: " أي: تجاوز عنا"(17).
(1) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (3104): ص 2/ 581.
(2)
أنظر: تفسير الطبري (6528): ص 6/ 139، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 581. ذكره دون سند.
(3)
الغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة. [انظر: تفسير البغوي: 1/ 358].
(4)
أخرجه الطبري (6528): ص 6/ 139.
(5)
الغربة: النزوح عن الوطن.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (3105): ص 2/ 581.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم (3105): ص 2/ 581.
(8)
أنظر: تفسير البغوي: 1/ 358.
(9)
أنظر: تفسير البغوي: 1/ 358.
(10)
أنظر: تفسير البغوي: 1/ 358.
(11)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(12)
مفاتيح الغيب: 7/ 123.
(13)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
(14)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(15)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(16)
أخرجه الطبري (6531): ص 6/ 140.
(17)
الوسيط: 1/ 410.
قال القاسمي: " أي: تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبنا"(1).
وقال مقاتل: "عافنا من ذلك"(2).
وروي" عن ابن عباس، في قول الله تعالى: {واعف عنا} قال: قد عفوت عنكم"(3). وروي عن أبي هريرة ومحمد بن كعب وسعيد بن جبير، نحو ذلك (4).
قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286]، " أي تجاوز عما اقترفناه من السيئات"(5).
قال الواحدي: " أي: استر ذنوبنا"(6).
قال البغوي: أي " استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا"(7).
قال ابن زيد: " {واغفر لنا}، إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه"(8).
قال الطبري: " واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها"(9).
قال ابن كثير: " أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة"(10).
قال القاسمي: " أي غطّ على ذنوبنا واعف عنها"(11).
روي"عن ابن عباس، في قول الله: {واغفر لنا}، قال: قد غفرت لكم"(12). وروي عن أبي هريرة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان، نحو ذلك (13).
قوله تعالى: {وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، " أي تفضل علينا بالرحمة حتى لا نقع في فعل محظور، أو في تهاون في مأمور"(14).
قال الواحدي: " أي: تلطف بنا"(15).
قال القاسمي: " أي: تفضّل علينا بالرحمة مع كوننا مقصّرين مذنبين"(16).
قال البغوي: " فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك"(17).
قال الطبري: " تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا"(18).
وقال ابن زيد قوله: " {وارحمنا}، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك"(19).
(1) محاسن التأويل: 2/ 248.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم (3109): ص 2/ 581.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3108): 2/ 581.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 581.
(5)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
(6)
الوسيط: 1/ 410.
(7)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(8)
أخرجه الطبري (6532): ص 6/ 141.
(9)
تفسير الطبري: 6/ 140.
(10)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(11)
محاسن التأويل: 2/ 248.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (3110): ص 2/ 582.
(13)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 582.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
(15)
الوسيط: 1/ 410.
(16)
محاسن التأويل: 2/ 248.
(17)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(18)
تفسير الطبري: 6/ 141.
(19)
أخرجه الطبري (6533): ص 6/ 141.
قال ابن كثير: " أي: فيما يُسْتَقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره"(1).
وقال القرطبي: " ويقال: {وَاعْفُ عَنَّا} من المسخ {وَاغْفِرْ لَنَا} من الخسف {وَارْحَمْنَا} من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف"(2).
وروي "عن سعيد بن جبير في قوله: {وارحمنا} قال: قد رحمتكم"(3). وروي عن ابن عباس وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان والسدي، نحو ذلك (4).
قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلَانَا} [البقرة: 286]، أي: أنت" ناصرنا وحافظنا وولينا"(5).
قال الواحدي: " أي: ناصرنا والذي يلي علينا أمورنا"" (6).
قال الطبري: " أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك"(7).
قال ابن كثير: " أي: أنت ولينا وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك"(8).
قال القرطبي: " يعني" ولينا وحافظنا" (9).
قال القاسمي: "أي: وليّنا وناصرنا"(10).
قال ابن عثيمين: " متولي أمورنا"(11).
وروي عن " أبي هريرة: فأنزل الله: {وارحمنا أنت مولانا}، قال: نعم"(12).
قال الرازي: " وفي قوله أنت مولانا فائدة أخرى، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السموات والأرض، والقائم بإصلاح مهمات الكل، وهو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال: نعم المولى ونعم النصير [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية الله ولي الذين آمنوا [البقرة: 257] أي ناصرهم، وقوله فإن الله هو مولاه [التحريم: 4] أي ناصره، وقوله ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [محمد: 11] "(13).
قوله تعالى: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، " أي اجعل لنا النصر عليهم"(14).
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(2)
تفسير القرطبي: 3/ 426.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم (3112): ص 2/ 582.
(4)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (2/ 582.
(5)
تفسير البغوي: 1/ 358.
(6)
الوسيط: 1/ 410.
(7)
تفسير الطبري: 6/ 141.
(8)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(9)
تفسير القرطبي: 3/ 426.
(10)
محاسن التأويل: 2/ 248.
(11)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
(12)
أخرجه ابن أبي حاتم (3111): ص 2/ 582.
(13)
مفاتيح الغيب: 7/ 125.
(14)
تفسير ابن عثيمين: 3/ 453.
قال الواحدي: " في إقامة الحجة عليهم وفي غلبتنا إياهم، حتى يظهر ديننا على الدين كله كما وعدتنا"(1).
قال القاسمي: " فإنّ من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولّى أمره على الأعداء"(2).
وقال الرازي: " أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: ليظهره على الدين كله [التوبة: 33] "(3).
قال الطبري: " {فانصرنا}، لأنا حزْبك " على القوم الكافرين" (4).
قال ابن كثير: أي انصرنا على: " الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة"(5).
وروي " عن ابن عباس، في قوله: {فانصرنا على القوم الكافرين}، قال: قد نصرتم على القوم الكافرين"(6). وروي عن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك، نحو ذلك (7).
وروي عن معاذ أن معاذًا، رضي الله عنه، كان إذا فرغ من هذه السورة:{فانصرنا على القوم الكافرين} ، قال: آمين" (8).
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بيان رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث لا يكلفهم إلا ما استطاعوه؛ ولو شاء أن يكلفهم ما لم يستطيعوا لفعل.
فإذا قال قائل: كيف يفعل وهم لا يستطيعون؟ وما الفائدة بأن يأمرهم بشيء لا يستطيعونه؟
فالجواب: أن الفائدة أنه لو كلفهم بما لا يستطيعون، وعجزوا عاقبهم على ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة من أصول الشريعة؛ ولها نظائر في القرآن، وكذلك في السنة.
2 -
ومن فوائد الآية: إثبات القاعدة المشهورة عند أهل العلم؛ وهي: لا واجب مع العجز؛ ولا محرم مع الضرورة؛ لكن إن كان الواجب المعجوز عنه له بدل وجب الانتقال إلى بدله؛ فإن لم يكن له بدل سقط؛ وإن عجز عن بدله سقط؛ مثال ذلك: إذا عجز عن الطهارة بالماء سقط عنه وجوب التطهر بالماء؛ لكن ينتقل إلى التيمم؛ فإن عجز سقط التيمم أيضاً - مثال ذلك: شخص محبوس مكبل لا يستطيع أن يتوضأ، ولا أن يتيمم: فإنه يصلي بلا وضوء، ولا تيمم؛ مثال آخر: رجل قتل نفساً معصومة خطأً: فعليه أن يعتق رقبة؛ فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع سقطت الكفارة؛ مثال ثالث: رجل جامع زوجته في نهار رمضان: فعليه أن يعتق رقبة؛ فإن لم يجد فعليه صيام شهرين؛ فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً؛ فإن لم يجد فلا شيء عليه.
ومثال سقوط التحريم مع الضرورة: رجل اضطر إلى أكل الميتة بحيث لا يجد ما يسد رمقه سوى هذه الميتة: فإنه يحل له أكلها؛ وهل له أن يشبع؛ أو يقتصر على ما تبْقى به حياته؟
(1) الوسيط: 1/ 410، نقله عن الزجاج، انظر: معاني القرآن: 1/ 371.
(2)
محاسن التأويل: 2/ 248.
(3)
مفاتيح الغيب: 7/ 125.
(4)
تفسير الطبري: 6/ 141 - 142.
(5)
تفسير ابن كثير: 1/ 738.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم (3113): ص 2/ 582، والطبري (6540): ص 6/ 145. ولفظه: ": " {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} إلى قوله: {غفرانك ربنا}، قال: قد غفرت لكم، {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، إلى قوله: {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، ، قال: لا أؤاخذكم، {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا}، قال: لا أحمل عليكم، إلى قوله: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا}، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين".
(7)
أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 582.
(8)
أخرجه الطبري (6541): ص 6/ 146.
والجواب: إن كان يرجو أن يجد حلالاً عن قرب فيجب أن يقتصر على ما يسد رمقه؛ وإن كان لا يرجو ذلك فله أن يشبع، وأن يتزود منها - وأن يحمل معه منها - خشية أن لا يجد حلالاً عن قرب.
ومعنى الضرورة أنه لا يمكن الاستغناء عن هذا المحرم؛ وأن ضرورته تندفع به - فإن لم تندفع فلا فائدة؛ مثال ذلك: رجل ظن أنه في ضرورة إلى التداوي بمحرم؛ فأراد أن يتناوله: فإنه لا يحل له ذلك لوجوه:
الأول: أن الله حرمه؛ ولا يمكن أن يكون ما حرمه شافياً لعباده، ولا نافعاً لهم.
الثاني: أنه ليس به ضرورة إلى هذا الدواء المحرم؛ لأنه قد يكون الشفاء في غيره، أو يشفى بلا دواء.
الثالث: أننا لا نعلم أن يحصل الشفاء في تناوله؛ فكم من دواء حلال تداوى به المريض ولم ينتفع به؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: «إنها شفاء من كل داء إلا السام - يعني الموت» (1)؛ فهذه مع كونها شفاءً لا تمنع الموت؛ ولذلك لو اضطر إلى شرب خمر لدفع لقمة غص بها جاز له ذلك، لأن الضرورة محققة، واندفاعها بهذا الشرب محقق.
الخلاصة الآن: أخذنا من هذه الآية الكريمة: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} قاعدتين متفقاً عليهما؛ وهما:
أ - لا واجب مع العجز.
ب - ولا محرم مع الضرورة.
3 -
ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يحمل وزر غيره؛ لقوله تعالى: {وعليها ما اكتسبت} .
إذا قال قائل: ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (2)؟
فالجواب: أن هذا لا يرد؛ لأن الذي فعلها أولاً اقتدى الناس به؛ فكان اقتداؤهم به من آثار فعله؛ ولما كان هو المتسبِّب، وهو الدال على هذا الفعل كان مكتسباً له.
4 -
ومنها: يسر الدين الإسلامي؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسها إلا وسعها} .
ويتفرع على هذا أن يختلف الناس فيما يلزمون به؛ فالقادر على القيام في الفريضة يلزمه القيام؛ والعاجز عن القيام يصلي قاعداً؛ والعاجز عن القعود يصلي على جنب؛ وكذلك القادر على الجهاد ببدنه يلزمه الجهاد ببدنه إذا كان الجهاد فرضاً؛ والعاجز لا يلزمه؛ وكذلك القادر على الحج ببدنه وماله يلزمه أداء الحج ببدنه، والعاجز عنه ببدنه عجزاً لا يرجى زواله القادر بماله يلزمه أن ينيب من يحج عنه؛ والعاجز بماله وبدنه لا يلزمه الحج.
5 -
ومن فوائد الآية: أن للإنسان طاقة محدودة؛ لقوله تعالى: {إلا وسعها} ؛ فالإنسان له طاقة محدودة في كل شيء: في العلم، والفهم، والحفظ، فيكلف بحسب طاقته.
6 -
ومنها: أن للإنسان ما كسب دون أن ينقص منه شيء، كما قال تعالى:{ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112].
7 -
ومنها: أن الأعمال الصالحة كسب؛ وأن الأعمال السيئة غُرْم؛ وذلك مأخوذ من قوله تعالى: {لها} ، ومن قوله تعالى:{عليها} ؛ فإن «على» ظاهرة في أنها غُرم؛ واللام ظاهرة في أنها كسب.
8 -
ومنها: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق، حيث علمهم دعاءً يدعونه به، واستجاب لهم إياه في قوله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} .
9 -
ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل في الدعاء بالوصف المناسب، مثل الربوبية - التي بها الخلق، والتدبير؛ ولهذا كان أكثر الأدعية في القرآن مصدرة بوصف الربوبية، مثل:«ربنا» ، ومثل:«ربِّ» .
(1) أخرجه البخاري ص 487، كتاب الطب، باب 7: الحبة السوداء، حديث رقم 5687؛ وأخرجه مسلم ص 1070، كتاب السلام، باب 29: التداوي بالحبة السوداء، حديث رقم 5766 [88]2215.
(2)
أخرجه مسلم ص 838، كتاب الزكاة، باب 20: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة
…
، حديث رقم 2351 [69]1017.
10 -
ومنها: رفع المؤاخذة بالنسيان، والجهل؛ لقوله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ، فقال الله تعالى:«قد فعلت» (1)؛ ولا يلزم من رفع المؤاخذة سقوط الطلب؛ فمن ترك الواجب نسياناً، أو جهلاً، وجب عليه قضاؤه، ولم يسقط الطلب به؛ ولهذا قال النبي - صلوات الله وسلامه عليه:«من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها» (2)؛ ولما صلى الرجل الذي لا يطمئن في صلاته قال له: «ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ» (3)؛ ولم يعذره بالجهل مع أنه لا يحسن غير هذا؛ إذاً فعدم المؤاخذة بالنسيان، والجهل لا يسقط الطلب؛ وهذا في المأمورات ظاهر؛ أما المنهيات فإن من فعلها جاهلاً، أو ناسياً فلا إثم عليه، ولا كفارة؛ مثال ذلك: لو أكل وهو صائم ناسياً فلا إثم عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل، أو شرب، فليتم صومه» (4)؛ وكذلك لو أكل وهو صائم جاهلاً فإن صومه صحيح سواء كان جاهلاً بالحكم، أو بالوقت؛ لأن أسماء بنت أبي بكر قالت:«أفطرنا على عهد رسول الله (ص) يومَ غيم، ثم طلعت الشمس» (5)؛ ولم يؤمروا بالقضاء؛ ولكن لو فعل المحرم عالماً بتحريمه جاهلاً بما يترتب عليه لم يسقط عنه الإثم، ولا ما يترتب على فعله؛ مثل أن يجامع الصائم في نهار رمضان وهو يجب عليه الصوم عالماً بالتحريم - لكن لا يعلم أن عليه الكفارة: فإنه آثم، وتجب عليه الكفارة؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رسول الله، هلكت قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم» (6)؛ فألزمه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة (2)؛ لأنه كان عالماً بالحكم بدليل قوله: «هلكت» .
فإن قال قائل: «قد ذكرتم أن المأمور لا يسقط بالجهل والنسيان» ، فما الفائدة من عذره الجهل؟
فالجواب: أن الفائدة عدم المؤاخذة؛ لأنه لو فعل المأمور على وجه محرم يعلم به لكان آثماً؛ لأنه كالمستهزئ بالله عز وجل وآياته، حيث يعلم أن هذا محرم، فيتقرب به إلى الله.
11 -
ومن فوائد الآية: أن فعل الإنسان واقع باختياره؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ؛ فيكون فيها رد على الجبرية الذين يقولون: «إنه لا اختيار للعبد فيما فعل» ؛ وبيان مذهبهم، والرد عليهم بالتفصيل مذكور في كتب العقائد.
12 -
ومنها: أن النسيان وارد على البشر؛ والخطأ وارد على البشر؛ وجهه: قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ، فقال الله تعالى:«قد فعلت» (7)؛ وهذا إقرار من الله سبحانه وتعالى على وقوع النسيان، والخطأ من البشر.
فإذا قال قائل: ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى يجعل البشر ينسى، ويخطئ؟
فالجواب: ليتبين للإنسان ضعفه، وقصوره: ضعفه في الإدراك، وضعفه في الإبقاء، وفي كل حال؛ وليتبين بذلك فضل الله عليه بالعلم، والذاكرة، وما أشبه ذلك؛ وليعرف الإنسان افتقاره إلى الله عز وجل في دعائه في رفع النسيان، والجهل عنه؛ فيلجأ إلى الله عز وجل، فيقول:«رب علمني ما جهلت، وذكرني ما نسيت» ، وما أشبه ذلك.
(1) أخرجه مسلم ص 699، كتاب الإيمان، باب 57، بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس
…
، حديث رقم 330 [200]126.
(2)
أخرجه البخاري ص 48، كتاب مواقيت الصلاة، باب 37: من نسي صلاة فليصلها
…
، حديث رقم 597، وأخرجه مسلم ص 785، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 55: قضاء الصلاة الفائتة
…
، حديث رقم 1566 [314]684.
(3)
أخرجه البخاري ص 60، كتاب الأذان، باب 95: وجوب القراءة للإمام والمأموم
…
، حديث رقم 757؛ وأخرجه مسلم ص 740، كتاب الصلاة، باب 11؛ وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
…
، حديث رقم 885 [45]397.
(4)
أخرجه مسلم ص 863، كتاب الصيام، باب 33: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، حديث رقم 3716 [171]1155.
(5)
أخرجه البخاري ص 153، كتاب الصوم، باب 46: إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، حديث رقم 1959.
(6)
أخرجه البخاري ص 151، كتاب الصوم، باب 30: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء
…
، حديث رقم 1936.
(7)
أخرجه مسلم ص 699، كتاب الإيمان، باب 57، بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس
…
، حديث رقم 330 [200]126.
13 -
ومن فوائد الآية: امتنان الله على هذه الأمة برفع الآصار التي حملها مَنْ قبلنا؛ لقوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} ، فقال الله تعالى:«قد فعلت» (1).
14 -
ومنها: أن من كان قبلنا مكلفون بأعظم مما كلفنا به؛ لقوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} ؛ مثال ذلك: قيل لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل: لن تقبل توبتكم حتى تقتلوا أنفسكم - أي يقتل بعضكم بعضاً؛ قيل: أنهم أمروا أن يكونوا في ظلمة، وأن يأخذ كل واحد منهم سكيناً، أو خنجراً، وأن يطعن من أمامه سواء كان ابنه، أو أباه، أو عمه، أو أخاه، أو غيرهم؛ وهذا لا شك تكليف عظيم، وعبء ثقيل؛ أما نحن فقيل لنا - حتى في الشرك:{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 68 - 70].
15 -
ومن فوائد الآية: أن ينبغي للإنسان أن يسأل الله سبحانه وتعالى العافية، فلا يُحَمِّلُه ما لا طاقة له به؛ ففيه رد على الصوفية الذين قالوا: نحن لا نسأل الله تعالى أن يقينا ما يشق علينا؛ لأننا عبيده؛ وإذا حصل لنا ما يشق فإننا نصبر عليه لنكسب أجراً.
16 -
ومنها: أنه ينبغي للإنسان سؤال الله العفو؛ لأن الإنسان لا يخلو من تقصير في المأمورات؛ فيسأل الله العفو عن تقصيره؛ لقوله تعالى: {واعف عنا} ؛ وسؤالُ الله المغفرة من ذنوبه التي فعلها؛ لقوله تعالى: {واغفر لنا} ؛ لأن الإنسان إن لم يُغفر له تراكمت عليه الذنوب، ورانت على قلبه، وربما توبقه، وتهلكه.
17 -
ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله أن يرحمه في مستقبل أمره؛ فيعفو عما مضى، ويغفر؛ ويرحم في المستقبل؛ لقوله تعالى:{وارحمنا} ؛ وبه نعرف اختلاف هذه الكلمات الثلاث: طلب العفو عن التفريط في الطاعات؛ والاستغفار عن فعل المحرمات؛ والرحمة فيما يستقبله الإنسان من زمنه - أن الله يرحمه، ويوفقه لما فيه مصلحته.
18 -
ومنها: أن المؤمن لا وليّ له إلا ربه؛ لقوله تعالى: {أنت مولانا} ؛ وولاية الله نوعان: خاصة، وعامة؛ فالولاية الخاصة ولاية الله للمؤمنين، كقوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257]، وقوله تعالى:{والله ولي المؤمنين} ، وقوله تعالى:{إن وليّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196]؛ والعامة: ولايته لكل أحد؛ فالله سبحانه وتعالى ولي لكل أحد بمعنى أنه يتولى جميع أمور الخلق؛ مثاله قوله تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30].
19 -
ومن فوائد الآية: التوسل إلى الله تعالى في الدعاء بما يقتضي الإجابة؛ لقوله تعالى: {أنت مولانا} بعد أن ذكر الدعاء في قوله تعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} .
20 -
ومنها: أنه يجب على الإنسان اللجوء إلى الله عز وجل في النصرة على القوم الكافرين؛ لقوله تعالى: {فانصرنا على القوم الكافرين} ؛ والنصر على الكافرين يكون بأمرين: بالحجة، والبيان؛ وكذلك بالسيف، والسلاح؛ وأما السيف، والسلاح فظاهر؛ وأما الحجة، والبيان فقد يجتمع كافر، ومسلم، ويتناظران في أمر من أمور العقيدة فإن لم ينصر الله المسلم خُذل، وكان في ذلك خُذلان له، وللدين الذي هو عليه؛ وهذا النوع من النصر يتعين في المنافقين؛ لأن المنافق لا يجاهَد بالسيف، والسلاح؛ لأنه يُظهر أنه معك؛ ولهذا لما استؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال:«لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (2).
(1) أخرجه مسلم ص 699، كتاب الإيمان، باب 57، بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس
…
، حديث رقم 330 [200]126.
(2)
أخرجه البخاري ص 420، كتاب التفسير، باب 5: قوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم) الآية، حديث رقم 4905، وأخرجه مسلم ص 1130، كتاب البر والصلة، باب 16: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، حديث رقم 6583 [63]2584.
وبعد أقول كما قال الرازي: "إلهي وسيدي، كل ما طلبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك، فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك، يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا يشغله سؤال السائلين"(1).
وهذا آخر الكلام في تفسير هذه السورة، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلم.
------------------------------------------------------
انتهى المجلد الخامس من التفسير بحمد الله تعالى، ويليه المجلد السادس بإذن الله تعالى وبدايته تفسير الآية (1) من سورة آل عمران.
فهرست المجلد الخامس
الموضوع
…
الصفحة
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
(1) مفاتيح الغيب: 7/ 125.
تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232]
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241]
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} [البقرة: 242]
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)} [البقرة: 244]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ
لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} [البقرة: 246]
{ِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} ) [البقرة: 252]
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} [البقرة: 270]
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]